ورواية أخرى تجمع بين مسيلمة الكذاب ومتنبئ آخر هو الأسود العنسي، عن عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: «بَلَغَنَا أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَكَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ خَطِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضِيبٌ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: إِنْ شِئْتَ خَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ جَعَلْتَهُ لَنَا بَعْدَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَوْ سَأَلْتَنِي هَذَا الْقَضِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ وَسَيُجِيبُكَ عَنِّي)، فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي ذَكَرَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُرِيتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ)، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزُ بِالْيَمَنِ، وَالْآخَرُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ»([43]).
والرَّجَّالَ بْنَ عُنْفُوَةَ الحنفي الذي أسلم على طريقة مسيلمة، وَاسْمُهُ نَهَارٌ، أَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَرَجَعَ، فَصَدَّقَ مُسَيْلِمَةَ، وَشَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، فَحَصَلَ بِهِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ»([44]).
والحسد هنا ظاهر واضح عند مسيلمة، وعند من تبعه، فهو لا يستطيع أن يحارب النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، فبدأ يفاوضه حول استلام الأمر بعده، وإلا... ولذلك كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم هو لتوقع مسيلمة الكذاب: وإلا.
ولندرك كيف كان حقد مسيلمة، والإحن في قلبه نحو الإسلام والمسلمين، سأستعرض بعص الروايات:
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ نُعَيْمٍ، قَالَ: سمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: حِينَ قَرَأَ كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، قَالَ لِلرَّسُولَيْنِ: فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟ قَالَا: نَقُولُ: كَمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا)([45]).
ولندرك مدى الإحن في نفوس أعداء الإسلام في كل وقت وحين ومكان، وكيف يُظهرون الشنآن والبغض الكامن، نعرض قصة «حَبِيبَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيَّ الْأَزْدِيَّ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ [وهو ابن نسيبة بنت كعب]، وَنَسَبَهُ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَصُحِّفَ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، أَخَذَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟ فَيَقُولُ: «نَعَمْ»، فَيَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟ فَيَقُولُ: «لَا أَسْمَعُ»، فَقَطَّعَهُ مُسَيْلِمَةُ، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبٍ اسْمُهَا نُسَيْبَةُ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، فَخَرَجَتْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، فَبَاشَرَتِ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا، حَتَّى قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ، وَرَجَعَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبِهَا عشر جِرَاحَاتٌ مِنْ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ، حَدَّثَنَاهُ حَبِيبُ بْنُ الْحَسَنِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِهَذَا»([46]).
فرسولا مسيلمة حفظهما، وأبقى على أرواحهما؛ لأن الرسل لا تقتل عند العرب والمسلمين، وفي كل الأعراف، ولكن أصحاب الحقد والبغض، والصدور التي تغلي مراجلها حقداً على هذا الدين، رأينا كيف أن حبيب هذا قطّعه مسيلمة قطعة قطعة، وهو يطالبه بالإقرار بنبوته الكاذبة، فذهب حبيب شهيداً رضي الله عنه.
هذه المحاولات التي بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى عهد عثمان، كانت تضم العرب، واليهود، والمنافقين، وما حدث في عهد أبي بكر لم يكن من فئات مسلمة، بل هي فئات مرتدة، أو منافقة، أو يهودية، تريد استئصال شأفة الإسلام، وفي عهد عمر رأى الأعداء أن القوة لم تنجح في عهد أبي بكر، فقاموا باغتيال عمر بن الخطاب ليفرط عقد الدولة – حسب تصورهم – فوقى اللَّه الأمة من هذا الأمر، وبقيت الدولة قائمة قوية، فلجؤوا إلى الطريقة التي تتظاهر بالدين، وتفتك به بواسطة أهله، وأتباعه، وكان المؤتمرون في قتل عمر رضي الله عنه:
قُتِلَ عُمَرُ، فَاتَّهَمَهُ [أي الهرمزان] بَعْضُ النَّاسِ بِمُمَالَأَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ هُوَ وَجُفَيْنَةُ، فَقَتَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ وَجُفَيْنَةَ([47]).
وذكر الإمام ابن حبان: «خرج أبو لؤلؤة على وجه يريد البقيع، وطعن في طريقه اثني عشر رجلاً، فخرج خلفه عبيد اللَّه بن عمر، فرأى أبا لؤلؤة، والهرمزان، وجفينة [وكان] نصرانيًا، وهم يتناجون بالبقيع، فسقط منهم خنجر له رأسان، ونصابه [في] وسطه [وهي صفة الخنجر الذي طُعن فيه عمر رضي الله عنه]، فقتل عبيد اللَّه أبا لؤلؤة، والهرمزان، وجفينة ثلاثتهم»([48]).
فذكر هذه الرواية لاتفاق ثلاثة: فارسيان، ونصراني على قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، توحي بأن أمر أعداء هذا الدين رأوا أن التخلص من هذا الدين هو قتل خليفتهم، ليتفرق شملهم، ويتناثر شعثهم، فلا يجمعهم جامع، ولكن هذه المحاولة ثبت أنها لم تؤدِّ إلى ما أرادوا، فخلال أقل من ثلاثة أيام كانت بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتنصيبه خليفة على المسلمين.
رأى أعداء هذا الدين على ما يظهر أن قتل الخليفة وحده لا يجدي، فانتقلوا إلى مرحلة جديدة، وهي تأليب الأمة على الخليفة، والطعن في نزاهته، وهذا ما بدؤوه في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو من الخلفاء الراشدين، وعثمان بن عفان رضي الله عنه هو الملقب بذي النورين، ولسنا بحاجة للثناء عليه، أو مدحه، فيكفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوّجه ابنتيه، وأرسله رسولاً له يوم الحديبية، وكانت بيعة الحديبية تحت الشجرة انتقاماً له، لمّا جاء الخبر أن الكفّار في مكة قتلوه، وبايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين تحت الشجرة، وقصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم دَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وليس بمكة من بني عدي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بها مني: عثمان بن عَفَّانَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَبَعَثَهُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لحرب، وإنما جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لِحُرْمَتِهِ، فَخَرَجَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجَارَهُ حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ما أَرْسَلَهُ بِهِ، فَقَالُوا لِعُثْمَانَ حِينَ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ، قَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: (لا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ)، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْبَيْعَةِ، وكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة»([49])، وقال السهيلي: «... أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ (لَا نَبْرَحُ حَتّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ)، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النّاسَ إلَى الْبَيْعَةِ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ، فَكَانَ النّاسُ يَقُولُونَ بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: «إنّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرّ، فَبَايَعَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم النّاسَ، وَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا»([50]).
وهكذا كان اختيار عثمان رضي الله عنه لما كان عليه من عظمة ومقام عند النبي صلى الله عليه وسلم، وعند قريش، وهذا ما ذكره عمر عندما عرض عليه النبي مختاراً له للذهاب إلى مكة، فقال له: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وليس بمكة من بني عدي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أَعَزَّ بها مني: عثمان بن عَفَّانَ»، فهذا هو عثمان حييُ رب العالمين، والنبي والمؤمنين، ويزيد على ذلك حقد قريش على عمر رضي الله عنه؛ لأنه كان شديداً عليها، وقد جاء في رواية البخاري: «... فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَمَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ، اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ)([51]).
فبيعة الرضوان هي نصرة لعثمان، ومن أجل الثأر له، ولكن النبوة وحي، فقد أشار النبي هنا أن عثمان بايع بيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يد عثمان، والبيعة – كما قلت – أصلاً هي انتقام لعثمان، وبيعة النبي لعثمان بيده من معجزات النبوة، فإن البيعة أصبحت رتبة من الرتب التي رتبها النبي للمسلمين، فهناك الأولون ممن آمن من الصحابة، وهناك المهاجرون، وهناك الأنصار، وهناك البدريون، وهناك المبايعون يوم الحديبية، وهناك من أسلم قبل الفتح، وهناك من أسلم بعد الفتح، فعثمان من الأولين ممن آمن، ومن المهاجرين، ونلاحظ أن النبي اعتبره مع البدريين، لأنه طلب منه أن يبقى في المدينة ليمرّض زوجه رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم له من الفيء كما قسم لمن حضر، وحضر أحد والخندق، وجعله ممن حضر الحديبية، وبيعة الرضوان، مع أن كل البيعة حصلت من أجله هو، ولنصرته هو، ومع ذلك بايع عنه النبي بيده الشريفة عن يد عثمان لينال درجة المبايعين.
ونحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن عثمان رضي الله عنه، أو الثناء عليه، فهو أكبر من كل ذلك كله، وصحبته تفوق كل عناصر الدفاع، وعناصر المدح والثناء، ولكننا هنا بصدد ما حدث من الإحن عليه التي وقعت في عهده.
ولذلك عاث أعداء هذه الأمة فساداً بين الناس، يؤلبون عليه العامة، وينشرون الأفكار المسمومة الخبيثة، ويطعنون بذي النورين، وهو عثمان بن عفان الذي روت عائشة ل حديثاً يقول:
كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَسَوَّى ثِيَابَهُ - قَالَ مُحَمَّدٌ [بن أبي حرملة: أحد الرواة]: وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ - فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ، فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ، فَجَلَسْتَ، وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ، فَقَالَ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ»([52])، وأقول فعلاً هؤلاء لا يستحون، فالملائكة تستحي من عثمان، ونبينا يستحي من عثمان، وهؤلاء لا يستحون من الله، ولا من الملائكة، ولا من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من عثمان رضي الله عنه، فبمَ اتهم عثمانَ هؤلاء الذين خرجوا عليه، وما المآخذ التي أخذوها عليه، ولو أجملناها لوجدناها:
1- حمى الحمى.
2- حرق المصاحف.
3- أتم الصلاة في السفر.
4- ولّى الأحداث (الشباب الصغار)، وترك الصحابة الأكابر.
5- أعطى بني أمية من مال الدولة أكثر مما أعطى باقي الناس.
6- عتبوا عليه عقابه لعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر.
7- عتبوا عليه إيواءه الحكم بن أبي العاص، وقد نفاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف([53]).
وبما أننا – كما قلنا – لسنا بصدد الدفاع عن عثمان، إلا أنني أجدني مضطراً إلى ذكر بعض الردود التي وردت على لسان بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو عثمان نفسه رضي الله عنه، يرد على هذه الاتهامات، حتى لا يتسرب إلى نفس القارئ شكوك حول الخليفة الراشد، وما اتُّهِم به.
ذكر الإمام ابن كثير :: «فَأَجَابَ عَلِيٌّ عن ذلك: أما الحمى، فإنما حماه لإبل الصَّدَقَةِ لِتَسْمَنَ، وَلَمْ يَحْمِهِ لِإِبِلِهِ، وَلَا لِغَنَمِهِ، وَقَدْ حَمَاهُ عُمَرُ مِنْ قَبْلِهِ.
وَأَمَّا الْمَصَاحِفُ، فَإِنَّمَا حَرَقَ مَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَأَبْقَى لَهُمُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ.
وَأَمَّا إِتْمَامُهُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِهَا، وَنَوَى الْإِقَامَةَ فَأَتَمَّهَا.
وَأَمَّا تَوْلِيَتُهُ الْأَحْدَاثَ، فَلَمْ يُوَلِّ إِلَّا رَجُلًا سَوِيًّا عَدْلًا، وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَتَّابَ بْنَ أُسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَلَّى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَطَعَنَ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فقال: (إنه لخليق بالإمارة).
وَأَمَّا إِيثَارُهُ قَوْمَهُ بَنِي أُمَيَّةَ [مع أن عطاءه لبني أمية كان من ماله الخالص]، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِرُ قريشاً على الناس، وواللَّه لَوْ أَنَّ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ بِيَدِي، لَأَدْخَلْتُ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهَا».
ونقل الشيخ محب الدين الخطيب ♫ الآتي([54]): ولـ«أبي يوسف كلام سديد في هذا الموضوع في كتاب الخراج([55])، وما زعمه الزاعمون من أن عثمان كان يودّ ذوي قرابته، ويعطيهم، فمودته ذوي قرابته من فضائله، وعليٌّ أثنى على عثمان بأنه أوصل الصحابة للرحم، وعثمان أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا إني أحب أهل بيتي، وأعطيهم، فأما حبي لهم؛ فإنه لم يَمِلْ معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم، فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتت علي أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وودعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا! ؟، قال الطبري([56]): «وكان عثمان قد قسم ماله، وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب»، بل توسع شيخ الإسلام ابن تيمية في الاحتمالات فذكر في منهاج السنة([57]) أن سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام، كما قاله الحسن، وأبو ثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية. . . وقيل هو لمن ولي الأمر بعده. . . قال: وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية، أو بمال، ثم قال([58]): إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدها أنه عامل عليه، والعامل يستحق مع الغنى، الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام، الثالث أنهم (أي ذوو قربى عثمان) كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطائهم، وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به»([59]).
ثم يقول ابن كثير: «وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي عَمَّارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرَ عُثْمَانُ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِمَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا.
وَعَتَبُوا عَلَيْهِ فِي إِيوَائِهِ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الطَّائِفِ، فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَدْ نَفَاهُ إِلَى الطَّائِفِ ثُمَّ رَدَّهُ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَدَّه»([60]).
من هذا الحوار بين الإمام علي والقائمين عليه، بدأت تظهر آراء، ومنها رأي الإمام علي رضي الله عنه: «وَيُرْوَى أَنَّهُمْ بَعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ، فَشَهِدُوا خُطْبَةَ عُثْمَانَ هَذِهِ، فَلَمَّا تَمَهَّدَتِ الْأَعْذَارُ، وَانْزَاحَتْ عِلَلُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شُبْهَةٌ، أَشَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ على عثمان بتأديبهم، فصفح عنهم رضي الله عنه، وَرَدَّهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، وَلَمْ يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا كَانُوا أَمَّلُوا وَرَامُوا، وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِمْ عَنْهُ، وَسَمَاعِهِمْ مِنْهُ»([61]).
وهنا يتساءل المرء عن هذه الأمور التي أخذها هؤلاء الخارجون على عثمان رضي الله عنه:
هل الحجج التي تذرع بها هؤلاء الغوغاء الحاقدون كافية لخلعه، أم هي ذرائع لضرب دولة الإسلام، ولنشر الفوضى وتحويل الدولة إلى عصابات، وإمارات قبلية لا وجود لسلطان الدولة فيها، وهل كانت حججهم مقنعة، وكافية لخلع الإمام إن صحت، أم كانت مآخذ صحيحة ومقبولة؟ أم هي تمحل وادّعاء، وليس فيها نصيب من الإصلاح للدولة، وإعادة سيرها كما كانت في عهد الشيخين: أبي بكر وعمر ب؟ كما زعموا؛ لأن هؤلاء الخارجين كانوا يحتجون بسيرة الشيخين ب، وينعون على عثمان رضي الله عنه انحرافه عن هذه السيرة([62]).
وقد عرضنا في الفقرات السابقة مآخذهم على عثمان رضي الله عنه، ولكن ما المطالب التي يريدون تحقيقها لإنهاء خروجهم؟
قال ابن كثيراً نقلاً عن ابن جرير: «إن عثمان اسْتَدْعَى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَوُضِعَتْ لِعُثْمَانَ وِسَادَةٌ فِي كُوَّةٍ مِنْ دَارِهِ، فَأَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَشْتَرُ مَاذَا يُرِيدُونَ؟
فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْكَ إِمَّا أَنْ تعزل نفسك عن الإمرة، وإما أن تفتدي مِنْ نَفْسِكَ مَنْ قَدْ ضَرَبْتَهُ، أَوْ جَلَدْتَهُ، أَوْ حَبَسْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوكَ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ نُوَّابَهُ عَنِ الْأَمْصَارِ، وَيُوَلِّيَ عَلَيْهَا مَنْ يُرِيدُونَ هُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ نَفْسَهُ أَنْ يُسْلِمَ لَهُمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَيُعَاقِبُوهُ كَمَا زَوَّرَ عَلَى عُثْمَانَ كِتَابَهُ إِلَى مِصْرَ، فَخَشِيَ عُثْمَانُ إِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَيَكُونَ سَبَبًا فِي قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَمَا فَعَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا يَسْتَحِقُّ بِسَبَبِهِ الْقَتْلَ، وَاعْتَذَرَ عَنِ الاقْتِصَاصِ مِمَّا قَالُوا بِأَنَّهُ رَجُلٌ ضَعِيفُ الْبَدَنِ كَبِيرُ السِّنِّ [!؟!]، وَأَمَّا مَا سَأَلُوهُ مِنْ خَلْعِهِ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ، وَلَا يَنْزِعُ قَمِيصًا قَمَّصَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَيَتْرُكُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يَعْدُو بَعْضُهَا عَلَى بعض، ويولى السفهاء من الناس من يختارونه هم، فيقع الهرج، ويفسد الأمر [كما ظن]، فإن فعل فسدت الأمة ووقع الهرج، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ إِنْ كُنْتُ كُلَّمَا كَرِهْتُمْ أَمِيرًا عَزَلْتُهُ، وَكُلَّمَا رَضِيتُمْ عَنْهُ وَلَّيْتُهُ؟ وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا تَتَحَابُّوا بعدي، وَلَا تُصَلُّوا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَا تُقَاتِلُوا بَعْدِي عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا، وَقَدْ صَدَقَ رضي الله عنه فِيمَا قَالَ»([63]).
ولأمر ما طلبوا منه التنازل عن الخلافة، ولكنه كان يحفظ حديثاً نبوياً، وأكثرهم يعرف هذا الحديث، وهو ما رواه الإمام أحمد «عَنْ عَائِشَةَ ل، قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلَامٍ كَلَّمَهُ، أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ، وَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّه U عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي، يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّه عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي» ثَلَاثًا، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ كَانَ هَذَا عَنْكِ؟ قَالَتْ: نَسِيتُهُ، وَاللَّه فَمَا ذَكَرْتُهُ، قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمْ يَرْضَ بِالَّذِي أَخْبَرْتُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ بِهِ، فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهِ كِتَابًا»([64]).
والرواية التي تذكر كتابة عائشة هي ما رواه الإمام أحمد: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، حَدَّثَهُ قَالَ: كَتَبَ مَعِي مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهَا كِتَابَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أَلَا أُحَدِّثُكَ بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنِّي كُنْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ يَوْمًا مِنْ ذَاكَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَبْعَثُ لَكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يُحَدِّثُنَا»؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَا أُرْسِلُ لَكَ إِلَى عُمَرَ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: «لَا»، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا فَسَارَّهُ بِشَيْءٍ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ أَقْبَلَ عُثْمَانُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَحَدِيثِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ: (يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّه U لَعَلَّهُ أَنْ يُقَمِّصَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ) ثَلَاثَ مِرَارٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ كُنْتِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّه لَقَدْ أُنْسِيتُهُ حَتَّى مَا ظَنَنْتُ أَنِّي سَمِعْتُهُ»([65]).
فنص الحديث النبوي أنهم منافقون، وهو ما أشرنا إليه من أن هؤلاء الغوغاء والأوباش كانوا سلّماً للتخطيط الذي بدأت تظهر بوادره واضحة في الحرب على الدولة الإسلامية الفتية لوأدها في مهدها، وهل كلما قامت فئة من الناس، لا يُعرف عنها علم، ولا صلاح، ولا مكانة في الأمة، تريد تغيير الخليفة تطاع، وتصبح الخلافة، وتنصيب الحاكم لعبة بين أيدي السفهاء والغوغاء، أم لا بد من نظام، ونهج مطلوب في إحقاق خليفة، أو خلعه، كما ذكر صاحب الأخبار الطوال: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من عبد اللَّه علي [ابن أبي طالب] أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فقد لزمك، ومن قبلك من المسلمين بيعتي، وأنا بالمدينة، وأنتم بالشام؛ لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان y، فليس للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الأمر في ذلك للمهاجرين والأنصار؛ فإذا اجتمعوا على رجل مسلم فسموه إماماً، كان ذلك للَّه رضى، فإن خرج من أمرهم أحد بطعن فيه، أو رغبة عنه، رد إلى ما خرج منه»([66]).
بغض النظر عن صحة الرواية، لأن معناها صحيح، وليس لأنها حكم شرعي، بل هي نظام لا بد منه عقلاً، وشرعاً، وإلا كانت الفوضى، وتهارج الناس فيما بينهم تهارج الحمر.
ولذلك حدث ما قال عثمان رضي الله عنه في آخر كلامه من الهرج والمرج، ونرى أن هؤلاء الخارجين لم يخفوا أهدافهم المباشرة، فهم يريدون إقصاء الخليفة، وهدم الخلافة، وإلا فالقتل نهايته، والمآخذ التي تذرعوا بها، لا تتناسب مع النتائج التي يطلبونها، ولذلك كان الناس في عهده يحسّون بأن هؤلاء الخارجين معظمهم أصحاب فتنة، يريدون هدم الدولة الإسلامية من أساسها، وهذا ما استشفه عثمان رضي الله عنه من أقوالهم، فخاطبهم هذا الخطاب، وحذرهم هذه النتائج الوخيمة.
وهم يدّعون أنهم إنما يفعلون ما يفعلون هو تصحيح لمسار الدولة، وتصحيح موضوع الخلافة، والتخلص من الخليفة الضعيف المسكين الذي يتحكم به أسرته (بنو أمية)، وأقاربه وأصحابه.
وضعف عثمان هذا إنما هو ادعاء لا حقيقة له، لأن عثمان كان شديداً فيما يحكم به، وما جلده لأخيه من الرضاعة لاتهامه بالمسكر، وما إصراره على نسخ القرآن للأمصار، وعقوبة جميع الذين رفضوا تسليم الصحف المكتوبة عندهم، هذا كله يدل على أن نسبة الضعف إلى عثمان إنما هي كذب وافتراء، وأما تركه للخارجين عنه، فهي – كما أرى – أفضل ما قام به عثمان رضي الله عنه، لأنها أثبتت أن عثمان كان عنده حدْس مستقبلي على مستوى أمة الإسلام كلها، وعلى مدى تاريخ هذه الأمة، فهو ترك الشذاذ والأفاقين والغوغاء ومدعي الإصلاح، ولم يحمل عليهم سلاحاً، ولم يقتل منهم أحداً، ولم يُدخل أحداً منهم إلى سجن، أو يقيم عليه عقوبة، ولو فعل لكان من حقه، ولكنه علم أن هذا العمل سيكون حجة لكل مستبد، وطاغية.
وفي مثل هذه الثورة يحسّ الإنسان أن على الخليفة أن يكون ذا يد من حديد، ويحطم كل من تطوع له نفسه هدم أركان الدولة بادعاءات مطبوخة في مطابخ النفاق والفجور، وتتزيا بزي ظاهري قشيب، ولكن نقول: لماذا لم يفعل عثمان كما هو المتوقع من الخليفة الحاكم القويّ، فلم يُعدم هؤلاء الخارجين، أو ينفيهم من البلاد، أو يعاقبهم بالسجن؟.
يقول القاضي أبو بكر بن العربي :: «وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها: هل يلقى بيده، أو يستنصر؟، وأجاز بعضهم أن يستسلم، ويلقى بيده اقتداء بفعل عثمان، وبتوصية النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بذلك في الفتنة.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يكُ [يُرى] في الأرض منكرٌ، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا إليَّ [واستسلمت] لأمر اللَّه، وأمرت كل من حولي ألا يدافعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا علي، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار، لكنت قتيل الدار.
وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم المتقدمة، والثاني الاقتداء بعثمان، والثالث سوء الأحدوثة التي فر منها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم المؤيدة بالوحي، فإن من غاب عني، بل من حضر من الحسدة معي، خفت أن يقول: إن الناس مشوا [مستعينين به] مستغيثين له، فأراق دماءهم.
وأمرُ عثمان كله سنة ماضية، وسيرة راضية، فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك، وأنه «بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد»([67]).
فنبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن عمل الخلفاء الراشدين سنة مهدية، ولو فعل عثمان كما يفعل الطغاة، لأصبح هذا العمل بالقتل، أو التعذيب، أو العقاب سنة ماضية، يحتج بها كل الطغاة إلى يوم القيامة، كما نرى أن بعض الأحاديث التي يستخدمها الطغاة، والدعاة لهم؛ لمنع أي طلب للإصلاح، بحجة الطاعة مهما بلغ السوء والطغيان بالسلطان، ويحاولون تأويل أحاديث أخرى تطالب بالصدع بالحق، ورفض الظلم، فرضي اللَّه عن عثمان، وأرضاه، وبما أن ما يقوم به الخلفاء الراشدون سنة متبعة عند المسلمين، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، فإن هؤلاء الصحابة كانوا يدركون خطورة أي عمل يقومون به، فإن عثمان رضي الله عنه أصر على عدم الدفاع عنه، بل كان يرفض ذلك بشدة، ولو رغب بهذا، أو وافق عليه، لوجد الصحابة كلهم جنوداً له، ذائدين عنه([68])، وأصبحت سنة الحكام – سواء كانوا صالحين أم مفسدين، فجرة أم كافرين - في مخالفيهم القتل والصلب، فهم الآن يقومون بهذا الأمر، فيقتلون، ويُعدمون مخالفيهم دون احتجاج برواية عن صحابي، فما بالنا بعثمان ذي النورين رضي الله عنه الخليفة الراشد الثالث، وسكوت عثمان رضي الله عنه، وتحمله لصلفهم وانحرافهم، لم يردعهم عن مثل هذا العمل، إلا أنهم لا يجدون من أعمال الصحابة شيئاً يؤيد ما يقومون به، فيحاول بعض العلماء أن يبرروا لهؤلاء الحكام – ظالمين أو عادلين – مثل هذه الأعمال اعتماداً على نصوص مؤولة أو ملتوية، أو مبتورة، أو صحيحة – في بعض المرات – دون البحث في أسباب هذه المخالفات التي يجنح إليها كثير من الشباب – هذه الأيام – ليخففوا من غلوائهم، أو تمردهم، أو ثورتهم.
ولكن من هم هؤلاء الذين خرجوا على عثمان، وما صفاتهم، وأحوالهم، وما أهدافهم التي أعلنوا عنها، وأهدافهم التي أضمروها، فظهرت نتائجها في الفتنة الكبرى التي حدثت بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin