11 - قصة الخليفة الذي فاق في زمانه حاتم الطائي في الكرم .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
قصة الخليفة الذي فاق في زمانه حاتم الطائي في الكرم .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
قصة الخليفة الذي فاق في زمانه حاتم الطائي في الكرم ولم يكن له نظير
كان في سالف الأيام خليفة جعل حاتماً غلاماً لجوده .
2245 لقد نشر راية الكرم والجود ، ورفع الفقر والحاجة من الدنيا .
لقد كان بحراً للجوهر صافي العطاء ، وامتد جوده من جبل قاف إلى جبل قاف “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) لا يتخلى عنها وهي عارية من الورق بل يظل يرزقها حتى تورق من جديد .
( 2 ) أحاط بالعالم .
“ 302 “
كان في عالم التراب سحاباً وأمطاراً ؛ كان مَظْهَراً لعطاء الوهِّاب !
فطعاؤه زلزل البحر والمنجم ، وكم سعت قافلة وراء قافلة إلى جوده !
لقد كان بابه وصرحه قبلةَ الحاجات ، وقد ذاعت بالجود شهرتةُ في الدنيا .
2250 فبقي العجم والروم والترك والعرب في عجب من جوده وسخائه .
إنه كان ماء الحياة وبحر الكرم ، وقد أحيا ( بجوده ) العرب والعجم .
قصة الأعرابي الدرويش وما جرى بينه وبين زوجه من جراء الفقر والمسكنة
[ شكاية الزوجة من الفقر ]
لقد خاطبت أعرابيّة زوجها - ذات ليلة - وخرجت بالقول عن حدوده .
( فقالت ) : “ إننا نعاني كلّ هذا الفقر والشقاء ، فجملةُ العالم سعداء ، وأما نحن فأشقياء .
وليس خبزنا خبزاً ، فطعامنا الألم والحسد ، وليس لنا كوز ، فماؤنا دمع أعيننا .
2255 ورداؤنا بالنهار حرارة الشمس ، وأما وسادنا والحافنا بالليل فمن نور القمر .
نظنُّ قرص القمر قرصاً من الخبز ، فنرفع أيدينا إلى السماء .
إن مسكنتنا عار للدراويش ، وما نهارنا وليلنا إلا تفكرّ في الرزق .
“ 303 “
وقد أصبح الأقرباء والغرباء يفرّون منا ، كما فر السامريّ من الناس “ 1 “ .
فلو طلبتُ من إنسان قبضة من العدس ، لقال : “ اسكتي ، ( جاءك ) الطاعون والموت “ .
2260 إنّ للعرب فخراً بالغرو والعطاء ، وأنت بين العرب مثل الخطأ في الكتابة !
وأيّ غزو ( بوسعنا ) ، وقد قُتلنا بدون غزو ؟ لقد أذهلت رؤوسنا ضربةُ سيف العدم .
وأيّ عطاء ( نقدّمه ) ، ونحن في سؤال دائم ، نضرب عرق الذبابة ، في الهواء ( لنشرب دمها ) .
فلو نزل بي ضيف ، وطاوعت نفسي ، لعمدتُ إلى ( سلب ) دلقه حين ينام “ .
كيف أغترّ المريدوين المحتاجون بالمدّعين المزوَّرين وكيف ظنّوهم شيوخاً أجلاء وأصلين
وكيف جلهوا الفرق بين النقل والتحقيق وبين المقيّد والمطلق
فمن أجل هذا ، قال الحكماء ، وما أحسن ما قالوا : “ على المرء ألا ينزل ضيفاً إلا بالمحسنين “ .
2265 أتكون مريداً وضيفاً لذلك الذي يسرق بخسَّةٍ كل ما تملك ؟
.............................................................................
( 1 ) قصة السامري وردت في سورة طه . والإشارة في هذا البيت إلى قوله تعالى : “ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس “ . ( سورة طه ، 20 : 96 ) .
“ 304 “
إنّه ليس قويّاً فكيف يمنحك القوّة ؟ وما هو بمانحك النور بل جاعُلك مُظلماً .
وهو إنْ لم يكن مضيئاً بذاته ، فكيف يقتبس الآخرون منه النور ؟
إنّه الأعمش الذي يداوي العيون ! وماذا يضع في أعين الناس سوى الصوف .
فهذه حالنا في الفقر والعناء ، فلا يغترّ بنا ضيف .
2270 فإن لم تكن قد شاهدت صورة قحط دام عشر سنين ، فافتح عينيك وانظر إلينا !
إنّ ظاهرنا كباطن المدّعي ، ففي باطنه ظُلمةُ إنْ شعّ لسانهُ .
وهو لا رائحة به من اللَّه ولا أثر ، ( ومع هذا ) فدعواه أكبر من دعوى شيت وأبى البشر .
ومع أنّ الشيطان نفسه لم يُظهر له صورته ، فهو يقول دائماً : “ إنني من الأبدال ، بل أعظمُ منهم “ .
فكثيرا ما سرق لغة الدراويش ، حتى يُظنِّ أنَّه إنسان ( من رجال اللَّه ) .
2275 فهو - في حديثه - يقلِّلُ من شأن بايزيد “ 1 “ ، مع أن يزيد “ 2 “ يرى في وجوده العار .
ومع أنّه محروم من خبز السماء ومائدتها ، ولم يلق اللَّه أمامه بعَظْمَةٍ واحدة .
فهو ينادي : “ هأنذا قد أعددتُ المائدة ! إنني نائبُ الحقّ ، أنا ابن خليفته !
.........................................................................
( 1 ) بايزيد البسطامي أحد مشهوري الصوفية ، ( ت 260 ه ) .
( 2 ) يزيد بن معاوية .
“ 305 “
فاجتمعوا - أيّها البسطاء الذين تتلوّون ( جوعاً ) - حتى تأكلوا ملء بطونكم من خوان جودي !
فمن الناس من دار سنين حول هذا الباب ، على موعد مع الغد ، ذلك الغد الذي ما كان ليجيء .
2280 فمن الضروري أنْ يمضي وقتُ طويل ، حتى يتكشَّفَ سرُّ الآدميّ ، كثيرهُ وقليلُه .
وقد يكون تحت حائط البدن كنز ، وقد يكون هناك جُحرْ حيّة أو نمل أو تنيّن !
فإذا ما تبيّن للطالب أنّه لم يكن شيئاً ، يكون عمره قد انقضى “ 1 “ ، فما جدوى المعرفة ؟
في بيان أنّه قد يحدث نادراً أن مُريداً يعتقد اعتقاداً صادقاً بمحدَّع مزوِّر فيحسبه رجلا ( من الصالحين )
وعلى هذا الاعتقاد يصل إلى مقام لم يحلم به شيخه فلا يؤذيه الماء ولا النار بينما هما يؤذيان شيخه ولكنّ هذا قليل الحدوث
إنّ من النادر أنْ يجيءَ طالب له من الإشراق ( الروحيّ ) ما يجعل مثل هذا الكذب “ 2 “ نافعاً بالنسبة له .
فيصل بقصده الطيِّب إلى منزلة رفيعة ، وقد ظنّ هذا ( المدّعي ) روحاً فإذا به جسد .
2285 فهو كمن تَحرَّى القبْلة في أعماق الليل ، فلم يَهتد إليها ، ومع هذا صحَّتْ صَلاتُه .
..............................................................
( 1 ) يحدث ذلك بعد فوات الأوان ، فلا يعرف حقيقة ذاته إلا في نهاية عمره .
( 2 ) الكذب هنا ادعاء الولاية من جانب المدّعي .
“ 306 “
فهذا المدِّعي يعاني قحط الروح في الخفاء ، ولكن الظاهر لنا أنّه يعاني قحط الخبز .
فلما ذا نتستر على أنفسنَا مثل هذا المدعي ؟ ولماذا نزهق أرواحنا من أجل شرف مزوّر ؟
كيف أمر الأعرابي امرأته بالصبر وكيف ذكر لها فضيلة الصبر والفقر
فقال الزوج ، ( لا مرأته ) : “ إلى متى تنشدين الدخل والحصاد ؟ ما الذي بقي من عمرك ؟
إنّ أكثره قد مضى ! إنّ العاقل لا ينظر إلى الزيادة ولا إلى النقصان ، لأنّ كليهما يمرّان كما يمرّ السيلُ ( المندفع ) .
2290 فسواء أكان السيلُ صافياً أم كان معتكر الوجه ، فلا تتحدثي عنه لحظة واحدة ، لأنّه لا يدوم .
ففي هذا العالم آلاف من الأحياء ، يحيون حياة طيبة لا هبوط فيها ولا صعود .
فالفاختة تنرنم بشكر اللَّه على الشجرة ، على حين أن قوت المساء غير مهيّأ لها .
والعندليب يحمد اللَّه ( قائلًا ) : “ أمجيبَ ( السائلين ) ! إن اعتمادنا في الرزق عليك “ .
والباز قد جعل يد الملك أمله وبشراه ، وقطع رجاءه من كلّ الرمم “ 1 “ .
...................................................................................
( 1 ) لم يعد يحفل بالرمم التي كان يتغدي بها ، وأصبح كل أمله أن يعيش فوق يد الملك ، بعد أن أصبح بازاً يستخدمه الملك في صيده .
“ 307 “
2295 وهكذا لو أخذت الأحياء ، من البعوضة إلى الفيل ، فإنهم جميعاً عيال اللَّه ، والحقّ نعم المعيل .
إنّ كلّ هذه الهموم التي في الصدور ، ليست إلا البخار والغبار الصاعدْين من كياننا وهوائنا .
هذه الهموم التي تقتلعنا من أصولنا ، إنما هي لنا كالمنجل ، ( والتفكرّ ) بأن هذا ( الأمر ) جرى على هذا النحو أو ذاك من وساوسنا .
فلتعلمي أنّ كلّ ألم إنما هو جزء من الموت ، ولتدفعي عن نفسك جزء الموت ، لو كان إلى ذلك سبيل !
فما دمت غير مستطيعة الفرار من جزء الموت ، فاعلمي أنّ الموت كلّه سوف ينصبّ على رأسك .
2300 فإنْ كان جزءُ الموت قد طاب لك مذاقُه ، فاعلمى أنّ اللَّه سوف يجعله كلّه حلواً .
إنّ الآلام تجيء كرسول من الموت ، فلا تصرفي وجهك عن رسول الموت ، أيّتها الحمقاء .
وكل من يذوق حلاوة الحياة ، يذوق مرارة الموت ! وكل من عبد جسمه فما حمل روحاً !
فالأغنالم تُقتاد من الصحراء ، فيقتلُ منها ما كان أضخم بدناً .
إنّ الليل قد تولىّ ، وها هو ذا الصبح قد أقبل . فيا أيّتها الظلمة ! إلام تأخذين قصة الذهب من بدايتها ؟
2305 لقد كنت شابةً ، وكنت ( حينذاك ) أكثر قناعة ، وقد أصبحت طالبة للذهب ، وكنت من قبلُ ذهباً !
لقد كنت كرمةً عامرةً بالثمار فكيف أصبحت كاسدة ؟ وكيف غدوت فاسدة وقت نضج الثمار ؟
كان الواجب أن تُصبح فاكهتُك أكثر حلاوة ، لا أن تتراجع
“ 308 “
إلى الوراء كصانعي الحبال .
إنّك زوجتي ، والزوجةُ لا بد لها أنْ تتفق ( مع الزوج ) في الصفاء ، حتى تجيء الأمور وفق مصلحتهما .
فالزوجان يجب أن يكون كلّ منهما على مثال الآخر . ألا فلتتأملي زوجين من ألاحذية أو النعال “ 1 “ !
2310 فلو أنّ واحداً من النعلين ضاق بقدمك ، فلا نفع لهذين النعلين عندك .
وهل بين مصراعي الباب واحدُ صغير وآخر كبير ؟ أم هل رأيت ذئبة اقترنت بأسد الغاب ؟
وليس يستقيم فوق ظهر الجمل زوجان من الحقائب ، إحداهما صغيرة والأخرى كاملةُ الاتساع .
إنّني أسير بقلب قويّ نحو القناعة ، فلماذا تذهبين أنت نحو الشناعة ؟
“ فهذا الرجل القانع ظلّ - لموفور إخلاصه وتحمّسه - يحدّث امرأته على هذا المنوال حتى الصباح .
كيف نصحت المرأة زوجها ( قائلة ) : “ لا تكثر من الحديث عن مكانتك ومقامك : “ لمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ " 2"
“ . فمع أن هذا الكلام صحيح إلا أنك لم تبلغ مقام التوكل ، وتحدّثك بما هو فوق مقامك وأعمالك ضارُ بك ،
” كَبُرَ مَقْتاً عنْدَ اللَّه أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ““ 3 “
.................................................................
( 1 ) يلاحظ في هذا البيت والأبيات التالية أن الشاعر أجرى على لسان الأعرابي - في حديثه مع امرأته - أمثالًا بسيطة تلائم عقلها .
( 2 ) قال تعالى : “ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون “ . ( الصف ، 61 : 2 ) .
( 3 ) الصف ، 61 : 3 ) .
“ 309 “
2315 فصاحت الأعرابية بزوجها : “ يا من تُباهي بدينك ! إنني لن أبتلع خداعك أكثر من ذلك .
لا تُحدِّثني بترهات من ادّعائك ودعواك ! اذهب ، ولا تُخاطبني بكبر وغرور !
إلى متى تتحدث حديث الخيلاء والتصنع ؟ انظر إلى أمرك وحالك وكن ذا حياء !
إن الكبر قبيح ، ولكنه من الشحّاذين أقبح ، ( فكبرُ الشحاذين ) كالثوب المبلل في يوم بارد ممطر .
إلى متى هذا الادعاء والغرور والخيلاء “ 1 “ ، يا من بيتك مثل بيت العنكبوت .
2320 متى أنرتَ بالقناعة روحك ، وأنت لم تعرف من القناعة سوى اسمها !
لقد قال الرسول : “ ما القناعة ؟ إنها كنز “ “ 2 “ . وأنت لا تعرف الغُنم من الغُرم “ 3 “ .
ما القناعة إلا كنز الروح ، فلا تُفاخرْ بها يا من أنت غمُ وألمُ لروحي .
فلا تدعنُي زوجتك ، وأقلل من إظهار المودَّة “ 4 “ ! إنني قرينة الإنصاف ولستُ قرينة الدَغل .
وكيف تسيرُ مع الأمير ومع السيّد ، وأنت تضرب عرق الجرادة في الهواء .
......................................................
( 1 ) حرفياً : “ بادوبروت “ ، ومعنى “ باد “ الريح ويُعبَرِّ الشاعر بها هنا عن الانتقاخ بالكبر ، و “ بروت “ وهو الشارب ويُعبَرِّ به هنا عن اصطناع الشارب للتظاهر بالقوة والرجولة .
( 2 ) الحديث المنسوب إلى الرسول عليه السلام هو : “ القناعة كنز لا يفنى “ .
( 3 ) حرفياً : وأنت لا تعرف الكنز من الألم .
( 4 ) حرفياً : أقلل من الضرب على الإبط .
“ 310 “
2325 إنك لفي صراع مع الكلاب على العظام ، بل إنك لفي نواح مثل قصبة خالية الجوف .
فلا تنظر إليّ باحتقار وازداء ، حتى لا أُخبرك بما في عروقك “ 1 “ .
لقد رأيت عقلك أكبر من عقلي ، فكيف رأيتني ، أنا الصغيرة العقل ؟
فلا تتووثت عليّ مثل ذئب أحمق ، يا من يفوق انعدامُ العقل عارَ عقله !
فإنْ كان عقلك عقالًا للرجال ، فما هو بعقل ، بل هو ثعبان أو عقرب!
2330 فليكن اللَّه خصماً لظلمك ومكرك ، ولينقشع عنا مكر عقلك .
إنك أنت الثعبان وأنت الساحر ، فوا عجبا ، إنك ماسك الحيّة وأنت الحيّة ( في الوقت ذاته ) يا عار العرب !
ولو عرف الغراب قبح ذاته ، لذاب كالثلج من الألم والحزن “ .
إن ماسك الحيّات - وهو عدوّ لها - يتلو تعاويذه عليها ، كما أنها أيضاً تتلو عليه التعاويذ .
فلو لم تكن شباكه هي السحر الذي يسخرّ الحيّات ، لما كان هو صيدا لسحر تلك الحيات .
2335 فصائد الحيّات - بسبب الحرص ، ومن أجل الكسب والعمل - لا يدرك - في ذلك الوقت “ 2 “ - سحر الحيّة .
إنّ الحيّة تقول له : “ أيها الساحر ! تنبّه ! إنك قد أبصرت سحرك ، فانظر إلى سحري !
إنك لتخدعني باسم الحق ، حتى تصيبني بالفضية والاضطراب والأذى .
واسم الحق هو الذي قيّدني وليس احتيالك ! لقد اتخذت اسم الحق شركاً ، فالويل لك .
.........................................................
( 1 ) حتى لا أبيِّن لك حقيقة أمرك .
( 2 ) وقت اصطياد الحيَّات .
“ 311 “
ولسوف يُنصفني منك اسم الحق ، فقد أسلمتُ إلى اسم الحق نفسي وجسدي .
2340 فإما أن يقطع شريان حياتك بضربة مني ، أو يحملك - مثلي - إلى السجن “ .
وهكذا أسمعت هذه المرأة زوجها الشاب صحائف من خشن القول .
كيف نصح الرجل امرأته ( قائلًا ) : “ لا تنظري إلى الفقراء باحتقار ولكن انظري إلى فعل الحق متفكرة بكماله !
ولا توجهي الطعن إلى الفقر والفقراء بخيال مسكنتك ، وتفكرك فيها “
فقال ( الأعرابيّ ) : أيتها المرأة ! أأنت امرأة أم أنت أم الأحزان ! إنّ الفقر فخري ، فلا تضربيني فوق رأسي .
إنّ المال والذهب هما للرأس كالقلنسوة ، وليس يلتجىء إلى القلنسوة إلا الأصلع .
وأما من كان ذا شعر جعد كثيف ، فهو أسعد حالًا بذهاب قلنسوته .
2345 - إنّ رجل الحق مثل العين ، ولهذا فإنّ انكشاف بصره خير من احتجابه .
وبائع العبيد حين يعرض للبيع عبداً ( صحيح البدن ) ، ينزع عنه الثياب التي تغطي العيوب .
فإنْ كان به عيب ، فمتى ينزع البائع عنه الثياب ؟ إنه يخدع المشتري بالثياب !
فهو يقول : “ إنّ هذا العبد يستحي من الحسن والقبيح ، ولو عرّيت بدنه لهرب منك “ .
فهذا التاجر غارق في العيب إلى أُذنيه ، ولكنه يملك المال ، والمال يُغطي العيوب .
“ 312 “
2350 - ومن الطمع لا يرى الطامع عيبه ، وقد أصبحت الأطماع رباطاً يجمع القلوب .
إنّ الشحاذ لو قال كملة مثل ذهب المنجم ، ما وجدت سلعته سبيلًا إلى الدكان .
وأعمال الدراويش وراء فهك ، فلا تنظري إلى فقرهم باحتقار !
ذلك لأن الدروايش فوق المُلك والمال ، ولهم رزق عظيم من لدُنْ ربّ الجلال .
إنّ الحق تعالى عادل ، ومتى كان أهل العدل يوقعون الظلم بالمساكين ؟
2355 - وهل يمنحون واحداً ( من الناس ) نعمة ومالًا ، ويضعون الآخر فوق النار ؟
ألا فلتحرق النار من ظن هذا الظن باللَّه خالق العالمين ! فهل ( قولي ) “ الفقر فخري “ من الجزاف والمجاز ؟
لا ، بل إنه آلاف من العزّ الخفيّ والاعتزاز !
إنّ غضبك جعلك تلقين عليّ السباب فأسميتني بصائد الإخوان ، وما سك الثعبان .
ولو أمسكتُ بثعبان فإننّي أخلع أنيابه ، حتى أجعله في مأمن من أنْ يُدَّق رأسه .
2360 - فإنّ هذه الأنياب إنما هي عدوّ حياته ، وأنا - بهذا العلم - أجعل من العدوّ صديقاً .
إنّني لست أتلو تعاويذي طامعاً ، فلقد قلبت الأطماع رأساً على عقب “ 1 “ .
معاذ اللَّه ! فليس لي طمع في الخلق ، وفي قلبي عالم من القناعة .
إنّك لتبصرين على هذا النحو ، وأنت فوق شجرة الكمثرى ،
......................................................................
( 1 ) أوقفت حركتها وتخلصت من آثارها .
“ 313 “
فلتنزلي من فوقها حتى لا يبقى لك هذا الظنّ “ 1 “ !
وأنت - حين تدورين ، ويصبح رأسك ذاهلًا - ترين المنزل دائراً ، وليس ما يدور سواك !
في بيان أنّ حركة كلّ انسان إنما هي من المكان الذي هو فيه
كما أنه يشاهد غيره من دائرة وجوده .
فالزجاجة الزرقاء تظهر الشمس زرقاء والحمراء تظهرها حمراء
فإذا خرجت الزجاجة عن اللون أصبحت بيضاء فتكون أصدق
من كل الزجاجات الأخرى وتكون هي الحُجَّةُ الصادقة .
2365 - لقد رأى أبو جهل أحمد فقال : “ ما أقبحه شكلًا ذلك الذي خرج من بني هاشم !
“ فقال له أحمد : “ ذلك صدق ! لقد قلت الصدق ، وإن كنتَ قد بالغت ! “
.............................................................................
( 1 ) يشير الشاعر هنا إلى قصة معروفة رواها هو ، في المجلد الرابع من المثنوي ( 3544 ، وما يليه ) وخلاصتها أنّ امرأة أرادت أنْ تُقبّل عشيقها في حضرة زوجها فعمدت إلى حيلة فصعدت فوق شجرة الكمثرى بدعوى أنها أرادت أن تقطف بعض الثمار ، ثم نظرت من فوق إلى زوجها وأخذت تنتحب مدعية أنها تراه في موقف خليع عابث . ومهما حاول الرجل إقناعها بأنّ ما رأته كان وهما فإنها لم تبد اقتناعاً . وأخيراً دعاها إلى النزول وصعد هو الشجرة فلم يكد يفعل حتى دعت حبيبها وعانقته ، فلما احتج على ذلك زوجها قالت إن ما يراه لا يعدو ان يكون وهما كالذي رأته هي حينما كانت فوق الشجرة .
فيكون معنى قوله : “ انزلي من شجرة الكمثرى “ ، أنه يدعوها لتتخلص من أوهامها الباطلة .
“ 314 “
ورأى الصدِّيقُ أحمد فقال : “ يا شمس ( الروح ) ! إنّك لستَ من الشرق ولا الغرب ، فتألّق مُشرقاً ! “ فقال أحمد : “ لقد قلتَ الصدق ، أيّها العزيز ! يا من نجوت من هذه الدنيا التي لا تستحقّ شيئاً ! “ فقال الحاضرون : “ أيّها الملك ! لماذا وصفتَ كلا من هذين الرجلين بقول الصدق، مع أنّ كلا منهما تكلّم بما يضادّ قول الآخر !“ .
2370 - فقال الرسول : “ إنّني مرآة صقلتها يدُ ( القدرة الإلهيّة ) ، فالترك والهنود يشاهدون في ( حقيقة ) كيانهم “ .
فيا أيّتها المرأة “ 1 “ ! إنْ كنت تُبصرينني من الطامعين فارتفعي عن ذلك الجشع النسائيّ .
إنّ ( حالي ) تشبه الطمع ، وليست إلا رحمة ! فأين الطمع من تلك النعمة ؟
فاختبري الفقر يوماً أو يومين ، لتري في الفقر غنى مُضاعَفاً .
اصبري على الفقر ، ودعي هذا الملال ! فإنّ في الفقر نوراً من ذي الجلال !
2375- لا تنظري بمرارة “ 2 “ ، وشاهدي آلاف الأنفس وقد أغرقتْها القناعة في بحر من العسل .
تأملي آلاف الأنفس التي تقاسي مرارة الحياة ، وقد امتزجت بشراب الورد مثل الورد .
فوا أسفاه ، أنّك لست واسعة الفهم ، فتظهر لك روحي مكنون قلبي !
...................................................................
( 1 ) عاد الشاعر هنا إلى حديث الأعرابي وامرأته .
( 2 ) حرفياً : “ لا تبيعي الخلّ “ . عبّر عن إظهار المرأة تشاؤمها ببيع الخل
“ 315 “
فهذا الحديث لبن في ثدي الروح ، وهو لا يسيل طيِّباً بدون رضيع ! ولكن ، حين يصبحُ المستمعُ متعطِّشاً طالباً ، فإنّ الواعظ ينطق حتى ولو كان ميّتاً .
2380 - فالمستمع ، إذا أصغى بنشاط وشغف ، فإنّ الأصم الأبكم ، يصبح ناطقاً بمائة لسان .
إنّ النساء يحتجبن وراء الأستار ، لو دخل غريب من بابي .
ولكن ، إذا دخل مَحْرم لا تضرّر منه ، فإنّ ذوات الحجاب يرفعن الحجب .
وكلُّ ما صُنع جميلًا رائعاً منمّقاً ، فإنماً صُنع من أجل العين المبصرة .
ومتى كانت الألحان - بوزنها الخفيض والعالي - من أجل أُذن صماء معدومة الحسّ ؟
2385 - إنّ اللَّه لم يجعل المسك طيّب الأنفاس عبثاً ، إنه خلقه للإحساس السليم ، وليس من أجل الأخشم “ 1 “ .
ولقد خلق اللَّه الأرض والسماء ، ونشر بينهما الكثير من النار والنور .
وجعل هذه الأرض للترابيّين ، وجعل السماء مسكن الأفلاكيّين .
إنّ الرجل الوضيع عدوّ للرفعة ! وكل مكان يُعرف الساعي إليه ( بأعماله “ 2 “ ) .
أيتها المأة المحجبّة ! هل نهضت قطّ يوماً ، واتخذت زينتك من أجل رجل أعمى ؟
2390- فلو أنني ملأتُ العالم بدرّ ( الحكمة ) المكنون ، ولم يكن هذا الدرّ من نصيبك ، فماذا أصنع ؟
........................................................
( 1 ) الأخشم من فقد حاسة الشم .
( 2 ) إن طالب العالم الروحي يتضح بأعماله ، وكذلك طالب العالم المادي .
“ 316 “
أيّتها المرأة ! دعي العراك واتركي قطع الطريق “ 1 “ ، وإنْ لم تري هذا الرأي ، فاتركيني .
فأيّ مكان عندي للصراع حول ما هو حسن وما هو قبيح ، وإنّ قلبي ليفرّ حتى من المصالحات .
فإما أن تسكتي وإلا سكتُ أنا ، وتركتُ في هذه اللحظة منزلي وداري .
مراعاة المرأة زوجها واستغفارها إياه مما قالته
فلما رأت المرأة زوجها محتداً ثائراً ، أخذت تبكي ، والبكاء حيلة النساء .
2395 وقالت : “ ما توهمت مثل ذلك منك “ 2 “ . لقد كان لي فيك أمل آخر “ .
وجاءته المرأة من طريق إنكار وجودها فقالت : “ إني أنا ترابك لا زوجتك .
إنّ جسمي وروحي وكل كياني لك ، والحكم والأمر كلاهما رهن إرادتك ! فإنْ كانت الفاقة قد جعلت قلبي يتخلى عن الصبر ، فما ذلك من أجل نفسي ، ولكن من أجلك .
لقد كنت الدواء لآلامي ، ( ولهذا ) لا أُريد أن تكون عديم الرزق .
.......................................................................
( 1 ) قطع سبيل التأمل
( 2 ) حرفياً : “ متى توهمتُ مثل ذلك منك ؟ “ . والاستفهام هنا إنكاري .
“ 317 “
2400 فبروحي وسري ، إن هذا لم يكن من أجل نفسي ، بل إن هذا النواح والحنين كان من أجلك .
إن ذاتي - واللَّه - إنما هي من أجل ذاتك ، تتمنى في كل حظة أن تموت قبلك .
فليت روحك - التي تفديها روحي - كانت واقفة على ( ما أستتر ) في ضمير روحي .
أما وقد أصبح ظنّك بي على هذا النحو ، فإني قد سئمت روحي وجسدي .
وإني لأحثو التراب على الفضة والذهب ، حينما تكون هكذا ( غاضباً ) مني ، يا سكن روحي !
2405 فهل تتبرأ مني إلى هذا الحد ، يا من جعلت مكانك روحي وقلبي ؟
فلتتبرأ مني ، فإنك على ذلك قدير ، وإن كانت الروح لتضرع إليك ألا تفعل .
تذكرَّ أيام كنت جميلة كالصنم ، وكنت أنت كعابد الصنم ! لقد أحرقتْ جاريتُك قلبها وفق مرادك ، فكلّ ما قلتَ عنه إنه “ طُبخ “ تقول هي “ إنه احترق “ “ 1 “ .
أنا طعامك “ 2 “ فلتطبخني كما تشاء ، وسواء لديّ أوجدتني سائغة مع الحامض أو مع الحلو !
2410 لقد نطقتُ بالكفر وهأنذا قد رجعتُ إلى الإيمان ، وقد أقبلت بكل روحي مستسلمة الحكمك .
إنني لم أعرف طبعك الملكيّ فانطلقتُ بجوادي متوقحة أمامك .
أما وقد جعلت لي من عفوك سراجاً فقد تُبتُ وخليَّتُ العناد .
إني أضع أمامك السيف والكفن ، وأبسط لك عنقي فلتضربه ! لقد ذكرت كلاماً عن الفراق المرّ ، فافعل أي شيء تريد سوى هذا .
...........................................................
( 1 ) المعنى أنها تُبالغ في محبته . تقول : “ إن كان قلبك قد نضج بالحب فقلي قد احترق “ .
( 2 ) حرفياً أنا إسفيناخك .
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
قصة الخليفة الذي فاق في زمانه حاتم الطائي في الكرم .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
قصة الخليفة الذي فاق في زمانه حاتم الطائي في الكرم ولم يكن له نظير
كان في سالف الأيام خليفة جعل حاتماً غلاماً لجوده .
2245 لقد نشر راية الكرم والجود ، ورفع الفقر والحاجة من الدنيا .
لقد كان بحراً للجوهر صافي العطاء ، وامتد جوده من جبل قاف إلى جبل قاف “ 2 “ .
..............................................................
( 1 ) لا يتخلى عنها وهي عارية من الورق بل يظل يرزقها حتى تورق من جديد .
( 2 ) أحاط بالعالم .
“ 302 “
كان في عالم التراب سحاباً وأمطاراً ؛ كان مَظْهَراً لعطاء الوهِّاب !
فطعاؤه زلزل البحر والمنجم ، وكم سعت قافلة وراء قافلة إلى جوده !
لقد كان بابه وصرحه قبلةَ الحاجات ، وقد ذاعت بالجود شهرتةُ في الدنيا .
2250 فبقي العجم والروم والترك والعرب في عجب من جوده وسخائه .
إنه كان ماء الحياة وبحر الكرم ، وقد أحيا ( بجوده ) العرب والعجم .
قصة الأعرابي الدرويش وما جرى بينه وبين زوجه من جراء الفقر والمسكنة
[ شكاية الزوجة من الفقر ]
لقد خاطبت أعرابيّة زوجها - ذات ليلة - وخرجت بالقول عن حدوده .
( فقالت ) : “ إننا نعاني كلّ هذا الفقر والشقاء ، فجملةُ العالم سعداء ، وأما نحن فأشقياء .
وليس خبزنا خبزاً ، فطعامنا الألم والحسد ، وليس لنا كوز ، فماؤنا دمع أعيننا .
2255 ورداؤنا بالنهار حرارة الشمس ، وأما وسادنا والحافنا بالليل فمن نور القمر .
نظنُّ قرص القمر قرصاً من الخبز ، فنرفع أيدينا إلى السماء .
إن مسكنتنا عار للدراويش ، وما نهارنا وليلنا إلا تفكرّ في الرزق .
“ 303 “
وقد أصبح الأقرباء والغرباء يفرّون منا ، كما فر السامريّ من الناس “ 1 “ .
فلو طلبتُ من إنسان قبضة من العدس ، لقال : “ اسكتي ، ( جاءك ) الطاعون والموت “ .
2260 إنّ للعرب فخراً بالغرو والعطاء ، وأنت بين العرب مثل الخطأ في الكتابة !
وأيّ غزو ( بوسعنا ) ، وقد قُتلنا بدون غزو ؟ لقد أذهلت رؤوسنا ضربةُ سيف العدم .
وأيّ عطاء ( نقدّمه ) ، ونحن في سؤال دائم ، نضرب عرق الذبابة ، في الهواء ( لنشرب دمها ) .
فلو نزل بي ضيف ، وطاوعت نفسي ، لعمدتُ إلى ( سلب ) دلقه حين ينام “ .
كيف أغترّ المريدوين المحتاجون بالمدّعين المزوَّرين وكيف ظنّوهم شيوخاً أجلاء وأصلين
وكيف جلهوا الفرق بين النقل والتحقيق وبين المقيّد والمطلق
فمن أجل هذا ، قال الحكماء ، وما أحسن ما قالوا : “ على المرء ألا ينزل ضيفاً إلا بالمحسنين “ .
2265 أتكون مريداً وضيفاً لذلك الذي يسرق بخسَّةٍ كل ما تملك ؟
.............................................................................
( 1 ) قصة السامري وردت في سورة طه . والإشارة في هذا البيت إلى قوله تعالى : “ قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس “ . ( سورة طه ، 20 : 96 ) .
“ 304 “
إنّه ليس قويّاً فكيف يمنحك القوّة ؟ وما هو بمانحك النور بل جاعُلك مُظلماً .
وهو إنْ لم يكن مضيئاً بذاته ، فكيف يقتبس الآخرون منه النور ؟
إنّه الأعمش الذي يداوي العيون ! وماذا يضع في أعين الناس سوى الصوف .
فهذه حالنا في الفقر والعناء ، فلا يغترّ بنا ضيف .
2270 فإن لم تكن قد شاهدت صورة قحط دام عشر سنين ، فافتح عينيك وانظر إلينا !
إنّ ظاهرنا كباطن المدّعي ، ففي باطنه ظُلمةُ إنْ شعّ لسانهُ .
وهو لا رائحة به من اللَّه ولا أثر ، ( ومع هذا ) فدعواه أكبر من دعوى شيت وأبى البشر .
ومع أنّ الشيطان نفسه لم يُظهر له صورته ، فهو يقول دائماً : “ إنني من الأبدال ، بل أعظمُ منهم “ .
فكثيرا ما سرق لغة الدراويش ، حتى يُظنِّ أنَّه إنسان ( من رجال اللَّه ) .
2275 فهو - في حديثه - يقلِّلُ من شأن بايزيد “ 1 “ ، مع أن يزيد “ 2 “ يرى في وجوده العار .
ومع أنّه محروم من خبز السماء ومائدتها ، ولم يلق اللَّه أمامه بعَظْمَةٍ واحدة .
فهو ينادي : “ هأنذا قد أعددتُ المائدة ! إنني نائبُ الحقّ ، أنا ابن خليفته !
.........................................................................
( 1 ) بايزيد البسطامي أحد مشهوري الصوفية ، ( ت 260 ه ) .
( 2 ) يزيد بن معاوية .
“ 305 “
فاجتمعوا - أيّها البسطاء الذين تتلوّون ( جوعاً ) - حتى تأكلوا ملء بطونكم من خوان جودي !
فمن الناس من دار سنين حول هذا الباب ، على موعد مع الغد ، ذلك الغد الذي ما كان ليجيء .
2280 فمن الضروري أنْ يمضي وقتُ طويل ، حتى يتكشَّفَ سرُّ الآدميّ ، كثيرهُ وقليلُه .
وقد يكون تحت حائط البدن كنز ، وقد يكون هناك جُحرْ حيّة أو نمل أو تنيّن !
فإذا ما تبيّن للطالب أنّه لم يكن شيئاً ، يكون عمره قد انقضى “ 1 “ ، فما جدوى المعرفة ؟
في بيان أنّه قد يحدث نادراً أن مُريداً يعتقد اعتقاداً صادقاً بمحدَّع مزوِّر فيحسبه رجلا ( من الصالحين )
وعلى هذا الاعتقاد يصل إلى مقام لم يحلم به شيخه فلا يؤذيه الماء ولا النار بينما هما يؤذيان شيخه ولكنّ هذا قليل الحدوث
إنّ من النادر أنْ يجيءَ طالب له من الإشراق ( الروحيّ ) ما يجعل مثل هذا الكذب “ 2 “ نافعاً بالنسبة له .
فيصل بقصده الطيِّب إلى منزلة رفيعة ، وقد ظنّ هذا ( المدّعي ) روحاً فإذا به جسد .
2285 فهو كمن تَحرَّى القبْلة في أعماق الليل ، فلم يَهتد إليها ، ومع هذا صحَّتْ صَلاتُه .
..............................................................
( 1 ) يحدث ذلك بعد فوات الأوان ، فلا يعرف حقيقة ذاته إلا في نهاية عمره .
( 2 ) الكذب هنا ادعاء الولاية من جانب المدّعي .
“ 306 “
فهذا المدِّعي يعاني قحط الروح في الخفاء ، ولكن الظاهر لنا أنّه يعاني قحط الخبز .
فلما ذا نتستر على أنفسنَا مثل هذا المدعي ؟ ولماذا نزهق أرواحنا من أجل شرف مزوّر ؟
كيف أمر الأعرابي امرأته بالصبر وكيف ذكر لها فضيلة الصبر والفقر
فقال الزوج ، ( لا مرأته ) : “ إلى متى تنشدين الدخل والحصاد ؟ ما الذي بقي من عمرك ؟
إنّ أكثره قد مضى ! إنّ العاقل لا ينظر إلى الزيادة ولا إلى النقصان ، لأنّ كليهما يمرّان كما يمرّ السيلُ ( المندفع ) .
2290 فسواء أكان السيلُ صافياً أم كان معتكر الوجه ، فلا تتحدثي عنه لحظة واحدة ، لأنّه لا يدوم .
ففي هذا العالم آلاف من الأحياء ، يحيون حياة طيبة لا هبوط فيها ولا صعود .
فالفاختة تنرنم بشكر اللَّه على الشجرة ، على حين أن قوت المساء غير مهيّأ لها .
والعندليب يحمد اللَّه ( قائلًا ) : “ أمجيبَ ( السائلين ) ! إن اعتمادنا في الرزق عليك “ .
والباز قد جعل يد الملك أمله وبشراه ، وقطع رجاءه من كلّ الرمم “ 1 “ .
...................................................................................
( 1 ) لم يعد يحفل بالرمم التي كان يتغدي بها ، وأصبح كل أمله أن يعيش فوق يد الملك ، بعد أن أصبح بازاً يستخدمه الملك في صيده .
“ 307 “
2295 وهكذا لو أخذت الأحياء ، من البعوضة إلى الفيل ، فإنهم جميعاً عيال اللَّه ، والحقّ نعم المعيل .
إنّ كلّ هذه الهموم التي في الصدور ، ليست إلا البخار والغبار الصاعدْين من كياننا وهوائنا .
هذه الهموم التي تقتلعنا من أصولنا ، إنما هي لنا كالمنجل ، ( والتفكرّ ) بأن هذا ( الأمر ) جرى على هذا النحو أو ذاك من وساوسنا .
فلتعلمي أنّ كلّ ألم إنما هو جزء من الموت ، ولتدفعي عن نفسك جزء الموت ، لو كان إلى ذلك سبيل !
فما دمت غير مستطيعة الفرار من جزء الموت ، فاعلمي أنّ الموت كلّه سوف ينصبّ على رأسك .
2300 فإنْ كان جزءُ الموت قد طاب لك مذاقُه ، فاعلمى أنّ اللَّه سوف يجعله كلّه حلواً .
إنّ الآلام تجيء كرسول من الموت ، فلا تصرفي وجهك عن رسول الموت ، أيّتها الحمقاء .
وكل من يذوق حلاوة الحياة ، يذوق مرارة الموت ! وكل من عبد جسمه فما حمل روحاً !
فالأغنالم تُقتاد من الصحراء ، فيقتلُ منها ما كان أضخم بدناً .
إنّ الليل قد تولىّ ، وها هو ذا الصبح قد أقبل . فيا أيّتها الظلمة ! إلام تأخذين قصة الذهب من بدايتها ؟
2305 لقد كنت شابةً ، وكنت ( حينذاك ) أكثر قناعة ، وقد أصبحت طالبة للذهب ، وكنت من قبلُ ذهباً !
لقد كنت كرمةً عامرةً بالثمار فكيف أصبحت كاسدة ؟ وكيف غدوت فاسدة وقت نضج الثمار ؟
كان الواجب أن تُصبح فاكهتُك أكثر حلاوة ، لا أن تتراجع
“ 308 “
إلى الوراء كصانعي الحبال .
إنّك زوجتي ، والزوجةُ لا بد لها أنْ تتفق ( مع الزوج ) في الصفاء ، حتى تجيء الأمور وفق مصلحتهما .
فالزوجان يجب أن يكون كلّ منهما على مثال الآخر . ألا فلتتأملي زوجين من ألاحذية أو النعال “ 1 “ !
2310 فلو أنّ واحداً من النعلين ضاق بقدمك ، فلا نفع لهذين النعلين عندك .
وهل بين مصراعي الباب واحدُ صغير وآخر كبير ؟ أم هل رأيت ذئبة اقترنت بأسد الغاب ؟
وليس يستقيم فوق ظهر الجمل زوجان من الحقائب ، إحداهما صغيرة والأخرى كاملةُ الاتساع .
إنّني أسير بقلب قويّ نحو القناعة ، فلماذا تذهبين أنت نحو الشناعة ؟
“ فهذا الرجل القانع ظلّ - لموفور إخلاصه وتحمّسه - يحدّث امرأته على هذا المنوال حتى الصباح .
كيف نصحت المرأة زوجها ( قائلة ) : “ لا تكثر من الحديث عن مكانتك ومقامك : “ لمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ " 2"
“ . فمع أن هذا الكلام صحيح إلا أنك لم تبلغ مقام التوكل ، وتحدّثك بما هو فوق مقامك وأعمالك ضارُ بك ،
” كَبُرَ مَقْتاً عنْدَ اللَّه أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ““ 3 “
.................................................................
( 1 ) يلاحظ في هذا البيت والأبيات التالية أن الشاعر أجرى على لسان الأعرابي - في حديثه مع امرأته - أمثالًا بسيطة تلائم عقلها .
( 2 ) قال تعالى : “ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون “ . ( الصف ، 61 : 2 ) .
( 3 ) الصف ، 61 : 3 ) .
“ 309 “
2315 فصاحت الأعرابية بزوجها : “ يا من تُباهي بدينك ! إنني لن أبتلع خداعك أكثر من ذلك .
لا تُحدِّثني بترهات من ادّعائك ودعواك ! اذهب ، ولا تُخاطبني بكبر وغرور !
إلى متى تتحدث حديث الخيلاء والتصنع ؟ انظر إلى أمرك وحالك وكن ذا حياء !
إن الكبر قبيح ، ولكنه من الشحّاذين أقبح ، ( فكبرُ الشحاذين ) كالثوب المبلل في يوم بارد ممطر .
إلى متى هذا الادعاء والغرور والخيلاء “ 1 “ ، يا من بيتك مثل بيت العنكبوت .
2320 متى أنرتَ بالقناعة روحك ، وأنت لم تعرف من القناعة سوى اسمها !
لقد قال الرسول : “ ما القناعة ؟ إنها كنز “ “ 2 “ . وأنت لا تعرف الغُنم من الغُرم “ 3 “ .
ما القناعة إلا كنز الروح ، فلا تُفاخرْ بها يا من أنت غمُ وألمُ لروحي .
فلا تدعنُي زوجتك ، وأقلل من إظهار المودَّة “ 4 “ ! إنني قرينة الإنصاف ولستُ قرينة الدَغل .
وكيف تسيرُ مع الأمير ومع السيّد ، وأنت تضرب عرق الجرادة في الهواء .
......................................................
( 1 ) حرفياً : “ بادوبروت “ ، ومعنى “ باد “ الريح ويُعبَرِّ الشاعر بها هنا عن الانتقاخ بالكبر ، و “ بروت “ وهو الشارب ويُعبَرِّ به هنا عن اصطناع الشارب للتظاهر بالقوة والرجولة .
( 2 ) الحديث المنسوب إلى الرسول عليه السلام هو : “ القناعة كنز لا يفنى “ .
( 3 ) حرفياً : وأنت لا تعرف الكنز من الألم .
( 4 ) حرفياً : أقلل من الضرب على الإبط .
“ 310 “
2325 إنك لفي صراع مع الكلاب على العظام ، بل إنك لفي نواح مثل قصبة خالية الجوف .
فلا تنظر إليّ باحتقار وازداء ، حتى لا أُخبرك بما في عروقك “ 1 “ .
لقد رأيت عقلك أكبر من عقلي ، فكيف رأيتني ، أنا الصغيرة العقل ؟
فلا تتووثت عليّ مثل ذئب أحمق ، يا من يفوق انعدامُ العقل عارَ عقله !
فإنْ كان عقلك عقالًا للرجال ، فما هو بعقل ، بل هو ثعبان أو عقرب!
2330 فليكن اللَّه خصماً لظلمك ومكرك ، ولينقشع عنا مكر عقلك .
إنك أنت الثعبان وأنت الساحر ، فوا عجبا ، إنك ماسك الحيّة وأنت الحيّة ( في الوقت ذاته ) يا عار العرب !
ولو عرف الغراب قبح ذاته ، لذاب كالثلج من الألم والحزن “ .
إن ماسك الحيّات - وهو عدوّ لها - يتلو تعاويذه عليها ، كما أنها أيضاً تتلو عليه التعاويذ .
فلو لم تكن شباكه هي السحر الذي يسخرّ الحيّات ، لما كان هو صيدا لسحر تلك الحيات .
2335 فصائد الحيّات - بسبب الحرص ، ومن أجل الكسب والعمل - لا يدرك - في ذلك الوقت “ 2 “ - سحر الحيّة .
إنّ الحيّة تقول له : “ أيها الساحر ! تنبّه ! إنك قد أبصرت سحرك ، فانظر إلى سحري !
إنك لتخدعني باسم الحق ، حتى تصيبني بالفضية والاضطراب والأذى .
واسم الحق هو الذي قيّدني وليس احتيالك ! لقد اتخذت اسم الحق شركاً ، فالويل لك .
.........................................................
( 1 ) حتى لا أبيِّن لك حقيقة أمرك .
( 2 ) وقت اصطياد الحيَّات .
“ 311 “
ولسوف يُنصفني منك اسم الحق ، فقد أسلمتُ إلى اسم الحق نفسي وجسدي .
2340 فإما أن يقطع شريان حياتك بضربة مني ، أو يحملك - مثلي - إلى السجن “ .
وهكذا أسمعت هذه المرأة زوجها الشاب صحائف من خشن القول .
كيف نصح الرجل امرأته ( قائلًا ) : “ لا تنظري إلى الفقراء باحتقار ولكن انظري إلى فعل الحق متفكرة بكماله !
ولا توجهي الطعن إلى الفقر والفقراء بخيال مسكنتك ، وتفكرك فيها “
فقال ( الأعرابيّ ) : أيتها المرأة ! أأنت امرأة أم أنت أم الأحزان ! إنّ الفقر فخري ، فلا تضربيني فوق رأسي .
إنّ المال والذهب هما للرأس كالقلنسوة ، وليس يلتجىء إلى القلنسوة إلا الأصلع .
وأما من كان ذا شعر جعد كثيف ، فهو أسعد حالًا بذهاب قلنسوته .
2345 - إنّ رجل الحق مثل العين ، ولهذا فإنّ انكشاف بصره خير من احتجابه .
وبائع العبيد حين يعرض للبيع عبداً ( صحيح البدن ) ، ينزع عنه الثياب التي تغطي العيوب .
فإنْ كان به عيب ، فمتى ينزع البائع عنه الثياب ؟ إنه يخدع المشتري بالثياب !
فهو يقول : “ إنّ هذا العبد يستحي من الحسن والقبيح ، ولو عرّيت بدنه لهرب منك “ .
فهذا التاجر غارق في العيب إلى أُذنيه ، ولكنه يملك المال ، والمال يُغطي العيوب .
“ 312 “
2350 - ومن الطمع لا يرى الطامع عيبه ، وقد أصبحت الأطماع رباطاً يجمع القلوب .
إنّ الشحاذ لو قال كملة مثل ذهب المنجم ، ما وجدت سلعته سبيلًا إلى الدكان .
وأعمال الدراويش وراء فهك ، فلا تنظري إلى فقرهم باحتقار !
ذلك لأن الدروايش فوق المُلك والمال ، ولهم رزق عظيم من لدُنْ ربّ الجلال .
إنّ الحق تعالى عادل ، ومتى كان أهل العدل يوقعون الظلم بالمساكين ؟
2355 - وهل يمنحون واحداً ( من الناس ) نعمة ومالًا ، ويضعون الآخر فوق النار ؟
ألا فلتحرق النار من ظن هذا الظن باللَّه خالق العالمين ! فهل ( قولي ) “ الفقر فخري “ من الجزاف والمجاز ؟
لا ، بل إنه آلاف من العزّ الخفيّ والاعتزاز !
إنّ غضبك جعلك تلقين عليّ السباب فأسميتني بصائد الإخوان ، وما سك الثعبان .
ولو أمسكتُ بثعبان فإننّي أخلع أنيابه ، حتى أجعله في مأمن من أنْ يُدَّق رأسه .
2360 - فإنّ هذه الأنياب إنما هي عدوّ حياته ، وأنا - بهذا العلم - أجعل من العدوّ صديقاً .
إنّني لست أتلو تعاويذي طامعاً ، فلقد قلبت الأطماع رأساً على عقب “ 1 “ .
معاذ اللَّه ! فليس لي طمع في الخلق ، وفي قلبي عالم من القناعة .
إنّك لتبصرين على هذا النحو ، وأنت فوق شجرة الكمثرى ،
......................................................................
( 1 ) أوقفت حركتها وتخلصت من آثارها .
“ 313 “
فلتنزلي من فوقها حتى لا يبقى لك هذا الظنّ “ 1 “ !
وأنت - حين تدورين ، ويصبح رأسك ذاهلًا - ترين المنزل دائراً ، وليس ما يدور سواك !
في بيان أنّ حركة كلّ انسان إنما هي من المكان الذي هو فيه
كما أنه يشاهد غيره من دائرة وجوده .
فالزجاجة الزرقاء تظهر الشمس زرقاء والحمراء تظهرها حمراء
فإذا خرجت الزجاجة عن اللون أصبحت بيضاء فتكون أصدق
من كل الزجاجات الأخرى وتكون هي الحُجَّةُ الصادقة .
2365 - لقد رأى أبو جهل أحمد فقال : “ ما أقبحه شكلًا ذلك الذي خرج من بني هاشم !
“ فقال له أحمد : “ ذلك صدق ! لقد قلت الصدق ، وإن كنتَ قد بالغت ! “
.............................................................................
( 1 ) يشير الشاعر هنا إلى قصة معروفة رواها هو ، في المجلد الرابع من المثنوي ( 3544 ، وما يليه ) وخلاصتها أنّ امرأة أرادت أنْ تُقبّل عشيقها في حضرة زوجها فعمدت إلى حيلة فصعدت فوق شجرة الكمثرى بدعوى أنها أرادت أن تقطف بعض الثمار ، ثم نظرت من فوق إلى زوجها وأخذت تنتحب مدعية أنها تراه في موقف خليع عابث . ومهما حاول الرجل إقناعها بأنّ ما رأته كان وهما فإنها لم تبد اقتناعاً . وأخيراً دعاها إلى النزول وصعد هو الشجرة فلم يكد يفعل حتى دعت حبيبها وعانقته ، فلما احتج على ذلك زوجها قالت إن ما يراه لا يعدو ان يكون وهما كالذي رأته هي حينما كانت فوق الشجرة .
فيكون معنى قوله : “ انزلي من شجرة الكمثرى “ ، أنه يدعوها لتتخلص من أوهامها الباطلة .
“ 314 “
ورأى الصدِّيقُ أحمد فقال : “ يا شمس ( الروح ) ! إنّك لستَ من الشرق ولا الغرب ، فتألّق مُشرقاً ! “ فقال أحمد : “ لقد قلتَ الصدق ، أيّها العزيز ! يا من نجوت من هذه الدنيا التي لا تستحقّ شيئاً ! “ فقال الحاضرون : “ أيّها الملك ! لماذا وصفتَ كلا من هذين الرجلين بقول الصدق، مع أنّ كلا منهما تكلّم بما يضادّ قول الآخر !“ .
2370 - فقال الرسول : “ إنّني مرآة صقلتها يدُ ( القدرة الإلهيّة ) ، فالترك والهنود يشاهدون في ( حقيقة ) كيانهم “ .
فيا أيّتها المرأة “ 1 “ ! إنْ كنت تُبصرينني من الطامعين فارتفعي عن ذلك الجشع النسائيّ .
إنّ ( حالي ) تشبه الطمع ، وليست إلا رحمة ! فأين الطمع من تلك النعمة ؟
فاختبري الفقر يوماً أو يومين ، لتري في الفقر غنى مُضاعَفاً .
اصبري على الفقر ، ودعي هذا الملال ! فإنّ في الفقر نوراً من ذي الجلال !
2375- لا تنظري بمرارة “ 2 “ ، وشاهدي آلاف الأنفس وقد أغرقتْها القناعة في بحر من العسل .
تأملي آلاف الأنفس التي تقاسي مرارة الحياة ، وقد امتزجت بشراب الورد مثل الورد .
فوا أسفاه ، أنّك لست واسعة الفهم ، فتظهر لك روحي مكنون قلبي !
...................................................................
( 1 ) عاد الشاعر هنا إلى حديث الأعرابي وامرأته .
( 2 ) حرفياً : “ لا تبيعي الخلّ “ . عبّر عن إظهار المرأة تشاؤمها ببيع الخل
“ 315 “
فهذا الحديث لبن في ثدي الروح ، وهو لا يسيل طيِّباً بدون رضيع ! ولكن ، حين يصبحُ المستمعُ متعطِّشاً طالباً ، فإنّ الواعظ ينطق حتى ولو كان ميّتاً .
2380 - فالمستمع ، إذا أصغى بنشاط وشغف ، فإنّ الأصم الأبكم ، يصبح ناطقاً بمائة لسان .
إنّ النساء يحتجبن وراء الأستار ، لو دخل غريب من بابي .
ولكن ، إذا دخل مَحْرم لا تضرّر منه ، فإنّ ذوات الحجاب يرفعن الحجب .
وكلُّ ما صُنع جميلًا رائعاً منمّقاً ، فإنماً صُنع من أجل العين المبصرة .
ومتى كانت الألحان - بوزنها الخفيض والعالي - من أجل أُذن صماء معدومة الحسّ ؟
2385 - إنّ اللَّه لم يجعل المسك طيّب الأنفاس عبثاً ، إنه خلقه للإحساس السليم ، وليس من أجل الأخشم “ 1 “ .
ولقد خلق اللَّه الأرض والسماء ، ونشر بينهما الكثير من النار والنور .
وجعل هذه الأرض للترابيّين ، وجعل السماء مسكن الأفلاكيّين .
إنّ الرجل الوضيع عدوّ للرفعة ! وكل مكان يُعرف الساعي إليه ( بأعماله “ 2 “ ) .
أيتها المأة المحجبّة ! هل نهضت قطّ يوماً ، واتخذت زينتك من أجل رجل أعمى ؟
2390- فلو أنني ملأتُ العالم بدرّ ( الحكمة ) المكنون ، ولم يكن هذا الدرّ من نصيبك ، فماذا أصنع ؟
........................................................
( 1 ) الأخشم من فقد حاسة الشم .
( 2 ) إن طالب العالم الروحي يتضح بأعماله ، وكذلك طالب العالم المادي .
“ 316 “
أيّتها المرأة ! دعي العراك واتركي قطع الطريق “ 1 “ ، وإنْ لم تري هذا الرأي ، فاتركيني .
فأيّ مكان عندي للصراع حول ما هو حسن وما هو قبيح ، وإنّ قلبي ليفرّ حتى من المصالحات .
فإما أن تسكتي وإلا سكتُ أنا ، وتركتُ في هذه اللحظة منزلي وداري .
مراعاة المرأة زوجها واستغفارها إياه مما قالته
فلما رأت المرأة زوجها محتداً ثائراً ، أخذت تبكي ، والبكاء حيلة النساء .
2395 وقالت : “ ما توهمت مثل ذلك منك “ 2 “ . لقد كان لي فيك أمل آخر “ .
وجاءته المرأة من طريق إنكار وجودها فقالت : “ إني أنا ترابك لا زوجتك .
إنّ جسمي وروحي وكل كياني لك ، والحكم والأمر كلاهما رهن إرادتك ! فإنْ كانت الفاقة قد جعلت قلبي يتخلى عن الصبر ، فما ذلك من أجل نفسي ، ولكن من أجلك .
لقد كنت الدواء لآلامي ، ( ولهذا ) لا أُريد أن تكون عديم الرزق .
.......................................................................
( 1 ) قطع سبيل التأمل
( 2 ) حرفياً : “ متى توهمتُ مثل ذلك منك ؟ “ . والاستفهام هنا إنكاري .
“ 317 “
2400 فبروحي وسري ، إن هذا لم يكن من أجل نفسي ، بل إن هذا النواح والحنين كان من أجلك .
إن ذاتي - واللَّه - إنما هي من أجل ذاتك ، تتمنى في كل حظة أن تموت قبلك .
فليت روحك - التي تفديها روحي - كانت واقفة على ( ما أستتر ) في ضمير روحي .
أما وقد أصبح ظنّك بي على هذا النحو ، فإني قد سئمت روحي وجسدي .
وإني لأحثو التراب على الفضة والذهب ، حينما تكون هكذا ( غاضباً ) مني ، يا سكن روحي !
2405 فهل تتبرأ مني إلى هذا الحد ، يا من جعلت مكانك روحي وقلبي ؟
فلتتبرأ مني ، فإنك على ذلك قدير ، وإن كانت الروح لتضرع إليك ألا تفعل .
تذكرَّ أيام كنت جميلة كالصنم ، وكنت أنت كعابد الصنم ! لقد أحرقتْ جاريتُك قلبها وفق مرادك ، فكلّ ما قلتَ عنه إنه “ طُبخ “ تقول هي “ إنه احترق “ “ 1 “ .
أنا طعامك “ 2 “ فلتطبخني كما تشاء ، وسواء لديّ أوجدتني سائغة مع الحامض أو مع الحلو !
2410 لقد نطقتُ بالكفر وهأنذا قد رجعتُ إلى الإيمان ، وقد أقبلت بكل روحي مستسلمة الحكمك .
إنني لم أعرف طبعك الملكيّ فانطلقتُ بجوادي متوقحة أمامك .
أما وقد جعلت لي من عفوك سراجاً فقد تُبتُ وخليَّتُ العناد .
إني أضع أمامك السيف والكفن ، وأبسط لك عنقي فلتضربه ! لقد ذكرت كلاماً عن الفراق المرّ ، فافعل أي شيء تريد سوى هذا .
...........................................................
( 1 ) المعنى أنها تُبالغ في محبته . تقول : “ إن كان قلبك قد نضج بالحب فقلي قد احترق “ .
( 2 ) حرفياً أنا إسفيناخك .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin