“ 423 “
وحينما استفسر لقمان عن سبب الغضب ، أطلق لسانه ، بالقول معاتباً سيده .
3590 - فقال : “ يا سيدي ! إن العبد الخائن أمام اللَّه ، لا يكون ممن يشملهم رضاه .
فلتمتحنا جميعاً أيها السيد الكريم ! ( اسقنا ) ما يملؤنا من الماء الحميم .
وبعد ذلك مرنا بالجري في مرج واسع ، ولتكن أنت راكباً ونحن على الأقدام .
ثم انظر بعد ذلك إلى من ساء عمله ! وتأمل صنيع كاشف الأسرار ! فسقى السيد غلمانه ماء جميعاً ، شربوه خوفاً منه .
3595 ثم ساقهم - بعد ذلك - فوق المروج ، فانطلقوا مسرعين بين المزارع .
فأخذوا يقيئون من العناء ، وأخرج الماء الفاكهة من بطونهم .
وبينما كان لقمان يقيء من صميم جوفه “ 1 “ ، لم يكن يخرج من بطنه سوى الماء الصافي .
فإذا كان لقمان - بحكمته - يعلم كيف يكشف هذا ، فماذا تكون حكمة ربّ الوجود ؟يوم تبلى السرائر كلها * بان منكم كامنُ لا يشتهى “ 2 “
3600 إذ سُقوا ماء جميماً قُطعَّتْ * جملةُ الأستار مما أفظعت “ 3 “إن النار جاءت عذاباً للكافرين ، لأنها الفصيل في امتحان الأحجار .
وقلبنا الحجري هذا ، كم حدّثناه بلطف فلم يقبل النصح منا !
...............................................................
( 1 ) حرفياً : من سرته .
( 2 ) هذا البيت عربي في الأصل ، وفيه اقتباس من قوله تعالى : “ يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر “ . ( الطارق ، 86 : 9 - 10 ) .
( 3 ) البيت عربي في الأصل ، فيما عدا كلمة “ چون “ التي وردت بأوله ، وقد وضعنا مكانها “ إذ “ ( وفي البيت اقتباس من قوله تعالى “ وسقوا ماء حميماً فقطَّع أمعاءهم “ . ( محمد ، 47 : 15 ) .
“ 424 “
إن الجرح إذا خبث لقي العرقُ علاجاً كئيباً . وليس يليق بأنياب الكلب إلا رأس الحمار .
فما أحكم قوله تعالى :” الْخَبيثاتُ للْخَبيثينَ ““ 1 “ ، ذلك لأن أهل القبح بعضهم لبعض مجانس وقرين .
3605 - فاذهب واقترن بمن تشاء ، وامح ( وجودك ) لتصبح على صورة الحبيب وصفاته !
فإن كنت تريد النور فاجعل نفسك لائقة بالنور ! وإن كنت تريد العبد فكن مغرورا وابتعد !
وإن كنت تريد مخرجاً من هذا السجن الخرب ، فلا تحول رأسك عن الحبيب ،” وَاسْجُدْ وَاقْتَربْ ““ 2 “ .
بقية قصة زيد وما أجاب به الرسول عليه السلام
إن هذا الكلام لا نهاية له ، “ فانهض يا زيد ، وضع قيداً على برُاق نطقك .
فالنطق إذ قد جاء فاضحاً للعيب - فإن من شأنه أن يمزق حجب الغيب “ 3 “ .
3610 - إن الحق يريد الغيب بعض الوقت ، فلتبعد قارع الطبل هذا ، ولتغلق الطريق !
لا تندفع ! واجذب العنان ، فالستر أجمل ! وخير لكل امرئ أن يسعد بخياله .
...............................................................
( 1 ) ( النور ، 24 : 26 ) .
( 2 ) ( العلق ، 96 : 19 ) .
( 3 ) ما دام النطق من طبيعة أن يكشف ، وهو لا يتورع عن كشف العيوب ، فكيف يتورع عن كشف أسرار الغيب ؟
“ 425 “
إن الحق يريد ألا يحوّل القانطون وجوههم عن عبادته .
فهم بأملهم في اللَّه يشرفون ، وهم بذلك يجرون بضعة أيام في ركابه .
إنه يريد أن تشرق هذه الرحمة على الجميع ، على الأخيار والأشرار وذلك لشمول رحمته .
3615 - إنه يريد أن يكون كل أمير وأسير راجياً خائفاً حذراً .
وهذا الرجاء ، وهذا الخوف ، يكونان من وراء حجاب ، حتى يعظما وراء ذلك الحجاب .
فإذا مزقت الحجاب ، فأين الخوف والرجاء ؟ فالغيب هو الذي يعود إليه الكرّ والفرّ والابتلاء “ .
إن أحد الفتيان كان على شاطىء نهر ، فخطر له ظن ( جعله يقول ) : “ ها هو ذا سليمان يصيد لنا السمك !
فإن كان سليمان ، فلماذا هو مستخف منفرد ؟ وإن لم يكن هو ، فما هذا الشبه بينه وبين سليمان ؟ “ .
3620 - ولقد ظل في هذا التفكر ( موزعاً بين ) قلبين ، حتى أصبح سليمان ملكاً قائماً بالملك .
فذهب الشيطان ، وفر من ملك سليمان وعرشه ، وأراق سيف جد سليمان دم هذا الشيطان .
ووضع سليمان الخاتم حول إصبعه ، فتجمع جيش الشياطين والجن .
وأقبل الرجال ناظرين ، وكان بينهم ذلك الفتى صاحب الخيال .
فحينما فتح سليمان كفه ، رأى الفتى خاتمه، فذهب عنه - في الحال - تفكره وتحريه.
3625 - إن الخوف يكون حيث يكون الحجاب ، وهذا التحري إنما يكون ( لكشف ) ما استتر .
لقد تضخم في صدره خيال الغائب ، فلما أصبح الغائب حاضراً مضى هذا الخيال .
“ 426 “
فإن كانت سماء النور لا تخو من المطر ، فكذلك الأرض المظلمة لا تخلو من الخضرة .
فلا بدّ لي من عباد” يُؤْمنُونَ بالْغَيْب ““ 1 “ ، ذلك لأنني قد أغلقت نافذة هذا العالم الفاني .
فلو أنني فتحتها ، كما ( أفتحها ) يوم البعث ، فكيف أقول :” هَلْ تَرى منْ فُطُورٍ ““ 2 “ .
3630 - ( إنها مغلقة ) لكي يتحرى الناس ( الصواب ) في هذه الظلمة ، وليتوجه كل منهم إلى أحد الجوانب .
فتظل الأمور معكوسة مدة من الزمان ، ويعلق اللصوص رجال الشرطة فوق المشانق .
ويصبح كثيرون من السلاطين ، وأُولي الهم ، عبيداً لعبيدهم مدة من الزمان .
إن الخضوع للغائب جميل ( واللَّه ) يستحسن حفظ الغيب من عابديه “ 3 “ .
فإين من يمدح السلطان في حضوره ، ممن يكون وجهه ذا حياء منه في غيابه !
3635 - إن قائد القلعة التي تكون على أطراف المملكة - وهو بعيد عن السلطان ، وظل السلطنة
- يحافظ على القلعة من الأعداء ، ولا يبيعها بالمال الذي لا حدّ له .
...............................................................
( 1 ) الإيمان بالغيب من صفات المتقين . قال تعالى في سورة البقرة : “ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة “ . ( 2 : 2 ، 3 ) .
( 2 ) اقتباس من القرآن الكريم ( سورة الملك ) . قال تعالى : “ الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور “ . ( 67 : 3 ) .
( 3 ) يستحسن من عابديه مراعاتهم حقه وعبادته رغم أنهم لا يرونه .
“ 427 “
إنه غائب عن الملك إلى جانب الثغور ، لكنه يحفظ له عهد الوفاء كأنه حاضر معه .
فهو - عند الملك - خير من الآخرين الماثلين بحضرته ، يقدمون له أرواحهم .
فنصف ذرة من حفظ حق المخدوم في غيبته ، خير من مراعاة ذلك مائة ألف مرة في حضوره .
3640 - فالطاعة الآن محمودة ، وكذلك الإيمان ، وأما بعد الموت - حين تتكشف الأمور - فهما مردودان .
ولما كان الغيب والغائب والحجاب هي الأفضل . فأغلق فمك ، فالصمت خير لنا .
أيها الأخ ! لتُحجمن عن الكلام ، فاللَّه ذاته هو الذي يكشف لنا علمه اللدنيّ .
إن وجه الشمس لشاهد بيّن ( على وجودها ) . فأي شيء أعظم لو كان الشاهد هو اللَّه “ 1 “ ؟
بل إنني لمتكلم ، ما دام اللَّه والملائكة والعلماء هم قرنائي في الإبانة عن ذلك .
3645 - يشهد اللَّه والملك وأهل العلوم أنه لا رب إلا من يدوم “ 2 “ وإذا شهد الحق فمن تكون الملائكة ؟ وماذا يكون اشتراكها في الشهادة ؟
إن ذلك لأن التماع الشمس وشهادتها البيّنة ، لا تطيق مواجهتها العيونُ الواهية ، ولا القلوبُ الخربة .
...............................................................
( 1 ) في ذلك إشارة إلى قوله تعالى : “ قل أي شيء أكبر شهادة قل اللَّه شهيد بيني وبينكم “ . ( الأنعام ، 6 : 19 ) .
( 2 ) في البيت اقتباس من الآية الكريمة : “ شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو الغزيز الحكيم “. (آل عمران ، 3 : 17) .
“ 428 “
فهؤلاء مثل خفاش ، لا يطيق حرارة الشمس ، فيقطع الأمل .
فلتعلم أن الملائكة أيضاً رفقاء مثلنا ، شاهدون على الشمس فوق السماء .
3650 - يقولون : “ لقد قبسنا هذا الضياء من الشمس ، وأشرقنا به كما يشرق الخليفة على الضعفاء “ .
فالهلال الجديد ، وذو الأيام السبع ، والبدر ، كل منها يمثل رتبة ملك في النور والقدر .
ولكل ملك شعاع وفق رتبته ، ( ينبعث ) من أجنحة نورية ، ( مثنى ) وثلاث ورباع “ 1 “ .
فهذه مثل أجنحة عقول البشر ، التي يكثر التفاوت بينها .
ولهذا فإن قرين كل إنسان في الخير أو الشر ، هو هذا الملك الذي يكون مساوياً له في القدر .
3655 - والأعمش الذي لا يطيق نور البدر ، تشرق عليه النجوم لتهديه السبيل “ 2 “ .
كيف قال الرسول لزيد : “ لا تزد هذا السر إفشاء
وكن حريصاً على المتابعة “
قال الرسول : “ إن أصحابي نجوم “ 3 “ ! إنهم شموع للمسالكين ، ورجوم للشيطان ! “
...............................................................
( 1 ) قال تعالى : “ الحمد للَّه فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلًا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء إن اللَّه على كل شيء قدير “ . ( فاطر ، 35 : 1 ) .
( 2 ) كل يأخذ من النور على قدر ما يطيق بصره . وهكذا العلم ، كل يأخذ منه القدر الذي يطيقه قلبه وعقله .
( 3 ) نص الحديث هو : “ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم “ .
“ 429 “
فلو كان لكل إنسان هذه العين وتلك القوة ، التي بها يقتبس النور من شمس الفلك ،
لما كانت هناك حاجة إلى القمر ، ولا إلى النجوم ، التي جاءت كالشهود على الشمس .
إن القمر يقول للتراب ، وللسحب والظلال : “ إنني بشر ! إنني مثلكم ( لكنه ) يوحى إليّ “ 1 “ !
3660 - لقد كنت مثلكم مظلم الطبيعة ، ولكن وحي الشمس منحني هذا النور .
إنني مظلم بالقياس إلى الشموس ، لكن لديّ نوراً من أجل ظلمات النفوس .
إنني ضعيف ( النور ) لتستطيع اقتباس النور مني ، فإنك لست بأهل للشمس المشرقة .
لقد صُنعتُ كما يُصنع مزيج الشهد ، والخل . وذلك لكي أجد سبيلي إلى علة الكبد “.
فإذا ما خلصت من العلة - يا من كنت رهناً لها فدع الخل واجعل غذاءك من الشهد.
3665 - وإذا أصبح تخت قلبك عامراً ، طاهراً من الهوى ، فاقراً عليه :” الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْش اسْتَوى ““ 2 “ .
وحينما تتحقق للقلب تلك الرابطة ، فإن اللَّه يحكمه حكماً مباشراً لا وساطة فيه .
وهذا الحديث لا نهاية له ، فإين زيد لأقدم له النصح بألا يسعى إلى فضح المستور .
...............................................................
( 1 ) في البيت اقتباس من القرآن الكريم . قال تعالى : “ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد “ . ( الكهف ، 18 : 110 ) .
( 2 ) ( طه ، 20 : 5 ) .
“ 430 “
وحينما استفسر لقمان عن سبب الغضب ، أطلق لسانه ، بالقول معاتباً سيده .
3590 - فقال : “ يا سيدي ! إن العبد الخائن أمام اللَّه ، لا يكون ممن يشملهم رضاه .
فلتمتحنا جميعاً أيها السيد الكريم ! ( اسقنا ) ما يملؤنا من الماء الحميم .
وبعد ذلك مرنا بالجري في مرج واسع ، ولتكن أنت راكباً ونحن على الأقدام .
ثم انظر بعد ذلك إلى من ساء عمله ! وتأمل صنيع كاشف الأسرار ! فسقى السيد غلمانه ماء جميعاً ، شربوه خوفاً منه .
3595 ثم ساقهم - بعد ذلك - فوق المروج ، فانطلقوا مسرعين بين المزارع .
فأخذوا يقيئون من العناء ، وأخرج الماء الفاكهة من بطونهم .
وبينما كان لقمان يقيء من صميم جوفه “ 1 “ ، لم يكن يخرج من بطنه سوى الماء الصافي .
فإذا كان لقمان - بحكمته - يعلم كيف يكشف هذا ، فماذا تكون حكمة ربّ الوجود ؟يوم تبلى السرائر كلها * بان منكم كامنُ لا يشتهى “ 2 “
3600 إذ سُقوا ماء جميماً قُطعَّتْ * جملةُ الأستار مما أفظعت “ 3 “إن النار جاءت عذاباً للكافرين ، لأنها الفصيل في امتحان الأحجار .
وقلبنا الحجري هذا ، كم حدّثناه بلطف فلم يقبل النصح منا !
...............................................................
( 1 ) حرفياً : من سرته .
( 2 ) هذا البيت عربي في الأصل ، وفيه اقتباس من قوله تعالى : “ يوم تبلى السرائر ، فما له من قوة ولا ناصر “ . ( الطارق ، 86 : 9 - 10 ) .
( 3 ) البيت عربي في الأصل ، فيما عدا كلمة “ چون “ التي وردت بأوله ، وقد وضعنا مكانها “ إذ “ ( وفي البيت اقتباس من قوله تعالى “ وسقوا ماء حميماً فقطَّع أمعاءهم “ . ( محمد ، 47 : 15 ) .
“ 424 “
إن الجرح إذا خبث لقي العرقُ علاجاً كئيباً . وليس يليق بأنياب الكلب إلا رأس الحمار .
فما أحكم قوله تعالى :” الْخَبيثاتُ للْخَبيثينَ ““ 1 “ ، ذلك لأن أهل القبح بعضهم لبعض مجانس وقرين .
3605 - فاذهب واقترن بمن تشاء ، وامح ( وجودك ) لتصبح على صورة الحبيب وصفاته !
فإن كنت تريد النور فاجعل نفسك لائقة بالنور ! وإن كنت تريد العبد فكن مغرورا وابتعد !
وإن كنت تريد مخرجاً من هذا السجن الخرب ، فلا تحول رأسك عن الحبيب ،” وَاسْجُدْ وَاقْتَربْ ““ 2 “ .
بقية قصة زيد وما أجاب به الرسول عليه السلام
إن هذا الكلام لا نهاية له ، “ فانهض يا زيد ، وضع قيداً على برُاق نطقك .
فالنطق إذ قد جاء فاضحاً للعيب - فإن من شأنه أن يمزق حجب الغيب “ 3 “ .
3610 - إن الحق يريد الغيب بعض الوقت ، فلتبعد قارع الطبل هذا ، ولتغلق الطريق !
لا تندفع ! واجذب العنان ، فالستر أجمل ! وخير لكل امرئ أن يسعد بخياله .
...............................................................
( 1 ) ( النور ، 24 : 26 ) .
( 2 ) ( العلق ، 96 : 19 ) .
( 3 ) ما دام النطق من طبيعة أن يكشف ، وهو لا يتورع عن كشف العيوب ، فكيف يتورع عن كشف أسرار الغيب ؟
“ 425 “
إن الحق يريد ألا يحوّل القانطون وجوههم عن عبادته .
فهم بأملهم في اللَّه يشرفون ، وهم بذلك يجرون بضعة أيام في ركابه .
إنه يريد أن تشرق هذه الرحمة على الجميع ، على الأخيار والأشرار وذلك لشمول رحمته .
3615 - إنه يريد أن يكون كل أمير وأسير راجياً خائفاً حذراً .
وهذا الرجاء ، وهذا الخوف ، يكونان من وراء حجاب ، حتى يعظما وراء ذلك الحجاب .
فإذا مزقت الحجاب ، فأين الخوف والرجاء ؟ فالغيب هو الذي يعود إليه الكرّ والفرّ والابتلاء “ .
إن أحد الفتيان كان على شاطىء نهر ، فخطر له ظن ( جعله يقول ) : “ ها هو ذا سليمان يصيد لنا السمك !
فإن كان سليمان ، فلماذا هو مستخف منفرد ؟ وإن لم يكن هو ، فما هذا الشبه بينه وبين سليمان ؟ “ .
3620 - ولقد ظل في هذا التفكر ( موزعاً بين ) قلبين ، حتى أصبح سليمان ملكاً قائماً بالملك .
فذهب الشيطان ، وفر من ملك سليمان وعرشه ، وأراق سيف جد سليمان دم هذا الشيطان .
ووضع سليمان الخاتم حول إصبعه ، فتجمع جيش الشياطين والجن .
وأقبل الرجال ناظرين ، وكان بينهم ذلك الفتى صاحب الخيال .
فحينما فتح سليمان كفه ، رأى الفتى خاتمه، فذهب عنه - في الحال - تفكره وتحريه.
3625 - إن الخوف يكون حيث يكون الحجاب ، وهذا التحري إنما يكون ( لكشف ) ما استتر .
لقد تضخم في صدره خيال الغائب ، فلما أصبح الغائب حاضراً مضى هذا الخيال .
“ 426 “
فإن كانت سماء النور لا تخو من المطر ، فكذلك الأرض المظلمة لا تخلو من الخضرة .
فلا بدّ لي من عباد” يُؤْمنُونَ بالْغَيْب ““ 1 “ ، ذلك لأنني قد أغلقت نافذة هذا العالم الفاني .
فلو أنني فتحتها ، كما ( أفتحها ) يوم البعث ، فكيف أقول :” هَلْ تَرى منْ فُطُورٍ ““ 2 “ .
3630 - ( إنها مغلقة ) لكي يتحرى الناس ( الصواب ) في هذه الظلمة ، وليتوجه كل منهم إلى أحد الجوانب .
فتظل الأمور معكوسة مدة من الزمان ، ويعلق اللصوص رجال الشرطة فوق المشانق .
ويصبح كثيرون من السلاطين ، وأُولي الهم ، عبيداً لعبيدهم مدة من الزمان .
إن الخضوع للغائب جميل ( واللَّه ) يستحسن حفظ الغيب من عابديه “ 3 “ .
فإين من يمدح السلطان في حضوره ، ممن يكون وجهه ذا حياء منه في غيابه !
3635 - إن قائد القلعة التي تكون على أطراف المملكة - وهو بعيد عن السلطان ، وظل السلطنة
- يحافظ على القلعة من الأعداء ، ولا يبيعها بالمال الذي لا حدّ له .
...............................................................
( 1 ) الإيمان بالغيب من صفات المتقين . قال تعالى في سورة البقرة : “ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة “ . ( 2 : 2 ، 3 ) .
( 2 ) اقتباس من القرآن الكريم ( سورة الملك ) . قال تعالى : “ الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور “ . ( 67 : 3 ) .
( 3 ) يستحسن من عابديه مراعاتهم حقه وعبادته رغم أنهم لا يرونه .
“ 427 “
إنه غائب عن الملك إلى جانب الثغور ، لكنه يحفظ له عهد الوفاء كأنه حاضر معه .
فهو - عند الملك - خير من الآخرين الماثلين بحضرته ، يقدمون له أرواحهم .
فنصف ذرة من حفظ حق المخدوم في غيبته ، خير من مراعاة ذلك مائة ألف مرة في حضوره .
3640 - فالطاعة الآن محمودة ، وكذلك الإيمان ، وأما بعد الموت - حين تتكشف الأمور - فهما مردودان .
ولما كان الغيب والغائب والحجاب هي الأفضل . فأغلق فمك ، فالصمت خير لنا .
أيها الأخ ! لتُحجمن عن الكلام ، فاللَّه ذاته هو الذي يكشف لنا علمه اللدنيّ .
إن وجه الشمس لشاهد بيّن ( على وجودها ) . فأي شيء أعظم لو كان الشاهد هو اللَّه “ 1 “ ؟
بل إنني لمتكلم ، ما دام اللَّه والملائكة والعلماء هم قرنائي في الإبانة عن ذلك .
3645 - يشهد اللَّه والملك وأهل العلوم أنه لا رب إلا من يدوم “ 2 “ وإذا شهد الحق فمن تكون الملائكة ؟ وماذا يكون اشتراكها في الشهادة ؟
إن ذلك لأن التماع الشمس وشهادتها البيّنة ، لا تطيق مواجهتها العيونُ الواهية ، ولا القلوبُ الخربة .
...............................................................
( 1 ) في ذلك إشارة إلى قوله تعالى : “ قل أي شيء أكبر شهادة قل اللَّه شهيد بيني وبينكم “ . ( الأنعام ، 6 : 19 ) .
( 2 ) في البيت اقتباس من الآية الكريمة : “ شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو الغزيز الحكيم “. (آل عمران ، 3 : 17) .
“ 428 “
فهؤلاء مثل خفاش ، لا يطيق حرارة الشمس ، فيقطع الأمل .
فلتعلم أن الملائكة أيضاً رفقاء مثلنا ، شاهدون على الشمس فوق السماء .
3650 - يقولون : “ لقد قبسنا هذا الضياء من الشمس ، وأشرقنا به كما يشرق الخليفة على الضعفاء “ .
فالهلال الجديد ، وذو الأيام السبع ، والبدر ، كل منها يمثل رتبة ملك في النور والقدر .
ولكل ملك شعاع وفق رتبته ، ( ينبعث ) من أجنحة نورية ، ( مثنى ) وثلاث ورباع “ 1 “ .
فهذه مثل أجنحة عقول البشر ، التي يكثر التفاوت بينها .
ولهذا فإن قرين كل إنسان في الخير أو الشر ، هو هذا الملك الذي يكون مساوياً له في القدر .
3655 - والأعمش الذي لا يطيق نور البدر ، تشرق عليه النجوم لتهديه السبيل “ 2 “ .
كيف قال الرسول لزيد : “ لا تزد هذا السر إفشاء
وكن حريصاً على المتابعة “
قال الرسول : “ إن أصحابي نجوم “ 3 “ ! إنهم شموع للمسالكين ، ورجوم للشيطان ! “
...............................................................
( 1 ) قال تعالى : “ الحمد للَّه فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلًا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء إن اللَّه على كل شيء قدير “ . ( فاطر ، 35 : 1 ) .
( 2 ) كل يأخذ من النور على قدر ما يطيق بصره . وهكذا العلم ، كل يأخذ منه القدر الذي يطيقه قلبه وعقله .
( 3 ) نص الحديث هو : “ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم “ .
“ 429 “
فلو كان لكل إنسان هذه العين وتلك القوة ، التي بها يقتبس النور من شمس الفلك ،
لما كانت هناك حاجة إلى القمر ، ولا إلى النجوم ، التي جاءت كالشهود على الشمس .
إن القمر يقول للتراب ، وللسحب والظلال : “ إنني بشر ! إنني مثلكم ( لكنه ) يوحى إليّ “ 1 “ !
3660 - لقد كنت مثلكم مظلم الطبيعة ، ولكن وحي الشمس منحني هذا النور .
إنني مظلم بالقياس إلى الشموس ، لكن لديّ نوراً من أجل ظلمات النفوس .
إنني ضعيف ( النور ) لتستطيع اقتباس النور مني ، فإنك لست بأهل للشمس المشرقة .
لقد صُنعتُ كما يُصنع مزيج الشهد ، والخل . وذلك لكي أجد سبيلي إلى علة الكبد “.
فإذا ما خلصت من العلة - يا من كنت رهناً لها فدع الخل واجعل غذاءك من الشهد.
3665 - وإذا أصبح تخت قلبك عامراً ، طاهراً من الهوى ، فاقراً عليه :” الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْش اسْتَوى ““ 2 “ .
وحينما تتحقق للقلب تلك الرابطة ، فإن اللَّه يحكمه حكماً مباشراً لا وساطة فيه .
وهذا الحديث لا نهاية له ، فإين زيد لأقدم له النصح بألا يسعى إلى فضح المستور .
...............................................................
( 1 ) في البيت اقتباس من القرآن الكريم . قال تعالى : “ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد “ . ( الكهف ، 18 : 110 ) .
( 2 ) ( طه ، 20 : 5 ) .
“ 430 “
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin