“ 168 “
840 - فإذا ضربت الحديد بالحجر قفزت النار ، فهي تخرج منهما بأمر اللَّه .
فلا تضربُ حديد الظلم بحجره ، فإنَّ هذين ينجبان كما ينجب الرجل والمرأة .
والحجر والحديد يمثّلان السبب ( المباشر ) ، ولكن تطّلع أيّها الرجل الطيّب إلى ما أعلى من ذلك !
فإنّ هذا السبب قد أحدثه سبب آخر ، وإلا فبدون المسبّب ، كيف يجيء السبب من تلقاء نفسه ؟
وهذه الأسباب التي تهدي الأنبياء ، أسمى من تلك الأسباب ( الظاهرية ) .
845 - والسبب ( الروحيّ ) يجعل السبب ( الظاهريّ ) عاملًا فعالًا في بعض الأحيان ، وأصبحت أحيان أخرى يجعله عاطلًا لا ثمرة له .
وهذا السبب الظاهري تألفه عقول ( عامة البشر ) ، وأما الأسباب ( الروحيّة ) فلا يألفها إلا الأنبياء .
وهذا السبب ما معناه بالعربيّة ؟ قل إنه رسن وأنّ هذا الرسن تدلّى أصبحت تلك البئر بفنّ ( وتدبير ) .
ودوران الفلك علة لهذا الرسن ، وإنه لخطأ ألا ترى مدير الفلك .
فحذار أن تنظر إلى حبال الأسباب أصبحت هذه الدنيا على أنِّها من هذا الفلك الدائر الرأس .
850 وإلا بقيت صفر الوفاض ، دائر الرأس كالفلك ، واحترقت لخوّك من اللبّ ، كما يحترق خشبُ المرخ .
إنّ الهواء يصبح ناراً بأمر الحقّ ، وكلّ منهما سكران من خمر الحق .
وإنك لترى يا بنيّ - إذا أحسنت النظر - أنّ ماء الحلم ونار الغضب هما من اللَّه .
ولو لم تكن روح الريح عارفة بالحقّ ، فكيف كانت تفرق بين ( المؤمنين والكفار ) من قوم عاد .
“ 169 “
قصة الريح التي أهلكت قوم عاد في عهد هود
لقد رسم هود حول المؤمنين خطاً ، وكانت الريح ترقّ عندما تصل إلى هذا الخطّ .
855 وأما جملة الخارجين عن هذا الخطّ ، فكانت الريح تمزقهم إرباً في الهواء .
وهكذا كان شيبان الراعي ، يرسم خطاً حول قطيعه .
وذلك حينما كان يذهب للصلاة يوم الجمعة ، حتى لا يجيء الذئب فيغير عليه .
فما كان ذئب يدخل تلك الدائرة ( المرسومة ) ، ولا كان حمل يخرج منها !
فكانت دائرةُ رجل اللَّه قيداً لريح الحرص عند الذئب ، وعند الحمل .
860 وهكذا تكون ريح الأجل مع العارفين ، إنها رقيقة طيبة كنسيم البستان “1 “.
إنّ النار لم تنشب أنيابها في إبراهيم . وكيف كانت تنهشه وهو الذي اختارة الحقّ ؟
إنّ نار الشهوة لم تُصب أهل الدين ، ولكنها هبطت بمن عداهم إلى قاع الثرى .
...............................................................
( 1 ) فضلنا قراءة الشطر الثاني من هذا البيت : “ نرم وخوش همچون نسيم بوستان “ ، وهي التي وردت في النص الفارسي من المنهج القوي على قراءة نيكلسون : “ نرم وخوش همچون نسيم يوسفان “ .
“ 170 “
وموجُ البحر - إذ تدفق بأمر اللَّه - ميَّز بين قوم موسى ، وبين أهل مصر .
والأرض - عندما جاءها الأمر - سحبت قارون بذهبه وعرشه إلى قاعها .
865 والماء والطين - حينما ارتويا من أنفاس عيسى - انبثقت لهما قوادم وخوالف ، وأصبحا طائراً يحلق “ 1 “ .
وما تسبيحك إلا بخار الماء والطين ، وقد صار هذا طائر الجنة لما نفخ فيه القلب الصدوق .
ولقد رقص جبل الطور لما رأى نور موسى ، وأصبح صوفياً كاملًا ، وبرئ من النقص .
وأيّ عجب إذا صار الجبل صوفياً عزيزاً ، أو لم يُخلق جسمُ موسى أيضاً من قعطة طين ؟
سخرية ملك اليهود وانكاره ورفضه نصح خواصه
لقد رأى ملك اليهود هذه العجائب - ومع هذا - لم يكن منه سوى السخرية والإنكار .
870 فقال له الناصحون : “ لا تجعل هذا الأمر يجاوز حدّه ، ولا تدفع بمركب العناد إلى مثل هذا المدى ! “
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى إحدى معجزات عيسى . فقد كان يصنع من الطين أشكالًا على هيئة الظير ثم ينفخ فيها فتصير طيراً .
وقد ورد ذكر هذه المعجزة في أماكن عديدة من القرآن ومنها قوله تعالى في سورة آل عمران “ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللَّه “ . ( 3 : 49 ) .
“ 171 “
ولكنه قَيّد أيدي الناصحين ، وألقى بهم في السجن ، فارتكب بذلك ظلماً فوق ظلم .
وعندما بلغ الأمر ذلك الحدّ جاءت صيحةُ تقول : مكانك أيها الكلب فقد جاء انتقامنا !
“ فارتفع لهيبُ النار بعد ذلك أربعين ذراعاً ، ثم طوقت هؤلاء اليهود وأحرقتهم .
لقد كان ابتداءُ أصلهم من النار ، وها هم أولاء قد انتهوا إلى أصلهم !
875 إنّ هذا الفريق كان قد ولُد من النار ، وها هي ذي الأجزاء قد اتجهت إلى كلّها .
لقد كان هذا الطريق ناراً لهيبها يأكل المؤمنين ، وها هي ذي نارهم تأكل نفسها ، كما يحترق الهشيم !
وكلّ من كانت أمّه الهاوية أصبحت له الهاوية “ 1 “ زاوية وسكناً .
إنّ أمّ الولد دائمةُ البحث عنه ، والأصول طالبة لفروعها .
والماء إنْ احتبس في حوض ، جففته الريح ، لأنه من العناصر الأولى .
880 فالريح تخلصه ، وتحمله إلى معدنه رويداً رويداً ، وأنت لا تبصر فعلها !
وعلى هذا النحو تستلب أنفاسنا أرواحَنا رويداً رويداً من حبس هذه الدنيا .
فإليه يصعد اطيابُ الكلم * صاعداً منا إلى حيث علم “ 2 “
ترتقي أنفاسنا بالمنتقى * مُتْحَفاً منا إلى درا البقا
...............................................................
( 1 ) الهاوية اسم لجهنم . قال تعالى في سورة القارعة : “ وأما من خفَّت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه ، نار حامية “ ( 101 : 7 - 11 ) .
( 2 ) هذا البيت والأبيات الأربعة التي تليه من نظم جلال الدين بالعربية . ويتجلى بوضوح ضعف شعره العربيّ إذا قورن بشعره الفارسي .
“ 172 “
ثم تأتينا مكافاةُ المقال * ضعْف ذاك رحمةً من ذي الجلال
885 ثم يلجينا إلى أمثالها * كي ينال العبدُ مما نالها .
هكذا تعرجْ وتنزلْ دائماً * ذا فلا زلت عليه قائما
وتفسير ذلك “ 1 “ : إنّ هذا الجذب يجيء من ذلك الجانب الذي وقع فيه الشراب .
فكلّ قوم يتّجهون بأعينهم إلى ذلك الجانب ، الذي تحققت لهم فيه - ذات يوم - إحدى اللذّات .
ومن اليقين أن ذوق كلّ جنس يكون من جنسه ، وكذلك يكون ذوق الجزء من كله ، فتأمل !
890 الا ما كان من الأجناس قابلًا الاتّحاد بغيره ، فإنّه ، عندما يتحد بالغير ، يصبح من جنسه .
ومثال ذلك الماء والخبز ، لم يكونا من جنسنا ، فصارا من جنسنا وزادا في كياننا !
فالماء والخبز ليست لهما صورتنا الجنسية ، ومع هذا ، فلتعدّهما من جنسنا باعتبار مآلهما آخر الأمر !
وإذا كان لنا ميل لغير جنسنا فلعلّ ذلك لأنّه يشبه جنسنا .
وكلّ مشابهة ( ظاهرَّية ) تكون عارية “ 2 “ ، والعارية لا تبقى في عاقبة الأمر .
895 فالطير مهما أعجبها الصفير ، تفزع وتفرّ ، أنّ لم تجد ( صاحبه ) من جنسها .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : والمعنى بالفارسية . . . . .
( 2 ) العارية هنا الشيء المستعار والمراد أنّ كل مشابهة ظاهرية ليس لها حقيقة ثابتة ولا وجود ثابت .
“ 173 “
والظمآن يعجبه السراب ، ولكنّه - حين يصل إليه - يهرب منه ، ويبحث عن الماء .
ومهما سعد المفلسون بالذهب الزائف ، فإنّ أمره ( لا محالة ) يفتضح في دار الضرب .
فحتى لا يصرفك الذهب الزائف عن الطريق ، وحتى لا يلقي بك الخيال المعوجّ في بئر ( المهالك ) ،
اطلب تلك القصة في كتاب كليلة ودمنة ، وانشُد ما اشتملت عليه من عظة .
( 746 ) البشر تجري في عروقهم دماء الصلاح والاستقامة أو دماء الفساد ، حتى ينفخ في الصور .
( 748 ) كل ضراعة يتوجه بها الصالحون إلى ربهم ليست إلا أشعة من شمس النبوة بمعنى أنها انعكاس لسيرة الرسول وتعاليمه التي أشعلت في في قلوبهم محبة الخالق .
( 749 ) هؤلاء الصالحون دائرون في فلك الحقيقة المحمدية . فهم كالأشعة التي تدور مع الجوهر ، وتتجه إلى حيث يكون .
[ شرح من بيت 750 إلى 900 ]
( 750 ) وكما أنّ الشمس تنتقل من برج إلى ، برج ، فيتبعها النور وينتقل في أثرها ، كذلك النور المحمدي ، يشرق على البشر في مختلف البقاع .
( 751 - 759 ) في هذه الأبيات يذكر الشاعر بعض الكواكب وما كان يتصل بها من أفكار عن أحكام النجوم ، وتحكم كل كوكب فيمن يرتبط طالعهم به .
ولكنه ينتقل من ذلك إلى الحديث عن آفاق الروح ، التي تشرق بها كواكب قد خلت من النحس ، كواكب راسخة في وهج أنوار اللَّه ، تكون طوالع سعد لمن بلغوا تلك الآفاق الروحية ، ونقمة على أعدائهم .
( 759 ) النور الغالب هو نور قلب المحب الواصل . وهذا النور
“ 493 “
يكون آمناً من النقص ، فالظلمة لا تستطيع النفوذ إلى قلب أصبح بين إصبعي الحق .
( 760 ) يُنسب إلى الرسول عليه السلام أنه قال : “ إن اللَّه خلق الخلق في ظملة ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ عن سواء السبيل “ .
( 762 ) كل من كتب له أن يكون محروماً من نعمة المحبة الإلهية فقد حُرم من ذلك النور الذي نثره اللَّه على العباد .
( 763 ) إنّ العشق هو المحرّك للأجزاء ، يدفعها إلى كلها الذي صدرت عنه ، كما أن العشق هو الذي يحرك البلابل فيجعلها تبثّ الورود أشواقها .
( 764 - 765 ) هذان البيتان من أروع ما كتب جلال الدين . فهو يذهب إلى تقدير الناس - لا بحسب ألوانهم الظاهرة - وإنما وفق قيمتهم الحقيقية ، فاللون الحقيقي هو لون الباطن ، لون القلب والضمير ، لا لون الجلد . واللون الجميل هو لون الصفاء والصدق والاستقامة وأما اللون القبيح فهو لون الشرور والآثام .
( 766 ) اللون اللطيف هو لون قلوب المؤمنين والعارفين . فهو صبغة اللَّه التي صبغ بها هذه القلوب .
أما اللون الكثيف المظلم الذي اصطبغت به قلوب الكفار والجاحدين فتفوح منه لعنة اللَّه .
( 767 - 768 ) إنّ الأرواح في الأصل فاضت عن الواحد . وهي لا بد عائدة إليه ، منطلقة نحوه ، يدفعها إلى الحب والحنين .
وشبيه بذلك تلك الأمواج التي تصدر عن البحر ثم تعود إليه في نهاية الأمر .
( 769 - 770 ) إن الملك اليهودي المذكور بهذه القصة ، تطابق أوصافه وأفعاله يوسف ذا نواس ملك حمير الذي أحرق النصارى بنجران في أخذود أشعل به النار ، فسمّوا أصحاب الأخدود .
ولكن من المشا كل التي تحتاج هنا إلى تفسير أنّ الشاعر وصف الملك بأنه يهودي ،
“ 494 “
ولكنه عاد فنسب إليه أنّه نصب إلى جانب النار صنماً ، وأمر الناس بالسجود له . وليس من اليهودية في شيء عبادة الأصنام . فهل كان هذا الملك الحميري غير متعمق في دينه ، فأبقى على بعض مظاهر الوثنية ؟
ومن الممكن أيضاً أنْ يكون الصنم المقصود هنا رمزاً للهوى الذي سيطر على الملك ، فحاول أن يخضع الناس له . وهذا المعنى الرمزي يتضح في البيت التالي
( 771 ) وفيه يقول : “ إنّ الملك - لما لم يوقع بصنم النفس ما هو أهل له من الهلاك - تولّد من صنم نفسه صنم آخر “ . وقبل ذلك قال القشيري : “ وصنم كل إنسان نفسه فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة “ . ( الرسالة ، ص 103 ) .
( 772 ) النفس هي أم الشرور والآثام . هي التي تصنع للإنسان الأصنام وتدفعه إلى تقديسها . ومن الأصنام ما هو ماديّ ، ومنها ما هو معنوي . وكلها لا خطر لها لولا تعلّق النفس بها .
( 773 - 774 ) في هذين البيتين صورة جميلة تبين انبثاق الشرور من النفس .
فقد شبّهها الشاعر بالحجر والحديد اللذين تتولد النار من احتكاكهما .
فالشرر المنبثق يمكن اطفاؤه بالماء . ولكن هل يستطيع إنسان أنْ يطفئ النار الكامنة في كل من الحجر والحديد ؟
( 775 ) الصنم قدر محدود من الشر يمكن القضاء عليه ، أما النفس فنبع يفيض بالشرور ، فهي التي صنعت الصنم وما شاكله .
( 778 ) يصل الشاعر هنا إلى النتيجة التي قدّم لها في أبياته السابقة على هذا البيت ، وهي أنّ الصنم يمكن التخلص منه . ولكنّ الصعوبة هي في السيطرة على النفس وإخضاعها . ( انظر ما كتبه الجيلي عن النفس في كتاب الإنسان الكامل ص 39 ) ، وقد قدم لحديثه عنها بقوله : “ إنّها محتد إبليس ومن تبعه من الشياطين من أهل التلبيس “ .
( 779 - 780 ) ينتقل الشاعر هنا إلى الحديث عن أثر النفس بعد أنْ تكلم عن طبيعتها . إنّها مهلكة كجهنم ذات الأبواب السبعة . ولها في
“ 495 “
كل لحظة مكر يهلك مائة فرعون مع أتباعهم . وفي هذا إشارة إلى قصة فرعون مع موسى ، ومحاولته القضاء على موسى ، وهلاكه هو وأتباعه من جراء تلك المحاولة التي دفعته إليها نفسه المتكبرة ، العنيدة الكافرة .
( 785 - 793 ) جاء في قصة أصحاب الأخدود ما يلي ، “ وكانت امرأة قد أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع ، فقال لها الملك أترجعين عن دينك ، وإلا ألقيتك أنت وأولادك في النار ، فأبت ، فأخذ ابنها الأكبر فألقي في النار ، ثم أخذ الأوسط ، وقال لها ارجعي عن دينك ، فأبت ، فألقي أيضاً في النار ، ثم أخذ الرضيع وقال لها ارجعي فأبت ، فأمر بالقائه في النار ، فهمت المرأة بالرجوع . فقال لها الصبيّ الصغير : يا أماه ! لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحقّ ، ولا بأس عليك ، فألقي الصبيّ في النار وأمه على أثره “ . ( قصص الأنبياء للثعلبي ص 496 ) .
والقصة كما رواها جلال الدين تختلف عن ذلك .
فحوادث القصة عند جلال الدين تقتصر على إلقاء الصبيّ في النار . ولكنّ الشاعر أجرى على لسان الصبيّ
- بعد أن أُلقي في النار
- مجموعة من الأبيات الرائعة ، حافلة بالصور والعاطفة الجيّاشة المعبرة عن روعة الفداء ، وجمال التضحية في سبيل العقيدة والمبدأ .
وقد اتخذ الشاعر من الاحتراق بالنار هنا رمزاً لإفناء الذات . فهذا قد يبدو صعباً عسير المنال ، مخوفاً ، ولكنّه في نظر الصوفية سعادة لا تعدلها أيّة سعادة دينوية . فكما أنّ الرحم يكون عالم الجنين قبل أن يولد في هذه الدنيا الواسعة ، فكذلك هذه الدنيا - إذا قيست بعالم الروح الذي ينتقل إليه الأصفياء بعد المات - بعد سجناً ضيّقاً ، شبيهاً بالرحم إذا قيس بهذه الدنيا الواسعة .
“ 496 “
( 794 ) الفناء عن الذات وروابهطا المادية كشف له عالماً رحباً فسيحاً حافلا بالحياة .
( 795 ) هذا العالم الذي تكشّف له - بإفناء الذات - يبدو لأهل الدنيا عدماً ، مع أنّه هو الوجود الحقيقي .
وعلى العكس من ذلك تخدع الدنيا من يتمسكون بها فيحسبون أنّها هي الوجود الحقّ ، وليست من ذلك في شيء . إنّها مظهر خادع لا دوام له لأنّ مآلها إلى الفناء
( 800 ) إنّ اللَّه قد أعدّ السعادة والنعيم لمن خلصوا من وجودهم الدنيوي وأقبلوا إلى الخالق بقلوب صادقة ، ونفوس راضية مطمئنة ، وأرواح متعشّقة لجماله .
( 812 ) يقول البلاذري : “ وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد اللَّه عن الزهري ، وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده ، وفي أحد الحديثين زيادة على الآخر ، فسقتهما ،
ورددت بعضهما على بعض : إن الحكم بن أبي العاص بن أمية عم عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية ، كان جاراً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الجاهلية ، وكان أشد جيرانه أذى له في الإسلام ، وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة ، وكان مغموصاً عليه في دينه فكان يمر خلف رسول اللَّه فيغمز به ويحكيه ، ويخلج بأنفه وفمه ، وإذا صلى قام خلفه وأشار بأصابعه فبقي على تخليجه وأصابته خبلة “ . ( أنساب الأشراف ، ح 5 ، ص 27 ، 125 ، القدس ، 1936 “ .
وقد بقي منفياً من المدينة طيلة حكم أبي بكر وعمر ، ثم عاد إليها في خلافة عثمان .
وقد هجا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري مروان بن الحكم بقوله :إن اللعين أباك فارم عظامه * إن ترم ترم مخلّجا مجنوناً
“ 497 “
( 817 - 822 ) عقد القشيري بابا للحزن في رسالته . وقد أورد فيه آيات قرآنية وأحاديث نبوية عن الحزن . وبيّن أنّ الصوفية يعدون الحزن لوناً من الخشوع والإيمان . ومما ذكره القشيري من أقوال الصوفية أن رابعة العدوية سمعت رجلًا يقول : « واحزناه » ، فقالت : « قل واقلة حزناه ! لو كنت محزوناً لم يتهياً لك أن تتنفس ! » وقال سفيان بن عيينة : « لو أن محزوناً بكى في أمة لرحم اللَّه تعالى تلك الأمة ببكائه » .
والحزن عند الصوفية من أهم الرياضات التي يجب أخذُ النفس بها .
يقول الترمذي .
وفي الجملة ينبغي أن يتفقد ( الإنسان ) كل حال وكل أمر للنفس فيه فرح واستبشار ، من نعمة أو وجود لذة أو أنس بشيء ، فيقطعه عنها ، وأنه كلها هويت النفس شيئاً أعطاها فرحت به ، فينبغي أن يمنعها ولو شربة من ماء بارد تريد أن تشربها . فيمنعها من تلك الفورة التي تشوفت لوجود بردها ولذتها ، حتى تكسن تلك الفورة ، وينغِّص عليها ، ثم يسقيها بعد ذلك حتى يملأها غماً ويوقرها هماً ، لأن من شأنها إذا حبس عنها الفرح بهذه الأشياء وبهذه الأحوال ، فكأنه يصيرها في سجن ، فيتقرب إلى اللَّه عز وجل بغمها وهمها ، فيجعل اللَّه عز وجل ثوابه نوراً على القلب . . » ( الرياضة وأدب النفس ، ص 62 ) .
وقد غلبت طبيعة الحزن على كثير من الفنانين . ومن أحزان هؤلاء شهد العالم كثيراً من روائع الفن العالمي .
وقد أبدع أوسكار وايلد التعبير عن ذلك في كتابه « من الأعماق » deprofundis ومن أقواله في ذلك :
" فحيثما يكون الحزن فهناك حرم مقدّس . وسوف يعلم الناس ذات يوم مدلول هذا القول . ولن يحيطوا علماً بشيء في الحياة مالم يعرفوا ذلك " ..
....................................................................
840 - فإذا ضربت الحديد بالحجر قفزت النار ، فهي تخرج منهما بأمر اللَّه .
فلا تضربُ حديد الظلم بحجره ، فإنَّ هذين ينجبان كما ينجب الرجل والمرأة .
والحجر والحديد يمثّلان السبب ( المباشر ) ، ولكن تطّلع أيّها الرجل الطيّب إلى ما أعلى من ذلك !
فإنّ هذا السبب قد أحدثه سبب آخر ، وإلا فبدون المسبّب ، كيف يجيء السبب من تلقاء نفسه ؟
وهذه الأسباب التي تهدي الأنبياء ، أسمى من تلك الأسباب ( الظاهرية ) .
845 - والسبب ( الروحيّ ) يجعل السبب ( الظاهريّ ) عاملًا فعالًا في بعض الأحيان ، وأصبحت أحيان أخرى يجعله عاطلًا لا ثمرة له .
وهذا السبب الظاهري تألفه عقول ( عامة البشر ) ، وأما الأسباب ( الروحيّة ) فلا يألفها إلا الأنبياء .
وهذا السبب ما معناه بالعربيّة ؟ قل إنه رسن وأنّ هذا الرسن تدلّى أصبحت تلك البئر بفنّ ( وتدبير ) .
ودوران الفلك علة لهذا الرسن ، وإنه لخطأ ألا ترى مدير الفلك .
فحذار أن تنظر إلى حبال الأسباب أصبحت هذه الدنيا على أنِّها من هذا الفلك الدائر الرأس .
850 وإلا بقيت صفر الوفاض ، دائر الرأس كالفلك ، واحترقت لخوّك من اللبّ ، كما يحترق خشبُ المرخ .
إنّ الهواء يصبح ناراً بأمر الحقّ ، وكلّ منهما سكران من خمر الحق .
وإنك لترى يا بنيّ - إذا أحسنت النظر - أنّ ماء الحلم ونار الغضب هما من اللَّه .
ولو لم تكن روح الريح عارفة بالحقّ ، فكيف كانت تفرق بين ( المؤمنين والكفار ) من قوم عاد .
“ 169 “
قصة الريح التي أهلكت قوم عاد في عهد هود
لقد رسم هود حول المؤمنين خطاً ، وكانت الريح ترقّ عندما تصل إلى هذا الخطّ .
855 وأما جملة الخارجين عن هذا الخطّ ، فكانت الريح تمزقهم إرباً في الهواء .
وهكذا كان شيبان الراعي ، يرسم خطاً حول قطيعه .
وذلك حينما كان يذهب للصلاة يوم الجمعة ، حتى لا يجيء الذئب فيغير عليه .
فما كان ذئب يدخل تلك الدائرة ( المرسومة ) ، ولا كان حمل يخرج منها !
فكانت دائرةُ رجل اللَّه قيداً لريح الحرص عند الذئب ، وعند الحمل .
860 وهكذا تكون ريح الأجل مع العارفين ، إنها رقيقة طيبة كنسيم البستان “1 “.
إنّ النار لم تنشب أنيابها في إبراهيم . وكيف كانت تنهشه وهو الذي اختارة الحقّ ؟
إنّ نار الشهوة لم تُصب أهل الدين ، ولكنها هبطت بمن عداهم إلى قاع الثرى .
...............................................................
( 1 ) فضلنا قراءة الشطر الثاني من هذا البيت : “ نرم وخوش همچون نسيم بوستان “ ، وهي التي وردت في النص الفارسي من المنهج القوي على قراءة نيكلسون : “ نرم وخوش همچون نسيم يوسفان “ .
“ 170 “
وموجُ البحر - إذ تدفق بأمر اللَّه - ميَّز بين قوم موسى ، وبين أهل مصر .
والأرض - عندما جاءها الأمر - سحبت قارون بذهبه وعرشه إلى قاعها .
865 والماء والطين - حينما ارتويا من أنفاس عيسى - انبثقت لهما قوادم وخوالف ، وأصبحا طائراً يحلق “ 1 “ .
وما تسبيحك إلا بخار الماء والطين ، وقد صار هذا طائر الجنة لما نفخ فيه القلب الصدوق .
ولقد رقص جبل الطور لما رأى نور موسى ، وأصبح صوفياً كاملًا ، وبرئ من النقص .
وأيّ عجب إذا صار الجبل صوفياً عزيزاً ، أو لم يُخلق جسمُ موسى أيضاً من قعطة طين ؟
سخرية ملك اليهود وانكاره ورفضه نصح خواصه
لقد رأى ملك اليهود هذه العجائب - ومع هذا - لم يكن منه سوى السخرية والإنكار .
870 فقال له الناصحون : “ لا تجعل هذا الأمر يجاوز حدّه ، ولا تدفع بمركب العناد إلى مثل هذا المدى ! “
...............................................................
( 1 ) إشارة إلى إحدى معجزات عيسى . فقد كان يصنع من الطين أشكالًا على هيئة الظير ثم ينفخ فيها فتصير طيراً .
وقد ورد ذكر هذه المعجزة في أماكن عديدة من القرآن ومنها قوله تعالى في سورة آل عمران “ ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن اللَّه “ . ( 3 : 49 ) .
“ 171 “
ولكنه قَيّد أيدي الناصحين ، وألقى بهم في السجن ، فارتكب بذلك ظلماً فوق ظلم .
وعندما بلغ الأمر ذلك الحدّ جاءت صيحةُ تقول : مكانك أيها الكلب فقد جاء انتقامنا !
“ فارتفع لهيبُ النار بعد ذلك أربعين ذراعاً ، ثم طوقت هؤلاء اليهود وأحرقتهم .
لقد كان ابتداءُ أصلهم من النار ، وها هم أولاء قد انتهوا إلى أصلهم !
875 إنّ هذا الفريق كان قد ولُد من النار ، وها هي ذي الأجزاء قد اتجهت إلى كلّها .
لقد كان هذا الطريق ناراً لهيبها يأكل المؤمنين ، وها هي ذي نارهم تأكل نفسها ، كما يحترق الهشيم !
وكلّ من كانت أمّه الهاوية أصبحت له الهاوية “ 1 “ زاوية وسكناً .
إنّ أمّ الولد دائمةُ البحث عنه ، والأصول طالبة لفروعها .
والماء إنْ احتبس في حوض ، جففته الريح ، لأنه من العناصر الأولى .
880 فالريح تخلصه ، وتحمله إلى معدنه رويداً رويداً ، وأنت لا تبصر فعلها !
وعلى هذا النحو تستلب أنفاسنا أرواحَنا رويداً رويداً من حبس هذه الدنيا .
فإليه يصعد اطيابُ الكلم * صاعداً منا إلى حيث علم “ 2 “
ترتقي أنفاسنا بالمنتقى * مُتْحَفاً منا إلى درا البقا
...............................................................
( 1 ) الهاوية اسم لجهنم . قال تعالى في سورة القارعة : “ وأما من خفَّت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه ، نار حامية “ ( 101 : 7 - 11 ) .
( 2 ) هذا البيت والأبيات الأربعة التي تليه من نظم جلال الدين بالعربية . ويتجلى بوضوح ضعف شعره العربيّ إذا قورن بشعره الفارسي .
“ 172 “
ثم تأتينا مكافاةُ المقال * ضعْف ذاك رحمةً من ذي الجلال
885 ثم يلجينا إلى أمثالها * كي ينال العبدُ مما نالها .
هكذا تعرجْ وتنزلْ دائماً * ذا فلا زلت عليه قائما
وتفسير ذلك “ 1 “ : إنّ هذا الجذب يجيء من ذلك الجانب الذي وقع فيه الشراب .
فكلّ قوم يتّجهون بأعينهم إلى ذلك الجانب ، الذي تحققت لهم فيه - ذات يوم - إحدى اللذّات .
ومن اليقين أن ذوق كلّ جنس يكون من جنسه ، وكذلك يكون ذوق الجزء من كله ، فتأمل !
890 الا ما كان من الأجناس قابلًا الاتّحاد بغيره ، فإنّه ، عندما يتحد بالغير ، يصبح من جنسه .
ومثال ذلك الماء والخبز ، لم يكونا من جنسنا ، فصارا من جنسنا وزادا في كياننا !
فالماء والخبز ليست لهما صورتنا الجنسية ، ومع هذا ، فلتعدّهما من جنسنا باعتبار مآلهما آخر الأمر !
وإذا كان لنا ميل لغير جنسنا فلعلّ ذلك لأنّه يشبه جنسنا .
وكلّ مشابهة ( ظاهرَّية ) تكون عارية “ 2 “ ، والعارية لا تبقى في عاقبة الأمر .
895 فالطير مهما أعجبها الصفير ، تفزع وتفرّ ، أنّ لم تجد ( صاحبه ) من جنسها .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : والمعنى بالفارسية . . . . .
( 2 ) العارية هنا الشيء المستعار والمراد أنّ كل مشابهة ظاهرية ليس لها حقيقة ثابتة ولا وجود ثابت .
“ 173 “
والظمآن يعجبه السراب ، ولكنّه - حين يصل إليه - يهرب منه ، ويبحث عن الماء .
ومهما سعد المفلسون بالذهب الزائف ، فإنّ أمره ( لا محالة ) يفتضح في دار الضرب .
فحتى لا يصرفك الذهب الزائف عن الطريق ، وحتى لا يلقي بك الخيال المعوجّ في بئر ( المهالك ) ،
اطلب تلك القصة في كتاب كليلة ودمنة ، وانشُد ما اشتملت عليه من عظة .
( 746 ) البشر تجري في عروقهم دماء الصلاح والاستقامة أو دماء الفساد ، حتى ينفخ في الصور .
( 748 ) كل ضراعة يتوجه بها الصالحون إلى ربهم ليست إلا أشعة من شمس النبوة بمعنى أنها انعكاس لسيرة الرسول وتعاليمه التي أشعلت في في قلوبهم محبة الخالق .
( 749 ) هؤلاء الصالحون دائرون في فلك الحقيقة المحمدية . فهم كالأشعة التي تدور مع الجوهر ، وتتجه إلى حيث يكون .
[ شرح من بيت 750 إلى 900 ]
( 750 ) وكما أنّ الشمس تنتقل من برج إلى ، برج ، فيتبعها النور وينتقل في أثرها ، كذلك النور المحمدي ، يشرق على البشر في مختلف البقاع .
( 751 - 759 ) في هذه الأبيات يذكر الشاعر بعض الكواكب وما كان يتصل بها من أفكار عن أحكام النجوم ، وتحكم كل كوكب فيمن يرتبط طالعهم به .
ولكنه ينتقل من ذلك إلى الحديث عن آفاق الروح ، التي تشرق بها كواكب قد خلت من النحس ، كواكب راسخة في وهج أنوار اللَّه ، تكون طوالع سعد لمن بلغوا تلك الآفاق الروحية ، ونقمة على أعدائهم .
( 759 ) النور الغالب هو نور قلب المحب الواصل . وهذا النور
“ 493 “
يكون آمناً من النقص ، فالظلمة لا تستطيع النفوذ إلى قلب أصبح بين إصبعي الحق .
( 760 ) يُنسب إلى الرسول عليه السلام أنه قال : “ إن اللَّه خلق الخلق في ظملة ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ عن سواء السبيل “ .
( 762 ) كل من كتب له أن يكون محروماً من نعمة المحبة الإلهية فقد حُرم من ذلك النور الذي نثره اللَّه على العباد .
( 763 ) إنّ العشق هو المحرّك للأجزاء ، يدفعها إلى كلها الذي صدرت عنه ، كما أن العشق هو الذي يحرك البلابل فيجعلها تبثّ الورود أشواقها .
( 764 - 765 ) هذان البيتان من أروع ما كتب جلال الدين . فهو يذهب إلى تقدير الناس - لا بحسب ألوانهم الظاهرة - وإنما وفق قيمتهم الحقيقية ، فاللون الحقيقي هو لون الباطن ، لون القلب والضمير ، لا لون الجلد . واللون الجميل هو لون الصفاء والصدق والاستقامة وأما اللون القبيح فهو لون الشرور والآثام .
( 766 ) اللون اللطيف هو لون قلوب المؤمنين والعارفين . فهو صبغة اللَّه التي صبغ بها هذه القلوب .
أما اللون الكثيف المظلم الذي اصطبغت به قلوب الكفار والجاحدين فتفوح منه لعنة اللَّه .
( 767 - 768 ) إنّ الأرواح في الأصل فاضت عن الواحد . وهي لا بد عائدة إليه ، منطلقة نحوه ، يدفعها إلى الحب والحنين .
وشبيه بذلك تلك الأمواج التي تصدر عن البحر ثم تعود إليه في نهاية الأمر .
( 769 - 770 ) إن الملك اليهودي المذكور بهذه القصة ، تطابق أوصافه وأفعاله يوسف ذا نواس ملك حمير الذي أحرق النصارى بنجران في أخذود أشعل به النار ، فسمّوا أصحاب الأخدود .
ولكن من المشا كل التي تحتاج هنا إلى تفسير أنّ الشاعر وصف الملك بأنه يهودي ،
“ 494 “
ولكنه عاد فنسب إليه أنّه نصب إلى جانب النار صنماً ، وأمر الناس بالسجود له . وليس من اليهودية في شيء عبادة الأصنام . فهل كان هذا الملك الحميري غير متعمق في دينه ، فأبقى على بعض مظاهر الوثنية ؟
ومن الممكن أيضاً أنْ يكون الصنم المقصود هنا رمزاً للهوى الذي سيطر على الملك ، فحاول أن يخضع الناس له . وهذا المعنى الرمزي يتضح في البيت التالي
( 771 ) وفيه يقول : “ إنّ الملك - لما لم يوقع بصنم النفس ما هو أهل له من الهلاك - تولّد من صنم نفسه صنم آخر “ . وقبل ذلك قال القشيري : “ وصنم كل إنسان نفسه فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة “ . ( الرسالة ، ص 103 ) .
( 772 ) النفس هي أم الشرور والآثام . هي التي تصنع للإنسان الأصنام وتدفعه إلى تقديسها . ومن الأصنام ما هو ماديّ ، ومنها ما هو معنوي . وكلها لا خطر لها لولا تعلّق النفس بها .
( 773 - 774 ) في هذين البيتين صورة جميلة تبين انبثاق الشرور من النفس .
فقد شبّهها الشاعر بالحجر والحديد اللذين تتولد النار من احتكاكهما .
فالشرر المنبثق يمكن اطفاؤه بالماء . ولكن هل يستطيع إنسان أنْ يطفئ النار الكامنة في كل من الحجر والحديد ؟
( 775 ) الصنم قدر محدود من الشر يمكن القضاء عليه ، أما النفس فنبع يفيض بالشرور ، فهي التي صنعت الصنم وما شاكله .
( 778 ) يصل الشاعر هنا إلى النتيجة التي قدّم لها في أبياته السابقة على هذا البيت ، وهي أنّ الصنم يمكن التخلص منه . ولكنّ الصعوبة هي في السيطرة على النفس وإخضاعها . ( انظر ما كتبه الجيلي عن النفس في كتاب الإنسان الكامل ص 39 ) ، وقد قدم لحديثه عنها بقوله : “ إنّها محتد إبليس ومن تبعه من الشياطين من أهل التلبيس “ .
( 779 - 780 ) ينتقل الشاعر هنا إلى الحديث عن أثر النفس بعد أنْ تكلم عن طبيعتها . إنّها مهلكة كجهنم ذات الأبواب السبعة . ولها في
“ 495 “
كل لحظة مكر يهلك مائة فرعون مع أتباعهم . وفي هذا إشارة إلى قصة فرعون مع موسى ، ومحاولته القضاء على موسى ، وهلاكه هو وأتباعه من جراء تلك المحاولة التي دفعته إليها نفسه المتكبرة ، العنيدة الكافرة .
( 785 - 793 ) جاء في قصة أصحاب الأخدود ما يلي ، “ وكانت امرأة قد أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع ، فقال لها الملك أترجعين عن دينك ، وإلا ألقيتك أنت وأولادك في النار ، فأبت ، فأخذ ابنها الأكبر فألقي في النار ، ثم أخذ الأوسط ، وقال لها ارجعي عن دينك ، فأبت ، فألقي أيضاً في النار ، ثم أخذ الرضيع وقال لها ارجعي فأبت ، فأمر بالقائه في النار ، فهمت المرأة بالرجوع . فقال لها الصبيّ الصغير : يا أماه ! لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحقّ ، ولا بأس عليك ، فألقي الصبيّ في النار وأمه على أثره “ . ( قصص الأنبياء للثعلبي ص 496 ) .
والقصة كما رواها جلال الدين تختلف عن ذلك .
فحوادث القصة عند جلال الدين تقتصر على إلقاء الصبيّ في النار . ولكنّ الشاعر أجرى على لسان الصبيّ
- بعد أن أُلقي في النار
- مجموعة من الأبيات الرائعة ، حافلة بالصور والعاطفة الجيّاشة المعبرة عن روعة الفداء ، وجمال التضحية في سبيل العقيدة والمبدأ .
وقد اتخذ الشاعر من الاحتراق بالنار هنا رمزاً لإفناء الذات . فهذا قد يبدو صعباً عسير المنال ، مخوفاً ، ولكنّه في نظر الصوفية سعادة لا تعدلها أيّة سعادة دينوية . فكما أنّ الرحم يكون عالم الجنين قبل أن يولد في هذه الدنيا الواسعة ، فكذلك هذه الدنيا - إذا قيست بعالم الروح الذي ينتقل إليه الأصفياء بعد المات - بعد سجناً ضيّقاً ، شبيهاً بالرحم إذا قيس بهذه الدنيا الواسعة .
“ 496 “
( 794 ) الفناء عن الذات وروابهطا المادية كشف له عالماً رحباً فسيحاً حافلا بالحياة .
( 795 ) هذا العالم الذي تكشّف له - بإفناء الذات - يبدو لأهل الدنيا عدماً ، مع أنّه هو الوجود الحقيقي .
وعلى العكس من ذلك تخدع الدنيا من يتمسكون بها فيحسبون أنّها هي الوجود الحقّ ، وليست من ذلك في شيء . إنّها مظهر خادع لا دوام له لأنّ مآلها إلى الفناء
( 800 ) إنّ اللَّه قد أعدّ السعادة والنعيم لمن خلصوا من وجودهم الدنيوي وأقبلوا إلى الخالق بقلوب صادقة ، ونفوس راضية مطمئنة ، وأرواح متعشّقة لجماله .
( 812 ) يقول البلاذري : “ وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن عبد اللَّه عن الزهري ، وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده ، وفي أحد الحديثين زيادة على الآخر ، فسقتهما ،
ورددت بعضهما على بعض : إن الحكم بن أبي العاص بن أمية عم عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية ، كان جاراً لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الجاهلية ، وكان أشد جيرانه أذى له في الإسلام ، وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة ، وكان مغموصاً عليه في دينه فكان يمر خلف رسول اللَّه فيغمز به ويحكيه ، ويخلج بأنفه وفمه ، وإذا صلى قام خلفه وأشار بأصابعه فبقي على تخليجه وأصابته خبلة “ . ( أنساب الأشراف ، ح 5 ، ص 27 ، 125 ، القدس ، 1936 “ .
وقد بقي منفياً من المدينة طيلة حكم أبي بكر وعمر ، ثم عاد إليها في خلافة عثمان .
وقد هجا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري مروان بن الحكم بقوله :إن اللعين أباك فارم عظامه * إن ترم ترم مخلّجا مجنوناً
“ 497 “
( 817 - 822 ) عقد القشيري بابا للحزن في رسالته . وقد أورد فيه آيات قرآنية وأحاديث نبوية عن الحزن . وبيّن أنّ الصوفية يعدون الحزن لوناً من الخشوع والإيمان . ومما ذكره القشيري من أقوال الصوفية أن رابعة العدوية سمعت رجلًا يقول : « واحزناه » ، فقالت : « قل واقلة حزناه ! لو كنت محزوناً لم يتهياً لك أن تتنفس ! » وقال سفيان بن عيينة : « لو أن محزوناً بكى في أمة لرحم اللَّه تعالى تلك الأمة ببكائه » .
والحزن عند الصوفية من أهم الرياضات التي يجب أخذُ النفس بها .
يقول الترمذي .
وفي الجملة ينبغي أن يتفقد ( الإنسان ) كل حال وكل أمر للنفس فيه فرح واستبشار ، من نعمة أو وجود لذة أو أنس بشيء ، فيقطعه عنها ، وأنه كلها هويت النفس شيئاً أعطاها فرحت به ، فينبغي أن يمنعها ولو شربة من ماء بارد تريد أن تشربها . فيمنعها من تلك الفورة التي تشوفت لوجود بردها ولذتها ، حتى تكسن تلك الفورة ، وينغِّص عليها ، ثم يسقيها بعد ذلك حتى يملأها غماً ويوقرها هماً ، لأن من شأنها إذا حبس عنها الفرح بهذه الأشياء وبهذه الأحوال ، فكأنه يصيرها في سجن ، فيتقرب إلى اللَّه عز وجل بغمها وهمها ، فيجعل اللَّه عز وجل ثوابه نوراً على القلب . . » ( الرياضة وأدب النفس ، ص 62 ) .
وقد غلبت طبيعة الحزن على كثير من الفنانين . ومن أحزان هؤلاء شهد العالم كثيراً من روائع الفن العالمي .
وقد أبدع أوسكار وايلد التعبير عن ذلك في كتابه « من الأعماق » deprofundis ومن أقواله في ذلك :
" فحيثما يكون الحزن فهناك حرم مقدّس . وسوف يعلم الناس ذات يوم مدلول هذا القول . ولن يحيطوا علماً بشيء في الحياة مالم يعرفوا ذلك " ..
....................................................................
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin