مركز كنه الحقائق والتوحيد
ثم قال رضي الله عنه : مركز كنه الحقائق والتوحيد ، مجمع دقائق التنزيه والتحديد .
اعلم أن مركز الدائرة أصلها ، فله إلى كل جزء من أجزائها وجه مقابل لها .
فالرسول - عليه الصلاة والسلام - مركز كنه التوحيد ، أي أصل حقائق ماهية التوحيد ، وماهية التوحيد حقيقته ، وحقيقته توحيد الباري - تعالى - كما هو ، ولا أحد يوحّد الحقّ كما هو سوّى توحيده إياه ، يعني توحيده نفسه بنفسه ، فهو الموحّد والموحّد ، ومحمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - عين ذات الموحّد والموحّد .
وإلى هذا التوحيد أشار أبو عبد الله الأنصاري - قدس سره - بقوله :
ما وحّد الواحد من واحد .... إذ كل من وحّده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته .... عارية أبطلها الواحد
توحيد إياه توحيده .... وكل من ينعته لاحد
فنقول : اعلم أن التوحيد عند المحققين - رضي الله عنهم - مختلف باختلاف الموحدين ، ومتعدد بتعددهم ، وهو في نفسه واحد غير متعدد ، ومؤتلف غير مختلف ، وذلك التعدد للاختلاف من حيث شهود الخلق للحق :
[ القسم الأول ] : فمنهم من شهده في أفعاله فوحده فيها .
[ القسم الثاني ] : ومنهم من شهده في أسمائه وصفاته فوحده فيها .
[ القسم الثالث ] : ومنهم من شهده في ذاته ، أي : في أسماء ذاته ، فوحده فيها .
فالأول للعوام وهو توحيد الله في الأفعال .
والثاني للخواص وهو توحيد الله في الأسماء والصفات .
الثالث توحيد خواص الخواص ، وهو توحيد الله في الذات أعني في أسماء الذات .
فقوله رضي الله عنه : “ ما وحد الواحد - وهو الله - من واحد “ أي من أحد من حيث ذاته ، إذ كل من وحّده أي ادعى أنه وحّد الحق من حيث ذاته فهو جاهد لذاك التوحيد ومنكر له ، لأنه لا يقبل الإثنينية .
فإن وحّده بكونه الظاهر في المظاهر ، فقد أثبت تعددا وهو حالّ - بالتشديد - ومحلّ ، والله منزه عن كل منهما .
وإن أراد شهوده توحيد الذات فذلك ادعاء منه غير موافق لما طلب منه ، لأن ذلك الشهود يستلزم منه شاهدا ومشهودا وشهودا ، والتوحيد بخلاف ذلك .
فمن ثمّ قلنا : أن توحيد الحق من حيث ذاته - يعني من حيث أسماء ذاته - أنه أعلى مقامات التوحيد .
وأما توحيد الذات بلا واسطة اسم ذاتي فإنما هو توحيده إياه لا يكون لأحد ، وهو أصل التوحيد ، وحظ أصل المخلوقات ،
ومن ثمّ قال عليه الصلاة والسلام : “ لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك “ أي عني .
والمراد بقوله : “ على نفسك “ أي ذاتك التي هي حقيقتي ، فالكاف في نفسك راجع إلى نفس محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - كأنه يقول : “ لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك عني “ لعدم انتهاء كمالها ، يعني أني شهدت من ذاتي ما لا يتناهى ، وإدراك ما لا يتناهي بحد يستحيل ، لكنه لك غير مستحيل ، “
فالعجز عن درك الإدراك إدراك “ ، لأنه ليس محصول الإدراك إلا عجز [ العجز ] ، فسيد أهل هذا المقام - عليه الصلاة والسلام - عبّر بقوله : “ لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك “ ، والصديق الأكبر رضي الله عنه عبّر بقوله : “ العجز عن درك الإدراك إدراك “ .
وقد ضمّن هذا الكلام المصنف - قدس سره - في إنسانه الكامل حيث قال :
يا صورة حيّر الألباب معناك ..... يا دهشة أذهل الأكوان منشاك
يا غاية الغاية القصوى وآخر ما .... يلقى الرّشيد ضلالا بين معناك
عليك أنت كما أثنيت من كرم .... نزّهت في الحمد عن ثان وإشراك
فليس يدرك فيك المرء بغيته .... حاشاك من غاية في المجد حاشاك
فبالقصور اعترافي فيك معرفتي .... والعجز عن درك الإدراك إدراك “
"" الإنسان الكامل : الباب السابع والعشرون .""
وقوله :توحيد من ينطق عن نعته * عارية أبطلها الواحديعني من نطق بتوحيد الله تعالى في أي مشهد من المشاهد الثلاثة فإن ذلك التوحيد من الموحد عارية ، لأن وجود الموحد هو لله بطريق الأصالة ، وله بطريق العارية ، والعارية أمانة ، فمتى طلب المعير من المعار عاريته وجب عليه ردها .
والمعنى المراد من ذلك : أن النطق لا يكون إلا من ذي روح ، والروح هي لله - تعالى - فما وحّد الحق من الموحد إلا روحه ، والأرواح عارية في وجود الموجودات ، ومن ثمّ قال القائل :من ستر عورة بعارية * عار حقيقة عند أهل الكمال
وأما قوله :
توحيده إياه توحيده * فكل من ينعته لاحد فتوحيده إياه كما فهمت آنفا ما المراد منه ، فكل من ادعى ذلك التوحيد الذاتي فهو لاحد ، لا أن كل من ينعت الحق - تعالى - بالتوحيد هو لاحد - أي ملحد ، وهو المبعد عن الحق - حاشا وكلا ، فإن التوحيد مطلوب الحق من العباد ، وما أرسل الرسل إلا لتبين معالم التوحيد .
فإذا ناعت الحق بالتوحيد غير ملحد في توحيده ، وإنما الملحد من ادعى أنه وحّد الحق من حيث ذاته بغير واسطة شهود اسم أو صفة ذاتي أم صفاتي أم أفعالي ، فمن ادّعى أنه وحّد الحقّ التوحيد الذاتي فهو المعنيّ بالإلحاد فافهم .[ مجمع دقائق التنزيه والتحديد ]
وقوله : مجمع دقائق التنزيه والتحديد ( 1 ) ، لأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة .
والشاهد لذلك ما روي عن بعض الورثة أنه قال في مقام التحدث بالنعمة : “ والله ما دبت نملة سوداء في ليلة ظلماء على صخرة صماء ولم أحس بها إلا كنت مفتونا “ .
وقال آخر : “ والله لا أقول ولم أحس بها ، لأنها لا يكون لها ذلك المشي إلا بإذني “ .
فإذا كان من ورثته من له هذا المقام فما بالك بسيدهم الذي الأولون والآخرون قطرة في بحر معارفه .
ومن دقائق تنزيهه - عليه الصلاة والسلام - أن السوداء “ 1 “ التي أسلمت على يديه حين قال لها : أين الله ؟ أشارت بيدها إلى السماء ، فأقرها - عليه السلام - على توحيدها ، وإن كان إشارتها إلى السماء في الظاهر غير مطلوب للشرع ، لأنه وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [ سورة الزخرف: الآية 84 ]
لكنه - عليه الصلاة والسلام - فهم منها حيث أشارت إلى السماء تعظيم الله تعالى ، لأن العلو في تنزيهها لا يستحقه إلا عظيم ، ولا أعظم من الحق تعالى ، فتلك الدقيقة التنزيهية التي شهدتها السوداء أقرها على إسلامها ، لأنه مجمع الحقائق التنزيهية والتحديد ،
كما أشار - عليه الصلاة والسلام - بقوله : “ لو أدلى أحدكم دلوه لوقع على الله “ .
قال الإمام الأكبر - قدس سره - في كتاب التجليات في تجل من تجليات المعرفة :
رأيت ابن عطاء في هذا التجلي .
فقلت يا ابن عطاء : إن غاص رجل جملك أجللت الله قد أجله معك الجمل فأين إجلالك بما تميزت عن جملك ؟؟ !.
هل كان الرجل من الجمل تطلب في غوصه سوى ربه .
قال ابن عطاء لذلك قلت : جل الله .
قلت له : فإن الجمل أعرف بالله منك ، فإنه أجله من إجلالك كما يطلبه الرأس في الفوق يطلبه الرجل في التحت .
فما بعدي الرجل ما يعطيه حقيقته .
يا ابن عطاء ما هذا منك بجميل .
يقول إمامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دليتم بحبل لوقع على الله فكان الجمل أعرف بالله منك !! .
هلا سلمت لكل طالب ربه صورة طلبه كما سلم لك .
تب إلى الله يا ابن عطاء فإن جملك أستاذك !!!! .
فقال : الإقالة .
فقلت له : أرفع الهمة .
فقال : مضى زمان رفع الهمم .
فقلت له : للهمم رفعٌ بالزمان وبغير الزمان .
زال الزمان فلا زمان أرفع الهمة في لا زمان تنل ما نبهتك عليه فالترقي دائم أبداً .
فتنبه ابن عطاء وقال : بورك فيك من أستاذ !!! .
ثم فتح هذا الباب فترقى فشاهد فحصل في ميزاني فأقر لي . وانصرفت .انتهى .
قلت قوله : فحصل في ميزاني يعني من حيث إيصاله له تلك المسألة التي لم تكن قبل لابن عطاء بها معرفة ، فما عرفها إلا من طريقه ، وهكذا لو أوصلها ابن عطاء إلى غيره ، فيصير ذلك الغير في ميزانه ، كما صار هو في ميزان غيره ، كما صار غيره في ميزان من أخذ منه ، كما يصير الكمل في ميزان محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم – "وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ"، وهو بحقيقة السرائر أعلم .
مجلى معاني جمالي القديم والجديد
ثم قال رضي الله عنه : مجلى معاني جمالي القديم والجديد .
يعني أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - مظهر معاني جمالي القديم - وهو الحق - والجديد - وهو الحادث - .
وجمال الحق - تعالى - هو تجليه بأسمائه وصفاته في أي من مظاهر مخلوقاته ، فقد ظهر بالصورة الشابية الأمردية الحسية ، ويظهر بالصورة المعنوية في باطن المعتقد للحق كما قال تعالى : “ أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي ما شاء ، فإني أهل لكل خير “ والقائل هذا القول هو الرسول - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - على لسان الحق بطريق النيابة لكونه خليفة ، فمن ثم كان مظهرا للمعاني الحقية .
وخصه هذا بمظهر الجمال دون الجلال لقوله تعالى :وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ” فهو مرآة الحق ، وفيها نظر الحق نفسه ، وبها رحم الله مخلوقاته .
وأما كونه مجلى لمعاني الحادث فإنه مرآة ، والمرآة تظهر فيها الصورة بحسبها لا بحسبها [ الصورة ] .
فإن أنكروا [ ف ] مثاله من الصحابة - رضي الله عنهم - رأوا أنفسهم في مشكاة النبوة في غاية الصفاء اللوني الجمالي ، فانطبعت صورهم في تلك المرآة انطباعا كليا ، لأنه
وقع نظرهم في مرآته عليه الصلاة والسلام من حيث المقابلة ، فأعطتهم حقائقهم التي شهدوها فيها .
وقولي : “ من حيث المقابلة “ يعني أن توجههم إلى مشكاة عين الوجود كان توجها كليا من غير شائبة خلاف ، بخلاف من عداهم فإنهم لم يتوجهوا إليه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - إلا بعد تمكن أنفسهم منهم على مخالفته ، فظهرت تلك المخالفة على بشرة وجوههم ، فلما نظروا مرآته نظروا أنفسهم القائمة بمظهر العداوة فاشمأزوا لذلك .
ولله در من قال :
رأى وجه من أهوى عذولي فقال لي ..... أجلك من وجه أراه كريها
فقلت له وجه الحبيب مرآة ....... وأنت ترى تمثال وجهك فيها
ومثله قول العفيف التلمساني :
يا قوم إن تألموني لا أبا لكم ..... فكل أرمد ضوء الشمس يؤذيه
ما أقبح الشكل في مرآة أعينكم ...... إذ كلكم شخصه فيها يلاقيه
وهو كما قال البوصيري :
لا تعجبن لحسود راح ينكرها ....... تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ....... وينكر الفم طعم الماء من سقم
فعين ما اهتدى به أولئك عين ما ضل به هؤلاء ، كما قال تعالى :"يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ"
وهم الذين فسدت قوابلهم عن إدراك معاني حقائقه ، يقال : فسقت البيضة يعني فسدت إذا لم تصلح للتفريخ ، وإن كان الضمير في “ يهدي به “ للقرآن ، فالقرآن خلقه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : “ كان خلقه القرآن ، يغضب لغضبه ، ويرضى لرضاه “ .
والكلام صفة المتكلم ، وكلامه شعبة من كلام الله بدليل :إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ، والقائل هو محمد صلى الله عليه وسلم عن الله في حضرة الاستخلاف ، والله يعصمنا وإياك من الخلاف ، ويمنحنا وإياك نور الائتلاف .
ويحتمل قوله - رضي الله عنه - : مجلى معاني جمالي القديم والجديد ، أنه أجمل شيء من المظاهر الحقية ومن المظاهر الخلقية ، يعني أحسن حقيقة - حقية كانت أو خلقية - لأن المعاني من حيثها لا تكون إلا حسنة في نفسها وهو مجلاها ، ومجلى الشيء مظهره الذي يظهر فيه .
ففيه ظهرت المعاني الحقية - وهو كونه متصفا بها - وهي التسعة والتسعون الاسم التي للحق .
وقد أورد اتصافه بها المصنف - قدس سره - في الكمالات ، واستشهد على كل اسم من تلك الأسماء بآية من كتاب الله أو بحديث من أحاديث رسول الله بأنه المعني بها ، وشرحها في حقه مفصلة كما ينبغي ، فإن أردت معرفة ذلك فعليك بما هنالك .
وكونه مجلى الحقائق الخلقية ، فإنها ظهرت به وتعينت فيه ، إذ لا ظهور لها إلا به ، ولا تعين لها إلا بتعينه فكان مجلاها .
أي مقلوبة فيه ، وهو القلب الذي وسع الحق في قوله : “ ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن “ .
ومن ثم قال ابن الفارض ""الصحيح الشيخ عفيف التلمساني من قصيدة إذا ماس من يهواك تيها فلا عتب "" :
وأصبحت معشوق القلوب بأسرها ..... وماذرة في الكون إلا لها قلب
""المحقق لم نعثر عليه في ديوان ابن الفارض قدّس سره ولكن الأشعار كما يلي :
إذا ماس من يهواك تيها فلا عتب ...... ومن ذا يرى ذاك الجمال فلا يصبو
ومن ذا الذي يسقى بذكرك قهوة ...... ولا ينثني تيها ويزهو به العجب
سبيت الورى حسنا وأنت محجب ...... فكيف بمن يهواك إن زالت الحجب
وأصبحت معشوق القلوب بأسرها ...... وماذرة في الكون إلا لها قلب
إذا سكر العشاق كنت نديمهم وأنت ...... لهم ساق وأنت لهم شرب
وإن زمزم الحادي ومالوا صبابة ...... فليس لهم قصد سواك ولا أرب
ولم لا يذوب العاشقون صبابة ...... ووجدا وسلطان الملاح لهم حب ""
وذرات الوجود جميعها الحق متجل فيها بغير حلول ، فلذلك كان كل ما تجلى فيه الحق وسعه قلب معرفة محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، فما تجلى إذا إلا قلب محمد .
وكل ذرة لها قلب وقلبها ما قلبت فيه فمن قلبها لها قلب .
صورة كمال الذات
ثم قال قدس سره : صورة كمال الذات ، الأزلي التخليد في جنات الصفات ، الأبدي الإطلاق في ميدان الأوليات .
اعلم أن النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - صورة الكمال الذاتي الإلهي ، المعبر عنه بالكنز المخفي ، الظاهر في الهيكل العبدي بلا حلول ، فإنه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - وضع مرآة للحق ، فبه رحم الله خلقه ، وبه عرفت خلقه حقه - أي حق النبي - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، وحقه عين حق الله ، بدليل "مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً”.
فصورة كماله في الظاهر وضع دليلا على كمال الله - تعالى - الغائب .
وكونه وضع دليلا على كمال الله لأن الخلق لا تطيق أن ترى صفة جمال أو جلال من صفات الله ، فما بالك أن تطيق رؤية كمال الله .
وأيضا فالذي نراه من الجمال إنما هو جمال الجلال ، وما نراه من الجلال إنما هو جلال الجمال ، والنبي - صلى الله عليه و آله وسلم - مظهر الجمال والجلال والكمال ، فظهر في الدنيا بالجمال ، وسيظهر في المحشر بالجلال ، وفي الجنة بالكمال .
والجمال عين الجلال ، وهما عين الكمال ، فظهر بالصور الثلاث ليعطي كل ذي حق حقه .
الأزلي التخليد في جنات الصفات
وقوله : الأزلي التخليد في جنات الصفات ، يعني أنه ظهر بالصورة الكمالية في الأزل ، وذلك الأزل أزل الحق لا أزل الخلق - يعني أزل الحق المخلوق به - .
فكأنه يقول : ظهر بصورة كماله في أزل أسمائه وصفاته ، لكن ذلك الظهور عين البطون ، لأنه لا غير ثم ، فالبطون عين الظهور ، كما أن الظهور عين البطون .
ومن ثم قال : في جنات الصفات ، والجن في اللغة هو الستر .
وقولي : “ أن هذا الأزل أزل الحق لا أزل الخلق “ ، لأن كل مخلوق له أزل متقدم على أزل غيره ، فإن أزل المعدن مثلا مقدم عليه أزل التراب ، وأزل التراب مقدم عليه أزل الماء ، وهكذا فافهم .
وقولي : “ أزل الحق المخلوق به “ هو الحقيقة المحمدية ، وهو برزخ البرازخ بين الحق والخلق ، والبرزخ ما قابل الطرفين بذاته ، وأزل الحق - سبحانه وتعالى - أمر معقول لا باعتبار تقدم الزمان حاشا وكلا .
الأبدي الإطلاق في ميدان الأوليات
وقوله : الأبدي الإطلاق في ميدان الأوليات فعكس - رضي الله عنه - لفظا لا معنى ، لعلمه بحقائق الأشياء ، فإن التخليد حقه أن يوصف بالأبدية ، والأزل حقه أن يوصف بالأولية ، لكن لما كان أزله - عليه الصلاة والسلام - عين أبده ، وأبده عين أزله ، أتى بالمعنى المخمول في اللفظ ، والمقصود من اللفظ معناه ،
وهذا كما قال الإمام الأكبر في الفصوص : “ وأرجو أن الحقّ لمّا سمع دعائي قد أجاب ندائي “ "" في المصدر : وأرجو أن يكون الحق لمّا سمع دعائي قد أجاب دعائي ، وهي فقرة من خطبة كتاب فصوص الحكم - المحقق ""
فحقه كان أن يقول :
وأرجو أن الحق لما سمع ندائي قد أجاب دعائي ، كما قال تعالى :أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ”
لكنه لحظ قوله تعالى : إنه سميع الدعاء ."" اقتباس من سورة إبراهيم ( 14 ) : الآية 39 وآخرها :إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. ""
رزقني الله وإياك مما رزقهم ، وعصمني وإياك مما عصمهم .
وإطلاق أبديته في ميدان الأوليات يعني أن أبديته أبدية مطلقة لا مقيدة بمدة دون مدة ، كما كانت أوليته مطلقة غير مقيدة بزمان مخلوق ، لأنه بارز من الكنز المخفي ، والكنز المخفي ليس له أولية زمان ، بل هو حق في حق أزل ، والحق أزل معقول في نفسه ، لأنه أمر واحد ، والأمر الواحد لا تتعقل فيه زيادة ولا نقصان ، تعالى الله عن الزيادة والنقصان .
فإذا فهمت هذا الكلام فما يمنعك أن تحكم بأن أبديته أبدية مطلقة غير مقيدة كأبدية غيره ، لأن غير الله لا بد وأن يحكم عليه بالانقطاع في الأبد ، لئلا يلزم مسايرة أبد المخلوق أبد الحق - كما مر - وهو ليس كذلك ، لأنه كان ولا خلقا ، وسيكون ولا خلقا ، ولك منه غاية الشرف على غيرك ، ومزية الكرامة على سواك ، لكونك نسخة منه ، وأنت حقيقته التي برزت عنه .
وتأمل معنى قوله تعالى :"وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا" وهي المشتقة من الدنو المعبر بالقرب ، أي لا تنس نصيبك أيها الإنسان من قرب شرفك بحبيب الرحمن ، فلو لاه لما خلقت ، ولو لاه لما خلقت الأفلاك .
فتدبر أيها الأخ في حقيقة معناك ، أنت في ذاك ، والله يهديك في سيرك ، لتأكل الزفر بيد غيرك .
صلى الله عليه وسلم وعلى آله الهداة القداة
ثم قال رضي الله عنه : - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - ، وعلى آله الهداة القداة المتحلين بحليته ، المتحولين في أحواله ، القائمين عنه له في مقامه له بأحواله وأفعاله ، وعلى أصحابه وعترته وأنسابه ، وشرف وكرم وعظم .
اعلم أن الصلاة من الله رحمة ، ومن الملائكة استغفار ، ومن المؤمنين دعاء وتضرع .
فمعنى : الصلاة من الله الرحمة أن الصلاة صلة بين العبد وربه ، وهي الرحمة التي رحم بها الموجودات حيث أوجدهم من ظلمة العدم إلى نور الوجود ، فأول رحمة سبقت من الله - تعالى - هي الرحم المعبر عنها بالكنز المخفي البارز من غيب غيب الأحدية ، ومنها وصلت الرحمة إلى الملائكة ، ومنها إلينا .
فالملائكة تزعم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه منها ، ومن ثمّ قدحت في أب الأشباح آدم - عليه الصلاة والسلام - الذي هو في الظاهر مظهر أب الأرواح - وهو محمد - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - بقولها حين قال لها الحق :إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ” سورة البقرة ( 2 ) : الآية 30 “
قالوا ذلك في معرض الافتخار ، ولم يعلموا أنهم إنما سبحوا الحق وقدسوه بأسماء دون أسماء .
ولم تكن جمعية الأسماء - التي يستحق بها التسبيح والتقديس عندهم - كما هي عند آدم - الذي هو محل الجمعية الكبرى الشاملة لما علموه ولما لم يعلموه - ،
فقال جل جلاله :"قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ” أي بأسماء تسبيحي وتقديسي - التي لم يسبحوني ولم يقدسوني بها - وإنما سبحوني وقدسوني بما عندهم من الأسماء لا بما عندك ، فاستغفرت الملائكة مما صدر عنها في حق آدم .
هذا معنى الصلاة في حق الملائكة من باب الإشارة .
ومن المؤمنين - وهم الذين آمنوا بكمالاته غيبا ، فدخل فيهم الأنبياء والمرسلون وعامة المؤمنين على اختلاف إيمانهم حسب نقصهم وكمالهم - دعاء وتضرع إلى الله - سبحانه وتعالى - أن ينيلهم معرفة كمالات نبيه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - عينا كما آمنوا بها غيبا .
وعلى آله ( 1 ) ، أي : والصلاة المعبر عنها بالرحمة العامة على آل النبي ، وهم أهل بيته ويشمل أمته .
والمراد : أهله الوارثون له في الكمالات ، وهي ما جاء به إليهم مما شرع لهم ، فمن اتفق له أهلية الدين والطين فذاك أكمل الكملاء ، وإلا فالكمال بالاتباع الديني ، فإن الاتباع يجعل التابع بعضا من المتبوع كما قال عليه الصلاة والسلام : “ سلمان منا أهل البيت “ ، ولا شك في أن سلمان من العجم ، لكن تلك ثمرة المتابعة .
ومن ثم قال في وصفهم : الهداة ، جمع هادي ، القداة جمع قدوة ، ولا يهدي إلا من يقتدى به ، ولا يقتدى إلا بمن يهدي ، فهم الذين هدوا الناس إلى معرفة الحق ، وأمرنا بالاقتداء بهم كما قال عليه الصلاة والسلام : “ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
يعني بأي صاحب من أصحابي اقتديتم بهم [ أي : ] بنجم معرفته - وهي ما أودعتها في قابليته - اهتديتم بتلك المعرفة التي نلتموها من صاحبي - التي نالها مني - في ظلم جهالاتكم ، فتتضح لكم السبيل .
والأصل في ذلك الله - سبحانه وتعالى - بأن جعل أكمل قابلية لأعباء رسالته قابلية نبيه - صلى الله عليه و [ آله ] وسلم - .
اختص له في زمنه من له مزية القابلية على غيرهم ، وهم أصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - ، فبث في قوالبهم ما قبله حسب قابلية كل واحد منهم ، وبثوا هم أيضا على من بعدهم وهم التابعون ، والتابعون على من بعدهم ، وهكذا إلى أن وصل الأمر إلينا ، وسيصل إلى من بعدنا .
ثم لمّا كان الصحابة لم يقبلوا منه - عليه الصلاة والسلام - إلا بقدر قوابلهم - وقابلية كل منهم بالنسبة إلى قابلية النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - جزئية ، وقابليته كلية - ، فما قبلوا إلا حسب قوابلهم ، وبقي الفيض الإلهي الذي في قابلية النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - ،
كما هو اشتاق - صلى الله عليه و آله وسلم - إلى إخوانه الذين من بعده - وهم ورثته الخاصة فيما جاء به مما هو من خصائصهم –
فقال صلى الله عليه وسلم : “ وا شوقاه إلى إخواني الذين من بعدي “ ، وهؤلاء هم الذين أخذوا علمهم منه - صلى الله عليه و آله وسلم - بلا واسطة ، بل بالتلقي من قابليته إلى قوابلهم ، فهم ملحقون بأهله الهداة القداة المتحلين بحليته ، كالعلم ، والحلم ، والصبر ، والسكون ، والعدل ، والزهد ، والتوكل ، والتواضع ، والعفو ، والعفة ، والحياء ، والمروة ، والصمت ، والصدق ، والوفاء بالعهد ، والمودة ، والرحمة ، وحسن الأدب والمعاشرة ، والهداية للخلق ، وحب الخير لكل أحد ، ووضع الحكمة في محلها ، إلى غير ذلك من كمال حليته .
فمجال هذا الباب في حقه - صلى الله عليه وآله وسلم - ممتد تنقطع دون نفاده الأدلاء ، وبحر علم خصائصه زاخر لا تدركه الدلاء ، ولكننا آتينا بقل من كلّ ، وغيض من فيض .
المتحولين في أحواله
وقوله : المتحولين في أحواله ، من ثمرات تجلياته ، التي هم مظاهرها بعده - صلى الله عليه و آله وسلم - .
لأن التجلي الإلهي إذا نسب إلى العبد قيل فيه : حال ، وإذا نسب إلى الحق قيل فيه :
شأن .
وأحواله باقية يتحولون فيها القائمون عنه له ، لا عنهم ولا لهم ، بل عن الخاتم وللخاتم في مقامه .
وذلك القيام هو بأحواله وأفعاله مما كان ظاهرا به ومأمورا بفعله ، وهؤلاء نوابه فيما لا بد أن ينوبوا فيه عنه .
وعلى أصحابه وعترته وأنسابه ، وشرف وكرم وعظم
ثم قال : وعلى أصحابه ، يشمل من صحبه وهو مسلم .
وعلى تفسير الآل بما يشمل الصحب وغيرهم في الأول يكون العطف هنا عطف تفسير للآل ، فكما دخل في الآل الصحب وغيرهم مما ذكرنا كذلك أيضا يدخل في الصحب والآل غيرهم ، كمن رآه في النوم على قول أهل الإشارة ، فإن له الصحبة بدليل : “ من رآني في النوم فكأنما رآني في اليقظة من أن الشيطان لا يتمثل بصورتي “ .
وعترته ، هم المنتسبون إليه من ذريته .
وأنسابه مما شملهم قربه الصوري والمعنوي طينا ودينا .
فالصلاة المعبر عنها بالرحمة من الله - تعالى - تكون على النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - وعلى آله وصحبه وعترته وأنسابه .
وشرّف ، أي : وشرف الله محمدا وآله وصحبه وعترته وأنسابه على كل من عداهم غير الأنبياء والمرسلين الذين هو أفضلهم .
وكرّم ، أي وكرّم الله محمدا على من شرّفه وآله وصحبه وعترته وأنسابه كما فهمت في قوله : وشرّف .
وعظّم ،أي وعظّم الله محمدا على من كرّمه ، فهو المشرّف والمكرّم والمعظّم وآله وصحبه وعترته وأنسابه ، والله أعلم .
فإني استخرت الله - تعالى - في إملاء هذا الكتاب
ثم قال رضي الله عنه : أما بعد فإني استخرت الله - تعالى - في إملاء هذا الكتاب المسمى بالكهف والرقيم في شرح بسم اللّه الرّحمن الرّحيم .
أتى بفصل الخطاب دليلا على أن الله آتاه الفصل في حقائق المعاني الحقانية كما قال تعالى :"وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ".
قيل : هي أما بعد واستخارته الله دليلا على سعادته كما قال عليه الصلاة والسلام :
“ من سعادة ابن آدم عمله استخارة الله “ ، ودليلا على أن الله - تعالى أخاره تيسيره له هذا الكتاب - الذي أتى فيه بالعجب العجاب - فهو كما قيل : “ الصيد كل الصيد في جوف الفراء “ .
وهو أول مصنف له كما أفادنيه من ذكره منه في : شرح مشكلات الفتوحات المكية وفتح الأبواب المغلقة من العلوم اللدنية .
""قال في المصدر وقد وضعنا في البسملة كتابا شرحناها فيه أيام البداية وسميناه بالكهف والرقيم في شرح بسم اللّه الرحمن الرحيم وهذا الكتاب المذكور أول كتاب صنفناه في علم الحقيقة فالحمد لمن جعل أول تصنيفاتي في بسم اللّه الرحمن الرحيم ليقع كمال النسبة الإلهية في إظهار الحقائق صورة ومعنى ""
فانظر إلى فضل الله عليه حيث جعل له غاية الشرف والنسبة بأن كان شارحا أولا ما به مفتاح الوجود أولا ، فلله درّه من كامل ما أكمله .
وإشارته بقوله : فإني استخرت الله تعالى في إملاء هذا الكتاب ،
يعني : المعقول ذهنا وإن لم يكن له وجود في الخارج لكنه موجود في الذهن بل موجود في الخارج ، لأن الذهن موجود في الخارج ، وما وجد في الخارج فهو في الخارج .
وتسميته له بالكهف والرقيم ، فالكهف - في اللغة - : هو الغار في الجبل ،
والرقيم : هو اللوح ، ومعناه هنا كهف معاني الحقائق ، يعني أن الحقائق مكهوفة فيه وهو كهفها - أي الحاوي لها - .
ولمّا كان الكهف باعتبار البطون كان الرقيم الذي هو [ اللوح ] باعتبار الظهور ، لأن الأمر بين بطون وظهور .
فالمعاني في كهف بسم اللّه الرحمن الرحيم باطنة ، وفي لوحها ظاهرة .
وهذا الكتاب هو الشامل للمرتبة البطونية - وهو كون المعاني في كهفه أي في باطنه - وللمرتبة الظهورية - وهو كون المعاني المحمولة في الألفاظ الظاهرة ظاهرة باعتبار مفهومها لأهلها - .
وأيضا فمهما عبّر المعبّرون عن معاني بسم اللّه الرحمن الرحيم - في أي علم كان ذلك التعبير - فإنه كقطرة من بحر ، ولذلك قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه : “ لو فسرت الفاتحة لو قرت منها سبعين بعيرا ، وما في الفاتحة في بسملتها “ .
ومن ثم ورد : “ كل ما في الفاتحة فهو في بسم اللّه الرحمن الرحيم - كما سيجئ قريبا - ، وما في بسملتها فهو في باء ، وما في بائها فهو في نقطة الباء التي برزت منها جميع علوم الأولين والآخرين “ .
ومن ثمّ كان تجلي النقطة مخصوصا بالذاتيين ، وهم أعلى درجة من أهل عالم الأنفاس ، وهم المحققون ، لأن التجلي الذاتي لصاحبه ما لغيره من تجليات الأسماء والصفات فضلا عن أسماء الأفعال ولا عكس ، وليس المحقق إلا الله كما هو مقرر في كتب أهل الحقائق .
ومرادهم بذلك - والله أعلم - أن تجلي صفة هذا الاسم الجامع - وهي الألوهة - لا تقع إلا على الإنسان الكامل ، لأن قابليته أوسع القوابل ، وورثته هم المحققون ، فقوابلهم قابلة لتجلي الألوهة .
وإذا تجلى عليهم بها أعطوا التصرف بكلمة الحضرة المعبّر عنها “ بكن “ ، فيكون المحقق حينئذ يمنع ويعطي ، ويعزل ويولي .
ولا يمنع ويعطي ويولي ويعزل إلا الله وهو المحقق ، فافهم ما أرادوا من ذلك فيكون كما قيل :
تملك في الزمان كما تريد ..... فمولى أنت نحن لك العبيد
وسل السيف في عنق الأعادي ..... فسيفك في العدا ذكر حديد
فهب ما شئت وامنع لا لبخل ..... ولكن كي تجود بما تريد
فمن أسعدته بالقرب يدنو ..... ومن اشقيته فهو البعيد
وملك من تريد من الأماني ..... وحقر من أردت فلا يسود
وابرم ما عقدت ولا حلول ..... واعقد ما برمت هو الفقيد
ولا تخش العقاب على قضاء ..... وكل تحت سيفك لا يميد
لك الملكوت ثم الملك ملك ..... لك الجبروت والملا السعيد
لك العرش المجيد مكان عز ..... على الكرسي تبدي أو تعيد
وهذا مقام الإنسان الكامل ، الذي هو روح الأواخر والأوائل ، المعبر عنه بنظر الله في العالم ، الوارث للسيد الخاتم ، فيما خصّ به من بين بني آدم ، والله اعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب .
وذلك بعد باعث رحماني إجابة لسؤال أخ عارف رباني
وقوله رضي الله عنه : وذلك بعد باعث رحماني .
أي أن إملائي لهذا الكتاب بعد باعث رحماني وهو نتيجة استخارته .
وقوله : إجابة لسؤال أخ عارف رباني .
يعني أن ذلك الباعث - الذي بعثني على الإملاء لهذا الكتاب - إجابة لسؤال السائل الآتي ذكره ، يعني أن الحق - سبحانه وتعالى - أمرني أن أجيب مسألته ، وجعلها على يدي منة وفضلا :ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ.
وقوله : أخ أي أخاه من حيث الطريقة لأن أبناء الطريقة كلهم أولاد رجل واحد وهو النبي - صلى الله عليه و آله وسلم - فهم أخوان .
ولله درّ ابن الفارض حيث قال :
نسب أقرب في شرع الهوى * بيننا من نسب من أبوي
ولقد قال في التائية - قدس سره - :
وليسوا يقوي ما استغابوا تهتكي * فأبدوا قلى واستحسنوا فيك جفوتي
وأهلي في دين الهوى أهله وقد * رضوا لي عاري واستطابوا فضيحتي
فمن شاء فليغضب سواك فلا إذا * إذا رضيت عني كرام عشيرتي
ووصفه له بأنه : عارف رباني
من حيث أنه عارف بالله ، رباني منسوب إلى الرب في تربية الخلق .
وتربيته لخلقه على حسب قوابلهم ، وقوابلهم على حسب محاتدهم ، ومحتد كل نفس جزئية النفس الكلية ، والمرتبة الربية محتد النفس الكلية ، فما قبلت النفوس التعليم إلا من أصل أصلها .
ومن ثم ورد مخاطبات الكليم - عليه الصلاة والسلام - في حضرة الرب جل وعلا .
وقال إبراهيم عليه السلام :رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى.
وقال موسى عليه السلام :رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ.
وقال سليمان عليه السلام :قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي”.
وقال سيد أهل هذا المقام عليه أفضل الصلاة والسلام :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.
فالمرتبة الربية شأنها إعطاء الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بحسب قوابلهم الكاملة من تعليمهم علم ما احتاج إليه أيّ رسول ، بأيّ كتاب ، في أيّ زمان ، على أيّ أمة - تفصيلا وإجمالا - من أحكام ومواعظ وقصص وضروب أمثال ، إلى حد ما ظهر به كلّ رسول مما لا بدّ أن يظهر به .
وما ظهر أحد بالأكملية التي لم يسبق أحد بإظهارها ، ولا ينبغي لأحد أن يظهر بها إلا محمد - صلى الله عليه و آله وسلم - .
فكان لورثته من تعليم تلك الأكملية بحكم النيابة ما لم يكن لغيرهم من الورثة ، ومن ثم كان في حقهم : “ علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل “ .
ثم منهم تعلمت الخاصة والعامة إذ هم خاصة الخاصة ، فمعلمهم الرَّحْمنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْآنَ”.
فهم الحكماء الذين يضعون الحكمة في محلها ، ويمنعونها عن غير أهلها ، كما قال عليه الصلاة والسلام : “ لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تعطوها غير أهلها فتظلموها “ .
وهذا الحديث معناه - والله أعلم - في حق الزاعم بزعمه أنه أهل لنيل الحكمة ، فيطلبها من الحكماء المرادين بالعلماء بالله فيمنعوها إياه ،
فكان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول لمن هذا حاله : إنما أمرتهم أن لا يعطوا الحكمة غير أهلها .
هذا هو الأولى في معنى هذا الحديث ، وإلا فلا يسوغ أن يكونوا حكماء ثم لا يعرفون من هو المستحق لإعطاء الحكمة ممن لا هو مستحق ، هذا لا يجمل بالحكيم ، بل الحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها حسب ما ينبغي ويراد على ما اقتضاه المراد .وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ” 2 “ وهو يهدي إليه من أراده له فلا يكله عليه .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin