قف بين هاتيك المعاني إنها
وقوله رضي الله عنه :
قف بين هاتيك المعاني إنها * وقفت بها أزمان في أترابها
قوله : قف بين هاتيك المعاني ( 1 ) البيت ، يأمرك بالوقوف في مسيرك بين هاتيك المعاني أي الموجودة في الموجودات كالعوايق ، والقواطع ، والموانع التي تفوق السائرين إلى الله - تعالى - وتقطعهم ، وتمنعهم .
فأمرك بالوقوف معها لتعلم لأي حكمة وجدت هذه العوائق وأمثالها ، ولتعلم الوجه الذي أوجدها ، لأنها - أي العوائق وأمثالها - مخلوقة ، وكل مخلوق ليس هو إلا لله ، ولا قيام له إلا به تعالى ، وقيامه بالله هو وجه الله الذي لذلك المخلوق ، فلولاه لما كان المخلوق مخلوقا .
وهذا مقام الكامل في سيره ، لأن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلق الأشياء عبثا وإنما خلقها حكمة ،
ولهذا قال بعد قوله : قف بين هاتيك المعاني أنها ( 2 ) أي المعاني وقفت بها ( 3 ) أي إليها لكون طريق الله تعالى أزمان في أترابها ( 4 ) ولم يتجاوزوها حتى حققوا معرفة حقائقها ومعانيها التي وجدت لها .
وهذا تعليم لك من المصنف - قدس سره - ليعرفك معنى التربية في اصطلاحهم - رضي الله عنهم - .
وقوله : في أترابها ( 1 ) يعني هكذا كان حال الكمل من قبلك وسيرهم إلى الله تعالى ، وقفوا بين أبناء جنسهم في شهود حسهم حتى نقلتهم يد العناية الربانية بالأنفاس الرحمانية .
ويحتمل معنى قوله : قف بين هاتيك المعاني أنها ( 2 ) البيت إشارة إلى مقام : “ قف يا محمد إن ربك يصلي “ وهو لا يشغله شأن عن شأن ،
ولهذا قال : أنها وقفت بها أي أن الحقيقة المحمدية وقفت بتلك المعاني أزمان في أترابها وليس هناك أزمان ، لأن الزمان والمكان منزهة عند تلك الحضرة ، ولهذا قال : في أترابها وهي الأنوار الذاتية المعبر عنها بالسبحات ، ولا شك أنه - عليه الصلاة والسلام - منها كما علمت من قولنا : أنه ذاتي .
ولا منع في قوله : في أترابها أن في ظرف لمظروف ، وأن ذلك المكان يقبل الظرفية حاشا وكلا ، بل كما نقول : الأمير في مصالح رعيته ، يعني يدبرها فهو غير مظروف فيها .
واعلم أن تعبيرنا لهذه الأبيات بهذه المعاني ، مع أنا نعلم لم نوفها بعض حقها ، ولكن ذلك جهد المقل .
ما هند إلا من أقام على الغضا
وقوله رضي الله عنه :
ما هند إلا من أقام على الغضا * البان والأثلاث في أجنابها
قوله : ما هند ( 1 ) البيت ، يعني ما هند المحبوبة للعاشقين الطالبين وصالها من غير مشقة وتعب ، بل هند لا يحصل وصالها إلا لمن أقام على جمر الغضا ، وتعرض لنيل سهام الأقدار ، وجعل نفسه هدفا لها ، فيرى مرها حلوا ، وتعبها راحة ، وهجرها وصلة ، وغضبها رضى ، وسخطها إقبالا ، فهو كما قيل : “ منعم بعذاب ، معذب بنعيم “ .
إذ حال من طلب هذا المقام أن يكون صنعة بين يدي صانع كيف شاء قلبه ، ولأنه حينئذ لا يشهد أن له ذاتا سوى ذات محبوبه ، سواء أحرقته بهجرها أو نعّمته بقربها ، فحاله كما قيل :
أودع قلبي حرقا أودعي * ذاتك توذي أنت في أضلعي
وارم سهام اللحظ أو كون * أنت بما ترمي مصاب معي
موقعها القلب وأنت الذي * مسكنه فيذلك الموضعي
وخص القلب بسكون محبوبه فيه ، لأن القلب بيت الرب وعرشه .
البان والأثلاث في أجنابها
وقوله : البان والأثلاث في أجنابها ( 1 ) كما قيل : “ حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات “ فمن تجنب البان والأثلاث ، ورضي بجمر الغضاء يحرقه ، فذلك يصلح أن يطلب وصال هند .
ولقد أشار إلى ذلك أبو يزيد - قدس سره - بقوله :
أريدك لا أريدك للثواب * ولكني أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلت منها * سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
وهذا كما يقول أهل الله : “ ليس العجب من ورد وسط بستان لأنه المعتاد ، إنما العجب من ورد وسط النيران لأنه غير معتاد “ .
فقول أبي يزيد - قدس سره - : “ أريدك لا أريدك للثواب “ يعني أن مرادي لمّا وافق مرادك فيما أمرتني به ، لست ملتذا به ، لأن مأمورات الشرع ليس لي فيها شيء ، بل مرادي تذيقني عذابا ألتذ به وهو الغير المألوف لنفسي ، وتوجدني مع ذلك لذة تكون لذة ذلك العذاب عندي كلذة ذلك النعيم الذي وافقه مرادي من حيث أوامرك الشرعية .
وقوله : البان والأثلاث في اجنابها فالبان من البعد ، إذ العرب تتشائم من البان لأنه من البين ، وتتشائم أيضا بالغرب لأنه من الغربة ،
كما قال الشاعر :
على غضين من غرب وبان * فكان البان إذ بانت سليمي
وأما الأثلاث فواحدته أثل ، والأثل في اللغة هو الأصل ، وأصل الإنسان هي الطبيعة .
و معها حجاب عن نيل مراد المحبوب ،
ولهذا قال : البان والأثلاث في أجنابها يعني أن البين والطبيعة لا يميل إليهما إلا من كان مجنبا عن محبوبه ، إذ الطبيعة تخلد الإنسان إلى الأرض ، وذلك هو البين المبعد عن تلك الحضرة .
ما هند إلا من أقام على الغضا
ويحتمل أن قوله : ما هند إلا من أقام على الغضا ( 1 ) البيت ، أن المراد بهند هي المعارف الموحى بها إليه ، تسمى في لغة آدم هندا ، كما تسمى في لغتنا حكمة ، ويكون المراد بالغضا الصبر الشاق على النفس من حيث حبسها عما تريد ، فإن الصبر على النفس أشق من جمر الغضا على الجسم ، ويكون المراد بالبين الوصل ، لأنه من أسماء الأضداد
كما قال - تعالى - على قراءة الضم :لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ” 1 “ أي وصلكم ، ويكون المراد بالأثلاث ، الأصل الذي خلق منه جميع العوالم - وهو الحقيقة المحمدية المعبر عنه بالعقل الأول –
فيكون المعنى حينئذ : ما هند أي ما الحكم الإلهية إلا لمن أقام النفس على الجادة - المعبر عنها بالمحجة البيضاء - التي يكون القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر ، فحينئذ يعطى مقام الوصل الذي ليس بعده فصل ، والله أعلم بالصواب .
فانخ مطيك في الديار فإنها
وقوله رضي الله عنه :
فانخ مطيك في الديار فإنها * دار مباركة على أصحابها
قوله : فانخ مطيك ( 1 ) البيت ، المراد بالمطي عزائم أمور السالك كما قال تعالى :وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ" سورة النحل ( 16 ) : الآية 7 . الآية ،
وأمر أن ينوخ المطي في الديار ، وهي المقامات التي سلكها السالك حتى تحمل عليها ما يعطيك المقام من زاد السفر ، فزاد التوبة من مقام التوبة وكذلك كل المقامات ،
ولذلك قال : فإنها ( 2 ) أي تلك الديار التي أنخت مطيتك فيها لزاد سفرك منها ، إنها مباركة ( 3 ) أي مبروكة على أصحابها ، فخرج بأصحابها من لم يكن أهلا للصحبة ، والمتأهل للصحبة هو التارك نفسه التي درت عليه تلك الديار بالبركات ، لما عرفته أنه من أصحابها ، فحق الصحبة عظيم لا يماثله عمل من أعمال غير الصاحب - ما ذا عسى كان ذلك العمل - كما ورد : “ لو أنفق أحدكم مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه “ .
وقوله : في الديار ( 4 ) ثم قال بعده : فإنها دار لتعلم أن تلك المنازل المتعددة المسماة بأسماء متغايرة دار واحدة من حيث دورها ، كما يقال : النهاية الرجوع إلى البداية .
فالبداية أولا من الأحدية ، والنهاية إليها ، والأحدية واحدة ، وكل تلك المنازل الأحدية فيها بالذات ، فلهذا كان الديار في قوله : إنها دار مباركة ( 1 ) أي على أصحابها ، وهم الذين خصّوا بتجلي الأحدية من حيث القلب المحمدي من الإرث الخاص ، وهو للمحقق دون العارف .
وإتيانه بلفظ المطي ( 2 ) بصيغة الجمع لمقابلة الديار ، وليست المطي المعبر عنها بعزائمك إلا ما قام بذاتك ، وذاتك واحدة ، فناسب واحدية ذاتك أحدية الموروث فافهم ، والله ورسوله أعلم .
لا تعرف الأغيار في غرفاتها
وقوله رضي الله عنه :
لا تعرف الأغيار في غرفاتها * مجهولة سدت على أبوابها
يقول : أن الأغيار الواقفين مع حجاب العقل والنقل بالفكر النظري غير معروفين في غرفانها ، أي في ساعات معارفها - وهي حضرات المخاطبة ، والمكالمة ، والمحادثة ، والمسامرة ، وغير ذلك –
ولهذا قال : مجهولة ( 1 ) أي عنهم سدت على أبوابها ( 2 ) يعني جعلت حراسا لأبواب معارفها ، لا يأذنون لكل من أراد الدخول بحجاب عقله ، بل يردونه من حيث أتى ، فإذن فليعذروا ، وأعجب شيء إنكار الواقفين مع حجاب العقل فيما يرد عليهم من علوم الحقيقة ،
مع أنه قد بلغ إليهم قول الصادق المخبر : “ من كتم علما ألجمه الله بلجام من ناره “ ، وفي ذلك من باهر معجزاته ما لا يخفى على متأمله ، وما ذاك إلا لما علم - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه سيأتي على أمته من ينكر على مثل أهل هذه الطائفة علومهم ، قال ذلك ردعا وتنبيها لمن مذهبه الإنكار على هؤلاء القوم ، فكما أن من كتم علما ألجم بلجام من نار ،
كذلك من أحب كتم علم ألجمه الله بلجام من نار :يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. سورة التوبة: الآية 32.
روى الإمام محيي الدين بن العربي - قدس سره - “ قال :
دخلت على بعض مشايخي ، فدخل رجل من أهل الحديث - وكان ممن ينكر خرق العادة على من كان له خرق العادة عادة –
فقال له : ما دليلك يا فلان فيما لو تسلمت لهؤلاء القوم ما يدعونه ؟
فإنهم إن كانوا صادقين فقد أصبت نفسك ، وإن كانوا غير ذلك فحسبهم وما ادعوه ، ثم أشار إلي ، فعرفت أنه يريدني أجاوب ذلك المحدث ،
فقلت له : يا فلان أنت رجل من أهل الحديث ؟
فقال : نعم ،
فقلت له : لمّا علم - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه سيأتي في أمته مثلك من ينكر على من كان خرق العادة له عادة ، أتى من سامع كلمة ما يقصم به ظهره ،
قال : وما هو ؟
قلت : ألست قد رويت لنا عن النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه قال : “ ربّ أشعث أغبر مدفوع على الأبواب لو أقسم على الله لأبره “ قال : نعم ، ثم حسنت حاله بعد ذلك ، ولم يكن ينكر على أحد من هذه الطائفة شيئا “ .
وحكي عنه أيضا - قدس سره العزيز - أن سبب شرحه لترجمان الأشواق الذي أنشأه بمكة ، سؤال صاحبه المسعود أبي محمد عبد الله بدر بن عبد الله الحبشي الخادم ، وسؤال الولد البار شمس الدين إسماعيل بن سود كين النوري بمدينة حلب ، وقد سمع من بعض الفقهاء قولا أنكره ،
وهو أنه سمعه يقول : “ قول الشيخ في أول هذا الترجمان : أنه قصد بما فيه من الأبيات الغزلية علوما وأسرارا وحقائق ، ليس بصحيح - والله أعلم –
وإنما فعله الشيخ تسترا ، حتى لا ينسب إليه لسان الغزل مع ما هو عليه من الدين والصلاح “ ،
فذكر ذلك لنا شمس الدين إسماعيل ، فشرعت في شرحه بحلب ، وحضر سماع بعضه ذلك الفقيه المتكلم وجملة من الفقهاء بقراءة كمال الدين أبي القاسم بن نجم الدين القاضي بن عديم بمنزلنا - وفقه الله - ، وأعجلنا السفر ، فأتممته بأقسرا سنة أربع عشر وستمأة ، ولمّا سمعه ذلك القائل
قال لشمس الدين إسماعيل : “ ما بقيت بعد هذا الأمر أتهم أحدا من أهل هذه الطريقة فيما يتكلمون به من الكلام المعتاد ، ويزعمون أنهم يشيرون به إلى علوم اصطلحوا عليها بهذه الألفاظ “ ، وحسن ظنه وانتفع ، فهذا كان سبب شرحي لهذا الكتاب “ .
وقوله رضي الله عنه : لا تعرفه الأغيار ( 1 ) البيت ، يعني أن الغير ليس له وجود مع من قال :لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. سورة غافر: الآية 16 .
وليس المراد باليوم هنا القطعة من الزمان التي هي عبارة عن طلوع الشمس وغروبها ، بل المراد باليوم من أيام الرب ، وليس أيامه تعالى سوى تجلياته ، وهو دائما متجلي فهو دائم [ دائما ] مناد : “ لمن الملك اليوم “ ولقضية الالتباس على الخلق لم يشعروا بهذا السرّ كما قال تعالى :بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ” سورة ق ( 50 ) : الآية 15. فافهم .
النازلين بحيها هم أهلها
وقوله رضي الله عنه :
النازلين بحيها هم أهلها * من بان عنها ليس من أنسابها
قوله رضي الله عنه : النازلين بحيها ( 1 ) البيت ، المراد بالنزول الوقوف على قدم التجريد عن الكون بحي من لا نسبة بينها وبين الأكوان ، فأولئك هم أهلها ، وهم الذين لم يشهدوا السوى ، ولهذا قال : من بان عنها ( 2 ) أي بعد شهود مرتبة البين ليس من أنسابها ( 3 ) يعني ليس ممن هو منتسب إلى الشرف والمجد الذاتي ، لأن ذلك الشرف والمجد لا يكون للغير فيه نصيب أبدا ،
ومن ثم ورد : “ العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني أحدهما قصمته ، فضلا عن كليهما “ ، وقد علم أن لا منازع له فيهما .
ويحتمل أن يكون معنى النازلين بحيّها البيت أن النزول هنا بمعنى البقاء ، وأن الحيّ بمعنى الحياة ، وذلك أن العبد إذا أخذ في السير المعبر عنه بالفناء ، لم يزل يفنى عنه مراتب الأكوان ، حتى يبقى بمن ليس بكون ، وهي الحياة الإلهية التي أبقته بعد فنائه في مقام البقاء ، وتعبيرنا بالحي أنه بمعنى الحياة ، فإن الحي الذي هو محل لا يكون حيا إلا بمن أحياه وهم أهله كما قيل :
وما الحي إلا أن تكونوا بسفحه * وإلا فرسم دارس وطلول
إذا ما رحلتم عن حمى فهو دارس * وحي إذا أنتم هناك حلول
وهو أيضا شبه بقول من قال :
تحيى بهم كل أرض ينزلون بها * كأنهم لبلاد الله أمطار
فإذا فهمت ذلك علمت أن المحيي - وهو الله تعالى - هو الذي تجلّى في نظره إلى الوجود بتعينه فيه ، فلو رفع نظره عن الوجود لانعدم الوجود بأسره دفعة واحدة ، فحياة الوجود بنظر الله تعالى إليه أي إلى الوجود .
وليس المراد بقولنا : النازلين بحييها هم أهلها إلا الذين صارت حياتهم حياة الحق ، فهم أهل الله وخاصته ،
وهم القرآنيون الذات كما ورد : “ أهل القرآن أهل الله وخاصته “ فافهم .
لله در منازل قد شرفت
وقوله - رضي الله عنه - :
لله در منازل قد شرفت * للساكنين وشرفوا بترابها
قوله : لله در منازل ( 1 ) البيت ، المراد بالمنازل حضرات الأسماء والصفات في مراتبها المتعينات ، إذ بها تعينت الموجودات من حيث إنها مظاهرها ، فكل الموجودات مظاهر كل الأسماء والصفات .
فالخلق مظهر الحق - سبحانه وتعالى - من حيث اسمه الحي باعتبار سريان حياته فيها .
كذلك اسمه العليم ، فإن العالم جميعه معلوم للعلم الإلهي ، فالعالم مظهر اسمه العليم ، وهكذا إلى آخر أسمائه وصفاته .
وشرف الأسماء الحسنى بشرف المسمى ، إذ ليست إلا عينه ، وقوله : للساكنين ( 2 ) وهم الذين سكنوا تحت جريان مقتضيات الأسماء والصفات من حيث تضادها ، فإن المنعم ضد المنتقم ، والمنتقم ضد المنعم ، كما أن التضاد واقع في الأسماء والصفات واقع أيضا في الذات بدليل : “ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك عن عقوبتك ، وأعوذ بك منك “ .
وقوله : وشرفوا بترابها ( 3 ) يعني أن الذين سكنوا تحت جريان الأقدار ، ولو أنصبت عليهم سحائب من نار لا يرونها إلا نعيما ، وهذا هو الشرف الذي ورثوه من آثار تجليات تلك الأسماء ،
وتلك الآثار هي المعبر عنها بترابها في قوله : وشرفوا بترابها يعني وشرفوا بآثار الأسماء والصفات ، حيث تسكن تحت أقدارها بما أمطرته أنوارها .
وكما قلنا : أن الأسماء شرافتها بشرف المسمى ، كذلك أيضا من كان مظهر تلك الأسماء الشريفة فهو مشرف بشرفها ، ومن ثم قيل : ما في الكون إلا حسن ، باعتبار ما بيناه من كون العالم جميعه مظهر الأسماء الحسنى ، فالعالم حسن بهذا الاعتبار ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. سورة الزخرف : الآية 4 .
ثم قال رضي الله عنه :
الباء هي النفس ، وهي حرف ظلماني ، وليس في البسملة بأسرها من الحروف الظلمانية حرف إلا هي ،
وأعني بالحروف الظلمانية التي هي في أوائل السور مقطعة هي ( بجد ورقشت ثخذ ضظغ ) ، لأن الحروف النورانية التي في أوائل السور مقطعة هي ( أهر حطي كلمن سعفص ) ، فجعل الحق حرف الباء أول القرآن في كل سورة ، لأن أول حجاب بينك وبين الله وجودك ، فإذا فني ولم يبق إلا هي ، كانت أسمائه وصفاته التي هي منه حجابا عليه فتلك جميعها نورانية ،
ألا ترى أن بسم اللّه الرحمن الرحيم كلها نورانية ما خلا حرف الباء الذي يعني أنه وجودك فهو ظلماني والباقي جميعه نوراني ،
ومن هنا كانت الباء ثوبا على النقطة ، لأنها فوقها والثوب فوق اللابس ، فكانت الباء ظلمة فوق النقطة ، محجوبة بوجودها الذي هو العالم البارز عن عالم الجمال النقطي ، وحكمة ظهور النقطة ورائه إشارة إلى أن الأمر الحقيقي وراء ما ظهر .
.
وقوله رضي الله عنه :
قف بين هاتيك المعاني إنها * وقفت بها أزمان في أترابها
قوله : قف بين هاتيك المعاني ( 1 ) البيت ، يأمرك بالوقوف في مسيرك بين هاتيك المعاني أي الموجودة في الموجودات كالعوايق ، والقواطع ، والموانع التي تفوق السائرين إلى الله - تعالى - وتقطعهم ، وتمنعهم .
فأمرك بالوقوف معها لتعلم لأي حكمة وجدت هذه العوائق وأمثالها ، ولتعلم الوجه الذي أوجدها ، لأنها - أي العوائق وأمثالها - مخلوقة ، وكل مخلوق ليس هو إلا لله ، ولا قيام له إلا به تعالى ، وقيامه بالله هو وجه الله الذي لذلك المخلوق ، فلولاه لما كان المخلوق مخلوقا .
وهذا مقام الكامل في سيره ، لأن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلق الأشياء عبثا وإنما خلقها حكمة ،
ولهذا قال بعد قوله : قف بين هاتيك المعاني أنها ( 2 ) أي المعاني وقفت بها ( 3 ) أي إليها لكون طريق الله تعالى أزمان في أترابها ( 4 ) ولم يتجاوزوها حتى حققوا معرفة حقائقها ومعانيها التي وجدت لها .
وهذا تعليم لك من المصنف - قدس سره - ليعرفك معنى التربية في اصطلاحهم - رضي الله عنهم - .
وقوله : في أترابها ( 1 ) يعني هكذا كان حال الكمل من قبلك وسيرهم إلى الله تعالى ، وقفوا بين أبناء جنسهم في شهود حسهم حتى نقلتهم يد العناية الربانية بالأنفاس الرحمانية .
ويحتمل معنى قوله : قف بين هاتيك المعاني أنها ( 2 ) البيت إشارة إلى مقام : “ قف يا محمد إن ربك يصلي “ وهو لا يشغله شأن عن شأن ،
ولهذا قال : أنها وقفت بها أي أن الحقيقة المحمدية وقفت بتلك المعاني أزمان في أترابها وليس هناك أزمان ، لأن الزمان والمكان منزهة عند تلك الحضرة ، ولهذا قال : في أترابها وهي الأنوار الذاتية المعبر عنها بالسبحات ، ولا شك أنه - عليه الصلاة والسلام - منها كما علمت من قولنا : أنه ذاتي .
ولا منع في قوله : في أترابها أن في ظرف لمظروف ، وأن ذلك المكان يقبل الظرفية حاشا وكلا ، بل كما نقول : الأمير في مصالح رعيته ، يعني يدبرها فهو غير مظروف فيها .
واعلم أن تعبيرنا لهذه الأبيات بهذه المعاني ، مع أنا نعلم لم نوفها بعض حقها ، ولكن ذلك جهد المقل .
ما هند إلا من أقام على الغضا
وقوله رضي الله عنه :
ما هند إلا من أقام على الغضا * البان والأثلاث في أجنابها
قوله : ما هند ( 1 ) البيت ، يعني ما هند المحبوبة للعاشقين الطالبين وصالها من غير مشقة وتعب ، بل هند لا يحصل وصالها إلا لمن أقام على جمر الغضا ، وتعرض لنيل سهام الأقدار ، وجعل نفسه هدفا لها ، فيرى مرها حلوا ، وتعبها راحة ، وهجرها وصلة ، وغضبها رضى ، وسخطها إقبالا ، فهو كما قيل : “ منعم بعذاب ، معذب بنعيم “ .
إذ حال من طلب هذا المقام أن يكون صنعة بين يدي صانع كيف شاء قلبه ، ولأنه حينئذ لا يشهد أن له ذاتا سوى ذات محبوبه ، سواء أحرقته بهجرها أو نعّمته بقربها ، فحاله كما قيل :
أودع قلبي حرقا أودعي * ذاتك توذي أنت في أضلعي
وارم سهام اللحظ أو كون * أنت بما ترمي مصاب معي
موقعها القلب وأنت الذي * مسكنه فيذلك الموضعي
وخص القلب بسكون محبوبه فيه ، لأن القلب بيت الرب وعرشه .
البان والأثلاث في أجنابها
وقوله : البان والأثلاث في أجنابها ( 1 ) كما قيل : “ حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات “ فمن تجنب البان والأثلاث ، ورضي بجمر الغضاء يحرقه ، فذلك يصلح أن يطلب وصال هند .
ولقد أشار إلى ذلك أبو يزيد - قدس سره - بقوله :
أريدك لا أريدك للثواب * ولكني أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلت منها * سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
وهذا كما يقول أهل الله : “ ليس العجب من ورد وسط بستان لأنه المعتاد ، إنما العجب من ورد وسط النيران لأنه غير معتاد “ .
فقول أبي يزيد - قدس سره - : “ أريدك لا أريدك للثواب “ يعني أن مرادي لمّا وافق مرادك فيما أمرتني به ، لست ملتذا به ، لأن مأمورات الشرع ليس لي فيها شيء ، بل مرادي تذيقني عذابا ألتذ به وهو الغير المألوف لنفسي ، وتوجدني مع ذلك لذة تكون لذة ذلك العذاب عندي كلذة ذلك النعيم الذي وافقه مرادي من حيث أوامرك الشرعية .
وقوله : البان والأثلاث في اجنابها فالبان من البعد ، إذ العرب تتشائم من البان لأنه من البين ، وتتشائم أيضا بالغرب لأنه من الغربة ،
كما قال الشاعر :
على غضين من غرب وبان * فكان البان إذ بانت سليمي
وأما الأثلاث فواحدته أثل ، والأثل في اللغة هو الأصل ، وأصل الإنسان هي الطبيعة .
و معها حجاب عن نيل مراد المحبوب ،
ولهذا قال : البان والأثلاث في أجنابها يعني أن البين والطبيعة لا يميل إليهما إلا من كان مجنبا عن محبوبه ، إذ الطبيعة تخلد الإنسان إلى الأرض ، وذلك هو البين المبعد عن تلك الحضرة .
ما هند إلا من أقام على الغضا
ويحتمل أن قوله : ما هند إلا من أقام على الغضا ( 1 ) البيت ، أن المراد بهند هي المعارف الموحى بها إليه ، تسمى في لغة آدم هندا ، كما تسمى في لغتنا حكمة ، ويكون المراد بالغضا الصبر الشاق على النفس من حيث حبسها عما تريد ، فإن الصبر على النفس أشق من جمر الغضا على الجسم ، ويكون المراد بالبين الوصل ، لأنه من أسماء الأضداد
كما قال - تعالى - على قراءة الضم :لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ” 1 “ أي وصلكم ، ويكون المراد بالأثلاث ، الأصل الذي خلق منه جميع العوالم - وهو الحقيقة المحمدية المعبر عنه بالعقل الأول –
فيكون المعنى حينئذ : ما هند أي ما الحكم الإلهية إلا لمن أقام النفس على الجادة - المعبر عنها بالمحجة البيضاء - التي يكون القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر ، فحينئذ يعطى مقام الوصل الذي ليس بعده فصل ، والله أعلم بالصواب .
فانخ مطيك في الديار فإنها
وقوله رضي الله عنه :
فانخ مطيك في الديار فإنها * دار مباركة على أصحابها
قوله : فانخ مطيك ( 1 ) البيت ، المراد بالمطي عزائم أمور السالك كما قال تعالى :وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ" سورة النحل ( 16 ) : الآية 7 . الآية ،
وأمر أن ينوخ المطي في الديار ، وهي المقامات التي سلكها السالك حتى تحمل عليها ما يعطيك المقام من زاد السفر ، فزاد التوبة من مقام التوبة وكذلك كل المقامات ،
ولذلك قال : فإنها ( 2 ) أي تلك الديار التي أنخت مطيتك فيها لزاد سفرك منها ، إنها مباركة ( 3 ) أي مبروكة على أصحابها ، فخرج بأصحابها من لم يكن أهلا للصحبة ، والمتأهل للصحبة هو التارك نفسه التي درت عليه تلك الديار بالبركات ، لما عرفته أنه من أصحابها ، فحق الصحبة عظيم لا يماثله عمل من أعمال غير الصاحب - ما ذا عسى كان ذلك العمل - كما ورد : “ لو أنفق أحدكم مثل أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصفه “ .
وقوله : في الديار ( 4 ) ثم قال بعده : فإنها دار لتعلم أن تلك المنازل المتعددة المسماة بأسماء متغايرة دار واحدة من حيث دورها ، كما يقال : النهاية الرجوع إلى البداية .
فالبداية أولا من الأحدية ، والنهاية إليها ، والأحدية واحدة ، وكل تلك المنازل الأحدية فيها بالذات ، فلهذا كان الديار في قوله : إنها دار مباركة ( 1 ) أي على أصحابها ، وهم الذين خصّوا بتجلي الأحدية من حيث القلب المحمدي من الإرث الخاص ، وهو للمحقق دون العارف .
وإتيانه بلفظ المطي ( 2 ) بصيغة الجمع لمقابلة الديار ، وليست المطي المعبر عنها بعزائمك إلا ما قام بذاتك ، وذاتك واحدة ، فناسب واحدية ذاتك أحدية الموروث فافهم ، والله ورسوله أعلم .
لا تعرف الأغيار في غرفاتها
وقوله رضي الله عنه :
لا تعرف الأغيار في غرفاتها * مجهولة سدت على أبوابها
يقول : أن الأغيار الواقفين مع حجاب العقل والنقل بالفكر النظري غير معروفين في غرفانها ، أي في ساعات معارفها - وهي حضرات المخاطبة ، والمكالمة ، والمحادثة ، والمسامرة ، وغير ذلك –
ولهذا قال : مجهولة ( 1 ) أي عنهم سدت على أبوابها ( 2 ) يعني جعلت حراسا لأبواب معارفها ، لا يأذنون لكل من أراد الدخول بحجاب عقله ، بل يردونه من حيث أتى ، فإذن فليعذروا ، وأعجب شيء إنكار الواقفين مع حجاب العقل فيما يرد عليهم من علوم الحقيقة ،
مع أنه قد بلغ إليهم قول الصادق المخبر : “ من كتم علما ألجمه الله بلجام من ناره “ ، وفي ذلك من باهر معجزاته ما لا يخفى على متأمله ، وما ذاك إلا لما علم - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه سيأتي على أمته من ينكر على مثل أهل هذه الطائفة علومهم ، قال ذلك ردعا وتنبيها لمن مذهبه الإنكار على هؤلاء القوم ، فكما أن من كتم علما ألجم بلجام من نار ،
كذلك من أحب كتم علم ألجمه الله بلجام من نار :يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. سورة التوبة: الآية 32.
روى الإمام محيي الدين بن العربي - قدس سره - “ قال :
دخلت على بعض مشايخي ، فدخل رجل من أهل الحديث - وكان ممن ينكر خرق العادة على من كان له خرق العادة عادة –
فقال له : ما دليلك يا فلان فيما لو تسلمت لهؤلاء القوم ما يدعونه ؟
فإنهم إن كانوا صادقين فقد أصبت نفسك ، وإن كانوا غير ذلك فحسبهم وما ادعوه ، ثم أشار إلي ، فعرفت أنه يريدني أجاوب ذلك المحدث ،
فقلت له : يا فلان أنت رجل من أهل الحديث ؟
فقال : نعم ،
فقلت له : لمّا علم - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه سيأتي في أمته مثلك من ينكر على من كان خرق العادة له عادة ، أتى من سامع كلمة ما يقصم به ظهره ،
قال : وما هو ؟
قلت : ألست قد رويت لنا عن النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - أنه قال : “ ربّ أشعث أغبر مدفوع على الأبواب لو أقسم على الله لأبره “ قال : نعم ، ثم حسنت حاله بعد ذلك ، ولم يكن ينكر على أحد من هذه الطائفة شيئا “ .
وحكي عنه أيضا - قدس سره العزيز - أن سبب شرحه لترجمان الأشواق الذي أنشأه بمكة ، سؤال صاحبه المسعود أبي محمد عبد الله بدر بن عبد الله الحبشي الخادم ، وسؤال الولد البار شمس الدين إسماعيل بن سود كين النوري بمدينة حلب ، وقد سمع من بعض الفقهاء قولا أنكره ،
وهو أنه سمعه يقول : “ قول الشيخ في أول هذا الترجمان : أنه قصد بما فيه من الأبيات الغزلية علوما وأسرارا وحقائق ، ليس بصحيح - والله أعلم –
وإنما فعله الشيخ تسترا ، حتى لا ينسب إليه لسان الغزل مع ما هو عليه من الدين والصلاح “ ،
فذكر ذلك لنا شمس الدين إسماعيل ، فشرعت في شرحه بحلب ، وحضر سماع بعضه ذلك الفقيه المتكلم وجملة من الفقهاء بقراءة كمال الدين أبي القاسم بن نجم الدين القاضي بن عديم بمنزلنا - وفقه الله - ، وأعجلنا السفر ، فأتممته بأقسرا سنة أربع عشر وستمأة ، ولمّا سمعه ذلك القائل
قال لشمس الدين إسماعيل : “ ما بقيت بعد هذا الأمر أتهم أحدا من أهل هذه الطريقة فيما يتكلمون به من الكلام المعتاد ، ويزعمون أنهم يشيرون به إلى علوم اصطلحوا عليها بهذه الألفاظ “ ، وحسن ظنه وانتفع ، فهذا كان سبب شرحي لهذا الكتاب “ .
وقوله رضي الله عنه : لا تعرفه الأغيار ( 1 ) البيت ، يعني أن الغير ليس له وجود مع من قال :لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. سورة غافر: الآية 16 .
وليس المراد باليوم هنا القطعة من الزمان التي هي عبارة عن طلوع الشمس وغروبها ، بل المراد باليوم من أيام الرب ، وليس أيامه تعالى سوى تجلياته ، وهو دائما متجلي فهو دائم [ دائما ] مناد : “ لمن الملك اليوم “ ولقضية الالتباس على الخلق لم يشعروا بهذا السرّ كما قال تعالى :بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ” سورة ق ( 50 ) : الآية 15. فافهم .
النازلين بحيها هم أهلها
وقوله رضي الله عنه :
النازلين بحيها هم أهلها * من بان عنها ليس من أنسابها
قوله رضي الله عنه : النازلين بحيها ( 1 ) البيت ، المراد بالنزول الوقوف على قدم التجريد عن الكون بحي من لا نسبة بينها وبين الأكوان ، فأولئك هم أهلها ، وهم الذين لم يشهدوا السوى ، ولهذا قال : من بان عنها ( 2 ) أي بعد شهود مرتبة البين ليس من أنسابها ( 3 ) يعني ليس ممن هو منتسب إلى الشرف والمجد الذاتي ، لأن ذلك الشرف والمجد لا يكون للغير فيه نصيب أبدا ،
ومن ثم ورد : “ العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني أحدهما قصمته ، فضلا عن كليهما “ ، وقد علم أن لا منازع له فيهما .
ويحتمل أن يكون معنى النازلين بحيّها البيت أن النزول هنا بمعنى البقاء ، وأن الحيّ بمعنى الحياة ، وذلك أن العبد إذا أخذ في السير المعبر عنه بالفناء ، لم يزل يفنى عنه مراتب الأكوان ، حتى يبقى بمن ليس بكون ، وهي الحياة الإلهية التي أبقته بعد فنائه في مقام البقاء ، وتعبيرنا بالحي أنه بمعنى الحياة ، فإن الحي الذي هو محل لا يكون حيا إلا بمن أحياه وهم أهله كما قيل :
وما الحي إلا أن تكونوا بسفحه * وإلا فرسم دارس وطلول
إذا ما رحلتم عن حمى فهو دارس * وحي إذا أنتم هناك حلول
وهو أيضا شبه بقول من قال :
تحيى بهم كل أرض ينزلون بها * كأنهم لبلاد الله أمطار
فإذا فهمت ذلك علمت أن المحيي - وهو الله تعالى - هو الذي تجلّى في نظره إلى الوجود بتعينه فيه ، فلو رفع نظره عن الوجود لانعدم الوجود بأسره دفعة واحدة ، فحياة الوجود بنظر الله تعالى إليه أي إلى الوجود .
وليس المراد بقولنا : النازلين بحييها هم أهلها إلا الذين صارت حياتهم حياة الحق ، فهم أهل الله وخاصته ،
وهم القرآنيون الذات كما ورد : “ أهل القرآن أهل الله وخاصته “ فافهم .
لله در منازل قد شرفت
وقوله - رضي الله عنه - :
لله در منازل قد شرفت * للساكنين وشرفوا بترابها
قوله : لله در منازل ( 1 ) البيت ، المراد بالمنازل حضرات الأسماء والصفات في مراتبها المتعينات ، إذ بها تعينت الموجودات من حيث إنها مظاهرها ، فكل الموجودات مظاهر كل الأسماء والصفات .
فالخلق مظهر الحق - سبحانه وتعالى - من حيث اسمه الحي باعتبار سريان حياته فيها .
كذلك اسمه العليم ، فإن العالم جميعه معلوم للعلم الإلهي ، فالعالم مظهر اسمه العليم ، وهكذا إلى آخر أسمائه وصفاته .
وشرف الأسماء الحسنى بشرف المسمى ، إذ ليست إلا عينه ، وقوله : للساكنين ( 2 ) وهم الذين سكنوا تحت جريان مقتضيات الأسماء والصفات من حيث تضادها ، فإن المنعم ضد المنتقم ، والمنتقم ضد المنعم ، كما أن التضاد واقع في الأسماء والصفات واقع أيضا في الذات بدليل : “ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك عن عقوبتك ، وأعوذ بك منك “ .
وقوله : وشرفوا بترابها ( 3 ) يعني أن الذين سكنوا تحت جريان الأقدار ، ولو أنصبت عليهم سحائب من نار لا يرونها إلا نعيما ، وهذا هو الشرف الذي ورثوه من آثار تجليات تلك الأسماء ،
وتلك الآثار هي المعبر عنها بترابها في قوله : وشرفوا بترابها يعني وشرفوا بآثار الأسماء والصفات ، حيث تسكن تحت أقدارها بما أمطرته أنوارها .
وكما قلنا : أن الأسماء شرافتها بشرف المسمى ، كذلك أيضا من كان مظهر تلك الأسماء الشريفة فهو مشرف بشرفها ، ومن ثم قيل : ما في الكون إلا حسن ، باعتبار ما بيناه من كون العالم جميعه مظهر الأسماء الحسنى ، فالعالم حسن بهذا الاعتبار ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. سورة الزخرف : الآية 4 .
ثم قال رضي الله عنه :
الباء هي النفس ، وهي حرف ظلماني ، وليس في البسملة بأسرها من الحروف الظلمانية حرف إلا هي ،
وأعني بالحروف الظلمانية التي هي في أوائل السور مقطعة هي ( بجد ورقشت ثخذ ضظغ ) ، لأن الحروف النورانية التي في أوائل السور مقطعة هي ( أهر حطي كلمن سعفص ) ، فجعل الحق حرف الباء أول القرآن في كل سورة ، لأن أول حجاب بينك وبين الله وجودك ، فإذا فني ولم يبق إلا هي ، كانت أسمائه وصفاته التي هي منه حجابا عليه فتلك جميعها نورانية ،
ألا ترى أن بسم اللّه الرحمن الرحيم كلها نورانية ما خلا حرف الباء الذي يعني أنه وجودك فهو ظلماني والباقي جميعه نوراني ،
ومن هنا كانت الباء ثوبا على النقطة ، لأنها فوقها والثوب فوق اللابس ، فكانت الباء ظلمة فوق النقطة ، محجوبة بوجودها الذي هو العالم البارز عن عالم الجمال النقطي ، وحكمة ظهور النقطة ورائه إشارة إلى أن الأمر الحقيقي وراء ما ظهر .
.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin