بعرش ربي بارزاً ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعادون فيها . قال : أبصرت فالزم عبد ، أي أنت عبد بذر اللَّه الإيمان في قلبه . قال : فقلت ادع اللَّه لي بالشهادة ، فدعا رسول اللَّه بذلك “ .
(علي برهان الدين الحلبي : السيرة الحلبية ، ج 2 ، ص 180 ، 181 . القاهرة ) .
( 3512 ) وأما قبل البعث ، فإن حقيقة الروح لا تكون معروفة ، فحالها في الدنيا يخفى على عامة الخلق .
( 3515 ) جميع أرواح الغابرين - في فترة الانتقال بين الموت والبعث - تستقبل الأرواح التي تنطلق من الأجساد .
( 3519 ) ما دام الإنسان نزيلًا لهذه الحياة الدنيا ، فإن أكثر الناس لا يعرفون طبيعة روحه ، ولا مكانها من الخير والشر ، ذلك لأن القادرين على مثل هذا التمييز قلة نادرة . فالروح في الجسم كالجنين قبل الوضع .
( 3520 ) هذه القلة النادرة من الناس هم الذين أوتوا الفراسة ، ويروي الصوفية أن الرسول أشار إليها بقوله : “ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه “ “ 1 “ . ( انظر السراج : اللمع ، ص 171 ) .
( 3533 ) “ حُفَر النفاق السبع - كما أجمع شراح المثنوي - تعبير عن سبع من الخصال القبيحة ، يقابل كل منها باباً من أبواب الجحيم السبعة .
وهذه الخصال - كما يقول صاحب المنهج القوي - هي الشرك باللَّه ، والسحر ، قتل النفس التي حرّم اللَّه إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات . ( المنهج القوي ، ج 1 ، ص 640 ) . وهذا - بطبيعة الحال - اجتهاد . ولا يمكن الجزم بأن الشاعر قصد هذه الخصال أو سواها بالذات . ومما يسند هذا الشرح ما ذكره المفسرون في بيان أبواب جهنم السبعة .
...............................................................
( 1 ) هذا الحديث كثير الورود في كتب الصوفية . وقد أخرجه الترمذي والطبراني .
“ 609 “
( 3552 ) قوله : “ إن كان التجلي قد جعل من صدرك طور سيناء “ .
معناه “ إن كان صدرك قد شهد من التجلي ما شهده موسى حين تجلى له الخالق في طور سيناء “ .
( 3553 - 3554 ) هل يستطيع إنسان أن يطوي قلبه على ما تكشف له من نور اليقين ؟ إن هذا النور ليبدد القلب الذي يطويه ، وليس يفنع في إيقاف ذلك جنون ولا عقل .
( 3555 - 3556 ) إن اللَّه يحجب عن الناس الكثير من الأسرار ، وفي ذلك خيرهم . فهم لا يعلمون آجالهم . ولا يعرفون كنه مصيرهم يوم الحساب ، وبذلك يعيشون على أمل الغفران والثواب . وهذا الستر الإلهي دليل على أن اللَّه أراد لعباد ذلك . فعلى العباد أيضاً ألا يبوحوا بما يُكشف لهم من الأسرار الغيبية . وكما أن الإنسان قادر على الستر الحسي ، فهو كذلك قادر على الستر المعنوي . فهو يحجب الشمس أو القمر بطرف إصبعه . وهو أيضاً قادر على أن يحجب أسرار القلب بشيء من الإرادة وضبط النفس .
( 3558 ) لقد فضل اللَّه الإنسان على كافة مخلوقاته . فهذا البحر الشاسع البعيد الأعماق طوع حكمة . أفلا تكون نفسه طوع حكمه ؟
( 3559 - 3561 ) وكما سُخرّت للإنسان مخلوقات هذه الحياة الدنيا ، كذلك سُخرّت له ينابيع الجنة وأنهارها ، يجريها كما يشاء ، فتعنو لمراده .
( 3562 ) ينتقل الشاعر هنا من الحديث عن الإنسان ، وسيطرته على سائر المخلوقات ، إلى الحديث عن القلب ، وسيطرته على جوارح الإنسان وملكاته .
( 3566 - 3575 ) يتحدث الشاعر هنا عن سيطرة القلب على الأعضاء والملكات الإنسانية . وهذا موضوع كتب عنه الغزالي ، وشبه القلب بملك له في الكيان الإنساني جنود وأعوان تطيع أمره .
قال : “ وللقلب جندان ، جند يُرى بالأبصار ، وجند لا يرى إلا بالبصائر . وهو في حكم الملك والجنود في حكم الخدم والأعوان . فهذا معنى الجند . فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة ، فإن جميعها
“ 610 “
خادمة للقلب ومسخرّة له . فهو المتصرف فيها والمردد لها . وقد خُلقت مجبولة على طاعته ، لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً . فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت ، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم . وكذلك سائر الأعضاء “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 5 ) .
وانتقل الغزالي من الحديث عن الأعضاء إلى الحديث عن قوى الإنسان وملكاته ، فقال : “ فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف صنف باعث ومستحث . . . وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة .
والثاني هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويُعبر عن هذا الثاني بالقدرة : وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء ، لا سيما العضلات منها والأونار .
والثالث هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة ، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك .
ومع كل واحد من هذا الجنود الباطنة جنود ظاهرة ، هي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أُعدت آلات لهذه الجنود . فقوة البطش إنما هي بالأصابع ، وقوة البصر إنما هي بالعين ، وكذا سائر القوى “ .
(المصدر السابق ، ص 6 ) .
( 3571 ) “ اليد الخفية “ التي تحرك اليد الظاهرة هي القلب .
( 3576 ) الحواس الخمس الباطنية هي : الحس المشترك ، والتخيل والتفكر والتذكر والحفظ . ( الغزالي : الإحياء ، ج 3 ، ص 6 ) .
( 3578 ) أيها القلب ، ما دمت تملك هذه القوة ، فلتكن قوياً صامداً لما يطرق بابك من الهواجس ، قديراً على الاحتفاظ بنقائك وطهرك . وليكن لك من سلطانك ما تقهر به وساوس الشيطان ، وتقصيها عن ساحتك .
( 3584 - 3597 ) القصة التي حكاها الشاعر عن لقمان وردت بإيجاز في قصص الأنبياء للثعلبي ( ص 393 ) . قال : “ أخبرنا أبو عبد اللَّه الحسين الدينوري عن عكرمة قال : كان لقمان أهون مملوك على سيده . قال : فبعثه مولاه مع
“ 611 “
رفقة إلى بستان له ليأتوه بشيء من ثمره . فجاءوا وليس معهم شيء ، وقد أكلوا الثمرة وأحالوا على لقمان . فقال لمولاه : إن ذا الوجهين لا يكون عند اللَّه أميناً .
فاسقني وإياهم ماء جميماً ، ثم أرسلنا لنقذفه . ففعل فجعلوا يتقيئون الفاكهة وجعل لقمان يتقياً ماء نقياً فعرف صدقه من كذبهم “ .
( 3599 ) في يوم الحساب ، يوم تُبلى السرائر ، لا يبقى هناك سر لا ينكشف أمام الخالق ، فحينذاك يتضح العيب الذي كان الإنسان يحسب أنه قد نجا منه ، بعد أن استطاع إخفاء في الدنيا .
[ شرح من بيت 3600 إلى 3750 ]
( 3600 ) لعل هذا البيت العربي محرّف . فالشطر الثاني منه لا يكاد يرتبط بأوله . ولعل الصواب أن نضع كلمة “ الأحشاء “ أو “ الأمعاء “ بدلًا من “ الأستار “ فيكون المعنى مقتبساً من الآية القرآنية المشار إليها وهي :” وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ “( 47 : 15 ) . ويجوز أن يفهم البيت على أساس أن الماء كشف سرهم فمزّق أستار النفاق ، وأظهر ما كانت تخفيه .
( 3601 ) وصف اللَّه قلوب العصاة من بني إسرائيل بقوله :” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً “. ( البقرة ، 2 : 74 ) .
ولما كانت قلوب الكفار كالحجارة ، فقد استحقت عذاب النار . ذلك لأن النار هي الفيصل في امتحان الأحجار .
( 3610 ) إن اللَّه أراد أن يكون هناك غيب محجّب ، طيلة بقاء هذه الدنيا ، فلا تهتف بإعلان ما تكشف لك من الغيب ، ولا تفتح هذا الباب .
( 3611 ) لا تندفع بإعلان السر . وتحكم في قلبك ولسانك . فالستر في هذه الدنيا أجمل . وخير لكل امرئ أن يسعد بما يتخيله عن حقيقة حاله .
( 3612 ) فقد يؤدي كشف حقيقة الحال بالنسبة لبعض الناس إلى قنوط هؤلاء من رحمة اللَّه ، وانصرافهم عن عبادته .
( 3616 ) الحجاب يزيد المهابة بالنسبة لأهل هذه الدنيا . فيجب أن تظل حقائق العالم الغيبي خافية عليهم لتزداد مهابة الغيب في نفوسهم .
( 3617 ) الشريعة تستشير في قلوب الناس الخوف والرجاء ، وعالم الغيب
“ 612 “
المحجّب عن الأنظار هو الذي يجعل الناس يتحركون في مختلف الاتجاهات ، رجاء وخوفاً . وهو الذي يكون الإيمان به ابتلاء للعباد ، ومحكاً لمعرفة مدى تصديق أرواحهم لما بُلغوا من رسالات السماء .
( 3618 - 3624 ) يشير الشاعر هنا إلى قصة سليمان حين سرق أحد الشياطين خاتمه فضاع بذلك ملكه ، وأصبح فقيراً ضعيفاً ، يحمل للصيادين السمك من البحر إلى السوق لقاء سمكتين ، كان يأكل إحدا هما ويبيع الأخرى .
وقد ظل في هذه المحنة أربعين يوماً ، وذات يوم شق سمكة ليتعشى بها فوجد خاتمه في جوفها . وكان هذا الخاتم قد سقط من الشيطان في البحر ، فابتلعته هذه السمكة . وما أن وضع سليمان خاتمه حول إصبعه حتى عاد إليه ملكه . وقد رُويت هذه القصة بصور عديدة ذكر بعضها الثعلبي ( قصص الأنبياء ، 360 - 365 ) .
وقد ترّدد ذكرها في تفسير قوله تعالى :” وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ “. ( ص ، 38 : 34 ) .
ويم يرد في أيّ من الروايات التي اطلعت عليها إشارة إلى الفتى الذي ذكر الشاعر أنه رأى سليمان يصيد السمك على شاطىء البحر ، فحار في أمره ، وساءل نفسه : “ أهذا سليمان العظيم يصيد السمك ؟ وإن لم يكن هو فما هذا الشبه بينه وبين سليمان ؟ “ ، حتى إذا عاد لسليمان ملكه شهده على عرشه فانقلب الظن عنده إلى يقين .
ومغزى القصة أن هناك من الغيب ما يتحرى الإنسان عنه ، فيهتدي - في نهاية الأمر - إلى حقيقتة ، ويصبح ظنه يقيناً . فسليمان على شاطىء البحر كان وهماً في خيال الفتى . وسليمان على عرشه - والخاتم في إصبعه - كان يقيناً لا شك فيه .
( 3625 ) وردت في إحدى نسخ المثنوي كلمة “ وهم “ بدلًا من “ باك “ ، ومعناها الخوف . فتكون ترجمة البيت “ إن الوهم يكون حيث يكون الحجاب . . . “ ( 3627 ) إن الخيال مشتق من الحقيقة . فالسماء قد تبدو خالية من المطر ،
“ 613 “
ولكن المطر يكون كامناً فيها . والأرض قد تبدو خالية من الخضرة ، ولكن الخضرة كامنة في طبيعتها . فالخيال هنا جزء من اليقين .
( 3628 ) عامة الخلق في الدنيا لا يطلعون على الغيب ، ذلك لأن اللَّه حجبه عنهم . فلا بد لهم من الإيمان بالغيب ، لكي يصدقوا رسل اللَّه . وإن لم يفعوا ذلك فلا مجال لهذا التصديق .
( 3629 ) لو أنني فتحت أمام الخلق نوافذ في السماء يطلون منها على الغيب ، لما كنت أخاطبهم قائلًا :” الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ “. ( 67 : 3 ) . فعالم الغيب محتجب عن شهود الخلق حتى يوم البعث .
( 3630 ) وهذا الحجاب إنما جعل لامتحان الخلق . وقد جعلهم هذا الحجاب في ظلمة ، لا يعرف أي منهم ، ما خُبىء له ، فهم يعيشون في الدنيا بين الخوف والرجاء ، ومنهم من يهتدي ويسلك سواء السبيل ، ومنهم من يضلّ وينحرف عن الجادة .
( 3631 ) وفي هذه الحياة الدنيا تنعكس الأمور ويعلّق اللصوص رجال الشرطة على المشانق . وقد يكون اللصوص هنا رمزاً للجلاء ، ورجال الشرطة رمزاً للعارفين . وربما يكون الشاعر هنا يشير إلى واقعة محددة من وقائع اضطهاد الصوفية كمصرع الحلاج .
( 3632 ) تنعكس القيم في هذه الدنيا ، ويسود الجهلاء ، ويذلون العارفين والحكماء .
( 3634 ) أين من يعبد اللَّه بعد أن يلقاه ، ممن يعبده خاشعاً في هذه الدنيا ، قبل أن يراه ؟ فمثل هذا يستحي من اللَّه لأنه عرفه ، “ والمعرفة توجب الحياء والتعظيم “ . ( القشيري ، ص 142 ) .
( 3635 - 3636 ) مثل الوفاء للسلطان ممن يكون بعيداً عنه ، كمثل الإخلاص للَّه في الدنيا ، وقبل ملاقاته في الدار الآخرة . فحافظ الثغر يرعى
“ 614 “
(علي برهان الدين الحلبي : السيرة الحلبية ، ج 2 ، ص 180 ، 181 . القاهرة ) .
( 3512 ) وأما قبل البعث ، فإن حقيقة الروح لا تكون معروفة ، فحالها في الدنيا يخفى على عامة الخلق .
( 3515 ) جميع أرواح الغابرين - في فترة الانتقال بين الموت والبعث - تستقبل الأرواح التي تنطلق من الأجساد .
( 3519 ) ما دام الإنسان نزيلًا لهذه الحياة الدنيا ، فإن أكثر الناس لا يعرفون طبيعة روحه ، ولا مكانها من الخير والشر ، ذلك لأن القادرين على مثل هذا التمييز قلة نادرة . فالروح في الجسم كالجنين قبل الوضع .
( 3520 ) هذه القلة النادرة من الناس هم الذين أوتوا الفراسة ، ويروي الصوفية أن الرسول أشار إليها بقوله : “ اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه “ “ 1 “ . ( انظر السراج : اللمع ، ص 171 ) .
( 3533 ) “ حُفَر النفاق السبع - كما أجمع شراح المثنوي - تعبير عن سبع من الخصال القبيحة ، يقابل كل منها باباً من أبواب الجحيم السبعة .
وهذه الخصال - كما يقول صاحب المنهج القوي - هي الشرك باللَّه ، والسحر ، قتل النفس التي حرّم اللَّه إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات . ( المنهج القوي ، ج 1 ، ص 640 ) . وهذا - بطبيعة الحال - اجتهاد . ولا يمكن الجزم بأن الشاعر قصد هذه الخصال أو سواها بالذات . ومما يسند هذا الشرح ما ذكره المفسرون في بيان أبواب جهنم السبعة .
...............................................................
( 1 ) هذا الحديث كثير الورود في كتب الصوفية . وقد أخرجه الترمذي والطبراني .
“ 609 “
( 3552 ) قوله : “ إن كان التجلي قد جعل من صدرك طور سيناء “ .
معناه “ إن كان صدرك قد شهد من التجلي ما شهده موسى حين تجلى له الخالق في طور سيناء “ .
( 3553 - 3554 ) هل يستطيع إنسان أن يطوي قلبه على ما تكشف له من نور اليقين ؟ إن هذا النور ليبدد القلب الذي يطويه ، وليس يفنع في إيقاف ذلك جنون ولا عقل .
( 3555 - 3556 ) إن اللَّه يحجب عن الناس الكثير من الأسرار ، وفي ذلك خيرهم . فهم لا يعلمون آجالهم . ولا يعرفون كنه مصيرهم يوم الحساب ، وبذلك يعيشون على أمل الغفران والثواب . وهذا الستر الإلهي دليل على أن اللَّه أراد لعباد ذلك . فعلى العباد أيضاً ألا يبوحوا بما يُكشف لهم من الأسرار الغيبية . وكما أن الإنسان قادر على الستر الحسي ، فهو كذلك قادر على الستر المعنوي . فهو يحجب الشمس أو القمر بطرف إصبعه . وهو أيضاً قادر على أن يحجب أسرار القلب بشيء من الإرادة وضبط النفس .
( 3558 ) لقد فضل اللَّه الإنسان على كافة مخلوقاته . فهذا البحر الشاسع البعيد الأعماق طوع حكمة . أفلا تكون نفسه طوع حكمه ؟
( 3559 - 3561 ) وكما سُخرّت للإنسان مخلوقات هذه الحياة الدنيا ، كذلك سُخرّت له ينابيع الجنة وأنهارها ، يجريها كما يشاء ، فتعنو لمراده .
( 3562 ) ينتقل الشاعر هنا من الحديث عن الإنسان ، وسيطرته على سائر المخلوقات ، إلى الحديث عن القلب ، وسيطرته على جوارح الإنسان وملكاته .
( 3566 - 3575 ) يتحدث الشاعر هنا عن سيطرة القلب على الأعضاء والملكات الإنسانية . وهذا موضوع كتب عنه الغزالي ، وشبه القلب بملك له في الكيان الإنساني جنود وأعوان تطيع أمره .
قال : “ وللقلب جندان ، جند يُرى بالأبصار ، وجند لا يرى إلا بالبصائر . وهو في حكم الملك والجنود في حكم الخدم والأعوان . فهذا معنى الجند . فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة ، فإن جميعها
“ 610 “
خادمة للقلب ومسخرّة له . فهو المتصرف فيها والمردد لها . وقد خُلقت مجبولة على طاعته ، لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً . فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت ، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم . وكذلك سائر الأعضاء “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 5 ) .
وانتقل الغزالي من الحديث عن الأعضاء إلى الحديث عن قوى الإنسان وملكاته ، فقال : “ فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف صنف باعث ومستحث . . . وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة .
والثاني هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد ويُعبر عن هذا الثاني بالقدرة : وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء ، لا سيما العضلات منها والأونار .
والثالث هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس وهي قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة ، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك .
ومع كل واحد من هذا الجنود الباطنة جنود ظاهرة ، هي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أُعدت آلات لهذه الجنود . فقوة البطش إنما هي بالأصابع ، وقوة البصر إنما هي بالعين ، وكذا سائر القوى “ .
(المصدر السابق ، ص 6 ) .
( 3571 ) “ اليد الخفية “ التي تحرك اليد الظاهرة هي القلب .
( 3576 ) الحواس الخمس الباطنية هي : الحس المشترك ، والتخيل والتفكر والتذكر والحفظ . ( الغزالي : الإحياء ، ج 3 ، ص 6 ) .
( 3578 ) أيها القلب ، ما دمت تملك هذه القوة ، فلتكن قوياً صامداً لما يطرق بابك من الهواجس ، قديراً على الاحتفاظ بنقائك وطهرك . وليكن لك من سلطانك ما تقهر به وساوس الشيطان ، وتقصيها عن ساحتك .
( 3584 - 3597 ) القصة التي حكاها الشاعر عن لقمان وردت بإيجاز في قصص الأنبياء للثعلبي ( ص 393 ) . قال : “ أخبرنا أبو عبد اللَّه الحسين الدينوري عن عكرمة قال : كان لقمان أهون مملوك على سيده . قال : فبعثه مولاه مع
“ 611 “
رفقة إلى بستان له ليأتوه بشيء من ثمره . فجاءوا وليس معهم شيء ، وقد أكلوا الثمرة وأحالوا على لقمان . فقال لمولاه : إن ذا الوجهين لا يكون عند اللَّه أميناً .
فاسقني وإياهم ماء جميماً ، ثم أرسلنا لنقذفه . ففعل فجعلوا يتقيئون الفاكهة وجعل لقمان يتقياً ماء نقياً فعرف صدقه من كذبهم “ .
( 3599 ) في يوم الحساب ، يوم تُبلى السرائر ، لا يبقى هناك سر لا ينكشف أمام الخالق ، فحينذاك يتضح العيب الذي كان الإنسان يحسب أنه قد نجا منه ، بعد أن استطاع إخفاء في الدنيا .
[ شرح من بيت 3600 إلى 3750 ]
( 3600 ) لعل هذا البيت العربي محرّف . فالشطر الثاني منه لا يكاد يرتبط بأوله . ولعل الصواب أن نضع كلمة “ الأحشاء “ أو “ الأمعاء “ بدلًا من “ الأستار “ فيكون المعنى مقتبساً من الآية القرآنية المشار إليها وهي :” وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ “( 47 : 15 ) . ويجوز أن يفهم البيت على أساس أن الماء كشف سرهم فمزّق أستار النفاق ، وأظهر ما كانت تخفيه .
( 3601 ) وصف اللَّه قلوب العصاة من بني إسرائيل بقوله :” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً “. ( البقرة ، 2 : 74 ) .
ولما كانت قلوب الكفار كالحجارة ، فقد استحقت عذاب النار . ذلك لأن النار هي الفيصل في امتحان الأحجار .
( 3610 ) إن اللَّه أراد أن يكون هناك غيب محجّب ، طيلة بقاء هذه الدنيا ، فلا تهتف بإعلان ما تكشف لك من الغيب ، ولا تفتح هذا الباب .
( 3611 ) لا تندفع بإعلان السر . وتحكم في قلبك ولسانك . فالستر في هذه الدنيا أجمل . وخير لكل امرئ أن يسعد بما يتخيله عن حقيقة حاله .
( 3612 ) فقد يؤدي كشف حقيقة الحال بالنسبة لبعض الناس إلى قنوط هؤلاء من رحمة اللَّه ، وانصرافهم عن عبادته .
( 3616 ) الحجاب يزيد المهابة بالنسبة لأهل هذه الدنيا . فيجب أن تظل حقائق العالم الغيبي خافية عليهم لتزداد مهابة الغيب في نفوسهم .
( 3617 ) الشريعة تستشير في قلوب الناس الخوف والرجاء ، وعالم الغيب
“ 612 “
المحجّب عن الأنظار هو الذي يجعل الناس يتحركون في مختلف الاتجاهات ، رجاء وخوفاً . وهو الذي يكون الإيمان به ابتلاء للعباد ، ومحكاً لمعرفة مدى تصديق أرواحهم لما بُلغوا من رسالات السماء .
( 3618 - 3624 ) يشير الشاعر هنا إلى قصة سليمان حين سرق أحد الشياطين خاتمه فضاع بذلك ملكه ، وأصبح فقيراً ضعيفاً ، يحمل للصيادين السمك من البحر إلى السوق لقاء سمكتين ، كان يأكل إحدا هما ويبيع الأخرى .
وقد ظل في هذه المحنة أربعين يوماً ، وذات يوم شق سمكة ليتعشى بها فوجد خاتمه في جوفها . وكان هذا الخاتم قد سقط من الشيطان في البحر ، فابتلعته هذه السمكة . وما أن وضع سليمان خاتمه حول إصبعه حتى عاد إليه ملكه . وقد رُويت هذه القصة بصور عديدة ذكر بعضها الثعلبي ( قصص الأنبياء ، 360 - 365 ) .
وقد ترّدد ذكرها في تفسير قوله تعالى :” وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ “. ( ص ، 38 : 34 ) .
ويم يرد في أيّ من الروايات التي اطلعت عليها إشارة إلى الفتى الذي ذكر الشاعر أنه رأى سليمان يصيد السمك على شاطىء البحر ، فحار في أمره ، وساءل نفسه : “ أهذا سليمان العظيم يصيد السمك ؟ وإن لم يكن هو فما هذا الشبه بينه وبين سليمان ؟ “ ، حتى إذا عاد لسليمان ملكه شهده على عرشه فانقلب الظن عنده إلى يقين .
ومغزى القصة أن هناك من الغيب ما يتحرى الإنسان عنه ، فيهتدي - في نهاية الأمر - إلى حقيقتة ، ويصبح ظنه يقيناً . فسليمان على شاطىء البحر كان وهماً في خيال الفتى . وسليمان على عرشه - والخاتم في إصبعه - كان يقيناً لا شك فيه .
( 3625 ) وردت في إحدى نسخ المثنوي كلمة “ وهم “ بدلًا من “ باك “ ، ومعناها الخوف . فتكون ترجمة البيت “ إن الوهم يكون حيث يكون الحجاب . . . “ ( 3627 ) إن الخيال مشتق من الحقيقة . فالسماء قد تبدو خالية من المطر ،
“ 613 “
ولكن المطر يكون كامناً فيها . والأرض قد تبدو خالية من الخضرة ، ولكن الخضرة كامنة في طبيعتها . فالخيال هنا جزء من اليقين .
( 3628 ) عامة الخلق في الدنيا لا يطلعون على الغيب ، ذلك لأن اللَّه حجبه عنهم . فلا بد لهم من الإيمان بالغيب ، لكي يصدقوا رسل اللَّه . وإن لم يفعوا ذلك فلا مجال لهذا التصديق .
( 3629 ) لو أنني فتحت أمام الخلق نوافذ في السماء يطلون منها على الغيب ، لما كنت أخاطبهم قائلًا :” الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ “. ( 67 : 3 ) . فعالم الغيب محتجب عن شهود الخلق حتى يوم البعث .
( 3630 ) وهذا الحجاب إنما جعل لامتحان الخلق . وقد جعلهم هذا الحجاب في ظلمة ، لا يعرف أي منهم ، ما خُبىء له ، فهم يعيشون في الدنيا بين الخوف والرجاء ، ومنهم من يهتدي ويسلك سواء السبيل ، ومنهم من يضلّ وينحرف عن الجادة .
( 3631 ) وفي هذه الحياة الدنيا تنعكس الأمور ويعلّق اللصوص رجال الشرطة على المشانق . وقد يكون اللصوص هنا رمزاً للجلاء ، ورجال الشرطة رمزاً للعارفين . وربما يكون الشاعر هنا يشير إلى واقعة محددة من وقائع اضطهاد الصوفية كمصرع الحلاج .
( 3632 ) تنعكس القيم في هذه الدنيا ، ويسود الجهلاء ، ويذلون العارفين والحكماء .
( 3634 ) أين من يعبد اللَّه بعد أن يلقاه ، ممن يعبده خاشعاً في هذه الدنيا ، قبل أن يراه ؟ فمثل هذا يستحي من اللَّه لأنه عرفه ، “ والمعرفة توجب الحياء والتعظيم “ . ( القشيري ، ص 142 ) .
( 3635 - 3636 ) مثل الوفاء للسلطان ممن يكون بعيداً عنه ، كمثل الإخلاص للَّه في الدنيا ، وقبل ملاقاته في الدار الآخرة . فحافظ الثغر يرعى
“ 614 “
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin