وصل وتنبيه لمن له لبّ نبيه
اعلم :
أن هذه العلوم ليست مما تدرك بالعلل والمنى ، ولا وصلها الرجال بالهوينا والقصور ، بل جدّوا واجتهدوا ولم يفتروا نهارا ، ولا ناموا ليلا ، ولا سحبوا ذيلا .
آذانهم مصمتة ، وألسنتهم صامتة ، واعتزال دائم ، وفكر حاضر ملازم ، رداؤهم الحياء والسكينة ، والوقار مئزرهم في حضرة الأسرار ، هذه حالتهم آناء الليل وأطراف النهار .
ولا سبيل أن يقف على هذه الإشارات إلّا أربابها . وهي أمانة بيدك ، يا من حصلت بيده . فإن كان من أهلها حصل له مراده ، وإن كان من غير أهلها فليبحث عن أربابها وأهلها ، واللّه تعالى يقول :إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها[ النساء : 58 ] .
وكل شيء لم تفهمه ، ولم يبلغ به علمك ، ولم يتصرف فيه عقلك ، فهو أمانة بيدك ، واللّه تعالى يكرمك بنور البصائر ، ويصلح السرائر ، ويصفّي الضمائر ، ويلحق الإماء بالحرائر ، إنه الملئ بذلك والقادر عليه .
فصل قال السالك أشّهدني الحق الأنهار وقال لي تأمّل وقوعها
قال السالك :
أشّهدني الحق الأنهار ، وقال لي : تأمّل وقوعها .
فرأيتها تقع في أربعة أبحر .
الواحد : يرمى في بحر الأرواح .
والثاني يرمى في بحر الخطاب .
والنهر الثالث : يرمى في بحر الشكر .
والنهر الرابع : يرمى في بحر الحب .
ويتفرع من هذه الأنهر الأربعة أربعة .
ويتفجر من ذلك البحر المحيط ثم يرجع إليه بعد الامتزاج بهذه الأبحر الأربعة .
فقال لي :
هذا البحر المحيط . . يجري ، لكن ادعت السواحل أنها لها ، فمن رأى البحر المحيط قبل الأبحر والأنهار ثم الأبحر فذلك صدّيق .
ومن شاهده دفعة واحدة فذلك شهيد .
كما أن من شاهد الأنهار ، ثم الأبحر ، فذلكم صاحب دليل .
ومن شاهد الأبحر ، ثم الأنهار ، ثم البحر ، فذلك صاحب آفات ، لكنه ناج .
ثم قال :
من كان من أهل عنايتي أنشأت له مركبا ، فجرى به في الأنهار ، فإذا رمت به في الأبحر جرى فيها حتى ينتهي إلى البحر المحيط .
فإذا انتهى إليه علم الحقائق ، وكشف الأسرار ، وإلى هذا البحر ينتهي المقربون .
ثم قال :
فالمؤمن به صدّقه وانصرف ، والعالم قام له البرهان فأقرّ بصدقه واعترف ، والجاهل نظر فيه وانحرف ، والشاكّ تحيّر وتوقف ، والظّان تخيّل وما عرف ، والناظر يطلع ويتشوف ، والمقلد مع كل صنف تعرّف .
فصل قال السالك فلقيت بالجدول المعين
قال السالك :
فلقيت بالجدول المعين ، وينبوع أرين فتى روحاني الذات ، وربّانيّ الصفات ، فقلت : أين تريد ؟
قال :
أرسلت إلى المشرقين ، إلى مطلع النيّرين ، إلى موضع القدمين ثم أنشدني وحيّرني :
فلا تنظر بطرفك نحو جسمي .... وعدّ عن التّنعّم بالمغاني
وغص في بحر ذات الذّات تبصر .... عجائب ما تبدّت للعيان
وأسرار تراءت مبهمات .... مستّرة بأرواح المعاني
فمن فهم الإشارة فليصنها .... وإلّا سوف يقتل بالسّنان
ثم قال :
لا يعرف كلامي إلّا من رقى مقامي .
قلت : أين تريد ؟
قال : أريد مدينة الرسول في طلب المقام الأزهر ، والكبريت الأحمر .
فقال لي : يا طالب مثلي أما سمعت قولي :
يا طالبا لطريق السّرّ تقصده .... ارجع وراك ففيك السّرّ والسّكن
ثم قال :
بينك وبين المطلوب أيّها السّر اللطيف ثلاثة حجب من لطيف وكثيف .
الحجاب الأول : مكلل بالياقوت الأحمر ، وهو الأول عند أهل التحقيق .
والآخر : مكلل بالياقوت الأصفر ، وهو الثاني الذي عليه أهل التفريق .
والثالث : مكلل بالياقوت الأكهب، وهو الثالث الذي اعتمد عليه أهل البرازخ في الطريق.
فاصحب الرفاق ، وجب الآفاق ، واعمل الركاب ، واقطع البيان ، وامتط اليعملات ، ومز نشاط الذاريات ، واركب البحار ، واخترق الحجب والأستار ، في هذا السر الشريف .
واعلم :
أن الاسم يدل على المسمى ، والكل فيك فاقنع بما يكفيك ، وامسك عما لا يعنيك .
ثم أنشد بعدما أرشد :
فانظر إلى الحكمة مجهولة .... غطّى عليها شفعنا السّاتر
وأظهر الحكمة منثورة .... العالم الثّابت ، والدّاثر
صلّى عليه اللّه من واحد .... نور على أرواحنا باهر
ما طلع البدر وشمس الضّحى .... وانتظم الأوّل والآخر
فصل قال السالك فبينما أنا نائم وسر وجودي متهجد قائم
قال السالك :
فبينما أنا نائم ، وسر وجودي متهجد قائم ، جاءني رسول التوفيق ، يهديني سواء الطريق ، ومعه براق الإخلاص عليه لبد الفوز ولجام الخلاص ، فكشف عن سقف محلى ثم زج بي من صفاة الصفا في الهوا فسقط عن منكبي رداء الهوى ، وأوتيت بالخمر واللبن .
فشربت اللبن ميراث تمام تمكين ، وتركت الخمر حذار أن أكشف السر بالسكر فيضل من يقفو أثري . ولو أوتيت بالماء بدلها لشربت الماء .
فإن خلاصة التمكين في قوله تعالى :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ( 107 ) [ الأنبياء : 107 ] .
وأمّا لو كان الشراب عسلا ، ما اتخذ أحد الشريعة قبلا ، لسرّ خفي في النحل ، فيه هلاك القلوب بالمحل .
قال السالك :
فارتفعت الهمة لطلبه ، وبادرت لاختراق حجب هوَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [ النور : 26 ] ، إليكموها ساعدكم السعد صفقة رابحة ، وحالة مباركة صالحة .
فرؤياه جلّا ، وفقده عمّا ، ثم قام عجلا ،
وأنشد مرتجلا :
غرست لكم غصن الأمانة يانعا .... وإنّي لجّاني بعده ثمر الغرس
تولّعت بالتّبليغ لمّا تبيّنت .... أمور تعرقيتي عن الإنس والأنس
ورحت وقد أبدت بروقي وميضها .... وجزت بحار الغيب في مركب الحسّ
ونمت وما نامت جفوني غديّة .... وتهت بلا تيه على الجنّ والإنس
فيا نفس هذا الحقّ لاح وجوده .... فإيّاك والإنكار يا نفس يا نفس
يالعزم العزم ، وأسأل اللّه العون ، ما دمت مدبر الكون ، فطال واللّه ما أنهكتني المشقة ، وقطع بي بعد الشقة ، وهذه وصيتي .
فاعلم دللتك بها على الطريق الأرفق فالزم ، والسر الذي في زمزم هو لما شرب له فالزم .
قال السالك :
كان ما كان فهو مصروف إليكم ، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ( 8 )[ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
ثم قال : هيهات أين الكرم من الإيثار ؟
الكرم سيادة ، والإيثار عبادة . الكرم مع الرئاسة ، والإيثار مع الخصاصة .
ثم قال : يا بني اقصد باب مولاك إلى ما إليه ناداك محبك ومولاك .
قال : يا سيدي هل تعرف لهذا الباب مفتاحا .
قال : أي والعليم الفتاح .
رأيت البيت مقفولا .... لسر السر قد ملكا
سألت اللّه يفتحه * فقال : بمن ؟ فقلت بك
قالت : ناولنيه .
قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
قلت له : قد عرفت حقيقة مكانه ، فزدني في نعته وبيانه .
قال : له أربعة أسنان ، أتقنها الحكيم الرحمن .
فيها أربع حركات تحوي جميع البركات .
فإذا فعلت ما ذكرته لك وأحكمته فزت بالمفتاح وملكته . فالق أيها الطالب بالك ، أصلح اللّه حالك .
حافظ على العلوم اللدنية والأسرار الإلهية ، وإياك وإفشاء سر الربوبية . أجل القلوب ، وجاهد النفوس ، اجمع بين الظاهر والباطن ، يتضح لك الراحل والقاطن وتأمل السرّين في مجمع البحرين ، ولأي فائدة اتخذ البحر مسلكا على سائر المسالك .فصل في إشاراتهم
ولمّا سئلت عن غاية لا تدرك ، وصفة لا يحاط بها علما ولا تملك ، تعيّن عليّ أن ألوّح لك منها على مقدار فهمك ، وأوقفك من شأنه على ما قدّر أن يكون لك منها ، وقف للناس موضع القدمين ، وخذ من العلم حرف العين ، اخرق السفينة تلج المدينة ، اجعل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [ هود : 40 ] ولا تعرّج على من قال "سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ"[ هود : 43 ] .
هما سفينتان لهما في الوجود معنيان ،
الواحدة : سلامتها من الفتق .
والأخرى : نجاتها من الرتق .
لا تدفع الخاتم إلى أحد ، ولا تأمن عليه أمّا ولا ولد ، انشر البساط ، واترك الناس في هياط ومياط ، اطو البساط ، واعدل إلى الانقباض ، من الانبساط ، لا تهز الجزع في كل وقت فإنه مقت ، لا يغلب على مقلك النوم فتنفش غنمك في حرث القوم ، لا تكن جبّارا فيخدعك الطريق ، حتى يصيّرك ضجيج الغريق فاجهد في سلوكك هذه المقامات .
واعلم :
أن من أراد المقامات سلّم الأمور إليه ؛ فسلّم الأمور إليه ، وتوكل في سلوكك عليه . فطلبت منه الحقيقة فقيل لي : حتى تفنى عن الطريقة .
إشارة : إيّاك أعني فاسمعي يا جارة .
إشارة : إذا حضر الحبيب والرقيب فخاطب الرقيب بلسان الحبيب ليسمعك الحبيب وتفهم لسانه فتأمن غوائل الرقباء .
إشارة : الحكم مودعة في الهياكل .
إشارة : الحكمة اليمانية لطيفة . من يضع شكلا فليضعه مستديرا ، فإنه لا بدّ من الرياح تزعجه فيتدحرج ولا ينكسر . فالشكل الكروي أبقى .
إشارة : إنما عملك مردود عليك ، فاجن ما غرست .
إشارة : انظرني في الشمس ، واطلبني في القمر ، واهجرني [ في ] النجوم .
ثم قال : لتكن طير عيسى اطلبني في العيس .
ثم قال لي : إذا رأيت البقر ، والخيل ، والحمير ، فاركب البغال ، واستند إلى الجدار .
ثم قال لي : إذا كنت النمط الأوسط فسافر ، ثم إذا ركبت البغل فلا تنظر من أي طرق أنت فتهلك .
لطيفة : إذا دعيت الأسرار بلسان الأمر . . .
إذا دعيت الأسرار بلسان الأمر ، أدبرت للعزة التي عليها وإذا دعيت بلسان اللطف أقبلت فقيرة .
إشارة : فإن فلك الزمهرير أكبر من فلك البحر المستدير .
ثم قال : شغلتنا ملاحظة الأغيار عن مباشرة هذه الأسرار .
تنبيه : قال : إنّا نظمنا لك الدرر والجواهر في السلك الواحد . . .
قال : إنّا نظمنا لك الدرر والجواهر في السلك الواحد ، وأبرزنا القول في حضرة الفرق المتباعد ، فلهذا ترى الواقف عليه ، يكاد لا يعثر على سر النسبة التي أودعتها لديه ، إنما هي رموز وأسرار ، لا تلحقها الخواطر والأفكار ، إن هي إلّا مواهب من الجبار ، جلّت أن تنال إلّا ذوقا ، ولا تصل إلّا لمن هام بها عشقا وشوقا .
ثم قال : لم ضرب له الميقات ؟ قال : ليعلم أنه تحت رق الأوقات .
قال : لم جاء العدد بالليل ولم يجئ بالنهار ؟
قلت : لاحتجابك تحت الأبصار .
قال : لم طلب رؤية الأحباء مع ثبوت الإيمان ؟
قلت : ليجمع بين العلم والعيان .
وفي مثل هذا قيل :
ألا فاسقني خمرا ، وقل لي هي الخمر .... ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى .... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
قال : لم دللناه على أربعة من الطير ؟
قلت : إشارة إلى العناصر لا غير .
قال : فلم كان الوحي في المنام ؟
قلت : لئلا يكون للحسّ بساحته إلمام .
إشارة : لا تأخذ من اللبن سوى زبدة المحض ، وعليك بروح الأشياء .
ولا تأخذ من العسل سوى ما ادخره النحل لنفسه .
ولا تشرب من خمر العلوم إلّا السلافة التي لم تعصرها الأرجل .
ولا تشرب من المياه إلّا المعصر ، فإن ماء التقطير فيه مزيد علم .
تنبيه : إذا ضرب القفل على الصندوق امتنع المال من المصارفة . . .
إذا ضرب القفل على الصندوق امتنع المال من المصارفة ، وحياته فيها لأنه خلق بها . وهو مجبول على الحركة ، وتداول الأيدي .
والدليل على ذلك : الق سمعك إلى التابوت المقفل تسمع المال يتحرك في جوانب التابوت ، فإذا استطعت أن تفتح القفل فلا تكسره فإنك محتاج إلى ادّخاره وقتا ما .
القفل لسانك فافهم !
اعلم :
أن هذه العلوم ليست مما تدرك بالعلل والمنى ، ولا وصلها الرجال بالهوينا والقصور ، بل جدّوا واجتهدوا ولم يفتروا نهارا ، ولا ناموا ليلا ، ولا سحبوا ذيلا .
آذانهم مصمتة ، وألسنتهم صامتة ، واعتزال دائم ، وفكر حاضر ملازم ، رداؤهم الحياء والسكينة ، والوقار مئزرهم في حضرة الأسرار ، هذه حالتهم آناء الليل وأطراف النهار .
ولا سبيل أن يقف على هذه الإشارات إلّا أربابها . وهي أمانة بيدك ، يا من حصلت بيده . فإن كان من أهلها حصل له مراده ، وإن كان من غير أهلها فليبحث عن أربابها وأهلها ، واللّه تعالى يقول :إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها[ النساء : 58 ] .
وكل شيء لم تفهمه ، ولم يبلغ به علمك ، ولم يتصرف فيه عقلك ، فهو أمانة بيدك ، واللّه تعالى يكرمك بنور البصائر ، ويصلح السرائر ، ويصفّي الضمائر ، ويلحق الإماء بالحرائر ، إنه الملئ بذلك والقادر عليه .
فصل قال السالك أشّهدني الحق الأنهار وقال لي تأمّل وقوعها
قال السالك :
أشّهدني الحق الأنهار ، وقال لي : تأمّل وقوعها .
فرأيتها تقع في أربعة أبحر .
الواحد : يرمى في بحر الأرواح .
والثاني يرمى في بحر الخطاب .
والنهر الثالث : يرمى في بحر الشكر .
والنهر الرابع : يرمى في بحر الحب .
ويتفرع من هذه الأنهر الأربعة أربعة .
ويتفجر من ذلك البحر المحيط ثم يرجع إليه بعد الامتزاج بهذه الأبحر الأربعة .
فقال لي :
هذا البحر المحيط . . يجري ، لكن ادعت السواحل أنها لها ، فمن رأى البحر المحيط قبل الأبحر والأنهار ثم الأبحر فذلك صدّيق .
ومن شاهده دفعة واحدة فذلك شهيد .
كما أن من شاهد الأنهار ، ثم الأبحر ، فذلكم صاحب دليل .
ومن شاهد الأبحر ، ثم الأنهار ، ثم البحر ، فذلك صاحب آفات ، لكنه ناج .
ثم قال :
من كان من أهل عنايتي أنشأت له مركبا ، فجرى به في الأنهار ، فإذا رمت به في الأبحر جرى فيها حتى ينتهي إلى البحر المحيط .
فإذا انتهى إليه علم الحقائق ، وكشف الأسرار ، وإلى هذا البحر ينتهي المقربون .
ثم قال :
فالمؤمن به صدّقه وانصرف ، والعالم قام له البرهان فأقرّ بصدقه واعترف ، والجاهل نظر فيه وانحرف ، والشاكّ تحيّر وتوقف ، والظّان تخيّل وما عرف ، والناظر يطلع ويتشوف ، والمقلد مع كل صنف تعرّف .
فصل قال السالك فلقيت بالجدول المعين
قال السالك :
فلقيت بالجدول المعين ، وينبوع أرين فتى روحاني الذات ، وربّانيّ الصفات ، فقلت : أين تريد ؟
قال :
أرسلت إلى المشرقين ، إلى مطلع النيّرين ، إلى موضع القدمين ثم أنشدني وحيّرني :
فلا تنظر بطرفك نحو جسمي .... وعدّ عن التّنعّم بالمغاني
وغص في بحر ذات الذّات تبصر .... عجائب ما تبدّت للعيان
وأسرار تراءت مبهمات .... مستّرة بأرواح المعاني
فمن فهم الإشارة فليصنها .... وإلّا سوف يقتل بالسّنان
ثم قال :
لا يعرف كلامي إلّا من رقى مقامي .
قلت : أين تريد ؟
قال : أريد مدينة الرسول في طلب المقام الأزهر ، والكبريت الأحمر .
فقال لي : يا طالب مثلي أما سمعت قولي :
يا طالبا لطريق السّرّ تقصده .... ارجع وراك ففيك السّرّ والسّكن
ثم قال :
بينك وبين المطلوب أيّها السّر اللطيف ثلاثة حجب من لطيف وكثيف .
الحجاب الأول : مكلل بالياقوت الأحمر ، وهو الأول عند أهل التحقيق .
والآخر : مكلل بالياقوت الأصفر ، وهو الثاني الذي عليه أهل التفريق .
والثالث : مكلل بالياقوت الأكهب، وهو الثالث الذي اعتمد عليه أهل البرازخ في الطريق.
فاصحب الرفاق ، وجب الآفاق ، واعمل الركاب ، واقطع البيان ، وامتط اليعملات ، ومز نشاط الذاريات ، واركب البحار ، واخترق الحجب والأستار ، في هذا السر الشريف .
واعلم :
أن الاسم يدل على المسمى ، والكل فيك فاقنع بما يكفيك ، وامسك عما لا يعنيك .
ثم أنشد بعدما أرشد :
فانظر إلى الحكمة مجهولة .... غطّى عليها شفعنا السّاتر
وأظهر الحكمة منثورة .... العالم الثّابت ، والدّاثر
صلّى عليه اللّه من واحد .... نور على أرواحنا باهر
ما طلع البدر وشمس الضّحى .... وانتظم الأوّل والآخر
فصل قال السالك فبينما أنا نائم وسر وجودي متهجد قائم
قال السالك :
فبينما أنا نائم ، وسر وجودي متهجد قائم ، جاءني رسول التوفيق ، يهديني سواء الطريق ، ومعه براق الإخلاص عليه لبد الفوز ولجام الخلاص ، فكشف عن سقف محلى ثم زج بي من صفاة الصفا في الهوا فسقط عن منكبي رداء الهوى ، وأوتيت بالخمر واللبن .
فشربت اللبن ميراث تمام تمكين ، وتركت الخمر حذار أن أكشف السر بالسكر فيضل من يقفو أثري . ولو أوتيت بالماء بدلها لشربت الماء .
فإن خلاصة التمكين في قوله تعالى :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ( 107 ) [ الأنبياء : 107 ] .
وأمّا لو كان الشراب عسلا ، ما اتخذ أحد الشريعة قبلا ، لسرّ خفي في النحل ، فيه هلاك القلوب بالمحل .
قال السالك :
فارتفعت الهمة لطلبه ، وبادرت لاختراق حجب هوَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [ النور : 26 ] ، إليكموها ساعدكم السعد صفقة رابحة ، وحالة مباركة صالحة .
فرؤياه جلّا ، وفقده عمّا ، ثم قام عجلا ،
وأنشد مرتجلا :
غرست لكم غصن الأمانة يانعا .... وإنّي لجّاني بعده ثمر الغرس
تولّعت بالتّبليغ لمّا تبيّنت .... أمور تعرقيتي عن الإنس والأنس
ورحت وقد أبدت بروقي وميضها .... وجزت بحار الغيب في مركب الحسّ
ونمت وما نامت جفوني غديّة .... وتهت بلا تيه على الجنّ والإنس
فيا نفس هذا الحقّ لاح وجوده .... فإيّاك والإنكار يا نفس يا نفس
يالعزم العزم ، وأسأل اللّه العون ، ما دمت مدبر الكون ، فطال واللّه ما أنهكتني المشقة ، وقطع بي بعد الشقة ، وهذه وصيتي .
فاعلم دللتك بها على الطريق الأرفق فالزم ، والسر الذي في زمزم هو لما شرب له فالزم .
قال السالك :
كان ما كان فهو مصروف إليكم ، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ( 7 ) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ( 8 )[ الزلزلة : 7 ، 8 ] .
ثم قال : هيهات أين الكرم من الإيثار ؟
الكرم سيادة ، والإيثار عبادة . الكرم مع الرئاسة ، والإيثار مع الخصاصة .
ثم قال : يا بني اقصد باب مولاك إلى ما إليه ناداك محبك ومولاك .
قال : يا سيدي هل تعرف لهذا الباب مفتاحا .
قال : أي والعليم الفتاح .
رأيت البيت مقفولا .... لسر السر قد ملكا
سألت اللّه يفتحه * فقال : بمن ؟ فقلت بك
قالت : ناولنيه .
قال : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
قلت له : قد عرفت حقيقة مكانه ، فزدني في نعته وبيانه .
قال : له أربعة أسنان ، أتقنها الحكيم الرحمن .
فيها أربع حركات تحوي جميع البركات .
فإذا فعلت ما ذكرته لك وأحكمته فزت بالمفتاح وملكته . فالق أيها الطالب بالك ، أصلح اللّه حالك .
حافظ على العلوم اللدنية والأسرار الإلهية ، وإياك وإفشاء سر الربوبية . أجل القلوب ، وجاهد النفوس ، اجمع بين الظاهر والباطن ، يتضح لك الراحل والقاطن وتأمل السرّين في مجمع البحرين ، ولأي فائدة اتخذ البحر مسلكا على سائر المسالك .فصل في إشاراتهم
ولمّا سئلت عن غاية لا تدرك ، وصفة لا يحاط بها علما ولا تملك ، تعيّن عليّ أن ألوّح لك منها على مقدار فهمك ، وأوقفك من شأنه على ما قدّر أن يكون لك منها ، وقف للناس موضع القدمين ، وخذ من العلم حرف العين ، اخرق السفينة تلج المدينة ، اجعل في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [ هود : 40 ] ولا تعرّج على من قال "سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ"[ هود : 43 ] .
هما سفينتان لهما في الوجود معنيان ،
الواحدة : سلامتها من الفتق .
والأخرى : نجاتها من الرتق .
لا تدفع الخاتم إلى أحد ، ولا تأمن عليه أمّا ولا ولد ، انشر البساط ، واترك الناس في هياط ومياط ، اطو البساط ، واعدل إلى الانقباض ، من الانبساط ، لا تهز الجزع في كل وقت فإنه مقت ، لا يغلب على مقلك النوم فتنفش غنمك في حرث القوم ، لا تكن جبّارا فيخدعك الطريق ، حتى يصيّرك ضجيج الغريق فاجهد في سلوكك هذه المقامات .
واعلم :
أن من أراد المقامات سلّم الأمور إليه ؛ فسلّم الأمور إليه ، وتوكل في سلوكك عليه . فطلبت منه الحقيقة فقيل لي : حتى تفنى عن الطريقة .
إشارة : إيّاك أعني فاسمعي يا جارة .
إشارة : إذا حضر الحبيب والرقيب فخاطب الرقيب بلسان الحبيب ليسمعك الحبيب وتفهم لسانه فتأمن غوائل الرقباء .
إشارة : الحكم مودعة في الهياكل .
إشارة : الحكمة اليمانية لطيفة . من يضع شكلا فليضعه مستديرا ، فإنه لا بدّ من الرياح تزعجه فيتدحرج ولا ينكسر . فالشكل الكروي أبقى .
إشارة : إنما عملك مردود عليك ، فاجن ما غرست .
إشارة : انظرني في الشمس ، واطلبني في القمر ، واهجرني [ في ] النجوم .
ثم قال : لتكن طير عيسى اطلبني في العيس .
ثم قال لي : إذا رأيت البقر ، والخيل ، والحمير ، فاركب البغال ، واستند إلى الجدار .
ثم قال لي : إذا كنت النمط الأوسط فسافر ، ثم إذا ركبت البغل فلا تنظر من أي طرق أنت فتهلك .
لطيفة : إذا دعيت الأسرار بلسان الأمر . . .
إذا دعيت الأسرار بلسان الأمر ، أدبرت للعزة التي عليها وإذا دعيت بلسان اللطف أقبلت فقيرة .
إشارة : فإن فلك الزمهرير أكبر من فلك البحر المستدير .
ثم قال : شغلتنا ملاحظة الأغيار عن مباشرة هذه الأسرار .
تنبيه : قال : إنّا نظمنا لك الدرر والجواهر في السلك الواحد . . .
قال : إنّا نظمنا لك الدرر والجواهر في السلك الواحد ، وأبرزنا القول في حضرة الفرق المتباعد ، فلهذا ترى الواقف عليه ، يكاد لا يعثر على سر النسبة التي أودعتها لديه ، إنما هي رموز وأسرار ، لا تلحقها الخواطر والأفكار ، إن هي إلّا مواهب من الجبار ، جلّت أن تنال إلّا ذوقا ، ولا تصل إلّا لمن هام بها عشقا وشوقا .
ثم قال : لم ضرب له الميقات ؟ قال : ليعلم أنه تحت رق الأوقات .
قال : لم جاء العدد بالليل ولم يجئ بالنهار ؟
قلت : لاحتجابك تحت الأبصار .
قال : لم طلب رؤية الأحباء مع ثبوت الإيمان ؟
قلت : ليجمع بين العلم والعيان .
وفي مثل هذا قيل :
ألا فاسقني خمرا ، وقل لي هي الخمر .... ولا تسقني سرّا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى .... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
قال : لم دللناه على أربعة من الطير ؟
قلت : إشارة إلى العناصر لا غير .
قال : فلم كان الوحي في المنام ؟
قلت : لئلا يكون للحسّ بساحته إلمام .
إشارة : لا تأخذ من اللبن سوى زبدة المحض ، وعليك بروح الأشياء .
ولا تأخذ من العسل سوى ما ادخره النحل لنفسه .
ولا تشرب من خمر العلوم إلّا السلافة التي لم تعصرها الأرجل .
ولا تشرب من المياه إلّا المعصر ، فإن ماء التقطير فيه مزيد علم .
تنبيه : إذا ضرب القفل على الصندوق امتنع المال من المصارفة . . .
إذا ضرب القفل على الصندوق امتنع المال من المصارفة ، وحياته فيها لأنه خلق بها . وهو مجبول على الحركة ، وتداول الأيدي .
والدليل على ذلك : الق سمعك إلى التابوت المقفل تسمع المال يتحرك في جوانب التابوت ، فإذا استطعت أن تفتح القفل فلا تكسره فإنك محتاج إلى ادّخاره وقتا ما .
القفل لسانك فافهم !
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin