ويذكر ابن كثير هذه الرواية، بطريقة مسرحية هزلية تذكرنا بافتراء رواية التحكيم الرافضية التي سبقت هذه الحادثة بربع قرن، فيقول: «...أَنَّ أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية، وَوَلَّوْا عَلَى قُرَيْشٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرُوا ذلك، واجتمعوا عند المنبر، فجعل الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: قَدْ خَلَعْتُ يَزِيدَ كَمَا خَلَعْتُ عِمَامَتِي هَذِهِ، وَيُلْقِيهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَيَقُولُ الْآخَرُ: قَدْ خَلَعْتُهُ كَمَا خَلَعْتُ نَعْلِي هَذِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَمَائِمِ وَالنِّعَالِ هُنَاكَ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى إِخْرَاجِ عَامِلِ يَزِيدَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ» ([176]).
كل هذه الروايات ليس فيها رواية يمكن أن نطمئن إليها، ولذلك يمكن القول إن معركة الحرة قد حدثت، وأسبابها أن هؤلاء النفر الشباب لم تعجبهم طريقة تولية يزيد، ولا طريقته في الحكم، فرأوا أن يعيدوا الأمر شورى، ولذلك ثاروا على يزيد.
وعندها بدأ عدد من الصحابة، والباقون من أبنائهم يعتزلون هذه الفتنة في المدينة، فـ«اعْتَزَلَ النَّاسَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ «زَيْنُ الْعَابِدِينَ»، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر بن الخطاب، لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِأَهْلِهِ: «لَا يَخْلَعَنَّ أحد منكم يزيد، فتكون الْفَيْصَلُ... وَيُرْوَى الصَّيْلَمُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مُبَايَعَتِهِمْ لِابْنِ مُطِيعٍ، وَابْنِ حَنْظَلَةَ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»([177]).
ويقول ابن كثير في مكان آخر: «وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَجَمَاعَاتُ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضِ الْعَهْدَ، وَلَا بَايَعَ أَحَدًا بَعْدَ بَيْعَتِهِ لِيَزِيدَ».
وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: «لَمَّا كَانَ زَمَنُ الحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى المَوْتِ، فَقَالَ: لاَ أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([178]).
كَمَا روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بسند صحيح: «عَنْ نَافِعٍ: لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّه وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»([179])، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّه تَعَالَى، أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يَنْكُثَ بَيْعَتَهُ، فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَيَكُونَ صَيْلَمٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ»([180]).
وإن الذين بدؤوا يجيشون الناس ضد يزيد، بدؤوا بالدعايات التي تؤدي إلى حفز الناس على القتال، وذكروا له فسقاً، وشرباً للخمر، وتركاً للصلاة.
وذكر ابن سعد في طبقاته عن الصحابي أسير: عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُسَيْرٍ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتُخْلِفَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّ يَزِيدَ لَيْسَ بِخَيْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَلَا أَفْقَهِهَا فِقْهًا، وَلَا أَعْظَمِهَا فِيهَا شَرَفًا، وَأَنَا أَقُول ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ، لَأَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَفَرَّقَ، أَرَأَيْتَكُمْ بَابًا لَوْ دَخَلَ فِيهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسِعَهُمْ، أَكَانَ يَعْجِزُ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَوْ دَخَلَ فِيهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: لَا قَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَا أُهْرِيقُ دَمَ أَخِي، وَلَا آخُذُ مَالَهُ، أَكَانَ هَذَا يَسَعُهُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَذَلِكَ مَا أَقُولُ لَكُمْ»([181]).
وقد اعترض عليهم ابن عمر، وكذّب دعاويهم، يقول ابن كثير: «ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد، مشى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَدْ حَضَرْتُهُ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ، قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصَنُّعًا لَكَ، فَقَالَ: وَمَا الَّذِي خَافَ مِنِّي، أَوْ رَجَا حَتَّى يُظْهِرَ إِلَيَّ الْخُشُوعَ؟ أَفَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنَّكُمْ لَشُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَكُمْ، فَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا.
قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا لَحَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يكن رأيناه.
فقال لهم: أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: ﴿إِلَّا من شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 86]، وَلَسْتُ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي شَيْءٍ.
قَالُوا: فَلَعَلَّكَ تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أَمْرَنَا.
قَالَ: مَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ عَلَى مَا تُرِيدُونَنِي عَلَيْهِ تَابِعًا وَلَا مَتْبُوعًا.
قَالُوا: فَقَدْ قَاتَلْتَ مَعَ أَبِيكَ، قَالَ: جِيئُونِي بِمِثْلِ أَبِي أُقَاتِلُ عَلَى مِثْلِ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ.
فَقَالُوا: فمر ابنيك أبا القاسم وَالْقَاسِمَ بِالْقِتَالِ مَعَنَا.
قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُمَا قَاتَلْتُ.
قَالُوا: فَقُمْ مَعَنَا مَقَامًا تَحُضُّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى الْقِتَالِ.
قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ!! آمُرُ النَّاسَ بِمَا لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَرْضَاهُ إِذَا مَا نَصَحْتُ للَّه فِي عِبَادِهِ.
قَالُوا: إِذًا نُكْرِهُكَ.
قال: إذاً آمر الناس بتقوى اللَّه، ولا يرضون الْمَخْلُوقَ بِسَخَطِ الْخَالِقِ.
وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ»([182]).
وهذا يقوي ما قاله ابن كثير: «وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ سئل محمد بن الحنفية في ذلك، فامتنع عن ذلك أشد الامتناع، وَنَاظَرَهُمْ، وَجَادَلَهُمْ فِي يَزِيدَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا اتهموا يزيد به من شرب الْخَمْرَ، وَتَرْكِهِ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا»([183]).
فالحال هنا أصله في إعادة الأمر شورى، واستطاع كُتّاب التاريخ المغرضون أن يزيدوا في الروايات، ويجعلوا لها امتداداً من المخالفات والمعاصي التي تغطي سيرة الأمويين، فقد بدأت منذ كان معاوية، وامتدت إلى نهاية العصر الأموي، وحتى ما كان يفعل علي ومعاوية أثناء حياتهما أن كل واحد منهما عندما يقوم بأي خطبة يبرر ما قام به من حرب لإعادة الحق إلى نصابه، وبدؤوا يصورون للناس في كتبهم أن هذا شتم، ولما استشهد علي في البداية، وجاء بعده الحسين قليلاً من الزمان، فانتهت رواية الهاشميين في الأمر مبكرة، بينما بقي الأمويون يحتاجون إلى تبرير الخلاف مع علي إلى نهاية أمرهم، فسمى المؤرخون، وخاصة أن أكثرهم من الروافض، أو ممن تأثر بهم، سموا هذا شتماً لعلي على المنابر، واخترعوا ألفاظاً من الشتائم والقاذورات، واتهموا بها بني أمية، وقد أوردها الطبري عن رجلين من أسوأ إسناد في التاريخ، وهما أبو مخنف لوط بن يحيى الرافضي، وهشام بن محمد الكلبي الكذاب، وتناقلها المؤرخون وزادوا وأنقصوا فيها، وبرؤوا منها عمر بن عبد العزيز الذي رأى أن الأمر انتهى إلى عمر بن عبد العزيز فأبطله.
وإن الروايات تعددت، وتكاثرت حول وقعة الحرة، وما حصل فيها، وما تلاها، وهذا ما دعا ابن كثير أن يرفض كثيراً من الروايات، فقال عن بعض الذين رفضوا بيعة الثائرين في المدينة، وما حصل فيها فقال: «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ:
مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ضَعُوا لَهُ وِسَادَةً.
فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ مُفَارِقَ الجماعة، فإنه يموت موتة جَاهِلِيَّةً» ([184]).
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ، وَلَمَّا قَدِمَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ أكرمه وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَأَعْطَاهُ كِتَابَ أَمَانٍ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ إِلَى يَزِيدَ بِبِشَارَةِ الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ: وَاقَوْمَاهُ، ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بن قيس الفهري فَقَالَ لَهُ: تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فما الَّذِي يُجْبِرُهُمْ؟ قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَةُ، فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ.
وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ شمت بهم، واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكراً، وأثراً شِعْرَ ابْنِ الزِّبَعْرَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ»([185]).
إذن لم يفرح يزيد بما حدث، كما يدّعي الروافض، واعتبره مصيبة له، فصرخ: «واقوماه»، وأرسل إليهم ما يجبر خواطرهم، ويخفف عنهم.
وعندما حاصر الثائرون بني أمية في المدينة، وأرادوا مقاتلتهم، فراسلوه: «وَكَتَبَ بَنُو أُمَيَّةَ إِلَى يَزِيدَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ وَالْإِهَانَةِ، وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَإِلَّا اسْتُؤْصِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَبَعَثُوا ذَلِكَ مَعَ الْبَرِيد»([186]).
وهنا استشاط يزيد غضباً، فزعماء الثائرين هم من كانوا عنده، وأخذوا عطاياه، ولما رجعوا إلى المدينة ثاروا عليه، وهذا ما يشير إليه قول ابن الجوزي: «ثمَّ إِن يزِيد عزل عَن الْمَدِينَة عَمْرو بن سعيد، وولاها الْوَلِيد بن عتبَة، ثمَّ عَزله، وَولى عُثْمَان بن مُحَمَّد، فَوَثَبَ عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة فأخرجوه، فَوجه يزِيد مُسلم بن عقبَة، وَأمره أَن يتَّخذ الْمَدِينَة طَرِيقًا، فَإِن هم تَرَكُوهُ مضى إِلَى ابْن الزبير فقاتله، فَإِن منعُوهُ دُخُولهَا ناجزهم الْقِتَال، فمنعوه فَكَانَت الْحرَّة»([187]).
ويروي ابن كثير طريقة تولية مسلم بن عقبة على المدينة، فينقل عن المدائني «قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ حِمْصَ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ السَّكُونِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ الْأُرْدُنِّ حُبَيْشَ بْنَ دُلْجَةَ الْقَيْنِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ وَشَرِيكَ الْكِنَانِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ قِنَّسْرِينَ طَرِيفَ بن الحسحاس الهلالي، وعليهم مسلم بن عقبة المزني من غطفان، وإنَّما يسميه السَّلف مسرف بن عقبة.
فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ - وَكَانَ النُّعْمَانُ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ لِأُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ - فَقَالَ يَزِيدُ: لَا! لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا هَذَا الغشمة، واللَّه لأقتلنهم بَعْدَ إِحْسَانِي إِلَيْهِمْ، وَعَفْوِي عَنْهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مرة.
فقال النعمان: يا أمير المؤمنين، أنشدك اللَّه فِي عَشِيرَتِكَ، وَأَنْصَارِ رَسُولُ اللَّهِ r.
وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل مِنْهُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم، وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا ظهرت عليهم، فأبح المدينة ثلاثاً، ثم اكفف عن الناس، وَانْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَاكْفُفْ عَنْهُ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يدخل في شيء مما دخلوا فيه»([188]).
وبعد ذلك أرسل يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة المري، يقول ابن كثير ؒ: «وَسَارَ مُسْلِمٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا اجْتَهَدَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِصَارِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، أو تعطونا مَوْثِقًا أَنْ لَا تَدُلُّوا عَلَيْنَا أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّامِيِّينَ، وَلَا تُمَالِئُوهُمْ عَلَيْنَا، فَأَعْطَوْهُمُ الْعُهُودَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ تَلَقَّاهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ، فَجَعَلَ مُسْلِمٌ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُخْبِرُهُ أَحَدٌ، فَانْحَصَرَ لِذَلِكَ، وَجَاءَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ النَّصْرَ، فَانْزِلْ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، فَإِذَا خَرَجُوا إِلَيْكَ كَانَتِ الشَّمْسُ فِي أَقْفِيَتِكُمْ وَفِي وُجُوهِهِمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ إِذْ خالفوا الإمام، وخرجوا عن الطَّاعَةِ.
فَشَكَرَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَامْتَثَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، وَدَعَا أَهْلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَوْنَ إِلَّا الْمُحَارَبَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ، فَلَمَّا مَضَتِ الثلاثة قَالَ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: إِنَّكُمْ أَصْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَإِنَّهُ يَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُؤَجِّلَكُمْ ثَلَاثًا، فَقَدْ مَضَتْ، فماذا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟ فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.
فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا، وَنَجْعَلُ جَدَّنَا وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا الْمُلْحِدِ، يَعْنِي ابْنَ الزبير، فقالوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ! لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ، أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ فَتُلْحِدُونَ فِي بيت اللَّه الحرام؟ ثم تهيأوا لِلْقِتَالِ»([189]).
فنرى كيف أن جيش يزيد يحاول قدر استطاعته الابتعاد عن القتال، والثائرون مصرون على هذا القتال، ويؤكدون فساد يزيد، ووجوب حربه، والخروج من طاعته.
ويتحدث أبو العباس القرطبي [صاحب شرح صحيح مسلم، وليس القرطبي المفسّر]: «وعبد اللَّه بن مطيع كان أميرًا على المدينة عند قيام ابن الزبير على يزيد بن معاوية في جماعة من أبناء المهاجرين والأنصار، وبقية من مشيختهم، وجمع من الصحابة، وعلى يديه كانت وقعة الحرَّة في الجيش الذي وَجَّه به يزيد بن معاوية لحربهم، فهزموا أهل المدينة، وقتلوهم، واستباحوها ثلاثة أيام، وقُتِل فيها عدة من بقية الصَّحابة من أبناء المهاجرين والأنصار، وعطلت الصلاة، والأذان في مسجد النبي r تلك الأيام، قاله القاضي عياض، وقال غيره من أهل التاريخ: إن الذي وجهه يزيد بن معاوية إلى المدينة، وكانت على يديه وقعة الحرَّة هو مسلم بن عقبة المرّي، واللَّه أعلم»([190])، فنلاحظ أن رواية القرطبي فيها كثير من الأغاليط، حيث ذكر ثورة ابن الزبير رضي الله عنه، وثورة أهل المدينة، وجعل في الثورتين عدداً من الصحابة في كل واحدة، وعدداَ كبيراً من أولاد الصحابة، ورأينا كيف أن الصحابة وأكثر أولادهم اعتزلوا هذه الفتنة، وخصوصاً أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن التحليلات التي تقارب الحقيقة – على ما أرى – ما ذكره الإمام ابن حجر: «وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رُمَّانَةَ «أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَالَ لِيَزِيدَ: قَدْ وَطَّأْتُ لَكَ الْبِلَادَ، وَمَهَّدْتُ لَكَ النَّاسَ، وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكَ إِلَّا أَهْلَ الْحِجَازِ، فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُمْ رَيْبٌ، فَوَجِّهْ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، فَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُهُ، وَعَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ، قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ مِنْ خِلَافِهِمْ عَلَيْهِ مَا كَانَ دَعَاهُ، فَوَجَّهَهُ فَأَبَاحَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ، وَأَنَّهُمْ أَعْبُدٌ لَهُ قِنٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ أَظْهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْخِلَافَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَوَجَّهَ يَزِيدُ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فِي جَيْشِ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثمَّ يسير إِلَى ابن الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، وَبِهَا بَقَايَا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَسْرَفَ فِي الْقَتْلِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخه بِسَنَد صَحِيح عَن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً/ ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها﴾»، يَعْنِي إِدْخَالَ بَنِي حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ، قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، قَوْلُهُ: «حَشَمَهُ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَة، قَالَ ابن التِّينِ: الْحَشَمَةُ الْعَصَبَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا خَدَمُهُ، وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يزِيد بن مُعَاوِيَة، جمع ابن عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، قَوْلُهُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ «بِقَدْرِ غدرته»، وَزَاد فِي رِوَايَة صَخْر يُقَال: «هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»، أَيْ: عَلَامَةُ غَدْرَتِهِ، وَالْمُرَادُ بذلك شهرته، وأن يفتضح بذلك على رُؤُوس الْأَشْهَادِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْغَدْرِ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ، أَوِ الْمَأْمُورِ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي بَابِ إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ قُبَيْلَ بَدْءِ الْخَلْقِ، قَوْلُهُ: «عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، أَيْ: عَلَى شَرْطِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ بَايَعَ أَمِيرًا، فَقَدْ أَعْطَاهُ الطَّاعَةَ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعَطِيَّةَ، فَكَانَ شَبِيهَ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً، وَأَخَذَ ثَمَنَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا تَبَايَعَتْ تَصَافَقَتْ بِالْأَكُفِّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا تَحَالَفُوا، فَسَمَّوْا مُعَاهَدَةَ الْوُلَاةِ وَالْتَّمَاسُكَ فِيهِ بِالْأَيْدِي بَيْعَةً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ وَصَخْرٍ: «عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ»، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رَفَعَهُ: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، قَوْلُهُ: «وَلَا غَدْرَ أَعْظَمُ» فِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ الْمَذْكُورِ: «وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ، ثُمَّ يَنْكُثُ بَيْعَتَهُ»، قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَنْصِبُ لَهُ الْقِتَالَ» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «نَصَبَ لَهُ يُقَاتِلُهُ»، قَوْلُهُ: «خَلَعَهُ»، فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «خَلَعَ يَزِيدَ»، وَزَادَ: «أَوْ خَفَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ»، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ: «فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يَسْعَى فِي هَذَا الْأَمْرِ»، قَوْلُهُ: «وَلَا تَابَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ»، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ، قَوْلُهُ: «إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، أَيِ: الْقَاطِعَةُ، وَهِيَ فَيْعَلٌ مِنْ فَصَلَ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «فَيَكُونُ الْفَيْصَلَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ فَيَكُونُ: «صَيْلَمًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، وَالصَّيْلَمُ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ ثُمَّ لَامٍ مَفْتُوحَةٍ: الْقَطِيعَةُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وُجُوبُ طَاعَةِ الْإِمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ وَالْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَارَ فِي حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْخَلِعُ بِالْفِسْقِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وان طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ الْآيَة، إن ابن عمر قَالَ: «ما وجدت فِي نَفْسِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أُقَاتِلْ هَذِهِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ»، زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ حَمْزَةُ: فَقُلْنَا لَهُ: وَمن ترى الفئة الباغية؟ قَالَ: «ابن الزُّبَيْرِ بَغَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ» يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ، «فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَنَكَثَ عَهْدَهُمْ»([191]).
وذكر النووي قصة الحرة باختصار شديد عجيب، فقال: «حَرَّةَ الْمَدِينَةِ كَانَ قِتَالٌ وَنَهْبٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ هُنَاكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ»([192]).
وقال محمد بن أحمد التميمي: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ نَافِع قَالَ: حَدثنَا الخزامي قَالَ: سَعِيدٌ، وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْملك، عَن أَبِيه، عَن الخزامي، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَمْ بَلَغَ الْقَتْلُ يَوْمَ الْحَرَّةِ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ قُرَيْشٍ، وَالأَنْصَارِ، وَمُهَاجِرَةِ الْعَرَب، ووجوه النَّاس: فسبعمائة، وَسَائِرُ ذَلِكَ عَشَرَةُ آلافٍ، وَأُصِيبَ بِهَا نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ بِالْقَتْلِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ قُدُومُ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ لِثَلاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِّتِينَ، فَانْتَهَبُوا الْمَدِينَةَ ثَلاثًا، حَتَّى رَأَوْا هِلالَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ أَمْسَكُوا بَعْدَ أَنْ لَمْ يُبْقُوا أَحَدًا بِهِ طَوْقٌ.
وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الطَّلْحِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قُتِلَ يَوْمَ الْحرَّة ثَمَانُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بَدْرِيٌّ.
وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ عَنْ وَهْبِ بْنِ نَافِعٍ عَنِ الْحِزَامِيِّ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ، فَلَمَّا مَرَّ بِحَرَّةِ زُهْرَةَ وَقَفَ فَاسْتَرْجَعَ، فَقَالُوا: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْحَرَّةِ خِيَارُ أُمَّتِي بَعْدَ أَصْحَابِي».
قَالَ الْوَاقِدِيّ عَن خَالِد بن إلْيَاس: عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ بِحَرَّةِ زُهْرَةَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ يَهُودَ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ، وَلَمْ يُغَيَّرْ، أَنَّهَا تَكُونُ هَهُنَا مَقْتَلَةُ قَوْمٍ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاضِعِي سُيُوفِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، حَتَّى يَأْتُوا الرَّحْمَنَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيقفون بَين يَدَيْهِ، وَيَقُولُونَ قتلنَا فِيك»([193]).
ذكرت هذه الروايات لا لأثبتها، فهي تحمل في طياتها نقضها، وفسادها، ولكن ليعلم القارئ الكريم، أني اطلعت عليها ولم أهملها، وقد رجعت إلى تاريخ الطبري، فوجدت أن هذه الروايات مبنية على لوط بن يحيى عنده، وعلى الواقدي في هذه الكتب، وهما أقدم من ذكر هذه الروايات، ولذلك نقف أمام هذه الروايات بالشك والريب، فلا يمكن لنا أن ننكر مأساة الحرة، ومأساة نتائجها، ولكن التفاصيل الواردة، وتضخيم الأرقام هذا في النفس منه الشيء الكثير، وخصوصاً الحديث الوارد فيه يقول البيهقي: إنه مرسل، وكذلك نقل هذا ابن عساكر وابن كثير بعد إيراده، والدفاع عن إرسال الحديث، فلا يمكن الاعتماد على روايات مرسلة في إثبات حوادث تاريخية توغر القلوب، وتجرح الأفئدة، وبُنيت عليها عقائد فاسدة عند كثيرين، ولا تعتمد على مصدر موثوق، وما كتبه الإمام ابن حجر ؒ فيه الكثير من فهم جيد للتاريخ، ووقائعه، حتى أنه ذكر قول ابن عمر اعتباره ثورة ابن الزبير ثورة الفئة الباغية، وهذا يخالف كل ما أعرفه عن العلماء الذين يعتبرون ابن الزبير رضي الله عنه هو أمير المؤمنين، والباقين بغاة، خلافاً لرأي الصحابي المعاصر عبد اللَّه بن عمر ب.
ومع كل ما في هذه الروايات من نقد، واختلال نجد أن من رووها أبقوا فيها شيئاً من الإنصاف، ففي اختيار ابن كثير للرواية التي ذكر فيها طريقة تولية مسلم بن عقبة على المدينة، يذكر أيضاً قَولَ النُّعْمَان بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ ...ثم نصيحته ليزيد: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله فِي عَشِيرَتِكَ وَأَنْصَارِ رَسُولُ اللَّهِ r، وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل مِنْهُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، ... وَانْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يدخل في شيء مما دخلوا فيه»([194]).
كل هذه الروايات ليس فيها رواية يمكن أن نطمئن إليها، ولذلك يمكن القول إن معركة الحرة قد حدثت، وأسبابها أن هؤلاء النفر الشباب لم تعجبهم طريقة تولية يزيد، ولا طريقته في الحكم، فرأوا أن يعيدوا الأمر شورى، ولذلك ثاروا على يزيد.
وعندها بدأ عدد من الصحابة، والباقون من أبنائهم يعتزلون هذه الفتنة في المدينة، فـ«اعْتَزَلَ النَّاسَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ «زَيْنُ الْعَابِدِينَ»، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر بن الخطاب، لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ لِأَهْلِهِ: «لَا يَخْلَعَنَّ أحد منكم يزيد، فتكون الْفَيْصَلُ... وَيُرْوَى الصَّيْلَمُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ، وَأَنْكَرَ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مُبَايَعَتِهِمْ لِابْنِ مُطِيعٍ، وَابْنِ حَنْظَلَةَ عَلَى الْمَوْتِ، وَقَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نُبَايِعُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»([177]).
ويقول ابن كثير في مكان آخر: «وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَجَمَاعَاتُ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضِ الْعَهْدَ، وَلَا بَايَعَ أَحَدًا بَعْدَ بَيْعَتِهِ لِيَزِيدَ».
وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: «لَمَّا كَانَ زَمَنُ الحَرَّةِ أَتَاهُ آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ حَنْظَلَةَ يُبَايِعُ النَّاسَ عَلَى المَوْتِ، فَقَالَ: لاَ أُبَايِعُ عَلَى هَذَا أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([178]).
كَمَا روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بسند صحيح: «عَنْ نَافِعٍ: لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّه وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»([179])، وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّه تَعَالَى، أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يَنْكُثَ بَيْعَتَهُ، فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَيَكُونَ صَيْلَمٌ بَيْنِي وَبَيْنَهُ»([180]).
وإن الذين بدؤوا يجيشون الناس ضد يزيد، بدؤوا بالدعايات التي تؤدي إلى حفز الناس على القتال، وذكروا له فسقاً، وشرباً للخمر، وتركاً للصلاة.
وذكر ابن سعد في طبقاته عن الصحابي أسير: عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أُسَيْرٍ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ اسْتُخْلِفَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّ يَزِيدَ لَيْسَ بِخَيْرِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَلَا أَفْقَهِهَا فِقْهًا، وَلَا أَعْظَمِهَا فِيهَا شَرَفًا، وَأَنَا أَقُول ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ، لَأَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَفَرَّقَ، أَرَأَيْتَكُمْ بَابًا لَوْ دَخَلَ فِيهِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَسِعَهُمْ، أَكَانَ يَعْجِزُ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَوْ دَخَلَ فِيهِ؟ قَالَ: قُلْنَا: لَا قَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ: لَا أُهْرِيقُ دَمَ أَخِي، وَلَا آخُذُ مَالَهُ، أَكَانَ هَذَا يَسَعُهُمْ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: فَذَلِكَ مَا أَقُولُ لَكُمْ»([181]).
وقد اعترض عليهم ابن عمر، وكذّب دعاويهم، يقول ابن كثير: «ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد، مشى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فَقَالَ ابْنُ مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ، وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْكِتَابِ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَدْ حَضَرْتُهُ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ، قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصَنُّعًا لَكَ، فَقَالَ: وَمَا الَّذِي خَافَ مِنِّي، أَوْ رَجَا حَتَّى يُظْهِرَ إِلَيَّ الْخُشُوعَ؟ أَفَأَطْلَعَكُمْ عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنَّكُمْ لَشُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَكُمْ، فَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا.
قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا لَحَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يكن رأيناه.
فقال لهم: أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: ﴿إِلَّا من شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: 86]، وَلَسْتُ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي شَيْءٍ.
قَالُوا: فَلَعَلَّكَ تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أَمْرَنَا.
قَالَ: مَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ عَلَى مَا تُرِيدُونَنِي عَلَيْهِ تَابِعًا وَلَا مَتْبُوعًا.
قَالُوا: فَقَدْ قَاتَلْتَ مَعَ أَبِيكَ، قَالَ: جِيئُونِي بِمِثْلِ أَبِي أُقَاتِلُ عَلَى مِثْلِ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ.
فَقَالُوا: فمر ابنيك أبا القاسم وَالْقَاسِمَ بِالْقِتَالِ مَعَنَا.
قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُمَا قَاتَلْتُ.
قَالُوا: فَقُمْ مَعَنَا مَقَامًا تَحُضُّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى الْقِتَالِ.
قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ!! آمُرُ النَّاسَ بِمَا لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَرْضَاهُ إِذَا مَا نَصَحْتُ للَّه فِي عِبَادِهِ.
قَالُوا: إِذًا نُكْرِهُكَ.
قال: إذاً آمر الناس بتقوى اللَّه، ولا يرضون الْمَخْلُوقَ بِسَخَطِ الْخَالِقِ.
وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ»([182]).
وهذا يقوي ما قاله ابن كثير: «وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ سئل محمد بن الحنفية في ذلك، فامتنع عن ذلك أشد الامتناع، وَنَاظَرَهُمْ، وَجَادَلَهُمْ فِي يَزِيدَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا اتهموا يزيد به من شرب الْخَمْرَ، وَتَرْكِهِ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا»([183]).
فالحال هنا أصله في إعادة الأمر شورى، واستطاع كُتّاب التاريخ المغرضون أن يزيدوا في الروايات، ويجعلوا لها امتداداً من المخالفات والمعاصي التي تغطي سيرة الأمويين، فقد بدأت منذ كان معاوية، وامتدت إلى نهاية العصر الأموي، وحتى ما كان يفعل علي ومعاوية أثناء حياتهما أن كل واحد منهما عندما يقوم بأي خطبة يبرر ما قام به من حرب لإعادة الحق إلى نصابه، وبدؤوا يصورون للناس في كتبهم أن هذا شتم، ولما استشهد علي في البداية، وجاء بعده الحسين قليلاً من الزمان، فانتهت رواية الهاشميين في الأمر مبكرة، بينما بقي الأمويون يحتاجون إلى تبرير الخلاف مع علي إلى نهاية أمرهم، فسمى المؤرخون، وخاصة أن أكثرهم من الروافض، أو ممن تأثر بهم، سموا هذا شتماً لعلي على المنابر، واخترعوا ألفاظاً من الشتائم والقاذورات، واتهموا بها بني أمية، وقد أوردها الطبري عن رجلين من أسوأ إسناد في التاريخ، وهما أبو مخنف لوط بن يحيى الرافضي، وهشام بن محمد الكلبي الكذاب، وتناقلها المؤرخون وزادوا وأنقصوا فيها، وبرؤوا منها عمر بن عبد العزيز الذي رأى أن الأمر انتهى إلى عمر بن عبد العزيز فأبطله.
وإن الروايات تعددت، وتكاثرت حول وقعة الحرة، وما حصل فيها، وما تلاها، وهذا ما دعا ابن كثير أن يرفض كثيراً من الروايات، فقال عن بعض الذين رفضوا بيعة الثائرين في المدينة، وما حصل فيها فقال: «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ:
مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ضَعُوا لَهُ وِسَادَةً.
فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ مُفَارِقَ الجماعة، فإنه يموت موتة جَاهِلِيَّةً» ([184]).
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ، وَلَمَّا قَدِمَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ أكرمه وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَأَعْطَاهُ كِتَابَ أَمَانٍ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ إِلَى يَزِيدَ بِبِشَارَةِ الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا وَقَعَ قَالَ: وَاقَوْمَاهُ، ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بن قيس الفهري فَقَالَ لَهُ: تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ؟ فما الَّذِي يُجْبِرُهُمْ؟ قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَةُ، فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ.
وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ شمت بهم، واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكراً، وأثراً شِعْرَ ابْنِ الزِّبَعْرَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ»([185]).
إذن لم يفرح يزيد بما حدث، كما يدّعي الروافض، واعتبره مصيبة له، فصرخ: «واقوماه»، وأرسل إليهم ما يجبر خواطرهم، ويخفف عنهم.
وعندما حاصر الثائرون بني أمية في المدينة، وأرادوا مقاتلتهم، فراسلوه: «وَكَتَبَ بَنُو أُمَيَّةَ إِلَى يَزِيدَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ وَالْإِهَانَةِ، وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَإِلَّا اسْتُؤْصِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَبَعَثُوا ذَلِكَ مَعَ الْبَرِيد»([186]).
وهنا استشاط يزيد غضباً، فزعماء الثائرين هم من كانوا عنده، وأخذوا عطاياه، ولما رجعوا إلى المدينة ثاروا عليه، وهذا ما يشير إليه قول ابن الجوزي: «ثمَّ إِن يزِيد عزل عَن الْمَدِينَة عَمْرو بن سعيد، وولاها الْوَلِيد بن عتبَة، ثمَّ عَزله، وَولى عُثْمَان بن مُحَمَّد، فَوَثَبَ عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة فأخرجوه، فَوجه يزِيد مُسلم بن عقبَة، وَأمره أَن يتَّخذ الْمَدِينَة طَرِيقًا، فَإِن هم تَرَكُوهُ مضى إِلَى ابْن الزبير فقاتله، فَإِن منعُوهُ دُخُولهَا ناجزهم الْقِتَال، فمنعوه فَكَانَت الْحرَّة»([187]).
ويروي ابن كثير طريقة تولية مسلم بن عقبة على المدينة، فينقل عن المدائني «قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ حِمْصَ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ السَّكُونِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ الْأُرْدُنِّ حُبَيْشَ بْنَ دُلْجَةَ الْقَيْنِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ وَشَرِيكَ الْكِنَانِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ قِنَّسْرِينَ طَرِيفَ بن الحسحاس الهلالي، وعليهم مسلم بن عقبة المزني من غطفان، وإنَّما يسميه السَّلف مسرف بن عقبة.
فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ - وَكَانَ النُّعْمَانُ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ لِأُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ - فَقَالَ يَزِيدُ: لَا! لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا هَذَا الغشمة، واللَّه لأقتلنهم بَعْدَ إِحْسَانِي إِلَيْهِمْ، وَعَفْوِي عَنْهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مرة.
فقال النعمان: يا أمير المؤمنين، أنشدك اللَّه فِي عَشِيرَتِكَ، وَأَنْصَارِ رَسُولُ اللَّهِ r.
وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل مِنْهُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، وقال يزيد لمسلم بن عقبة: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة فاقبل منهم، وَكُفَّ عَنْهُمْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا ظهرت عليهم، فأبح المدينة ثلاثاً، ثم اكفف عن الناس، وَانْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَاكْفُفْ عَنْهُ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يدخل في شيء مما دخلوا فيه»([188]).
وبعد ذلك أرسل يزيد جيشاً بقيادة مسلم بن عقبة المري، يقول ابن كثير ؒ: «وَسَارَ مُسْلِمٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا اجْتَهَدَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِصَارِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، أو تعطونا مَوْثِقًا أَنْ لَا تَدُلُّوا عَلَيْنَا أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّامِيِّينَ، وَلَا تُمَالِئُوهُمْ عَلَيْنَا، فَأَعْطَوْهُمُ الْعُهُودَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ تَلَقَّاهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ، فَجَعَلَ مُسْلِمٌ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُخْبِرُهُ أَحَدٌ، فَانْحَصَرَ لِذَلِكَ، وَجَاءَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ النَّصْرَ، فَانْزِلْ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، فَإِذَا خَرَجُوا إِلَيْكَ كَانَتِ الشَّمْسُ فِي أَقْفِيَتِكُمْ وَفِي وُجُوهِهِمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ إِذْ خالفوا الإمام، وخرجوا عن الطَّاعَةِ.
فَشَكَرَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَامْتَثَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، وَدَعَا أَهْلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَوْنَ إِلَّا الْمُحَارَبَةَ وَالْمُقَاتَلَةَ، فَلَمَّا مَضَتِ الثلاثة قَالَ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: إِنَّكُمْ أَصْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ، وَإِنَّهُ يَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُؤَجِّلَكُمْ ثَلَاثًا، فَقَدْ مَضَتْ، فماذا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟ أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ؟ فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ.
فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا، وَنَجْعَلُ جَدَّنَا وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا الْمُلْحِدِ، يَعْنِي ابْنَ الزبير، فقالوا: يَا عَدُوَّ اللَّهِ! لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ، أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ فَتُلْحِدُونَ فِي بيت اللَّه الحرام؟ ثم تهيأوا لِلْقِتَالِ»([189]).
فنرى كيف أن جيش يزيد يحاول قدر استطاعته الابتعاد عن القتال، والثائرون مصرون على هذا القتال، ويؤكدون فساد يزيد، ووجوب حربه، والخروج من طاعته.
ويتحدث أبو العباس القرطبي [صاحب شرح صحيح مسلم، وليس القرطبي المفسّر]: «وعبد اللَّه بن مطيع كان أميرًا على المدينة عند قيام ابن الزبير على يزيد بن معاوية في جماعة من أبناء المهاجرين والأنصار، وبقية من مشيختهم، وجمع من الصحابة، وعلى يديه كانت وقعة الحرَّة في الجيش الذي وَجَّه به يزيد بن معاوية لحربهم، فهزموا أهل المدينة، وقتلوهم، واستباحوها ثلاثة أيام، وقُتِل فيها عدة من بقية الصَّحابة من أبناء المهاجرين والأنصار، وعطلت الصلاة، والأذان في مسجد النبي r تلك الأيام، قاله القاضي عياض، وقال غيره من أهل التاريخ: إن الذي وجهه يزيد بن معاوية إلى المدينة، وكانت على يديه وقعة الحرَّة هو مسلم بن عقبة المرّي، واللَّه أعلم»([190])، فنلاحظ أن رواية القرطبي فيها كثير من الأغاليط، حيث ذكر ثورة ابن الزبير رضي الله عنه، وثورة أهل المدينة، وجعل في الثورتين عدداً من الصحابة في كل واحدة، وعدداَ كبيراً من أولاد الصحابة، ورأينا كيف أن الصحابة وأكثر أولادهم اعتزلوا هذه الفتنة، وخصوصاً أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن التحليلات التي تقارب الحقيقة – على ما أرى – ما ذكره الإمام ابن حجر: «وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ رُمَّانَةَ «أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَالَ لِيَزِيدَ: قَدْ وَطَّأْتُ لَكَ الْبِلَادَ، وَمَهَّدْتُ لَكَ النَّاسَ، وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكَ إِلَّا أَهْلَ الْحِجَازِ، فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُمْ رَيْبٌ، فَوَجِّهْ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ، فَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُهُ، وَعَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ، قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ مِنْ خِلَافِهِمْ عَلَيْهِ مَا كَانَ دَعَاهُ، فَوَجَّهَهُ فَأَبَاحَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ، وَأَنَّهُمْ أَعْبُدٌ لَهُ قِنٌّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ أَظْهَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْخِلَافَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَوَجَّهَ يَزِيدُ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فِي جَيْشِ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثمَّ يسير إِلَى ابن الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَ: فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ، وَبِهَا بَقَايَا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَسْرَفَ فِي الْقَتْلِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، وَأَخْرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخه بِسَنَد صَحِيح عَن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً/ ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها﴾»، يَعْنِي إِدْخَالَ بَنِي حَارِثَةَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ، قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، قَوْلُهُ: «حَشَمَهُ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمُعْجَمَة، قَالَ ابن التِّينِ: الْحَشَمَةُ الْعَصَبَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا خَدَمُهُ، وَمَنْ يَغْضَبُ لَهُ، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: «لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يزِيد بن مُعَاوِيَة، جمع ابن عُمَرَ بَنِيهِ وَأَهْلَهُ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، قَوْلُهُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، زَادَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ «بِقَدْرِ غدرته»، وَزَاد فِي رِوَايَة صَخْر يُقَال: «هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»، أَيْ: عَلَامَةُ غَدْرَتِهِ، وَالْمُرَادُ بذلك شهرته، وأن يفتضح بذلك على رُؤُوس الْأَشْهَادِ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْغَدْرِ؛ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْآمِرِ، أَوِ الْمَأْمُورِ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَرْفُوعُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي بَابِ إِثْمِ الْغَادِرِ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْجِزْيَةِ وَالْمُوَادَعَةِ قُبَيْلَ بَدْءِ الْخَلْقِ، قَوْلُهُ: «عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، أَيْ: عَلَى شَرْطِ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ بَيْعَةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ بَايَعَ أَمِيرًا، فَقَدْ أَعْطَاهُ الطَّاعَةَ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعَطِيَّةَ، فَكَانَ شَبِيهَ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً، وَأَخَذَ ثَمَنَهَا، وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا تَبَايَعَتْ تَصَافَقَتْ بِالْأَكُفِّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا تَحَالَفُوا، فَسَمَّوْا مُعَاهَدَةَ الْوُلَاةِ وَالْتَّمَاسُكَ فِيهِ بِالْأَيْدِي بَيْعَةً، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ وَصَخْرٍ: «عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ»، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رَفَعَهُ: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، قَوْلُهُ: «وَلَا غَدْرَ أَعْظَمُ» فِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ الْمَذْكُورِ: «وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ، ثُمَّ يَنْكُثُ بَيْعَتَهُ»، قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَنْصِبُ لَهُ الْقِتَالَ» بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «نَصَبَ لَهُ يُقَاتِلُهُ»، قَوْلُهُ: «خَلَعَهُ»، فِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «خَلَعَ يَزِيدَ»، وَزَادَ: «أَوْ خَفَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ»، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ: «فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يَسْعَى فِي هَذَا الْأَمْرِ»، قَوْلُهُ: «وَلَا تَابَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ»، كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ، ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ، وَلِلكُشْمِيهَنِيِّ بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ، قَوْلُهُ: «إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، أَيِ: الْقَاطِعَةُ، وَهِيَ فَيْعَلٌ مِنْ فَصَلَ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعَهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُؤَمَّلٍ: «فَيَكُونُ الْفَيْصَلَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، وَفِي رِوَايَةِ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ فَيَكُونُ: «صَيْلَمًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ»، وَالصَّيْلَمُ بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَيَاءٍ آخِرَ الْحُرُوفِ ثُمَّ لَامٍ مَفْتُوحَةٍ: الْقَطِيعَةُ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وُجُوبُ طَاعَةِ الْإِمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ وَالْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَلَوْ جَارَ فِي حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْخَلِعُ بِالْفِسْقِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وان طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ الْآيَة، إن ابن عمر قَالَ: «ما وجدت فِي نَفْسِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أُقَاتِلْ هَذِهِ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ»، زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ فِي تَارِيخِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ حَمْزَةُ: فَقُلْنَا لَهُ: وَمن ترى الفئة الباغية؟ قَالَ: «ابن الزُّبَيْرِ بَغَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ» يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ، «فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَنَكَثَ عَهْدَهُمْ»([191]).
وذكر النووي قصة الحرة باختصار شديد عجيب، فقال: «حَرَّةَ الْمَدِينَةِ كَانَ قِتَالٌ وَنَهْبٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ هُنَاكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ»([192]).
وقال محمد بن أحمد التميمي: «قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ نَافِع قَالَ: حَدثنَا الخزامي قَالَ: سَعِيدٌ، وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْملك، عَن أَبِيه، عَن الخزامي، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَمْ بَلَغَ الْقَتْلُ يَوْمَ الْحَرَّةِ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ قُرَيْشٍ، وَالأَنْصَارِ، وَمُهَاجِرَةِ الْعَرَب، ووجوه النَّاس: فسبعمائة، وَسَائِرُ ذَلِكَ عَشَرَةُ آلافٍ، وَأُصِيبَ بِهَا نِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ بِالْقَتْلِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ قُدُومُ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ لِثَلاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِّتِينَ، فَانْتَهَبُوا الْمَدِينَةَ ثَلاثًا، حَتَّى رَأَوْا هِلالَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ أَمْسَكُوا بَعْدَ أَنْ لَمْ يُبْقُوا أَحَدًا بِهِ طَوْقٌ.
وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الطَّلْحِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قُتِلَ يَوْمَ الْحرَّة ثَمَانُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ بَدْرِيٌّ.
وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ شَعْبَانَ عَنْ وَهْبِ بْنِ نَافِعٍ عَنِ الْحِزَامِيِّ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ، فَلَمَّا مَرَّ بِحَرَّةِ زُهْرَةَ وَقَفَ فَاسْتَرْجَعَ، فَقَالُوا: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْحَرَّةِ خِيَارُ أُمَّتِي بَعْدَ أَصْحَابِي».
قَالَ الْوَاقِدِيّ عَن خَالِد بن إلْيَاس: عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ بِحَرَّةِ زُهْرَةَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ يَهُودَ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ، وَلَمْ يُغَيَّرْ، أَنَّهَا تَكُونُ هَهُنَا مَقْتَلَةُ قَوْمٍ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاضِعِي سُيُوفِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، حَتَّى يَأْتُوا الرَّحْمَنَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيقفون بَين يَدَيْهِ، وَيَقُولُونَ قتلنَا فِيك»([193]).
ذكرت هذه الروايات لا لأثبتها، فهي تحمل في طياتها نقضها، وفسادها، ولكن ليعلم القارئ الكريم، أني اطلعت عليها ولم أهملها، وقد رجعت إلى تاريخ الطبري، فوجدت أن هذه الروايات مبنية على لوط بن يحيى عنده، وعلى الواقدي في هذه الكتب، وهما أقدم من ذكر هذه الروايات، ولذلك نقف أمام هذه الروايات بالشك والريب، فلا يمكن لنا أن ننكر مأساة الحرة، ومأساة نتائجها، ولكن التفاصيل الواردة، وتضخيم الأرقام هذا في النفس منه الشيء الكثير، وخصوصاً الحديث الوارد فيه يقول البيهقي: إنه مرسل، وكذلك نقل هذا ابن عساكر وابن كثير بعد إيراده، والدفاع عن إرسال الحديث، فلا يمكن الاعتماد على روايات مرسلة في إثبات حوادث تاريخية توغر القلوب، وتجرح الأفئدة، وبُنيت عليها عقائد فاسدة عند كثيرين، ولا تعتمد على مصدر موثوق، وما كتبه الإمام ابن حجر ؒ فيه الكثير من فهم جيد للتاريخ، ووقائعه، حتى أنه ذكر قول ابن عمر اعتباره ثورة ابن الزبير ثورة الفئة الباغية، وهذا يخالف كل ما أعرفه عن العلماء الذين يعتبرون ابن الزبير رضي الله عنه هو أمير المؤمنين، والباقين بغاة، خلافاً لرأي الصحابي المعاصر عبد اللَّه بن عمر ب.
ومع كل ما في هذه الروايات من نقد، واختلال نجد أن من رووها أبقوا فيها شيئاً من الإنصاف، ففي اختيار ابن كثير للرواية التي ذكر فيها طريقة تولية مسلم بن عقبة على المدينة، يذكر أيضاً قَولَ النُّعْمَان بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ ...ثم نصيحته ليزيد: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله فِي عَشِيرَتِكَ وَأَنْصَارِ رَسُولُ اللَّهِ r، وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جعفر: أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك أيقبل مِنْهُمْ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ، ... وَانْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ، وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا، وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يدخل في شيء مما دخلوا فيه»([194]).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin