12 - في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 335 “
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ ،
فإن الحلوى لا تؤذي الطبيب بينما هي تؤذي المريض والبرد والثلج لا يتلفان العنب الناضج بينما هما يتلفان العنب
الفج فالمريد لا يزال على الطريق ولم يصل بعد إلى مقام :” ليَغْفرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبكَ وَما تَأَخَّرَ ““ 1 “
إنّ الوليّ لو شرب السمّ لصار شراباً هنيئاً ، وأما الطالب فلو شرب السمّ لأظلم عقله .
لقد دعا سليمان ربّه بقوله :” رَبِّ اغْفرْ لي ، وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لأَحَدٍ منْ بَعْدي ““ 2 “ .
ومعنى الآية : “ يا ربّ ! لا تعط أحداً سواي هذا الملك ولا تلك القدرة !
2605 - ولا تؤثر غيري بمثل هذا اللطف والجود ! “ وهذا القول يشبه الحسد ، ولكنّه ليس كذلك .
فلتقراً سرّ” لا يَنْبَغي ““ 3 “ بروحك ، ولا تفهم سرّ” منْ بَعْدي “ *” 4 “ على أنّه من بخل سليمان .
لكنّه رأى في الملك مائة خطر ، فملك الدنيا كان دائماً خطراً على الحياة .
إنّه مصدر خوف على الرأس والقلب والدين ، وهو امتحان لنا ليس له من مثيل .
...............................................................
( 1 ) ( الفتح ، 48 : 2 ) .
( 2 ) ( ص ، 38 : 35 ) .
( 3 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه .
( 4 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه .
“ 336 “
فالمرء يحتاج إلى همّة سليمان لكي ينجو من تلك الآلاف من الروائح والألوان “ 1 “ .
2610 - وحتى سليمان ، مع هذه القوة التي كانت له ، كم خنقت أمواجُ ملكه أنفاسَه !
لقد كان يشعر بالشفقة على كلّ ملوك الدنيا ، حين يتراكم فوقه - من الملك - غبار الهمّ .
فشفع لهم قائلًا : “ ربّ هبْ هذا الملك ، ولكنْ هبْ معه الكمال الذي منحتني إيّاه !
فكلّ من وهبته وتفضّلت عليه بهذا الكرم فهو سليمان ، وأنا أيضاً ذات هذا الرجل .
فهو لن يكون بعدي وإنما معي . ومن ذا الذي يكون معي ؟
إنّه أنا بلا منازع “ .
2615 - إنّ شرح هذا واجب عليّ، ولكن هأنذا أعود إلى قصة الأعرابي وامرأته.
مغزى ما جرى بين الأعرابيّ وامرأته
إنّ الذي جرى بين الأعرابي وامرأته ، لذو مغزى يبحث عنه قلب المخلص .
لقد جاء - عن طريق النقل - ما جرى بينهما . فاعلم أنّ ( في تلك القصة ) مثلًا لفنسك وعقلك .
..........................................................
( 1 ) المقصود بالروائح والألوان مباهج الدنيا ومفاتنها .
“ 337 “
فهذه المرأة وهذا الرجل نَفْس وعقل ، وكلاهما ضروريّ لإظهار الخير من الشرّ .
إنّ هذين الواجبي الوجود في هذا العالم الترابيّ يتحاربان ويتنازعان إبّان النهار وفي الليل .
2620 - إنّ المرأة تريد حاجة المنزل، يعني الأبهّة “ 1 “ والخبز والخوان والجاه.
فالنَفْس مثل المرأة ، تنشد التراب “ 2 “ حيناً ، وتنشد المجد حيناً آخر ، لكي تحقّق مآربها .
وأما العقل فليس بمدرك لتلك الأفكار ، وليس في معدنه غير خوف اللَّه.
فإذا كان سرّ القصة هذه الحبّة وهذا الشرك “ 3 “ فاستمع الآن إلى صورة هذه القصة كلها !
فلو كان البيان المعنويّ كافياً ، لكان خلق العالم باطلًا عاطلًا !
2625 - ولو أنّ المحبّة لم تكن إلا فكراً ومعنى ، فلا ( جدوى من ) صورة صومك وصلاتك .
والهدايا التي يتبادلها الأحباب للتعبير عن محبّتهم ليست إلا صوراً .
ذلك لأنها تقدّم الدليل على المحبّة المحتجبة في الخفاء .
فالحسنات الظاهرة - أيّها الفاضل ! - شواهد على عواطف الحبّ المستتر .
وشاهدك قد يكون صادقاً في وقت ، وكاذباً في وقت آخر ، ومرة يكون ثملًا بالخمر ، وأخرى باللبن المخض .
2630 - فشارب المخيض يتظاهر بالسكر ، فيصيح صياح السكارى ، ويتراءى مثقل الرأس . .
...............................................................
( 1 ) ماء الوجه في البيت كناية عن الأبَّهة .
( 2 ) تطلب المادة .
( 3 ) فتنة النفس للعقل .
“ 338 “
فهذا المرائي ( يغالي ) في الصيام والصلاة ، حتى يُظنّ أنّه سكران بولائه ( لربّه ) !
وصفوة القول أنّ ظاهر الأفعال مختلف ( عن باطنها ) ، وجدوى ( الظاهر ) أنّه دليل على ما استتر ( في الباطن ) .
فيا ربّ ! هبنا ذلك التمييز - كما نريد - لنقدر على التمييز بين ما استقام من الأدلّة وما اعوجّ !
وهل تعلم متى يصبح الحسّ تمييزاً ؟ إنه كذلك حينما ينظر بنور اللَّه ؟
2635- وإذا لم يكن الأثر ( ظاهراً ) فإنّ السبب يظهره ، ومثال ذلك القربى ، فهي مخبرة عن المحبّة .
وإذا حلّ نور اللَّه في حواسّك ، فإنك لا تكون عبداً للأثر ولا لسبب .
فإذا ما أورت المحبّة شعلتها في الباطن ، عظم الإنسان ، إذ أنها تريح خاطره من الآثار .
فلا تكون له حاجة إلى علامات الحبّ ، ما دام الحبّ قد غمر بنوره أفقه .
ولهذا الكلام تفصيلات تكمله ، ففتّش أنت عنها ، والسلام .
2640 - وأما من رأى ذلك المعنى في هذه الصورة ، فإنّ الصورة قريبة من المعنى ، بعيدة عنه !
إنّهما في الدلالة مثل الماء والشجرة ، ولكنّك إذا اتجهت إلى الماهيّة فهما متباعدان غاية البعد “ 1 “ .
فلتقل بترك الماهيّات والخصائص ، ولتشرح لنا أحوال هذين المليحين “ 2 “ !
...............................................................
( 1 ) إنهما في الدلالة متقاربان في الظاهر تقارب الماء من الشجرة التي يمر بباطنها ، ولكنهما متباعدان في الماهية كالعبد بين الماء والشجرة في ماهية كل منهما .
( 2 ) المليحان هنا هما الأعرابي وزوجه .
“ 339 “
كيف وجّه الأعرابيّ قلبه لتحقيق ملتمس حبيبته
وكيف أقسم أن ليس في تسليمه حيلة أو امتحان
قال الأعرابيّ : “ الآن قد أقلعتُ عن الخلاف ، والحكم لك ، فلتسحبي السيف من غمده !
وإني لمطيع أمرك في كل ما تأمرين به ، وولن أنظر فيما قد ينجم عن ذلك من شر أو خير .
2645 - لسوف أصبح في وجودك عدماً ، فما دمتُ مُحبّاً فالحب يعمي ويصّم !
“ فقالت الزوجة : “ يا للعجب ! أأنت حبيبي ؟ أم أنك بحيلة تكشف سرّي ؟ “ .
فقال الأعرابيّ : “ واللَّه عالم السرّ الخفيّ ، الذي خلق من التراب آدم صفيا ،
وفي جسم وهبه إياه ، حجمه ثلاثة أذرع ، أظهر كلّ ما كمن في الألواح والأرواح !
فعلمّ آدمُ ( الملائكة ) - في البدء - ما يكون إلى الأبد ، بما اقتبسه من علم إلهيّ “ 1 “ .
2650 - فانتشت من تعليمه الملائكة ، ووجدت في تقديسه ( للَّه ) لوناً آخر من التقديس .
فتلك الكشوف التي جلاها آدم للملائكة ما كانت لتتسع لها رحابُ السماوات الفساح .
لقد ضاقت عرصات السماوات السبع أمام سعة مجال هذا الروح الطاهر .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ بما علمه ربه من الأسماء “ . إشارة إلى الآية الكريمة : “ وعلم آدم الأسماء “ . ( البقرة ، 2 : 31 ) .
“ 340 “
ولقد روى الرسول عن الحقّ أنه قال ( ما معناه ) : “ إنني لا يسعني وعاء العلوّ والانخفاض ،
ولا تسعني الأرض ولا السماء بل ولا العرش “ ، فاعلم ذلك أيها العزيز !
2655 - “ ولكنّ قلب المؤمن يتسّع لي ، فإذا كنت تبحث عني فاطلبني في قلوب المؤمنين “ “ 1 “ .
قال أدخل في عبادي تلتقي * جنّة من رؤيتي يا متقي “ 2 “إن العرش على نوره واتساعه - حين رأى ( روح ) آدم - تخلى عن مكانه .
فما أعظم ضخامة العرش بداته ! ولكنْ ما الصورة إذا جاء المعنى ؟
وقالت الملائكة لآدم : “ لقد كانت لنا ألفة ( بك ) وأنت في تراب الأرض !
2660 - فكم غرسنا بذور الخدمة في الأرض ، وكنا نعجب لتعلّقنا بها .
فما ذا كان تعلقنا بهذا التراب ، ما دمنا نحن قد فُطرنا من السماء ؟
وماذا كان إلفنا نحن الأنوار بالظلمات ؟ وكيف يستطيع النور أن يعيش منع الظلمات ؟
يا آدم ! إن شذاك كان مبعثاً لهذا الإلف ، لأنّ الأرض كانت لجسمك سدى ولحمة .
فمنها نُسجَ جسمُك الترابيّ ، وفيها نورك الطاهر .
2665 - فهذا النور الذي وجدته أرواحنُا في روحك ، كان في أول الأمر يشعّ من التراب .
لقد كنا في الأرض ، وكنا غافلين عنها ! كنا غافلين عن الكنز الذي اختبأ فيها !
...............................................................
( 1 ) النص العربي للحديث القدسي هو : “ ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي الورع “ .
( 2 ) هذا البيت عربيّ في الأصل .
“ 341 “
وحينما أُمرنا بالسفر من هذا المقام ، صارت أفواهنا مرة من جرّاء هذا الانتقال .
فأخذنا بخادل قائلين : “ يا ربّنا ! من ذا الذي سيحتلّ مكاننا ؟
أتبيع نور تسبيحنا وتهليلنا من أجل قيل وقال ؟ !
2670 - إن حكم الحقّ كان قد بسط لنا بساط ( الرحمة ) قائلًا : “ تكلمّوا وانطلقوا في الحديث !
وقولوا كلّ ما يرد على ألسنتكم من غير حذر ، كما ( يفعل ) الطفل الوحيد مع أبيه .
وماذا لو كانت أقوالكم هذه غيره لائقة ؟ إن رحمتي لسابقة على غضبي .
ولكي أظهر لك هذا السبق - أيها الملك - أودعت فيك أسباباً للحيرة والشك .
وهكذا تتكلم ، بدون أن أحسابك على قولك . فلا يستطيع منكرُ حلمي أنْ ينبس بكلمة !
2675 - وإن مائة أب ومائة أم لتولد من حلمنا في كلّ لحظة ، ثم تختفي !
وما حلم هؤلاء إلا زبد من بحر حلمنا . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما البحر فدائم البقاء “ .
فماذا أقول ؟ إن هذا الصدف “ 1 “ أمام هذا الدرّ “ 2 “ ليس إلا زبداً لزبد الزبد !
فبحقّ هذا الزبد ! بل بحقّ ذلك البحر الصافي ! إن قولي هذا ليس امتحاناً ، وليس هراء “ 3 “ .
بل إنه من صميم الحبّ والصفاء والخضوع ! أقسم لك بمن إليه مآبي .
...............................................................
( 1 ) حلم الانسان .
( 2 ) حلم اللَّه .
( 3 ) الحديث هنا على لسان الأعرابي يخاطب امرأته .
“ 342 “
2680 - فإذا كان هذا الوله قد بدا لك امتحاناً ، فلتختبري هذا الامتحان لحظة واحدة .
واكشفي سرّك ، لكي ينكشف لك سريّ ، ومريني بكل ما أنا قادرُ عليه .
وأزيحي الحجاب عن قلبك ، يتجلّ لك قلبي ، فأتقبل ما أنا قابل له !
كيف أعمل ؟ وأية حيلة في يدي ؟ ألا فلتنظري أيّ عبء تحتمله روحي “ 1
كيف عيّنت المراة لزوجها طريق طلب الرزق وكيف تقبّل الرجل ذلك منها
فقالت المرأة : إنّ شمساً واحدة قد أشرقت فاكتسب النورَ منها عالمُ بأسره .
2685 - ونائب الرحمن ، خليفة اللَّه ، به ازدهرت مدينة بغداد ، فكأنه الربيع .
فإذا اتصلت بهذا المَلك ، أصبحت مَلكا ! ( وإلا ) ، فإلى متى تسعب وراء كلّ إدبار ؟
إنّ مجالسة السعداء مثل الكيمياء ! بل أين هي الكيمياء التي تشبه نظرة ( إقبالهم ) !
ولقد تلقى أبو بكر نظرة من الرسول ، وبالتصديق مرة واحدة أصبح صدّيقاً !
..............................................................
( 1 ) تأملي المدى الذي يمكن أن تطيقه روحي في تحمل الأعباء ، ولا تكلفيني ما لا طاقة لي به .
“ 343 “
فقال الزوج : “ وكيف أصبح مقبولًا عند الملك ؟ وكيف أذهب إليه من غير حجة أتذرّع بها ؟
2690 - فلا بدّ لي من ذريعة أو حيلة . وهل استقامت حرفة قطّ بدون آلة ؟
( إنّني ) كالمجنون الذي سمع من شخص أنّ ليلى قد ألمّ بها مرض طفيف .
فقال : “ أوّاه ! كيف أذهب إليها بدون عذر أتذرّع به ؟
وإذا تخلفت عن عيادتها فكيف يكون حالي ؟
ليتني كنت طبيباً حاذقاً * كنت أمشي نحو ليلى سابقاً “ 1 “
ولقد خاطبنا الحقُّ تعالى بقوله :قُلْ تَعالَوْا . . ““ 2 “ ليكون إشارة لنا نتغلّب بها على حيائنا .
2695 - ولو كان للوطواط بصر ووسيلة ، لطار بالنهار وحسن حاله .
فقالت الزوجة : “ إنّ ملك الملوك حين ينزل إلى الميدان ، يصبح كل عجز آلة ووسيلة !
ذلك لأن الآلة إدّعاء و ( تأكيد ) للوجود الذاتيّ ، ونجاحُ ( العمل ) يتحقّق عند الافتقار والتواضع “ “ 3 “ .
فقال الأعرابي : “ وكيف ألتمس الربح من انعدام وسائلي ، إذا لم أظهر أَنَّني عديم الوسائل ؟
...............................................................
( 1 ) هذا البيت عربىّ في الأصل .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى :
“ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم “ . ( الأنعام ، 6 : 151 ) . ويريد الشاعر أن دعوة اللَّه العباد للاستماع إلى قوله هي الإشارة التي تجعلهم يتغلبّون على الحياء الذي قد يستولي عليهم في حضرة اللَّه .
( 3 ) ليس تأكيد الإنسان لذاته وأعماله وسيلة التقرب إلى اللَّه عند الصوفيّة ، وإنما التقرّب عندهم بالتوكل على اللَّه أي الإيمان بأنَّه لا يتمّ أمر بدون إرادته ، فالتوكل عندهم يؤدي إلى إفناء الإرادة الإنسانية في الإرادة الإلهية ، وهذا هو التواضع ، وهو الذي يؤدي إلى نجاح المقاصد ، لأنّ الإرادة الإلهية لا تهدف إلا إلى الخير .
“ 344 “
فلا بدّ لي من شاهد ( أمام الملك ) على إفلاسي ، حتى يشفق علّي في فاقتي .
2700 - فلتكشفي لي عن شاهد غير القيل والقال ، وظاهر الحال ، فلعله يستدر رحمة الملك الجليل .
فالشهادة - التي لا تزيد على الكلام والمظهر - كانت دائماً مجرحة عند ذلك القاضي الأكبر .
إنّه يريد ممن ( يقف بساحته ) أنْ يكون الصدق شاهداً على حاله ، فيشعّ نورُه من غير ( حاجة ) لمقاله “ .
كيف حمل الأعرابيّ إبريقاً ملينأ بماء المطر من قلب البادية إلى بغداد هدية إلى أمير المؤمنين ظانّا أنّ تلك المدينة أيضاً تعاني قحطاً في الماء
فقالت المرأة : “ إنّ الصدق أنّ الإنسان - بجهده - ينطلق من وجوده انطلاقاً كاملًا .
إن لدنيا ماء مطر بالإبريق ، وهو ملكك ، ورأس مالك ووسيلتك .
2705 - فاحمل هذا الإبريق وانطلق ! اتّخذه هدّية ، وأمثل أمام ملك الملوك !
وقل له : “ إنّنا نمتلك من الأسباب غير هذا .
وليس في المفازة شيء قط أحسن من الماء .
فمع أنّ خزائنه مليئة بالذهب والجوهر ، فإنّه لا يجد ماء كهذا ، فهو نادر الوجود ! “ .
فما هذا الكوز ؟ إنّه جسدنا المحدود ، وبه ماء حواسنا الملح !
“ 345 “
فيّارب ! تقبّل إبريقناً وكوزنا بفضلك ( الذي يشير إليه قولك ) :
” إنَّ اللَّهَ اشْتَرى منَ الْمُؤْمنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ““ 1 “ .
2710 - إنّ لإبريقنا أنابيب ، هي الحواس الخمس ، ( فيا ربّ ) احفظ ماء إبريقنا من كلّ نجس !
حتى يكون لإبريقنا هذا منفذُ إلى البحر ، وحتى يتخذ إبريقُنا صفة البحر .
فإذا ما حملته هديّة إلى السلطان يراه نظيفاً ، ويكون له مشتريا .
فيصبح ماؤه بعد ذلك بلا حدود ، ويمتلئ من كوزنا مائة عالم !
ألا فلتغلق أنابيبه ، ولتملأه من وعاء ( الحقيقة ) . لقد أمرنا الحقّ أن نغضّ الأبصار عن الهوى “ 2 “ .
2715 - فانتفشت لحية الأعرابي بريح الغرور . فمن ذا الذي لديه مثل هذه الهدية ؟ إنها بحق لائقة بمثل هذا المليك !
ولم تدر الزوجة أن هناك على الطريق ( في بغداد ) نهراً مثل جيحون ، حلواً كالسكر .
يجري كالبحر في وسط المدنية ، وقد حفل بالزوارق وشباك الصيادين .
فلتذهب إلى السلطان ، ولتشهد أبهته وجلاله ، ولتجرب الإحساس ( بالحقيقة في قوله ) :” تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهارُ “ *” 3 “ .
...............................................................
( 1 ) ( سورة التوبة ، 9 : 111 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ، إنّ اللَّه خبير بما يصنعون “ .
( سورة النور ، 24 : 30 ) .
( 3 ) وردت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن . ومنها قوله تعالى : “ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار “ . ( سورة البروج ، 85 : 11 . )
“ 346 “
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
“ 335 “
في بيان أنّه لا يجوز للمريد أنْ يتجرّأ فيفعل ما يفعله الوليّ ،
فإن الحلوى لا تؤذي الطبيب بينما هي تؤذي المريض والبرد والثلج لا يتلفان العنب الناضج بينما هما يتلفان العنب
الفج فالمريد لا يزال على الطريق ولم يصل بعد إلى مقام :” ليَغْفرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبكَ وَما تَأَخَّرَ ““ 1 “
إنّ الوليّ لو شرب السمّ لصار شراباً هنيئاً ، وأما الطالب فلو شرب السمّ لأظلم عقله .
لقد دعا سليمان ربّه بقوله :” رَبِّ اغْفرْ لي ، وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لأَحَدٍ منْ بَعْدي ““ 2 “ .
ومعنى الآية : “ يا ربّ ! لا تعط أحداً سواي هذا الملك ولا تلك القدرة !
2605 - ولا تؤثر غيري بمثل هذا اللطف والجود ! “ وهذا القول يشبه الحسد ، ولكنّه ليس كذلك .
فلتقراً سرّ” لا يَنْبَغي ““ 3 “ بروحك ، ولا تفهم سرّ” منْ بَعْدي “ *” 4 “ على أنّه من بخل سليمان .
لكنّه رأى في الملك مائة خطر ، فملك الدنيا كان دائماً خطراً على الحياة .
إنّه مصدر خوف على الرأس والقلب والدين ، وهو امتحان لنا ليس له من مثيل .
...............................................................
( 1 ) ( الفتح ، 48 : 2 ) .
( 2 ) ( ص ، 38 : 35 ) .
( 3 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه .
( 4 ) هذه عبارة من الآية الكريمة التي وردت على لسان سليمان . والتي يوالي الشاعر تفسيرها في هذا البيت وما يليه .
“ 336 “
فالمرء يحتاج إلى همّة سليمان لكي ينجو من تلك الآلاف من الروائح والألوان “ 1 “ .
2610 - وحتى سليمان ، مع هذه القوة التي كانت له ، كم خنقت أمواجُ ملكه أنفاسَه !
لقد كان يشعر بالشفقة على كلّ ملوك الدنيا ، حين يتراكم فوقه - من الملك - غبار الهمّ .
فشفع لهم قائلًا : “ ربّ هبْ هذا الملك ، ولكنْ هبْ معه الكمال الذي منحتني إيّاه !
فكلّ من وهبته وتفضّلت عليه بهذا الكرم فهو سليمان ، وأنا أيضاً ذات هذا الرجل .
فهو لن يكون بعدي وإنما معي . ومن ذا الذي يكون معي ؟
إنّه أنا بلا منازع “ .
2615 - إنّ شرح هذا واجب عليّ، ولكن هأنذا أعود إلى قصة الأعرابي وامرأته.
مغزى ما جرى بين الأعرابيّ وامرأته
إنّ الذي جرى بين الأعرابي وامرأته ، لذو مغزى يبحث عنه قلب المخلص .
لقد جاء - عن طريق النقل - ما جرى بينهما . فاعلم أنّ ( في تلك القصة ) مثلًا لفنسك وعقلك .
..........................................................
( 1 ) المقصود بالروائح والألوان مباهج الدنيا ومفاتنها .
“ 337 “
فهذه المرأة وهذا الرجل نَفْس وعقل ، وكلاهما ضروريّ لإظهار الخير من الشرّ .
إنّ هذين الواجبي الوجود في هذا العالم الترابيّ يتحاربان ويتنازعان إبّان النهار وفي الليل .
2620 - إنّ المرأة تريد حاجة المنزل، يعني الأبهّة “ 1 “ والخبز والخوان والجاه.
فالنَفْس مثل المرأة ، تنشد التراب “ 2 “ حيناً ، وتنشد المجد حيناً آخر ، لكي تحقّق مآربها .
وأما العقل فليس بمدرك لتلك الأفكار ، وليس في معدنه غير خوف اللَّه.
فإذا كان سرّ القصة هذه الحبّة وهذا الشرك “ 3 “ فاستمع الآن إلى صورة هذه القصة كلها !
فلو كان البيان المعنويّ كافياً ، لكان خلق العالم باطلًا عاطلًا !
2625 - ولو أنّ المحبّة لم تكن إلا فكراً ومعنى ، فلا ( جدوى من ) صورة صومك وصلاتك .
والهدايا التي يتبادلها الأحباب للتعبير عن محبّتهم ليست إلا صوراً .
ذلك لأنها تقدّم الدليل على المحبّة المحتجبة في الخفاء .
فالحسنات الظاهرة - أيّها الفاضل ! - شواهد على عواطف الحبّ المستتر .
وشاهدك قد يكون صادقاً في وقت ، وكاذباً في وقت آخر ، ومرة يكون ثملًا بالخمر ، وأخرى باللبن المخض .
2630 - فشارب المخيض يتظاهر بالسكر ، فيصيح صياح السكارى ، ويتراءى مثقل الرأس . .
...............................................................
( 1 ) ماء الوجه في البيت كناية عن الأبَّهة .
( 2 ) تطلب المادة .
( 3 ) فتنة النفس للعقل .
“ 338 “
فهذا المرائي ( يغالي ) في الصيام والصلاة ، حتى يُظنّ أنّه سكران بولائه ( لربّه ) !
وصفوة القول أنّ ظاهر الأفعال مختلف ( عن باطنها ) ، وجدوى ( الظاهر ) أنّه دليل على ما استتر ( في الباطن ) .
فيا ربّ ! هبنا ذلك التمييز - كما نريد - لنقدر على التمييز بين ما استقام من الأدلّة وما اعوجّ !
وهل تعلم متى يصبح الحسّ تمييزاً ؟ إنه كذلك حينما ينظر بنور اللَّه ؟
2635- وإذا لم يكن الأثر ( ظاهراً ) فإنّ السبب يظهره ، ومثال ذلك القربى ، فهي مخبرة عن المحبّة .
وإذا حلّ نور اللَّه في حواسّك ، فإنك لا تكون عبداً للأثر ولا لسبب .
فإذا ما أورت المحبّة شعلتها في الباطن ، عظم الإنسان ، إذ أنها تريح خاطره من الآثار .
فلا تكون له حاجة إلى علامات الحبّ ، ما دام الحبّ قد غمر بنوره أفقه .
ولهذا الكلام تفصيلات تكمله ، ففتّش أنت عنها ، والسلام .
2640 - وأما من رأى ذلك المعنى في هذه الصورة ، فإنّ الصورة قريبة من المعنى ، بعيدة عنه !
إنّهما في الدلالة مثل الماء والشجرة ، ولكنّك إذا اتجهت إلى الماهيّة فهما متباعدان غاية البعد “ 1 “ .
فلتقل بترك الماهيّات والخصائص ، ولتشرح لنا أحوال هذين المليحين “ 2 “ !
...............................................................
( 1 ) إنهما في الدلالة متقاربان في الظاهر تقارب الماء من الشجرة التي يمر بباطنها ، ولكنهما متباعدان في الماهية كالعبد بين الماء والشجرة في ماهية كل منهما .
( 2 ) المليحان هنا هما الأعرابي وزوجه .
“ 339 “
كيف وجّه الأعرابيّ قلبه لتحقيق ملتمس حبيبته
وكيف أقسم أن ليس في تسليمه حيلة أو امتحان
قال الأعرابيّ : “ الآن قد أقلعتُ عن الخلاف ، والحكم لك ، فلتسحبي السيف من غمده !
وإني لمطيع أمرك في كل ما تأمرين به ، وولن أنظر فيما قد ينجم عن ذلك من شر أو خير .
2645 - لسوف أصبح في وجودك عدماً ، فما دمتُ مُحبّاً فالحب يعمي ويصّم !
“ فقالت الزوجة : “ يا للعجب ! أأنت حبيبي ؟ أم أنك بحيلة تكشف سرّي ؟ “ .
فقال الأعرابيّ : “ واللَّه عالم السرّ الخفيّ ، الذي خلق من التراب آدم صفيا ،
وفي جسم وهبه إياه ، حجمه ثلاثة أذرع ، أظهر كلّ ما كمن في الألواح والأرواح !
فعلمّ آدمُ ( الملائكة ) - في البدء - ما يكون إلى الأبد ، بما اقتبسه من علم إلهيّ “ 1 “ .
2650 - فانتشت من تعليمه الملائكة ، ووجدت في تقديسه ( للَّه ) لوناً آخر من التقديس .
فتلك الكشوف التي جلاها آدم للملائكة ما كانت لتتسع لها رحابُ السماوات الفساح .
لقد ضاقت عرصات السماوات السبع أمام سعة مجال هذا الروح الطاهر .
...............................................................
( 1 ) حرفياً : “ بما علمه ربه من الأسماء “ . إشارة إلى الآية الكريمة : “ وعلم آدم الأسماء “ . ( البقرة ، 2 : 31 ) .
“ 340 “
ولقد روى الرسول عن الحقّ أنه قال ( ما معناه ) : “ إنني لا يسعني وعاء العلوّ والانخفاض ،
ولا تسعني الأرض ولا السماء بل ولا العرش “ ، فاعلم ذلك أيها العزيز !
2655 - “ ولكنّ قلب المؤمن يتسّع لي ، فإذا كنت تبحث عني فاطلبني في قلوب المؤمنين “ “ 1 “ .
قال أدخل في عبادي تلتقي * جنّة من رؤيتي يا متقي “ 2 “إن العرش على نوره واتساعه - حين رأى ( روح ) آدم - تخلى عن مكانه .
فما أعظم ضخامة العرش بداته ! ولكنْ ما الصورة إذا جاء المعنى ؟
وقالت الملائكة لآدم : “ لقد كانت لنا ألفة ( بك ) وأنت في تراب الأرض !
2660 - فكم غرسنا بذور الخدمة في الأرض ، وكنا نعجب لتعلّقنا بها .
فما ذا كان تعلقنا بهذا التراب ، ما دمنا نحن قد فُطرنا من السماء ؟
وماذا كان إلفنا نحن الأنوار بالظلمات ؟ وكيف يستطيع النور أن يعيش منع الظلمات ؟
يا آدم ! إن شذاك كان مبعثاً لهذا الإلف ، لأنّ الأرض كانت لجسمك سدى ولحمة .
فمنها نُسجَ جسمُك الترابيّ ، وفيها نورك الطاهر .
2665 - فهذا النور الذي وجدته أرواحنُا في روحك ، كان في أول الأمر يشعّ من التراب .
لقد كنا في الأرض ، وكنا غافلين عنها ! كنا غافلين عن الكنز الذي اختبأ فيها !
...............................................................
( 1 ) النص العربي للحديث القدسي هو : “ ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي الورع “ .
( 2 ) هذا البيت عربيّ في الأصل .
“ 341 “
وحينما أُمرنا بالسفر من هذا المقام ، صارت أفواهنا مرة من جرّاء هذا الانتقال .
فأخذنا بخادل قائلين : “ يا ربّنا ! من ذا الذي سيحتلّ مكاننا ؟
أتبيع نور تسبيحنا وتهليلنا من أجل قيل وقال ؟ !
2670 - إن حكم الحقّ كان قد بسط لنا بساط ( الرحمة ) قائلًا : “ تكلمّوا وانطلقوا في الحديث !
وقولوا كلّ ما يرد على ألسنتكم من غير حذر ، كما ( يفعل ) الطفل الوحيد مع أبيه .
وماذا لو كانت أقوالكم هذه غيره لائقة ؟ إن رحمتي لسابقة على غضبي .
ولكي أظهر لك هذا السبق - أيها الملك - أودعت فيك أسباباً للحيرة والشك .
وهكذا تتكلم ، بدون أن أحسابك على قولك . فلا يستطيع منكرُ حلمي أنْ ينبس بكلمة !
2675 - وإن مائة أب ومائة أم لتولد من حلمنا في كلّ لحظة ، ثم تختفي !
وما حلم هؤلاء إلا زبد من بحر حلمنا . فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما البحر فدائم البقاء “ .
فماذا أقول ؟ إن هذا الصدف “ 1 “ أمام هذا الدرّ “ 2 “ ليس إلا زبداً لزبد الزبد !
فبحقّ هذا الزبد ! بل بحقّ ذلك البحر الصافي ! إن قولي هذا ليس امتحاناً ، وليس هراء “ 3 “ .
بل إنه من صميم الحبّ والصفاء والخضوع ! أقسم لك بمن إليه مآبي .
...............................................................
( 1 ) حلم الانسان .
( 2 ) حلم اللَّه .
( 3 ) الحديث هنا على لسان الأعرابي يخاطب امرأته .
“ 342 “
2680 - فإذا كان هذا الوله قد بدا لك امتحاناً ، فلتختبري هذا الامتحان لحظة واحدة .
واكشفي سرّك ، لكي ينكشف لك سريّ ، ومريني بكل ما أنا قادرُ عليه .
وأزيحي الحجاب عن قلبك ، يتجلّ لك قلبي ، فأتقبل ما أنا قابل له !
كيف أعمل ؟ وأية حيلة في يدي ؟ ألا فلتنظري أيّ عبء تحتمله روحي “ 1
كيف عيّنت المراة لزوجها طريق طلب الرزق وكيف تقبّل الرجل ذلك منها
فقالت المرأة : إنّ شمساً واحدة قد أشرقت فاكتسب النورَ منها عالمُ بأسره .
2685 - ونائب الرحمن ، خليفة اللَّه ، به ازدهرت مدينة بغداد ، فكأنه الربيع .
فإذا اتصلت بهذا المَلك ، أصبحت مَلكا ! ( وإلا ) ، فإلى متى تسعب وراء كلّ إدبار ؟
إنّ مجالسة السعداء مثل الكيمياء ! بل أين هي الكيمياء التي تشبه نظرة ( إقبالهم ) !
ولقد تلقى أبو بكر نظرة من الرسول ، وبالتصديق مرة واحدة أصبح صدّيقاً !
..............................................................
( 1 ) تأملي المدى الذي يمكن أن تطيقه روحي في تحمل الأعباء ، ولا تكلفيني ما لا طاقة لي به .
“ 343 “
فقال الزوج : “ وكيف أصبح مقبولًا عند الملك ؟ وكيف أذهب إليه من غير حجة أتذرّع بها ؟
2690 - فلا بدّ لي من ذريعة أو حيلة . وهل استقامت حرفة قطّ بدون آلة ؟
( إنّني ) كالمجنون الذي سمع من شخص أنّ ليلى قد ألمّ بها مرض طفيف .
فقال : “ أوّاه ! كيف أذهب إليها بدون عذر أتذرّع به ؟
وإذا تخلفت عن عيادتها فكيف يكون حالي ؟
ليتني كنت طبيباً حاذقاً * كنت أمشي نحو ليلى سابقاً “ 1 “
ولقد خاطبنا الحقُّ تعالى بقوله :قُلْ تَعالَوْا . . ““ 2 “ ليكون إشارة لنا نتغلّب بها على حيائنا .
2695 - ولو كان للوطواط بصر ووسيلة ، لطار بالنهار وحسن حاله .
فقالت الزوجة : “ إنّ ملك الملوك حين ينزل إلى الميدان ، يصبح كل عجز آلة ووسيلة !
ذلك لأن الآلة إدّعاء و ( تأكيد ) للوجود الذاتيّ ، ونجاحُ ( العمل ) يتحقّق عند الافتقار والتواضع “ “ 3 “ .
فقال الأعرابي : “ وكيف ألتمس الربح من انعدام وسائلي ، إذا لم أظهر أَنَّني عديم الوسائل ؟
...............................................................
( 1 ) هذا البيت عربىّ في الأصل .
( 2 ) في البيت إشارة إلى قوله تعالى :
“ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم “ . ( الأنعام ، 6 : 151 ) . ويريد الشاعر أن دعوة اللَّه العباد للاستماع إلى قوله هي الإشارة التي تجعلهم يتغلبّون على الحياء الذي قد يستولي عليهم في حضرة اللَّه .
( 3 ) ليس تأكيد الإنسان لذاته وأعماله وسيلة التقرب إلى اللَّه عند الصوفيّة ، وإنما التقرّب عندهم بالتوكل على اللَّه أي الإيمان بأنَّه لا يتمّ أمر بدون إرادته ، فالتوكل عندهم يؤدي إلى إفناء الإرادة الإنسانية في الإرادة الإلهية ، وهذا هو التواضع ، وهو الذي يؤدي إلى نجاح المقاصد ، لأنّ الإرادة الإلهية لا تهدف إلا إلى الخير .
“ 344 “
فلا بدّ لي من شاهد ( أمام الملك ) على إفلاسي ، حتى يشفق علّي في فاقتي .
2700 - فلتكشفي لي عن شاهد غير القيل والقال ، وظاهر الحال ، فلعله يستدر رحمة الملك الجليل .
فالشهادة - التي لا تزيد على الكلام والمظهر - كانت دائماً مجرحة عند ذلك القاضي الأكبر .
إنّه يريد ممن ( يقف بساحته ) أنْ يكون الصدق شاهداً على حاله ، فيشعّ نورُه من غير ( حاجة ) لمقاله “ .
كيف حمل الأعرابيّ إبريقاً ملينأ بماء المطر من قلب البادية إلى بغداد هدية إلى أمير المؤمنين ظانّا أنّ تلك المدينة أيضاً تعاني قحطاً في الماء
فقالت المرأة : “ إنّ الصدق أنّ الإنسان - بجهده - ينطلق من وجوده انطلاقاً كاملًا .
إن لدنيا ماء مطر بالإبريق ، وهو ملكك ، ورأس مالك ووسيلتك .
2705 - فاحمل هذا الإبريق وانطلق ! اتّخذه هدّية ، وأمثل أمام ملك الملوك !
وقل له : “ إنّنا نمتلك من الأسباب غير هذا .
وليس في المفازة شيء قط أحسن من الماء .
فمع أنّ خزائنه مليئة بالذهب والجوهر ، فإنّه لا يجد ماء كهذا ، فهو نادر الوجود ! “ .
فما هذا الكوز ؟ إنّه جسدنا المحدود ، وبه ماء حواسنا الملح !
“ 345 “
فيّارب ! تقبّل إبريقناً وكوزنا بفضلك ( الذي يشير إليه قولك ) :
” إنَّ اللَّهَ اشْتَرى منَ الْمُؤْمنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ““ 1 “ .
2710 - إنّ لإبريقنا أنابيب ، هي الحواس الخمس ، ( فيا ربّ ) احفظ ماء إبريقنا من كلّ نجس !
حتى يكون لإبريقنا هذا منفذُ إلى البحر ، وحتى يتخذ إبريقُنا صفة البحر .
فإذا ما حملته هديّة إلى السلطان يراه نظيفاً ، ويكون له مشتريا .
فيصبح ماؤه بعد ذلك بلا حدود ، ويمتلئ من كوزنا مائة عالم !
ألا فلتغلق أنابيبه ، ولتملأه من وعاء ( الحقيقة ) . لقد أمرنا الحقّ أن نغضّ الأبصار عن الهوى “ 2 “ .
2715 - فانتفشت لحية الأعرابي بريح الغرور . فمن ذا الذي لديه مثل هذه الهدية ؟ إنها بحق لائقة بمثل هذا المليك !
ولم تدر الزوجة أن هناك على الطريق ( في بغداد ) نهراً مثل جيحون ، حلواً كالسكر .
يجري كالبحر في وسط المدنية ، وقد حفل بالزوارق وشباك الصيادين .
فلتذهب إلى السلطان ، ولتشهد أبهته وجلاله ، ولتجرب الإحساس ( بالحقيقة في قوله ) :” تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهارُ “ *” 3 “ .
...............................................................
( 1 ) ( سورة التوبة ، 9 : 111 ) .
( 2 ) إشارة إلى قوله تعالى : “ قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ، إنّ اللَّه خبير بما يصنعون “ .
( سورة النور ، 24 : 30 ) .
( 3 ) وردت هذه العبارة في كثير من آيات القرآن . ومنها قوله تعالى : “ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار “ . ( سورة البروج ، 85 : 11 . )
“ 346 “
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin