هو ذو الفهم الثاقب
وقوله رضي الله عنه : هو ذو الفهم الثاقب ، والذكاء الباهر الراجح الراسب ، والتجريد والتقرير ، والقدم الصدق في المطالب .
وصفه بأنه : ذو الفهم ،أي صاحب الفهم وهو من فهم معاني ما أريد من الله - أي من علم الله بالله - ، كما ورد : “ اللهم فهمنا عنك ، فإنا لا نفهم عنك إلا بك “ .
ومن الدليل على أن السائل ممن فهم عن الله حيث كان سؤاله عن علوم بسم الله ، وذلك لثقابة فهمه النافذ ، الواقع على كنوز العلوم الحقية ، وذكائه الباهر في علم الحقائق ، فتلك الثقابة أثمرت هذا الذكاء الذي بهر ، حتى صار من فيضه هذا النور المستفاض المنشور ،
فإن السائل [ السؤال ] كان مفتاحا لقلب المسؤول عن هذه العلوم العزيزة المرام ، التي لا تكاد تدرك لكثير من الأنام ، فلهذا كان ذلك السائل صاحب الفهم الثاقب ، والذكاء الباهر الراجح ،
أي : الزائد على غيره ، الراسب أي : الغائص ، وهو الذي غاص بذلك الفهم على جوهرة الحقائق في صدفة الخلائق ، فكان ببروزها إنارة الطرائق .
وكان ذا التفريد والتقرير ، والقدم الراسخ في المطالب .
كما قال عليه الصلاة والسلام “ سيروا سبق المفردون “ ، وهم الذين خصّوا بمقام الفردية - الذي هو من خصائص خير البرية - فمخاطبته - عليه الصلاة والسلام - لسائري طريق الحق : بسبق المفردون - أي منكم أيها السائرون إلى الله .
ولمّا كان السائل للمصنّف من هؤلاء المشار إليهم ، صرّح بنعته فقال : هو ذو التفريد والتقرير أي المقرر أحوال غيره ، والمقرر في نفسه ، لأن له القدم الراسخ - أي الذي لا يزول في المطالب يعني الحقية - .
لأن مطلوب هؤلاء الكمل ليس إلّا الحق ، لم تتعلق همتهم بسواه ، ولم يقصدوا إلا إياه ، لأن ما سواه عندهم عدم ، فما يشهد العدم إلا العدم ، ولا يشهد الحق إلا الحق ، فهم مجموعون في الحق بالحق ،
كما قال قائلهم :
مذ تجمعت ما خشيت افتراقا ...... ها أنا اليوم واصل مجموع
وهو كما قال الآخر :
لو وجدنا إلى الفراق سبيلا ...... لأذقنا الفراق طعم الفراق
لأن إرشاد الحق كتب على بياض قلوبهم بمداد محبوبهم .من أتانا ببياض لم تكن فيه كتابة * كتب الإرشاد منا فيه منهاج الإصابة فمذ عرفوا هواه لم يجنحوا إلى سواه ، فتمكن حبه من قلوبهم الخالية عن الوساوس الهاوية بجيش :قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً. .
فلمّا ورد جيش ملك الإيمان على حزب الشيطان ،"وَزَهَقَ الْباطِلُ" ولم يكن له وجود في الحاصل ، فهم المعصومون عن الردى بآية :"إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى".
"وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ"."وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى".
عماد الدين محيي الدين أبو القاسم التونسي المغربي
وقوله رضي الله عنه : عماد الدين محيي الدين أبو القاسم التونسي المغربي سبط الحسن بن علي ، بعد مدافعتي إياه وتأخري عن التقدم إلى ما يهواه ، ولمّا لم يسمح بالإقالة ، ولم يجنح إلا لما قاله ،
أي : في إلزامه إياي ، إذ لم يقبل مني ما طلب مني ، بعثني صدق رغبته إلى موافقته ، فاستخرت الله - عز وجل - ولجأت إليه ، أسأله - سبحانه - أن ينفع به عليه ، والسامعين وقارئيه ، وهو الأولى بالإجابة ، والأجدر لتوفيقي بالإصابة .
يعني ولما لح علي في إبراز ما أراد لتبليغ المراد ، بعثني ذلك الصدق في القصد إلى أن أبرزت من قعر هذا البحر عجائبه ، وأبديت غرائبه ، ولجأت إلى الله - سبحانه وتعالى - في النفع به لي ولسامعه ولقارئه ، والله أولى بالإجابة فيما سألته ، والأجدر - أي الأحق - لتوفيقي ، وهو خلق قدرة الطاعة على الطاعة فيما يوافق الحق مما فيه سعادتي ، بالإصابة التي هي الصفة المحمودة من ذلك التوفيق .
والملتمس من أهل الله ساداتنا الإخوان النّاظرين في هذا الكتاب - سلام الله عليهم ورضوانه أن يفصحوا في معنى كلّ كلمة من كلامي في هذا الكتاب حتّى يمنحهم تبيانه من وجوه عبارتها ،
أي عن وجوه كل كلمة من كلمات هذا الكتاب وإشارتها ، وتصريحها ، وتلويحها ، وكنايتها ، وتقديمها وتأخيرها مع المراعاة للقواعد الشّرعيّة .
يعني يكون ذلك الإفصاح في معنى كل كلمة على حكم الكتاب والسنة والأصول الدينية ، أي أطلب من أهل الله تعالى - وهم السادة الذين سادوا غيرهم بأنواع المبرة ، الوارثون مقام خير الأمة - أنهم إذا وقفوا على ما أمليته في هذا الكتاب ، ورأوا ما خالف معناهم أن لا ينكروا عليّ في الإملاء ، لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول :"وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" "وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا".
وفائدة التوقف وعدم الإنكار في أول وهلة أن لا يحرم الواقف على هذا الكتاب بركة هذا العلم ، ولا يكون قادحا في حق غيره بطريق الجهل ، لأنه ما أحاط بكل علم الله ،
فإذا رأيت أيها الواقف على هذا الكتاب أو غيره من كتب أهل الله مما عسر عليك فهمه ، فكل أمره إلى الله وسلم ، واعلم أن لله علما لا يصل إليه فهمك وقد أوصله إلى من أراد ، فيحصل لك بذلك التسليم الفائدة الجزيلة والعائدة الجميلة ، وفقني الله وإياك لذلك .
ويكون فهمك من هذا الكتاب - بل ومن غيره من كتب أهل الحقائق قدس [ ت ] أرواحهم - مع الموافقة الشرعية والأصول الدينية .
فإن كل حقيقة لا تصحبها شريعة فهي زندقة ، والمراد مما قلنا أنه ليس في علم الحقائق زندقة ، وإنما الزندقة فيمن فهم من علم الحقائق ما لا هو مراد لأهله الواضعين له ، لا أن الحقائق فيها زندقة حاشا وكلا .
ومن ثمّ قال الإمام الأكبر : “ كل حقيقة لا تؤيدها شريعة فهي زندقة “ ، يريد أن كل علم يرد عليك من الحقائق التي لا تؤيدها الشرائع فاستعمالك لذلك العلم زندقة منك ،
لأنك تفعل بخلاف الشرائع ، لا أن الحقائق فيها زندقة ، إذ ليس في الحقائق مسألة إلا وقد أيدها الكتاب والسنة فافهم .
فينبغي لك أيها الطالب لحصول الكمال أن تجعل لك أربعة أصول يكون مبنى أمرك عليها ، وهي عماد دين الحق والتحقيق :
الأصل الأول : أن يعتقد أن الله - تعالى - قديم واحد ، لا شبيه له ، ولا شريك له ، ولا مثل له ، غير ملحق بالإمكان ، ولا مسبوق بالعدم ، ليس بجسم ، ولا روح ، ولا معنى ، ولا صورة ، هو شيء لا كالأشياء ، ولا حلّ شيئا ، ولا يحلّه شيء ، ولا يمازجه شيء ، منزه عن الجهة والحد والحصر ، أزلي أبدي .
الأصل الثاني : أن يعتقد أن محمدا - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أفضل المقربين ، وأكمل رسل رب العالمين ، جاء بالحق المبين ، ونطق بالصدق واليقين ، لم يترك مكرمة إلا وقد نبه عليها بأنواع التنبيهات ، ولم يدع قربة إلا وقد دعى إليها بأنواع الدلالات ، خاتم المرسلين ، وتاج المقربين .
الأصل الثالث : أن تعتقد صحة ما جاء به محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - من كتاب الله - تعالى - ، وتؤمن بالبعث ، والنشور ، والقيامة ، والحساب ، إلى غير ذلك مما أخبر به من الوعد ، والوعيد ، والآيات الظاهرة عند انصرام أحكام هذه الدار .
الأصل الرابع : ينبغي لك أن تجعل طلبك لهذا العلم خالصا لمعرفة الله - تعالى - ، وتجعل طلبك لمعرفته خالصا لوجهه ، لكونه أهلا لأن يعرف فافهم .
فإذا جعلت لك أيها الطالب هذه الأصول الأربعة أساس مبناك كانت منتهاك في أولاك وأخراك ، فهي المحجة البيضاء ، فعليك بها تفز بها .وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ" سورة الزخرف ( 43 ) : الآية 4 "
فإن وقفوا على معنى من معاني التّوحيد
ثم قال رضي الله عنه : فإن وقفوا على معنى من معاني التّوحيد شهد لهم به الكتاب والسّنّة ، فذلك مطلوبي الّذي أمليت الكتاب لأجله ، وإن فهموا منه خلاف ذلك فأنا برئي من ذلك الفهم فليرفضوه وليطلبوا ما أمليته مع الجمع بالكتاب والسّنّة ، فإنّ الله سيوجدهم على سنّة جرى بها كرمه في خلقه ، والله على كلّ شيء قدير .
قوله : فإن وقفوا الخ
يعني إن فتح عليهم في معنى ما أمليته فذاك ، وإلا فليتوقفوا عن العمل به مع عدم الإنكار ، ويرجعوا في تحقيق تلك المسألة - التي توقف فيها فهمهم - إلى الله تعالى ، والله كريم ، وحاشا الكريم أن يخيب من أملّه فيما أمله .
والقاعدة عند أهل الطريق في حق السالك والمريد الطالب طريق الحق - تعالى - إن ورد عليه شيء من العلوم الإلهية - التي لا يعلمها ، ولا يقدر على قبولها من حيث ما يعلم - فيرجع إلى الله - تعالى - في تحقيق ذلك ، ليفتح عليه بما فتح به على عباده الصالحين .
واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلال ، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده ، فإنه قد يكون مؤيدا في نفسه ولكن قلة استعدادك منعك معرفته .والطريق في ذلك التسليم إلى أن يفتح الله عليك ، ويأخذ بيدك إليه .
ثم اعلم أن كل علم يرد عليك لا يخلو من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : المكالمة .
الوجه الثاني : كون العلم واردا على لسان من ينسب إلى السنة والجماعة .
الوجه الثالث : كون العلم واردا على لسان من اعتزل عن المذهب ، والتحق بأهل البدع .
فالمكالمة عبارة عما يرد على قلبك من طريق الخاطر الرباني والملكي ، فهذا لا سبيل إلى رده ولا إلى إنكاره ، لأن مكالمات الحق - تعالى - لعباده وإخباراته مقبولة بالخاصية ، لا يمكن المخلوق دفعها أبدا البتة .
وعلامة ذلك : أن السامع يعلم بالضرورة أنه كلام الله تعالى ، وأن يكون سماعه له بكليته ، وأن لا يقيده بجهة دون أخرى ، ولو سمعه من جهة فإنه لا يمكنه أن يخصه بجهة دون أخرى ، ألا ترى إلى موسى [ عليه الصلاة والسلام ] لما سمع الخطاب من الشجرة - والشجرة جهة - لم يقيده بجهة منها .
ويقرب الخاطر الملكي من الخاطر الرباني في القبول ، ولكن ليست له تلك القوة إلا أنه إذا اعتبر قبل بالضرورة ، لأنه لا يرد عليك إلا بما يوافق الشرع ، فقبوله بهذا الاعتبار .
وإنما قيل لك ذلك ، لأن الشيطان قد يلقي لطالب الحق ما يزيغه به .
ومن ثم لمّا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني - قدس سره - ماشيا في البادية ، قيل له : يا عبد القادر افعل ما شئت إني قد أبحت لك المحرمات ، فقال : تكذب يا عدو الله ، فقيل له : بما ذا عرفت أنه شيطان ؟ قال : لقوله تعالى :قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ” 1 “ .
وأما ما ورد على لسان أهل السنة والجماعة فهو إن وجدت له شاهدا ومحملا فهو المراد ، وإلا فكنت ممن لا يمكنه الإيمان به مطلقا ، لغلبة نور عقلك على نور إيمانك ، فطريقك فيه طريقك في مسألة الإلهام بين التوقف والاستسلام .
وأما ما ورد على لسان من اعتزل عن المذهب ، والتحق بأهل البدع ، فإن هذا العلم هو المرفوض ، ولكن الكيس لا ينكره مطلقا ، بل يقبل منه ما يقبله الكتاب والسنة من كل وجه ، وقلّ أن يتفق مثل هذا في مسائل أهل القبلة .
وأما ما قبله الكتاب والسنة من وجه ورده من وجه ، فأنت فيه على ذلك المنهج .
روى الإمام الأكبر قدس سره في الأنوار القدسية شرح الرسالة اليوسفية قال :
“ رأيت النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - فسألته عن المطلقة بالثلاث في المجلس الواحد كيف حكمه عندك يا رسول الله ؟
فقال : هي ثلاث كما قال تعالى :"فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ"
فقلت له : فإن جماعة من أهل الظاهر حكموا بها واحدة ،
فقال : أولئك حكموا بما وصل إليهم وأصابوا ، وحكمي أنا في المسلمة بما ذكرته لك ، قال الإمام - قدس سره - فمن ذلك الوقت صرت أقول بهذا الحكم عن رسول الله - صلى الله عليه و آله
نعم ثم المسؤول منهم أن يمدونا بأنفاسهم الإلهية
ثم قال رضي الله عنه : نعم ثم المسؤول منهم أن يمدونا بأنفاسهم الإلهية ، ويقبلونا على ما منا ، وهذا جهد المقل ، قدمتها بين أيديهم ، راجيا دعوة نجي أو نظرة ولي :فإن تجد عيبا فسد الخللا * فجل من لا عيب فيه وعلاوها أنا أشرع فيما ذكرته مستعينا بالله ، ناظرا إلى الله ، آخذا لله عن الله ، فما ثم إلا الله :"وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ" "وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”"
فقوله : نعم ، إلى آخر أجزائه ، يعني بعد أن عرف من وقف على كتابه أن يتأمله حق التأمل ، ومهما أشكل عليه فيعرضه على الكتاب والسنة ، فإن لم يجد له دليلا من الكتاب والسنة ، فليتوقف عن العمل به حتى يفتح الله عليه بمعنى ذلك الأمر .
والمسؤول
منهم المدد الإلهي بالنفس الرحماني ، كما قال تعالى :وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى“ .
وذلك أن الله - تعالى - أوجد أنواع المبرة - المتوصل بها إليه - للإنسان من سائر أنواع مخلوقاته .
ثم هم في ذلك التوصل إليه مختلفون من حيث محاتدهم : فمنهم الفاضل والأفضل ، والكامل والأكمل .
فأمرهم الحق - تعالى - أن يعينوا بعضهم بعضا ، ففي الظاهر معاونتهم ، وفي الباطن هي معاونة الله أعني معونته التي أقدر الواصلين إليه بها .
وإنما نسب المعاونة إلينا لما أراد من حكمة التربية لعباده ، بأن يتأدب المريد مع الشيخ ، والشيخ مع النبي ، والنبي مع الحق ، كما قال تعالى في حق نبيه :" اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ".
وقال - صلى الله عليه و آله وسلم - : “ أنا أعرفكم بالله وأشدكم خوفا منه “ .
فالمصنف - قدس سره - من أكمل كملاء هذا الشأن ، ومن أكمليته أن عرف أن أسرار الله تعالى في جميع عباده - وهي في خواص عباده - كثيرة ، وهي [ في ] خواص الخواص أكثر ، فطلب ما هو لله من الله إلى الله فافهم .
وقوله : ويقبلونا على ما منا ، أي ينظروا إلى ما أبرزته بين أيديهم بعين الرضا كما قيل :وعين الرضا عن كل عين كليلة * كما أن عين السخط تبدي المساوياوعين الرضا لا تكون إلا ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه ،
فرضا الله عن عباده ظاهر معناه .
وأما رضا العباد عن الله هو أن رضاهم عن رضا الله تعالى ، فمن كان رضاه عن الله رأى الأشياء كلها بعين الرضا ، فذلك هو الولي النجي ، وهو المسؤول دعائه .
واعلم أن الرضا في الاصطلاح هو اسم لسكون العبد حيث أقيم ، فلا يؤمل تغييرا ولا تبديلا ، ولا يروم تنقلا ولا تحويلا ، فصاحبه كما قيل :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس ...... لي متأخر عنه ولا متقدم”
والرضا شرطه بعد القضاء ، وأما قبله فهو عزم على الرضا “ ،
قاله سهل بن عبد الله التستري - قدس سره - ، فحال صاحب الرضا كما قال المصنف رضي الله عنه :
ينقلني هواكم في التسابي ....... فأنزل كل وقت في مقام
فطورا في المساجد لاعتكاف ........ وفي الحانات طورا للمدام
فأضحك لابتسام البرق شجوا ...... وأبكي إن بكى جفن الغمام
وأندب مسمرا لي بالعوالي ........ إذا ندب الأراك شجى حمام
وأما مرتبة الولي التي هي الولاية في الاصطلاح :
قيل : هي عبارة عن تولي الحق العبد .
وقيل : أنها عبارة عن كينونة الحق عوضا عن العبد .
وقيل : أنها عبارة عن التمكين .
وقيل : أنها عبارة عن إظهار آثار القدرة .
وقيل : أنها عبارة عن تولية الحق العبد في العالم ، وقيل غير ذلك .
ومجمل هذا الكلام أن تعلم أن الولاية على مراتب كثيرة ،
ويجمعها ثلاثة أنواع :
ولاية صغرى ، وولاية كبرى ، وولاية مطلقة .
فالولاية الصغرى لها ألف درجة :
أولها الإيمان بالغيب ، وآخرها الفناء في الشهود الإلهي .
والولاية الكبرى لها ألف درجة :
أولها الفناء في الشهود الإلهي ، وآخرها التحقق بالأوصاف الإلهية .
والولاية المطلقة لها ألف درجة :
أولها التحقق بالأوصاف الإلهية ، وآخرها مقام العجز ، وفيه يتحقق العبد بالكمال المطلق .
ومعنى البيت : فإن تجد عيبا الخ مندمج فيما تقدم .
وقوله : ها أنا أشرع زمن شروعه ، مستعينا بالله ، أي فيما شرعت ، ناظرا إلى الله ، في استعانتي إياه آخذا لله ، فيما أعانني لا لي عن الله ، لا عني ، فما ثم من يستعان به وينظر إليه ويؤخذ عنه إلا الله :وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ.
كما قال تعالى :حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " سورة سبأ: الآية 23 .
والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
مقدمة كتاب الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم للعارف بالله عبد الكريم ابن إبراهيم الجيلي
المقدمة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
ورد في الخبر عن النّبيّ - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - أنّه قال : “ كلّ ما في الكتب المنزلة فهو في القرآن ، وكلّ ما في القرآن فهو في الفاتحة.
[ ] وكلّ ما في الفاتحة فهو في بسم اللّه الرّحمن الرّحيم “ .
وورد : “ كلّ ما في بسم اللّه الرّحمن الرّحيم فهو في الباء ، وكلّ ما في الباء فهو في النّقطة الّتي تحت الباء “ .
وقال بعض العارفين : “ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من العارف بمنزلة كن من اللّه “ .
واعلم أنّ الكلام على بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من وجوه كثيرة كالنّحو والصّرف واللّغة ، والكلام فيه على مادّة الحروف وصيغتها وطبيعتها وهيئتها وتركيبها واختصاصها على باقي الحروف الموجودة في فاتحة الكتاب .
وجمعها لها ، واختصاصها له ، واختصاصها من الأحرف الموجودة في الفاتحة على سواها ، والكلام عليها في منافعها وأسرارها ، ولسنا بصدد شيء من ذلك في وجوه .
بل كلامنا عليها من وجه معاني حقائقها فيما يليق بجناب الحقّ سبحانه وتعالى ، والكلام مندرج بعضه في بعض .
إذ المقصود من جميع هذه الوجوه معرفة الحقّ سبحانه وتعالى ، ونحن على بابه فكما تجدّد من فيضه على الأنفاس ، تنزّل به الرّوح الأمين على قلب القرطاس .
شرح متن المقدمة "المدخل"
ورد في الخبر عن النبي
ثم قال قدّس سره : بسم اللّه الرحمن الرحيم ورد في الخبر عن النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أنه قال : “ كل ما في الكتب المنزلة فهو في القرآن ، وكل ما في ال قرآن فهو في الفاتحة ، وكل ما في الفاتحة فهو في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وورد كل ما في بسم اللّه الرحمن الرحيم فهو في الباء ، وكل ما في الباء فهو في النقطة التي تحت الباء “ .
اعلم - منحني الله وإياك ، ولا أخلاني من فيضه ولا أخلاك - أن العلم المكنون في بسم اللّه الرحمن الرحيم هو العلم البارز في الوجود بأسره ، فكل علم لعالم هو من فيض نقطة باء لبسم الله ، ومن ثمّ جعلها الله مفتاحا لمفتاح مفتاح الوجود ، فمن لم يفض ختم باء لبسم الله فهو في الحقيقة عن الحقائق لاه .
ومن ثمّ عبّر سيد أهل هذا المقام بقوله عليه الصلاة والسلام : “ من عرف نفسه عرف ربه “ .
والباء في الاصطلاح يشار بها إلى النفس ، ولا سبيل إلى الوصول لمعرفتك الحق دون معرفتك نفسك ، فجعلت الباء مثالا لك لتعرف قدرك ، وتميز ربك ، وإلا فلا سبيل إلى الوصول بدون ذلك .
واعلم أن حقيقة الباء عبارة عن الروح الإضافية ، وهي المسماة بالروح الإلهية التي أضافها الحق إلى نفسه ، ويعبر عنها أيضا بالنفس الكلية ، والحق - تعالى - متجل فيها بتجليه القدسي المشار إليه بالربوبية ، فالربوبية محتد النفس الكلية .
ولهذا لا تكاد النفوس الجزئية أن تقبل الحجر ، إذ كانت مخلوقة من نور الربوبية ، ألا تراها من أول قدم أزالت الحجر عن نفسها ، فعصت وأكلت من الشجرة ، وقد أخبرت أنها إن أكلت من الشجرة كانت من الخاسرين ،ومع ذلك أكلت ، وما توفقت بربوبية محضة ،
وقد ورد في الحديث : “ إن الله تعالى لما خلق النفس قال لها : من أنا ؟ ،
فقالت : ومن أنا ؟ ،
فأدخلها في بحر الجوع ، وأوقفها فيه ألف سنة ، ثم أخرجها منه
فقال لها : من أنا ؟ ،
فقالت : ومن أنا ؟ ،
ثم أدخلها في بحر الجوع هكذا ثلاث مرات حتى أقرت لله بعد الثالثة بالربوبية ، وكل ذلك من سرّ الربوبية التي جعلها الله مظهره .
فالنفس مجبولة على الرئاسة ، مفطورة عليها . لولا ذلك لكان الإنسان كغيره من الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب والنكاح ، ولأجل هذا ما ملك العالم وتحكم فيه أحد غيره فافهم .
وقد علمت بما ذكرنا أن النفس الكلية هي حقيقة الباء ، وأن الله - تعالى - متجل فيها بالذات ، والنقطة التي تحت الباء إشارة إلى ذلك التجلي الذاتي .
ولهذا لما سئل الشبلي - قدس سره - عن نفسه قال : “ أنا النقطة التي تحت الباء “ ، يعني أنه من الذاتين .
ومن ثمّ قال عارف وقته عبد الهادي السودي قدس سره :
نقطة الباء كن إذا شئت تسمع .
وقال سلطان العاشقين عمر بن الفارض الحموي رضي الله عنه :
ولو كنت في نقطة الباء خفضة ...... رفعت إلى ما لم تنله بحيلة
لا كما يفهمه العوام من معاني كلام أهل الله : أن المراد بالخضوع ، هو نظرك نفسك بعين الحقارة والذلة - وإن كان ذلك أدبا في الطريق ، لكنه غير المقصود فيما استشهدنا به من كلامهم رضي الله عنهم - .
بل المعنى : لا ترض بأن تكون مظهرا لغير الذات - المعبر عنه بنقطة الباء - ، فإنك إن كنت ذاتيا كان لك ما للذات فافهم .
ويؤيد ما قلنا قوله : “ رفعت إلى ما لم تنله بحيلة “ ولو كان مراده غير ما بيناه من معنى البيت وإنما المراد [ وأنه لم يرد ] به إلا الأدب والانكسار لكان ذلك حيلة ، وهو قد نفى أن ينال ذلك بحيلة فليتأمل .
وليس من هذا القبيل قول العفيف التلمساني - رضي الله عنه:-
واسع على الجفن خاضعا فعسى ..... يشفع فيك الخضوع والأدب
وارج قراهم إذا نزلت بهم ...... فأنت ضيف لهم وهم عرب
واسجد لهم واقترب فعاشقهم ....... يسجد شوقا لهم ويقترب
فإن مخاطبته مع المبتدئ السالك في الطريق ، وهو بمعزل من هذا المقام .
واعلم أن النقطة هي حقيقة حقائق الحروف ، كما أن الذات حقيقة حقائق الوجود .
فنسبتها إلى الحروف نسبة الذات الأحدية إلى الصفات ، فكما أن الذات تتجلى في الصفات والأسماء بما تقتضيه حقائقها ، فتظهر في صفة المنعم بالنعمة ، وفي صفة المنتقم بالنقمة ، كذلك النقطة تظهر في كل حرف بما يقتضيه حكم الحرف .
وإنما تعلم ذلك إذا علمت أن الحرف جميعها إنما هو نقطة بإزاء نقطة ، فهو مركب من النقطة ، فليس الحرف إلا مجموع نقط .
فبهذا الاعتبار نسبة الحروف من النقطة نسبة الجسم من الجوهر الفرد ، والجوهر الفرد هو أصل الأجسام ، فهو بمنزلة النقطة للحرف .
وإن شئت قلت : بمنزلة الحروف للكلمة ، فإذا لولا الجوهر لما ظهر الجسم ، ولولا النقطة لما ظهر الحرف ، ولولا الذات لما ظهرت الصفات ، ولولا أنت لما ظهرت تلك الحقائق الكلية والجزئية العلوية والسفلية الحقية والخلقية .
يا هذا أنت النقطة فأظهر بذاتك في حقائق حروف الوجود ، وتصور بصورها كما تجدها ، فما تلك الكمالات إلا عبارة عما حويته ، ولولا ذلك لما وجدت إلى نسبتها طريقا في علمك فافهم .
وانظر إلى حقيقة علمك بمعلوماتك ، ثم حقّق النظر ، وميّز من هو العالم منك ؟ ومن هو المعلوم ؟ وما هي النسبة العلمية ؟ وما تلك الصور المشهودة في خزانة خيالك ؟ تفز بسرّ لم يطلع عليه إلا الكمل من أولياء الله .
ولا تستبعد شيئا مما ذكر لك في هذا الطريق مما هو فوق طور هذا ، فإن الله إذا أهّلك له أوجدك إياه ، وحقّقك به .
واعلم أن عند الله ما هو أعظم من ذلك مما يكشفه لعباده الصالحين ، ومن ثم ورد :
“ تعرضوا لنفحات ربكم “ ،
وكما تقول الطائفة - رضي الله عنهم - : “ لا تقنع منه ولو أعطاك مكالمة موسى وخلة إبراهيم “ مع أن هذا الأمر مستحيل ، لكنهم يشيرون بذلك إلى أن عند الله ما هو من وراء ذلك فافهم .
ومعنى الحديث : “ أن كل ما في الكتب المنزلة فهو في القرآن ، وكل ما في القرآن فهو في الفاتحة ، وكل ما في الفاتحة فهو في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وكل ما في بسم اللّه الرحمن الرحيم فهو في النقطة التي تحت الباء “ باعتبار ما فهمت آنفا من كون النقطة التي تحت الباء أنها حقيقة حقائق الحروف ، فالحرف فرع النقطة ، والكلمة فرع الحرف ، والكلام فرع الكلمة ، والمعنى المحمول فرع الكلام .
والنقطة ظاهرة في بعض الحروف باطنة في بعضها .
ولها في بطونها مقتضيات ، وتلك المقتضيات هي حقائق الحروف والكلمات والكلام والمعاني الموجودة في جميع ذلك .
ولها في ظهورها مقتضيات ، وتلك المقتضيات هي التجليات الظاهرة في ذوات الحروف ، فظهرت في كل حرف على هيئته وتركيبه وتركيب الكلمات من الحروف إلى آخر تطوراتها مما يقتضيه الظهور .
واعلم أن ظهور النقطة هو الكنز المخفي المعبر عنه في الحديث بقوله : “ كنت كنزا مخفيا ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت خلقا ، وتعرفت إليهم ، فبي عرفوني “ .
وكنزيته باقية على ما هي عليه من حيث مقتضى البطون ، لأنه لا يتغير - جل وعلا - ولا يتبدل ، فلم يزده ظهور الخلق صفة لم تكن له .
وغاية ما في الباب يقال أنهم عرفوه على قدر قوابلهم ، ومعرفته من وراء معرفتهم إياه ، فلم يعرفوه حق معرفته .
وفي هذا المقام قال سيد أهله عليه الصلاة والسلام : “ ما عرفناك حق معرفتك ، أنت كما أثنيت على نفسك “ فرجع إلى الله بالله ، وأحال أنه كما يعلم نفسه ويثني عليها ، ليكون ثناؤه على الله عين ثنائه على نفسه ، فمن عرف الله بهذه المعرفة فقد عرف الله بالله حق المعرفة .
وإلى هذا المعنى أشار بقوله : “ فبي عرفوني “ .
وإذا فهمت هذا عرفت أن النقطة مع ما برز من معانيها على الحروف والكلمات والكلام والمعاني باقية على شأن البطون ، فهي كالهيولى لصور الحروف والكلمات والكلام والمعاني ، فلا يمكن ظهور جميع ما في الهيولي من الصور بحال .
ومن ثم كان كل ما أنزله الله في كتبه فيها ، فكل ما أبرزته النقطة بالنسبة إلى ما لم تبرزه كفسطاط في فلاة ، أو ذرة في قفر ، أو قطرة في بحر ،
فكلمات الله غير متناهية ، قال تعالى :قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً”. سورة الكهف: الآية 109 .
“وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ". سورة الزخرف: الآية 4 .
وقوله رضي الله عنه : هو ذو الفهم الثاقب ، والذكاء الباهر الراجح الراسب ، والتجريد والتقرير ، والقدم الصدق في المطالب .
وصفه بأنه : ذو الفهم ،أي صاحب الفهم وهو من فهم معاني ما أريد من الله - أي من علم الله بالله - ، كما ورد : “ اللهم فهمنا عنك ، فإنا لا نفهم عنك إلا بك “ .
ومن الدليل على أن السائل ممن فهم عن الله حيث كان سؤاله عن علوم بسم الله ، وذلك لثقابة فهمه النافذ ، الواقع على كنوز العلوم الحقية ، وذكائه الباهر في علم الحقائق ، فتلك الثقابة أثمرت هذا الذكاء الذي بهر ، حتى صار من فيضه هذا النور المستفاض المنشور ،
فإن السائل [ السؤال ] كان مفتاحا لقلب المسؤول عن هذه العلوم العزيزة المرام ، التي لا تكاد تدرك لكثير من الأنام ، فلهذا كان ذلك السائل صاحب الفهم الثاقب ، والذكاء الباهر الراجح ،
أي : الزائد على غيره ، الراسب أي : الغائص ، وهو الذي غاص بذلك الفهم على جوهرة الحقائق في صدفة الخلائق ، فكان ببروزها إنارة الطرائق .
وكان ذا التفريد والتقرير ، والقدم الراسخ في المطالب .
كما قال عليه الصلاة والسلام “ سيروا سبق المفردون “ ، وهم الذين خصّوا بمقام الفردية - الذي هو من خصائص خير البرية - فمخاطبته - عليه الصلاة والسلام - لسائري طريق الحق : بسبق المفردون - أي منكم أيها السائرون إلى الله .
ولمّا كان السائل للمصنّف من هؤلاء المشار إليهم ، صرّح بنعته فقال : هو ذو التفريد والتقرير أي المقرر أحوال غيره ، والمقرر في نفسه ، لأن له القدم الراسخ - أي الذي لا يزول في المطالب يعني الحقية - .
لأن مطلوب هؤلاء الكمل ليس إلّا الحق ، لم تتعلق همتهم بسواه ، ولم يقصدوا إلا إياه ، لأن ما سواه عندهم عدم ، فما يشهد العدم إلا العدم ، ولا يشهد الحق إلا الحق ، فهم مجموعون في الحق بالحق ،
كما قال قائلهم :
مذ تجمعت ما خشيت افتراقا ...... ها أنا اليوم واصل مجموع
وهو كما قال الآخر :
لو وجدنا إلى الفراق سبيلا ...... لأذقنا الفراق طعم الفراق
لأن إرشاد الحق كتب على بياض قلوبهم بمداد محبوبهم .من أتانا ببياض لم تكن فيه كتابة * كتب الإرشاد منا فيه منهاج الإصابة فمذ عرفوا هواه لم يجنحوا إلى سواه ، فتمكن حبه من قلوبهم الخالية عن الوساوس الهاوية بجيش :قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً. .
فلمّا ورد جيش ملك الإيمان على حزب الشيطان ،"وَزَهَقَ الْباطِلُ" ولم يكن له وجود في الحاصل ، فهم المعصومون عن الردى بآية :"إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى".
"وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ"."وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى".
عماد الدين محيي الدين أبو القاسم التونسي المغربي
وقوله رضي الله عنه : عماد الدين محيي الدين أبو القاسم التونسي المغربي سبط الحسن بن علي ، بعد مدافعتي إياه وتأخري عن التقدم إلى ما يهواه ، ولمّا لم يسمح بالإقالة ، ولم يجنح إلا لما قاله ،
أي : في إلزامه إياي ، إذ لم يقبل مني ما طلب مني ، بعثني صدق رغبته إلى موافقته ، فاستخرت الله - عز وجل - ولجأت إليه ، أسأله - سبحانه - أن ينفع به عليه ، والسامعين وقارئيه ، وهو الأولى بالإجابة ، والأجدر لتوفيقي بالإصابة .
يعني ولما لح علي في إبراز ما أراد لتبليغ المراد ، بعثني ذلك الصدق في القصد إلى أن أبرزت من قعر هذا البحر عجائبه ، وأبديت غرائبه ، ولجأت إلى الله - سبحانه وتعالى - في النفع به لي ولسامعه ولقارئه ، والله أولى بالإجابة فيما سألته ، والأجدر - أي الأحق - لتوفيقي ، وهو خلق قدرة الطاعة على الطاعة فيما يوافق الحق مما فيه سعادتي ، بالإصابة التي هي الصفة المحمودة من ذلك التوفيق .
والملتمس من أهل الله ساداتنا الإخوان النّاظرين في هذا الكتاب - سلام الله عليهم ورضوانه أن يفصحوا في معنى كلّ كلمة من كلامي في هذا الكتاب حتّى يمنحهم تبيانه من وجوه عبارتها ،
أي عن وجوه كل كلمة من كلمات هذا الكتاب وإشارتها ، وتصريحها ، وتلويحها ، وكنايتها ، وتقديمها وتأخيرها مع المراعاة للقواعد الشّرعيّة .
يعني يكون ذلك الإفصاح في معنى كل كلمة على حكم الكتاب والسنة والأصول الدينية ، أي أطلب من أهل الله تعالى - وهم السادة الذين سادوا غيرهم بأنواع المبرة ، الوارثون مقام خير الأمة - أنهم إذا وقفوا على ما أمليته في هذا الكتاب ، ورأوا ما خالف معناهم أن لا ينكروا عليّ في الإملاء ، لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول :"وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" "وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا".
وفائدة التوقف وعدم الإنكار في أول وهلة أن لا يحرم الواقف على هذا الكتاب بركة هذا العلم ، ولا يكون قادحا في حق غيره بطريق الجهل ، لأنه ما أحاط بكل علم الله ،
فإذا رأيت أيها الواقف على هذا الكتاب أو غيره من كتب أهل الله مما عسر عليك فهمه ، فكل أمره إلى الله وسلم ، واعلم أن لله علما لا يصل إليه فهمك وقد أوصله إلى من أراد ، فيحصل لك بذلك التسليم الفائدة الجزيلة والعائدة الجميلة ، وفقني الله وإياك لذلك .
ويكون فهمك من هذا الكتاب - بل ومن غيره من كتب أهل الحقائق قدس [ ت ] أرواحهم - مع الموافقة الشرعية والأصول الدينية .
فإن كل حقيقة لا تصحبها شريعة فهي زندقة ، والمراد مما قلنا أنه ليس في علم الحقائق زندقة ، وإنما الزندقة فيمن فهم من علم الحقائق ما لا هو مراد لأهله الواضعين له ، لا أن الحقائق فيها زندقة حاشا وكلا .
ومن ثمّ قال الإمام الأكبر : “ كل حقيقة لا تؤيدها شريعة فهي زندقة “ ، يريد أن كل علم يرد عليك من الحقائق التي لا تؤيدها الشرائع فاستعمالك لذلك العلم زندقة منك ،
لأنك تفعل بخلاف الشرائع ، لا أن الحقائق فيها زندقة ، إذ ليس في الحقائق مسألة إلا وقد أيدها الكتاب والسنة فافهم .
فينبغي لك أيها الطالب لحصول الكمال أن تجعل لك أربعة أصول يكون مبنى أمرك عليها ، وهي عماد دين الحق والتحقيق :
الأصل الأول : أن يعتقد أن الله - تعالى - قديم واحد ، لا شبيه له ، ولا شريك له ، ولا مثل له ، غير ملحق بالإمكان ، ولا مسبوق بالعدم ، ليس بجسم ، ولا روح ، ولا معنى ، ولا صورة ، هو شيء لا كالأشياء ، ولا حلّ شيئا ، ولا يحلّه شيء ، ولا يمازجه شيء ، منزه عن الجهة والحد والحصر ، أزلي أبدي .
الأصل الثاني : أن يعتقد أن محمدا - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أفضل المقربين ، وأكمل رسل رب العالمين ، جاء بالحق المبين ، ونطق بالصدق واليقين ، لم يترك مكرمة إلا وقد نبه عليها بأنواع التنبيهات ، ولم يدع قربة إلا وقد دعى إليها بأنواع الدلالات ، خاتم المرسلين ، وتاج المقربين .
الأصل الثالث : أن تعتقد صحة ما جاء به محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - من كتاب الله - تعالى - ، وتؤمن بالبعث ، والنشور ، والقيامة ، والحساب ، إلى غير ذلك مما أخبر به من الوعد ، والوعيد ، والآيات الظاهرة عند انصرام أحكام هذه الدار .
الأصل الرابع : ينبغي لك أن تجعل طلبك لهذا العلم خالصا لمعرفة الله - تعالى - ، وتجعل طلبك لمعرفته خالصا لوجهه ، لكونه أهلا لأن يعرف فافهم .
فإذا جعلت لك أيها الطالب هذه الأصول الأربعة أساس مبناك كانت منتهاك في أولاك وأخراك ، فهي المحجة البيضاء ، فعليك بها تفز بها .وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ" سورة الزخرف ( 43 ) : الآية 4 "
فإن وقفوا على معنى من معاني التّوحيد
ثم قال رضي الله عنه : فإن وقفوا على معنى من معاني التّوحيد شهد لهم به الكتاب والسّنّة ، فذلك مطلوبي الّذي أمليت الكتاب لأجله ، وإن فهموا منه خلاف ذلك فأنا برئي من ذلك الفهم فليرفضوه وليطلبوا ما أمليته مع الجمع بالكتاب والسّنّة ، فإنّ الله سيوجدهم على سنّة جرى بها كرمه في خلقه ، والله على كلّ شيء قدير .
قوله : فإن وقفوا الخ
يعني إن فتح عليهم في معنى ما أمليته فذاك ، وإلا فليتوقفوا عن العمل به مع عدم الإنكار ، ويرجعوا في تحقيق تلك المسألة - التي توقف فيها فهمهم - إلى الله تعالى ، والله كريم ، وحاشا الكريم أن يخيب من أملّه فيما أمله .
والقاعدة عند أهل الطريق في حق السالك والمريد الطالب طريق الحق - تعالى - إن ورد عليه شيء من العلوم الإلهية - التي لا يعلمها ، ولا يقدر على قبولها من حيث ما يعلم - فيرجع إلى الله - تعالى - في تحقيق ذلك ، ليفتح عليه بما فتح به على عباده الصالحين .
واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلال ، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده ، فإنه قد يكون مؤيدا في نفسه ولكن قلة استعدادك منعك معرفته .والطريق في ذلك التسليم إلى أن يفتح الله عليك ، ويأخذ بيدك إليه .
ثم اعلم أن كل علم يرد عليك لا يخلو من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : المكالمة .
الوجه الثاني : كون العلم واردا على لسان من ينسب إلى السنة والجماعة .
الوجه الثالث : كون العلم واردا على لسان من اعتزل عن المذهب ، والتحق بأهل البدع .
فالمكالمة عبارة عما يرد على قلبك من طريق الخاطر الرباني والملكي ، فهذا لا سبيل إلى رده ولا إلى إنكاره ، لأن مكالمات الحق - تعالى - لعباده وإخباراته مقبولة بالخاصية ، لا يمكن المخلوق دفعها أبدا البتة .
وعلامة ذلك : أن السامع يعلم بالضرورة أنه كلام الله تعالى ، وأن يكون سماعه له بكليته ، وأن لا يقيده بجهة دون أخرى ، ولو سمعه من جهة فإنه لا يمكنه أن يخصه بجهة دون أخرى ، ألا ترى إلى موسى [ عليه الصلاة والسلام ] لما سمع الخطاب من الشجرة - والشجرة جهة - لم يقيده بجهة منها .
ويقرب الخاطر الملكي من الخاطر الرباني في القبول ، ولكن ليست له تلك القوة إلا أنه إذا اعتبر قبل بالضرورة ، لأنه لا يرد عليك إلا بما يوافق الشرع ، فقبوله بهذا الاعتبار .
وإنما قيل لك ذلك ، لأن الشيطان قد يلقي لطالب الحق ما يزيغه به .
ومن ثم لمّا كان الشيخ عبد القادر الجيلاني - قدس سره - ماشيا في البادية ، قيل له : يا عبد القادر افعل ما شئت إني قد أبحت لك المحرمات ، فقال : تكذب يا عدو الله ، فقيل له : بما ذا عرفت أنه شيطان ؟ قال : لقوله تعالى :قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ” 1 “ .
وأما ما ورد على لسان أهل السنة والجماعة فهو إن وجدت له شاهدا ومحملا فهو المراد ، وإلا فكنت ممن لا يمكنه الإيمان به مطلقا ، لغلبة نور عقلك على نور إيمانك ، فطريقك فيه طريقك في مسألة الإلهام بين التوقف والاستسلام .
وأما ما ورد على لسان من اعتزل عن المذهب ، والتحق بأهل البدع ، فإن هذا العلم هو المرفوض ، ولكن الكيس لا ينكره مطلقا ، بل يقبل منه ما يقبله الكتاب والسنة من كل وجه ، وقلّ أن يتفق مثل هذا في مسائل أهل القبلة .
وأما ما قبله الكتاب والسنة من وجه ورده من وجه ، فأنت فيه على ذلك المنهج .
روى الإمام الأكبر قدس سره في الأنوار القدسية شرح الرسالة اليوسفية قال :
“ رأيت النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - فسألته عن المطلقة بالثلاث في المجلس الواحد كيف حكمه عندك يا رسول الله ؟
فقال : هي ثلاث كما قال تعالى :"فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ"
فقلت له : فإن جماعة من أهل الظاهر حكموا بها واحدة ،
فقال : أولئك حكموا بما وصل إليهم وأصابوا ، وحكمي أنا في المسلمة بما ذكرته لك ، قال الإمام - قدس سره - فمن ذلك الوقت صرت أقول بهذا الحكم عن رسول الله - صلى الله عليه و آله
نعم ثم المسؤول منهم أن يمدونا بأنفاسهم الإلهية
ثم قال رضي الله عنه : نعم ثم المسؤول منهم أن يمدونا بأنفاسهم الإلهية ، ويقبلونا على ما منا ، وهذا جهد المقل ، قدمتها بين أيديهم ، راجيا دعوة نجي أو نظرة ولي :فإن تجد عيبا فسد الخللا * فجل من لا عيب فيه وعلاوها أنا أشرع فيما ذكرته مستعينا بالله ، ناظرا إلى الله ، آخذا لله عن الله ، فما ثم إلا الله :"وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ" "وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”"
فقوله : نعم ، إلى آخر أجزائه ، يعني بعد أن عرف من وقف على كتابه أن يتأمله حق التأمل ، ومهما أشكل عليه فيعرضه على الكتاب والسنة ، فإن لم يجد له دليلا من الكتاب والسنة ، فليتوقف عن العمل به حتى يفتح الله عليه بمعنى ذلك الأمر .
والمسؤول
منهم المدد الإلهي بالنفس الرحماني ، كما قال تعالى :وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى“ .
وذلك أن الله - تعالى - أوجد أنواع المبرة - المتوصل بها إليه - للإنسان من سائر أنواع مخلوقاته .
ثم هم في ذلك التوصل إليه مختلفون من حيث محاتدهم : فمنهم الفاضل والأفضل ، والكامل والأكمل .
فأمرهم الحق - تعالى - أن يعينوا بعضهم بعضا ، ففي الظاهر معاونتهم ، وفي الباطن هي معاونة الله أعني معونته التي أقدر الواصلين إليه بها .
وإنما نسب المعاونة إلينا لما أراد من حكمة التربية لعباده ، بأن يتأدب المريد مع الشيخ ، والشيخ مع النبي ، والنبي مع الحق ، كما قال تعالى في حق نبيه :" اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ".
وقال - صلى الله عليه و آله وسلم - : “ أنا أعرفكم بالله وأشدكم خوفا منه “ .
فالمصنف - قدس سره - من أكمل كملاء هذا الشأن ، ومن أكمليته أن عرف أن أسرار الله تعالى في جميع عباده - وهي في خواص عباده - كثيرة ، وهي [ في ] خواص الخواص أكثر ، فطلب ما هو لله من الله إلى الله فافهم .
وقوله : ويقبلونا على ما منا ، أي ينظروا إلى ما أبرزته بين أيديهم بعين الرضا كما قيل :وعين الرضا عن كل عين كليلة * كما أن عين السخط تبدي المساوياوعين الرضا لا تكون إلا ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه ،
فرضا الله عن عباده ظاهر معناه .
وأما رضا العباد عن الله هو أن رضاهم عن رضا الله تعالى ، فمن كان رضاه عن الله رأى الأشياء كلها بعين الرضا ، فذلك هو الولي النجي ، وهو المسؤول دعائه .
واعلم أن الرضا في الاصطلاح هو اسم لسكون العبد حيث أقيم ، فلا يؤمل تغييرا ولا تبديلا ، ولا يروم تنقلا ولا تحويلا ، فصاحبه كما قيل :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس ...... لي متأخر عنه ولا متقدم”
والرضا شرطه بعد القضاء ، وأما قبله فهو عزم على الرضا “ ،
قاله سهل بن عبد الله التستري - قدس سره - ، فحال صاحب الرضا كما قال المصنف رضي الله عنه :
ينقلني هواكم في التسابي ....... فأنزل كل وقت في مقام
فطورا في المساجد لاعتكاف ........ وفي الحانات طورا للمدام
فأضحك لابتسام البرق شجوا ...... وأبكي إن بكى جفن الغمام
وأندب مسمرا لي بالعوالي ........ إذا ندب الأراك شجى حمام
وأما مرتبة الولي التي هي الولاية في الاصطلاح :
قيل : هي عبارة عن تولي الحق العبد .
وقيل : أنها عبارة عن كينونة الحق عوضا عن العبد .
وقيل : أنها عبارة عن التمكين .
وقيل : أنها عبارة عن إظهار آثار القدرة .
وقيل : أنها عبارة عن تولية الحق العبد في العالم ، وقيل غير ذلك .
ومجمل هذا الكلام أن تعلم أن الولاية على مراتب كثيرة ،
ويجمعها ثلاثة أنواع :
ولاية صغرى ، وولاية كبرى ، وولاية مطلقة .
فالولاية الصغرى لها ألف درجة :
أولها الإيمان بالغيب ، وآخرها الفناء في الشهود الإلهي .
والولاية الكبرى لها ألف درجة :
أولها الفناء في الشهود الإلهي ، وآخرها التحقق بالأوصاف الإلهية .
والولاية المطلقة لها ألف درجة :
أولها التحقق بالأوصاف الإلهية ، وآخرها مقام العجز ، وفيه يتحقق العبد بالكمال المطلق .
ومعنى البيت : فإن تجد عيبا الخ مندمج فيما تقدم .
وقوله : ها أنا أشرع زمن شروعه ، مستعينا بالله ، أي فيما شرعت ، ناظرا إلى الله ، في استعانتي إياه آخذا لله ، فيما أعانني لا لي عن الله ، لا عني ، فما ثم من يستعان به وينظر إليه ويؤخذ عنه إلا الله :وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ.
كما قال تعالى :حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " سورة سبأ: الآية 23 .
والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .
مقدمة كتاب الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم للعارف بالله عبد الكريم ابن إبراهيم الجيلي
المقدمة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
ورد في الخبر عن النّبيّ - صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - أنّه قال : “ كلّ ما في الكتب المنزلة فهو في القرآن ، وكلّ ما في القرآن فهو في الفاتحة.
[ ] وكلّ ما في الفاتحة فهو في بسم اللّه الرّحمن الرّحيم “ .
وورد : “ كلّ ما في بسم اللّه الرّحمن الرّحيم فهو في الباء ، وكلّ ما في الباء فهو في النّقطة الّتي تحت الباء “ .
وقال بعض العارفين : “ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من العارف بمنزلة كن من اللّه “ .
واعلم أنّ الكلام على بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من وجوه كثيرة كالنّحو والصّرف واللّغة ، والكلام فيه على مادّة الحروف وصيغتها وطبيعتها وهيئتها وتركيبها واختصاصها على باقي الحروف الموجودة في فاتحة الكتاب .
وجمعها لها ، واختصاصها له ، واختصاصها من الأحرف الموجودة في الفاتحة على سواها ، والكلام عليها في منافعها وأسرارها ، ولسنا بصدد شيء من ذلك في وجوه .
بل كلامنا عليها من وجه معاني حقائقها فيما يليق بجناب الحقّ سبحانه وتعالى ، والكلام مندرج بعضه في بعض .
إذ المقصود من جميع هذه الوجوه معرفة الحقّ سبحانه وتعالى ، ونحن على بابه فكما تجدّد من فيضه على الأنفاس ، تنزّل به الرّوح الأمين على قلب القرطاس .
شرح متن المقدمة "المدخل"
ورد في الخبر عن النبي
ثم قال قدّس سره : بسم اللّه الرحمن الرحيم ورد في الخبر عن النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - أنه قال : “ كل ما في الكتب المنزلة فهو في القرآن ، وكل ما في ال قرآن فهو في الفاتحة ، وكل ما في الفاتحة فهو في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وورد كل ما في بسم اللّه الرحمن الرحيم فهو في الباء ، وكل ما في الباء فهو في النقطة التي تحت الباء “ .
اعلم - منحني الله وإياك ، ولا أخلاني من فيضه ولا أخلاك - أن العلم المكنون في بسم اللّه الرحمن الرحيم هو العلم البارز في الوجود بأسره ، فكل علم لعالم هو من فيض نقطة باء لبسم الله ، ومن ثمّ جعلها الله مفتاحا لمفتاح مفتاح الوجود ، فمن لم يفض ختم باء لبسم الله فهو في الحقيقة عن الحقائق لاه .
ومن ثمّ عبّر سيد أهل هذا المقام بقوله عليه الصلاة والسلام : “ من عرف نفسه عرف ربه “ .
والباء في الاصطلاح يشار بها إلى النفس ، ولا سبيل إلى الوصول لمعرفتك الحق دون معرفتك نفسك ، فجعلت الباء مثالا لك لتعرف قدرك ، وتميز ربك ، وإلا فلا سبيل إلى الوصول بدون ذلك .
واعلم أن حقيقة الباء عبارة عن الروح الإضافية ، وهي المسماة بالروح الإلهية التي أضافها الحق إلى نفسه ، ويعبر عنها أيضا بالنفس الكلية ، والحق - تعالى - متجل فيها بتجليه القدسي المشار إليه بالربوبية ، فالربوبية محتد النفس الكلية .
ولهذا لا تكاد النفوس الجزئية أن تقبل الحجر ، إذ كانت مخلوقة من نور الربوبية ، ألا تراها من أول قدم أزالت الحجر عن نفسها ، فعصت وأكلت من الشجرة ، وقد أخبرت أنها إن أكلت من الشجرة كانت من الخاسرين ،ومع ذلك أكلت ، وما توفقت بربوبية محضة ،
وقد ورد في الحديث : “ إن الله تعالى لما خلق النفس قال لها : من أنا ؟ ،
فقالت : ومن أنا ؟ ،
فأدخلها في بحر الجوع ، وأوقفها فيه ألف سنة ، ثم أخرجها منه
فقال لها : من أنا ؟ ،
فقالت : ومن أنا ؟ ،
ثم أدخلها في بحر الجوع هكذا ثلاث مرات حتى أقرت لله بعد الثالثة بالربوبية ، وكل ذلك من سرّ الربوبية التي جعلها الله مظهره .
فالنفس مجبولة على الرئاسة ، مفطورة عليها . لولا ذلك لكان الإنسان كغيره من الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب والنكاح ، ولأجل هذا ما ملك العالم وتحكم فيه أحد غيره فافهم .
وقد علمت بما ذكرنا أن النفس الكلية هي حقيقة الباء ، وأن الله - تعالى - متجل فيها بالذات ، والنقطة التي تحت الباء إشارة إلى ذلك التجلي الذاتي .
ولهذا لما سئل الشبلي - قدس سره - عن نفسه قال : “ أنا النقطة التي تحت الباء “ ، يعني أنه من الذاتين .
ومن ثمّ قال عارف وقته عبد الهادي السودي قدس سره :
نقطة الباء كن إذا شئت تسمع .
وقال سلطان العاشقين عمر بن الفارض الحموي رضي الله عنه :
ولو كنت في نقطة الباء خفضة ...... رفعت إلى ما لم تنله بحيلة
لا كما يفهمه العوام من معاني كلام أهل الله : أن المراد بالخضوع ، هو نظرك نفسك بعين الحقارة والذلة - وإن كان ذلك أدبا في الطريق ، لكنه غير المقصود فيما استشهدنا به من كلامهم رضي الله عنهم - .
بل المعنى : لا ترض بأن تكون مظهرا لغير الذات - المعبر عنه بنقطة الباء - ، فإنك إن كنت ذاتيا كان لك ما للذات فافهم .
ويؤيد ما قلنا قوله : “ رفعت إلى ما لم تنله بحيلة “ ولو كان مراده غير ما بيناه من معنى البيت وإنما المراد [ وأنه لم يرد ] به إلا الأدب والانكسار لكان ذلك حيلة ، وهو قد نفى أن ينال ذلك بحيلة فليتأمل .
وليس من هذا القبيل قول العفيف التلمساني - رضي الله عنه:-
واسع على الجفن خاضعا فعسى ..... يشفع فيك الخضوع والأدب
وارج قراهم إذا نزلت بهم ...... فأنت ضيف لهم وهم عرب
واسجد لهم واقترب فعاشقهم ....... يسجد شوقا لهم ويقترب
فإن مخاطبته مع المبتدئ السالك في الطريق ، وهو بمعزل من هذا المقام .
واعلم أن النقطة هي حقيقة حقائق الحروف ، كما أن الذات حقيقة حقائق الوجود .
فنسبتها إلى الحروف نسبة الذات الأحدية إلى الصفات ، فكما أن الذات تتجلى في الصفات والأسماء بما تقتضيه حقائقها ، فتظهر في صفة المنعم بالنعمة ، وفي صفة المنتقم بالنقمة ، كذلك النقطة تظهر في كل حرف بما يقتضيه حكم الحرف .
وإنما تعلم ذلك إذا علمت أن الحرف جميعها إنما هو نقطة بإزاء نقطة ، فهو مركب من النقطة ، فليس الحرف إلا مجموع نقط .
فبهذا الاعتبار نسبة الحروف من النقطة نسبة الجسم من الجوهر الفرد ، والجوهر الفرد هو أصل الأجسام ، فهو بمنزلة النقطة للحرف .
وإن شئت قلت : بمنزلة الحروف للكلمة ، فإذا لولا الجوهر لما ظهر الجسم ، ولولا النقطة لما ظهر الحرف ، ولولا الذات لما ظهرت الصفات ، ولولا أنت لما ظهرت تلك الحقائق الكلية والجزئية العلوية والسفلية الحقية والخلقية .
يا هذا أنت النقطة فأظهر بذاتك في حقائق حروف الوجود ، وتصور بصورها كما تجدها ، فما تلك الكمالات إلا عبارة عما حويته ، ولولا ذلك لما وجدت إلى نسبتها طريقا في علمك فافهم .
وانظر إلى حقيقة علمك بمعلوماتك ، ثم حقّق النظر ، وميّز من هو العالم منك ؟ ومن هو المعلوم ؟ وما هي النسبة العلمية ؟ وما تلك الصور المشهودة في خزانة خيالك ؟ تفز بسرّ لم يطلع عليه إلا الكمل من أولياء الله .
ولا تستبعد شيئا مما ذكر لك في هذا الطريق مما هو فوق طور هذا ، فإن الله إذا أهّلك له أوجدك إياه ، وحقّقك به .
واعلم أن عند الله ما هو أعظم من ذلك مما يكشفه لعباده الصالحين ، ومن ثم ورد :
“ تعرضوا لنفحات ربكم “ ،
وكما تقول الطائفة - رضي الله عنهم - : “ لا تقنع منه ولو أعطاك مكالمة موسى وخلة إبراهيم “ مع أن هذا الأمر مستحيل ، لكنهم يشيرون بذلك إلى أن عند الله ما هو من وراء ذلك فافهم .
ومعنى الحديث : “ أن كل ما في الكتب المنزلة فهو في القرآن ، وكل ما في القرآن فهو في الفاتحة ، وكل ما في الفاتحة فهو في بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وكل ما في بسم اللّه الرحمن الرحيم فهو في النقطة التي تحت الباء “ باعتبار ما فهمت آنفا من كون النقطة التي تحت الباء أنها حقيقة حقائق الحروف ، فالحرف فرع النقطة ، والكلمة فرع الحرف ، والكلام فرع الكلمة ، والمعنى المحمول فرع الكلام .
والنقطة ظاهرة في بعض الحروف باطنة في بعضها .
ولها في بطونها مقتضيات ، وتلك المقتضيات هي حقائق الحروف والكلمات والكلام والمعاني الموجودة في جميع ذلك .
ولها في ظهورها مقتضيات ، وتلك المقتضيات هي التجليات الظاهرة في ذوات الحروف ، فظهرت في كل حرف على هيئته وتركيبه وتركيب الكلمات من الحروف إلى آخر تطوراتها مما يقتضيه الظهور .
واعلم أن ظهور النقطة هو الكنز المخفي المعبر عنه في الحديث بقوله : “ كنت كنزا مخفيا ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت خلقا ، وتعرفت إليهم ، فبي عرفوني “ .
وكنزيته باقية على ما هي عليه من حيث مقتضى البطون ، لأنه لا يتغير - جل وعلا - ولا يتبدل ، فلم يزده ظهور الخلق صفة لم تكن له .
وغاية ما في الباب يقال أنهم عرفوه على قدر قوابلهم ، ومعرفته من وراء معرفتهم إياه ، فلم يعرفوه حق معرفته .
وفي هذا المقام قال سيد أهله عليه الصلاة والسلام : “ ما عرفناك حق معرفتك ، أنت كما أثنيت على نفسك “ فرجع إلى الله بالله ، وأحال أنه كما يعلم نفسه ويثني عليها ، ليكون ثناؤه على الله عين ثنائه على نفسه ، فمن عرف الله بهذه المعرفة فقد عرف الله بالله حق المعرفة .
وإلى هذا المعنى أشار بقوله : “ فبي عرفوني “ .
وإذا فهمت هذا عرفت أن النقطة مع ما برز من معانيها على الحروف والكلمات والكلام والمعاني باقية على شأن البطون ، فهي كالهيولى لصور الحروف والكلمات والكلام والمعاني ، فلا يمكن ظهور جميع ما في الهيولي من الصور بحال .
ومن ثم كان كل ما أنزله الله في كتبه فيها ، فكل ما أبرزته النقطة بالنسبة إلى ما لم تبرزه كفسطاط في فلاة ، أو ذرة في قفر ، أو قطرة في بحر ،
فكلمات الله غير متناهية ، قال تعالى :قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً”. سورة الكهف: الآية 109 .
“وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ". سورة الزخرف: الآية 4 .
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin