كتاب شرح الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم للعارف بالله عبد الكريم الجيلي
الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء كلام النقطة مع الباء
تقول النّقطة للباء :
أيّها الحرف ! إنّي أصلك ، لتركيبك منّي ، بل إنّك في تركيبك أصلي ، لأنّ كلّ جزء منك نقطة ، فأنت الكلّ وأنا الجزء ، والكلّ أصل والجزء فرع ، بل أنا الأصل على الحقيقة .
إذ تركيبك عيني .
لا تنظر إلى بروزي وراء بروزك فتقول :
هذا البارز غيري ، إنّما أراك إلّا هويّتي وعيني ، ولولا وجودي فيك لم يكن لي بك هذه العلاقة ، إلى متى تصرف بشهادتك عنّي وتجعلني وراء ظهرك ؟
اجعل غيبتك شهادتك وشهادتك غيبتك .
أمّا تحقّق وحدتي بك :
لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ، ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة ، كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديّتي بك ، وتعلم أنّ إنبساطك في عالم الشّهادة واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لا مشارك فيّ لك ولا مشارك لك فيّ ، ما أنت إلّا أنا ، لأنّ اسمك حدث على اسمي.
ألا ترى أنّ أوّل جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وثاني جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وثالث جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وكذلك جميع أجزائك نقطة في نقطة ، فأنا أنت ، ما لك فيك إنّيّة ، بل هويّتي هي إنّيّتك الّتي أنت بها أنت ، لو كنت عند قولك في نفسك أنا تتخيّل ذاتي لكنت أنا أيضا عند قولي هو أتخيّل وجهي ، فكنت حينئذ تعلم أنّ أنا وهو عبارتان لذات واحدة.
استشكال الباء على الوحدة بتقيدها بالقيود الإمكانية
قالت الباء :
سيّدي تحقّقت أنّك أصلي ، وقد علمت أنّ الأصل والفرع شيئان ، وهذه جثّتي منبسطة متركّبة لا وجود لي إلّا بها ، وأنت جوهر لطيف يوجد في كلّ شيء ، وأنا جسم كثيف مقيّد بمكان دون غيره ، فمن أين لي حقيقة مالك ، ومن أين أكون أنا أنت ، وكيف يكون حكمك حكمي ؟! .
فأجابتها النّقطة فقالت :
شهود جسمانيّتك وتخيّل روحانيّتي هيئة من هيئاتي ووصف من أوصافي ، وذلك أنّ جميع متفرّقات الأحرف والكلمات بجملتها صورتي الواحدة ، فمن أين التّعداد ، إذ لا تتحقّق أنّ العشرة اسم لمجموع هذه الخمستين ، فمن أين التّغاير بين الخمسة والعشرة في حقيقة
العشريّة لا في الاسميّة .
وإذا كنت أنت من كلّ وجوهك وصفا من أوصافي ونظرة من نظراتي فمن أين تكون الإثنينيّة بيني وبينك ؟ !
وكيف هذه المجادلة الّتي بيني وبينك ، أنا أصل فيما يراد منك وفيما يراد منّي ، هذا بمجموعه ذاتي ترتيب حكمة إلهيّة ، فإذا أردت تسألني تعقّلي فخيّل نفسك وجميع الحروف كلّها والكلمات صغيرها وكبيرها ، ثمّ قل لي نقطة .
فذلك بمجموعه هو عين نفسي ، ونفسي عين ذلك المجموع ، بل نفسك مجموع عين ذلك كلّه ، بل مجموع عيني عينك ، بل لا أنت ولا هم ، الكلّ أنا ، بل لا أنا ولا أنت ولا هم ولا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ، ما ثمّ إلّا النّقطة الواحدة .
لا يعقل تمثّلك فيه ولا يفهم ، فلو تحوّلت من ثوبك إلى ثوبي لعلمت كلّ ما أعلم ، وشهدت كلّ ما أشهد ، وسمعت كلّ ما أسمع ، وبصرت كلّ ما أبصر .
فأجابه الباء فقال : قد لاح بارق ما قلت ، فمن لي بالوقوع في صبح هذا الفجر ؟
وقد قلت أنّ البعد والقرب والكمّ والكيف من ترتيب وجودك ، فكلّما شهدت القول بالتّرتيب وما لا بدّ منه سلمت وانصرفت بوجهي إلى عالم شهادتي ولزومي الأدب معك ، وكلّما جلت في ملكوت معناي وجدتك نفسي ، فإذا طلبت من نفسي ما لك من الحلّ والعقد في الحروف والسّريان في كلّ حرف بكمالك لا أجد شيئا ، فتنكسر زجاجة همّتي ، وأرجع حسيرا .
فقالت النّقطة : نعم ترجع لأنّك طلبت من نفسك ، ونفسك عندك غير نفسي ، فلا تجد منها ما لي ، فلو طلبت منها أنا - الّذي هو أنت - من نفسي - الّتي هي نفسك - دخلت الدّار من بابه ، فحينئذ ما طلبت ما للنّقطة إلّا من النّقطة ، بل ولا طلبت إلّا النّقطة ما لها منها .
فجل في هذا المعنى إن كنت معنا :
هذي الخيام بدت على أطنابها ….. فانزل بها ان كنت من أحبابها
قف بين هاتيك المعاني أنّها ….. وقفت بها الأزمان في أترابها
ما هند إلّا من أقام على الغضا …… والبان والأثلات في أجنابها
فانخ مطيّك في الدّيار فإنّها ….. دار مباركة على أصحابها
للّه درّ منازل قد شرّفت ….. بالسّاكنين وشرّفوا بترابها
لا تعرف الأغيار في غرفاتها ….. مجهولة سدّت على أبوابها
النازلين بحيّها هم أهلها …… من بان عنها ليس من أنسابها
.
شرح الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء
ثم قال رضي الله عنه :
فصل : أيتها الحرف أنا أصلك
تقول النقطة للباء : أيتها الحرف أنا أصلك لتركيبك مني ، بل إنك في تركيبك أصلي ، لأن كل جزء منك نقطة ، فأنت الكل وأنا الجزء ، والكل أصل والجزء فرع ، بل أنا الأصل على الحقيقة ، إذ تركيبك عيني ، لا تنظر إلى بروزي ورائك فتقول : هذا البارز غيري إنما [ إذ ما ] أراك إلا هويتي ، ولولا وجودي فيك لم يكن لي بك هذه العلامة ، إلى متى تصرف بشهادتك عني ، وتجعلني وراء ظهرك ، اجعل غيبك شهادتك ، وشهادتك غيبتك ، أما تحقق وحدتي بك ؟ ، لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ، ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة .
كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي بك ، وتعلم أن انبساطك في عالم الشهادة واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لا مشارك في لك فيما لك ، لك فيّ ، لك فيما لك ، في ذلك ، ولا مشارك لك في ما أنت إلا أنت ، لأن اسمك حدث على اسمي ، ألا ترى أن أول جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وثاني جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وثالث جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وكذا جميع أجزائك نقطة في نقطة .
فأما أنت ما لك فيك إنية ، بل هويتي هي إنيتك التي أنت بها أنت .
لو كنت عند قولك في نفسك “ أنا “ تتخيل ذاتي ، لكنت أنا أيضا عند قولي “ هي “ أتخيل وجهي .
فكنت حينئذ تعلم أن أنا وهو عبارة لذات واحدة .
قوله : فصل : تقول النقطة للباء ( 1 ) الخ .
اعلم - وفقني الله وإياك ، ولا أخلاني من فيضه ولا أخلاك - أن الباء عبارة عن نفسك القائمة بدعوى الأمر بطريق الجهل ، وأن النقطة عبارة عن ذات الحق - تعالى - المنزه عن إشارة النقطة أو علامة القائمة بمعنى الامر كما هو حقيقة لها بطريق الأصالة ، إذ الوجود لذاته واجب ، فهو واجب الوجود الذي الموجودات فرع وجوده ، تنزه من ليس بفرع ولا أصل عن كل ما لا يليق بجنابه تعالى .
فلمّا كانت الباء كما علمت ، وكانت النقطة كما فهمت ، خاطبت نقطة الموجود ذرات الوجود ، في عالم الغيب والشهود ، بلسان الأنس والكرم ، لتزيح عن حقائق معانيها الظلم .
فأول ما قالت لمّا تناهت في عزها وتعالت ، وأرادت إدراك الحقيقة البائية السفلية ، بأن تتشرف بسماع خطاب صفاتها العلية :
أيتها الباء المبائن في الوجود لأصله ، والمتميز عن فرعه بأصله ، ليس لك في الحقيقة غيري .
وكل ما شاهدته من غيري أنت المركب مني ، والبارز على هيئة حقيقتك بالنيابة عني ، وأصل خمر عشقك من دني .
أنت جزء من أجزاء نقطي ، وحرف من معلوم غلطي ، بل أنت الكل وأنا الجزء ، وأنت الأصل وأنا الفرع ، وكل ذلك لك بي لا بك ، إذ الكل والجزء والأصل والفرع لا يشذ عني ، ولو شذ عني لكان لغيري ، ولا غير لي .
بروزي من ورائك غرك بأنني من جملة سواك ، بل ظهوري بذلك يدل على أن أمري من ورائك .
أما ترى عود النخل يوجد قبل تمره ، وليس مقصودا لعينه بل لأمره .
فما عيّنك في الوجود وقرّبك من حضرة الشهود - حتى صرت أكمل عابد دل على معبود - إلا الذي تراه غيرك ، وأنكرته من أن يكون طيرك ، حيث غرّد مغرّد أنسك
على فنن قدسك : ما غرّك أيها العبد الآبق بحسنك الفاني وجسمك الداني ؟ .
أما سمعت بشير الحمامة ينادي في قصور الملوان بالسلامة ، لمن عرف العلامة ؟ ، ونذير السآمة ينادي في سوق الأكوان بالملامة لمن ترك الكرامة ؟ .
فالحذر الحذر أن الأمر الذي طلبته عزيز المرام ، عظيم المقام ، لا يصلح إفشاؤه بالتصريح ، وهو لا يكاد يفهم بالكتابة والتلويح .
فاعلم أنني أنا الولد الذي أبوه ابنه ، والخمر الذي كرمه دنه ، أنا الفرع الذي أنتج أصله ، والسهم الذي قوسه نصله .
اجتمعت بالأمهات وأولدتني ، وخطبتها لأنكحها فأنكحتني ، فلما سويت في طاهر الأصول عقدت صورة المحصول ، فأنثنيت في مقسمي ، أدور في جسمي ، وقد حملت أمانات الهيولى ، وأحكمت الحضرة الموصوفة بالأخرى والأولى .
إذ كل ذلك الذي دللتك عليه وندبتك إليه حقيقتي منزهة عنه وخارجة منه ، بل ذلك ضرب مثل لمثلك وأمثالك ، ليفهم السامع لهذا الكلام ما المعنى المراد فيستخرجه من الكمام ، والتحية والإكرام على من اتبع الهدى والسلام .
وأتينا بهذه المعاني في قالب التسجيع ، ليعلم الواقف أن الابن لأبيه مطيع ، ولأمه رضيع .
فإذا علمت ذلك وميزت به ما هنالك فاعلم :
أن الحرف المعبر عنه بالباء ، بل كل حرف أصله النقطة التي برزت تحته كالباء وأمثالها ، أو فوقه كالتاء وما يشابهها ، أو في وسطه كالضاد وما شابهه ، أو ظهرت في ذاته كالألف وما شابهه .
وإنما كان خطاب النقطة مع الباء دون سائر الأحرف ، لما علمت أن أكمل حرف من الحروف هو الألف المنزه في حقيقته عن علامة .
وقد علمت أنه يشار به إلى الذات الأحدية ، والذات الأحدية هي المنزهة عن جميع القيود والنسب والإضافات والاعتبارات إلى غير ذلك ، لكون الأحدية أول تعين من الغيب العمائي المعبر عنه بصرافة الذات وبمجهول النعت .
وهذا المجلى العمائي هو المشار إليه بالنقطة المنزهة عن الإشارة .
والتجلي الأحدي المعبر عنه بالتجلي الذاتي والتعين الأولي هو المشار إليه بالألف المنزه تنزيها ذاتيا .
فالتحق إذا بالذات الصرف ، وأناب منابه الحرف المعبر عنه بالباء المشار إليه بالنفس . فاختص خطاب النقطة بالباء ، لأن الحجاب الأعظم هو وجود النفس القائمة بدعوى الوجود في حضرة الموجود ، ووقع الخطاب من النقطة إلى الباء لإظهار سرّ الربوبية في ما ورد به الكتاب العزيز :لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها” سورة الكهف ( 18 ) : الآية 49
وبعد أن يعرف الحق تعالى :الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ” سورة غافر : الآية 17 .
فثم يسجد ألف الوجود ، فيقال له : “ اشفع تشفع “ كما ورد بذلك الخبر الصحيح والقول الصريح .
وكل ذلك المذكور من قوله - قدس سره - من مخاطبة النقطة للباء بقولها : أيتها الحرف أنا أصلك ( 1 ) ، فإن ذات الحق - تعالى - هي الموجدة للأشياء من نفسها ، كما قال تعالى :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ” سورة الجاثية: الآية 13 .
أي من ذاته تعالى بذاته كما قال تعالى :ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ” سورة الأحقاف: الآية 3
فالحق - تعالى - أصل حقائق الموجودات ، لأنه أوجدها في علمه القديم من عدم ، ثم أبرزها من العلم إلى العين ، فهو بعلمه القديم يعلمها أنها موجودة في علمه من عدم ، وليس في علمه سوى ذاته ، إذ ليس لذات القديم - جل وعلا - سوى علمه ، وبذلك العلم يعلم ذاته ، وبه يعلم مخلوقاته .
ولا شك أن أجسام الموجودات ليست بذات الباري - جل وعلا - ، وحاشا وكلا أن تكون ذات من هو مركب من أجزاء متعددة مبائنة في حقائقها لبعضها بعض [ بعضها من بعض ] مشابهة أو مماثلة أو ملحقة في الصورة أو في المعنى لذات الواجب بذاته : “ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا “ .
ولا شك أن الموجودات على الحقيقة ليس لها في نسبة الوجودية شيء ، إذ أصلها العدم المحض ، وإنما الوجود طار عليها ، والأشياء معتبرة بحقائقها لا غير .
فإذا فهمت هذه المقدمات علمت المعاني التي أشار إليها المصنف - قدس سره - في قشور العبارات ورموز الإشارات :
من قول النقطة للباء :
أنا أصلك لتركيبك مني ( 1 ) الخ ، وإشارته بقوله : فتقول أي الباء : هذا البارز ( 2 ) أي النقطة غيري ( 3 ) حيث برزت تحتها ، وإنما بروز [ إذ ما برزت ] النقطة تحت الباء إلا لتعلم الباء أن الأمر من وراء ما أدركته .
ولهذا قال : إن [ إذ ] ما أراك إلا هويتي ( 4 ) يعني أن الباء ما أراها وعرفها بما رأته وعرفته إلا هويتي وعيني ، أي ذاتي الغير المتجزية التي تركبت ذات الباء منها ، لأن الحق لا يراه إلا الحق .
فلو لم تكن حقيقة الباء هي النقطة - التي برزت في رأي العين أنها غيرها ، وفي باطن الرأي أنها عينها - لما استطاعت الباء أن ترى إلا نفسها ، وليس نفسها إلا العدم المحض ، وليس العدم محلا لمواجهة الخطاب.
ولولا وجودي فيك لم تكن لي بك هذه العلامة
وقوله : ولولا وجودي فيك لم تكن لي بك هذه العلامة ( 5 ) وهي الربية والمربوبية ، إذ لا رب إلا بمربوب ولا مربوب إلا برب .
وإلى هذا أشار الإمام الأكبر - قدس سره - في فصوص الحكم في فص حكمة قدسية في كلمة إدريسية بقوله :
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا * وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا
من يدر ما قلت لم تحدث بصيرته * وليس يدريه إلا من له بصر
جمع وفرق و كان العين واحدة * وهي الكبيرة لا تبقي ولا تذر
فقوله رضي الله عنه : “ فالحق خلق “ الخ مراده بذلك - والله أعلم - الحق المخلوق به اللازم له الصفة الحقية ، فإنه ما قيل فيه حق إلا ويقابله خلق ، لأن الحق - تعالى - غني عن العالمين بذاته ، وهذا هو عين ما قلنا في أن الرب لا بد له من مربوب ، كما أن الرازق لا بد له من مرزوق فافهم .
وأما قول المصنف قدس سره : إلى متى تصرف بشهادتك عني وتجعلني وراء ظهرك اجعل غيبتك شهادتك وشهادتك غيبتك ( 1 ) يعني إلى متى وأنت معرض عني مع إقبالي عليك وإيجادي لك في كل آن بنظري إليك ؟ ،
فإني أحب لقاء من أحب لقائي كما قال تعالى : “ ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت - وهو لقاء الله - وأنا أكره مسأته - أي ما يسوئه - ولا بد له من لقائي “ وهو الموت ،
فأتى بقوله : ولا بد له من لقائي عوضا من قوله : “ ولا بد له من الموت “ للطفه بعبده المؤمن لئلا يحزنه - جل وعلا - .
وقوله : اجعل غيبك شهادتك وشهادتك غيبك أي أظهر بحقك - وهو ما بطن فيك - على خلقك - وهو ما ظهر منك - .
هذا إذا كان مشهدك أن الحق هو الظاهر والخلق هو الباطن ، فاظهر بحقك الظاهر على خلقك الباطن ، ليفنى كل شيء هالك ، البازغ منك والدال لك . أما تتحق وحدتي بك
وقوله : أما تتحق وحدتي بك ؟
لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة ( 2 ) يعني لولا تجلي واحديتي فيك لما تتحقق واحديتي ، إذ لست أهلا لنيل معرفتك بغير ما عرفتك به ، وذلك التعرف هو ظهوري بالنقطة المعبّر عنها بنقطة الباء التي هي روحك ، ولولاي أي ولولا ذات واحديتي لما كنت أنت باء منقوطة أي ذا علامة تعلم بها متى تشير إليك .
وإلى ذلك أشار الإمام الأكبر قدس سره بقوله :
فنحن له كما ثبتت * أدلتنا و نحن له
وليس له سوى كوني * فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو و أنا * و ليس له أنا بأنا
و لكن في مظهره * فنحن له كمثل إنا
كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي فيك
قوله : كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي فيك ( فصوص الحكم : فص حكمة مهيمية في كلمة .إيراهمية ) إذ جعلتك دليلا علي في الخارج بك ، علمت فلم لا تعلم ما دليت عليه غيرك بك :" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ". سورة البقرة : الآية 44 . فالسعيد متوعظ بغيره ، وأنت غيرك وعظ بك .
فالعجب منك كل العجب !
حيث لا تعلم أن انبساطك في علم الشهادة - وهو الذي ظهرت فيه صورة جسمك - واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لأن الغيب إنما هو غيب بالنسبة إليك من حيثك ، لا بالنسبة إليك من حيثي ، ولا بالنسبة إلي من حيثي .
فالأمر عندي واحد ، فبطوني في عالم الغيب عين ظهوري في عالم الشهادة الذي برز فيه جسمك الشهادي .
وإلى ذلك أشار المصنف - قدس سره - في الإنسان الكامل حيث قال :
ذات لها في نفسها وجهان * للسفل وجه والعلى للثاني
ولكل وجه في العبارة والأدى * ذات وأوصاف وفعل بيان
إن قلت واحدة صدقت وإن تقل * اثنان حق أنه ذا ثاني
نظرا إلى أحدية هي ذاته * قل واحد أحد فريد الشأن
ولئن ترى الذاتان قلت لكونه * عبدا وربا أنه اثنان
تحتار فيه فلا يقول لسفله * عال ولا لعلوه هو دان
لا مشارك في ذلك
وقوله : لا مشارك في ذلك ولا مشارك لك فيما أنت إلا أنت ، لأن اسمك حدث على اسمي ( 1 ) يعني أنه أنا الله لا إله إلا أنا ، ليس لي فيما صنعت شريك ولا مزاحم :إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي” سورة طه ( 20 ) : الآية 14 .
إذ لا مشارك لك فيّ ، فإن الموجودات المتعددة التي تراها غيري ليست إلا أنا ولست إلا هي ، فأنا في أي جهة توليتها من جميع جهاتك ما أنت أنت ، لأنه لا يكون أنت أنت إلا إذا كنت أنت بلا أنا ، وأنت لست كذلك لأن اسمك حدث على اسمي لتوقف وجودك على وجودي .
ألا ترى أول جزء من أجزائك تسمى نقطة
وقوله : ألا ترى أول جزء من أجزائك تسمى نقطة وثاني جزء من أجزائك يسمى نقطة وثالث جزء من أجزائك يسمى نقطة وكذا جميع أجزائك نقطة في نقطة ( 2 ) يعني أن تلك القوى القائم بها وجود ذاتك ، المعبر عنها بالسمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، والحاسة ، والعاقلة ، والمفكرة ، والناطقة ليست بغير لروحي المنفوخة فيك ، فليست تلك القوى المتعددة التي تركب منها - وهو جسمك - إلا كنقطة بإزاء نقطة ، وكذا جميع أجزائك أي الغير المنحصرة مما قامت بالروح نقطة في نقطة ، فأنا أنت من حيث الحقيقة ، ما لك منك إنية ،
لأنك إن قلت : “ أنا “ إنما تلك إنيتي ، ألا ترى إذا فارقت روحك جسمك ،
هل يصح لك أن تقول : “ أنا “ ، بل هويتي من حيث أني غيب عنك هي إنيتك التي أنت بها أنت من حيث شهادتي في شهادتك ، لو كنت عند قولك في نفسك أنا تتخيل اتي ، لكنت أنا أيضا عند قولي هل أتخيل وجهي :هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ” سورة الرحمن : الآية 60 .
لو كنت عرفت مقداري منك حيث شرفتك بظهور ذاتي في ذاتك كانت إنيتك هي ذاتي ، وكنت أنا أيضا عرفت قدرك كما عرفت قدري ، لكن لما كان لسان الحال مصرحا بما قال :وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ” سورة الأنعام : الآية 91 ، وسورة الزمر: الآية 67 . ،
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. سورة الصافات : الآية 180
عذرتك في دعواك بجهلك ، ليكون ذلك الجهل حجة الألف على أمته
حيث قال : “ رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون “وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ”
سورة الزخرف : الآية 4 .
ثم قال رضي الله عنه : قال الباء سيدي : تحققت أنك أصلي ، وقد علمت أن الأصل والفرع شيئان ، وهذه جثتي منبسطة متركبة لا وجود لي إلا بها ، وأنت جوهر لطيف توجد في كل شيء . وأنا جسم كثيف مقيد بمكان دون غيره ، فمن اين حقيقة ما لك ؟ ، ومن اين أكون انا أنت ؟ ، وكيف يكون حكمك حكمي ؟
فاجابتها النقطة فقالت : شهود جسمانيتك وتخيل روحانياتي هيئة من هيئاتي ، ووصف من أوصافي ، وذلك ان جميع متفرقات الأحرف والكلمات بجملتها صورتي الواحدة فمن اين التعداد ؟ ،
إذ لا تحقق ان العشرة اسم لمجموع هذه الخمستين فمن اين التغاير بين الخمسة والعشرة في حقيقة العشرية لا في الاسمية ؟ ،
وإذا كنت أنت من كل وجوهك وصفا من أوصافي ، ونظرة من نظراتي فمن اين تكون الاثنينية بيني وبينك ؟ ،
وكيف هذه المجادلة التي بيني وبينك ؟ ، انا أصل فيما يراد منك ] “ 1 “ وفيما يراد مني ، هذا بمجموعه ذاتي ترتيب حكمة الهية .
فإذا أردت تعقلي فخيل نفسك وجميع الحروف كلها والكلمات صغيرها وكبيرها ،
ثم قل لي : نقطة ، فذلك بمجموعه هو عين نفسي ، ونفسي عين ذلك المجموع ، بل نفسك عين مجموع ذاتك بل مجموع عيني عينك ، بل لا أنت ولا هم الكل انا ، بل لا انا ولا أنت ولا هم ولا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ما ثم الا النقطة الواحدة ، لا تعقل لمثلك فيها ولا تفهم .
فلو تحولت من ثوبك إلى ثوبي لعلمت كل ما أعلم ، وشهدت كل ما أشهد ، وسمعت كل ما أسمع ، وبصرت كل ما أبصر .
فأجابتها النقطة
قوله : فأجابتها النقطة ( 1 ) الخ يعني أن مخاطبة النقطة للباء كان في مقام الأنس ، وذلك الأنس مقيد بما يعلم المخاطب لا المخاطب ، وهذه الحضرة حضرة المجاوبة ، لا يدخلها إلا الكمل من الرجال .
في هذه الحضرة ينبئ العبد بجميع ما تحدث في آناء الليل وأطراف النهار إذا سئل عن ذلك في أي وقت من الأوقات ، وكل ما سأل عن غيره يجيبه الحق ، ويعلمه فيه .
وفي هذه الحضرة كل علومها جواب لا ينادي الحق أحدا فيها بشيء ، بل هي حضرة الجواب .
قال المصنف قدس سره : “ أقمت في هذه الحضرة أياما ، فمكثت أسأل عن كل ما أراه ، فيحصل لي علمه من المبدأ والمعاد ، ثم غيبت عنه إلى حضرة المسائلة “ انتهى .
شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيآتي
فقول النقطة للباء : شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيآتي ووصف من أوصافي ( 2 ) يعني أنا المشهودة في الأجسام ، والمنزهة بالروحانية في الأقسام ، التخيل أصلي ، والهيئة من فعلي ، وكل ذلك الوصف وصفي ، ألم تعلم أني موجدة الأجسام والأرواح ، والمتجلية في المعاني والأشباح ، هل موجد لذلك سواي ؟
وهل أنت في الحقيقة منعقد سوى من مائي ، أترك الأغيار ، وانظر رب البيت في الدار ، القائل :لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ" سورة الأنعام : الآية 103
وأحديتي غير متعددة ، وذاتي ذات لا متشفعة ، أنا حقيقة تلك الحروف والكلمات ، ما وصف منها بالنور والظلمات ، من كانت صورته الواحد ، كيف يوجد فيه المتعدد الزائد ؟ .
أشكل عليك مغايرة مراتب الأعداد ، فجمحت إلى التكثر بالأزواج والأفراد ، ولم تعلم أن ذلك في الحقيقة عين الإفراد .
فالخمسة والخمسين ، مغايرة من وجه للحقيقة العشرية في رأي العين .
فالتسمي للمرتبة العشرية بعشريتها ، عين إضافة الخمسة إلى الخمسة بجميعتها .
فالاشتراك في الاسم والاختلاف في الرسم ، أوقع عليك النسبة في الشهود ، حتى أشركت الغير في الوجود .
أما تحقّق وصفك في كل وجوهك أنه في الحقيقة راجع إلى معبودك ؟ .
ألا ترى أنك نظرة من نظراتي في كل آناتي ؟ .
من اين أحدثت التثني من حضرة التمني ؟ .
هلا قطعت البين بالبين ، وتركت الأثر وأخذت العين ؟ .
ما المجادلة منك أيها الواقف مع حجاب نفسه ، والمطموس في حسه ورمسه إلا مني ، ولا ذلك التكلم إلا عني ، لأنه لا يسمع خطابي الأغيار ، أما ترى الجبل اندك وانهار :وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً” سورة الأعراف : الآية 143 . من خطاب الجبار .
أنا المراتب له مراتب ترتيبها ، بحكمة إلهية أبديتها ، فإن أردت تعقل معنى ما قلته في الخيال ، وتحقق كل ما برز في المثال ، بحيث يجتمع لك في ذلك التعقل والتحقق جميع ذرات الوجود ، على أجناس جميع تنوعاتها في الشهود ، فقل الله ، تشهد حينئذ قول العارف الأواه :
قل الله واستقم * فكل الخلائق عدم
فإن ألوهيتي سارية في جميع المحسوسات ، والموهومات ، والمعقولات إلى غير ذلك مما يقبل التعبير أو لا يقبل .
فالكل مجموعي وأنا مجموع الكل ، وأنا عينك و أنت عيني ، بل لا أنت ولا هم ، الكل أنا ، بل لا أنا ولا أنت ولا هم ، ولا واحد ولا اثنين في البين ولا ثلاثة ، ما ثم إلا النقطة .
لأني إذا قلت : “ أنا “ لا يستقيم لإنيتي أنت ولا هم ، ولذلك أتى بحرف الإضراب وهي بل في قوله : بل لا أنا ( 1 ) الخ يعني ما ثم إلا النقطة المعبر عنها بالحق الجامع ، لا الحق الذي يقيد بالوصفية لإيجاد المخلوق فافهم .
فلو تحولت أيها الباء من ثوبك
فلهذا قالت : فلو تحولت أيها الباء من ثوبك ( 2 ) أي وصفك الخسيس إلى ثوبي ( 3 ) أي وصفي النفيس لعلمت كل ما أعلم ( 4 ) فتكون ممن قيل في حقهم :الرَّحْمنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ.
وشهدت كل ما أشهد ( 5 ) وهو معنى : “ لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه “ وسمعت كل ما أسمع ( 6 ) وهو نتيجة : “ فإذا أحببته “ وبصرت كل ما أبصر ( 7 ) بنتيجة ما تقدم ذكره .
واعلم أن قوله - رضي الله عنه - :
فأجابتها النقطة ( 1 ) أي أجابتها الباء لمّا تضرعت لديها ، وظهرت بالافتقار والعجز لديها ، أن تلك الجسمانية لك أيها الباء كتخيل روحانيتي ، بدليل قوله : هيئة من هيئاتي ( 2 ) فقد جمع المحسوس والمعقول لفظ الهيئة ، فالاشتراك لفظي والتباين معنوي ، وذلك اللفظي عين المعنوي ، لما علمت أنها تجمع الأضداد وهي واحدة في التعداد ، وواحديتها واحدية بالذات الغير القابلة معنى دون معنى فافهم ،
ومن ثم قال : ووصف من أوصافي يعني لأن شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيئاتي كما تقدم - ووصف من أوصافي كما سنبينه –
وهو عين ما ورد في قوله عليه الصلاة والسلام :
"رأيت ربي في صورة شاب أمرد " الحديث ، فهذا تجسيم ، إذ الصورة الشابية الأمردية الواقعة في الحس تشبيه لذلك الجناب المستحق للتنزيه عن الصورة الشابية الأمردية ، إذ لا يمنعه تجليه في الصورة كيف شاء تنزهه في ذاته كما يشاء ،
ولذلك قال : وذلك أن جميع متفرقات الأحرف ( 5 ) يعني الأعيان والكلمات - وهي التي الأعيان حقائقها - بجملتها ( 6 ) يعني لجمعية اختلافها صورتي الواحدة ( 7 ) يعني الغير المتعددة ، فمن أين التعدد ؟
( 8 ) أي إذا علمت تلك الواحدية أنها واحدية بالذات ، البارز بعينها في مراتب المتعينات ، إذ لا يتحقق أن العشرة ( 9 ) أي المرتبة العشرية اسم لمجموع هذه الخمستين ( 10 ) لأنها لا يخرجها عن قيد رسمها في مجموعيتهما موافقتهما في التسمية من حيث الإطلاق للحقيقة البشرية ، إذ المراتب محفوظة ، وحفظها بالواحد .
وأتى - قدس سره - بذلك ليعلمك أن الحفظ الإلهي من حيث اسمه الحفيظ هو الذي حفظ الكون عن أن يسطو بعضه على بعض ، أو يسطو اسم على اسم فافهم .
وفي ضربه المثل وتخصيصه بالخمسين والعشرة دون سائر المراتب
إشارة إلى أن المراتب وإن تعددت - بحيث لا يدرك لها نهاية أو تدرك - هي لا تتجاوز مرتبة العشرة ، إذ مبدأها من الواحد ، فالواحد أم العشرة ، والعشرة أم المأة ، والمأة أم الألف وهلم جرا .
وكذلك الاثنين أم العشرين ، والعشرين أم المأتين ، والمأتين أم الألفين ، وهكذا الثلاثة والأربعة إلى العشرة .
وأما الخمستين فمجموعهما - كما فهمت - عشرة ، وكل واحدة منهما يخرج منها جميع المراتب من الواحد إلى العشرة من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك أن المراتب المتقدمة عليها من الأزواج والأفراد موجودة فيهما ، فمرتبة الاثنين فالثلاثة فالأربعة .
والمتقدمة عنها كالستة فإنها ما تميزت عن الخمسة إلا بالواحد ، والواحد ليس بخارج عن الخمسة .
والسبعة لم تتميز عن الخمسة إلا بالاثنين ، والاثنين توجد في الخمسة .
والثمانية تميزها عنها بالثلاثة ، وليست الثلاثة بخارجة عن الخمسة .
والتسعة تميزها بالأربعة عن الخمسة ، وليست الأربعة إلا في ذات الخمسة ، وليست العشرة إلا مجموع الخمستين .
فإن قلت : إن الأربعة أيضا توجد فيها العشرة باعتبار أنها شاملة لما قبلها من الثلاثة والاثنين والواحد ، ومجموع الجميع عشرة .
قلنا : الأمر كذلك ، لكن مجموع الاربعتين لم يشمل ما شمله مجموع الخمستين ، وأيضا فإن الأربعة والأربعين موجودتان في الخمسة والخمستين - الأربعة في الخمسة ، والأربعتان في الخمستين - فالأربعة موجودة في الخمسة بالبديهة، والخمسة لا توجد في الأربعة كذلك فافهم.
في حقيقة العشرية لا في الاسمية
وقوله : في حقيقة العشرية لا في الاسمية ( 1 ) هذا جواب لما تقدم وهو قوله : فمن أين التغاير بين الخمستين والعشرة ( 2 ) قلنا : التغاير بين الخمستين والعشرة في حقيقة العشرة لتميز مرتبتها عن مرتبة الخمستين إذ كل خمسة معلومة مرتبتها لا في الاسم يعني في الاسم الذي يصدق على مجموع عدد الخمستين أنها عشرة .
وقوله : إذا كنت أنت في كل وجوهك وصفا من أوصافي ونظرة من نظراتي فمن أين تكون الإثنينية بيني وبينك ( 1 ) يعني إذا كنت في كل وجهك - أي ذاتك - وصفا من أوصافي - وهي الحياة - لأنك لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تمس بكل تلك القوى المتفقة في ذاتك إلا بصفة حياتي القائم بها وجودك .
وقوله : ونظرة من نظراتي ( 2 ) وهو الحفظ الإلهي الذي حفظك عن العدم الذاتي لذاتك .
وقوله : وكيف هذه المجادلة التي بيني وبينك ، أنا أصلها فيما يراد منك وفيما يراد مني ، هذا بمجموعه ذاتي ( 3 ) يعني أن قوة [ القوة التي ] معي منك ، إنما هو بي لا بك ، فلو لا أني أوجدتك أولا ، وأهلتك للمخاطبة ثانيا ، ونسبت هذا لك وهذا لي ، وإلا فمن أين تقوى لذلك ، بل لا تكون أصلا .
فهذه تعرفاتي ومخاطباتي مع ذاتي التي أوقعت عليها مع اسم الغيرة .
ولهذا قال المحققون - رضي الله عنهم - في معنى بطون الحق وظهوره : “ أن بطونه عين ظهوره ، وظهوره عين بطونه “ لأنه لا غير له عندهم حتى يظهر على ذلك الغير أو يبطن عنه ، بل هو الظاهر وهو الباطن .
ومن ثم قال : هذا بمجموعه ( 4 ) يعني فيما يرد منك وفيما يرد مني ذاتي ترتيب حكمة إلهية ( 5 ) وشأن الحكمة الإلهية وضع الشيء في محله ، لأنه الحكيم المطلق .
ولهذا قال : فإذا أردت تعقلي ( 6 ) وهذا تعليم للمخاطب من الحكيم الذي لا يدرك إلا بحكمته فخيل نفسك ( 7 ) أي ذاتك وجميع الأحرف ( 8 ) أي الذوات كلها والكلمات ( 9 ) أي المخلوقات صغيرها
( 1 ) أي الجزئي وكبيرها ( 2 ) أي الكلي ثم قل ( 3 ) أي بعد ذلك التخيل نقطة ( 4 ) أي أن جميع ذلك المتخيل الذي تخيلته من ذاتك ، والذوات كلها والمخلوقات جميعها - الجزئي منها والكلي - هو النقطة المشار إليها بالذات المنادية :لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فتجيب نفسها :لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ” سورة غافر: الآية 16
يعني لله الواحد القهار ، الذي قهر من ادعى مع الله إلها أخر ،
ولهذا قال : فذلك كله ( 5 ) أي بمجموعه على تنوع ما تخيلته هو عين نفسي ( 6 ) أي ذاتي ونفسي أي وذاتي عين ذلك المجموع الذي تخيلته بقدر استطاعة تخيلك ، ولي من وراء ذلك ما لا يدرك ، فتخيل ولا تتأمل لأنك ما قدرت إلا على وسع قابليتك ، وأين وسع قابليتك مما استحقه، هيهات هيهات دون ذلك والله سفّ الرماد وخرط القتاة،
ولهذا قال : بل نفسك عين مجموع ذلك بل مجموع ذلك عيني ( 7 ) يعني أن الذي قدرت على تخيله إنما قدرت عليه بعينك أي ذاتك ، وما هو متخيل لعينك هو عيني ، لأني نفس المتخيل والمتخيل ،
ولهذا قال : بل لا أنت ولا هم ( 8 ) يعني مما تراه بالعين أو تسمعه بالأذنيين الكل أنا .
الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء كلام النقطة مع الباء
تقول النّقطة للباء :
أيّها الحرف ! إنّي أصلك ، لتركيبك منّي ، بل إنّك في تركيبك أصلي ، لأنّ كلّ جزء منك نقطة ، فأنت الكلّ وأنا الجزء ، والكلّ أصل والجزء فرع ، بل أنا الأصل على الحقيقة .
إذ تركيبك عيني .
لا تنظر إلى بروزي وراء بروزك فتقول :
هذا البارز غيري ، إنّما أراك إلّا هويّتي وعيني ، ولولا وجودي فيك لم يكن لي بك هذه العلاقة ، إلى متى تصرف بشهادتك عنّي وتجعلني وراء ظهرك ؟
اجعل غيبتك شهادتك وشهادتك غيبتك .
أمّا تحقّق وحدتي بك :
لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ، ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة ، كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديّتي بك ، وتعلم أنّ إنبساطك في عالم الشّهادة واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لا مشارك فيّ لك ولا مشارك لك فيّ ، ما أنت إلّا أنا ، لأنّ اسمك حدث على اسمي.
ألا ترى أنّ أوّل جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وثاني جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وثالث جزء من أجزائك يسمّى نقطة ، وكذلك جميع أجزائك نقطة في نقطة ، فأنا أنت ، ما لك فيك إنّيّة ، بل هويّتي هي إنّيّتك الّتي أنت بها أنت ، لو كنت عند قولك في نفسك أنا تتخيّل ذاتي لكنت أنا أيضا عند قولي هو أتخيّل وجهي ، فكنت حينئذ تعلم أنّ أنا وهو عبارتان لذات واحدة.
استشكال الباء على الوحدة بتقيدها بالقيود الإمكانية
قالت الباء :
سيّدي تحقّقت أنّك أصلي ، وقد علمت أنّ الأصل والفرع شيئان ، وهذه جثّتي منبسطة متركّبة لا وجود لي إلّا بها ، وأنت جوهر لطيف يوجد في كلّ شيء ، وأنا جسم كثيف مقيّد بمكان دون غيره ، فمن أين لي حقيقة مالك ، ومن أين أكون أنا أنت ، وكيف يكون حكمك حكمي ؟! .
فأجابتها النّقطة فقالت :
شهود جسمانيّتك وتخيّل روحانيّتي هيئة من هيئاتي ووصف من أوصافي ، وذلك أنّ جميع متفرّقات الأحرف والكلمات بجملتها صورتي الواحدة ، فمن أين التّعداد ، إذ لا تتحقّق أنّ العشرة اسم لمجموع هذه الخمستين ، فمن أين التّغاير بين الخمسة والعشرة في حقيقة
العشريّة لا في الاسميّة .
وإذا كنت أنت من كلّ وجوهك وصفا من أوصافي ونظرة من نظراتي فمن أين تكون الإثنينيّة بيني وبينك ؟ !
وكيف هذه المجادلة الّتي بيني وبينك ، أنا أصل فيما يراد منك وفيما يراد منّي ، هذا بمجموعه ذاتي ترتيب حكمة إلهيّة ، فإذا أردت تسألني تعقّلي فخيّل نفسك وجميع الحروف كلّها والكلمات صغيرها وكبيرها ، ثمّ قل لي نقطة .
فذلك بمجموعه هو عين نفسي ، ونفسي عين ذلك المجموع ، بل نفسك مجموع عين ذلك كلّه ، بل مجموع عيني عينك ، بل لا أنت ولا هم ، الكلّ أنا ، بل لا أنا ولا أنت ولا هم ولا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ، ما ثمّ إلّا النّقطة الواحدة .
لا يعقل تمثّلك فيه ولا يفهم ، فلو تحوّلت من ثوبك إلى ثوبي لعلمت كلّ ما أعلم ، وشهدت كلّ ما أشهد ، وسمعت كلّ ما أسمع ، وبصرت كلّ ما أبصر .
فأجابه الباء فقال : قد لاح بارق ما قلت ، فمن لي بالوقوع في صبح هذا الفجر ؟
وقد قلت أنّ البعد والقرب والكمّ والكيف من ترتيب وجودك ، فكلّما شهدت القول بالتّرتيب وما لا بدّ منه سلمت وانصرفت بوجهي إلى عالم شهادتي ولزومي الأدب معك ، وكلّما جلت في ملكوت معناي وجدتك نفسي ، فإذا طلبت من نفسي ما لك من الحلّ والعقد في الحروف والسّريان في كلّ حرف بكمالك لا أجد شيئا ، فتنكسر زجاجة همّتي ، وأرجع حسيرا .
فقالت النّقطة : نعم ترجع لأنّك طلبت من نفسك ، ونفسك عندك غير نفسي ، فلا تجد منها ما لي ، فلو طلبت منها أنا - الّذي هو أنت - من نفسي - الّتي هي نفسك - دخلت الدّار من بابه ، فحينئذ ما طلبت ما للنّقطة إلّا من النّقطة ، بل ولا طلبت إلّا النّقطة ما لها منها .
فجل في هذا المعنى إن كنت معنا :
هذي الخيام بدت على أطنابها ….. فانزل بها ان كنت من أحبابها
قف بين هاتيك المعاني أنّها ….. وقفت بها الأزمان في أترابها
ما هند إلّا من أقام على الغضا …… والبان والأثلات في أجنابها
فانخ مطيّك في الدّيار فإنّها ….. دار مباركة على أصحابها
للّه درّ منازل قد شرّفت ….. بالسّاكنين وشرّفوا بترابها
لا تعرف الأغيار في غرفاتها ….. مجهولة سدّت على أبوابها
النازلين بحيّها هم أهلها …… من بان عنها ليس من أنسابها
.
شرح الفصل الثالث محاضرة بين الألف والباء
ثم قال رضي الله عنه :
فصل : أيتها الحرف أنا أصلك
تقول النقطة للباء : أيتها الحرف أنا أصلك لتركيبك مني ، بل إنك في تركيبك أصلي ، لأن كل جزء منك نقطة ، فأنت الكل وأنا الجزء ، والكل أصل والجزء فرع ، بل أنا الأصل على الحقيقة ، إذ تركيبك عيني ، لا تنظر إلى بروزي ورائك فتقول : هذا البارز غيري إنما [ إذ ما ] أراك إلا هويتي ، ولولا وجودي فيك لم يكن لي بك هذه العلامة ، إلى متى تصرف بشهادتك عني ، وتجعلني وراء ظهرك ، اجعل غيبك شهادتك ، وشهادتك غيبتك ، أما تحقق وحدتي بك ؟ ، لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ، ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة .
كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي بك ، وتعلم أن انبساطك في عالم الشهادة واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لا مشارك في لك فيما لك ، لك فيّ ، لك فيما لك ، في ذلك ، ولا مشارك لك في ما أنت إلا أنت ، لأن اسمك حدث على اسمي ، ألا ترى أن أول جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وثاني جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وثالث جزء من أجزائك يسمى نقطة ، وكذا جميع أجزائك نقطة في نقطة .
فأما أنت ما لك فيك إنية ، بل هويتي هي إنيتك التي أنت بها أنت .
لو كنت عند قولك في نفسك “ أنا “ تتخيل ذاتي ، لكنت أنا أيضا عند قولي “ هي “ أتخيل وجهي .
فكنت حينئذ تعلم أن أنا وهو عبارة لذات واحدة .
قوله : فصل : تقول النقطة للباء ( 1 ) الخ .
اعلم - وفقني الله وإياك ، ولا أخلاني من فيضه ولا أخلاك - أن الباء عبارة عن نفسك القائمة بدعوى الأمر بطريق الجهل ، وأن النقطة عبارة عن ذات الحق - تعالى - المنزه عن إشارة النقطة أو علامة القائمة بمعنى الامر كما هو حقيقة لها بطريق الأصالة ، إذ الوجود لذاته واجب ، فهو واجب الوجود الذي الموجودات فرع وجوده ، تنزه من ليس بفرع ولا أصل عن كل ما لا يليق بجنابه تعالى .
فلمّا كانت الباء كما علمت ، وكانت النقطة كما فهمت ، خاطبت نقطة الموجود ذرات الوجود ، في عالم الغيب والشهود ، بلسان الأنس والكرم ، لتزيح عن حقائق معانيها الظلم .
فأول ما قالت لمّا تناهت في عزها وتعالت ، وأرادت إدراك الحقيقة البائية السفلية ، بأن تتشرف بسماع خطاب صفاتها العلية :
أيتها الباء المبائن في الوجود لأصله ، والمتميز عن فرعه بأصله ، ليس لك في الحقيقة غيري .
وكل ما شاهدته من غيري أنت المركب مني ، والبارز على هيئة حقيقتك بالنيابة عني ، وأصل خمر عشقك من دني .
أنت جزء من أجزاء نقطي ، وحرف من معلوم غلطي ، بل أنت الكل وأنا الجزء ، وأنت الأصل وأنا الفرع ، وكل ذلك لك بي لا بك ، إذ الكل والجزء والأصل والفرع لا يشذ عني ، ولو شذ عني لكان لغيري ، ولا غير لي .
بروزي من ورائك غرك بأنني من جملة سواك ، بل ظهوري بذلك يدل على أن أمري من ورائك .
أما ترى عود النخل يوجد قبل تمره ، وليس مقصودا لعينه بل لأمره .
فما عيّنك في الوجود وقرّبك من حضرة الشهود - حتى صرت أكمل عابد دل على معبود - إلا الذي تراه غيرك ، وأنكرته من أن يكون طيرك ، حيث غرّد مغرّد أنسك
على فنن قدسك : ما غرّك أيها العبد الآبق بحسنك الفاني وجسمك الداني ؟ .
أما سمعت بشير الحمامة ينادي في قصور الملوان بالسلامة ، لمن عرف العلامة ؟ ، ونذير السآمة ينادي في سوق الأكوان بالملامة لمن ترك الكرامة ؟ .
فالحذر الحذر أن الأمر الذي طلبته عزيز المرام ، عظيم المقام ، لا يصلح إفشاؤه بالتصريح ، وهو لا يكاد يفهم بالكتابة والتلويح .
فاعلم أنني أنا الولد الذي أبوه ابنه ، والخمر الذي كرمه دنه ، أنا الفرع الذي أنتج أصله ، والسهم الذي قوسه نصله .
اجتمعت بالأمهات وأولدتني ، وخطبتها لأنكحها فأنكحتني ، فلما سويت في طاهر الأصول عقدت صورة المحصول ، فأنثنيت في مقسمي ، أدور في جسمي ، وقد حملت أمانات الهيولى ، وأحكمت الحضرة الموصوفة بالأخرى والأولى .
إذ كل ذلك الذي دللتك عليه وندبتك إليه حقيقتي منزهة عنه وخارجة منه ، بل ذلك ضرب مثل لمثلك وأمثالك ، ليفهم السامع لهذا الكلام ما المعنى المراد فيستخرجه من الكمام ، والتحية والإكرام على من اتبع الهدى والسلام .
وأتينا بهذه المعاني في قالب التسجيع ، ليعلم الواقف أن الابن لأبيه مطيع ، ولأمه رضيع .
فإذا علمت ذلك وميزت به ما هنالك فاعلم :
أن الحرف المعبر عنه بالباء ، بل كل حرف أصله النقطة التي برزت تحته كالباء وأمثالها ، أو فوقه كالتاء وما يشابهها ، أو في وسطه كالضاد وما شابهه ، أو ظهرت في ذاته كالألف وما شابهه .
وإنما كان خطاب النقطة مع الباء دون سائر الأحرف ، لما علمت أن أكمل حرف من الحروف هو الألف المنزه في حقيقته عن علامة .
وقد علمت أنه يشار به إلى الذات الأحدية ، والذات الأحدية هي المنزهة عن جميع القيود والنسب والإضافات والاعتبارات إلى غير ذلك ، لكون الأحدية أول تعين من الغيب العمائي المعبر عنه بصرافة الذات وبمجهول النعت .
وهذا المجلى العمائي هو المشار إليه بالنقطة المنزهة عن الإشارة .
والتجلي الأحدي المعبر عنه بالتجلي الذاتي والتعين الأولي هو المشار إليه بالألف المنزه تنزيها ذاتيا .
فالتحق إذا بالذات الصرف ، وأناب منابه الحرف المعبر عنه بالباء المشار إليه بالنفس . فاختص خطاب النقطة بالباء ، لأن الحجاب الأعظم هو وجود النفس القائمة بدعوى الوجود في حضرة الموجود ، ووقع الخطاب من النقطة إلى الباء لإظهار سرّ الربوبية في ما ورد به الكتاب العزيز :لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها” سورة الكهف ( 18 ) : الآية 49
وبعد أن يعرف الحق تعالى :الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ” سورة غافر : الآية 17 .
فثم يسجد ألف الوجود ، فيقال له : “ اشفع تشفع “ كما ورد بذلك الخبر الصحيح والقول الصريح .
وكل ذلك المذكور من قوله - قدس سره - من مخاطبة النقطة للباء بقولها : أيتها الحرف أنا أصلك ( 1 ) ، فإن ذات الحق - تعالى - هي الموجدة للأشياء من نفسها ، كما قال تعالى :وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ” سورة الجاثية: الآية 13 .
أي من ذاته تعالى بذاته كما قال تعالى :ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ” سورة الأحقاف: الآية 3
فالحق - تعالى - أصل حقائق الموجودات ، لأنه أوجدها في علمه القديم من عدم ، ثم أبرزها من العلم إلى العين ، فهو بعلمه القديم يعلمها أنها موجودة في علمه من عدم ، وليس في علمه سوى ذاته ، إذ ليس لذات القديم - جل وعلا - سوى علمه ، وبذلك العلم يعلم ذاته ، وبه يعلم مخلوقاته .
ولا شك أن أجسام الموجودات ليست بذات الباري - جل وعلا - ، وحاشا وكلا أن تكون ذات من هو مركب من أجزاء متعددة مبائنة في حقائقها لبعضها بعض [ بعضها من بعض ] مشابهة أو مماثلة أو ملحقة في الصورة أو في المعنى لذات الواجب بذاته : “ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا “ .
ولا شك أن الموجودات على الحقيقة ليس لها في نسبة الوجودية شيء ، إذ أصلها العدم المحض ، وإنما الوجود طار عليها ، والأشياء معتبرة بحقائقها لا غير .
فإذا فهمت هذه المقدمات علمت المعاني التي أشار إليها المصنف - قدس سره - في قشور العبارات ورموز الإشارات :
من قول النقطة للباء :
أنا أصلك لتركيبك مني ( 1 ) الخ ، وإشارته بقوله : فتقول أي الباء : هذا البارز ( 2 ) أي النقطة غيري ( 3 ) حيث برزت تحتها ، وإنما بروز [ إذ ما برزت ] النقطة تحت الباء إلا لتعلم الباء أن الأمر من وراء ما أدركته .
ولهذا قال : إن [ إذ ] ما أراك إلا هويتي ( 4 ) يعني أن الباء ما أراها وعرفها بما رأته وعرفته إلا هويتي وعيني ، أي ذاتي الغير المتجزية التي تركبت ذات الباء منها ، لأن الحق لا يراه إلا الحق .
فلو لم تكن حقيقة الباء هي النقطة - التي برزت في رأي العين أنها غيرها ، وفي باطن الرأي أنها عينها - لما استطاعت الباء أن ترى إلا نفسها ، وليس نفسها إلا العدم المحض ، وليس العدم محلا لمواجهة الخطاب.
ولولا وجودي فيك لم تكن لي بك هذه العلامة
وقوله : ولولا وجودي فيك لم تكن لي بك هذه العلامة ( 5 ) وهي الربية والمربوبية ، إذ لا رب إلا بمربوب ولا مربوب إلا برب .
وإلى هذا أشار الإمام الأكبر - قدس سره - في فصوص الحكم في فص حكمة قدسية في كلمة إدريسية بقوله :
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا * وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا
من يدر ما قلت لم تحدث بصيرته * وليس يدريه إلا من له بصر
جمع وفرق و كان العين واحدة * وهي الكبيرة لا تبقي ولا تذر
فقوله رضي الله عنه : “ فالحق خلق “ الخ مراده بذلك - والله أعلم - الحق المخلوق به اللازم له الصفة الحقية ، فإنه ما قيل فيه حق إلا ويقابله خلق ، لأن الحق - تعالى - غني عن العالمين بذاته ، وهذا هو عين ما قلنا في أن الرب لا بد له من مربوب ، كما أن الرازق لا بد له من مرزوق فافهم .
وأما قول المصنف قدس سره : إلى متى تصرف بشهادتك عني وتجعلني وراء ظهرك اجعل غيبتك شهادتك وشهادتك غيبتك ( 1 ) يعني إلى متى وأنت معرض عني مع إقبالي عليك وإيجادي لك في كل آن بنظري إليك ؟ ،
فإني أحب لقاء من أحب لقائي كما قال تعالى : “ ما ترددت في شيء ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت - وهو لقاء الله - وأنا أكره مسأته - أي ما يسوئه - ولا بد له من لقائي “ وهو الموت ،
فأتى بقوله : ولا بد له من لقائي عوضا من قوله : “ ولا بد له من الموت “ للطفه بعبده المؤمن لئلا يحزنه - جل وعلا - .
وقوله : اجعل غيبك شهادتك وشهادتك غيبك أي أظهر بحقك - وهو ما بطن فيك - على خلقك - وهو ما ظهر منك - .
هذا إذا كان مشهدك أن الحق هو الظاهر والخلق هو الباطن ، فاظهر بحقك الظاهر على خلقك الباطن ، ليفنى كل شيء هالك ، البازغ منك والدال لك . أما تتحق وحدتي بك
وقوله : أما تتحق وحدتي بك ؟
لولاك لما كنت أنا نقطة الباء ولولاي لما كنت أنت باء منقوطة ( 2 ) يعني لولا تجلي واحديتي فيك لما تتحقق واحديتي ، إذ لست أهلا لنيل معرفتك بغير ما عرفتك به ، وذلك التعرف هو ظهوري بالنقطة المعبّر عنها بنقطة الباء التي هي روحك ، ولولاي أي ولولا ذات واحديتي لما كنت أنت باء منقوطة أي ذا علامة تعلم بها متى تشير إليك .
وإلى ذلك أشار الإمام الأكبر قدس سره بقوله :
فنحن له كما ثبتت * أدلتنا و نحن له
وليس له سوى كوني * فنحن له كنحن بنا
فلي وجهان هو و أنا * و ليس له أنا بأنا
و لكن في مظهره * فنحن له كمثل إنا
كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي فيك
قوله : كم أضرب لك الأمثال كي تفهم أحديتي فيك ( فصوص الحكم : فص حكمة مهيمية في كلمة .إيراهمية ) إذ جعلتك دليلا علي في الخارج بك ، علمت فلم لا تعلم ما دليت عليه غيرك بك :" أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ". سورة البقرة : الآية 44 . فالسعيد متوعظ بغيره ، وأنت غيرك وعظ بك .
فالعجب منك كل العجب !
حيث لا تعلم أن انبساطك في علم الشهادة - وهو الذي ظهرت فيه صورة جسمك - واستتاري في عالم الغيب حكمان لذاتنا الواحدة ، لأن الغيب إنما هو غيب بالنسبة إليك من حيثك ، لا بالنسبة إليك من حيثي ، ولا بالنسبة إلي من حيثي .
فالأمر عندي واحد ، فبطوني في عالم الغيب عين ظهوري في عالم الشهادة الذي برز فيه جسمك الشهادي .
وإلى ذلك أشار المصنف - قدس سره - في الإنسان الكامل حيث قال :
ذات لها في نفسها وجهان * للسفل وجه والعلى للثاني
ولكل وجه في العبارة والأدى * ذات وأوصاف وفعل بيان
إن قلت واحدة صدقت وإن تقل * اثنان حق أنه ذا ثاني
نظرا إلى أحدية هي ذاته * قل واحد أحد فريد الشأن
ولئن ترى الذاتان قلت لكونه * عبدا وربا أنه اثنان
تحتار فيه فلا يقول لسفله * عال ولا لعلوه هو دان
لا مشارك في ذلك
وقوله : لا مشارك في ذلك ولا مشارك لك فيما أنت إلا أنت ، لأن اسمك حدث على اسمي ( 1 ) يعني أنه أنا الله لا إله إلا أنا ، ليس لي فيما صنعت شريك ولا مزاحم :إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي” سورة طه ( 20 ) : الآية 14 .
إذ لا مشارك لك فيّ ، فإن الموجودات المتعددة التي تراها غيري ليست إلا أنا ولست إلا هي ، فأنا في أي جهة توليتها من جميع جهاتك ما أنت أنت ، لأنه لا يكون أنت أنت إلا إذا كنت أنت بلا أنا ، وأنت لست كذلك لأن اسمك حدث على اسمي لتوقف وجودك على وجودي .
ألا ترى أول جزء من أجزائك تسمى نقطة
وقوله : ألا ترى أول جزء من أجزائك تسمى نقطة وثاني جزء من أجزائك يسمى نقطة وثالث جزء من أجزائك يسمى نقطة وكذا جميع أجزائك نقطة في نقطة ( 2 ) يعني أن تلك القوى القائم بها وجود ذاتك ، المعبر عنها بالسمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، والحاسة ، والعاقلة ، والمفكرة ، والناطقة ليست بغير لروحي المنفوخة فيك ، فليست تلك القوى المتعددة التي تركب منها - وهو جسمك - إلا كنقطة بإزاء نقطة ، وكذا جميع أجزائك أي الغير المنحصرة مما قامت بالروح نقطة في نقطة ، فأنا أنت من حيث الحقيقة ، ما لك منك إنية ،
لأنك إن قلت : “ أنا “ إنما تلك إنيتي ، ألا ترى إذا فارقت روحك جسمك ،
هل يصح لك أن تقول : “ أنا “ ، بل هويتي من حيث أني غيب عنك هي إنيتك التي أنت بها أنت من حيث شهادتي في شهادتك ، لو كنت عند قولك في نفسك أنا تتخيل اتي ، لكنت أنا أيضا عند قولي هل أتخيل وجهي :هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ” سورة الرحمن : الآية 60 .
لو كنت عرفت مقداري منك حيث شرفتك بظهور ذاتي في ذاتك كانت إنيتك هي ذاتي ، وكنت أنا أيضا عرفت قدرك كما عرفت قدري ، لكن لما كان لسان الحال مصرحا بما قال :وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ” سورة الأنعام : الآية 91 ، وسورة الزمر: الآية 67 . ،
سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. سورة الصافات : الآية 180
عذرتك في دعواك بجهلك ، ليكون ذلك الجهل حجة الألف على أمته
حيث قال : “ رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون “وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ”
سورة الزخرف : الآية 4 .
ثم قال رضي الله عنه : قال الباء سيدي : تحققت أنك أصلي ، وقد علمت أن الأصل والفرع شيئان ، وهذه جثتي منبسطة متركبة لا وجود لي إلا بها ، وأنت جوهر لطيف توجد في كل شيء . وأنا جسم كثيف مقيد بمكان دون غيره ، فمن اين حقيقة ما لك ؟ ، ومن اين أكون انا أنت ؟ ، وكيف يكون حكمك حكمي ؟
فاجابتها النقطة فقالت : شهود جسمانيتك وتخيل روحانياتي هيئة من هيئاتي ، ووصف من أوصافي ، وذلك ان جميع متفرقات الأحرف والكلمات بجملتها صورتي الواحدة فمن اين التعداد ؟ ،
إذ لا تحقق ان العشرة اسم لمجموع هذه الخمستين فمن اين التغاير بين الخمسة والعشرة في حقيقة العشرية لا في الاسمية ؟ ،
وإذا كنت أنت من كل وجوهك وصفا من أوصافي ، ونظرة من نظراتي فمن اين تكون الاثنينية بيني وبينك ؟ ،
وكيف هذه المجادلة التي بيني وبينك ؟ ، انا أصل فيما يراد منك ] “ 1 “ وفيما يراد مني ، هذا بمجموعه ذاتي ترتيب حكمة الهية .
فإذا أردت تعقلي فخيل نفسك وجميع الحروف كلها والكلمات صغيرها وكبيرها ،
ثم قل لي : نقطة ، فذلك بمجموعه هو عين نفسي ، ونفسي عين ذلك المجموع ، بل نفسك عين مجموع ذاتك بل مجموع عيني عينك ، بل لا أنت ولا هم الكل انا ، بل لا انا ولا أنت ولا هم ولا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ما ثم الا النقطة الواحدة ، لا تعقل لمثلك فيها ولا تفهم .
فلو تحولت من ثوبك إلى ثوبي لعلمت كل ما أعلم ، وشهدت كل ما أشهد ، وسمعت كل ما أسمع ، وبصرت كل ما أبصر .
فأجابتها النقطة
قوله : فأجابتها النقطة ( 1 ) الخ يعني أن مخاطبة النقطة للباء كان في مقام الأنس ، وذلك الأنس مقيد بما يعلم المخاطب لا المخاطب ، وهذه الحضرة حضرة المجاوبة ، لا يدخلها إلا الكمل من الرجال .
في هذه الحضرة ينبئ العبد بجميع ما تحدث في آناء الليل وأطراف النهار إذا سئل عن ذلك في أي وقت من الأوقات ، وكل ما سأل عن غيره يجيبه الحق ، ويعلمه فيه .
وفي هذه الحضرة كل علومها جواب لا ينادي الحق أحدا فيها بشيء ، بل هي حضرة الجواب .
قال المصنف قدس سره : “ أقمت في هذه الحضرة أياما ، فمكثت أسأل عن كل ما أراه ، فيحصل لي علمه من المبدأ والمعاد ، ثم غيبت عنه إلى حضرة المسائلة “ انتهى .
شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيآتي
فقول النقطة للباء : شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيآتي ووصف من أوصافي ( 2 ) يعني أنا المشهودة في الأجسام ، والمنزهة بالروحانية في الأقسام ، التخيل أصلي ، والهيئة من فعلي ، وكل ذلك الوصف وصفي ، ألم تعلم أني موجدة الأجسام والأرواح ، والمتجلية في المعاني والأشباح ، هل موجد لذلك سواي ؟
وهل أنت في الحقيقة منعقد سوى من مائي ، أترك الأغيار ، وانظر رب البيت في الدار ، القائل :لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ" سورة الأنعام : الآية 103
وأحديتي غير متعددة ، وذاتي ذات لا متشفعة ، أنا حقيقة تلك الحروف والكلمات ، ما وصف منها بالنور والظلمات ، من كانت صورته الواحد ، كيف يوجد فيه المتعدد الزائد ؟ .
أشكل عليك مغايرة مراتب الأعداد ، فجمحت إلى التكثر بالأزواج والأفراد ، ولم تعلم أن ذلك في الحقيقة عين الإفراد .
فالخمسة والخمسين ، مغايرة من وجه للحقيقة العشرية في رأي العين .
فالتسمي للمرتبة العشرية بعشريتها ، عين إضافة الخمسة إلى الخمسة بجميعتها .
فالاشتراك في الاسم والاختلاف في الرسم ، أوقع عليك النسبة في الشهود ، حتى أشركت الغير في الوجود .
أما تحقّق وصفك في كل وجوهك أنه في الحقيقة راجع إلى معبودك ؟ .
ألا ترى أنك نظرة من نظراتي في كل آناتي ؟ .
من اين أحدثت التثني من حضرة التمني ؟ .
هلا قطعت البين بالبين ، وتركت الأثر وأخذت العين ؟ .
ما المجادلة منك أيها الواقف مع حجاب نفسه ، والمطموس في حسه ورمسه إلا مني ، ولا ذلك التكلم إلا عني ، لأنه لا يسمع خطابي الأغيار ، أما ترى الجبل اندك وانهار :وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً” سورة الأعراف : الآية 143 . من خطاب الجبار .
أنا المراتب له مراتب ترتيبها ، بحكمة إلهية أبديتها ، فإن أردت تعقل معنى ما قلته في الخيال ، وتحقق كل ما برز في المثال ، بحيث يجتمع لك في ذلك التعقل والتحقق جميع ذرات الوجود ، على أجناس جميع تنوعاتها في الشهود ، فقل الله ، تشهد حينئذ قول العارف الأواه :
قل الله واستقم * فكل الخلائق عدم
فإن ألوهيتي سارية في جميع المحسوسات ، والموهومات ، والمعقولات إلى غير ذلك مما يقبل التعبير أو لا يقبل .
فالكل مجموعي وأنا مجموع الكل ، وأنا عينك و أنت عيني ، بل لا أنت ولا هم ، الكل أنا ، بل لا أنا ولا أنت ولا هم ، ولا واحد ولا اثنين في البين ولا ثلاثة ، ما ثم إلا النقطة .
لأني إذا قلت : “ أنا “ لا يستقيم لإنيتي أنت ولا هم ، ولذلك أتى بحرف الإضراب وهي بل في قوله : بل لا أنا ( 1 ) الخ يعني ما ثم إلا النقطة المعبر عنها بالحق الجامع ، لا الحق الذي يقيد بالوصفية لإيجاد المخلوق فافهم .
فلو تحولت أيها الباء من ثوبك
فلهذا قالت : فلو تحولت أيها الباء من ثوبك ( 2 ) أي وصفك الخسيس إلى ثوبي ( 3 ) أي وصفي النفيس لعلمت كل ما أعلم ( 4 ) فتكون ممن قيل في حقهم :الرَّحْمنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ.
وشهدت كل ما أشهد ( 5 ) وهو معنى : “ لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه “ وسمعت كل ما أسمع ( 6 ) وهو نتيجة : “ فإذا أحببته “ وبصرت كل ما أبصر ( 7 ) بنتيجة ما تقدم ذكره .
واعلم أن قوله - رضي الله عنه - :
فأجابتها النقطة ( 1 ) أي أجابتها الباء لمّا تضرعت لديها ، وظهرت بالافتقار والعجز لديها ، أن تلك الجسمانية لك أيها الباء كتخيل روحانيتي ، بدليل قوله : هيئة من هيئاتي ( 2 ) فقد جمع المحسوس والمعقول لفظ الهيئة ، فالاشتراك لفظي والتباين معنوي ، وذلك اللفظي عين المعنوي ، لما علمت أنها تجمع الأضداد وهي واحدة في التعداد ، وواحديتها واحدية بالذات الغير القابلة معنى دون معنى فافهم ،
ومن ثم قال : ووصف من أوصافي يعني لأن شهود جسمانيتك وتخيل روحانيتي هيئة من هيئاتي كما تقدم - ووصف من أوصافي كما سنبينه –
وهو عين ما ورد في قوله عليه الصلاة والسلام :
"رأيت ربي في صورة شاب أمرد " الحديث ، فهذا تجسيم ، إذ الصورة الشابية الأمردية الواقعة في الحس تشبيه لذلك الجناب المستحق للتنزيه عن الصورة الشابية الأمردية ، إذ لا يمنعه تجليه في الصورة كيف شاء تنزهه في ذاته كما يشاء ،
ولذلك قال : وذلك أن جميع متفرقات الأحرف ( 5 ) يعني الأعيان والكلمات - وهي التي الأعيان حقائقها - بجملتها ( 6 ) يعني لجمعية اختلافها صورتي الواحدة ( 7 ) يعني الغير المتعددة ، فمن أين التعدد ؟
( 8 ) أي إذا علمت تلك الواحدية أنها واحدية بالذات ، البارز بعينها في مراتب المتعينات ، إذ لا يتحقق أن العشرة ( 9 ) أي المرتبة العشرية اسم لمجموع هذه الخمستين ( 10 ) لأنها لا يخرجها عن قيد رسمها في مجموعيتهما موافقتهما في التسمية من حيث الإطلاق للحقيقة البشرية ، إذ المراتب محفوظة ، وحفظها بالواحد .
وأتى - قدس سره - بذلك ليعلمك أن الحفظ الإلهي من حيث اسمه الحفيظ هو الذي حفظ الكون عن أن يسطو بعضه على بعض ، أو يسطو اسم على اسم فافهم .
وفي ضربه المثل وتخصيصه بالخمسين والعشرة دون سائر المراتب
إشارة إلى أن المراتب وإن تعددت - بحيث لا يدرك لها نهاية أو تدرك - هي لا تتجاوز مرتبة العشرة ، إذ مبدأها من الواحد ، فالواحد أم العشرة ، والعشرة أم المأة ، والمأة أم الألف وهلم جرا .
وكذلك الاثنين أم العشرين ، والعشرين أم المأتين ، والمأتين أم الألفين ، وهكذا الثلاثة والأربعة إلى العشرة .
وأما الخمستين فمجموعهما - كما فهمت - عشرة ، وكل واحدة منهما يخرج منها جميع المراتب من الواحد إلى العشرة من غير زيادة ولا نقصان ، وذلك أن المراتب المتقدمة عليها من الأزواج والأفراد موجودة فيهما ، فمرتبة الاثنين فالثلاثة فالأربعة .
والمتقدمة عنها كالستة فإنها ما تميزت عن الخمسة إلا بالواحد ، والواحد ليس بخارج عن الخمسة .
والسبعة لم تتميز عن الخمسة إلا بالاثنين ، والاثنين توجد في الخمسة .
والثمانية تميزها عنها بالثلاثة ، وليست الثلاثة بخارجة عن الخمسة .
والتسعة تميزها بالأربعة عن الخمسة ، وليست الأربعة إلا في ذات الخمسة ، وليست العشرة إلا مجموع الخمستين .
فإن قلت : إن الأربعة أيضا توجد فيها العشرة باعتبار أنها شاملة لما قبلها من الثلاثة والاثنين والواحد ، ومجموع الجميع عشرة .
قلنا : الأمر كذلك ، لكن مجموع الاربعتين لم يشمل ما شمله مجموع الخمستين ، وأيضا فإن الأربعة والأربعين موجودتان في الخمسة والخمستين - الأربعة في الخمسة ، والأربعتان في الخمستين - فالأربعة موجودة في الخمسة بالبديهة، والخمسة لا توجد في الأربعة كذلك فافهم.
في حقيقة العشرية لا في الاسمية
وقوله : في حقيقة العشرية لا في الاسمية ( 1 ) هذا جواب لما تقدم وهو قوله : فمن أين التغاير بين الخمستين والعشرة ( 2 ) قلنا : التغاير بين الخمستين والعشرة في حقيقة العشرة لتميز مرتبتها عن مرتبة الخمستين إذ كل خمسة معلومة مرتبتها لا في الاسم يعني في الاسم الذي يصدق على مجموع عدد الخمستين أنها عشرة .
وقوله : إذا كنت أنت في كل وجوهك وصفا من أوصافي ونظرة من نظراتي فمن أين تكون الإثنينية بيني وبينك ( 1 ) يعني إذا كنت في كل وجهك - أي ذاتك - وصفا من أوصافي - وهي الحياة - لأنك لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تحس ولا تمس بكل تلك القوى المتفقة في ذاتك إلا بصفة حياتي القائم بها وجودك .
وقوله : ونظرة من نظراتي ( 2 ) وهو الحفظ الإلهي الذي حفظك عن العدم الذاتي لذاتك .
وقوله : وكيف هذه المجادلة التي بيني وبينك ، أنا أصلها فيما يراد منك وفيما يراد مني ، هذا بمجموعه ذاتي ( 3 ) يعني أن قوة [ القوة التي ] معي منك ، إنما هو بي لا بك ، فلو لا أني أوجدتك أولا ، وأهلتك للمخاطبة ثانيا ، ونسبت هذا لك وهذا لي ، وإلا فمن أين تقوى لذلك ، بل لا تكون أصلا .
فهذه تعرفاتي ومخاطباتي مع ذاتي التي أوقعت عليها مع اسم الغيرة .
ولهذا قال المحققون - رضي الله عنهم - في معنى بطون الحق وظهوره : “ أن بطونه عين ظهوره ، وظهوره عين بطونه “ لأنه لا غير له عندهم حتى يظهر على ذلك الغير أو يبطن عنه ، بل هو الظاهر وهو الباطن .
ومن ثم قال : هذا بمجموعه ( 4 ) يعني فيما يرد منك وفيما يرد مني ذاتي ترتيب حكمة إلهية ( 5 ) وشأن الحكمة الإلهية وضع الشيء في محله ، لأنه الحكيم المطلق .
ولهذا قال : فإذا أردت تعقلي ( 6 ) وهذا تعليم للمخاطب من الحكيم الذي لا يدرك إلا بحكمته فخيل نفسك ( 7 ) أي ذاتك وجميع الأحرف ( 8 ) أي الذوات كلها والكلمات ( 9 ) أي المخلوقات صغيرها
( 1 ) أي الجزئي وكبيرها ( 2 ) أي الكلي ثم قل ( 3 ) أي بعد ذلك التخيل نقطة ( 4 ) أي أن جميع ذلك المتخيل الذي تخيلته من ذاتك ، والذوات كلها والمخلوقات جميعها - الجزئي منها والكلي - هو النقطة المشار إليها بالذات المنادية :لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ فتجيب نفسها :لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ” سورة غافر: الآية 16
يعني لله الواحد القهار ، الذي قهر من ادعى مع الله إلها أخر ،
ولهذا قال : فذلك كله ( 5 ) أي بمجموعه على تنوع ما تخيلته هو عين نفسي ( 6 ) أي ذاتي ونفسي أي وذاتي عين ذلك المجموع الذي تخيلته بقدر استطاعة تخيلك ، ولي من وراء ذلك ما لا يدرك ، فتخيل ولا تتأمل لأنك ما قدرت إلا على وسع قابليتك ، وأين وسع قابليتك مما استحقه، هيهات هيهات دون ذلك والله سفّ الرماد وخرط القتاة،
ولهذا قال : بل نفسك عين مجموع ذلك بل مجموع ذلك عيني ( 7 ) يعني أن الذي قدرت على تخيله إنما قدرت عليه بعينك أي ذاتك ، وما هو متخيل لعينك هو عيني ، لأني نفس المتخيل والمتخيل ،
ولهذا قال : بل لا أنت ولا هم ( 8 ) يعني مما تراه بالعين أو تسمعه بالأذنيين الكل أنا .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin