04 - حكاية البقال والببغاء .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
حكاية البقال والببغاء المثنوي المعنوي الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
حكاية البقال والببغاء وإراقة الببغاء الزيت في الدكان
كان في سالف العصر بقال ، وكان له ببغاء حسن الصوت أخضر اللون متكلِّم .
وكان هذا الببغاء ( يقف ) على الدكان حارساً له ، ويحدّث التجار جميعاً بلطيف المقال .
فقد كان ناطقاً في خطاب الآدمين ، كما كان حاذقاً في غناء الببغاوات .
250 - ( وذات مرة ) قفز من ناحية الدكان إلى ناحية أُخرى ، فأراق زجاجات زيت الورد .
وجاء صاحبه من ناحية المنزل ، وجلس على الدكان فارغ البال كأنه من السادة .
فرأى الدكان قد غمره الزيت ، وثيابه لزجة ، فضرب الببغاء على رأسه ، فصار أقرع من الضرب .
وامتنع الببغاء عن الكلام بضعة أيام ، فأصبح الرجل البقال يتأوه من الندم .
فكان يقتلع شعر لحيته ويقول : “وا أسفاه ! إنّ شمس نعمتي أصبحت تحت السحاب .
“ 113 “
255 ليت يدي كانت قد كسرت في تلك اللحظة ! كيف ضربت هذا الحلو اللسان على رأسه ؟ “ .
وجعل يعطي الهدايا لكل درويش لعلّه يسترد نطق طائره .
وبعد ثلاثة أيام من الحيرة والألم ، كان يجلس على الدكان كأنه يائس .
وكان يظهر للطائر كل لون من العجائب ، لعله يبدأ النطق من جديد .
( وفي تلك اللحظة ) كان درويش عاري الرأس يمر ، وكان رأسه خالياً من الشعر كأنه ظهر طاس أو طست .
260 - فنطق الببغاء في ذلك الوقت وصاح بالدرويش : “ يا فلان ! لماذا اختلطت أيّها الأقرع بأمثالك من القرع ؟ لعلك أرقت الزيت من الزجاجة ! “ .
فأضحك قيا سُه الخلق ، إذ أنّه ظنّ نفسه مثل صاحب الدلق “ 1 “ .
فلا تتخذ من نفسك مقياساً لأحوال الطاهرين ، حتى ولو تشابهت في الكتابة كلمة “ شير “ بمعنى أسد و “ شير “ بمعنى لبن .
ولهذا السبب ضلّت جملة أهل العالم فقليل من الناس من يعرف أبدال الحق .
265 - فقد ادّعوا أنّهم مساوون للأنبياء ، وظنّوا أنفسهم مثل الأولياء .
وقالوا “ أنظروا ! إننا بشروهم بشر ، ونحن وإيّاهم أسارى للنوم والطعام “ .
ومن عما هم لو يدركوا أن هناك فرقاً لا نهاية له بينهم وبين هؤلاء .
...............................................................
( 1 ) الدلق هو الخرقة ، وصاحب الدلق هو الدرويش .
“ 114 “
فالنحل كلها تأكل من مكان واحد ، ولكن يجيء من بعضها اللدغ ومن بعضها الآخر يأتي العسل .
والغزلان نوعان كلاهما يأكل العشب ، ويشرب الماء ، ولكنّ أحدهما يجيء منه البعر ، ومن الآخر يأتي المسك المصفىّ !
270 - ومن القصب صنفان يشربان من ماء واحد ، ولكنّ أحدهما خال ، والآخر ( حافل ) بالسكر .
فتأمّل مائة ألف من أمثال هذه الأشياء ، وانظر كيف يفصل بينها طريق طوله سبعون عاماً ! فهذا يأكل فتتولّد منه القذارة ، وذلك يأكل فيصبح كلّه نوراً إلهيّاً ! وهذا يأكل فينبعث منه البخل والحسد ، وذلك يأكل فيفيض منه عشق الأحد ! وهذه أرض طيّبة ، وتلك مالحة رديئة . وهذا ملك طاهر وذاك شيطان ووحش ضار .
275 - فلو تشابهت الصورتان فذاك جائز ، فالماء الملح والماء العذب شبيهان في الصفاء ! وليس يدري الفرق بينهما سوى صاحب ذوق ، فأدركه ، فهو الذي يعرف الماء العذب من الماء الملح .
( فمن الناس ) من يقيس السحر بالمعجزة ، فيظن أنّ كليهما مبنيّ على المنكر .
فالسحرة من أجل منازعتهم لموسى أمسكوا عصى مثل عصاه .
“ 115 “
لكنَّ بين هذا العصى وتلك العصى فرقاً واسعاً ! وبين هذا العمل وذاك العمل طريق عظيم .
280 - فهذا العمل تشيّعه لعنة اللَّه ، وذاك العمل تقابله رحمة اللَّه .
إنّ الكفار - لمرائهم - ذو وطباع كطباع القردة . والطبع ( السيء ) آفة داخل الصدر .
فالقرد يفعل ما يفعله الناس ، ويحكي ما يراه منهم كلّ لحظة .
وهو يظنّ أنّه قام بما يقوم به الإنسان ، ومتى كان هذا العنيد يدرك الفرق ؟
فالإنسان ( الفاضل ) يعمل بأمر ( اللَّه ) والقرد يعمل من أجل العناد .
فاحثُ التراب على رؤوس هؤلاء المعاندين .
285 - إنّ المنافق يلتقي مع المؤمن في الصلاة ، وذلك للنزاع والمنافسة ، وليس من أجل الضراعة ! ففي الصلاة والصيام والحج والزكاة ( ترى ) المؤمنين في ( صراع ) مع المنافقين ( يتراوح ) بين النصر والهزيمة .
وسوف يكون النصر في العاقبة للمؤمنين ، وتكون الهزيمة في الآخرة للمنافقين .
وإذا كان هذان الفريقان يلعبان معاً لعبة واحدة ، فإنّهما ( مختلفان ) معاً اختلاف المروزي “ 1 “ والرازي “ 2 “ .
فكل منهما يتجه إلى مقامه ، وكل منهما يمضي في السبيل التي تتفق مع اسمه .
290 والمؤمن إذا وُصف بالإيمان سعدت روحه ، وإذا نُعت بالنفاق
..............................................................
( 1 ) نسبة إلى مدينة مرو .
( 2 ) نسبة إلى مدينة الري .
“ 116 “
تأجِّجت نار الغضب في نفسه .
واسم المؤمن محبوب لذاته ، وأما المنافق فاسعمه بغيض لآفاته .
فحروف كلمة “ مؤمن “ ليست في حدّ ذاتها حروفاً مشرِّفة ، ولفظ مؤمن ليس إلا وسيلة للتعريف بالمؤمن .
فإذا سمّيت المؤمن منافقاً ، فإنّ هذا الاسم الخسيس يلدغه في باطنه كأنّه عقرب .
ولو لم يكن هذا الاسم مشتقّاً من جهنم ، فلماذا يحسّ المرء فيه مذاق جهنم ؟
295 - وليس قبح هذا الاسم ( نابعاً ) من حروفه ، كما أنّ ملوحة ماء البحر ليست من الوعاء الذي يحتويه .
فالحرف كالوعاء والمعنى فيه كالماء ، وبحر المعاني عند اللَّه الذي عنده أمّ الكتاب .
والبحر الملح والبحر العذب في هذه الدنيا بينهما برزخ لا يبغيان “ 1 “ .
واعلم أنّ كلا هذين البحرين ينبعان من أصل واحد ، فدعهما وامض ، حتى تدرك أصلهما .
ولن يفيدك الاعتبار في تمييز الذهب الخالص من الذهب المشوب ما لم يكن لديك محكّ لذلك .
300 - وكلّ من وضع اللَّه له محكّاً في روحه فإنّه يمحّص به كل يقين من الشكّ .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الرحمن : “ مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان “ . ( 55 : 19 ) .
“ 117 “
( فالانسان ) الحّي لو وقع في فمه قذى ، فإنّه لا يستريح حتى يلفظه .
فلو دخلت الفم وسط آلاف من اللقم قطعة صغيرة من القذى فإن حسّ الرجل الحيّ يتعقبها .
إنّ حسّ الدنيا سلّم لهذا العالم ، وأما حسّ الدين فهو سلّم السماء
فاطلب صحة حسِّ الدنيا من الطبيب ، والتمس صحة حسِّ الدين عند الحبيب .
305 - وصحّة حسِّ الدنيا تجيء من سلامة البدن ، وأما صحة حسّ الدين فتأتي من خرابه .
وإنّ طريق الروح يخرّب الجسم ، ولكنّه يعود فيعمره بعد هذا التخريب .
(فهو كمن) خرب داراً من أجل كنز من الذهب ، ثم زادها عمراناً بذلك الكنز ذاته!
( أو كمن ) قطع الماء وطهّر مجرى النهر ، ثم عاد فأجرى ماء الشرب فيه .
( أو كمن ) شقّ الجلد وانتزع منه رأس الحربة، فنما على الجرح بعد ذلك جلد جديد.
310 - ( أو كمن ) هدم القلعة ، وأخذها من الكفار ، ثم أقام على أرضها مائة برج وسدّ .
ومن ذا الذي يصف صنيع من لا شبيه له ؟ إنّ ما قلته ليس إلا ما تمليه الضرورة !
فهو حيناً يظهر بتلك الصورة ، وحيناً بضدّها . فليس في أمور الدين إلا ما يبعث الحيرة .
“ 118 “
وليست هذه الحيرة حيرة من يوليه ظهره ، وإنما هي حيرة المحبّ أمام الحبيب ، والغرق ( في لجة حبّه ) والسكر ( بعشقه ) .
فمن الناس من ولىّ وجهه نحو الحبيب ، ومن الناس من ليس وجهه إلا وجه نفسه .
315 - فانظر إلى وجه كلّ إنسان ، وكن منتبهاً ، فلعلّك تغدو من التأمل عارفاً بالوجوه .
ولما كان كثير من الأبالسة يظهرون في صورة الإنسان ، فليس يليق بالمرء أن يمدّ يده لكل يد .
ذلك لأنّ الصياد يصطنع الصفير ، لكي يوقع الطائر في حبائله .
فيسمع الطائر صوت أبناء جنسه . فيجيء من الهواء فيجد الشبكة والسكين .
إنّ الرجل اللئيم يسرق لغة الدروايش ليتلو على البسطاء أسطورة منها (يخدعهم بها).
320 - وإن عمل الرجال لنور وحرارة ، وأما عمل الأخسِّاء فاحتيال ووقاحة !
فقد يُصنع الأسدُ من الصوف لأجل التسول ، وقد خلع بعض الناس على مسيلمة لقب أحمد !
فبقى لمسيملة لقب الكذّاب ، ودام لمحمد نعت أولي الألباب .
إنّ شراب الحق ختامه المسك المصفىَّ ، وأما الخمر فختامها النتن والعذاب .
***
شرح حكاية البقال والببغاء وإراقة الببغاء الزيت في الدكان
( 246 ) الواجب على الإنسان ألا يقيس كل أمر بمقياسه الخاص ، وألا يتخذ من نفسه ميزاناً لتقدير كل الأمور حتى ما كان منها خارجاً عن مدركاته .
( 288 ) المروزي هو المنسوب إلى مدينة مرو وأما الرازي فهو المنسوب إلى الري ، وهذان يتصاحبان على الطريق ، لكنهما في النهاية يفترقان ، إذ يمضي كل منهما إلى مدينته .
( 296 )” أُمُّ الْكِتابِ “ *ذكرت مرات عديدة في القرآن الكريم ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :” يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ “. ( 13 : 39 ) .
والتفاسير السنية - في أغلب الأحوال - تذكر أن أم الكتاب هي “ اللوح المحفوظ “ الذي سُجّل فيه ما كان وما يكون .
وقد عبر الجيلي - في كتابه الإنسان الكامل - عن معنى” أُمُّ الْكِتابِ “ *بعبارات فلسفية صوفية إذ قال : “ اعلم أن أم الكتاب عبارة عن ماهية كنه الذات المعبر عن بعض وجوهها بماهيات الحقائق ، التي لا يطلق عليها اسم ولا نعت ، ولا وصف ولا وجود ولا عدم ، ولا حق ، ولا خلق ، والكتاب هو الوجود المطلق الذي لا عدم فيه ، وكانت ماهية الكنه أم الكتاب لأن الوجود مندرج فيها اندراج الحروف في الدواة “ . ( الإنسان الكامل ، ج 1 ، ص 75 ) . ويفرق الجيلي بين” أُمُّ الْكِتابِ “ *وبين “ اللوح المحفوط “ . يقول عن “ اللوح المحفوظ “ :
“ 474 “
“ اعلم - هداك اللَّه - أن اللوح المحفوظ عبارة عن نور إلهي حقي متجل في مشهد خلقي ، انطبعت الموجودات فيه انطباعاً أصلياً ، فهو أم الهيولى لأن اليهولى لا تقتضي صورة إلا وهي منطبعة في اللوح المحفوظ . . . “ ( ج 2 ، ص 6 ) .
( 297 ) المؤمنون والكفار يعيشون معاً في هذه الدنيا ، وكل من هذين الفريقين لا يمتزج بالآخر ، فهما كالبحر العذب والبحر الملح بينهما برزخ لا يبغيان تجاوزه وتخطيه .
( 289 ) الخالق أصل كل شيء ، ولا يكون في الكون شيء بدون مشيئته أو رغم إرادته .
( 299 ) المحك هو العرفان الصوفي ، فهو الذي يجعل الإنسان قادراً على تمييز الحق من الباطل . وهذا العرفان المبني على الكشف هو المحك الصادق عندهم . أما العقل والحواس فغير قادرة على هذا التمييز . وفي البيت التالي ( رقم 300 ) إيضاح لهذا المعنى .
[ شرح من بيت 300 إلى 450 ]
( 313 ) يتحدث الشاعر هنا عن لون من الحيرة ليس مصدره الجهل وإنما هو مبني على الحب والإعجاب . وهذا الحب والإعجاب - حينما عظما وتزايدا - أصبحا بمثابة الحيرة والعجب . فالحيرة هنا حيرة العالم أمام روعة ما يعلم وليست حيرة الجاهل العاجز عن إدراك الأشياء ، كأنما هو قد ولاها ظهره .
( 316 ) يميل بعض شراح المثنوي إلى أن يفسروا هذا البيت على أنه يشير إلى المبايعة المعروفة عند الصوفية ، والتي تقترن بالمصافحة بالأيدي بين الشيخ والمريد . ولكن صيغة البيت يمكن أن تنطبق على العلاقات العادية بين الناس ، تلك التي تفرض على كل إنسان ينشد السلامة والأمان ألا يتعامل مع كل من يعرض له من الناس ، وإنما يختار من يستطيع الركون إليهم ، وإلى صدق وفائهم .
“ 475 “
( 321 ) كان من المعتاد أن بعض المتسولين يصنعون من الصوف تماثيل للأسود يستخدمونها في تسولهم .
( 325 ) جوهر الرسالات السماوية واحد . ولقد جاء كل رسول في أحد الأدوار الزمنية ، وحمل إلى البشر رسالة السماء . وما دام الجوهر واحداً فلا ينبغي التفريق بين الرسل .
.
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
حكاية البقال والببغاء المثنوي المعنوي الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
حكاية البقال والببغاء وإراقة الببغاء الزيت في الدكان
كان في سالف العصر بقال ، وكان له ببغاء حسن الصوت أخضر اللون متكلِّم .
وكان هذا الببغاء ( يقف ) على الدكان حارساً له ، ويحدّث التجار جميعاً بلطيف المقال .
فقد كان ناطقاً في خطاب الآدمين ، كما كان حاذقاً في غناء الببغاوات .
250 - ( وذات مرة ) قفز من ناحية الدكان إلى ناحية أُخرى ، فأراق زجاجات زيت الورد .
وجاء صاحبه من ناحية المنزل ، وجلس على الدكان فارغ البال كأنه من السادة .
فرأى الدكان قد غمره الزيت ، وثيابه لزجة ، فضرب الببغاء على رأسه ، فصار أقرع من الضرب .
وامتنع الببغاء عن الكلام بضعة أيام ، فأصبح الرجل البقال يتأوه من الندم .
فكان يقتلع شعر لحيته ويقول : “وا أسفاه ! إنّ شمس نعمتي أصبحت تحت السحاب .
“ 113 “
255 ليت يدي كانت قد كسرت في تلك اللحظة ! كيف ضربت هذا الحلو اللسان على رأسه ؟ “ .
وجعل يعطي الهدايا لكل درويش لعلّه يسترد نطق طائره .
وبعد ثلاثة أيام من الحيرة والألم ، كان يجلس على الدكان كأنه يائس .
وكان يظهر للطائر كل لون من العجائب ، لعله يبدأ النطق من جديد .
( وفي تلك اللحظة ) كان درويش عاري الرأس يمر ، وكان رأسه خالياً من الشعر كأنه ظهر طاس أو طست .
260 - فنطق الببغاء في ذلك الوقت وصاح بالدرويش : “ يا فلان ! لماذا اختلطت أيّها الأقرع بأمثالك من القرع ؟ لعلك أرقت الزيت من الزجاجة ! “ .
فأضحك قيا سُه الخلق ، إذ أنّه ظنّ نفسه مثل صاحب الدلق “ 1 “ .
فلا تتخذ من نفسك مقياساً لأحوال الطاهرين ، حتى ولو تشابهت في الكتابة كلمة “ شير “ بمعنى أسد و “ شير “ بمعنى لبن .
ولهذا السبب ضلّت جملة أهل العالم فقليل من الناس من يعرف أبدال الحق .
265 - فقد ادّعوا أنّهم مساوون للأنبياء ، وظنّوا أنفسهم مثل الأولياء .
وقالوا “ أنظروا ! إننا بشروهم بشر ، ونحن وإيّاهم أسارى للنوم والطعام “ .
ومن عما هم لو يدركوا أن هناك فرقاً لا نهاية له بينهم وبين هؤلاء .
...............................................................
( 1 ) الدلق هو الخرقة ، وصاحب الدلق هو الدرويش .
“ 114 “
فالنحل كلها تأكل من مكان واحد ، ولكن يجيء من بعضها اللدغ ومن بعضها الآخر يأتي العسل .
والغزلان نوعان كلاهما يأكل العشب ، ويشرب الماء ، ولكنّ أحدهما يجيء منه البعر ، ومن الآخر يأتي المسك المصفىّ !
270 - ومن القصب صنفان يشربان من ماء واحد ، ولكنّ أحدهما خال ، والآخر ( حافل ) بالسكر .
فتأمّل مائة ألف من أمثال هذه الأشياء ، وانظر كيف يفصل بينها طريق طوله سبعون عاماً ! فهذا يأكل فتتولّد منه القذارة ، وذلك يأكل فيصبح كلّه نوراً إلهيّاً ! وهذا يأكل فينبعث منه البخل والحسد ، وذلك يأكل فيفيض منه عشق الأحد ! وهذه أرض طيّبة ، وتلك مالحة رديئة . وهذا ملك طاهر وذاك شيطان ووحش ضار .
275 - فلو تشابهت الصورتان فذاك جائز ، فالماء الملح والماء العذب شبيهان في الصفاء ! وليس يدري الفرق بينهما سوى صاحب ذوق ، فأدركه ، فهو الذي يعرف الماء العذب من الماء الملح .
( فمن الناس ) من يقيس السحر بالمعجزة ، فيظن أنّ كليهما مبنيّ على المنكر .
فالسحرة من أجل منازعتهم لموسى أمسكوا عصى مثل عصاه .
“ 115 “
لكنَّ بين هذا العصى وتلك العصى فرقاً واسعاً ! وبين هذا العمل وذاك العمل طريق عظيم .
280 - فهذا العمل تشيّعه لعنة اللَّه ، وذاك العمل تقابله رحمة اللَّه .
إنّ الكفار - لمرائهم - ذو وطباع كطباع القردة . والطبع ( السيء ) آفة داخل الصدر .
فالقرد يفعل ما يفعله الناس ، ويحكي ما يراه منهم كلّ لحظة .
وهو يظنّ أنّه قام بما يقوم به الإنسان ، ومتى كان هذا العنيد يدرك الفرق ؟
فالإنسان ( الفاضل ) يعمل بأمر ( اللَّه ) والقرد يعمل من أجل العناد .
فاحثُ التراب على رؤوس هؤلاء المعاندين .
285 - إنّ المنافق يلتقي مع المؤمن في الصلاة ، وذلك للنزاع والمنافسة ، وليس من أجل الضراعة ! ففي الصلاة والصيام والحج والزكاة ( ترى ) المؤمنين في ( صراع ) مع المنافقين ( يتراوح ) بين النصر والهزيمة .
وسوف يكون النصر في العاقبة للمؤمنين ، وتكون الهزيمة في الآخرة للمنافقين .
وإذا كان هذان الفريقان يلعبان معاً لعبة واحدة ، فإنّهما ( مختلفان ) معاً اختلاف المروزي “ 1 “ والرازي “ 2 “ .
فكل منهما يتجه إلى مقامه ، وكل منهما يمضي في السبيل التي تتفق مع اسمه .
290 والمؤمن إذا وُصف بالإيمان سعدت روحه ، وإذا نُعت بالنفاق
..............................................................
( 1 ) نسبة إلى مدينة مرو .
( 2 ) نسبة إلى مدينة الري .
“ 116 “
تأجِّجت نار الغضب في نفسه .
واسم المؤمن محبوب لذاته ، وأما المنافق فاسعمه بغيض لآفاته .
فحروف كلمة “ مؤمن “ ليست في حدّ ذاتها حروفاً مشرِّفة ، ولفظ مؤمن ليس إلا وسيلة للتعريف بالمؤمن .
فإذا سمّيت المؤمن منافقاً ، فإنّ هذا الاسم الخسيس يلدغه في باطنه كأنّه عقرب .
ولو لم يكن هذا الاسم مشتقّاً من جهنم ، فلماذا يحسّ المرء فيه مذاق جهنم ؟
295 - وليس قبح هذا الاسم ( نابعاً ) من حروفه ، كما أنّ ملوحة ماء البحر ليست من الوعاء الذي يحتويه .
فالحرف كالوعاء والمعنى فيه كالماء ، وبحر المعاني عند اللَّه الذي عنده أمّ الكتاب .
والبحر الملح والبحر العذب في هذه الدنيا بينهما برزخ لا يبغيان “ 1 “ .
واعلم أنّ كلا هذين البحرين ينبعان من أصل واحد ، فدعهما وامض ، حتى تدرك أصلهما .
ولن يفيدك الاعتبار في تمييز الذهب الخالص من الذهب المشوب ما لم يكن لديك محكّ لذلك .
300 - وكلّ من وضع اللَّه له محكّاً في روحه فإنّه يمحّص به كل يقين من الشكّ .
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الرحمن : “ مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان “ . ( 55 : 19 ) .
“ 117 “
( فالانسان ) الحّي لو وقع في فمه قذى ، فإنّه لا يستريح حتى يلفظه .
فلو دخلت الفم وسط آلاف من اللقم قطعة صغيرة من القذى فإن حسّ الرجل الحيّ يتعقبها .
إنّ حسّ الدنيا سلّم لهذا العالم ، وأما حسّ الدين فهو سلّم السماء
فاطلب صحة حسِّ الدنيا من الطبيب ، والتمس صحة حسِّ الدين عند الحبيب .
305 - وصحّة حسِّ الدنيا تجيء من سلامة البدن ، وأما صحة حسّ الدين فتأتي من خرابه .
وإنّ طريق الروح يخرّب الجسم ، ولكنّه يعود فيعمره بعد هذا التخريب .
(فهو كمن) خرب داراً من أجل كنز من الذهب ، ثم زادها عمراناً بذلك الكنز ذاته!
( أو كمن ) قطع الماء وطهّر مجرى النهر ، ثم عاد فأجرى ماء الشرب فيه .
( أو كمن ) شقّ الجلد وانتزع منه رأس الحربة، فنما على الجرح بعد ذلك جلد جديد.
310 - ( أو كمن ) هدم القلعة ، وأخذها من الكفار ، ثم أقام على أرضها مائة برج وسدّ .
ومن ذا الذي يصف صنيع من لا شبيه له ؟ إنّ ما قلته ليس إلا ما تمليه الضرورة !
فهو حيناً يظهر بتلك الصورة ، وحيناً بضدّها . فليس في أمور الدين إلا ما يبعث الحيرة .
“ 118 “
وليست هذه الحيرة حيرة من يوليه ظهره ، وإنما هي حيرة المحبّ أمام الحبيب ، والغرق ( في لجة حبّه ) والسكر ( بعشقه ) .
فمن الناس من ولىّ وجهه نحو الحبيب ، ومن الناس من ليس وجهه إلا وجه نفسه .
315 - فانظر إلى وجه كلّ إنسان ، وكن منتبهاً ، فلعلّك تغدو من التأمل عارفاً بالوجوه .
ولما كان كثير من الأبالسة يظهرون في صورة الإنسان ، فليس يليق بالمرء أن يمدّ يده لكل يد .
ذلك لأنّ الصياد يصطنع الصفير ، لكي يوقع الطائر في حبائله .
فيسمع الطائر صوت أبناء جنسه . فيجيء من الهواء فيجد الشبكة والسكين .
إنّ الرجل اللئيم يسرق لغة الدروايش ليتلو على البسطاء أسطورة منها (يخدعهم بها).
320 - وإن عمل الرجال لنور وحرارة ، وأما عمل الأخسِّاء فاحتيال ووقاحة !
فقد يُصنع الأسدُ من الصوف لأجل التسول ، وقد خلع بعض الناس على مسيلمة لقب أحمد !
فبقى لمسيملة لقب الكذّاب ، ودام لمحمد نعت أولي الألباب .
إنّ شراب الحق ختامه المسك المصفىَّ ، وأما الخمر فختامها النتن والعذاب .
***
شرح حكاية البقال والببغاء وإراقة الببغاء الزيت في الدكان
( 246 ) الواجب على الإنسان ألا يقيس كل أمر بمقياسه الخاص ، وألا يتخذ من نفسه ميزاناً لتقدير كل الأمور حتى ما كان منها خارجاً عن مدركاته .
( 288 ) المروزي هو المنسوب إلى مدينة مرو وأما الرازي فهو المنسوب إلى الري ، وهذان يتصاحبان على الطريق ، لكنهما في النهاية يفترقان ، إذ يمضي كل منهما إلى مدينته .
( 296 )” أُمُّ الْكِتابِ “ *ذكرت مرات عديدة في القرآن الكريم ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :” يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ “. ( 13 : 39 ) .
والتفاسير السنية - في أغلب الأحوال - تذكر أن أم الكتاب هي “ اللوح المحفوظ “ الذي سُجّل فيه ما كان وما يكون .
وقد عبر الجيلي - في كتابه الإنسان الكامل - عن معنى” أُمُّ الْكِتابِ “ *بعبارات فلسفية صوفية إذ قال : “ اعلم أن أم الكتاب عبارة عن ماهية كنه الذات المعبر عن بعض وجوهها بماهيات الحقائق ، التي لا يطلق عليها اسم ولا نعت ، ولا وصف ولا وجود ولا عدم ، ولا حق ، ولا خلق ، والكتاب هو الوجود المطلق الذي لا عدم فيه ، وكانت ماهية الكنه أم الكتاب لأن الوجود مندرج فيها اندراج الحروف في الدواة “ . ( الإنسان الكامل ، ج 1 ، ص 75 ) . ويفرق الجيلي بين” أُمُّ الْكِتابِ “ *وبين “ اللوح المحفوط “ . يقول عن “ اللوح المحفوظ “ :
“ 474 “
“ اعلم - هداك اللَّه - أن اللوح المحفوظ عبارة عن نور إلهي حقي متجل في مشهد خلقي ، انطبعت الموجودات فيه انطباعاً أصلياً ، فهو أم الهيولى لأن اليهولى لا تقتضي صورة إلا وهي منطبعة في اللوح المحفوظ . . . “ ( ج 2 ، ص 6 ) .
( 297 ) المؤمنون والكفار يعيشون معاً في هذه الدنيا ، وكل من هذين الفريقين لا يمتزج بالآخر ، فهما كالبحر العذب والبحر الملح بينهما برزخ لا يبغيان تجاوزه وتخطيه .
( 289 ) الخالق أصل كل شيء ، ولا يكون في الكون شيء بدون مشيئته أو رغم إرادته .
( 299 ) المحك هو العرفان الصوفي ، فهو الذي يجعل الإنسان قادراً على تمييز الحق من الباطل . وهذا العرفان المبني على الكشف هو المحك الصادق عندهم . أما العقل والحواس فغير قادرة على هذا التمييز . وفي البيت التالي ( رقم 300 ) إيضاح لهذا المعنى .
[ شرح من بيت 300 إلى 450 ]
( 313 ) يتحدث الشاعر هنا عن لون من الحيرة ليس مصدره الجهل وإنما هو مبني على الحب والإعجاب . وهذا الحب والإعجاب - حينما عظما وتزايدا - أصبحا بمثابة الحيرة والعجب . فالحيرة هنا حيرة العالم أمام روعة ما يعلم وليست حيرة الجاهل العاجز عن إدراك الأشياء ، كأنما هو قد ولاها ظهره .
( 316 ) يميل بعض شراح المثنوي إلى أن يفسروا هذا البيت على أنه يشير إلى المبايعة المعروفة عند الصوفية ، والتي تقترن بالمصافحة بالأيدي بين الشيخ والمريد . ولكن صيغة البيت يمكن أن تنطبق على العلاقات العادية بين الناس ، تلك التي تفرض على كل إنسان ينشد السلامة والأمان ألا يتعامل مع كل من يعرض له من الناس ، وإنما يختار من يستطيع الركون إليهم ، وإلى صدق وفائهم .
“ 475 “
( 321 ) كان من المعتاد أن بعض المتسولين يصنعون من الصوف تماثيل للأسود يستخدمونها في تسولهم .
( 325 ) جوهر الرسالات السماوية واحد . ولقد جاء كل رسول في أحد الأدوار الزمنية ، وحمل إلى البشر رسالة السماء . وما دام الجوهر واحداً فلا ينبغي التفريق بين الرسل .
.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin