«السبئيّة: [فريق] مثل الذي قبله، طائفة من غلاة الشيعة، نسبوا إِلى عبد اللَّه بن سَبَأ، كان يهودياً من أهل صنعاء، فأسلم أيام عثمان، ثم تنقَّل في البلاد، وهو الذي حمل أهل مصر على قتل عثمان، وأظهر الميل إِلى علي، وكان خبيث الباطن، غرضه الفساد بين المسلمين، وتم له»([69]).
فهي أول طائفة بدأت تعلن الكلام عن إمامة إمام، غير إمامة الخليفة، وبدأت تتكئ على اسم علي رضي الله عنه، حتى أصبح اسم علي في كل كتب التاريخ يسبقه كلمة الإمام، وهذه الكلمة لم تجد مجالاً لوضعها قبل اسم أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، ومثلها جملة كرم اللَّه وجهه، واخترعوا سبباً لهذه التسمية أنه الوحيد الذي لم يسجد لصنم، وباقي الصحابة لم يحصل لهم هذا الشرف الغريب الذي أضفوه على سيدنا عليّ رضي الله عنه، وهذا يذكرني ما حدث في العصور المتأخرة، عندما بنى العبيديون (الفاطميون كما اشتهر اسمهم بين سذّج المؤرخين) جامع الأزهر، في مصر، ونسبوه لفاطمة الزهراء ل، وألصقوا عليه كلمة (الشريف)، وما يزال الكثيرون من العلماء والكتَّاب والمؤرخين وعوام الناس، إن لم نقل كلُّهم، أو جلّهم على الأقل، ولم ينسب هذا اللفظ إلى أي مسجد آخر، بناه صحابة أو في عصرهم، أو تابعون، أو في عصرهم، كمساجد: قباء، والأموي، والزيتونة، وقرطبة (في الأندلس)، وغيرها من المساجد في العلم، وما يزال الناس من علماء، ومؤرخين، وكتّاب وأدباء يتبعون اسم الأزهر بـ(الشريف)، وباقي مساجد اللَّه لا توصف بهذا الوصف، كسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أفردوه بلفظ الإمام دون غيره من الصحابة، أو الخلفاء، فهذه كلها من الآثار الرافضية التي تسري بين الناس دون اهتمام.
مع أن رأي علمائنا القدامى كانوا يهتمون في الحذر مما يصدر، أو يسري بين الناس من دعايات الرافضة، ويبقى كثير من الناس يتأثرون بدعايات الرافضة، كما قال الدينوري المالكي: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، نَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُسْلِمٍ؛ قَالَ: مَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ قَوْمًا أَضْعَفَ عُقُولًا، وَلَا أَكْثَرَ اخْتِلَافًا، وَتَخْلِيطًا مِنَ الرَّافِضَةِ، وَذَلِكَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ قَوْمًا ادَّعُوا الرُّبُوبِيَّةِ لِبَشَرٍ غَيْرَهُمْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَبَأٍ، وَأَصْحَابَهُ ادَّعُوا الرُّبُوبِيَّةَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه؛ فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ، وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرا
أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قُنْبُرا
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُخَتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ ادَّعَى النُّبَوَّةَ، وَقَالَ: جِبْرِيلُ يَأْتِينِي، وَمِيكَائِيلُ، فَصَدَّقَهُ قَوْمٌ، وَاتَّبَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ: الْكَيْسَانِيَّةُ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ: الْبَيَانِيَّةُ؛ يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بَيَانٌ»([70]).
وهذه الأخبار والمخرقات نجدها تسربات بأثواب ظاهرها البعد عن أثواب الرافضة، فتسربت باسم الشيوخ بدلاً من اسم الأئمة، فبعض مشايخ المتصوفة لا تفترق مواصفاتهم عن مواصفات الأئمة المعصومين، وإن كان الجميع يدّعون عدم العصمة نظرياً، ويثبتها كثير من المتصوفة عملياً وحقيقة.
إذن هؤلاء الغوغاء والشذاذ والسذج الذين تأثروا بدعايات ابن سبأ وتلاميذه، وأمثالهم بدؤوا بالتأليب على عثمان رضي الله عنه، وتابعوا في محاولات حثيثة للقضاء على الدولة الإسلامية الفتية، بواسطة هذه الأفكار الخبيثة التي استطاعو أن يسيطروا فيها على كثير من الناس.
عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وما أن نصل إلى عهد علي رضي الله عنه حتى تزداد الفتنة خرقاً وتتسع، ويقع عدد من الأصحاب ضحايا لها، ويقف الخليفة الجديد في مفترق طرق كثيرة، بدأت هذه الطرق تتشعب شعباً صغيرة – في ظاهرها – فإذا بها تتفتق عن أنهار من الدماء، ومعارك تصطلي الأمة بنارها، ويموت فيها الكثير من أفراد الأمة، فبينما تذهب عائشة ل، ومعها طلحة والزبير لأخذ الثأر لعثمان صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم، واحتجت عليهم بقول اللَّه تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾([71])، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح، وأرسل فيه، فرَجَت المثوبة، واغتنمت [الفرصة]، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها([72]).
واستطاع النفر الذين قتلوا عثمان ومن شايعهم من الغوغاء وأوباش الناس، ومن لم يستقر الإيمان في قلوبهم، أن يذكوا النار بين الفريقين، فاقتتلوا وجرت الدماء فيما بينهم، والذي يطمئن قلوب المؤمنين أن هذه الحرب بين الصحابة ليس فيها نصيب للشيطان [في قلوبهم، ومبادئهم، وعقائدهم]، وذكر ابن كثير: «بلغت الضَّجَّةُ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَشْيَاعِهِمْ، فَقَالَ: اللَّهمّ الْعَنْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ»([73])، وعند ابن عساكر: «وسمع علي الدعاء، فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: عائشة تدعو، ويدعون معها على قتلة عثمان، وأشياعهم، فأقبل يدعو وهو يقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم»([74]).
وفي رواية عَنْ عُمَيْرِ بْنِ رُوزِيٍّ قَالَ: «سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ عُثْمَانَ؟ كَمَثَلِ ثَلَاثَةِ أَثْوَارٍ كُنَّ فِي أَجَمَةٍ، ثَوْرٌ أَسْوَدُ، وَثَوْرٌ أَحْمَرُ، وَثَوْرٌ أَبْيَضُ، مَعَهُنَّ فِيهَا أَسَدٌ، وَكَانَ الْأَسَدُ لَا يَقْدِرُ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ لِاجْتِمَاعِهِنَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِلثَّوْرِ الْأَسْوَدِ وَلِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ: لَا يَدُلُّ عَلَيْنَا فِي أَجَمَتِنَا هَذِهِ إِلَّا هَذَا الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ، فَإِنَّهُ مَشْهُورُ اللَّوْنِ، فَلَوْ تَرَكْتُمَانِي فَأَكَلْتُهُ صَفَتْ لِي وَلَكُمَا الْأَجَمَةُ، فَقَالَا: دُونَكَ فَأْكلْهُ، ثُمَّ مَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقَالَ لِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْنَا فِي أَجَمَتِنَا هَذِهِ إِلَّا هَذَا الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ، فَإِنَّ لَوْنَهُ مَشْهُورٌ، وَإِنَّ لَوْنِي وَلَوْنُكَ لَا يَشْتَهِرَانِ، فَلَوْ تَرَكْتَنِي فَأَكَلْتُهُ صَفَتْ لِي وَلَكَ الْأَجَمَةُ، وَعِشْنَا فِيهَا، قَالَ: دُونَكَ، فَأْكلْهُ، ثُمَّ مَكَثَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَحَمَرِ إِنِّي لَآكلُكَ، قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُنَادِيَ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ، قَالَ: نَادِ، قَالَ: أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ، أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ، أَلَا إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ: أَلَا وَإِنِّي إِنَّمَا وَهَنْتُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه»([75]).
إذن الهدف الذي أراده قتلة عثمان من تبديد، وتدمير الدولة بدأت تبرز معالمه، فهذه الحرب قامت بدايتها بين الصحابة.
وبعد انتهاء المعركة، قام سيدنا علي رضي الله عنه بتفقد أرض المعركة، والبحث عن جرحى، والتعرف على القتلى، ويروي ابن كثير أن علياً دار بين القتلى، فرأى سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه [وكان في جيش عائشة]: «وَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا دَارَ بَيْنَ الْقَتْلَى، رَآهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا مُحَمَّدٍ، يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ مجدولا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً»([76]).
ويروي ابن عساكر: «رأى علي بن أبي طالب طلحة بن عبيد اللَّه رحمة اللَّه عليه ملقى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: عزيز عليَّ أبا محمد بأن أراك مجندلاً في الأودية، وتحت نجوم السماء، ثم قال: إلى اللَّه أشكو عجري وبجري، قال نصر بن علي: فسألت الأصمعي عن قوله: عجري وبجري، فقال: سرائري، وأحزاني التي تموج في جوفي»([77])، ولذلك صاح أمام الملأ، وبين جنوده: «وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً»([78]).
وأما حرب علي ومعاوية ب، فقد ذكر البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ»([79]).
وقد أورد العلماء هذا الحديث وأمثاله على ما شجر بين الصحابة، ويؤيد هذا أن التاريخ لا يحدثنا عن خلاف بين الفريقين حول أحكام الإسلام، أو عقائده، أو شرائعه، إنما الخلاف على إمام لم يطعه والٍ من الولاة الذين يرون أنه لم تنعقد له الإمامة انعقاداً كاملاً، لأنها كانت في ظل المارقين القاتلين لعثمان رضي الله عنه، ورفض الانصياع لحكمه حتى يأخذ بثأر الخليفة القتيل ظلماً، وهذا ما جعل الفريقين بعيدين عن أحكام الحرب التي سنها الإسلام بين المسلمين والكفار والمنافقين، فعلي رضي الله عنه عندما يتحصن أمام الماء لم يمنع جيش معاوية منه([80])، وكذلك إطلاق علي رضي الله عنه الأسرى دون فداء، أو تبادل أسرى بين الفريقين([81])، وفي نصوص التحكيم التي وردت بين الفريقين، وشروطها دلالة كافية على أن دعوى الفريقين واحدة، حيث جاء فيها: «هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَاضَى عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ شِيعَتِهِمْ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَاضَى مُعَاوِيَةُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ: إِنَّا نَنْزِلُ عند حكم اللَّه وكتابه، ونحيى ما أحيى الله، وَنُمِيتُ مَا أَمَاتَ اللَّهُ، فَمَا وَجَدَ الْحَكَمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- وَهُمَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ- عَمِلَا بِهِ، وَمَا لَمْ يَجِدَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالسُّنَّةُ الْعَادِلَةُ الْجَامِعَةُ غَيْرُ الْمُتَفَرِّقَةِ، ثُمَّ أَخَذَ الْحَكَمَانِ مِنْ عَلِيٍّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أَنَّهُمَا آمِنَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَهْلِهِمَا، وَالْأُمَّةُ لَهُمَا أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كِلَيْهِمَا عَهْدُ اللَّه وميثاقه أنهما عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»([82]).
ولا نستطيع القول إن حرب معاوية لعلي قد تشبه الخروج على الإمام في أحد وجوهها، حيث إن الصحابة الذين كانوا موجودين هم الذين بايعوا علياً، ونصبوه خليفة، وهنا امتنع معاوية من بيعته، ومن هذا الوجه قد يبدو لبعضهم أن يُعدّه خروجاً، على الحذر من الابتعاد عن أن معاوية ما ادّعى الخلافة، أو نادى بها، فهذا افتراء على التاريخ، «ومعاوية لم يَدَّعِ الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل عليٌّ أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له [أي لعلي] بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال .
بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب [على معاوية وأصحابه] عليهم طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته، يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم [أي أصحاب معاوية] قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقَتَلَتُه في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا([83]) ظلمونا، واعتدوا علينا»([84]).
ويتابع شيخ الإسلام ابن تيمية كلامه: «وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كُفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة، مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه، فإن فضل علي وسابقته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله، كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم y»([85]).
والروايات متتالية في عدم منازعة معاوية لعلي على الخلافة، «وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ، وَجَمَاعَةً مَعَهُ، دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تُنَازِعُ عَلِيًّا أَمْ أَنْتَ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي وَأَفْضَلُ، وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنِّي، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنَا أَطْلُبُ بِدَمِهِ، وَأَمْرُهُ إِلَيَّ؟ فَقُولُوا لَهُ: فَلْيُسَلِّمْ إِلَيَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَنَا أُسَلِّمُ لَهُ أَمْرَهُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِمْ أَحَدًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ مُعَاوِيَةَ»([86]).
وعلى هذا يمكن القول كذلك إنه ليس خروجاً بالمعنى الصحيح المعروف؛ لأن معاوية رضي الله عنه لم يرفض إمامة علي رضي الله عنه ابتداء، ولم يدّع الخلافة أصلاً، أو لم يطلبها – كما سبق-، فقد اتفق الطرفان المتنازعان على التحكيم، فيقول الشيخ محب الدين الخطيب : حول هذا الموضوع: «فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم، تناول التحكيم شيئًا واحدًا هو الإمامة، أما التصرف العملي في إدارة البلاد التي كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين، فبقي كما كان: علي متصرف في البلاد التي تحت حكمه، ومعاوية متصرف في البلاد التي تحت حكمه، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة، وكان يكون محلاً للمكر أو الغفلة، لو أن عمرًا أعلن في نتيجة التحكيم أنه ولّى معاوية إمارة المؤمنين، وخلافة المسلمين، وهذا ما لم يعلنه عمرو، ولا ادّعاه معاوية، ولم يقل به أحد في الثلاثة عشر قرنًا الماضية، وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية، ومن ذلك اليوم فقط سمي معاوية أمير المؤمنين»([87]).
فمعاوية هنا لا يكون خارجاً عن الإمام ولا عليه، إذا أخذنا بادّعائه أنه وليّ الخليفة المتفق على إمامته – وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه - وأنه كان والياً عنده، وباعتباره ولياً له، فلن يترك الولاية حتى يأخذ له بثأره، ولذلك ورد في بعض الروايات أن أبا الدرداء، وأبا أمامة ب دخلا «على معاوية فقالا له: يا معاوية، علام تقاتل هذا الرجل [يعنيان علياً رضي الله عنه]؟ فو اللَّه إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً، وَأَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ، فَقَالَ: أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَاذْهَبَا إِلَيْهِ فَقُولَا لَهُ فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عثمان، ثم أنا أول من بايعه منْ أَهْلِ الشَّامِ»([88]).
إذن معاوية لا ينكر خلافة علي، ولا يرفضها، ولكنه كان يشترط الأخذ بثأر عثمان، باعتباره وليَّ المقتول الشهيد، فهو وليُّه – كما يرى لأنه ابن عمه- وأن له السلطان في الأخذ بثأره، فهو يشترط البيعة بالأخذ بالثأر، وقد يكون هذا – برأيي – شرطاً غير كافٍ لتبرير موقفه هذا، فإنه قد يوحي بالخروج على الخليفة الذي بايعه كثير من المسلمين في المدينة بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، وفيهم عدد كبير من الصحابة، فهو من الناحية الفقهية اجتهاد حقيقي، وليس خروجاً، أو إنكاراً للخليفة.
والدليل على هذا الاجتهاد، وأنه ليس إنكاراً أو خروجاً، هو أنه لم يكن يقاتل علياً حمية جاهلية، ولا تكفيراً، أو تفسيقاً، بل اجتهاد – كما سبق – وقد جاء رواية عن معاوية ورأيه في علي بن أبي طالب ب «لَمَّا جَاءَ خَبَرُ قَتْلِ عَلِيٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ قَاتَلْتَهُ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ، إِنَّكِ لَا تَدْرِينَ مَا فَقَدَ النَّاسُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ، وفي رواية أنها قالت له: بالأمس تقاتلنه، واليوم تبكينه؟»([89]).
ولذلك يرجح، بل يجزم، ابن كثير على أن الحرب بينهما كانت باجتهاد، ويستشهد بالحديث الذي يذكر مروق الخوارج بأن الذين يقاتلونهم هم الفرقة الأدنى إلى الحق من الفريقين المختلفين من المسلمين اللذين دعوتهما واحدة، فيقول: «ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ بَعْدَ قَتَلِ عُثْمَانَ، عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ عَظِيمٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَعَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةُ مَعْذُورٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَقَدْ شَهِدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالْإِسْلَامِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ- أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ- كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيح: «تمرق مارقة على خير فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ» فَكَانَتِ الْمَارِقَةُ الْخَوَارِجَ، وَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ»([90]).
([1]) تاريخ الطبري (1/ .
([2]) الباعث الحثيث، (181).
([3]) البداية والنهاية (9/ 225).
([4]) شذرات الذهب ( 1 / 65 ).
([5]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (4/ 54).
([6]) البداية والنهاية (8/ 138).
([7]) صحيح مسلم، حديث رقم (1087).
([8]) مقدمة ابن خلدون 1/ 275.
([9]) صحيح البخاري، رقم4801.
([10]) السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (1/ 404)
([11]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (4/ 322)
([12]) سيرة ابن إسحاق (4/ 191)، وهي صحيحة، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 207)، ومصنف ابن أبي شيبة (7/ 255)، رقم 35829، وفي روايات هذه الكتب ألفاظ: تحاكت الركب، وتحاذينا على الركب، وتجاثينا على الركب.
([13]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 505).
([14]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (1/ 496).
([15]) صحيح مسلم (2797).
([16]) انظر الرواية في القترة المدنية.
([17]) صحيح مسلم (1793).
([18]) صحيح مسلم (1794).
([19]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 501)
([20]) سيرة ابن إسحاق (2/ 136، مسند أبي يعلى (12/ 176)، (6804).
([21]) الطبقات الكبرى (1/ 163).
([22]) تاريخ المدينة لابن شبة (2/ 454).
([23]) مسند أحمد (5/ 301)، (3251)، وذكره في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 27)، وقال: «رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو الْجَزَرِيُّ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ».
([24]) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 228)
([25]) صحيح البخاري، (3911).
([26]) صحيح مسلم (1798).
([27]) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 249).
([28]) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 94).
([29]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 363)
([30]) مستخرج أبي عوانة، (15/ 54). وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 221)،
([31]) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 39).
([32]) دلائل النبوة للبيهقي (3/ 245).
([33]) صحيح البخاري (2805).
([34]) البداية والنهاية (4/ 72)، المعجم الكبير للطبراني (20/ 358)، تاريخ خليفة بن خياط (ص: ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 129): «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَى ابْنِ إِسْحَاقَ»، وقد وردت القصة بتمامها مفصلة في صحيح البخاري، رقم (4086).
([35]) صحيح البخاري، رقم 3610، وصحيح مسلم، رقم 1063- 1064.
([36]) البداية والنهاية، 6/ 311. وانظر: إمتاع الأسماع للمقريزي، 14/ 236.
([37]) البداية والنهاية، 6/ 311.
([38]) البداية والنهاية، 6/ 327.
([39]) صحيح البخاري، رقم 1399، 1400.
([40]) صحيح البخاري، رقم 7284، 7285، وصحيح مسلم، رقم 20.
([41]) صحيح البخاري (3620).
([42]) البداية والنهاية (4/ 418).
([43]) صحيح البخاري (4378).
([44]) انظر: البداية والنهاية (9/ 495).
([45]) مسند أحمد (15989)، وإسناده صحيح.
([46]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 355).
([47]) البداية والنهاية (10/ 64).
([48]) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان (2/ 497).
([49]) البداية والنهاية (4/ 167).
([50]) الروض الأنف (7/ 64).
([51]) صحيح البخاري (10/ 103)، رقم الحديث 4066.
([52]) صحيح مسلم (4/ 1866)، حديث رقم 2401.
([53]) البداية والنهاية (7/ 171).
([54]) العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية (ص: 101).
([55]) الخراج لأبي يوسف الطبعة السلفية سنة 1352 (ص60 – 62).
([56]) تاريخ الطبري (5: 103).
([57]) منهاج السنة النبوية (3/ 187 - 188).
([58]) تاريخ الطبري (3/ 237).
([59]) انتهى ما ذكره الشيخ محب الدين الخطيب.
([60]) البداية والنهاية (7/ 171).
([61]) البداية والنهاية (7/ 171).
([62]) انظر ذلك في المصدر السابق.
([63]) البداية والنهاية (7/ 180).
([64]) مسند أحمد (41/ 113) 24566، إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح.
([65]) مسند أحمد (42/ 84)، ح 25162، حديث حسن، وصحيح ابن حبان (15/ 346)، ح 6915، وسنن الترمذي (5/ 628)، ح 3705، قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (7/ 173): «رَوَاهُ أبو بكر بن أبي شيبة وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ مُخْتَصَرًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ».
([66]) الأخبار الطوال للدينوري (ص: 166)
([67]) العواصم من القواصم (ص: 143).
([68]) انظر: المصدر السابق (ص 145)، والبداية والنهاية (7/ 181).
([69]) جامع الأصول (12/ 492).
([70]) المجالسة وجواهر العلم (3/ 454).
([71]) سورة النساء: 114.
([72]) انظر: العواصم من القواصم (ص: 156).
([73]) البداية والنهاية (7/ 242).
([74]) تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 111).
([75]) تاريخ المدينة لابن شبة (4/ 1233)، مصنف ابن أبي شيبة (7/ 562)، رقم الحديث 37933، تاريخ دمشق لابن عساكر (39/ 472).
([76]) البداية والنهاية (7/ 247).
([77]) تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 111، صحيح مسلم (4/ 2214)، ح 157.
([78]) البداية والنهاية (7/ 247)، وانظر: أسد الغابة (2/ 471)، تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 115).
([79]) صحيح البخاري (9/ 59)، ح: 7121.
([80]) انظر: تاريخ الطبري (3/ 76)، البداية والنهاية (7/ 256)، تاريخ ابن خلدون (2/ 627).
([81]) ذكر ابن كثير أن علياً «قَدْ أَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية، وكان قد عزم على قتلهم؛ لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أُولَئِكَ الَّذِينَ أَطْلَقَهُمْ، أَطْلَقَ مُعَاوِيَةُ الَّذِينَ فِي يَدِهِ». البداية والنهاية (7/ 277).
([82]) البداية والنهاية (7/ 276)، وانظر: تاريخ ابن خلدون (2/ 634).
([83]) هكذا في مجموع الفتاوى، وأما في مختصر الفتاوى المصرية (ص: 484): «هم غالبون لهم شوكة، فإذا لم نمتنع ظلمونا، واعتدوا علينا، وعليٌ لا يمكنه دفعهم، كما لا يمكنه الدفع عن عثمان».
([84]) مجموع الفتاوى (35/ 69).
([85]) مجموع الفتاوى (35 / 70).
([86]) البداية والنهاية (8/ 129)، وقد ذكر ابن حجر هذه الرواية، وصدرها بقوله: «وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي، أحد شيوخ البخاري، في كتاب صفين في تأليفه بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة... إلخ» فتح الباري لابن حجر (13/ 86).
([87]) العواصم من القواصم (ص: 174).
([88]) البداية والنهاية (7/ 259).
([89]) البداية والنهاية (8/ 130).
([90]) البداية والنهاية (8/ 126)، والحديث في صحيح مسلم (2/ 741)، ح ( 1064)،
فهي أول طائفة بدأت تعلن الكلام عن إمامة إمام، غير إمامة الخليفة، وبدأت تتكئ على اسم علي رضي الله عنه، حتى أصبح اسم علي في كل كتب التاريخ يسبقه كلمة الإمام، وهذه الكلمة لم تجد مجالاً لوضعها قبل اسم أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، ومثلها جملة كرم اللَّه وجهه، واخترعوا سبباً لهذه التسمية أنه الوحيد الذي لم يسجد لصنم، وباقي الصحابة لم يحصل لهم هذا الشرف الغريب الذي أضفوه على سيدنا عليّ رضي الله عنه، وهذا يذكرني ما حدث في العصور المتأخرة، عندما بنى العبيديون (الفاطميون كما اشتهر اسمهم بين سذّج المؤرخين) جامع الأزهر، في مصر، ونسبوه لفاطمة الزهراء ل، وألصقوا عليه كلمة (الشريف)، وما يزال الكثيرون من العلماء والكتَّاب والمؤرخين وعوام الناس، إن لم نقل كلُّهم، أو جلّهم على الأقل، ولم ينسب هذا اللفظ إلى أي مسجد آخر، بناه صحابة أو في عصرهم، أو تابعون، أو في عصرهم، كمساجد: قباء، والأموي، والزيتونة، وقرطبة (في الأندلس)، وغيرها من المساجد في العلم، وما يزال الناس من علماء، ومؤرخين، وكتّاب وأدباء يتبعون اسم الأزهر بـ(الشريف)، وباقي مساجد اللَّه لا توصف بهذا الوصف، كسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أفردوه بلفظ الإمام دون غيره من الصحابة، أو الخلفاء، فهذه كلها من الآثار الرافضية التي تسري بين الناس دون اهتمام.
مع أن رأي علمائنا القدامى كانوا يهتمون في الحذر مما يصدر، أو يسري بين الناس من دعايات الرافضة، ويبقى كثير من الناس يتأثرون بدعايات الرافضة، كما قال الدينوري المالكي: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، نَا عَبْدُ اللَّه بْنُ مُسْلِمٍ؛ قَالَ: مَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ قَوْمًا أَضْعَفَ عُقُولًا، وَلَا أَكْثَرَ اخْتِلَافًا، وَتَخْلِيطًا مِنَ الرَّافِضَةِ، وَذَلِكَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ قَوْمًا ادَّعُوا الرُّبُوبِيَّةِ لِبَشَرٍ غَيْرَهُمْ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَبَأٍ، وَأَصْحَابَهُ ادَّعُوا الرُّبُوبِيَّةَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه؛ فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ، وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرا
أَجَّجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قُنْبُرا
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُمْ؛ فَإِنَّ الْمُخَتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ ادَّعَى النُّبَوَّةَ، وَقَالَ: جِبْرِيلُ يَأْتِينِي، وَمِيكَائِيلُ، فَصَدَّقَهُ قَوْمٌ، وَاتَّبَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ: الْكَيْسَانِيَّةُ، وَفِيهِمْ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ: الْبَيَانِيَّةُ؛ يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بَيَانٌ»([70]).
وهذه الأخبار والمخرقات نجدها تسربات بأثواب ظاهرها البعد عن أثواب الرافضة، فتسربت باسم الشيوخ بدلاً من اسم الأئمة، فبعض مشايخ المتصوفة لا تفترق مواصفاتهم عن مواصفات الأئمة المعصومين، وإن كان الجميع يدّعون عدم العصمة نظرياً، ويثبتها كثير من المتصوفة عملياً وحقيقة.
إذن هؤلاء الغوغاء والشذاذ والسذج الذين تأثروا بدعايات ابن سبأ وتلاميذه، وأمثالهم بدؤوا بالتأليب على عثمان رضي الله عنه، وتابعوا في محاولات حثيثة للقضاء على الدولة الإسلامية الفتية، بواسطة هذه الأفكار الخبيثة التي استطاعو أن يسيطروا فيها على كثير من الناس.
عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
وما أن نصل إلى عهد علي رضي الله عنه حتى تزداد الفتنة خرقاً وتتسع، ويقع عدد من الأصحاب ضحايا لها، ويقف الخليفة الجديد في مفترق طرق كثيرة، بدأت هذه الطرق تتشعب شعباً صغيرة – في ظاهرها – فإذا بها تتفتق عن أنهار من الدماء، ومعارك تصطلي الأمة بنارها، ويموت فيها الكثير من أفراد الأمة، فبينما تذهب عائشة ل، ومعها طلحة والزبير لأخذ الثأر لعثمان صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم، واحتجت عليهم بقول اللَّه تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾([71])، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح، وأرسل فيه، فرَجَت المثوبة، واغتنمت [الفرصة]، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها([72]).
واستطاع النفر الذين قتلوا عثمان ومن شايعهم من الغوغاء وأوباش الناس، ومن لم يستقر الإيمان في قلوبهم، أن يذكوا النار بين الفريقين، فاقتتلوا وجرت الدماء فيما بينهم، والذي يطمئن قلوب المؤمنين أن هذه الحرب بين الصحابة ليس فيها نصيب للشيطان [في قلوبهم، ومبادئهم، وعقائدهم]، وذكر ابن كثير: «بلغت الضَّجَّةُ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَشْيَاعِهِمْ، فَقَالَ: اللَّهمّ الْعَنْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ»([73])، وعند ابن عساكر: «وسمع علي الدعاء، فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: عائشة تدعو، ويدعون معها على قتلة عثمان، وأشياعهم، فأقبل يدعو وهو يقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم»([74]).
وفي رواية عَنْ عُمَيْرِ بْنِ رُوزِيٍّ قَالَ: «سَمِعْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه يَقُولُ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ وَمَثَلُ عُثْمَانَ؟ كَمَثَلِ ثَلَاثَةِ أَثْوَارٍ كُنَّ فِي أَجَمَةٍ، ثَوْرٌ أَسْوَدُ، وَثَوْرٌ أَحْمَرُ، وَثَوْرٌ أَبْيَضُ، مَعَهُنَّ فِيهَا أَسَدٌ، وَكَانَ الْأَسَدُ لَا يَقْدِرُ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ لِاجْتِمَاعِهِنَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِلثَّوْرِ الْأَسْوَدِ وَلِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ: لَا يَدُلُّ عَلَيْنَا فِي أَجَمَتِنَا هَذِهِ إِلَّا هَذَا الثَّوْرُ الْأَبْيَضُ، فَإِنَّهُ مَشْهُورُ اللَّوْنِ، فَلَوْ تَرَكْتُمَانِي فَأَكَلْتُهُ صَفَتْ لِي وَلَكُمَا الْأَجَمَةُ، فَقَالَا: دُونَكَ فَأْكلْهُ، ثُمَّ مَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقَالَ لِلثَّوْرِ الْأَحْمَرِ: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْنَا فِي أَجَمَتِنَا هَذِهِ إِلَّا هَذَا الثَّوْرُ الْأَسْوَدُ، فَإِنَّ لَوْنَهُ مَشْهُورٌ، وَإِنَّ لَوْنِي وَلَوْنُكَ لَا يَشْتَهِرَانِ، فَلَوْ تَرَكْتَنِي فَأَكَلْتُهُ صَفَتْ لِي وَلَكَ الْأَجَمَةُ، وَعِشْنَا فِيهَا، قَالَ: دُونَكَ، فَأْكلْهُ، ثُمَّ مَكَثَ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَحَمَرِ إِنِّي لَآكلُكَ، قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُنَادِيَ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ، قَالَ: نَادِ، قَالَ: أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ، أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ، أَلَا إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ: أَلَا وَإِنِّي إِنَّمَا وَهَنْتُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ رضي الله عنه»([75]).
إذن الهدف الذي أراده قتلة عثمان من تبديد، وتدمير الدولة بدأت تبرز معالمه، فهذه الحرب قامت بدايتها بين الصحابة.
وبعد انتهاء المعركة، قام سيدنا علي رضي الله عنه بتفقد أرض المعركة، والبحث عن جرحى، والتعرف على القتلى، ويروي ابن كثير أن علياً دار بين القتلى، فرأى سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه [وكان في جيش عائشة]: «وَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا دَارَ بَيْنَ الْقَتْلَى، رَآهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ، وَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا مُحَمَّدٍ، يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ مجدولا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً»([76]).
ويروي ابن عساكر: «رأى علي بن أبي طالب طلحة بن عبيد اللَّه رحمة اللَّه عليه ملقى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: عزيز عليَّ أبا محمد بأن أراك مجندلاً في الأودية، وتحت نجوم السماء، ثم قال: إلى اللَّه أشكو عجري وبجري، قال نصر بن علي: فسألت الأصمعي عن قوله: عجري وبجري، فقال: سرائري، وأحزاني التي تموج في جوفي»([77])، ولذلك صاح أمام الملأ، وبين جنوده: «وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً»([78]).
وأما حرب علي ومعاوية ب، فقد ذكر البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ»([79]).
وقد أورد العلماء هذا الحديث وأمثاله على ما شجر بين الصحابة، ويؤيد هذا أن التاريخ لا يحدثنا عن خلاف بين الفريقين حول أحكام الإسلام، أو عقائده، أو شرائعه، إنما الخلاف على إمام لم يطعه والٍ من الولاة الذين يرون أنه لم تنعقد له الإمامة انعقاداً كاملاً، لأنها كانت في ظل المارقين القاتلين لعثمان رضي الله عنه، ورفض الانصياع لحكمه حتى يأخذ بثأر الخليفة القتيل ظلماً، وهذا ما جعل الفريقين بعيدين عن أحكام الحرب التي سنها الإسلام بين المسلمين والكفار والمنافقين، فعلي رضي الله عنه عندما يتحصن أمام الماء لم يمنع جيش معاوية منه([80])، وكذلك إطلاق علي رضي الله عنه الأسرى دون فداء، أو تبادل أسرى بين الفريقين([81])، وفي نصوص التحكيم التي وردت بين الفريقين، وشروطها دلالة كافية على أن دعوى الفريقين واحدة، حيث جاء فيها: «هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَاضَى عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ شِيعَتِهِمْ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَاضَى مُعَاوِيَةُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ: إِنَّا نَنْزِلُ عند حكم اللَّه وكتابه، ونحيى ما أحيى الله، وَنُمِيتُ مَا أَمَاتَ اللَّهُ، فَمَا وَجَدَ الْحَكَمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- وَهُمَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ- عَمِلَا بِهِ، وَمَا لَمْ يَجِدَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَالسُّنَّةُ الْعَادِلَةُ الْجَامِعَةُ غَيْرُ الْمُتَفَرِّقَةِ، ثُمَّ أَخَذَ الْحَكَمَانِ مِنْ عَلِيٍّ ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أَنَّهُمَا آمِنَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَهْلِهِمَا، وَالْأُمَّةُ لَهُمَا أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كِلَيْهِمَا عَهْدُ اللَّه وميثاقه أنهما عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»([82]).
ولا نستطيع القول إن حرب معاوية لعلي قد تشبه الخروج على الإمام في أحد وجوهها، حيث إن الصحابة الذين كانوا موجودين هم الذين بايعوا علياً، ونصبوه خليفة، وهنا امتنع معاوية من بيعته، ومن هذا الوجه قد يبدو لبعضهم أن يُعدّه خروجاً، على الحذر من الابتعاد عن أن معاوية ما ادّعى الخلافة، أو نادى بها، فهذا افتراء على التاريخ، «ومعاوية لم يَدَّعِ الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل عليٌّ أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له [أي لعلي] بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال .
بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب [على معاوية وأصحابه] عليهم طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته، يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم [أي أصحاب معاوية] قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقَتَلَتُه في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا([83]) ظلمونا، واعتدوا علينا»([84]).
ويتابع شيخ الإسلام ابن تيمية كلامه: «وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كُفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة، مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه، فإن فضل علي وسابقته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله، كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم y»([85]).
والروايات متتالية في عدم منازعة معاوية لعلي على الخلافة، «وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ، وَجَمَاعَةً مَعَهُ، دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تُنَازِعُ عَلِيًّا أَمْ أَنْتَ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنِّي وَأَفْضَلُ، وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنِّي، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنَا أَطْلُبُ بِدَمِهِ، وَأَمْرُهُ إِلَيَّ؟ فَقُولُوا لَهُ: فَلْيُسَلِّمْ إِلَيَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَنَا أُسَلِّمُ لَهُ أَمْرَهُ، فَأَتَوْا عَلِيًّا فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِمْ أَحَدًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ مُعَاوِيَةَ»([86]).
وعلى هذا يمكن القول كذلك إنه ليس خروجاً بالمعنى الصحيح المعروف؛ لأن معاوية رضي الله عنه لم يرفض إمامة علي رضي الله عنه ابتداء، ولم يدّع الخلافة أصلاً، أو لم يطلبها – كما سبق-، فقد اتفق الطرفان المتنازعان على التحكيم، فيقول الشيخ محب الدين الخطيب : حول هذا الموضوع: «فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم، تناول التحكيم شيئًا واحدًا هو الإمامة، أما التصرف العملي في إدارة البلاد التي كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين، فبقي كما كان: علي متصرف في البلاد التي تحت حكمه، ومعاوية متصرف في البلاد التي تحت حكمه، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة، وكان يكون محلاً للمكر أو الغفلة، لو أن عمرًا أعلن في نتيجة التحكيم أنه ولّى معاوية إمارة المؤمنين، وخلافة المسلمين، وهذا ما لم يعلنه عمرو، ولا ادّعاه معاوية، ولم يقل به أحد في الثلاثة عشر قرنًا الماضية، وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية، ومن ذلك اليوم فقط سمي معاوية أمير المؤمنين»([87]).
فمعاوية هنا لا يكون خارجاً عن الإمام ولا عليه، إذا أخذنا بادّعائه أنه وليّ الخليفة المتفق على إمامته – وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه - وأنه كان والياً عنده، وباعتباره ولياً له، فلن يترك الولاية حتى يأخذ له بثأره، ولذلك ورد في بعض الروايات أن أبا الدرداء، وأبا أمامة ب دخلا «على معاوية فقالا له: يا معاوية، علام تقاتل هذا الرجل [يعنيان علياً رضي الله عنه]؟ فو اللَّه إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً، وَأَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ، فَقَالَ: أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَاذْهَبَا إِلَيْهِ فَقُولَا لَهُ فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عثمان، ثم أنا أول من بايعه منْ أَهْلِ الشَّامِ»([88]).
إذن معاوية لا ينكر خلافة علي، ولا يرفضها، ولكنه كان يشترط الأخذ بثأر عثمان، باعتباره وليَّ المقتول الشهيد، فهو وليُّه – كما يرى لأنه ابن عمه- وأن له السلطان في الأخذ بثأره، فهو يشترط البيعة بالأخذ بالثأر، وقد يكون هذا – برأيي – شرطاً غير كافٍ لتبرير موقفه هذا، فإنه قد يوحي بالخروج على الخليفة الذي بايعه كثير من المسلمين في المدينة بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، وفيهم عدد كبير من الصحابة، فهو من الناحية الفقهية اجتهاد حقيقي، وليس خروجاً، أو إنكاراً للخليفة.
والدليل على هذا الاجتهاد، وأنه ليس إنكاراً أو خروجاً، هو أنه لم يكن يقاتل علياً حمية جاهلية، ولا تكفيراً، أو تفسيقاً، بل اجتهاد – كما سبق – وقد جاء رواية عن معاوية ورأيه في علي بن أبي طالب ب «لَمَّا جَاءَ خَبَرُ قَتْلِ عَلِيٍّ إِلَى مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ قَاتَلْتَهُ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ، إِنَّكِ لَا تَدْرِينَ مَا فَقَدَ النَّاسُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ، وفي رواية أنها قالت له: بالأمس تقاتلنه، واليوم تبكينه؟»([89]).
ولذلك يرجح، بل يجزم، ابن كثير على أن الحرب بينهما كانت باجتهاد، ويستشهد بالحديث الذي يذكر مروق الخوارج بأن الذين يقاتلونهم هم الفرقة الأدنى إلى الحق من الفريقين المختلفين من المسلمين اللذين دعوتهما واحدة، فيقول: «ثُمَّ كَانَ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ بَعْدَ قَتَلِ عُثْمَانَ، عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ عَظِيمٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَعَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةُ مَعْذُورٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَقَدْ شَهِدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالْإِسْلَامِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ- أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ- كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيح: «تمرق مارقة على خير فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُهَا أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ» فَكَانَتِ الْمَارِقَةُ الْخَوَارِجَ، وَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ»([90]).
([1]) تاريخ الطبري (1/ .
([2]) الباعث الحثيث، (181).
([3]) البداية والنهاية (9/ 225).
([4]) شذرات الذهب ( 1 / 65 ).
([5]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (4/ 54).
([6]) البداية والنهاية (8/ 138).
([7]) صحيح مسلم، حديث رقم (1087).
([8]) مقدمة ابن خلدون 1/ 275.
([9]) صحيح البخاري، رقم4801.
([10]) السيرة الحلبية إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون (1/ 404)
([11]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (4/ 322)
([12]) سيرة ابن إسحاق (4/ 191)، وهي صحيحة، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 207)، ومصنف ابن أبي شيبة (7/ 255)، رقم 35829، وفي روايات هذه الكتب ألفاظ: تحاكت الركب، وتحاذينا على الركب، وتجاثينا على الركب.
([13]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 505).
([14]) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (1/ 496).
([15]) صحيح مسلم (2797).
([16]) انظر الرواية في القترة المدنية.
([17]) صحيح مسلم (1793).
([18]) صحيح مسلم (1794).
([19]) السيرة النبوية لابن كثير (1/ 501)
([20]) سيرة ابن إسحاق (2/ 136، مسند أبي يعلى (12/ 176)، (6804).
([21]) الطبقات الكبرى (1/ 163).
([22]) تاريخ المدينة لابن شبة (2/ 454).
([23]) مسند أحمد (5/ 301)، (3251)، وذكره في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (7/ 27)، وقال: «رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ عُثْمَانُ بْنُ عَمْرٍو الْجَزَرِيُّ، وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ».
([24]) السيرة النبوية لابن كثير (2/ 228)
([25]) صحيح البخاري، (3911).
([26]) صحيح مسلم (1798).
([27]) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 249).
([28]) مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 94).
([29]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/ 363)
([30]) مستخرج أبي عوانة، (15/ 54). وانظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/ 221)،
([31]) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 39).
([32]) دلائل النبوة للبيهقي (3/ 245).
([33]) صحيح البخاري (2805).
([34]) البداية والنهاية (4/ 72)، المعجم الكبير للطبراني (20/ 358)، تاريخ خليفة بن خياط (ص: ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/ 129): «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَى ابْنِ إِسْحَاقَ»، وقد وردت القصة بتمامها مفصلة في صحيح البخاري، رقم (4086).
([35]) صحيح البخاري، رقم 3610، وصحيح مسلم، رقم 1063- 1064.
([36]) البداية والنهاية، 6/ 311. وانظر: إمتاع الأسماع للمقريزي، 14/ 236.
([37]) البداية والنهاية، 6/ 311.
([38]) البداية والنهاية، 6/ 327.
([39]) صحيح البخاري، رقم 1399، 1400.
([40]) صحيح البخاري، رقم 7284، 7285، وصحيح مسلم، رقم 20.
([41]) صحيح البخاري (3620).
([42]) البداية والنهاية (4/ 418).
([43]) صحيح البخاري (4378).
([44]) انظر: البداية والنهاية (9/ 495).
([45]) مسند أحمد (15989)، وإسناده صحيح.
([46]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 355).
([47]) البداية والنهاية (10/ 64).
([48]) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان (2/ 497).
([49]) البداية والنهاية (4/ 167).
([50]) الروض الأنف (7/ 64).
([51]) صحيح البخاري (10/ 103)، رقم الحديث 4066.
([52]) صحيح مسلم (4/ 1866)، حديث رقم 2401.
([53]) البداية والنهاية (7/ 171).
([54]) العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية (ص: 101).
([55]) الخراج لأبي يوسف الطبعة السلفية سنة 1352 (ص60 – 62).
([56]) تاريخ الطبري (5: 103).
([57]) منهاج السنة النبوية (3/ 187 - 188).
([58]) تاريخ الطبري (3/ 237).
([59]) انتهى ما ذكره الشيخ محب الدين الخطيب.
([60]) البداية والنهاية (7/ 171).
([61]) البداية والنهاية (7/ 171).
([62]) انظر ذلك في المصدر السابق.
([63]) البداية والنهاية (7/ 180).
([64]) مسند أحمد (41/ 113) 24566، إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح.
([65]) مسند أحمد (42/ 84)، ح 25162، حديث حسن، وصحيح ابن حبان (15/ 346)، ح 6915، وسنن الترمذي (5/ 628)، ح 3705، قال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (7/ 173): «رَوَاهُ أبو بكر بن أبي شيبة وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ مُخْتَصَرًا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ».
([66]) الأخبار الطوال للدينوري (ص: 166)
([67]) العواصم من القواصم (ص: 143).
([68]) انظر: المصدر السابق (ص 145)، والبداية والنهاية (7/ 181).
([69]) جامع الأصول (12/ 492).
([70]) المجالسة وجواهر العلم (3/ 454).
([71]) سورة النساء: 114.
([72]) انظر: العواصم من القواصم (ص: 156).
([73]) البداية والنهاية (7/ 242).
([74]) تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 111).
([75]) تاريخ المدينة لابن شبة (4/ 1233)، مصنف ابن أبي شيبة (7/ 562)، رقم الحديث 37933، تاريخ دمشق لابن عساكر (39/ 472).
([76]) البداية والنهاية (7/ 247).
([77]) تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 111، صحيح مسلم (4/ 2214)، ح 157.
([78]) البداية والنهاية (7/ 247)، وانظر: أسد الغابة (2/ 471)، تاريخ دمشق لابن عساكر (25/ 115).
([79]) صحيح البخاري (9/ 59)، ح: 7121.
([80]) انظر: تاريخ الطبري (3/ 76)، البداية والنهاية (7/ 256)، تاريخ ابن خلدون (2/ 627).
([81]) ذكر ابن كثير أن علياً «قَدْ أَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية، وكان قد عزم على قتلهم؛ لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أُولَئِكَ الَّذِينَ أَطْلَقَهُمْ، أَطْلَقَ مُعَاوِيَةُ الَّذِينَ فِي يَدِهِ». البداية والنهاية (7/ 277).
([82]) البداية والنهاية (7/ 276)، وانظر: تاريخ ابن خلدون (2/ 634).
([83]) هكذا في مجموع الفتاوى، وأما في مختصر الفتاوى المصرية (ص: 484): «هم غالبون لهم شوكة، فإذا لم نمتنع ظلمونا، واعتدوا علينا، وعليٌ لا يمكنه دفعهم، كما لا يمكنه الدفع عن عثمان».
([84]) مجموع الفتاوى (35/ 69).
([85]) مجموع الفتاوى (35 / 70).
([86]) البداية والنهاية (8/ 129)، وقد ذكر ابن حجر هذه الرواية، وصدرها بقوله: «وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي، أحد شيوخ البخاري، في كتاب صفين في تأليفه بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع علياً في الخلافة... إلخ» فتح الباري لابن حجر (13/ 86).
([87]) العواصم من القواصم (ص: 174).
([88]) البداية والنهاية (7/ 259).
([89]) البداية والنهاية (8/ 130).
([90]) البداية والنهاية (8/ 126)، والحديث في صحيح مسلم (2/ 741)، ح ( 1064)،
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin