فصل هذا باب يدق وصفه ويمنع كشفه هى
هذا باب يدق وصفه ، ويمنع كشفه ، هي أسطار نور خضر خلف حجاب البيان ، يلوح لمن سبقت له المشيئة بوقوفه عليها حتى تودعه ما لديها . فاستعمل المجاهدة عساك تلتذ بالمشاهدة .
و قال عليه الصلاة والسلام في سر التثليث : « لن تهلك أمّة أنا أولها ، وعيسى آخرها ، والمهدي وسطها » أورده المناوي في فيض القدير
فانخفض الطرفان والوسط ، وانتظم الملك وارتبط .
فأتى بثلاثة على حكم نشأة وتقابل الهيئة ، وإن كل إنسان لا بد له من إحدى الدارين لا محالة فنقول في سرّائها : الحمد للّه المنعم المتفضل .
ونقول في ضرّائها : الحمد للّه على كل حال .
فصل ثم نظرت بطرفي نحو السماء فرأيتها مزيّنة بالنجوم
ثم نظرت بطرفي نحو السماء فرأيتها مزيّنة بالنجوم ، فمنها اهتداء ومنها رجوم ، ورأيت مقامات الخلفاء ، ومصابيح الظلماء ، فوجدتها ثمانية وعشرين ، وحضراتهم اثنتي عشرة لتتم الأربعين .
فقيل لي : هذه منازل السالكين ، وينابيع الحكم المخلصين .
قال : فلما سمعت أنّه أسر من الكتاب أماني ، خفت أن يقطعني عن إلمامي ، فنهضت من تلك الظلمة المدلهمة ، وتركت بها براق الهمة ، ورفعت عن أسرة اللطائف ، ومتكآت الرفارف إلى أن وصلنا مقام المماثل فيه تماثل السراج .
قال : هذا حظك من كوني ، فأين حظك [ من ] عيني .
فقلت : أيها المشير : المناسبة تكون بالنظير الملازم ، ويكون بالذات واللازم .
فقال المشير : أريد مناسبة النظير .
فقلت : في رسمي رسمك، وفي نعتي نعتك ، والإجمال أحسن من التفصيل في هذا القبيل.
ثم كشف لي عن شجرة البستان الكلية ؛ الموصوفة بالمثلية .
فنظرت إلى شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وثمرها بيد آلات الاستواء ، وبين أغصانها الغراب والغربة والعنقاء ، وفي ذرى أفنانها العقاب ، والمطوّقة الورقاء . فسلمت على الشجرة فحيّت أحسن مني
وقالت :
اسمع أيها السالك في المسالك أنا الشجرة الكلية الجامعة المثلية ذات الأصول الراسخة والفروع الشامخة ، غرستني يد الأحد في بستان الأبد مستورة عن تصاريف الأمد ، فأنا ذات روح وجسد ، وثمري مقطوف دون يد حملت من ثمر العلوم والمعارف ، ما لا تستقل بحمله العقول السليمة وأسرار اللطائف ،
ورقي فرش مرفوعة ، وفاكهتي غير مقطوعة ولا ممنوعة ، وسطي هو المقصود ، وفروعي في هبوط وصعود ،
ونشأتي كالفلك في الاستدارة ، وفروعي منازل الأرواح الطيارة ، زهري كالكواكب السيارة تتكون المعادن عن سيرانها ،
أنا شجرة النور والكلام ، وقرة عين موسى عليه السلام ، لي من الجهات اليمين الأنفس ، ومن الأمكنة الوادي المقدس ،
ولي من الزمان الآن ، ومن المساكن خط الاستواء ، واعتدال الزمان في الدوام والبقاء ، والسعادة دون الشقاء ، جنتي دان وفني عني كأنه نشوان ، له لطافة وجنان ، على جميع الحيوان .
لم تزل أفناني للأرواح اللوحية ، كنار داود فيّ ، لها تأثيرات الشعاعات اليومية ، ساترا ظلّي وممدود لأهل العناية ، وجناحي منشور على أهل الولاية ، تهب على الأرواح باختلاف تصاريفها ، فتخرج أغصاني عن ترتيب تأليفها ، فتسمع لذلك التداخل نغمات توله العقول العلوية على سمو أوجها ، فنّها يسقي الحكمة ، ويزيل الهموم بحسن إيقاع النغمة ، فأنا الظلّ الممدود ، والطلح المنضود ،
والمعنى المقصود :
كلمة الجود . فأوجدني من أوجدك عند التقابل ، وأظهرني من أظهرك على التماثل .
فأنا من قوتك صادرة ، وبصورتك ظاهرة ،
وأودعني حقيقتين :
- حقيقة أعرف بها .
- وحقيقة أكون ما شئت بسببها .
ورقيقة مني إليك ، تنزلني إذا اشتهيتك عليك ، وبها حضرت بين يديك . فلما سمع أن بيني وبينه رقيقة ممتدة ، وهو قد تحقق بحقائق المودة ، ووقع النكاح المعنوي ، واجتمع الماءان ، في الرحم الآن فهو يتردد بين شوقين ، يغرب في غربين ويشرق في شرقين . فوجدت في ذاتي امتلاء لم أكن أعرفه قبل ذلك .
وسدّت المجاري والمسالك ، فحركت الرقيقة الإلهية فأجابني .
فقلت : يا إلهي ما هذا الذي أصابني ؟
فقال : تنفس بذكري لتظهر عنك كلمة أمري .
إشارة :
ثم قالت الشجرة : أنا الحقيقة اللامعة لما عندي من السعة والمطاوعة ، تلبس بكل حالية لبوسها .
أمّا نعيمها وأمّا بؤسها ، ولكنني وهب إلىّ أن أهب العلوم ولست بعالمة ، وأمسخ الأحكام ولست بحاكمة ،
لا يظهر شيء لم أكن فيه ولا يحصل له طالب مدرك ولا يستوفيه .
فبهذا القدر عظمت في أعين المحققين .
فها أنا قد أنبأت عن حالي ، وأظهرت صدقي عن مجالي .
فصل خطبة الغراب الحالك
فقام الغراب فقال :
أنا هيكل الأنوار ، وحامل الأسرار ، ومحل الكيف والكم ، وسبب الفرح والغم ، أنا الرئيس المرؤوس ، ولي الحس والمحسوس بي ظهرت الرسوم ، ومني قام عالم الجسوم ، أنا أصل الأشكال وبمراتب صورتي تضرب الأمثال .
فأنا المصباح في الرياح ، أنا السلسلة على صنوان والجناح ، أنا البحر الذي يصفق موجه ، أنا الفرد المعدود وزوجه ، عرضي دار كرامة لأوليائه ، وعمقي دار إهانة لأعدائه .
وأنا بوطيقى الحكم ، وموسيقى النغم ، وجامع حقائق الكلم إلى المنتهى ، وعليّ عوّل أولو النّهى ، وأنا أمني ما أمنح من النهي ، أنا الغاية وليست لي غاية ، من أجلي أخذ من أخذ ، وبسببي ندب من ندب ، أنا المطوقة باليمين أنا في قبضة الحق المبين ، دعاني الحق إلى حضرته فأتيت ، وناداني إلى معرفته فلبّيت ،
أنا صورة الفلك ، ومحل الملك على أصح الاستواء ، وعنّي كنى بالمستوى ، أنا اللاحق الذي لا يلحق كما أن العقاب السابق الذي لا يسبق . هو الأول وأنا الآخر ، وله الباطن ولي الظاهر ، قسم الوجود بيني وبينه ،
أنا أظهرت عزّه ، وكونه توقف على حكمه ، سرّى فيه علمي ، وسرّى في علمه إذا دفعته ، وأوهبه مالي ليفيده ، وإذا أفدته شكرني لأزيده ، وقامت طائفة ممّن تدّعي العقل الرصين على زعمها ، وقضت على شيمتهم بحكمها .
فناظرتني قبيح الهجاء ، وخلعوا عني خلعة حسن الثناء ، فجاز عليهم وبال ما كانوا يعملون ، وحاق
بهم ما كانوا به يستهزئون . كأني بهم في غمرة يستصرخون فيجابون :اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ[ المؤمنون : 108 ] .
وإذا كان في عرض أهل الثناء الحسن ، في حظي فاكهون هم وأزواجهم في روضة يحبرون ، وقد أثنى عليّ الشرع فلا أبالي .
أنا السّرّ المستوي .... خلقت بلا بنان
وأنا الّذي توارى .... جسمه عن العيان
فالّذي يرى وجودي .... لتصاريف الزّمان
علمه أكمل علم .... شأنه أعظم شأن
هام بي لمّا رآني .... في مقاصير الجنان
لا أسمّيه فإنّي .... خائف حد السّنان .
فهذا يا كعبة الحسن قد أوضحت لك مقامات أمّهات الأكوان .
فصل ولما دعتني دواعي الاشتياق إلى ما أودع اللّه من الأسرار
ولما دعتني دواعي الاشتياق إلى ما أودع اللّه من الأسرار في هذه الطباق
قال : مرحبا بهذا الابن السعيد ، والطالب المستفيد .
يا أيها الابن ما الذي أوصلك إلينا ، وما السبب الذي أنزلك علينا ، فخدمت بساطه ، واستغنمت انبساطه ، أدام اللّه أيام الوالد المقدم المعظم ، وعدل قسطاسه وأبرم ، أمّ رأسه ، وحرّر أنفاسه ،
لما عرف العبد أنك صاحب العلمين والصورتين ، وحامل سرّ الإنيتين أراد أن يقف عليها منك مواجهة ، وأن يسمعها بحضرتك مشافهة .
فقال : همة شريفة ، وداعية سلطانية منيفة ، ثم دعا بترجمانه ، صاحب لسانه ،
وقال له : اصعد إلى منبر استوائنا ، واذكر بعض ما عندنا ، وعند حاجبنا من سرائر معلوم الكونين والصورتين .
فصعد الخطيب وتكلم ، وقال بعد أن بسمل وصلى ثم سلّم :
الحمد للّه الذي جمع لآدم عبده ، وخليفته ، ورسوله ، بين يدي ، وحباه بصورتيه ومنحه سورتيه ، وأودعه سريرتيه ، وحصل فيه قبضتيه ، وهداه نجوتيه ، وأنجب له سبيله وخاطبه بكلمتيه ، وأمره على ملائه ،
واستلخفه على كونيه ، واصطفاه برسالتيه ، واختصه بخلافتيه ، وكرّمه بمشاهدتيه ، وخصّه بجنتيه ، ووهبه معرفتيه ، وأنزله بين علميه ، وأشهده مركزه وقاب قوسيه ، وأسكنه في البرزخ متن كتابيه ، لإظهار صفتيه .
فقام عظيم الشأن سلطانا على الأعيان ، واستوزر له الزبرقان ، الذي هو نظير الرؤية في الإنسان ، فيعلو وينمو فيفضل ، ويدنو فيخل فيزيل . فوزيره مثله ، وعلى صورته .
وصورته له وجهان ، وطريقان ، وسيران ، وتجليان ، ومحقان ، وإدباران وإدبار ومحق في كل أوان ، عند العالمين بما في الصفة العلوية من الإحكام والترتيب والإتقان ، واعتدال الأوزان .
وله محق واحد ، وإدبار واحد عند العامة ، فله الضّدّان ، وسرعة التأثير في الأكوان ، وهو شبيه بالإنسان من جميع الوجوه ؛ القباح والحسان ، وله التقابلان .
وإليه ينظر الثقلان ، وفيه سرّان ، وبدايتان وغايتان ، ونقصانان وكمالان ، وسرّان وأمران ، وتأثيران ، وحكمان ، وله يدان ، ورجلان ، وعينان ، وأذنان ، وثديان ، وعلوان وسفلان ، ويمينان وشمالان ،
وفوقان وتحتان ، وخلفان وأمامان ، وحاجبان وقلبان ، ولسانان ، ومعرفتان ، وأثيران ، وعرشان ، وكرسيان ، وروحان ، وتبييضان وتحميران ، وتسويدان ، وتكليسان ، وحياتان وموتان ، واعتدالان وانحرافان ، وعقدتان .
وفيه من كل شيء اثنان ، فسبحان من فطره وفطر الخليفة آدم على هذا الإتقان ، مولى الامتنان ، والصلاة والسلام على الحقيقة المحمدية صاحب الإمامة المطلقة ، والخلافة المحققة ، ما اتصلت الأرواح بالأرواح ، والأبدان بالأبدان .
ثم نزل وتكلم الأب فقال :
اعلم يا بني شرح اللّه صدرك ، ورفع في ذروة التوحيد قدرك :
أن اللّه تعالى لمّا كان على الحقيقتين ، وأبان عنهما بالقبضتين في الموطنين ، وأنبأ عنهما في عالم العبارات بالحرفين ، وجعلهما على السوا في الفطرتين ، والنعيمين والعذابين ، والطاعتين والمعصيين ، باعتدال الكفين ،
وجعل الآخرة ذات دارين ليحط بالعالمين ، وفيها يقع الميز بين الفريقين ، كما وقع في أوان القبضتين قبل أخذ الميثاقين ، وجعل الدنيا برزخين .
وأظهر الكافر في صورة المؤمن والمؤمن في صورة الكافر لذي عينين ، وجعلهما محل تمحيص وبلوى للطائفتين ، فوجّه إليهم على لسان واحد منهم حكمين ، فأمر ونهى لتميز الكلمتين .
ثم قلت : يا بني أنت جامع القبضتين ، وصاحب الحكمتين ، وحامل الصورتين ، فأخبرني عن السر الذي يرد المعادن إلى معدنين ، وأوقفني على الكنزين الأبيضين ، والأحمرين ، وعن سر كل وصفين . كالجلال والجمال ، والانفصال والاتصال ،
والتركيب والتحليل ، والتجميل والتفصيل ، والفناء والبقاء ، والإثبات والمحو ، والسكر والصحو ، والرب والعبد ، والحرّ والبرد . وما أشبه ذلك .
فإمّا أن تخبرني بحقيقة تجمع لي هذه المعاني وإمّا بتفصيل هذه المباني .
فقال : أمّا بالتفصيل فيطول ، وإيضاح الحقيقة الجامعة أولى بالوقت
فأقول :
إن الأشياء المنفعلة إنما تبعث من فاعلها على حقيقة وجوده في الأعيان ، ولهذا لم يبق أبدع من هذا العالم في الإمكان ، وأبين ما يكون ذلك في الإنسان ، أذله الجود المطلق ، والفيض المحقق ، فإن تفطنت فقد أبنت لك عن درج التحقيق ، وألفيتك عن الطريق ، فأدرج عليه حتى تعاين أسرار التفصيل لديه .
وأمّا بحثك عن الكنزين ، والأمر الذي يردّ المعادن إلى معدنين
فاعلم أن هذا الأمر على مرتبتين :
المرتبة الواحدة : في المشاهدة تسمى خرق العوائد ، وهي تصريف المحسوس على حكم همم النفوس ، وهي مختصّة بأرباب الهمم ومعادن الحكم ، وقوتهم تسري في الأرواح بقلب صفات أعيان الأشباح . فهذه صناعة علمية وصورة حكمية لأنها روحانية موادّها سماوية ، إكسيرها مقرون بسعادة الأبد ، وفعله مشاهدة الأحد ، يتصرف في العقل تصرف الأفعال بالأسماء .
وأمّا المرتبة الأخرى :
فهي صناعة علمية ، موقوفة على عناية أزلية تورث الجنان ومجاورة الرحمن ، ولهذا قال في الكتاب المبين :نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [ الزمر : 74 ] . لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ[ الصافات : 61 ] .
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [ المطففين : 26 ] .
فمن أراد أن يقف عليها ، ويصل إليها ، فإنها الكنز الذي لا يهدم جداره ، والزند الذي لا يظهر أواره .
هي حكمة لا يودعها اللّه تعالى إلّا للأمناء من عباده ، المتأهلين لحضرة إشهاده ، فإذا أراد إنما يستعمل الفكر المحرق ، لما قام به من الشوق المعلق ، فأنتج له أن هذا الأمر موقوف على معرفة الحكمة وإنها موضوعة بين النور والظلمة ، موقوفة على المعدن والنبات محكوم عليها لعدد شهود الزمان ، ولكن قصر به الفكر عن تعيين ذاته ، وعن الإدراك لجميع صفاته .
هذا باب يدق وصفه ، ويمنع كشفه ، هي أسطار نور خضر خلف حجاب البيان ، يلوح لمن سبقت له المشيئة بوقوفه عليها حتى تودعه ما لديها . فاستعمل المجاهدة عساك تلتذ بالمشاهدة .
و قال عليه الصلاة والسلام في سر التثليث : « لن تهلك أمّة أنا أولها ، وعيسى آخرها ، والمهدي وسطها » أورده المناوي في فيض القدير
فانخفض الطرفان والوسط ، وانتظم الملك وارتبط .
فأتى بثلاثة على حكم نشأة وتقابل الهيئة ، وإن كل إنسان لا بد له من إحدى الدارين لا محالة فنقول في سرّائها : الحمد للّه المنعم المتفضل .
ونقول في ضرّائها : الحمد للّه على كل حال .
فصل ثم نظرت بطرفي نحو السماء فرأيتها مزيّنة بالنجوم
ثم نظرت بطرفي نحو السماء فرأيتها مزيّنة بالنجوم ، فمنها اهتداء ومنها رجوم ، ورأيت مقامات الخلفاء ، ومصابيح الظلماء ، فوجدتها ثمانية وعشرين ، وحضراتهم اثنتي عشرة لتتم الأربعين .
فقيل لي : هذه منازل السالكين ، وينابيع الحكم المخلصين .
قال : فلما سمعت أنّه أسر من الكتاب أماني ، خفت أن يقطعني عن إلمامي ، فنهضت من تلك الظلمة المدلهمة ، وتركت بها براق الهمة ، ورفعت عن أسرة اللطائف ، ومتكآت الرفارف إلى أن وصلنا مقام المماثل فيه تماثل السراج .
قال : هذا حظك من كوني ، فأين حظك [ من ] عيني .
فقلت : أيها المشير : المناسبة تكون بالنظير الملازم ، ويكون بالذات واللازم .
فقال المشير : أريد مناسبة النظير .
فقلت : في رسمي رسمك، وفي نعتي نعتك ، والإجمال أحسن من التفصيل في هذا القبيل.
ثم كشف لي عن شجرة البستان الكلية ؛ الموصوفة بالمثلية .
فنظرت إلى شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وثمرها بيد آلات الاستواء ، وبين أغصانها الغراب والغربة والعنقاء ، وفي ذرى أفنانها العقاب ، والمطوّقة الورقاء . فسلمت على الشجرة فحيّت أحسن مني
وقالت :
اسمع أيها السالك في المسالك أنا الشجرة الكلية الجامعة المثلية ذات الأصول الراسخة والفروع الشامخة ، غرستني يد الأحد في بستان الأبد مستورة عن تصاريف الأمد ، فأنا ذات روح وجسد ، وثمري مقطوف دون يد حملت من ثمر العلوم والمعارف ، ما لا تستقل بحمله العقول السليمة وأسرار اللطائف ،
ورقي فرش مرفوعة ، وفاكهتي غير مقطوعة ولا ممنوعة ، وسطي هو المقصود ، وفروعي في هبوط وصعود ،
ونشأتي كالفلك في الاستدارة ، وفروعي منازل الأرواح الطيارة ، زهري كالكواكب السيارة تتكون المعادن عن سيرانها ،
أنا شجرة النور والكلام ، وقرة عين موسى عليه السلام ، لي من الجهات اليمين الأنفس ، ومن الأمكنة الوادي المقدس ،
ولي من الزمان الآن ، ومن المساكن خط الاستواء ، واعتدال الزمان في الدوام والبقاء ، والسعادة دون الشقاء ، جنتي دان وفني عني كأنه نشوان ، له لطافة وجنان ، على جميع الحيوان .
لم تزل أفناني للأرواح اللوحية ، كنار داود فيّ ، لها تأثيرات الشعاعات اليومية ، ساترا ظلّي وممدود لأهل العناية ، وجناحي منشور على أهل الولاية ، تهب على الأرواح باختلاف تصاريفها ، فتخرج أغصاني عن ترتيب تأليفها ، فتسمع لذلك التداخل نغمات توله العقول العلوية على سمو أوجها ، فنّها يسقي الحكمة ، ويزيل الهموم بحسن إيقاع النغمة ، فأنا الظلّ الممدود ، والطلح المنضود ،
والمعنى المقصود :
كلمة الجود . فأوجدني من أوجدك عند التقابل ، وأظهرني من أظهرك على التماثل .
فأنا من قوتك صادرة ، وبصورتك ظاهرة ،
وأودعني حقيقتين :
- حقيقة أعرف بها .
- وحقيقة أكون ما شئت بسببها .
ورقيقة مني إليك ، تنزلني إذا اشتهيتك عليك ، وبها حضرت بين يديك . فلما سمع أن بيني وبينه رقيقة ممتدة ، وهو قد تحقق بحقائق المودة ، ووقع النكاح المعنوي ، واجتمع الماءان ، في الرحم الآن فهو يتردد بين شوقين ، يغرب في غربين ويشرق في شرقين . فوجدت في ذاتي امتلاء لم أكن أعرفه قبل ذلك .
وسدّت المجاري والمسالك ، فحركت الرقيقة الإلهية فأجابني .
فقلت : يا إلهي ما هذا الذي أصابني ؟
فقال : تنفس بذكري لتظهر عنك كلمة أمري .
إشارة :
ثم قالت الشجرة : أنا الحقيقة اللامعة لما عندي من السعة والمطاوعة ، تلبس بكل حالية لبوسها .
أمّا نعيمها وأمّا بؤسها ، ولكنني وهب إلىّ أن أهب العلوم ولست بعالمة ، وأمسخ الأحكام ولست بحاكمة ،
لا يظهر شيء لم أكن فيه ولا يحصل له طالب مدرك ولا يستوفيه .
فبهذا القدر عظمت في أعين المحققين .
فها أنا قد أنبأت عن حالي ، وأظهرت صدقي عن مجالي .
فصل خطبة الغراب الحالك
فقام الغراب فقال :
أنا هيكل الأنوار ، وحامل الأسرار ، ومحل الكيف والكم ، وسبب الفرح والغم ، أنا الرئيس المرؤوس ، ولي الحس والمحسوس بي ظهرت الرسوم ، ومني قام عالم الجسوم ، أنا أصل الأشكال وبمراتب صورتي تضرب الأمثال .
فأنا المصباح في الرياح ، أنا السلسلة على صنوان والجناح ، أنا البحر الذي يصفق موجه ، أنا الفرد المعدود وزوجه ، عرضي دار كرامة لأوليائه ، وعمقي دار إهانة لأعدائه .
وأنا بوطيقى الحكم ، وموسيقى النغم ، وجامع حقائق الكلم إلى المنتهى ، وعليّ عوّل أولو النّهى ، وأنا أمني ما أمنح من النهي ، أنا الغاية وليست لي غاية ، من أجلي أخذ من أخذ ، وبسببي ندب من ندب ، أنا المطوقة باليمين أنا في قبضة الحق المبين ، دعاني الحق إلى حضرته فأتيت ، وناداني إلى معرفته فلبّيت ،
أنا صورة الفلك ، ومحل الملك على أصح الاستواء ، وعنّي كنى بالمستوى ، أنا اللاحق الذي لا يلحق كما أن العقاب السابق الذي لا يسبق . هو الأول وأنا الآخر ، وله الباطن ولي الظاهر ، قسم الوجود بيني وبينه ،
أنا أظهرت عزّه ، وكونه توقف على حكمه ، سرّى فيه علمي ، وسرّى في علمه إذا دفعته ، وأوهبه مالي ليفيده ، وإذا أفدته شكرني لأزيده ، وقامت طائفة ممّن تدّعي العقل الرصين على زعمها ، وقضت على شيمتهم بحكمها .
فناظرتني قبيح الهجاء ، وخلعوا عني خلعة حسن الثناء ، فجاز عليهم وبال ما كانوا يعملون ، وحاق
بهم ما كانوا به يستهزئون . كأني بهم في غمرة يستصرخون فيجابون :اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ[ المؤمنون : 108 ] .
وإذا كان في عرض أهل الثناء الحسن ، في حظي فاكهون هم وأزواجهم في روضة يحبرون ، وقد أثنى عليّ الشرع فلا أبالي .
أنا السّرّ المستوي .... خلقت بلا بنان
وأنا الّذي توارى .... جسمه عن العيان
فالّذي يرى وجودي .... لتصاريف الزّمان
علمه أكمل علم .... شأنه أعظم شأن
هام بي لمّا رآني .... في مقاصير الجنان
لا أسمّيه فإنّي .... خائف حد السّنان .
فهذا يا كعبة الحسن قد أوضحت لك مقامات أمّهات الأكوان .
فصل ولما دعتني دواعي الاشتياق إلى ما أودع اللّه من الأسرار
ولما دعتني دواعي الاشتياق إلى ما أودع اللّه من الأسرار في هذه الطباق
قال : مرحبا بهذا الابن السعيد ، والطالب المستفيد .
يا أيها الابن ما الذي أوصلك إلينا ، وما السبب الذي أنزلك علينا ، فخدمت بساطه ، واستغنمت انبساطه ، أدام اللّه أيام الوالد المقدم المعظم ، وعدل قسطاسه وأبرم ، أمّ رأسه ، وحرّر أنفاسه ،
لما عرف العبد أنك صاحب العلمين والصورتين ، وحامل سرّ الإنيتين أراد أن يقف عليها منك مواجهة ، وأن يسمعها بحضرتك مشافهة .
فقال : همة شريفة ، وداعية سلطانية منيفة ، ثم دعا بترجمانه ، صاحب لسانه ،
وقال له : اصعد إلى منبر استوائنا ، واذكر بعض ما عندنا ، وعند حاجبنا من سرائر معلوم الكونين والصورتين .
فصعد الخطيب وتكلم ، وقال بعد أن بسمل وصلى ثم سلّم :
الحمد للّه الذي جمع لآدم عبده ، وخليفته ، ورسوله ، بين يدي ، وحباه بصورتيه ومنحه سورتيه ، وأودعه سريرتيه ، وحصل فيه قبضتيه ، وهداه نجوتيه ، وأنجب له سبيله وخاطبه بكلمتيه ، وأمره على ملائه ،
واستلخفه على كونيه ، واصطفاه برسالتيه ، واختصه بخلافتيه ، وكرّمه بمشاهدتيه ، وخصّه بجنتيه ، ووهبه معرفتيه ، وأنزله بين علميه ، وأشهده مركزه وقاب قوسيه ، وأسكنه في البرزخ متن كتابيه ، لإظهار صفتيه .
فقام عظيم الشأن سلطانا على الأعيان ، واستوزر له الزبرقان ، الذي هو نظير الرؤية في الإنسان ، فيعلو وينمو فيفضل ، ويدنو فيخل فيزيل . فوزيره مثله ، وعلى صورته .
وصورته له وجهان ، وطريقان ، وسيران ، وتجليان ، ومحقان ، وإدباران وإدبار ومحق في كل أوان ، عند العالمين بما في الصفة العلوية من الإحكام والترتيب والإتقان ، واعتدال الأوزان .
وله محق واحد ، وإدبار واحد عند العامة ، فله الضّدّان ، وسرعة التأثير في الأكوان ، وهو شبيه بالإنسان من جميع الوجوه ؛ القباح والحسان ، وله التقابلان .
وإليه ينظر الثقلان ، وفيه سرّان ، وبدايتان وغايتان ، ونقصانان وكمالان ، وسرّان وأمران ، وتأثيران ، وحكمان ، وله يدان ، ورجلان ، وعينان ، وأذنان ، وثديان ، وعلوان وسفلان ، ويمينان وشمالان ،
وفوقان وتحتان ، وخلفان وأمامان ، وحاجبان وقلبان ، ولسانان ، ومعرفتان ، وأثيران ، وعرشان ، وكرسيان ، وروحان ، وتبييضان وتحميران ، وتسويدان ، وتكليسان ، وحياتان وموتان ، واعتدالان وانحرافان ، وعقدتان .
وفيه من كل شيء اثنان ، فسبحان من فطره وفطر الخليفة آدم على هذا الإتقان ، مولى الامتنان ، والصلاة والسلام على الحقيقة المحمدية صاحب الإمامة المطلقة ، والخلافة المحققة ، ما اتصلت الأرواح بالأرواح ، والأبدان بالأبدان .
ثم نزل وتكلم الأب فقال :
اعلم يا بني شرح اللّه صدرك ، ورفع في ذروة التوحيد قدرك :
أن اللّه تعالى لمّا كان على الحقيقتين ، وأبان عنهما بالقبضتين في الموطنين ، وأنبأ عنهما في عالم العبارات بالحرفين ، وجعلهما على السوا في الفطرتين ، والنعيمين والعذابين ، والطاعتين والمعصيين ، باعتدال الكفين ،
وجعل الآخرة ذات دارين ليحط بالعالمين ، وفيها يقع الميز بين الفريقين ، كما وقع في أوان القبضتين قبل أخذ الميثاقين ، وجعل الدنيا برزخين .
وأظهر الكافر في صورة المؤمن والمؤمن في صورة الكافر لذي عينين ، وجعلهما محل تمحيص وبلوى للطائفتين ، فوجّه إليهم على لسان واحد منهم حكمين ، فأمر ونهى لتميز الكلمتين .
ثم قلت : يا بني أنت جامع القبضتين ، وصاحب الحكمتين ، وحامل الصورتين ، فأخبرني عن السر الذي يرد المعادن إلى معدنين ، وأوقفني على الكنزين الأبيضين ، والأحمرين ، وعن سر كل وصفين . كالجلال والجمال ، والانفصال والاتصال ،
والتركيب والتحليل ، والتجميل والتفصيل ، والفناء والبقاء ، والإثبات والمحو ، والسكر والصحو ، والرب والعبد ، والحرّ والبرد . وما أشبه ذلك .
فإمّا أن تخبرني بحقيقة تجمع لي هذه المعاني وإمّا بتفصيل هذه المباني .
فقال : أمّا بالتفصيل فيطول ، وإيضاح الحقيقة الجامعة أولى بالوقت
فأقول :
إن الأشياء المنفعلة إنما تبعث من فاعلها على حقيقة وجوده في الأعيان ، ولهذا لم يبق أبدع من هذا العالم في الإمكان ، وأبين ما يكون ذلك في الإنسان ، أذله الجود المطلق ، والفيض المحقق ، فإن تفطنت فقد أبنت لك عن درج التحقيق ، وألفيتك عن الطريق ، فأدرج عليه حتى تعاين أسرار التفصيل لديه .
وأمّا بحثك عن الكنزين ، والأمر الذي يردّ المعادن إلى معدنين
فاعلم أن هذا الأمر على مرتبتين :
المرتبة الواحدة : في المشاهدة تسمى خرق العوائد ، وهي تصريف المحسوس على حكم همم النفوس ، وهي مختصّة بأرباب الهمم ومعادن الحكم ، وقوتهم تسري في الأرواح بقلب صفات أعيان الأشباح . فهذه صناعة علمية وصورة حكمية لأنها روحانية موادّها سماوية ، إكسيرها مقرون بسعادة الأبد ، وفعله مشاهدة الأحد ، يتصرف في العقل تصرف الأفعال بالأسماء .
وأمّا المرتبة الأخرى :
فهي صناعة علمية ، موقوفة على عناية أزلية تورث الجنان ومجاورة الرحمن ، ولهذا قال في الكتاب المبين :نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [ الزمر : 74 ] . لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ[ الصافات : 61 ] .
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [ المطففين : 26 ] .
فمن أراد أن يقف عليها ، ويصل إليها ، فإنها الكنز الذي لا يهدم جداره ، والزند الذي لا يظهر أواره .
هي حكمة لا يودعها اللّه تعالى إلّا للأمناء من عباده ، المتأهلين لحضرة إشهاده ، فإذا أراد إنما يستعمل الفكر المحرق ، لما قام به من الشوق المعلق ، فأنتج له أن هذا الأمر موقوف على معرفة الحكمة وإنها موضوعة بين النور والظلمة ، موقوفة على المعدن والنبات محكوم عليها لعدد شهود الزمان ، ولكن قصر به الفكر عن تعيين ذاته ، وعن الإدراك لجميع صفاته .
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin