جعل لاسم الخلق محلّا مّن ذاته لا تتعدّاه لذاته ولا يتعدّاه
ثم قال رضي الله عنه : جعل لاسم الخلق محلّا مّن ذاته لا تتعدّاه لذاته ولا يتعدّاه ، ورسم لاسم الحقّ حكما من ذاته لا يفيدك سواه ، وحكم لألوهيّته جمعها فلم يك مرمى لّعزّة وّراء الله ، لألوهيّته الحيطة بأحديّته ، ولأحديّته السّلطنة على واحديّته في ترتيباته .
اعلم أن الحقّ - سبحانه - ليس له محل سوى علمه ، وبواسطة علمه علمته مخلوقاته ، ثم تفاوت على العالمين بحسب مراتبهم عنده - تعالى - ووسع قوابلهم وتزكيتها وتطهيرها من شوب الأكدار ولوث الأغيار .
فأفضل علم وأزكاها وأفخره وأنماه هو علم التوحيد المخصوص بالأمة المحمدية ، وقولي : المخصوص بالأمة المحمدية ، لأنهم وحّدوا الحق - سبحانه وتعالى - على الإطلاق ، ولم يقيّدوه بمظهر دون مظهر ، بخلاف غيرهم من الأمم ، لأنّ منهم :
من جعله ثالث ثلاثة .
ومنهم من جعل معه شريكا .
ومنهم من قال بالصاحبة والولد .
وعلى الحقيقة لم يقم بالتوحيد الصرف سوى الأمة المحمدية ، وقد جمع الله لهم ذلك التوحيد في آية من كتابه العزيز وهي قوله تعالى :"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " نزّه
"وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" شبّه ،
فلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تنزيه ،وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تشبيه . سورة الشورى: الآية 11
والتوحيد هو أن تشهد : تشبيه الحق عين تنزيهه وتنزيهه عين تشبيهه .
هذا على أن الكاف فيكَمِ ثْلِهِ زائدة ، وإذا كانت على بابها فيكون فلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تشبيه [ تشبيها ] ،وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تنزيه [ تنزيها ] ، لأنه يسمع لا بسمع ، ويبصر لا ببصر ، على أنه يسمع بسمع ، ويبصر ببصر ، لكن بصره عين سمعه ، وسمعه عين بصره ، لأنه بذاته يسمع ، وبذاته يبصر ، فيسمع بما به يبصر وهي ذاته ، ويبصر بما به يسمع وهو ذاته ، وذاته هي المنزهة فافهم .
ثم هم في ذلك التوحيد متفاوتون :
فمنهم : من وحده في أفعاله .
ومنهم : من وحده في أسمائه .
ومنهم : من وحده في ذاته وهو أعلى مقامات التوحيد ، وأهله هم المشار إليهم في الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام : “ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل “ ، وهم العلماء بالله تعالى .
وسنبين إن شاء الله تعالى بأن هذه المراتب الثلاثة في توحيد الأفعال ، والأسماء ، والصفات ، وأسماء الذات - ويعبر عنها تارة بعبارة التوحيد ، وتارة بعبارة الفناء ، ولا فرق بين التوحيد والفناء إلا من حيث اللفظ لا من حيث المعنى ، فإذا عبر عن مقامات التوحيد فهي عبارة عن مقامات الفناء ، وإذا عبر عن مقامات الفناء فهي عبارة عن مقامات التوحيد ، فالموحد لله في الأفعال هو الفاني عن الأفعال يعني عن شهود الأفعال لغير الله تعالى - عند قوله رضي الله عنه : مركز كنه الحقائق والتوحيد بيانا شافيا كما يشاء ،ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ”. سورة الحديد: الآية 21 ، وسورة الجمعة: الآية 4 .
ثم اعلم أن غاية علم العلماء بالله أن يعلموا أن الله واحد لا شريك له ، فرد لا ضد له ، إلى آخر ما تعرف به إلينا من أسمائه وصفاته الدالة عليه به ، فإذا لم يدركوا من المعلوم إلا العلم ، وعلمهم قائم بعلمه ، ولا يلزم من إدراك العلم إدراك المعلوم ، فلهذا قال المصنف - قدس سره - فجعل
( 1 ) أي الحق لاسم الخلق
( 2 ) أي للحقيقة المسماة بالخلقية محلا من ذاته
( 3 ) وهو علمه لتعلمه به ، فما علمته إذا إلا به ، فإذا كان علم العلماء بالله ما فهمت فما بالك بمن عداهم فمن باب أولى .
ورسم لاسم الحق حكما
وقوله : ورسم لاسم الحق حكما ، أي معنى من ذاته - تعالى - لا يفيدك سواه
أي سوى ذلك المعنى كما للخلق معرفة بواسطة علمه لا تتعداه ، أي الخلق كذلك أيضا جعل لاسم الحق - وهو الخلق المخلوق به المعبر عنه في الاصطلاح بالإنسان الكامل
الذي هو الحقيقة المحمدية البارزة من كنز غيب الأحدية - لا يفيدك في معرفة الله - تعالى - سواه أي سوى محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - في إتباعك إيّاه بما جاء به من جميع الكمالات .
ولله درّ من قال :فأنت باب الله أي امرئ * أتاه من غيرك لا يدخل
وحكم للألوهية جمعها فلم يك مرمى لعزة وراء الله
قوله : وحكم للألوهية جمعها فلم يك مرمى لعزة وراء الله ، أي وحكم للألوهية بالشمول لما اختصّ بالحق المخلوق به ، والألوهية هي المتجلى بها على الحقيقة المحمدية ، فمحمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هو الجامع لما اشتملته الألوهية ، وهي صفة الاسم الله ، وليس وراء الاسم الله مرمى لرام ، إذ ليس بعده إلا الظلمة المحضة ، وهو نور تلك الظلمة كما مرّ بيانه .
لألوهيته الحيطة بأحديته ، ولأحديته السلطنة
وقوله : لألوهيته الحيطة بأحديته ، ولأحديته السلطنة على واحديته في ترتيباته .
اعلم أن الألوهية كما مرّ معك من كونها أعم مراتب الذات ، واسما لمرتبة جميع المراتب ، والمعطية لكل مرتبة حقها ، فهي التي أعطت للأحدية حكمها ، وحكمها السلطنة على واحديتها ، لأن الأحدية ذات محض ، والواحدية منشأ الكثرة وحضرة الجمع والوجود من حيث الترتيب الإلهي ، فإن الأحدية أخص مراتب الذات للذات ، والألوهية أعم مراتب الذات للذات ، والأخص وجه في الأعم .
فمن ثم عبّر - قدس سره - بأن الألوهية التي هي أعم مراتب الذات للذات لها الحيطة - يعني الشمول - على الأحدية التي هي أخص مراتب الذات للذات .
ومن خصوصيات الأحدية سلطنتها على الواحدية ، فالواحدية من حيث أنها اسم لمرتبة الجمع - وهي الأسماء والصفات الظاهرة فيها بحكم الوحدة - والوجود - وهو الذات المندمجة فيها الأسماء والصفات - ، وهذا الوجود هو الأحدية ، وهذه الأحدية هي ذلك الوجود ، فكانت لها السلطنة على الواحدية من حيث ظهور الذات في الأسماء والصفات ، وذلك الظهور هو [ الواحدية ] المعبّر عنها بحضرة الجمع والوجود :وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ" وهو يهدي من يشاء ، كيف يشاء ، على أي حال شاء إلى ذلك الشهود .
تعرّف إلى كلّ موجود بحسب المرتبة الّتي أبرزه فيها من غيبه
ثم قال رضي الله عنه : تعرّف إلى كلّ موجود بحسب المرتبة الّتي أبرزه فيها من غيبه ، وما عرّفه إلّا نفسه في جماله ، ورتّبه في جميع مكنوناته .
اعلم أن التعرف الإلهي واقع لكل موجود ، لأن الوجود الذي للموجودات هو لله - سبحانه وتعالى - بطريق الأصالة وللمخلوق بطريق التبعية .
ومن ذلك الوجود الحقي المعبر عنه - من باب المجاز - بالوجود الخلقي عرف الحق سبحانه وتعالى .
ثم ذلك الوجود يكون له التعرف الإلهي حسب رتبة ذلك الموجود عند الله تعالى .
ولا أفضل من رتبة الإنسان بدليل :وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ”. سورة الإسراء: الآية 70 .
فمن ثمّ كان مرآة للحق - تعالى - ، وذاك لكمال خلقته ، لأنه خلقه على الصورة ، وكان تأخر آدم - عليه السلام - في آخر مراتب الوجود ، ليكمل له الشهود بأخذه ما له من جميع المراتب الوجودية المتقدمة عليه في الظاهر عناية من الله - تعالى - ليكون أكمل موجوداته ، فإنه المتقدم من حيث أصله المعبر عنه بالعقل الأول ، وبالقلم الأعلى ، وبالروح المحمدية ، وبحقيقة : “ روح نبيك يا جابر “ .
ولهذا عبّر بقوله : - قدس سره - من غيبه ، يعني تعرف الحق إلى كل موجود وجد لا يكون إلا بحسب المرتبة التي أبرزه أي ألحق فيها أي في المرتبة من غيبه ، وهو الكنز المخفي الذي ظهر من غيب الأحدية ، فغيب الأحدية هو الحقيقة المحمدية - صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم - التي هي حقيقة النشأة الآدمية .
فتأخر آدم - عليه الصلاة والسلام - في الوجود الظاهر لكون أصله هو المقدم الظاهر ، فحاز الأولية بأصله ، وشرف الآخرة بفرعه .
فمحمد أصل آدم من حيث الباطن ، وآدم أصل محمد من حيث الظاهر ، فآدم فرع محمد ، ومحمد فرع آدم ، وذلك الأصل هو عين الفرع ، وهذا الفرع هو عين الأصل ، ولم يكن ذلك لغيره - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، وذلك لتعلم أنه هو الظاهر والباطن ، كما صرح بذلك في الحديث بقوله : “ نحن الآخرون الأولون “ .
فهو في كل ذرة من ذرات الوجود ، وهو الجمال المشهود البارز في تلك المراتب بحكمة الملك المعبود .
ومن ثمّ :وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها” . سورة البقرة: الآية 31
لوسع قابليته المعبر عنها بحقيقة محمديته .
ومحمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - حق من حيث باطنه ، عبد من حيث ظاهره .
والحق في جميع مخلوقاته من غير حلول باطن من حيث ظهور الخلق ، ظاهر من حيث بطون الخلق .
وما عرفه إلا نفسه
فلذا قال - قدس سره - : وما عرفه إلا نفسه ، لأن قيام الموجودات بموجدها - وهو الله تعالى - تعرف كل مخلوق خالقه بذلك الوجه الإلهي الذي قام به ناسوت الخلقية ، فإذا ما عرف الله إلا الله .
ورتب الحق في قوله : فرتبه من الترتيب ، وهو جعل الشيء مرتبا شيئا فشيئا - ذلك الجمال الإلهي في جميع مكنوناته - بنون بعد الكاف - .
والمراد بالجمال الرحمة ، فإن الحق - سبحانه وتعالى - إنما أوجد الخلق بالرحمة ، والرحمة في ذوات المرحومين رحمة غير مشهودة ، وهي اللطف الخفي الذي خفي إدراكه عن غير الله تعالى .
وترتيب الحق إياه بحسب ظهوره في المراتب المعبر عنها بمراتب الوجود .
وتلك المراتب : منها ما يعبر عنه بالتنزلات الإلهية الحقية .
ومنها ما يعبر عنه بالتنزلات الإلهية الخلقية .
فأول التنزلات الإلهية الحقية التجلي الأول المعبر عنه بالأحدية .
والأحدية هي الذات الساذج ، لكن الأحدية بمقتضى التعالي .
وتلك صرافة الذات لا تقتضي تعال ولا تدان .
تعالى الله أن يتعالى عن تدان ، أو يتدانى عن تعال فافهم .
وآخر التنزلات الإلهية الحقية الأسماء الفعلية ، وما بعدها إلا عالم الإمكان ، وهو برزخ بين التنزلات الإلهية الحقية والتنزلات الإلهية الخلقية .
فأول التنزلات الإلهية الخلقية العقل الأول ، وآخرها الإنسان ، فبه افتتح الحق الوجود ، وبه اختتمه ، وسيأتي تفصيل المراتب - إن شاء الله تعالى - عند ذكرها .
فرتبه في جميع مكوّناته
وإن أريد بقوله : فرتبه في جميع مكوّناته بإسقاط النون بعد الكاف ، جمع كائنة وهي مخلوقاته - فالمعنى أيضا صالح من حيث أنا عبرنا بأن الجمال الحقي المرتب هو رحمته ، والرحمة لا تكون إلا على مرحوم عليه وهو المخلوق فافهم ، والله ورسوله بحقيقة الأمر أعلم .
أحمده حمده لنفسه من خلف سرادق غيبه الأنهى
ثم قال قدس سره : أحمده حمده لنفسه من خلف سرادق غيبه الأنهى ، وأثني عليه بلسان جماله الأكمل الأبهى ، فهو كما أثنى على نفسه لديه ، إذ كنت لا أحصي ثناء عليه .
اعلم أن حمد الله - سبحانه وتعالى - نفسه هو الحمد اللائق به - تعالى - ،
فلذلك قال - قدس سره - : أحمده حمده لنفسه ، أعني أطلب الحمد من الله أن يقوم بحمده المطلوب مني له عنه ، وفي هذا إشارة إلى أن الحق يكون خليفة عن عبده فيما أنعم به عليه .
ومن جملة إنعاماته عليه تأهيله له ترجمة هذا الكتاب المبيّن فيه أسرار افتتاح الوجود وهي بسم اللّه الرّحمن الرّحيم .
وخلافة الحق - تعالى - عن عبده واقعة بدليل :"وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى" سورة الأنفال ( 8 ) : الآية 17 ..
هذا في حق نبيه - عليه السلام - ، ولخلفاء الرسول ما للرسول .
لكن خلافة الحق عن الرسول بطريق الأصالة في حق الرسول وبطريق التبعية في حق خلفائه .
والعبد أيضا يكون خليفة عن الله بدليل :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ يعني في حقائق أسمائي خَلِيفَةً" ،
وفسرت الأرض بحقائق الأسماء من باب الإشارة ، كما قال تعالى :إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
وهي حقائق الأسماء والصفات التي الموجودات مؤثرات آثارها .
وليست لحقائقها نهاية كما قال تعالى :قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً" ، لأنه القائل للشيء إذا أرادهكُنْ فَيَكُونُ” 4 “ ، وهو دائم متكلم أزلا وأبدا .
ومن ثمّ قال من قال : “ أن العالم كله في تجل لأنه أثر أسمائه وصفاته “ ، وأسماؤه وصفاته في تجلّ ، فالتجلي في حق العالم الزيادة والتجلي في أسمائه وصفاته إن أريد به شدة الظهور ساغ له ذلك وإلا فلا ، تعالى اللّه عن الزيادة والنقصان فافهم .
ثم نقول في قوله : أحمده حمده لنفسه ،أي أحمده حمدا كاملا شاملا لجميع حمد الحامدات ، المسبحة بحمده بجميع ألسنتها المتعددة - وهي التي لا تفقهها على التفصيل - لعدم جواز ذلك للمخلوق ، وغير معدوم جوازه لله رب العالمين - وهو حقيقة ذاتك الذي قام به ناسوتيّتك .
ويكون ذلك الحمد اللائق به - تعالى - من خلف سرادق غيبه الأنهى ( 1 ) أي من خلف حجب الأكوان ، وهي المشار إليها في الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام : “ إن لله سبعين ألف حجاب من نور - وفي رواية من نار ، وفي رواية حجابة النور - لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه “ .
فقوله : “ إن لله سبعين ألف حجاب من نور “ ليس المراد به الحصر ، بل مرتبة السبعة والسبعين في لغة العرب توضع لتضعيف الأعداد ، والحجب النورانية هنا كناية عن الأسماء والصفات ، والنارية كناية عن المخلوقات ، فاحتجب عن الحقائق الخلقية بالحقائق الإلهية .
ولهذا معنى آخر أعلى من الأول ، وهو أنك قد علمت مما مضى بأن الذات الواجب الوجود ليس لها بأيدينا اسم ولا صفة ، لأن الصفة للتخصيص ، والاسم للعلمية عن النكرة ، وهي ليس واقع عليها لا تخصيص ولا علمية ، لأن التخصيص فيها ، فهو غير مخصص لها ، إذا التخصيص مرتبة من المراتب ، وإن شئت قلت حضرة من الحضرات ، وهي شاملة لكل مرتبة وحضرة ، لأنها - كما مر - حضرة الحضرات وجمعها وفرقها ، فإذا احتجبت عن أسمائها بكنهها ، واحتجبت عن مخلوقاتها بما احتجبت عنها ، وهي الأسماء والصفات .
والسبحات كناية عن الأشعة ، والوجه كناية عن الذات ، [ و ] الحجاب والاحتجاب المنزه عنهما الواقعان في الحديث من النور والنار لمّا كانا في الغالب يمنعان من التعرف إليهما وإنما يرى منهما شعاعهما الصغير اسمهما لا عينهما ، فافهم سرّ ما أراد من قوله : خلف سرادق غيبه الأنهى جمع سرادقة وهي الحجاب .
يعني يكون حمدي لله - تعالى - من حيث حمده نفسه ، يعني يكون حمدي لله حمده الذي حمد به نفسه - الذي لم يشهد ذلك الحمد لسواه - فهو الحامد من حيثي ، والمحمود من حيثه .
أثنى عليه بلسان جماله الأكمل الأبهى
وقوله : أثنى عليه بلسان جماله الأكمل الأبهى .
أي وأثني عليه بما أثنى به على نفسه ، وثناؤه - سبحانه وتعالى - على نفسه أي على ذاته - ذات العظمة والكبرياء - هو علمه استحقاقها العظمة والكبرياء وعدم نهايتها في سرادق عزتها ، فطلب من الله - تعالى - ثناء الله على ذاته الجميلة بجماله ، أي يكون في حال الثناء عني بصفة جمالك الذي هو عين جلالك ، الجامع لهما كمالك ، متأسيا بأفضل الكائنات وسيد الموجودات ، حيث عبّر عن نفسه في هذا المقام بقوله عليه الصلاة والسلام : “ لا أحصي ثناء - أي من قبلي - عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك “ أي عنّي ، فما أعرفه - رضي الله عنه - بربه .
وأستمد من الجناب الأعظم غيب غيب الجمع الأبهم
ثم قال قدس سره : وأستمد من الجناب الأعظم غيب غيب الجمع الأبهم ، نقطة عين الحرف المعجم .
أي والمهمل ، فاكتفى بذكر مقابله كما في :"سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" سورة النحل: الآية 81 . أي والبرد .
والمراد : أطلب الفيض الإلهي بالوساطة المحمدية كما قال تعالى ":وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" سورة البقرة: الآية 189.وهو باب الله ، فأي امرئ أتاه من غيره لا يدخل .
"" البيت : فأنت باب الله أي امرء ..... أتاه من غيرك لا يدخل"
ومن ثمّ وصف جنابه بالأعظمية المبهمة في غيب الغيب ، وغيب الغيب هو الذي لا يدرك رؤياه لا دنيا ولا أخرى .
ومن ثمّ كان - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - مبهما ، يعني أن قدر الرسول - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - الظاهر في الوجود ، ونشره الفائح في الآفاق عطره ، والذي
عبق الأكوان سرّه وجهره ، بالنسبة إلى ما هو مبهم على الخلق أمره أضعاف أضعاف ما ظهر به وشاع في العالم ذكره .
وذلك لكون الكمال البطوني أكمل من الكمال الظهوري ، فبقدر كمال البطون أعطي كمالا بطونيا ، وبقدر كمال الظهور أعطي كمالا ظهوريا ، فلبارقة هذا الكلام عبّر بقوله عليه الصلاة والسلام : “ إني لست كأحدكم “ الحديث.
نقطة عين الحرف المعجم
وقوله : نقطة عين الحرف المعجم فأنت باب الله أي امرء، فخص المعجم دون المهمل مع أنه عين كل منهما لنكتة ، وهي أن المهمل إذا برز من يد الكاتب لا يبرز إلا كاملا ، لعدم احتياجه إلى علامة ، لأن إهماله علامة ، فعدم العلامة بين أهل العلامة علامة ، والمعجم إذا برز من يد الكاتب يبرز ناقصا ، ولا يكمل إلا بنفخ روحه فيه ، وهي علامته المعبر عنها بالنقطة .
وفي كون الحروف منقسمة بين كامل وناقص إشارة ، وتلك الإشارة هي :
أن الوجود منقسم قسمين :
وجود حقي كمالي .
ووجود خلقي نقصي .
وهو - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - حقيقة الحق والخلق .
والخلق هي الحروف العاليات في قول الإمام الأكبر لمّا قال :
كنا حروفا عاليات لم نقل ..... متنقلات في ذرى أعلى القلل
"" الأشعار منسوبة إلى الشيخ الأكبر ابن العربي ولها شروح وباقيها :
أنا أنت فيه ونحن أنت وأنت هو ...... والكل في هو هو فسل عمن وصل .المحقق"".
والحروف العاليات هي الأعيان ، والأعيان هي ذوات الأناسي ، وذوات الأناسي هي حقائقهم ، وحقائقهم فرع حقيقة الرسول ، فمن حيث الأعيان المعلومة للعلم [ للعالم ] كان للخلق مرتبة الكمال بحقها لا بها ، ومن حيث مراتبهم جعل لهم النقص بأنفسهم لا بربهم ، وهو - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - جامع لما انفرد به الحق ولما انفرد به الخلق ، فهو برزخ البرازخ .
فلذا قال - قدس سره - : وأستمد من غيب غيب الجمع ، أي اطلب ميراثا محمديا من حيث باطنه - عليه الصلاة والسلام - ، لأن العلم الذي أنا بصدد إبرازه في هذا الكتاب هو من العلوم الباطنة ، فيكون استمدادها باطنا في ظهر شهادة ، لأنه لا يبرز من ذلك الغيب شيء إلا كان شهاديا ، لكنه بالنسبة إلى غيره باق في بطونه ، وسيأتي ذكر النقطة في بابها إن شاء الله تعالى ، والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
محمد صلى الله عليه وسلم سيد العرب والعجم
ثم قال رضي الله عنه : محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - سيد العرب - أي المعروفة من صفاته - والعجم .
يعني أستمد من الجناب الأعظم ، غيب غيب الجمع الأبهم ، نقطة عين الحرف المعجم ، - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - سيد العرب ، وهم الذين أعربوا عن حقائق التوحيد ، أي أبانوا معالم الهدى عن مسالك الردى ، وهؤلاء هم المسحوقون الممحوقون ، فبالسحق حصل لهم الفناء ، وبالمحق حصل لهم الفناء عن الفناء ، فالفناء عن العبد بربه ، وفناء الفناء عن ربه ، ليشهد سرّ ربه ،
وذلك هو سرّ الربوبية المعبّر عنه بقول سهل بن عبد الله - قدس سره - : “ إن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت الربوبية “ .
ومعنى هذا الكلام : أنك إذا قلت رب فالرب يقتضي مربوبا ، والمربوب عرف ربه معرفة مجازية ، لأن الرب باطنه ، ولم يشهد ما في باطنه بل هو مع ما ظهر منه ، فاحتجب ربه عنه به ،
واحتجب هو عن ربه بمربوبيته القائمة بربها ،
فإذا حصل له الفناء ثم الفناء عن الفناء بقي بربه ، فصار حقا بعد أن كان خلقا ، يعني صار مشهده حقيا بعد أن كان مشهده خلقيا ، لا أن الرب صار عبدا والعبد صار ربا ، حاشا وكلا .
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ الأكبر - قدس سره - في بعض أبياته حيث يقول :
الرب حق والعبد حق ..... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت ..... أو قلت رب أنى يكلف .
قوله : “ الرب حق “ أي لا شك في حقية الرب ، “ والعبد حق “ لرب هو حق ، فتمنى منك أن تشعره أي تخبره “ من المكلف “ منهما ؟
فقل له : المكلف منهما هو العبد الذي هو حق لرب هو حق .
ثم أراد أن يختبرك فشبه عليك بقوله : “ إن قلت عبد فذاك - العبد - ميت “ فكيف يكلّف بعبادة الرب ؟ ، “
أو قلت رب “ فحاشا الرب أن يكلف ؟ ،
فقل له : قيام العبد بربه هو عبادته ، لأن العبادة هنا بمعنى المعرفة على حدوَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"
يعني ليعرفون ، وموت العبد هنا بمعنى جهله ، والجاهل في حيز الأموات كما قال تعالى :أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ- بالعلم -وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً- وهو العقل -يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ” .
يعني يعقل به العلميات التي خلقت لأجله .
فحصل من كلامه أن مراده - والله اعلم بمراده - أن المكلف بمعرفة الرب عبد ، وذلك العبد جاهل عن معرفة الرب بنفسه ، لا أنه جاهل بمعرفة الرب يعني بتعريف الرب له - وهو العلم الذي أوجده الرب للعبد بأن يعرفه به - فأحياه من موت جهله بحياة علمه ، فكلفه بعبادته فقبل التكليف ، فإذن المكلف عبد لا رب .
وإلى مقامات الفناء الثلاثة أشار القائل بقوله :يا ربة العود خذي في الغناء * وحركي من صوته ما ونا
فإن مسود قميص الدجى .... لوّنه الصبح بما لوّنا
قد تاب أقوام كثير وما .... تاب من التوبة إلا أنا
وهو كقول الآخر :
تاب من الذنب أناس وما .... تاب من التوبة إلا أنا
وآية من هذا مقامه من كتاب الله عز وجل قوله تعالى :وَتُوبُوا اى جميعا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
ومن جملة المؤمنين التائبون ، وقد أمرهم بأن يتوبوا ، فتوبتهم إذا عن التوبة ، وهي الفناء عن الفناء ، فلما فنوا عن الفناء ، وبقوا بربهم بعد الفناء لديه ، ردّوا إلى الخلق ليهدوهم إليه ، فبهم رد الشوارد ، وتقريب الأباعد ، المقتدى بهم في هذا الطريق ، والمعول عليهم في علم هذا الفريق ، المكنى عنه بعلم التحقيق .
وأما العجم فهم الذين أعجموا عن إبانة المعالم للسالك ، وبقي كل منهم في سحقه ومحقه هالك :
فمنهم من حيرّهم الجمال .
ومنهم من ألجمه الجلال .
ومنهم من غرقت سفينته في بحر الكمال .
فهم الذين لم يؤذن لهم فيما أذن لإخوانهم ، ولم يرجعوا إلى ترجمانهم ، فهم الغائبون عن أنفسهم ، والمباينون لأبناء جنسهم ، قد ستروا بخمار الأحدية عن الحقائق الخلقية .
فخصّ - رضي الله عنه - سيادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - عليهم دون غيرهم ، لأفضليتهم على من سواهم ، وتقدمهم على من عداهم ، فالبقية إليهم يستندون ، ومن مددهم يستمدون ، فسيادته عليهم إذا من باب أولى ، وهو أجدر بذاك وأحرى ، سنذكر في الكل - إن شاء الله - حيث ينتهوا إلى الفناء وفناء الفناء - المعبر عنهما بالسحق والمحق - وبقائهم بحقهم بعد فنا خلقهم ، ونذكر تنزلهم بعد عروجهم من غيب الأحدية إلى آخر التنزلات عند قوله - رضي الله عنه - : فأشهدني الحق سبحانه وتعالى اتصاف نبيه محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بالسبعة الأوصاف النفسية حسب الاستطاعة ، فإن هذا البحر لا ساحل له ،
والله أسأله الإعانة ، وإليه لا منه الإستكانة ، وهو حسبي ونعم الرب ربي .
ثم قال رضي الله عنه : جعل لاسم الخلق محلّا مّن ذاته لا تتعدّاه لذاته ولا يتعدّاه ، ورسم لاسم الحقّ حكما من ذاته لا يفيدك سواه ، وحكم لألوهيّته جمعها فلم يك مرمى لّعزّة وّراء الله ، لألوهيّته الحيطة بأحديّته ، ولأحديّته السّلطنة على واحديّته في ترتيباته .
اعلم أن الحقّ - سبحانه - ليس له محل سوى علمه ، وبواسطة علمه علمته مخلوقاته ، ثم تفاوت على العالمين بحسب مراتبهم عنده - تعالى - ووسع قوابلهم وتزكيتها وتطهيرها من شوب الأكدار ولوث الأغيار .
فأفضل علم وأزكاها وأفخره وأنماه هو علم التوحيد المخصوص بالأمة المحمدية ، وقولي : المخصوص بالأمة المحمدية ، لأنهم وحّدوا الحق - سبحانه وتعالى - على الإطلاق ، ولم يقيّدوه بمظهر دون مظهر ، بخلاف غيرهم من الأمم ، لأنّ منهم :
من جعله ثالث ثلاثة .
ومنهم من جعل معه شريكا .
ومنهم من قال بالصاحبة والولد .
وعلى الحقيقة لم يقم بالتوحيد الصرف سوى الأمة المحمدية ، وقد جمع الله لهم ذلك التوحيد في آية من كتابه العزيز وهي قوله تعالى :"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " نزّه
"وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" شبّه ،
فلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تنزيه ،وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تشبيه . سورة الشورى: الآية 11
والتوحيد هو أن تشهد : تشبيه الحق عين تنزيهه وتنزيهه عين تشبيهه .
هذا على أن الكاف فيكَمِ ثْلِهِ زائدة ، وإذا كانت على بابها فيكون فلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تشبيه [ تشبيها ] ،وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تنزيه [ تنزيها ] ، لأنه يسمع لا بسمع ، ويبصر لا ببصر ، على أنه يسمع بسمع ، ويبصر ببصر ، لكن بصره عين سمعه ، وسمعه عين بصره ، لأنه بذاته يسمع ، وبذاته يبصر ، فيسمع بما به يبصر وهي ذاته ، ويبصر بما به يسمع وهو ذاته ، وذاته هي المنزهة فافهم .
ثم هم في ذلك التوحيد متفاوتون :
فمنهم : من وحده في أفعاله .
ومنهم : من وحده في أسمائه .
ومنهم : من وحده في ذاته وهو أعلى مقامات التوحيد ، وأهله هم المشار إليهم في الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام : “ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل “ ، وهم العلماء بالله تعالى .
وسنبين إن شاء الله تعالى بأن هذه المراتب الثلاثة في توحيد الأفعال ، والأسماء ، والصفات ، وأسماء الذات - ويعبر عنها تارة بعبارة التوحيد ، وتارة بعبارة الفناء ، ولا فرق بين التوحيد والفناء إلا من حيث اللفظ لا من حيث المعنى ، فإذا عبر عن مقامات التوحيد فهي عبارة عن مقامات الفناء ، وإذا عبر عن مقامات الفناء فهي عبارة عن مقامات التوحيد ، فالموحد لله في الأفعال هو الفاني عن الأفعال يعني عن شهود الأفعال لغير الله تعالى - عند قوله رضي الله عنه : مركز كنه الحقائق والتوحيد بيانا شافيا كما يشاء ،ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ”. سورة الحديد: الآية 21 ، وسورة الجمعة: الآية 4 .
ثم اعلم أن غاية علم العلماء بالله أن يعلموا أن الله واحد لا شريك له ، فرد لا ضد له ، إلى آخر ما تعرف به إلينا من أسمائه وصفاته الدالة عليه به ، فإذا لم يدركوا من المعلوم إلا العلم ، وعلمهم قائم بعلمه ، ولا يلزم من إدراك العلم إدراك المعلوم ، فلهذا قال المصنف - قدس سره - فجعل
( 1 ) أي الحق لاسم الخلق
( 2 ) أي للحقيقة المسماة بالخلقية محلا من ذاته
( 3 ) وهو علمه لتعلمه به ، فما علمته إذا إلا به ، فإذا كان علم العلماء بالله ما فهمت فما بالك بمن عداهم فمن باب أولى .
ورسم لاسم الحق حكما
وقوله : ورسم لاسم الحق حكما ، أي معنى من ذاته - تعالى - لا يفيدك سواه
أي سوى ذلك المعنى كما للخلق معرفة بواسطة علمه لا تتعداه ، أي الخلق كذلك أيضا جعل لاسم الحق - وهو الخلق المخلوق به المعبر عنه في الاصطلاح بالإنسان الكامل
الذي هو الحقيقة المحمدية البارزة من كنز غيب الأحدية - لا يفيدك في معرفة الله - تعالى - سواه أي سوى محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - في إتباعك إيّاه بما جاء به من جميع الكمالات .
ولله درّ من قال :فأنت باب الله أي امرئ * أتاه من غيرك لا يدخل
وحكم للألوهية جمعها فلم يك مرمى لعزة وراء الله
قوله : وحكم للألوهية جمعها فلم يك مرمى لعزة وراء الله ، أي وحكم للألوهية بالشمول لما اختصّ بالحق المخلوق به ، والألوهية هي المتجلى بها على الحقيقة المحمدية ، فمحمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هو الجامع لما اشتملته الألوهية ، وهي صفة الاسم الله ، وليس وراء الاسم الله مرمى لرام ، إذ ليس بعده إلا الظلمة المحضة ، وهو نور تلك الظلمة كما مرّ بيانه .
لألوهيته الحيطة بأحديته ، ولأحديته السلطنة
وقوله : لألوهيته الحيطة بأحديته ، ولأحديته السلطنة على واحديته في ترتيباته .
اعلم أن الألوهية كما مرّ معك من كونها أعم مراتب الذات ، واسما لمرتبة جميع المراتب ، والمعطية لكل مرتبة حقها ، فهي التي أعطت للأحدية حكمها ، وحكمها السلطنة على واحديتها ، لأن الأحدية ذات محض ، والواحدية منشأ الكثرة وحضرة الجمع والوجود من حيث الترتيب الإلهي ، فإن الأحدية أخص مراتب الذات للذات ، والألوهية أعم مراتب الذات للذات ، والأخص وجه في الأعم .
فمن ثم عبّر - قدس سره - بأن الألوهية التي هي أعم مراتب الذات للذات لها الحيطة - يعني الشمول - على الأحدية التي هي أخص مراتب الذات للذات .
ومن خصوصيات الأحدية سلطنتها على الواحدية ، فالواحدية من حيث أنها اسم لمرتبة الجمع - وهي الأسماء والصفات الظاهرة فيها بحكم الوحدة - والوجود - وهو الذات المندمجة فيها الأسماء والصفات - ، وهذا الوجود هو الأحدية ، وهذه الأحدية هي ذلك الوجود ، فكانت لها السلطنة على الواحدية من حيث ظهور الذات في الأسماء والصفات ، وذلك الظهور هو [ الواحدية ] المعبّر عنها بحضرة الجمع والوجود :وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ" وهو يهدي من يشاء ، كيف يشاء ، على أي حال شاء إلى ذلك الشهود .
تعرّف إلى كلّ موجود بحسب المرتبة الّتي أبرزه فيها من غيبه
ثم قال رضي الله عنه : تعرّف إلى كلّ موجود بحسب المرتبة الّتي أبرزه فيها من غيبه ، وما عرّفه إلّا نفسه في جماله ، ورتّبه في جميع مكنوناته .
اعلم أن التعرف الإلهي واقع لكل موجود ، لأن الوجود الذي للموجودات هو لله - سبحانه وتعالى - بطريق الأصالة وللمخلوق بطريق التبعية .
ومن ذلك الوجود الحقي المعبر عنه - من باب المجاز - بالوجود الخلقي عرف الحق سبحانه وتعالى .
ثم ذلك الوجود يكون له التعرف الإلهي حسب رتبة ذلك الموجود عند الله تعالى .
ولا أفضل من رتبة الإنسان بدليل :وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ”. سورة الإسراء: الآية 70 .
فمن ثمّ كان مرآة للحق - تعالى - ، وذاك لكمال خلقته ، لأنه خلقه على الصورة ، وكان تأخر آدم - عليه السلام - في آخر مراتب الوجود ، ليكمل له الشهود بأخذه ما له من جميع المراتب الوجودية المتقدمة عليه في الظاهر عناية من الله - تعالى - ليكون أكمل موجوداته ، فإنه المتقدم من حيث أصله المعبر عنه بالعقل الأول ، وبالقلم الأعلى ، وبالروح المحمدية ، وبحقيقة : “ روح نبيك يا جابر “ .
ولهذا عبّر بقوله : - قدس سره - من غيبه ، يعني تعرف الحق إلى كل موجود وجد لا يكون إلا بحسب المرتبة التي أبرزه أي ألحق فيها أي في المرتبة من غيبه ، وهو الكنز المخفي الذي ظهر من غيب الأحدية ، فغيب الأحدية هو الحقيقة المحمدية - صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم - التي هي حقيقة النشأة الآدمية .
فتأخر آدم - عليه الصلاة والسلام - في الوجود الظاهر لكون أصله هو المقدم الظاهر ، فحاز الأولية بأصله ، وشرف الآخرة بفرعه .
فمحمد أصل آدم من حيث الباطن ، وآدم أصل محمد من حيث الظاهر ، فآدم فرع محمد ، ومحمد فرع آدم ، وذلك الأصل هو عين الفرع ، وهذا الفرع هو عين الأصل ، ولم يكن ذلك لغيره - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، وذلك لتعلم أنه هو الظاهر والباطن ، كما صرح بذلك في الحديث بقوله : “ نحن الآخرون الأولون “ .
فهو في كل ذرة من ذرات الوجود ، وهو الجمال المشهود البارز في تلك المراتب بحكمة الملك المعبود .
ومن ثمّ :وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها” . سورة البقرة: الآية 31
لوسع قابليته المعبر عنها بحقيقة محمديته .
ومحمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - حق من حيث باطنه ، عبد من حيث ظاهره .
والحق في جميع مخلوقاته من غير حلول باطن من حيث ظهور الخلق ، ظاهر من حيث بطون الخلق .
وما عرفه إلا نفسه
فلذا قال - قدس سره - : وما عرفه إلا نفسه ، لأن قيام الموجودات بموجدها - وهو الله تعالى - تعرف كل مخلوق خالقه بذلك الوجه الإلهي الذي قام به ناسوت الخلقية ، فإذا ما عرف الله إلا الله .
ورتب الحق في قوله : فرتبه من الترتيب ، وهو جعل الشيء مرتبا شيئا فشيئا - ذلك الجمال الإلهي في جميع مكنوناته - بنون بعد الكاف - .
والمراد بالجمال الرحمة ، فإن الحق - سبحانه وتعالى - إنما أوجد الخلق بالرحمة ، والرحمة في ذوات المرحومين رحمة غير مشهودة ، وهي اللطف الخفي الذي خفي إدراكه عن غير الله تعالى .
وترتيب الحق إياه بحسب ظهوره في المراتب المعبر عنها بمراتب الوجود .
وتلك المراتب : منها ما يعبر عنه بالتنزلات الإلهية الحقية .
ومنها ما يعبر عنه بالتنزلات الإلهية الخلقية .
فأول التنزلات الإلهية الحقية التجلي الأول المعبر عنه بالأحدية .
والأحدية هي الذات الساذج ، لكن الأحدية بمقتضى التعالي .
وتلك صرافة الذات لا تقتضي تعال ولا تدان .
تعالى الله أن يتعالى عن تدان ، أو يتدانى عن تعال فافهم .
وآخر التنزلات الإلهية الحقية الأسماء الفعلية ، وما بعدها إلا عالم الإمكان ، وهو برزخ بين التنزلات الإلهية الحقية والتنزلات الإلهية الخلقية .
فأول التنزلات الإلهية الخلقية العقل الأول ، وآخرها الإنسان ، فبه افتتح الحق الوجود ، وبه اختتمه ، وسيأتي تفصيل المراتب - إن شاء الله تعالى - عند ذكرها .
فرتبه في جميع مكوّناته
وإن أريد بقوله : فرتبه في جميع مكوّناته بإسقاط النون بعد الكاف ، جمع كائنة وهي مخلوقاته - فالمعنى أيضا صالح من حيث أنا عبرنا بأن الجمال الحقي المرتب هو رحمته ، والرحمة لا تكون إلا على مرحوم عليه وهو المخلوق فافهم ، والله ورسوله بحقيقة الأمر أعلم .
أحمده حمده لنفسه من خلف سرادق غيبه الأنهى
ثم قال قدس سره : أحمده حمده لنفسه من خلف سرادق غيبه الأنهى ، وأثني عليه بلسان جماله الأكمل الأبهى ، فهو كما أثنى على نفسه لديه ، إذ كنت لا أحصي ثناء عليه .
اعلم أن حمد الله - سبحانه وتعالى - نفسه هو الحمد اللائق به - تعالى - ،
فلذلك قال - قدس سره - : أحمده حمده لنفسه ، أعني أطلب الحمد من الله أن يقوم بحمده المطلوب مني له عنه ، وفي هذا إشارة إلى أن الحق يكون خليفة عن عبده فيما أنعم به عليه .
ومن جملة إنعاماته عليه تأهيله له ترجمة هذا الكتاب المبيّن فيه أسرار افتتاح الوجود وهي بسم اللّه الرّحمن الرّحيم .
وخلافة الحق - تعالى - عن عبده واقعة بدليل :"وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى" سورة الأنفال ( 8 ) : الآية 17 ..
هذا في حق نبيه - عليه السلام - ، ولخلفاء الرسول ما للرسول .
لكن خلافة الحق عن الرسول بطريق الأصالة في حق الرسول وبطريق التبعية في حق خلفائه .
والعبد أيضا يكون خليفة عن الله بدليل :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ يعني في حقائق أسمائي خَلِيفَةً" ،
وفسرت الأرض بحقائق الأسماء من باب الإشارة ، كما قال تعالى :إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
وهي حقائق الأسماء والصفات التي الموجودات مؤثرات آثارها .
وليست لحقائقها نهاية كما قال تعالى :قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً" ، لأنه القائل للشيء إذا أرادهكُنْ فَيَكُونُ” 4 “ ، وهو دائم متكلم أزلا وأبدا .
ومن ثمّ قال من قال : “ أن العالم كله في تجل لأنه أثر أسمائه وصفاته “ ، وأسماؤه وصفاته في تجلّ ، فالتجلي في حق العالم الزيادة والتجلي في أسمائه وصفاته إن أريد به شدة الظهور ساغ له ذلك وإلا فلا ، تعالى اللّه عن الزيادة والنقصان فافهم .
ثم نقول في قوله : أحمده حمده لنفسه ،أي أحمده حمدا كاملا شاملا لجميع حمد الحامدات ، المسبحة بحمده بجميع ألسنتها المتعددة - وهي التي لا تفقهها على التفصيل - لعدم جواز ذلك للمخلوق ، وغير معدوم جوازه لله رب العالمين - وهو حقيقة ذاتك الذي قام به ناسوتيّتك .
ويكون ذلك الحمد اللائق به - تعالى - من خلف سرادق غيبه الأنهى ( 1 ) أي من خلف حجب الأكوان ، وهي المشار إليها في الحديث بقوله عليه الصلاة والسلام : “ إن لله سبعين ألف حجاب من نور - وفي رواية من نار ، وفي رواية حجابة النور - لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه “ .
فقوله : “ إن لله سبعين ألف حجاب من نور “ ليس المراد به الحصر ، بل مرتبة السبعة والسبعين في لغة العرب توضع لتضعيف الأعداد ، والحجب النورانية هنا كناية عن الأسماء والصفات ، والنارية كناية عن المخلوقات ، فاحتجب عن الحقائق الخلقية بالحقائق الإلهية .
ولهذا معنى آخر أعلى من الأول ، وهو أنك قد علمت مما مضى بأن الذات الواجب الوجود ليس لها بأيدينا اسم ولا صفة ، لأن الصفة للتخصيص ، والاسم للعلمية عن النكرة ، وهي ليس واقع عليها لا تخصيص ولا علمية ، لأن التخصيص فيها ، فهو غير مخصص لها ، إذا التخصيص مرتبة من المراتب ، وإن شئت قلت حضرة من الحضرات ، وهي شاملة لكل مرتبة وحضرة ، لأنها - كما مر - حضرة الحضرات وجمعها وفرقها ، فإذا احتجبت عن أسمائها بكنهها ، واحتجبت عن مخلوقاتها بما احتجبت عنها ، وهي الأسماء والصفات .
والسبحات كناية عن الأشعة ، والوجه كناية عن الذات ، [ و ] الحجاب والاحتجاب المنزه عنهما الواقعان في الحديث من النور والنار لمّا كانا في الغالب يمنعان من التعرف إليهما وإنما يرى منهما شعاعهما الصغير اسمهما لا عينهما ، فافهم سرّ ما أراد من قوله : خلف سرادق غيبه الأنهى جمع سرادقة وهي الحجاب .
يعني يكون حمدي لله - تعالى - من حيث حمده نفسه ، يعني يكون حمدي لله حمده الذي حمد به نفسه - الذي لم يشهد ذلك الحمد لسواه - فهو الحامد من حيثي ، والمحمود من حيثه .
أثنى عليه بلسان جماله الأكمل الأبهى
وقوله : أثنى عليه بلسان جماله الأكمل الأبهى .
أي وأثني عليه بما أثنى به على نفسه ، وثناؤه - سبحانه وتعالى - على نفسه أي على ذاته - ذات العظمة والكبرياء - هو علمه استحقاقها العظمة والكبرياء وعدم نهايتها في سرادق عزتها ، فطلب من الله - تعالى - ثناء الله على ذاته الجميلة بجماله ، أي يكون في حال الثناء عني بصفة جمالك الذي هو عين جلالك ، الجامع لهما كمالك ، متأسيا بأفضل الكائنات وسيد الموجودات ، حيث عبّر عن نفسه في هذا المقام بقوله عليه الصلاة والسلام : “ لا أحصي ثناء - أي من قبلي - عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك “ أي عنّي ، فما أعرفه - رضي الله عنه - بربه .
وأستمد من الجناب الأعظم غيب غيب الجمع الأبهم
ثم قال قدس سره : وأستمد من الجناب الأعظم غيب غيب الجمع الأبهم ، نقطة عين الحرف المعجم .
أي والمهمل ، فاكتفى بذكر مقابله كما في :"سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" سورة النحل: الآية 81 . أي والبرد .
والمراد : أطلب الفيض الإلهي بالوساطة المحمدية كما قال تعالى ":وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" سورة البقرة: الآية 189.وهو باب الله ، فأي امرئ أتاه من غيره لا يدخل .
"" البيت : فأنت باب الله أي امرء ..... أتاه من غيرك لا يدخل"
ومن ثمّ وصف جنابه بالأعظمية المبهمة في غيب الغيب ، وغيب الغيب هو الذي لا يدرك رؤياه لا دنيا ولا أخرى .
ومن ثمّ كان - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - مبهما ، يعني أن قدر الرسول - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - الظاهر في الوجود ، ونشره الفائح في الآفاق عطره ، والذي
عبق الأكوان سرّه وجهره ، بالنسبة إلى ما هو مبهم على الخلق أمره أضعاف أضعاف ما ظهر به وشاع في العالم ذكره .
وذلك لكون الكمال البطوني أكمل من الكمال الظهوري ، فبقدر كمال البطون أعطي كمالا بطونيا ، وبقدر كمال الظهور أعطي كمالا ظهوريا ، فلبارقة هذا الكلام عبّر بقوله عليه الصلاة والسلام : “ إني لست كأحدكم “ الحديث.
نقطة عين الحرف المعجم
وقوله : نقطة عين الحرف المعجم فأنت باب الله أي امرء، فخص المعجم دون المهمل مع أنه عين كل منهما لنكتة ، وهي أن المهمل إذا برز من يد الكاتب لا يبرز إلا كاملا ، لعدم احتياجه إلى علامة ، لأن إهماله علامة ، فعدم العلامة بين أهل العلامة علامة ، والمعجم إذا برز من يد الكاتب يبرز ناقصا ، ولا يكمل إلا بنفخ روحه فيه ، وهي علامته المعبر عنها بالنقطة .
وفي كون الحروف منقسمة بين كامل وناقص إشارة ، وتلك الإشارة هي :
أن الوجود منقسم قسمين :
وجود حقي كمالي .
ووجود خلقي نقصي .
وهو - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - حقيقة الحق والخلق .
والخلق هي الحروف العاليات في قول الإمام الأكبر لمّا قال :
كنا حروفا عاليات لم نقل ..... متنقلات في ذرى أعلى القلل
"" الأشعار منسوبة إلى الشيخ الأكبر ابن العربي ولها شروح وباقيها :
أنا أنت فيه ونحن أنت وأنت هو ...... والكل في هو هو فسل عمن وصل .المحقق"".
والحروف العاليات هي الأعيان ، والأعيان هي ذوات الأناسي ، وذوات الأناسي هي حقائقهم ، وحقائقهم فرع حقيقة الرسول ، فمن حيث الأعيان المعلومة للعلم [ للعالم ] كان للخلق مرتبة الكمال بحقها لا بها ، ومن حيث مراتبهم جعل لهم النقص بأنفسهم لا بربهم ، وهو - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - جامع لما انفرد به الحق ولما انفرد به الخلق ، فهو برزخ البرازخ .
فلذا قال - قدس سره - : وأستمد من غيب غيب الجمع ، أي اطلب ميراثا محمديا من حيث باطنه - عليه الصلاة والسلام - ، لأن العلم الذي أنا بصدد إبرازه في هذا الكتاب هو من العلوم الباطنة ، فيكون استمدادها باطنا في ظهر شهادة ، لأنه لا يبرز من ذلك الغيب شيء إلا كان شهاديا ، لكنه بالنسبة إلى غيره باق في بطونه ، وسيأتي ذكر النقطة في بابها إن شاء الله تعالى ، والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
محمد صلى الله عليه وسلم سيد العرب والعجم
ثم قال رضي الله عنه : محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - سيد العرب - أي المعروفة من صفاته - والعجم .
يعني أستمد من الجناب الأعظم ، غيب غيب الجمع الأبهم ، نقطة عين الحرف المعجم ، - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - سيد العرب ، وهم الذين أعربوا عن حقائق التوحيد ، أي أبانوا معالم الهدى عن مسالك الردى ، وهؤلاء هم المسحوقون الممحوقون ، فبالسحق حصل لهم الفناء ، وبالمحق حصل لهم الفناء عن الفناء ، فالفناء عن العبد بربه ، وفناء الفناء عن ربه ، ليشهد سرّ ربه ،
وذلك هو سرّ الربوبية المعبّر عنه بقول سهل بن عبد الله - قدس سره - : “ إن للربوبية سرا لو ظهر لبطلت الربوبية “ .
ومعنى هذا الكلام : أنك إذا قلت رب فالرب يقتضي مربوبا ، والمربوب عرف ربه معرفة مجازية ، لأن الرب باطنه ، ولم يشهد ما في باطنه بل هو مع ما ظهر منه ، فاحتجب ربه عنه به ،
واحتجب هو عن ربه بمربوبيته القائمة بربها ،
فإذا حصل له الفناء ثم الفناء عن الفناء بقي بربه ، فصار حقا بعد أن كان خلقا ، يعني صار مشهده حقيا بعد أن كان مشهده خلقيا ، لا أن الرب صار عبدا والعبد صار ربا ، حاشا وكلا .
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ الأكبر - قدس سره - في بعض أبياته حيث يقول :
الرب حق والعبد حق ..... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت ..... أو قلت رب أنى يكلف .
قوله : “ الرب حق “ أي لا شك في حقية الرب ، “ والعبد حق “ لرب هو حق ، فتمنى منك أن تشعره أي تخبره “ من المكلف “ منهما ؟
فقل له : المكلف منهما هو العبد الذي هو حق لرب هو حق .
ثم أراد أن يختبرك فشبه عليك بقوله : “ إن قلت عبد فذاك - العبد - ميت “ فكيف يكلّف بعبادة الرب ؟ ، “
أو قلت رب “ فحاشا الرب أن يكلف ؟ ،
فقل له : قيام العبد بربه هو عبادته ، لأن العبادة هنا بمعنى المعرفة على حدوَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"
يعني ليعرفون ، وموت العبد هنا بمعنى جهله ، والجاهل في حيز الأموات كما قال تعالى :أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ- بالعلم -وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً- وهو العقل -يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ” .
يعني يعقل به العلميات التي خلقت لأجله .
فحصل من كلامه أن مراده - والله اعلم بمراده - أن المكلف بمعرفة الرب عبد ، وذلك العبد جاهل عن معرفة الرب بنفسه ، لا أنه جاهل بمعرفة الرب يعني بتعريف الرب له - وهو العلم الذي أوجده الرب للعبد بأن يعرفه به - فأحياه من موت جهله بحياة علمه ، فكلفه بعبادته فقبل التكليف ، فإذن المكلف عبد لا رب .
وإلى مقامات الفناء الثلاثة أشار القائل بقوله :يا ربة العود خذي في الغناء * وحركي من صوته ما ونا
فإن مسود قميص الدجى .... لوّنه الصبح بما لوّنا
قد تاب أقوام كثير وما .... تاب من التوبة إلا أنا
وهو كقول الآخر :
تاب من الذنب أناس وما .... تاب من التوبة إلا أنا
وآية من هذا مقامه من كتاب الله عز وجل قوله تعالى :وَتُوبُوا اى جميعا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".
ومن جملة المؤمنين التائبون ، وقد أمرهم بأن يتوبوا ، فتوبتهم إذا عن التوبة ، وهي الفناء عن الفناء ، فلما فنوا عن الفناء ، وبقوا بربهم بعد الفناء لديه ، ردّوا إلى الخلق ليهدوهم إليه ، فبهم رد الشوارد ، وتقريب الأباعد ، المقتدى بهم في هذا الطريق ، والمعول عليهم في علم هذا الفريق ، المكنى عنه بعلم التحقيق .
وأما العجم فهم الذين أعجموا عن إبانة المعالم للسالك ، وبقي كل منهم في سحقه ومحقه هالك :
فمنهم من حيرّهم الجمال .
ومنهم من ألجمه الجلال .
ومنهم من غرقت سفينته في بحر الكمال .
فهم الذين لم يؤذن لهم فيما أذن لإخوانهم ، ولم يرجعوا إلى ترجمانهم ، فهم الغائبون عن أنفسهم ، والمباينون لأبناء جنسهم ، قد ستروا بخمار الأحدية عن الحقائق الخلقية .
فخصّ - رضي الله عنه - سيادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - عليهم دون غيرهم ، لأفضليتهم على من سواهم ، وتقدمهم على من عداهم ، فالبقية إليهم يستندون ، ومن مددهم يستمدون ، فسيادته عليهم إذا من باب أولى ، وهو أجدر بذاك وأحرى ، سنذكر في الكل - إن شاء الله - حيث ينتهوا إلى الفناء وفناء الفناء - المعبر عنهما بالسحق والمحق - وبقائهم بحقهم بعد فنا خلقهم ، ونذكر تنزلهم بعد عروجهم من غيب الأحدية إلى آخر التنزلات عند قوله - رضي الله عنه - : فأشهدني الحق سبحانه وتعالى اتصاف نبيه محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بالسبعة الأوصاف النفسية حسب الاستطاعة ، فإن هذا البحر لا ساحل له ،
والله أسأله الإعانة ، وإليه لا منه الإستكانة ، وهو حسبي ونعم الرب ربي .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin