كتاب شرح الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم للعارف بالله عبد الكريم الجيلي
الفصل الرابع الباء من الحروف الظلمانية
الباء هي النّفس ، وهي حرف ظلماني ، وليس في البسملة بأسرها من الحروف الظّلمانيّة إلّا هي ،وأعني بالحروف الظّلمانيّة : (ب ج د ز ف ش ت ث خ ذ ض ظ غ) .
لأنّ الحروف النّورانيّة الّتي هي في أوائل السّور مقطّعة هي:
( هـ ح ط ى ل م ن س ع ص ق ر ) ، فجعل الحقّ سبحانه حرف الباء أوّل القرآن في كلّ سورة ، لأنّ أوّل حجاب بينك وبين ذاته سبحانه وتعالى ظلمة وجودك ، فإذا فنى ولم يبق إلّا هو كانت أسماؤه وصفاته الّتي هي منه حجاب عليه ، فتلك جميعها نورانيّة .
سبب خلافة الباء عن الألف في بسم اللّه الرحمن الرحيم
ألا ترى أنّ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم كلّها حروف نورانيّة ما خلا الباء - الّذي نعني به وجودك - فهو ظلمانيّ والباقي فجميعه نورانيّ ، ومن هذا كانت الباء ثوبا على النّقطة ، لأنّها فوقها ، والثّوب فوق الملابس ، فكانت الباء ظلمة فوق نور النّقطة ، محجوبة بوجودها الّتي هي العالم البارز عن عالم الجمال النّقطي .
وحكمة ظهور النّقطة وراءه إشارة إلى أنّ الأمر الحقيقي وراء ما ظهر ، لما التصقت النّقطة بالباء كان الباء في الكلام مستعملا للإلصاق ، ولمّا كان نظر النّقطة ممدودا إلى الباء كان الباء في كلام العرب مستعملا للاستعانة .
لمّا لاح نار السّعادة للباء على شجرة نفسه ، سرى في ظلمة سرادق غيب ليله عن أهله ، ليقتبس نار النّقطة أو يجد هدى في نفسه إلى نفسه ، نودي من جانب قائم شجرة الألف الّذي هو اسم اللّه فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي وصفك وذاتك :
إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ وأنت محلّ التّشبيه والدّنس ، ولا مقام لك في وادي تقديس النّقطة إلّا أن تخلع تشبيه ذاتك ودنس صفاتك ، حتّى لا يبقى في القدس إلّا القدّوس .
فأخذ بزمامه يد التّوفيق ، فانبسط تحت نور الألف انبساط الظّلّ ، إذ ظلّ كلّ شيء مثله ، وبسط باء كلّ كتابة بقدر قائم ألفها ، فرأت نفسها ظلا لهذا القائم ، فعلمت أنّ قيامها به ، إذ لا وجود للظّلّ إلّا بالشّخص بين الجرم المستوى بها فتحقّق لها فناؤها ، ونفت وهميّة وجودها ، لأنّ الظلّ بنفسه ليس بشيء موجود تامّ ، إنّما هو حيلولة الشّخص بين الجرم المستتر والأرض ، فوجود الظّلّ لنفسه محال ، ولكن لا بدّ من وجود .
فلمّا تحقّق الباء بهذا القدر من الفناء أخذه الألف إلى نفسه ، وأبقاه في محلّه ، واندرج الألف فيه ، ولهذا طوّلت باء بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لتكون دليلا على الألف المندرج فيها ، فهي في المعنى خليفة عن الألف ، وفي الصّورة مطوّلة على هيئة الألف ، فحصل لها من الألف الهيئة والمعنى ، ووقعت في الكلام محلّ الألف ، ولا يعرف في كلام العرب باء تقوم مقام الألف إلّا باء بسم اللّه ، فانظر هذا الباء كيف أنشد حادي حاله لجمال جماله .\
وغنّى لي منى قلبي …… فغنّيت كما غنّا
فكنّا حيث ما كانوا ….. وكانوا حيث ما كنّا
وأيضا :
رقّ الزّجاج ورقّت الخمر …. فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنّما خمر ولا قدح ..…. وكأنّما قدح ولا خمر
والألف في نفسه مشتقّ من الألفة ، بل على الحقيقة الألفة مشتقّة من الألف.
ألا ترى إلى اختلاف الصرفيّين في المصدر :
هل اشتقّ من الفعل أم الفعل اشتقّ منه ؟ .
فلذا ائتلف الألف بالباء ، لأنّ الباء لزم مقام نفسه من الأدب تحته فتلاشى تلاشى الظّلّ تحت الشّخص ، فرقّاه الألف من عين الجود مقام نفسه.
لأنّ مقام الألف التّصوّر بصورة كلّ حرف ، إذ الباء ألف مبسوطة ، والجيم ألف معوّج الطّرفين ، والدّالّ والرّاء ألف منحني الوسط ، والسّين أربع ألفات ،
كلّ سنة منها ألف ، والتّعريقة ألف منحنى مبسوطة ، وعلى هذا قياس الباقي ، هذا في الصّورة.
وأمّا في المعنى فلا بدّ من وجود الألف في كلّ حرف لفظا إذا هجّيته.
يقال : باء وألف ، والجيم إذا هجّيته
تقول : جيم ياء ميم ، فالياء المثنّاة التّحتيّة موجودة فيها الألف ، فالألف في كلّ حرف صورة ومعنى ، لأنّه ينزّل النّقطة من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة ، فله كلّ ما للنّقطة في عالم الشّهادة .
ذاك هي هي ذاك يه يه …… ذاك أبعض ذاك أبضع
ذاك جبريل المعاني …… قد تدحيى وتلفّع
يقول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : “ لا تدخلى الشّوكة في رجل أحدكم إلّا وجدت ألمها “ ، هذا لتحقّق أحديّته بمجموع العالم - أفراده وأجزائه - حتّى أنّه يجد حال كلّ فرد في نفسه كما يجده ذلك الفرد في العالم .
سبب حذف الألف في بسم اللّه وعدم حذفها في اقرأ باسم ربك
سؤال : ما السّبب أنّ الألف حذف في البسملة ولم يحذف في :اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ .
الجواب : لأنّ إضافة الاسم هنا إلى اللّه الجامع الّذي لا يقيّد بصفة دون أخرى ، وإضافة الاسم هناك إلى الرّبّ ، ولا بدّ للرّبّ من عبد مربوب ، فمحال أن يتّحد البائيّة في هذا المحلّ ، لأنّه إذا زالت العبوديّة زالت الرّبوبيّة على الفور .
وأمّا الألوهيّة إذا زالت العبوديّة فإنّها لم تزل ، لأنّها اسم لمرتبة جميع المراتب كلّها ، فزوال العبد كما لم يكن ، وبقاء الرّبّ كما لم يزل مرتبة من جملة مراتب الألوهيّة ، فهي لا تزول بنوع ما ، فلمّا أثّر اندراج الألف في ذلك المحلّ ، واتّحدّ بالباء فأسقط لفظا وخطّا .
فبسم اللّه الرّحمن الرّحيم حقيقة محضة ، واقرأ باسم ربّك شريعة محضة ، ألا تراه تلواقْرَأْ وهو أمر ، والأمر مختصّ بالشّرائع ، وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم غير مقيّد بأمر ولا بغيره فليتأمّل .
.
شرح الفصل الرابع الباء هي النفس ، وهي حرف ظلماني
قوله : الباء هي النفس ( 1 ) الخ اعلم - وفقني الله وإياك ، ولا أخلاني من فيضه ولا أخلاك - أن الله - سبحانه وتعالى - جعل الباء واسطة الإعدام والإيجاد ، فخلق العالم بقدرته كالباء الموحدة مظهرا للنقطة الذاتية التي هي منشأ الحقائق والرقائق والإمداد ،
فالباء عبارة عن القدرة الإلهية المستترة بملابس الموجودات الكونية بكثرة التعداد ، فهي الممدة لسائر المخلوقات مددا فعليا في الحركات والسكنات ، وهي المستقلة بأفعال الكائنات .
ولقد أشار المصنف - قدس سره - في حقيقة الحقائق إلى ذلك بقوله :
بالباء كل ما يرى في العالم * يشهده كل إمام عالم
بها استعانة الورى في شأنهم * بها تصرف الولي الحاكم
بها امتزاج الروح مع الجسم لها * هما كملزوم لها ولازم
وذاك سر الإلتصاق إنه * به تركبت ذوات الآدمي
يفعل في الأكوان أفعالا لها * مستورة عنهم بهم بالدائم
فالكون كالقلم في كتبته * وهي فكاليد وزند القائم
ونقطة كالذات في خفائها * خلف الكيان عن عيون العالم
ما شابهت ألف الحروف بصورة * في البسم إلا للكمال الباسم
ولم تكن أول كل سورة * إلا لتقديم لها في القادم
واعلم - أيدك الله وإيانا بعلم الكتاب ، وجعلنا جميعا عنده مع الأحباب - أن تعبيرنا هذا في معنى النفس الكلية ، لتعرف أمرها أولا بالكلية ، فالباء يشار إليها بالنفس الكلية ، ونقطتها عبارة عن الروح الإضافية ، وبها استعانة المخلوقات في جميع المفعولات ،
وبواسطتها تحقق امتزاج الأرواح اللطيفة بالأجسام الكثيفة ، فنسبتها بين الحروف نسبة البخار المتحرك في تجاويف الكبد بالحرارة الطبيعية ، فإنه لولا ذلك البخار لما أمكن امتزاج الروح بالجسم ، لأنهما كلاهما في طرفي النقيض ، فالجسم كثيف ، والروح لطيف ، فأول ما يمتزج الروح بذلك البخار ، ثم يسري بواسطته في الجسم فيمتزج به ، ولأجل ذلك إذا سكنت الحرارة الغريزية الطبيعية وانقطع البخار ، خرجت الروح من الجسم بإذن الله تعالى .
فالباء للطافتها شابهت الألف ، فطولت في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ولكثافتها شابهت بقية الحروف في جميع الأوضاع الحرفية .
فإذا فهمت هذه المقدمات ، وعلمت تلك المقالات البينات ، أثبت فهمك فيما نلقيه إليك في معنى الباء كما قال المصنف : الباء هي النفس وهي حرف ظلماني وليس في البسملة حرف ظلماني إلا هي ( 1 ) “ 1 “ وإنما كانت حرفا ظلمانيا لكونها عبارة عن نفسك ، ونفسك ظلمة الظلمات وإليه الإشارة بقوله : ليس في البسملة حرف ظلماني إلا الباء لأن الاسم الله كل حروفه نورانية ، وكذلك الرحمن الرحيم ، والسر في ذلك أن الذات التي النفس المعبر عنها بالباء مظهرها ، أوقعت على ذلك المظهر اسم الغيرية ، وهو المعبر عنه بظلمة الباء من حيث أنها حرف ظلماني كما مر ، ومن ثم كان أول حجاب بين السالك وبين الله نفسه .
ومن ثم يفهم قول العارف : “ الكون كله ظلمة ، وإنما أناره وجود الحق “
يعني أن النفس ظلمة لكونها أولا مخلوقة من عدم ، وليس العدم إلا الظلمة ، وليس الظلمة إلا العدم ، وإنما أناره - أي أنار الكون - ظهور الحق ، وهو الله الرحمن الرحيم الذي
أوجد الباء من ظلمة عدمها إلى نور شهوده ، فأوليتها في البسملة لسر الظلمة كما ورد :
“ إن الله خلق الخلق كله في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره “ .
وليس المراد بتلك الظلمة إلا الياقوتة البيضاء التي نظر إليها بنظر الهيبة ، فانفهقت هيبة من نظره تعالى ، وتلك الياقوتة البيضاء ليست بغير له تعالى .
وعلم أنه لم يكن فيها تعالى ، لأنها لو قبلت تجليه البطوني فيها لقبلت تجليه الظهوري ، على أن التجلي البطوني أقوى من التجلي الظهوري ، ومن ثم كان من خصائص الذات البطون في الظهور دنيا وأخرى .
وقولنا : أنها لم تقبل تجليه البطوني فلو قبلت قبلته تجليه الظهوري ، مع أنها قبلت تجليه البطوني ولم تقبل تجليه الظهوري ، لأنه لمّا تجلي عليها بالظهور أنفهقت كثايفها من بعضها بعض [ بعضها من بعض ] كما ينفهق الزبد من البحر ، فخلق الله من ذلك المنفهق سبع طباق الأرض ، ثم خلق سكان كل طبقة من جنس أرضها ، ثم صعدت لطايف ذلك لمّا كان يصعد البخار من البخار [ البحار ] ففتقها الله سبع سماوات ، وخلق ملائكة كل سماء من جنسها ، ثم صيّر ذلك الماء سبعة أبحر محيطة بالعالم ، فهذا أصل العالم جميعه .
لأنها - أي الياقوتة البيضاء - لو قبلت تجلي الظهور لما تغيرت عما كانت عليه أولا بالتجلي البطوني ، ولو كانت هي هو لكان مما تغير مما هو عليه وحاشاه من ذلك ، فما حصل التغير إلا في المجلى الذي هو الياقوتة فافهم .
فأولية الباء هي الأولية المضافة إليه تعالى ، لأنها لم تتغير إلا بعد تعينها ، وهو أولها الذي أوجدها في أول البسملة ، لأنك قد علمت أن كل حرف مركب من النقطة كما مر ، وإن التركيب للحرف من جوهرية النقطة ، والنقطة ليست إلا عين ذلك الحرف
المركب منها ، فأولية الباء في البسملة معناها : أن النقطة في ذات الباء ، فإذا الأولية لمن له الأولية ، وفي كون الباء المعبر عنها “ 1 “ ، إذ في أول البسملة سر الله الذي لا يطلع عليه إلا المحقق وذلك أن الموجود المعبر عنه بغير الله تعالى - ولا غير له - لا يرى إلا غيرا مثله ، فلو أنه كان يرى الحق بغير الخلق لكانت مرتبة الباء إذا مؤخرة عن أول مرتبتها في البسملة ، وسر ذلك أن الخلق لا يستطيع أن ينظر [ إلى ] الحق - تعالى - كما قال جل شأنه وتعاظمت آلائه :” لَنْ تَرانِي “أي مع وجود ذاتك ، لأني إن ظهرت تلاشيت ،” وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ “وهو ذاتك” فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ “أي إن كانت فيها قوة بحيث أن أظهر وتظهر “ فسوف تراني “ ولا يكون ذلك .
"" مختطفات من سورة الأعراف ( 7 ) : الآية 143 ، وتمامها :وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ""
فتقديم الباء في البسملة رحمة بالخلق ، لأنها عبارة عن النفس الكلية التي قال فيها تعالى :يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ” سورة النساء: الآية 13 ".
فوقعت أول البسملة في الباب على البيت :وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها” سورة البقرة: الآية 189 .
فالباء باب بيت الله ، والنقطة مفتاح ذلك البيت ، ومن ثم وقعت تحتها كالحادي خلف مطايا الهمم ، وإن شئت قلت : كنجم الفجر لصلاة الاتصال .
ولأخذ مفتاح الباء المعبر عنه بالنقطة علامة ، وهي شهوده ألف الوجود الذي أناب الباء في البسملة منابه ، ولا وقع في كلام العرب باء تنوب عن الألف إلا باء لبسم اللّه الرحمن الرحيم .
ومرادنا : بأن أخذ مفتاح الباء له علامة وهي شهوده ألف الوجود ، يعني اتّباع الحجة البيضاء على الصراط السوي ، فإذا أتى ذلك ، أذن له الألف أن يأخذ مفتاح الباء ، ويتصرف في خزائن الوجود بما ذا عسى أن يتصرف ، لا يكون غير ذلك ، فإن الباب مسدود إلا بابه عليه الصلاة والسلام ، ومن ثم قال عارف وقته :فأنت باب الله أي امرء * أتاه من غيرك لا يدخلولا يقع الدخول إلا بعد ذهاب ظلمة الأكوان ، لأنك لا تهتدي بالظلمة إلى الظلمة ، وإنما تهتدي إلى الظلمة بالنور ، فإذا حصلت نورانية حروف بسم الله الرحمن الرحيم ، وتلوت على الكائنات آية :فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ” . سورة النحل: الآية 98 .
وحصبت شهود الكائنات بشهب الأسماء والصفات ، كنت أنت الرطل والميزان ، بعد كسر عمود الآن ، فيكون مصراع باب بيتك من تخوم الأرض السابعة إلى الماء ، ومنه إلى أعلى سماء ، فافهم هذه العبارات ، وفكّ رموز هذه الإشارات ، فإن الطيبات تحمد عاقيتها .
وليس في البسملة من الحروف الظلماني إلا هي
وفي قوله : وليس في البسملة من الحروف الظلماني إلا هي يعني لا حائل بين اسم الله الرحمن الرحيم من معارف حقائقها سوى وجود النفس ، فإذا فنيت وذهبت في الذاهبين ظهرت حقائق تلك المعارف على قلب المحقق العارف ،
وفيه إشارة إلى أن النفس لا يستطيع الشيطان والهوى وأتباعهما أن يدخلوا على الإنسان بدونها ، لأنها إذا ذهبت لم يجد إليه سبيلا ، فيعلم “ أن أعدى عدو نفسك التي بين جنبيك “ .
وتقدم السين على الله في البسملة ، فيه إشارة بأنك لا تصل إليه حتى تعلم سره في الحجاب الذي جعله بينك وبينه .
وتقدم الاسم الله على الاسم الرحمن ، فيه إشارة بأن الرحمة ما وصلت إليك على يد الرحمان إلا منه أولا إلى الرحمن ومن الرحمن إليك .
وتقدم الرحمن على الرحيم ، فيه إشارة إلى تأخر الرحمة الخاصة التي لا يشوبها كدر من الأكدار - وهي الرحمة المدخرة للدار الآخرة - ، فإن ذلك لمناسبة الدار .
فبالسر شهدت الله ، وبالله شهدت رحمته العامة ، وبرحمته العامة شهدت رحمته الخاصة .
وسين السر ظهر في سادس مرتبة من الإعداد ، والاسم الله عدده ستة وستون ، وليست الستة إلا أم الستين ، ولم تخل مرتبة سين السر ومرتبة الاسم الله من السين أيضا .
وظهر الرحمن وراء الرحيم في مرتبة واحدة ، وكان آخر الرحمن مرتبة الخمسين ، وآخر الرحيم مرتبة الأربعين ، لمبالغة صيغة الرحمن في الرحمة على صيغة الرحيم .
وفيه ظهر الاسم الله في تعريف كل اسم :
منها في الرحمن ألف ولام .
وفي الرحيم ألف ولام .
والاسم الله فيه لأمان وألفان ، والألف الثانية منه بين اللام الثانية والهاء متوهمة ، تظهر في اللفظ وتسقط في الخط ، إشارة إلى أن معرفة الأمر كما هو موهومة .
وظهرت هاء الاسم الله في صفة كل منهما - لأن صفة الرحمن الرحمة ، وكذلك صفة الرحيم - إشارة إلى أن الرحمتين - رحمة الرحمان ، ورحمة الرحيم - شامل لهما الاسم الله ، وإنهما داخلان تحت حيطته ، فله ما لهما ، فالرحمن مظهر بالعموم ، والرحيم مظهره بالخصوص .
فانظر هذا التناسب في سر تركيب بسم اللّه الرحمن الرحيم لتعلم أن الأمر راجع إلى ألف الذات الذي أناب منابه الباء ، فظهر أن الأمر واحد لواحد لا شريك له .
فكون البسملة أولها من الحروف النورانية السين وأخرها الميم لسر ، وهو أن السين كما علمت أولا أن له سادس مرتبة ، وأن الميم له مرتبة الأربعين ، فمرتبة الستة حاوية للست الجهات ، ومرتبة الأربعين حاوية لمراتب الوجود ، وليس مراتب الوجود إلا ما حوته الست الجهات .
وزيادة السين في العدد على الميم بعشرين لسر خروج الحق عما حوته الجهات الست ، فإن مراتب الوجود كما - مر - معك ، أن [ إذ ] الحق الصرف منها أحد عشر مرتبة ، وما هو بين وجهين أحد عشر مرتبة أيضا ، فتلك جملتها اثنان وعشرون ، والاثنان أم العشرين ، فدخلت فيها ، فزيادة السين على الميم بهذا الاعتبار .
وكون أول الاسم الله الألف ، وقبل ميم الرحيم الياء ، والألف له من مراتب الإعداد الواحد ، والياء له من مراتب الإعداد العشرة ، وليس الواحد إلا أم العشرة ، وكل المراتب - وإن تناهت - فحدها إلى العشرة من حيث الأصل ،
إشارة إلى أن الأمر مرجعه إلى واحدية الحق - تعالى - باعتبار أن الواحد الذي هو مرتبة الألف أم العشرة كما فهمت ، وكون اللام الأولى من الاسم الله لها من الاعداد واحد وسبعون باعتبار بساطتها ، تقابل حاء الرحيم من حيث أن الحاء له مرتبة الثمانية ، وفيه إشارة إلى عدد أبواب الجنان ،
وإذا ضربت عدد الحاء في مثله كان خارج الضرب أربعة وستين ، فبينه وبين لام الاسم الله مرتبة السبعة ، وهي عدد أبواب جهنم ، لأن الاسم الله له الشمول ، فكما أن المنعم من أسمائه كذلك المنتقم من أسمائه ، فالجنة مظهر اسمه المنعم ، والنار مظهر اسمه المنتقم ، واللام الثانية منه كالأولى ،
وزيادة السبعة في اللام الثانية تشير إلى مضاعفة العذاب على أهل النار ، فتصير جملة ما زاد في الأمين أربعة عشر والأربعة عشر .
ولو كنت بي من نقطة الباء خفضة * رفعت إلى ما لم تنله بجملة
يعني لا يصل إلى التواضع من أثبت لنفسه وجودا ، فلا يصل إلى التواضع حقيقة إلا من كان فانيا عن نفسه باقيا بربه .
ومن ثم قيل : من قال أنا متواضع فهو منه ضائع ، وهذا من حكم شيخنا الكبير أبي العباس - قدس الله سره - .
وقال ابن العطاء في حكمه :
من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبّر حقا ، لأن إثباته لنفسه غفلة عن مثبتها ،
"" وتمام كلامه : من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبر حقّا ، إذ ليس التواضع إلا عن رفعة ، فمتى أثبت لنفسك تواضعا فأنت المتكبر . شرح الحكم العطائية لعبد المجيد الشرنوبي : ص 226 - المحقق .""
والغفلة معصية لكونها خلاف الأمر ، والتكبر بطر الحق أي دفعه ، فدفع الحق عن نفسه ، واتبعها الباطل .
ونهاية التواضع أن يستوي عندك المادح والقادح ، والمعطي والمانع ، لشهودك ذلك من عين واحدة لكونك بها .
وأشار بقوله : “ من نقطة الباء خفضة “ إلى طمأنينته وانخفاضه تحت [ جميع ] أحكامه شرعا وحقا .
وإن شئت قلت : نقطة الباء إشارة إلى نبينا محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، لأن وجوده في ثاني مرتبة من الوجود الحق ، فإن وجود الحروف إنما تنوع عن الحرف الألفي القائم المنقطع عن الجهات ، الساري في جميع الحروف والكلمات .
وثاني من برز في ذلك الوجود الباء ، فهي باعتبار ألف ثانية في الوجود ، وباعتبار ما بعدها أولة وجود ، وهي [ بمدد ] امتدادها وإعدادها سارية في جميع الحروف ، منتهى حدودها إلى آخر حرف ، وهي المنقوطة من تحت نقطتين .
وفيه تنبيه على ختم الحروف التي منها بدت أسرار الكلمات بعيسى ، إذ هو آخر من يبقى من الرسل إلى يوم القيامة أو قربها ، ويظهر عيانا وزيرا لأول الآخر المقيد بقيد الإعجام ، أعني سيدنا محمدا - صلى الله عليه و آله وسلم - ، فأعجم حرفه وهو الباء بنقطة من تحت في مرتبة الأولية كيف كان متعلقا بالألف مستعليا إليها عليها .
فإذا علّمت ولدك الهجاء فتقول له : باب ، أو تقول في آخر الشكل : أب ألف باء ، فانظر تجد الروح المحمدية لم تزل مستمدة من الحضرة الإلهية ، المتفضل بها إلى وجودها المطلق بالألف المهمل من الإعجام والقيود ،
إشارة إلى تقدس الذات عن الحدود والأعجام ، لأنها بشدة ظهورها لا تحتاج إلى دليل ، بل هي الدليل بذاتها على ذاته ، وبصفاتها المنقطعة عن صورة كل حرف المنفصلة والمتصلة .
فإن رمت الانفصال باعتبار تعاليها عن الحلول والممازجة فذلك نعتها .
وإذا رمت الاتصال باعتبار تعلق أوصافها وإيصال إمدادها إلى كل حرف من حروف الموجودات بأسرها فذلك حقها .
وتأمل كيف كانت الباء على شكلها لولا تسطيحها في السطح امتازت عن التقويم ، لأنها لمّا كانت مستمدة ممدة تسطحت باستمدادها وامتدت بإمدادها .
ولمّا كانت مقيدة - أعني الباء في وجوده - قيدت بثلاث نقط :
[ الأولى ] : نقطة في ابتدائها .
[ الثانية ] : ونقطة في انتهائها .
[ الثالثة ] : ونقطة من تحتها .
واتصلت النقطتان المقارنة للتسطيح صورة ألفها المتسطحة ، وانفصلت النقطة ، وكان انفصالها إلى جهة التحت .
فالنقطة الأولى مشيرة إلى وحدة جلالها .
والثانية إلى وحدة جمالها .
وحصل له فلك التوحد عن نقطة وحدة الألف الكائنة .
وقيل من سبع نقط : نقطة في ابتدائها ، ونقطة في انتهائها صورة ، وخمس فيما بين ذلك ، فظهرت من النقطة الأولى وحدة إطلاقها الأزلي ، ومن النقطة الثانية وحدة إطلاقها الأبدي ، فظهر من النقط الخمس قواعد الإسلام إليها والاستسلام لديها ، فبني أمر هذا الإسلام الذي هود بينها على هذه القواعد التي تقدم ذكرها ، وكانت الكلمات المتعبد بها أهل الملل خمسا ، كل ملة ممدة من نقطة من تلك النقط ، وهي حفظ “ 1 “ ، والأرواح ، والأنساب ، والعقول ، والأموال .
وكانت الحواس المدركة للمعاني المستفادة من الأكوان خمسا إلى غير ذلك من الأسرار .
وإشارة أيضا إلى أحوالنا الخمسة المشار إليها بقوله :وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” سورة البقرة: الآية 28 “ .
وإنما النقطة التي هي في ثاني مرتبة من مراتب الوجود المطلق ، وأول مرتبة من مراتب الوجود المقيد من تحت إشارة إلى عبوديتها الكاملة في الإنخفاض ، ومن ثم لمّا خيّر - صلى الله عليه وآله وسلم - بينها وبين أن يكون نبيا ملكا فمال إلى العبودية ، فرفع الاسم الرافع ما وضعه الاسم الخافض ، وحفظه من تلك النقطة في أول مظاهر هذا الظاهر ، سر مدده في الأكوان حروف الكائنات بأسرها في أخر مظاهر وهو نون فكان إعجام النون من فوق ، لا جرم كان أرفع الأنبياء والرسل درجة في آخر الأمر يوم القيامة بدليل تخلفهم عن مقامه في شفاعته ، فإنه شفع حرف الألف القائم بحرف بآية المسطح وكان حرفه الأخير وهو نون المقسم به في الكتاب المجيد ، يقرأ أوله من آخره وآخره من أوله .
الفصل الرابع الباء من الحروف الظلمانية
الباء هي النّفس ، وهي حرف ظلماني ، وليس في البسملة بأسرها من الحروف الظّلمانيّة إلّا هي ،وأعني بالحروف الظّلمانيّة : (ب ج د ز ف ش ت ث خ ذ ض ظ غ) .
لأنّ الحروف النّورانيّة الّتي هي في أوائل السّور مقطّعة هي:
( هـ ح ط ى ل م ن س ع ص ق ر ) ، فجعل الحقّ سبحانه حرف الباء أوّل القرآن في كلّ سورة ، لأنّ أوّل حجاب بينك وبين ذاته سبحانه وتعالى ظلمة وجودك ، فإذا فنى ولم يبق إلّا هو كانت أسماؤه وصفاته الّتي هي منه حجاب عليه ، فتلك جميعها نورانيّة .
سبب خلافة الباء عن الألف في بسم اللّه الرحمن الرحيم
ألا ترى أنّ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم كلّها حروف نورانيّة ما خلا الباء - الّذي نعني به وجودك - فهو ظلمانيّ والباقي فجميعه نورانيّ ، ومن هذا كانت الباء ثوبا على النّقطة ، لأنّها فوقها ، والثّوب فوق الملابس ، فكانت الباء ظلمة فوق نور النّقطة ، محجوبة بوجودها الّتي هي العالم البارز عن عالم الجمال النّقطي .
وحكمة ظهور النّقطة وراءه إشارة إلى أنّ الأمر الحقيقي وراء ما ظهر ، لما التصقت النّقطة بالباء كان الباء في الكلام مستعملا للإلصاق ، ولمّا كان نظر النّقطة ممدودا إلى الباء كان الباء في كلام العرب مستعملا للاستعانة .
لمّا لاح نار السّعادة للباء على شجرة نفسه ، سرى في ظلمة سرادق غيب ليله عن أهله ، ليقتبس نار النّقطة أو يجد هدى في نفسه إلى نفسه ، نودي من جانب قائم شجرة الألف الّذي هو اسم اللّه فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أي وصفك وذاتك :
إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ وأنت محلّ التّشبيه والدّنس ، ولا مقام لك في وادي تقديس النّقطة إلّا أن تخلع تشبيه ذاتك ودنس صفاتك ، حتّى لا يبقى في القدس إلّا القدّوس .
فأخذ بزمامه يد التّوفيق ، فانبسط تحت نور الألف انبساط الظّلّ ، إذ ظلّ كلّ شيء مثله ، وبسط باء كلّ كتابة بقدر قائم ألفها ، فرأت نفسها ظلا لهذا القائم ، فعلمت أنّ قيامها به ، إذ لا وجود للظّلّ إلّا بالشّخص بين الجرم المستوى بها فتحقّق لها فناؤها ، ونفت وهميّة وجودها ، لأنّ الظلّ بنفسه ليس بشيء موجود تامّ ، إنّما هو حيلولة الشّخص بين الجرم المستتر والأرض ، فوجود الظّلّ لنفسه محال ، ولكن لا بدّ من وجود .
فلمّا تحقّق الباء بهذا القدر من الفناء أخذه الألف إلى نفسه ، وأبقاه في محلّه ، واندرج الألف فيه ، ولهذا طوّلت باء بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لتكون دليلا على الألف المندرج فيها ، فهي في المعنى خليفة عن الألف ، وفي الصّورة مطوّلة على هيئة الألف ، فحصل لها من الألف الهيئة والمعنى ، ووقعت في الكلام محلّ الألف ، ولا يعرف في كلام العرب باء تقوم مقام الألف إلّا باء بسم اللّه ، فانظر هذا الباء كيف أنشد حادي حاله لجمال جماله .\
وغنّى لي منى قلبي …… فغنّيت كما غنّا
فكنّا حيث ما كانوا ….. وكانوا حيث ما كنّا
وأيضا :
رقّ الزّجاج ورقّت الخمر …. فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنّما خمر ولا قدح ..…. وكأنّما قدح ولا خمر
والألف في نفسه مشتقّ من الألفة ، بل على الحقيقة الألفة مشتقّة من الألف.
ألا ترى إلى اختلاف الصرفيّين في المصدر :
هل اشتقّ من الفعل أم الفعل اشتقّ منه ؟ .
فلذا ائتلف الألف بالباء ، لأنّ الباء لزم مقام نفسه من الأدب تحته فتلاشى تلاشى الظّلّ تحت الشّخص ، فرقّاه الألف من عين الجود مقام نفسه.
لأنّ مقام الألف التّصوّر بصورة كلّ حرف ، إذ الباء ألف مبسوطة ، والجيم ألف معوّج الطّرفين ، والدّالّ والرّاء ألف منحني الوسط ، والسّين أربع ألفات ،
كلّ سنة منها ألف ، والتّعريقة ألف منحنى مبسوطة ، وعلى هذا قياس الباقي ، هذا في الصّورة.
وأمّا في المعنى فلا بدّ من وجود الألف في كلّ حرف لفظا إذا هجّيته.
يقال : باء وألف ، والجيم إذا هجّيته
تقول : جيم ياء ميم ، فالياء المثنّاة التّحتيّة موجودة فيها الألف ، فالألف في كلّ حرف صورة ومعنى ، لأنّه ينزّل النّقطة من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة ، فله كلّ ما للنّقطة في عالم الشّهادة .
ذاك هي هي ذاك يه يه …… ذاك أبعض ذاك أبضع
ذاك جبريل المعاني …… قد تدحيى وتلفّع
يقول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : “ لا تدخلى الشّوكة في رجل أحدكم إلّا وجدت ألمها “ ، هذا لتحقّق أحديّته بمجموع العالم - أفراده وأجزائه - حتّى أنّه يجد حال كلّ فرد في نفسه كما يجده ذلك الفرد في العالم .
سبب حذف الألف في بسم اللّه وعدم حذفها في اقرأ باسم ربك
سؤال : ما السّبب أنّ الألف حذف في البسملة ولم يحذف في :اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ .
الجواب : لأنّ إضافة الاسم هنا إلى اللّه الجامع الّذي لا يقيّد بصفة دون أخرى ، وإضافة الاسم هناك إلى الرّبّ ، ولا بدّ للرّبّ من عبد مربوب ، فمحال أن يتّحد البائيّة في هذا المحلّ ، لأنّه إذا زالت العبوديّة زالت الرّبوبيّة على الفور .
وأمّا الألوهيّة إذا زالت العبوديّة فإنّها لم تزل ، لأنّها اسم لمرتبة جميع المراتب كلّها ، فزوال العبد كما لم يكن ، وبقاء الرّبّ كما لم يزل مرتبة من جملة مراتب الألوهيّة ، فهي لا تزول بنوع ما ، فلمّا أثّر اندراج الألف في ذلك المحلّ ، واتّحدّ بالباء فأسقط لفظا وخطّا .
فبسم اللّه الرّحمن الرّحيم حقيقة محضة ، واقرأ باسم ربّك شريعة محضة ، ألا تراه تلواقْرَأْ وهو أمر ، والأمر مختصّ بالشّرائع ، وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم غير مقيّد بأمر ولا بغيره فليتأمّل .
.
شرح الفصل الرابع الباء هي النفس ، وهي حرف ظلماني
قوله : الباء هي النفس ( 1 ) الخ اعلم - وفقني الله وإياك ، ولا أخلاني من فيضه ولا أخلاك - أن الله - سبحانه وتعالى - جعل الباء واسطة الإعدام والإيجاد ، فخلق العالم بقدرته كالباء الموحدة مظهرا للنقطة الذاتية التي هي منشأ الحقائق والرقائق والإمداد ،
فالباء عبارة عن القدرة الإلهية المستترة بملابس الموجودات الكونية بكثرة التعداد ، فهي الممدة لسائر المخلوقات مددا فعليا في الحركات والسكنات ، وهي المستقلة بأفعال الكائنات .
ولقد أشار المصنف - قدس سره - في حقيقة الحقائق إلى ذلك بقوله :
بالباء كل ما يرى في العالم * يشهده كل إمام عالم
بها استعانة الورى في شأنهم * بها تصرف الولي الحاكم
بها امتزاج الروح مع الجسم لها * هما كملزوم لها ولازم
وذاك سر الإلتصاق إنه * به تركبت ذوات الآدمي
يفعل في الأكوان أفعالا لها * مستورة عنهم بهم بالدائم
فالكون كالقلم في كتبته * وهي فكاليد وزند القائم
ونقطة كالذات في خفائها * خلف الكيان عن عيون العالم
ما شابهت ألف الحروف بصورة * في البسم إلا للكمال الباسم
ولم تكن أول كل سورة * إلا لتقديم لها في القادم
واعلم - أيدك الله وإيانا بعلم الكتاب ، وجعلنا جميعا عنده مع الأحباب - أن تعبيرنا هذا في معنى النفس الكلية ، لتعرف أمرها أولا بالكلية ، فالباء يشار إليها بالنفس الكلية ، ونقطتها عبارة عن الروح الإضافية ، وبها استعانة المخلوقات في جميع المفعولات ،
وبواسطتها تحقق امتزاج الأرواح اللطيفة بالأجسام الكثيفة ، فنسبتها بين الحروف نسبة البخار المتحرك في تجاويف الكبد بالحرارة الطبيعية ، فإنه لولا ذلك البخار لما أمكن امتزاج الروح بالجسم ، لأنهما كلاهما في طرفي النقيض ، فالجسم كثيف ، والروح لطيف ، فأول ما يمتزج الروح بذلك البخار ، ثم يسري بواسطته في الجسم فيمتزج به ، ولأجل ذلك إذا سكنت الحرارة الغريزية الطبيعية وانقطع البخار ، خرجت الروح من الجسم بإذن الله تعالى .
فالباء للطافتها شابهت الألف ، فطولت في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ولكثافتها شابهت بقية الحروف في جميع الأوضاع الحرفية .
فإذا فهمت هذه المقدمات ، وعلمت تلك المقالات البينات ، أثبت فهمك فيما نلقيه إليك في معنى الباء كما قال المصنف : الباء هي النفس وهي حرف ظلماني وليس في البسملة حرف ظلماني إلا هي ( 1 ) “ 1 “ وإنما كانت حرفا ظلمانيا لكونها عبارة عن نفسك ، ونفسك ظلمة الظلمات وإليه الإشارة بقوله : ليس في البسملة حرف ظلماني إلا الباء لأن الاسم الله كل حروفه نورانية ، وكذلك الرحمن الرحيم ، والسر في ذلك أن الذات التي النفس المعبر عنها بالباء مظهرها ، أوقعت على ذلك المظهر اسم الغيرية ، وهو المعبر عنه بظلمة الباء من حيث أنها حرف ظلماني كما مر ، ومن ثم كان أول حجاب بين السالك وبين الله نفسه .
ومن ثم يفهم قول العارف : “ الكون كله ظلمة ، وإنما أناره وجود الحق “
يعني أن النفس ظلمة لكونها أولا مخلوقة من عدم ، وليس العدم إلا الظلمة ، وليس الظلمة إلا العدم ، وإنما أناره - أي أنار الكون - ظهور الحق ، وهو الله الرحمن الرحيم الذي
أوجد الباء من ظلمة عدمها إلى نور شهوده ، فأوليتها في البسملة لسر الظلمة كما ورد :
“ إن الله خلق الخلق كله في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره “ .
وليس المراد بتلك الظلمة إلا الياقوتة البيضاء التي نظر إليها بنظر الهيبة ، فانفهقت هيبة من نظره تعالى ، وتلك الياقوتة البيضاء ليست بغير له تعالى .
وعلم أنه لم يكن فيها تعالى ، لأنها لو قبلت تجليه البطوني فيها لقبلت تجليه الظهوري ، على أن التجلي البطوني أقوى من التجلي الظهوري ، ومن ثم كان من خصائص الذات البطون في الظهور دنيا وأخرى .
وقولنا : أنها لم تقبل تجليه البطوني فلو قبلت قبلته تجليه الظهوري ، مع أنها قبلت تجليه البطوني ولم تقبل تجليه الظهوري ، لأنه لمّا تجلي عليها بالظهور أنفهقت كثايفها من بعضها بعض [ بعضها من بعض ] كما ينفهق الزبد من البحر ، فخلق الله من ذلك المنفهق سبع طباق الأرض ، ثم خلق سكان كل طبقة من جنس أرضها ، ثم صعدت لطايف ذلك لمّا كان يصعد البخار من البخار [ البحار ] ففتقها الله سبع سماوات ، وخلق ملائكة كل سماء من جنسها ، ثم صيّر ذلك الماء سبعة أبحر محيطة بالعالم ، فهذا أصل العالم جميعه .
لأنها - أي الياقوتة البيضاء - لو قبلت تجلي الظهور لما تغيرت عما كانت عليه أولا بالتجلي البطوني ، ولو كانت هي هو لكان مما تغير مما هو عليه وحاشاه من ذلك ، فما حصل التغير إلا في المجلى الذي هو الياقوتة فافهم .
فأولية الباء هي الأولية المضافة إليه تعالى ، لأنها لم تتغير إلا بعد تعينها ، وهو أولها الذي أوجدها في أول البسملة ، لأنك قد علمت أن كل حرف مركب من النقطة كما مر ، وإن التركيب للحرف من جوهرية النقطة ، والنقطة ليست إلا عين ذلك الحرف
المركب منها ، فأولية الباء في البسملة معناها : أن النقطة في ذات الباء ، فإذا الأولية لمن له الأولية ، وفي كون الباء المعبر عنها “ 1 “ ، إذ في أول البسملة سر الله الذي لا يطلع عليه إلا المحقق وذلك أن الموجود المعبر عنه بغير الله تعالى - ولا غير له - لا يرى إلا غيرا مثله ، فلو أنه كان يرى الحق بغير الخلق لكانت مرتبة الباء إذا مؤخرة عن أول مرتبتها في البسملة ، وسر ذلك أن الخلق لا يستطيع أن ينظر [ إلى ] الحق - تعالى - كما قال جل شأنه وتعاظمت آلائه :” لَنْ تَرانِي “أي مع وجود ذاتك ، لأني إن ظهرت تلاشيت ،” وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ “وهو ذاتك” فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ “أي إن كانت فيها قوة بحيث أن أظهر وتظهر “ فسوف تراني “ ولا يكون ذلك .
"" مختطفات من سورة الأعراف ( 7 ) : الآية 143 ، وتمامها :وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ""
فتقديم الباء في البسملة رحمة بالخلق ، لأنها عبارة عن النفس الكلية التي قال فيها تعالى :يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ” سورة النساء: الآية 13 ".
فوقعت أول البسملة في الباب على البيت :وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها” سورة البقرة: الآية 189 .
فالباء باب بيت الله ، والنقطة مفتاح ذلك البيت ، ومن ثم وقعت تحتها كالحادي خلف مطايا الهمم ، وإن شئت قلت : كنجم الفجر لصلاة الاتصال .
ولأخذ مفتاح الباء المعبر عنه بالنقطة علامة ، وهي شهوده ألف الوجود الذي أناب الباء في البسملة منابه ، ولا وقع في كلام العرب باء تنوب عن الألف إلا باء لبسم اللّه الرحمن الرحيم .
ومرادنا : بأن أخذ مفتاح الباء له علامة وهي شهوده ألف الوجود ، يعني اتّباع الحجة البيضاء على الصراط السوي ، فإذا أتى ذلك ، أذن له الألف أن يأخذ مفتاح الباء ، ويتصرف في خزائن الوجود بما ذا عسى أن يتصرف ، لا يكون غير ذلك ، فإن الباب مسدود إلا بابه عليه الصلاة والسلام ، ومن ثم قال عارف وقته :فأنت باب الله أي امرء * أتاه من غيرك لا يدخلولا يقع الدخول إلا بعد ذهاب ظلمة الأكوان ، لأنك لا تهتدي بالظلمة إلى الظلمة ، وإنما تهتدي إلى الظلمة بالنور ، فإذا حصلت نورانية حروف بسم الله الرحمن الرحيم ، وتلوت على الكائنات آية :فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ” . سورة النحل: الآية 98 .
وحصبت شهود الكائنات بشهب الأسماء والصفات ، كنت أنت الرطل والميزان ، بعد كسر عمود الآن ، فيكون مصراع باب بيتك من تخوم الأرض السابعة إلى الماء ، ومنه إلى أعلى سماء ، فافهم هذه العبارات ، وفكّ رموز هذه الإشارات ، فإن الطيبات تحمد عاقيتها .
وليس في البسملة من الحروف الظلماني إلا هي
وفي قوله : وليس في البسملة من الحروف الظلماني إلا هي يعني لا حائل بين اسم الله الرحمن الرحيم من معارف حقائقها سوى وجود النفس ، فإذا فنيت وذهبت في الذاهبين ظهرت حقائق تلك المعارف على قلب المحقق العارف ،
وفيه إشارة إلى أن النفس لا يستطيع الشيطان والهوى وأتباعهما أن يدخلوا على الإنسان بدونها ، لأنها إذا ذهبت لم يجد إليه سبيلا ، فيعلم “ أن أعدى عدو نفسك التي بين جنبيك “ .
وتقدم السين على الله في البسملة ، فيه إشارة بأنك لا تصل إليه حتى تعلم سره في الحجاب الذي جعله بينك وبينه .
وتقدم الاسم الله على الاسم الرحمن ، فيه إشارة بأن الرحمة ما وصلت إليك على يد الرحمان إلا منه أولا إلى الرحمن ومن الرحمن إليك .
وتقدم الرحمن على الرحيم ، فيه إشارة إلى تأخر الرحمة الخاصة التي لا يشوبها كدر من الأكدار - وهي الرحمة المدخرة للدار الآخرة - ، فإن ذلك لمناسبة الدار .
فبالسر شهدت الله ، وبالله شهدت رحمته العامة ، وبرحمته العامة شهدت رحمته الخاصة .
وسين السر ظهر في سادس مرتبة من الإعداد ، والاسم الله عدده ستة وستون ، وليست الستة إلا أم الستين ، ولم تخل مرتبة سين السر ومرتبة الاسم الله من السين أيضا .
وظهر الرحمن وراء الرحيم في مرتبة واحدة ، وكان آخر الرحمن مرتبة الخمسين ، وآخر الرحيم مرتبة الأربعين ، لمبالغة صيغة الرحمن في الرحمة على صيغة الرحيم .
وفيه ظهر الاسم الله في تعريف كل اسم :
منها في الرحمن ألف ولام .
وفي الرحيم ألف ولام .
والاسم الله فيه لأمان وألفان ، والألف الثانية منه بين اللام الثانية والهاء متوهمة ، تظهر في اللفظ وتسقط في الخط ، إشارة إلى أن معرفة الأمر كما هو موهومة .
وظهرت هاء الاسم الله في صفة كل منهما - لأن صفة الرحمن الرحمة ، وكذلك صفة الرحيم - إشارة إلى أن الرحمتين - رحمة الرحمان ، ورحمة الرحيم - شامل لهما الاسم الله ، وإنهما داخلان تحت حيطته ، فله ما لهما ، فالرحمن مظهر بالعموم ، والرحيم مظهره بالخصوص .
فانظر هذا التناسب في سر تركيب بسم اللّه الرحمن الرحيم لتعلم أن الأمر راجع إلى ألف الذات الذي أناب منابه الباء ، فظهر أن الأمر واحد لواحد لا شريك له .
فكون البسملة أولها من الحروف النورانية السين وأخرها الميم لسر ، وهو أن السين كما علمت أولا أن له سادس مرتبة ، وأن الميم له مرتبة الأربعين ، فمرتبة الستة حاوية للست الجهات ، ومرتبة الأربعين حاوية لمراتب الوجود ، وليس مراتب الوجود إلا ما حوته الست الجهات .
وزيادة السين في العدد على الميم بعشرين لسر خروج الحق عما حوته الجهات الست ، فإن مراتب الوجود كما - مر - معك ، أن [ إذ ] الحق الصرف منها أحد عشر مرتبة ، وما هو بين وجهين أحد عشر مرتبة أيضا ، فتلك جملتها اثنان وعشرون ، والاثنان أم العشرين ، فدخلت فيها ، فزيادة السين على الميم بهذا الاعتبار .
وكون أول الاسم الله الألف ، وقبل ميم الرحيم الياء ، والألف له من مراتب الإعداد الواحد ، والياء له من مراتب الإعداد العشرة ، وليس الواحد إلا أم العشرة ، وكل المراتب - وإن تناهت - فحدها إلى العشرة من حيث الأصل ،
إشارة إلى أن الأمر مرجعه إلى واحدية الحق - تعالى - باعتبار أن الواحد الذي هو مرتبة الألف أم العشرة كما فهمت ، وكون اللام الأولى من الاسم الله لها من الاعداد واحد وسبعون باعتبار بساطتها ، تقابل حاء الرحيم من حيث أن الحاء له مرتبة الثمانية ، وفيه إشارة إلى عدد أبواب الجنان ،
وإذا ضربت عدد الحاء في مثله كان خارج الضرب أربعة وستين ، فبينه وبين لام الاسم الله مرتبة السبعة ، وهي عدد أبواب جهنم ، لأن الاسم الله له الشمول ، فكما أن المنعم من أسمائه كذلك المنتقم من أسمائه ، فالجنة مظهر اسمه المنعم ، والنار مظهر اسمه المنتقم ، واللام الثانية منه كالأولى ،
وزيادة السبعة في اللام الثانية تشير إلى مضاعفة العذاب على أهل النار ، فتصير جملة ما زاد في الأمين أربعة عشر والأربعة عشر .
ولو كنت بي من نقطة الباء خفضة * رفعت إلى ما لم تنله بجملة
يعني لا يصل إلى التواضع من أثبت لنفسه وجودا ، فلا يصل إلى التواضع حقيقة إلا من كان فانيا عن نفسه باقيا بربه .
ومن ثم قيل : من قال أنا متواضع فهو منه ضائع ، وهذا من حكم شيخنا الكبير أبي العباس - قدس الله سره - .
وقال ابن العطاء في حكمه :
من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبّر حقا ، لأن إثباته لنفسه غفلة عن مثبتها ،
"" وتمام كلامه : من أثبت لنفسه تواضعا فهو المتكبر حقّا ، إذ ليس التواضع إلا عن رفعة ، فمتى أثبت لنفسك تواضعا فأنت المتكبر . شرح الحكم العطائية لعبد المجيد الشرنوبي : ص 226 - المحقق .""
والغفلة معصية لكونها خلاف الأمر ، والتكبر بطر الحق أي دفعه ، فدفع الحق عن نفسه ، واتبعها الباطل .
ونهاية التواضع أن يستوي عندك المادح والقادح ، والمعطي والمانع ، لشهودك ذلك من عين واحدة لكونك بها .
وأشار بقوله : “ من نقطة الباء خفضة “ إلى طمأنينته وانخفاضه تحت [ جميع ] أحكامه شرعا وحقا .
وإن شئت قلت : نقطة الباء إشارة إلى نبينا محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، لأن وجوده في ثاني مرتبة من الوجود الحق ، فإن وجود الحروف إنما تنوع عن الحرف الألفي القائم المنقطع عن الجهات ، الساري في جميع الحروف والكلمات .
وثاني من برز في ذلك الوجود الباء ، فهي باعتبار ألف ثانية في الوجود ، وباعتبار ما بعدها أولة وجود ، وهي [ بمدد ] امتدادها وإعدادها سارية في جميع الحروف ، منتهى حدودها إلى آخر حرف ، وهي المنقوطة من تحت نقطتين .
وفيه تنبيه على ختم الحروف التي منها بدت أسرار الكلمات بعيسى ، إذ هو آخر من يبقى من الرسل إلى يوم القيامة أو قربها ، ويظهر عيانا وزيرا لأول الآخر المقيد بقيد الإعجام ، أعني سيدنا محمدا - صلى الله عليه و آله وسلم - ، فأعجم حرفه وهو الباء بنقطة من تحت في مرتبة الأولية كيف كان متعلقا بالألف مستعليا إليها عليها .
فإذا علّمت ولدك الهجاء فتقول له : باب ، أو تقول في آخر الشكل : أب ألف باء ، فانظر تجد الروح المحمدية لم تزل مستمدة من الحضرة الإلهية ، المتفضل بها إلى وجودها المطلق بالألف المهمل من الإعجام والقيود ،
إشارة إلى تقدس الذات عن الحدود والأعجام ، لأنها بشدة ظهورها لا تحتاج إلى دليل ، بل هي الدليل بذاتها على ذاته ، وبصفاتها المنقطعة عن صورة كل حرف المنفصلة والمتصلة .
فإن رمت الانفصال باعتبار تعاليها عن الحلول والممازجة فذلك نعتها .
وإذا رمت الاتصال باعتبار تعلق أوصافها وإيصال إمدادها إلى كل حرف من حروف الموجودات بأسرها فذلك حقها .
وتأمل كيف كانت الباء على شكلها لولا تسطيحها في السطح امتازت عن التقويم ، لأنها لمّا كانت مستمدة ممدة تسطحت باستمدادها وامتدت بإمدادها .
ولمّا كانت مقيدة - أعني الباء في وجوده - قيدت بثلاث نقط :
[ الأولى ] : نقطة في ابتدائها .
[ الثانية ] : ونقطة في انتهائها .
[ الثالثة ] : ونقطة من تحتها .
واتصلت النقطتان المقارنة للتسطيح صورة ألفها المتسطحة ، وانفصلت النقطة ، وكان انفصالها إلى جهة التحت .
فالنقطة الأولى مشيرة إلى وحدة جلالها .
والثانية إلى وحدة جمالها .
وحصل له فلك التوحد عن نقطة وحدة الألف الكائنة .
وقيل من سبع نقط : نقطة في ابتدائها ، ونقطة في انتهائها صورة ، وخمس فيما بين ذلك ، فظهرت من النقطة الأولى وحدة إطلاقها الأزلي ، ومن النقطة الثانية وحدة إطلاقها الأبدي ، فظهر من النقط الخمس قواعد الإسلام إليها والاستسلام لديها ، فبني أمر هذا الإسلام الذي هود بينها على هذه القواعد التي تقدم ذكرها ، وكانت الكلمات المتعبد بها أهل الملل خمسا ، كل ملة ممدة من نقطة من تلك النقط ، وهي حفظ “ 1 “ ، والأرواح ، والأنساب ، والعقول ، والأموال .
وكانت الحواس المدركة للمعاني المستفادة من الأكوان خمسا إلى غير ذلك من الأسرار .
وإشارة أيضا إلى أحوالنا الخمسة المشار إليها بقوله :وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” سورة البقرة: الآية 28 “ .
وإنما النقطة التي هي في ثاني مرتبة من مراتب الوجود المطلق ، وأول مرتبة من مراتب الوجود المقيد من تحت إشارة إلى عبوديتها الكاملة في الإنخفاض ، ومن ثم لمّا خيّر - صلى الله عليه وآله وسلم - بينها وبين أن يكون نبيا ملكا فمال إلى العبودية ، فرفع الاسم الرافع ما وضعه الاسم الخافض ، وحفظه من تلك النقطة في أول مظاهر هذا الظاهر ، سر مدده في الأكوان حروف الكائنات بأسرها في أخر مظاهر وهو نون فكان إعجام النون من فوق ، لا جرم كان أرفع الأنبياء والرسل درجة في آخر الأمر يوم القيامة بدليل تخلفهم عن مقامه في شفاعته ، فإنه شفع حرف الألف القائم بحرف بآية المسطح وكان حرفه الأخير وهو نون المقسم به في الكتاب المجيد ، يقرأ أوله من آخره وآخره من أوله .
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin