ومعنى قوله : والاتحاد يشعر بالقربة
والاتحاد يشعر بالقربة ، وهو ذاك الفصل الذي تراه بين الحرف وبين النقطة ( 2 ) فالمعنى أن النقطة لما برزت لتكميل الحرف المعجم كان كاملا ، وليس له في الصفة الكمالية شيء بل هي للنقطة ، لكنه فيه قابلية قبول لحمل الكمال النقطي ، فلمّا قبل ذلك الكمال كان كاملا ، فاتحد بالنقطة من حيث صفة الكمال ، وما قارب الشيء يعطي حكمه ، لان ظهور النقطة لتكميل الحرف المعجم بالقرب منه ، فقربها من الصفة المشعرة بالاتحاد .
ومن ثمّ كان المقربون تنفعل لهم الأشياء حسب ما أرادوا ، لأنهم قاربوا الحق في صفاته ، وهكذا حال أهل الجنة في الجنة حيث تنفعل لهم الأشياء بسبب قربهم من الحق لأنهم جواره .
فظهور النقطة في الباء أكمل من ظهورها في التاء والثاء - المثناة ، والمثلثة - .
وصورة كل منهما في الخط صورة الباء لكن الأفضلية للباء على أختيها ، لأن لها من التجليات التجلي الذاتي الواحدي الداخل تحت حيطته جميع التجليات : تجليات أسماء الصفات ، وتجليات أسماء الأفعال .
فظهرت بالنيابة عن الألف كما ظهر الألف بالنيابة عن النقطة .
ومن ثمّ نابت الباء في بسم اللّه الرحمن الرحيم مناب الألف ، وحولت في الكتابة عوضا عن بطون الألف فيها .
فبظهور الحقيقة الألفية في الحقيقة البائية كانت الباء خليفة عن ألف الوجود المتجلي بذاته في حضرة الجمع والوجود .
ثمّ لمّا كان الألف له الشرف الأول في حضرة الحضرات وجمعها ، وكان له السبق في ميدان صفتها واسمها ، وهو المميز لكل مرتبة اسمها ورسمها ، كان له من المراتب العددية المرتبة الأولية المعبر عنها بالواحدية ، ومنه تعينت المراتب العددية ، فالمراتب اسم لتكرار الواحد في أعيانها ولا تكرار ، فما من مرتبة توجد إلا وقد وجد فيها الواحد قبلها .
كذلك أيضا الباء لمّا كان لها من الأعداد مرتبة الاثنينية فما توجد مرتبة بعدها إلا وهي موجودة قبلها ، لأن لها الشرف بما قبلها وهو الألف ، ومن ثمّ قيل : “ أن أول الأفراد الثلاثة “ .
ولأن الواحد ليس هو من الأعداد ، فإنه لو كان منها لكان مثلها فيما إذا ضربت عددا ما في عدد ما كان الخارج منهما زائدا على كل من المضروب والمضروب فيه ، وليس الواحد كذلك مع أنه في كل من الضاربية والمضروبية ، لأن له الكمال المطلق ، ومن شأن الكمال المطلق أن لا يقيد بقيد ولا يحد بحد ، وهو عين كل قيد وحد .
لكن تلك الحدود والقيود صادقة في حق غير الألف ، لأنه عين الذات الغائب ، فالذات منزهة عن القيد والحد ، فظهر انفعال الألف في جميع الأحرف ، ومرتبته في جميع المراتب العددية .
فالكثرة الغير المتناهية ناشئة أولا من الألف ومتناهية أخيرا فيه ، لأنه لو قدر لتلك الكثرة الغير المتناهية تناهيا لكان تناهيها إلى الواحد ، لأنه لا بد أن يكون آخر كل شيء واحدا ، وقد كان أول كل شيء واحدا ، فهو الواحد الذي هو آخر كل شيء وقبل كل شيء ، فافهم وإذا عرفت فالزم ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ. وهو بحقيقة الأمر أعلم .
والألف مقامه مقام الواحد في الواحد بنفسه
ثم قال رضي الله عنه : والألف مقامه مقام الواحد في الواحد بنفسه ، ولهذا كان الألف ظاهرا بنفسه في كل حرف ، وكما تقول أن الباء ألف مبسوطة ، والجيم ألف معوجة الطرفين ، والدال ألف منحنى الوسط ، والألف في مقام النقطة ، لتركيب كل حرف منها ، وكل حرف مركب من النقطة ، والنقطة لكل حرف كالجوهر البسيط ، والحرف كالجسم المركب ، فمقام الألف بجسميته مقام النقطة ، لتركيب الأحرف منه كما ذكرنا في أن الباء ألف مبسوطة .
قوله : والألف مقامه مقام الواحد في الواحد بنفسه ( 1 ) أي بنفس الواحد ، ومن كان قائما بنفسه لزم أن يكون غيره قائما به ، لأنه - أي الواحد - القائم بنفسه ، أي هو الذي عيّن غيره وجعل عليه اسم الغيرية ، وإلا فمن أين لنا أن نعلم وجود اثنين بلا واحد والإضافات [ إضافات ] ، فقد وجد فيها اعتبارات ثلاث وهي واحدة منزهة عن كل ما قيل وما يقال ، لأن الاعتبار المتوصل به إلى معرفتها مخلوق ، وليس للمخلوق قدرة معرفة على [ على معرفة ] من كان ولا شيء ، وأوجد لا من شيء .
فالحاصل من كلامهم - رضي الله عنهم - أنك في معرفة ذات الحق - تعالى - في عماء ، لأنك تصف موصوفا بأوصاف ومسمّى بأسماء ، وأنت لم تعرف حقيقة المتّصف بما وصفه من أوصافه ، ولا المسمّى بما سمّيته من أسمائه ، وليس ذلك الموصوف بالأوصاف غيرها ، ولا المسمّى بالأسماء مبائن لها .
فالحق عن معرفتك في عماء ، وأنت تخبط في ظلمة ظلماء ، فلو كنت أيها العارف ترى ذات الموصوف من ذاتك ، وتشهده عين ما قام به وجود صفاتك ، كنت بمعرفة الحقائق خضر موسى ، وبإنارة الطرائق وارثا لمن لو كان حيا لتبعه موسى .
وكل تلك المعارف أوجدها الكنز المخفي ، المعبر عنه بالروح المحمدي في كل مظهر حقي أو مظهر خلقي .
وكذلك الحقيقة المحمّديّة خلق العالم بأسره منها
وكذلك الحقيقة المحمّديّة خلق العالم بأسره منها ، لما ورد في حديث جابر : أنّ الله تعالى خلق روح النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذاته وخلق العالم بأسره من روح محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الظّاهر في الخلق باسمه بالمظاهر الإلهيّة ، ألا ترى أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أسري بجسمه إلى فوق العرش ، وهو مستوى الرّحمن ] “ 1 “
فمن ثم قال قدس سره : ألا ترى إليه ( 1 ) أي إلى شرف محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - كيف أسري بجسمه إلى فوق العرش ( 2 ) ، وما علم أن أحدا علا على العرش سواه ، لأن العرش مستوى الرحمن ، فلو لا أن محمدا هو المعبّر عنه بالرحمن ، فيما أخبر به الترجمان ، لما كان له الترقي إلى حيث لا “ إلى “ .
اعلم أن العرش على - التحقيق - مظهر العظمة ، ومكانة المجلى [ التجلي ] ، وخصوصية الذات ، ويسمى جسم الحضرة ومكانها ، لكنه المكان المنزه عن الجهات الست ، وهو المنظر الأعلى ، والمحل الأزهى ، والشامل لجميع أنواع الموجودات ، فهو في الوجود المطلق كالجسم للوجود الإنساني ، باعتبار أن [ العالم ] الجسماني شامل للعالم الروحاني والخيالي [ و ] العقلي إلى غير ذلك .
ولهذا قال بعض الصوفية عنه : “ بأنه الجسم الكلي “ ، أي الإنسان هو الجسم الكل ، ولا يخلو من نظر ، لأن الجسم الكلي - وإن كان شاملا لعالم الأرواح - فاللوح فوقه ، والنفس الكلي فوقه ، ولا يعلم [ ولا نعلم ] بأن في الوجود شيئا فوق العرش إلا الرحمن ، فلو كان الإنسان هو الجسم الكلي لكان اللوح المعبر عنه بالنفس الكلي فوقه ، ولا علم أن فوق العرش سوى الرحمن المعبر عنه ، فإذا لا يقال في الأمر أنه الجسم الكلي “ .
""من قوله : اعلم أن العرش إلى هنا اقتباس من الإنسان الكامل : الباب الخامس والأربعون في العرش – المحقق""
قال المصنف في الإنسان الكامل : “ فهذا حكم بأن اللوح فوق العرش ، يعني لو كان العرش هو الجسم الكل ، وهو خلاف الإجماع ، على أنه من قال من أصحابنا الصوفية :
أن العرش هو الجسم الكلي لا يخالفنا ، لأنه ، فوق اللوح ، وقد عبر عنه بالنفس الكلي ، ولا شك أن مرتبة النفس أعلى من مرتبة الجسم
"" الإنسان الكامل : الباب الخامس والأربعون : في العرش""
قلت : ولا شك أن مرتبة العرش أعلى من مرتبة النفس الكلي ، وليس فوق العرش أحد إلا الرحمن .
واعلم أن إسراء الحق - سبحانه وتعالى - بعبده - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بجسمه الشريف العالي المنيف إلى المكانة العظمى والمجلى الأسمى ، حتى بلغ من
تلك المكانة خلف السدرة التي هي غاية عروج كل مخلوق ، وما بعدها إلا المكانة المختصة بالحق ، ومن ثم أنه سمع صريف الأقلام أي صوتها ، لأن تلك المكانة لا يمكن أن تقبل شيئا غير السماع ، ومن ثم أن جبرئيل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - لمّا وصل إلى السدرة : “ لو تقدمت شبرا لاحترقت “ ، فكان ذلك عين :وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ” 1 “ فزج بأفضل الكائنات - عليه الصلاة والسلام - في حجب النور ، فمن ثم كان نورا على نور ، فرأى من آيات ربه الكبرى ، وشاهد ما لم يبرز في الأولى والأخرى .
فتعلمت بذلك - هداك الله لمعرفته - أن الرحمن هو محمد ، وأن محمد هو الرحمن .
فإن قلت :الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى” 2 “ علم من أريد بذلك ، فافهم والله ورسوله أعلم .
فالألف فله عليهم الزيادة
ثم قال رضي الله عنه : فالألف - ولو كانت بقية الحروف المهملة مثله ، والنقطة ظاهرة فيهم بذاتها لظهورها في الألف - فله عليهم الزيادة ، لأنه ما بعد عن النقطة إلا بدرجة واحدة ، لأن النقطتين إذا تركبتا صارتا ألفا محدبا .
فللألف بعد واحد وهو الطول ، إذ الأبعاد ثلاثة وهو طول وعرض وعمق أو سمك ، وبقية الحروف تجتمع فيها أكثر من بعد : كالجيم فإن في رأسه الطول وفي تعريقته السمك .
وكالكاف فإن في رأسه الطول ، وفي الوصل بين رأسه وتعريقته الأولى إنما عرض ، وفي الحائل بين التعريقتين سمك ، فهذا فيه ثلاثة أبعاد .
ولا بد في كل حرف - غير الألف - أن يكون فيه بعدان أو ثلاثة ، فالألف أقرب إلى النقطة ، لأنها لا بعد لها .
فنسبة الألف بين الأحرف المهملة نسبة محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بين الأنبياء والورثة الكمل ، فلهذا قدّم الألف على سائر الحروف فافهم وتأمل .
قوله رضي الله عنه : فالألف ولو كانت بقية الحروف المهملة مثله والنقطة ظاهرة فيهم ( 1 ) الخ ، فاعلم أن الألف له الزيادة على الحروف المهملة التي شابهته في
ظهور النقطة في أعيانها ، لأن كل حرف مهمل تظهر النقطة في عينه ، لكن ظهورها في عين الألف بمظاهر التي لا بد أن تظهر بها من جميع شؤونها ، ومن جملة تلك الشؤون ظهور النقطة في عين كل حرف مهمل بكمالها - أي كمال النقطة - على وسع قابلية كمال ذلك الحرف المهمل .
وقابلية كل حرف مهمل بالنسبة إلى قابلية الألف جزئية ، وقابليته كلية ، فجميع القوابل القابلة في الأحرف المهملة وجه من وجوه قابلية الألف ، لأنها موجودة فيه ومنه وبه :
أما “ فيه “ فإنها باطنة فيه كبطون العلوم في العقل الأول .
وأما “ منه “ فإن أول حرف تعين بعد الألف هو الباء المعبر عنها بالنفس الكلية ، وتلك العلوم الباطنة في العقل الأول ظاهرة في النفس الكلية بالتفصيل .
وأما “ به “ فإنه لولاه لما ظهرت النفس الكلية التي لم تظهر تلك العلوم إلا بها .
فالألف هو مدار الكل والجزء باعتبار ما علمت منه على الوجه الذي بيناه ، فهو برزخ البرازخ ، لأنه في الاصطلاح يشار به إلى الأحدية ، والأحدية برزخ بين البطون والظهور ، أعني بين البطون الذاتي - المعبر عنه بالسذاجة الصرفة - وبين الظهور الواحدي - المعبر عنه بالواحدية - ، والبرزخ ما قابل الطرفين بذاته .
فالأحدية من حيث لها وجه إلى البطون الذاتي باطنة ، ومن حيث لها وجه إلى الظهور الصفاتي ظاهرة .
كذلك الألف فإنه برزخ بين النقطة والباء ، لأن أول بارز من النقطة الألف ، لأنها لا بعد لها ، وهو له بعد واحد ، والباء لها بعدان ، وغيرها لا بد أن يكون فيه بعدان أو ثلاثة .
فبرزخية الألف بين النقطة والباء كونه لم يبعد منها إلا بعدا واحدا وهو الطول ، لأن النقطتين إذا تركبتا صارتا ألفا ، فيصدق عليهما إذا من الأبعاد الطول . والنقطة الواحدة غير جائز عليها شيء من الأبعاد ، فمن ثم قيل في النقطتين : “ إذا تركبتا صارتا ألفا “ بهذا الاعتبار ، لا الألف الذي هو في اصطلاح الكتابة فافهم .
ولمّا كان الألف له الكمال الظهوري والبطوني ، وحمل جميع الكمالات والحقائق ، ومنه برزت الرقائق ، وعرفت الدقائق ، وأنيرت الطرائق ، وانقطعت دونه العلائق ، وعرفت به الخالق والخلائق ، كان نسبته بين الأحرف المهملة نسبة محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بين الأنبياء - عليه وعليهم الصلاة والسلام - إذ هو المتبوع المطلق ، وغيره المتبوع المقيد ، وكل متبوع مقيد تابع للمتبوع المطلق ، وكل تابع للمتبوع المقيد تابع للمتبوع المطلق بالاستلزام ، فالمتبوع المقيد متبوع من وجه ، تابع من وجه .
لأن من كان تقدمه عليه - صلى الله وسلم عليه - من الأنبياء والمرسلين من حيث الوجود العنصري كان نائبا عنه في الباطن ، ومن تأخر عنه أي عن وجوده العنصري كسادتنا الكمل - رضي الله عنهم - كان نائبا عنه في الباطن والظاهر .
ومن ثم قال سيدي عبد القادر الجيلاني - قدس سره العزيز - : “ معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب ، وأوتينا ما لم تؤتوه “ .
وقال الشيخ أبو الغيث بن جميل - قدس سره المثيل - : “ خضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله “ .
فقول الوارث الأول : “ معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب “ وهو النبوة - أي نبوة التشريع - كما دعوا إلى الله - تعالى - على بصيرة بحكم الاستقلال عن محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - .
وقوله : “ وأوتينا ما لم تؤتوه “ يعني أنا متعبدون بما جاء به محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - مما لم يكن لنبي قبله به علم ، إذ شرعه حاو لجميع من قبله ، وزاده الله عليهم بخصائص لم تكن لأحد قبله ، كما وردت الأحاديث بذلك كقوله - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - : “ أعطيت خمسا - وفي رواية ستا - لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لنبي قبلي ، وبعثت إلى الناس كافة وكان النبي يبعث إلى قومة ، وأعطيت الشفاعة - وفي رواية : وأوتيت جوامع الكلم ، وفي رواية : وختم بي النبيون ، وفي رواية : فأنا أول من تنشق عنه الأرض “ .
وعن العرباض بن سارية قال سمعت النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - يقول : “ أنا عبد الله وخاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته ، ودعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى بن مريم “ ، يعني : وأنا دعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى عليه وعليهم الصلاة والسلام .
وحكى أبو محمد المكي وأبو الليث السمرقندي : “ أن آدم عند معصيته قال :
اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي “ ، وفي رواية : “ لما دعى به آدم فقال له الله : من أين عرفت محمدا - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ؟ ، فقال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك ، فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله ، محمد رسول الله - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه أنه : وعزتي وجلالي لآخر النبيين من ذريتك ، ولو لاه ما خلقتك “
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : “ قال رسول الله - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - - : إن الله قسم الخلق قسمين : فجعلني من خيرهم قسما ، فذلك قوله :وَأَصْحابُ الْيَمِينِوَأَصْحابُ الشِّمالِ” 1 “ فأنا من اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين .
"" إشارة إلى الآيات 27 إلى 46 من سورة الواقعة ( ) :وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ( 27 ) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ( 28 ) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ( 29 ) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( 30 ) وَماءٍ مَسْكُوبٍ ( 31 ) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ( 32 ) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( 33 ) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ( 34 ) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ( 35 ) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ( 36 ) عُرُباً أَتْراباً ( 37 ) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ( 38 ) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ( 39 ) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ( 40 ) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ( 41 ) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ( 42 ) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ( 43 ) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ( 44 ) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ( 45 ) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. ""
ثم جعل القسمين ثلاثا : فجعلني في خيرها ثلاثا ، فذلك قوله :فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ( 9 ) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. سورة الواقعة ( 56 ) : الآيات 8 إلى 10 . فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين .
ثم جعل الأ ثلاث قبائل ، فجعلني من خيرها قبيلة ، فذلك قوله تعالى :وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا” 3 “ الآية ، فأنا أتقى ولد آدم ، وأكرمهم على الله ولا فخر .
ثم جعل القبائل بيوتا : فجعلني من خيرها بيتا ، فذلك قوله تعالى :إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً” 4 “
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : “ قالوا : يا رسول الله ! متى وجبت لك النبوة ؟ ، قال : وآدم بين الروح والجسد “ .
وفي حديث أنس : “ أنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر “ .
وفي حديث ابن عباس : “ أنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر “ .
وعن عائشة - رضي الله عنها - عنه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أنه قال :
“ أتاني جبرائيل فقال : قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم “ .
وعن أنس - رضي الله عنه - : “ أن النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أتي بالبراق ليلة أسري به ، فاستصعب عليه ، فقال جبرائيل عليه السلام : أفبمحمد تفعل هذا ؟ ! فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقا “ .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - قال :
“ ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة “ ، ورجاؤه محقق - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - - .
فعلم من جوامع كلمه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أنه الأول الآخر ، والظاهر الباطن ، ومن ثمّ قال الوارث الثاني : “ خضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله “ يريد بذلك أنه خاض بحر اللحوق المحمدي بالاتباع فيما جاء به محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - .
وهذا حال الورثة المحمديين ، بخلاف الأنبياء فإنهم من أول قدم وضعوه إنما وضعوه على ساحل البحر المحمدي ، والورثة لا يصلون إلى الساحل إلا بعد الخوضات . فافهم .
فمن ثمّ كان مقام قاب قوسين مقام الكمّل من الأنبياء وخاصته ، يعني أنهم ورثوا مقام قاب قوسين من محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - وخاصته ، أو [ الله ] الذي لم يشاركه فيه أحد سواه .
فيفاض على قوابل الأنبياء والمرسلين والورثة الكمل المحمديين من مقامأَوْ أَدْنىإلى مقامقابَ قَوْسَيْنِ.
""- إشارة إلى سورة النجم ( 53 ) : الآية 9 وكاملها :فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى.""
ومن ثمّ قال شرف الدين عمر بن الفارض - قدس سره - في تائيته :
ولي من مفيض الجمع عند سلامه * علي بأو أدنى إشارة نسبتي
وإلى حال جمعيته ، ونيابة من قبله من الأنبياء عنه - عليه وعليهم الصلاة والسلام - وإلى حال الورثة المحمديين الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام : “ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل “
والاتحاد يشعر بالقربة ، وهو ذاك الفصل الذي تراه بين الحرف وبين النقطة ( 2 ) فالمعنى أن النقطة لما برزت لتكميل الحرف المعجم كان كاملا ، وليس له في الصفة الكمالية شيء بل هي للنقطة ، لكنه فيه قابلية قبول لحمل الكمال النقطي ، فلمّا قبل ذلك الكمال كان كاملا ، فاتحد بالنقطة من حيث صفة الكمال ، وما قارب الشيء يعطي حكمه ، لان ظهور النقطة لتكميل الحرف المعجم بالقرب منه ، فقربها من الصفة المشعرة بالاتحاد .
ومن ثمّ كان المقربون تنفعل لهم الأشياء حسب ما أرادوا ، لأنهم قاربوا الحق في صفاته ، وهكذا حال أهل الجنة في الجنة حيث تنفعل لهم الأشياء بسبب قربهم من الحق لأنهم جواره .
فظهور النقطة في الباء أكمل من ظهورها في التاء والثاء - المثناة ، والمثلثة - .
وصورة كل منهما في الخط صورة الباء لكن الأفضلية للباء على أختيها ، لأن لها من التجليات التجلي الذاتي الواحدي الداخل تحت حيطته جميع التجليات : تجليات أسماء الصفات ، وتجليات أسماء الأفعال .
فظهرت بالنيابة عن الألف كما ظهر الألف بالنيابة عن النقطة .
ومن ثمّ نابت الباء في بسم اللّه الرحمن الرحيم مناب الألف ، وحولت في الكتابة عوضا عن بطون الألف فيها .
فبظهور الحقيقة الألفية في الحقيقة البائية كانت الباء خليفة عن ألف الوجود المتجلي بذاته في حضرة الجمع والوجود .
ثمّ لمّا كان الألف له الشرف الأول في حضرة الحضرات وجمعها ، وكان له السبق في ميدان صفتها واسمها ، وهو المميز لكل مرتبة اسمها ورسمها ، كان له من المراتب العددية المرتبة الأولية المعبر عنها بالواحدية ، ومنه تعينت المراتب العددية ، فالمراتب اسم لتكرار الواحد في أعيانها ولا تكرار ، فما من مرتبة توجد إلا وقد وجد فيها الواحد قبلها .
كذلك أيضا الباء لمّا كان لها من الأعداد مرتبة الاثنينية فما توجد مرتبة بعدها إلا وهي موجودة قبلها ، لأن لها الشرف بما قبلها وهو الألف ، ومن ثمّ قيل : “ أن أول الأفراد الثلاثة “ .
ولأن الواحد ليس هو من الأعداد ، فإنه لو كان منها لكان مثلها فيما إذا ضربت عددا ما في عدد ما كان الخارج منهما زائدا على كل من المضروب والمضروب فيه ، وليس الواحد كذلك مع أنه في كل من الضاربية والمضروبية ، لأن له الكمال المطلق ، ومن شأن الكمال المطلق أن لا يقيد بقيد ولا يحد بحد ، وهو عين كل قيد وحد .
لكن تلك الحدود والقيود صادقة في حق غير الألف ، لأنه عين الذات الغائب ، فالذات منزهة عن القيد والحد ، فظهر انفعال الألف في جميع الأحرف ، ومرتبته في جميع المراتب العددية .
فالكثرة الغير المتناهية ناشئة أولا من الألف ومتناهية أخيرا فيه ، لأنه لو قدر لتلك الكثرة الغير المتناهية تناهيا لكان تناهيها إلى الواحد ، لأنه لا بد أن يكون آخر كل شيء واحدا ، وقد كان أول كل شيء واحدا ، فهو الواحد الذي هو آخر كل شيء وقبل كل شيء ، فافهم وإذا عرفت فالزم ،وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ. وهو بحقيقة الأمر أعلم .
والألف مقامه مقام الواحد في الواحد بنفسه
ثم قال رضي الله عنه : والألف مقامه مقام الواحد في الواحد بنفسه ، ولهذا كان الألف ظاهرا بنفسه في كل حرف ، وكما تقول أن الباء ألف مبسوطة ، والجيم ألف معوجة الطرفين ، والدال ألف منحنى الوسط ، والألف في مقام النقطة ، لتركيب كل حرف منها ، وكل حرف مركب من النقطة ، والنقطة لكل حرف كالجوهر البسيط ، والحرف كالجسم المركب ، فمقام الألف بجسميته مقام النقطة ، لتركيب الأحرف منه كما ذكرنا في أن الباء ألف مبسوطة .
قوله : والألف مقامه مقام الواحد في الواحد بنفسه ( 1 ) أي بنفس الواحد ، ومن كان قائما بنفسه لزم أن يكون غيره قائما به ، لأنه - أي الواحد - القائم بنفسه ، أي هو الذي عيّن غيره وجعل عليه اسم الغيرية ، وإلا فمن أين لنا أن نعلم وجود اثنين بلا واحد والإضافات [ إضافات ] ، فقد وجد فيها اعتبارات ثلاث وهي واحدة منزهة عن كل ما قيل وما يقال ، لأن الاعتبار المتوصل به إلى معرفتها مخلوق ، وليس للمخلوق قدرة معرفة على [ على معرفة ] من كان ولا شيء ، وأوجد لا من شيء .
فالحاصل من كلامهم - رضي الله عنهم - أنك في معرفة ذات الحق - تعالى - في عماء ، لأنك تصف موصوفا بأوصاف ومسمّى بأسماء ، وأنت لم تعرف حقيقة المتّصف بما وصفه من أوصافه ، ولا المسمّى بما سمّيته من أسمائه ، وليس ذلك الموصوف بالأوصاف غيرها ، ولا المسمّى بالأسماء مبائن لها .
فالحق عن معرفتك في عماء ، وأنت تخبط في ظلمة ظلماء ، فلو كنت أيها العارف ترى ذات الموصوف من ذاتك ، وتشهده عين ما قام به وجود صفاتك ، كنت بمعرفة الحقائق خضر موسى ، وبإنارة الطرائق وارثا لمن لو كان حيا لتبعه موسى .
وكل تلك المعارف أوجدها الكنز المخفي ، المعبر عنه بالروح المحمدي في كل مظهر حقي أو مظهر خلقي .
وكذلك الحقيقة المحمّديّة خلق العالم بأسره منها
وكذلك الحقيقة المحمّديّة خلق العالم بأسره منها ، لما ورد في حديث جابر : أنّ الله تعالى خلق روح النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذاته وخلق العالم بأسره من روح محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الظّاهر في الخلق باسمه بالمظاهر الإلهيّة ، ألا ترى أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أسري بجسمه إلى فوق العرش ، وهو مستوى الرّحمن ] “ 1 “
فمن ثم قال قدس سره : ألا ترى إليه ( 1 ) أي إلى شرف محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - كيف أسري بجسمه إلى فوق العرش ( 2 ) ، وما علم أن أحدا علا على العرش سواه ، لأن العرش مستوى الرحمن ، فلو لا أن محمدا هو المعبّر عنه بالرحمن ، فيما أخبر به الترجمان ، لما كان له الترقي إلى حيث لا “ إلى “ .
اعلم أن العرش على - التحقيق - مظهر العظمة ، ومكانة المجلى [ التجلي ] ، وخصوصية الذات ، ويسمى جسم الحضرة ومكانها ، لكنه المكان المنزه عن الجهات الست ، وهو المنظر الأعلى ، والمحل الأزهى ، والشامل لجميع أنواع الموجودات ، فهو في الوجود المطلق كالجسم للوجود الإنساني ، باعتبار أن [ العالم ] الجسماني شامل للعالم الروحاني والخيالي [ و ] العقلي إلى غير ذلك .
ولهذا قال بعض الصوفية عنه : “ بأنه الجسم الكلي “ ، أي الإنسان هو الجسم الكل ، ولا يخلو من نظر ، لأن الجسم الكلي - وإن كان شاملا لعالم الأرواح - فاللوح فوقه ، والنفس الكلي فوقه ، ولا يعلم [ ولا نعلم ] بأن في الوجود شيئا فوق العرش إلا الرحمن ، فلو كان الإنسان هو الجسم الكلي لكان اللوح المعبر عنه بالنفس الكلي فوقه ، ولا علم أن فوق العرش سوى الرحمن المعبر عنه ، فإذا لا يقال في الأمر أنه الجسم الكلي “ .
""من قوله : اعلم أن العرش إلى هنا اقتباس من الإنسان الكامل : الباب الخامس والأربعون في العرش – المحقق""
قال المصنف في الإنسان الكامل : “ فهذا حكم بأن اللوح فوق العرش ، يعني لو كان العرش هو الجسم الكل ، وهو خلاف الإجماع ، على أنه من قال من أصحابنا الصوفية :
أن العرش هو الجسم الكلي لا يخالفنا ، لأنه ، فوق اللوح ، وقد عبر عنه بالنفس الكلي ، ولا شك أن مرتبة النفس أعلى من مرتبة الجسم
"" الإنسان الكامل : الباب الخامس والأربعون : في العرش""
قلت : ولا شك أن مرتبة العرش أعلى من مرتبة النفس الكلي ، وليس فوق العرش أحد إلا الرحمن .
واعلم أن إسراء الحق - سبحانه وتعالى - بعبده - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بجسمه الشريف العالي المنيف إلى المكانة العظمى والمجلى الأسمى ، حتى بلغ من
تلك المكانة خلف السدرة التي هي غاية عروج كل مخلوق ، وما بعدها إلا المكانة المختصة بالحق ، ومن ثم أنه سمع صريف الأقلام أي صوتها ، لأن تلك المكانة لا يمكن أن تقبل شيئا غير السماع ، ومن ثم أن جبرئيل - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - لمّا وصل إلى السدرة : “ لو تقدمت شبرا لاحترقت “ ، فكان ذلك عين :وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ” 1 “ فزج بأفضل الكائنات - عليه الصلاة والسلام - في حجب النور ، فمن ثم كان نورا على نور ، فرأى من آيات ربه الكبرى ، وشاهد ما لم يبرز في الأولى والأخرى .
فتعلمت بذلك - هداك الله لمعرفته - أن الرحمن هو محمد ، وأن محمد هو الرحمن .
فإن قلت :الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى” 2 “ علم من أريد بذلك ، فافهم والله ورسوله أعلم .
فالألف فله عليهم الزيادة
ثم قال رضي الله عنه : فالألف - ولو كانت بقية الحروف المهملة مثله ، والنقطة ظاهرة فيهم بذاتها لظهورها في الألف - فله عليهم الزيادة ، لأنه ما بعد عن النقطة إلا بدرجة واحدة ، لأن النقطتين إذا تركبتا صارتا ألفا محدبا .
فللألف بعد واحد وهو الطول ، إذ الأبعاد ثلاثة وهو طول وعرض وعمق أو سمك ، وبقية الحروف تجتمع فيها أكثر من بعد : كالجيم فإن في رأسه الطول وفي تعريقته السمك .
وكالكاف فإن في رأسه الطول ، وفي الوصل بين رأسه وتعريقته الأولى إنما عرض ، وفي الحائل بين التعريقتين سمك ، فهذا فيه ثلاثة أبعاد .
ولا بد في كل حرف - غير الألف - أن يكون فيه بعدان أو ثلاثة ، فالألف أقرب إلى النقطة ، لأنها لا بعد لها .
فنسبة الألف بين الأحرف المهملة نسبة محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بين الأنبياء والورثة الكمل ، فلهذا قدّم الألف على سائر الحروف فافهم وتأمل .
قوله رضي الله عنه : فالألف ولو كانت بقية الحروف المهملة مثله والنقطة ظاهرة فيهم ( 1 ) الخ ، فاعلم أن الألف له الزيادة على الحروف المهملة التي شابهته في
ظهور النقطة في أعيانها ، لأن كل حرف مهمل تظهر النقطة في عينه ، لكن ظهورها في عين الألف بمظاهر التي لا بد أن تظهر بها من جميع شؤونها ، ومن جملة تلك الشؤون ظهور النقطة في عين كل حرف مهمل بكمالها - أي كمال النقطة - على وسع قابلية كمال ذلك الحرف المهمل .
وقابلية كل حرف مهمل بالنسبة إلى قابلية الألف جزئية ، وقابليته كلية ، فجميع القوابل القابلة في الأحرف المهملة وجه من وجوه قابلية الألف ، لأنها موجودة فيه ومنه وبه :
أما “ فيه “ فإنها باطنة فيه كبطون العلوم في العقل الأول .
وأما “ منه “ فإن أول حرف تعين بعد الألف هو الباء المعبر عنها بالنفس الكلية ، وتلك العلوم الباطنة في العقل الأول ظاهرة في النفس الكلية بالتفصيل .
وأما “ به “ فإنه لولاه لما ظهرت النفس الكلية التي لم تظهر تلك العلوم إلا بها .
فالألف هو مدار الكل والجزء باعتبار ما علمت منه على الوجه الذي بيناه ، فهو برزخ البرازخ ، لأنه في الاصطلاح يشار به إلى الأحدية ، والأحدية برزخ بين البطون والظهور ، أعني بين البطون الذاتي - المعبر عنه بالسذاجة الصرفة - وبين الظهور الواحدي - المعبر عنه بالواحدية - ، والبرزخ ما قابل الطرفين بذاته .
فالأحدية من حيث لها وجه إلى البطون الذاتي باطنة ، ومن حيث لها وجه إلى الظهور الصفاتي ظاهرة .
كذلك الألف فإنه برزخ بين النقطة والباء ، لأن أول بارز من النقطة الألف ، لأنها لا بعد لها ، وهو له بعد واحد ، والباء لها بعدان ، وغيرها لا بد أن يكون فيه بعدان أو ثلاثة .
فبرزخية الألف بين النقطة والباء كونه لم يبعد منها إلا بعدا واحدا وهو الطول ، لأن النقطتين إذا تركبتا صارتا ألفا ، فيصدق عليهما إذا من الأبعاد الطول . والنقطة الواحدة غير جائز عليها شيء من الأبعاد ، فمن ثم قيل في النقطتين : “ إذا تركبتا صارتا ألفا “ بهذا الاعتبار ، لا الألف الذي هو في اصطلاح الكتابة فافهم .
ولمّا كان الألف له الكمال الظهوري والبطوني ، وحمل جميع الكمالات والحقائق ، ومنه برزت الرقائق ، وعرفت الدقائق ، وأنيرت الطرائق ، وانقطعت دونه العلائق ، وعرفت به الخالق والخلائق ، كان نسبته بين الأحرف المهملة نسبة محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بين الأنبياء - عليه وعليهم الصلاة والسلام - إذ هو المتبوع المطلق ، وغيره المتبوع المقيد ، وكل متبوع مقيد تابع للمتبوع المطلق ، وكل تابع للمتبوع المقيد تابع للمتبوع المطلق بالاستلزام ، فالمتبوع المقيد متبوع من وجه ، تابع من وجه .
لأن من كان تقدمه عليه - صلى الله وسلم عليه - من الأنبياء والمرسلين من حيث الوجود العنصري كان نائبا عنه في الباطن ، ومن تأخر عنه أي عن وجوده العنصري كسادتنا الكمل - رضي الله عنهم - كان نائبا عنه في الباطن والظاهر .
ومن ثم قال سيدي عبد القادر الجيلاني - قدس سره العزيز - : “ معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب ، وأوتينا ما لم تؤتوه “ .
وقال الشيخ أبو الغيث بن جميل - قدس سره المثيل - : “ خضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله “ .
فقول الوارث الأول : “ معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب “ وهو النبوة - أي نبوة التشريع - كما دعوا إلى الله - تعالى - على بصيرة بحكم الاستقلال عن محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - .
وقوله : “ وأوتينا ما لم تؤتوه “ يعني أنا متعبدون بما جاء به محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - مما لم يكن لنبي قبله به علم ، إذ شرعه حاو لجميع من قبله ، وزاده الله عليهم بخصائص لم تكن لأحد قبله ، كما وردت الأحاديث بذلك كقوله - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - : “ أعطيت خمسا - وفي رواية ستا - لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لنبي قبلي ، وبعثت إلى الناس كافة وكان النبي يبعث إلى قومة ، وأعطيت الشفاعة - وفي رواية : وأوتيت جوامع الكلم ، وفي رواية : وختم بي النبيون ، وفي رواية : فأنا أول من تنشق عنه الأرض “ .
وعن العرباض بن سارية قال سمعت النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - يقول : “ أنا عبد الله وخاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته ، ودعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى بن مريم “ ، يعني : وأنا دعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى عليه وعليهم الصلاة والسلام .
وحكى أبو محمد المكي وأبو الليث السمرقندي : “ أن آدم عند معصيته قال :
اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي “ ، وفي رواية : “ لما دعى به آدم فقال له الله : من أين عرفت محمدا - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ؟ ، فقال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك ، فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله ، محمد رسول الله - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك ، فأوحى الله إليه أنه : وعزتي وجلالي لآخر النبيين من ذريتك ، ولو لاه ما خلقتك “
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : “ قال رسول الله - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - - : إن الله قسم الخلق قسمين : فجعلني من خيرهم قسما ، فذلك قوله :وَأَصْحابُ الْيَمِينِوَأَصْحابُ الشِّمالِ” 1 “ فأنا من اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين .
"" إشارة إلى الآيات 27 إلى 46 من سورة الواقعة ( ) :وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ( 27 ) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ( 28 ) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ( 29 ) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ( 30 ) وَماءٍ مَسْكُوبٍ ( 31 ) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ ( 32 ) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ( 33 ) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ( 34 ) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ( 35 ) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً ( 36 ) عُرُباً أَتْراباً ( 37 ) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ( 38 ) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ( 39 ) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ( 40 ) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ( 41 ) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ( 42 ) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ( 43 ) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ ( 44 ) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ( 45 ) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. ""
ثم جعل القسمين ثلاثا : فجعلني في خيرها ثلاثا ، فذلك قوله :فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ( 8 ) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ( 9 ) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. سورة الواقعة ( 56 ) : الآيات 8 إلى 10 . فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين .
ثم جعل الأ ثلاث قبائل ، فجعلني من خيرها قبيلة ، فذلك قوله تعالى :وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا” 3 “ الآية ، فأنا أتقى ولد آدم ، وأكرمهم على الله ولا فخر .
ثم جعل القبائل بيوتا : فجعلني من خيرها بيتا ، فذلك قوله تعالى :إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً” 4 “
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : “ قالوا : يا رسول الله ! متى وجبت لك النبوة ؟ ، قال : وآدم بين الروح والجسد “ .
وفي حديث أنس : “ أنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر “ .
وفي حديث ابن عباس : “ أنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر “ .
وعن عائشة - رضي الله عنها - عنه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أنه قال :
“ أتاني جبرائيل فقال : قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم “ .
وعن أنس - رضي الله عنه - : “ أن النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أتي بالبراق ليلة أسري به ، فاستصعب عليه ، فقال جبرائيل عليه السلام : أفبمحمد تفعل هذا ؟ ! فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، فارفض عرقا “ .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - قال :
“ ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة “ ، ورجاؤه محقق - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - - .
فعلم من جوامع كلمه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أنه الأول الآخر ، والظاهر الباطن ، ومن ثمّ قال الوارث الثاني : “ خضنا بحرا وقف الأنبياء على ساحله “ يريد بذلك أنه خاض بحر اللحوق المحمدي بالاتباع فيما جاء به محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - .
وهذا حال الورثة المحمديين ، بخلاف الأنبياء فإنهم من أول قدم وضعوه إنما وضعوه على ساحل البحر المحمدي ، والورثة لا يصلون إلى الساحل إلا بعد الخوضات . فافهم .
فمن ثمّ كان مقام قاب قوسين مقام الكمّل من الأنبياء وخاصته ، يعني أنهم ورثوا مقام قاب قوسين من محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - وخاصته ، أو [ الله ] الذي لم يشاركه فيه أحد سواه .
فيفاض على قوابل الأنبياء والمرسلين والورثة الكمل المحمديين من مقامأَوْ أَدْنىإلى مقامقابَ قَوْسَيْنِ.
""- إشارة إلى سورة النجم ( 53 ) : الآية 9 وكاملها :فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى.""
ومن ثمّ قال شرف الدين عمر بن الفارض - قدس سره - في تائيته :
ولي من مفيض الجمع عند سلامه * علي بأو أدنى إشارة نسبتي
وإلى حال جمعيته ، ونيابة من قبله من الأنبياء عنه - عليه وعليهم الصلاة والسلام - وإلى حال الورثة المحمديين الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام : “ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل “
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin