إحسان الإحسان - 8 -
بين التشدد والاعتدال
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله:
[وللتقي السبكي إمام عصره شيخ آخر شاذلي. فمن هم هؤلاء العارفون الذين تخضع لهم هامات رفعها العلم وزانتها التقوى وأحاطتها هالة الاحترام؟ هل كان مشايخ التربية أهلا لذلك التقدير العظيم الذي نالوه من خاصة العلماء وأفذاذهم كما نالوه من العامة؟ هل كانوا من الأخيار الصالحين بدرجة يجمع على الشهادة بها كل ملاحظ، أم هي كتب «المناقب» والمذاهب تحابي وتداهن؟]:
عبارة "إمام عصره" غير محددة المعنى من الكاتب. وعلى كل حال فلا سبيل للقارئ إلى معرفة معنى الإمامة ومرتبتها؛ ولا يبقى بعد ذلك إلا إحسان الظن العام، والتلقي بالقبول. ونحن هنا لا نريد الطعن في علم السبكي رحمه الله،
ولكننا لا نقرّ له بالإمامة في الدين إلا بشروطها. وإن أغلب من يحسن الناس الظن بهم من الأمة وينسبون إليهم المراتب العليا بغير علم، هم من الفقهاء العاملين. ومرتبة الفقيه العامل، ليست هينة حتى يُظن بصاحبها السوء؛ فنحن لا ندعو إلى ذلك، ولا نريده للناس؛ ولكن مع ذلك نشير إلى أن العوام لا يُعظّمون إلا العوام، من الفقهاء أو من المتصوفة؛ لأنهم وحدهم من يدخلون -لقربهم منهم من حيث المكانة- ضمن دائرة إدراكهم. وكل من يبقى خارج هذه الدائرة من كبار العلماء والأولياء، لا يُعظّمون -إن عُظّموا- إلا لقرينة حسية، كقيام العالم للظالمين، أو كظهور الكرامات من الولي. غير هذين الصنفين، لا يكاد يشعر الناس بوجودهم، ولا يكادون يميّزون لهم مرتبة؛ بل إن الأمر قد يعود معكوسا، إذا وجدوا من عوام الفقهاء من يطعن في أحدهم؛ فإنهم عندئذ لا يتورعون عن الطعن في الولي، من دون أن يترددوا. والكاتب هنا، لم يخرج عن منطق العوام في حكمه على الرجال، لأنه لا يخرج عن الشائع المبثوث في الكتب، والذي لا يعدو مرتبة الظن. ومرة أخرى نؤكد على أننا لسنا ضد إحسان الظن بجميع العلماء، إلا أننا في المقابل، وعند إرادة التحليل العلمي، لا نقبل بالتزكية المجانية، التي قد ترفع الشخص فوق مرتبته، أو تجعله في مصاف الكبار وهو ليس منهم، أو تجعله أحيانا فوق من هو فوقه في الحقيقة. لهذا، كنا نتمنى أن يأتينا الكاتب بأحكامه على الرجال مستندة إلى شواهد علمية معيّنة، لنفحصها معه، ونقبل أو نرد بحسبها؛ لا أن يأتينا بالشائع في الناس، وكأنه يُرهبنا بالقوة العددية، أو بالعصبية المذهبية، ليضطرنا إلى الانصياع له، فيأخذنا إلى حيث يريد من الاستنتاجات. إن هذا الأسلوب ليس من العلم في شيء، وإنما هو من الديماغوجيا ومن الاحتيال الفكري، الذي لا يتفطن إليه عوام الناس. ونحن رَأْيُنا -إن كنا نبغي العودة إلى طريق الحق في جميع أمورنا- أن نغيّر من أساليب الخطاب لدينا؛ حتى نخرج عن هيمنة التعصب والتحريض، اللذين طغيا على الخطاب الديني من قِبل مختلف الأفرقاء. هذه خطوة أولى ضرورية، من أجل بلوغ تجديد للخطاب الديني، الذي ما فتئنا نسمع له دعوات من هنا وهناك، من دون أن نرى أثرا يُذكر.
وما ينبغي أن نمسكه هنا في حق السبكي، هو أنه من الفقهاء الذي عرفوا للتصوف حقه ومكانته؛ لكنه ليس إماما في الطريق، حتى يُرجع إليه في أحكامه.
[ينقل الإمام الشوكاني «خاتمة المحققين» عن المؤرخ الناقد الشديد الذهبي ترجمة واحد من مشايخ المدرسة الشاذلية، أحد أساطينها، ما يلي: «كانت له خلال عجيبة ووقع في النفوس ومشاركة في الفضائل. ورأيت الشيخ تاج الدين الفارقي لما رجع من مصر معظما لوعظه وإشارته. وكان يتكلم بالجامع الأزهر يمزج كلام القوم بآثار عن السلف وفنون من العلم. فكثر أتباعه. وكان عليه سيماء الخير. ويقال إن ثلاثة قصدوا مجلسه فقال أحدهم: لو سلمت من العائلة لتجردت. وقال الآخر: أنا أصلي وأصوم ولا أجد من الصلاح ذرة. فقال الثالث: إن صلاتي ما ترضيني فكيف ترضي ربي. فلما حضروا مجلسه قال في أثناء كلامه: ومن الناس من يقول، فأعاد كلامهم بعينه. ومن جملة من أخذ عنه الشيخ تقي الدين السبكي. وهو صاحب الحكم المشهورة الآن بحكم ابن عطاء الله التي يلهج كثير من متصوفة زماننا بحفظ كلمات منها»]:
ما يذكره الكاتب هنا، عشنا منه أحوالا، ونحن بعد مريدون لشيخنا رضي الله عنه. ولقد من الله علينا من واسع فضله، فلم نكن نعتني بذلك، ولا نرفع به رأسا؛ ونحرص على أن لا يُعرف عنا منه شيء بين أقراننا؛ لعلمنا بأن ذلك لا عبرة به عند الله، وإن كان صاحبه صادقا؛ فالله لا ينظر إلا إلى عبودية عبده. فمن شاء أن يكون محل نظر الله، فليكن عبدا في ظاهره وفي باطنه. هذا هو ما نعرفه نحن من الطريق، وهذا هو ما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جميع المراتب؛ لو كان الناس يعلمون. وأما ما يقوله الكاتب هنا، فهو من سنخ ما يعيش عليه العوام، ويحسبون أنهم معه قد أدركوا الغايات.
وكلامنا بشيء مما وجدنا في الطريق ذوقا هنا، هو لدلالة الناس على أن الطريق ما زال هو الطريق، لم يتغير منه شيء؛ ولدلالتهم على أن رحمة الله قريب من كل من أراد أن يتعرّض لها. لا يَحجُب عنها -ولله الحمد- شيء من السوء العام، ولا الفساد الذي صار دينا لدى المرائين، ولا اختلاط الأمور و"سيادة" السفهاء. إنا والله لم نجد فرقا بيننا وبين الصحابة من جهة المدد قط؛ ولم يفضلونا رضي الله عنهم، إلا برؤيتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ملء أعينهم من الصباح والمساء، ولمسٍ لبشرته الكريمة وشمٍّ لطيبه المنتشر. فهذا لن ندانيهم فيه ولا نطمع؛ وإنما نرجو من الله أن ننال منه الحظ الأتم إذا انقلبنا إلى الآخرة، بجاه من تُرجى صُحبته ويؤمّل عطاؤه صلى الله عليه وآله وسلم.
[هذا الشيخ الذي أشاد به المحدث الناقد الذهبي ونقل شهادته الشوكاني الفقيه الجامع المجتهد هو السيد أحمد المعروف بابن عطاء الله السكندري تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية. «وكان المتكلم على لسان الصوفية في زمانه وهو ممن قام على الشيخ تقي الدين ابن تيمية».]:
لا يشك أحد في ولاية ابن عطاء الله، رضي الله عنه؛ ولسنا في حاجة إلى شهادة الذهبي ولا الشوكاني. ومتى كانت شهادة الأدنى على الأعلى تصح، حتى نقبل هذه؟!... لكن كلام ابن عطاء الله في التصوف، لا يتجاوز طور السلوك الأول، الخاص بالمريدين. نعني بهذا أنه شيخ حقيقة، ولكن كلامه هو من طور عوام العارفين؛ ولكل مقام مقال، كما لكل مقام رجال. ومع هذا، فإن من سعى إلى شرح الحكم العطائية من أهل زماننا، من الوعاظ ومتصوفة الفقهاء، لم يكادوا يظفرون منها بشيء، لعلوّ عبارتها وسموّ إشارتها بالمقارنة إلى مرتبتهم. فكيف يطمع مع هذا طامع في إدراك ما هو فوق تلك الحكم وفوق شروحها من العلوم!...
لا بد من أن نذكر هنا أن إطلاق صفة "الصوفي" قديما وحديثا، يكاد لا ينطبق إلا على المتصوفة أو عوام الصوفية؛ بسبب غلبة المعنى العرفي على المعنى العلمي. وعلى طالب الحق أن يختار، فإما أن يُبقي على اسم التصوف، ويجعل منه أعلى وأدنى، ليكون كل من ذُكر هنا من أهل التصوف منسوبا إلى الأدنى؛ وإما أن يخص باسم التصوف المرتبة الدنيا ويُخرج منها المتصوفة، ويجعل المرتبة العليا للورثة. فليختر كل واحد ما يناسبه من التقسيمين، وليعمل عليه في نفسه. وإن نحن استعملنا اللفظ، فليَعْتَبِر المعنى الذي ندل عليه منه، ليُبقي عليه في ذهنه كما أوردناه، أو ليعدل عنه؛ فالأمر هكذا معنا... وأما من صار يتتبع اللفظ كما هو حيث كان، فإن الأمور ستختلط عليه، وسيأتي عليه وقت لن يجد فيه مخرجا مما هو فيه من الالتباس.
[كان هذا المربي الكبير مالكي المذهب، تلميذه تقي الدين السبكي شافعي بارز حاز لقب «الشافعي الثاني» من معاصريه، أمامهما الحنبلي الثائر تقي الدين ابن تيمية، خاصماه وجادلاه. فما منع ذلك الخصام شيخ الإسلام الحنبلي من إنصاف خصمه السبكي كما رأينا في الفقرة السابقة. وما منع الذهبي تحزبه الشديد الذي عرف به من إنصاف السبكي وشيخه الشاذلي كما رأينا.]:
ابن تيمية والذهبي قاصرا العقل، فهما من هذه الجهة من فسقة العوام (الفسق هنا معنوي، والعوام عوام الفقهاء)؛ وقد سبق أن قلنا في الفصل الذي قبل هذا، إن العوام يعرفون قدر بعض الأولياء، ويُنكرون من هو أعلى منهم في الولاية. وهذا التصرف منهم منطقي، عند النظر إلى ما يعطيه علم المراتب. ومع هذا، فما يُقرّ به ابن تيمية ومن على مذهبه للصوفية، ليس ولايتهم كما يريد أن يُفهمنا الكاتب، وإنما هو فقههم الذي وجدوه أعلى مما لديهم. فما يعرف المحجوبون من الأولياء إلا ظاهرهم وحده، ويعرف الولاية الأولياء. هكذا هو الأمر!... وكل من يجعل هذا الإقرار دليلا على المشاركة في الولاية، ولو بقدر ما؛ فهو مدلس، إن كان يعلم ما يقول؛ أو هو ملبوس عليه، إن كان لا يعلم حقيقة ما يقول. وصاحبنا هنا بين هذا وذاك، إلى أن يشهد عليه شاهد من كلامه أو حاله.
[يأتي في زماننا مقلدون امتلأت أردانهم رعونة ونزقا فيتبنون تلك الخصومات ويتشددون ويلعنون فيعيدون إشعال نيران الفتنة بعد أن خمدت، يبعثونها من طي الكتب الراقدة التي كان من حقها أن تخلد إلى الراحة بعد أن أتعب الأمة وأوهاها ما سجلته من صدام تاريخي مؤلم.]:
هذا الكلام من الكاتب مغالطة كبيرة، لأن الرعونة والنزق صفتان لابن تيمية نفسه؛ لا من صفات من قام له في زمانه أو يقوم له الآن. ونحن وإن لم يكن مذهبنا الاستشهاد بالرجال على الرجال، إلا أن الكاتب قد اضطرنا إلى الإتيان ببعض النقول في مقابل ما جاء به؛ لأننا نراه يريد منا الإقرار لابن تيمية بشيء من الفضل، ونحن نأبى عليه، لما علّمنا الله من أمره؛ ولكن كلامنا وحده، قد يُطعن فيه، إن لم نعضده بأقوال بعض السابقين من المعاصرين له، ومن غير المعاصرين:
1. ذكر الحافظ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء([1]): قال التقي السبكي: [وكتاب العرش من أقبح كتبه (أي ابن تيمية)؛ ولما وقف عليه الشيخ أبو حيّان ما زال يلعنه إلى أن مات بعد أن كان يعظمه.][2]. هذا الكلام يدل على صحة علم السبكي، لكنه لا يدل على أنه من التصوف في أعلاه.
2. ويقول السبكي عن ابن تيمية أيضا: [وهو كان مكثرا من الحفظ، ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم؛ بل يأخذها بذهنه مع جسارته واتساع خيال وشغب كثير. ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة. وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه، وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ثم مات.][3]
3. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [منهم مَن ينسبه (ابن تيمية) إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله إنه كان مخذولا حيث ما توجه، وإنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها، وإنما قاتل للرئاسة لا للديانة؛ ولقوله إنه كان يحب الرئاسة، وإن عثمان كان يحب المال؛ ولقوله: "أبو بكر أسلم شيخا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيا؛ والصبي لا يصح إسلامه على قول…"][4]. ونحن نقول: من نسبه إلى النفاق، حكم بما يعطيه العلم؛ لأن مبغض علي عليه السلام قد أعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفاقه، في قوله لعليّ عليه السلام: «لَا يُحِبُّك إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ.»[5]وقال علي عليه السلام: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ: "لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ."[6]. ونضيف نحن، وهذا حكم كل من أبغض أحد الخلفاء عليهم السلام أجمعين. نقول هذا، لأن الناس لا يعلمون قدر الخلفاء، ولا يفهمون من الخلافة إلا الحكم. والحقيقة أكبر من ذلك وأجل!...
4. كان الشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي، ممن يعتقد كفر ابن تيمية وله عليه الرد؛ وكان يقول بأعلى صوته في بعض المجالس: [معذور السبكي (يعني في تكفيره)][7]. نقول: ومع ذلك فنحن لا نكفره، وإنما نترك حكمه إلى الله ورسوله. فالعبد ليس من شأنه تكفير أحد، إلا من شهد على نفسه بالكفر؛ فيكون حينئذ حاكيا عن الكافر، لا حاكما. هذا أفضل له عند ربه وأسلم!...
5. ذكر أبو عبد الله علاء الدين البخاري العجمي الحنفي [أنّ مَن أطلق على ابن تيمية لقب شيخ الإسلام فهو بهذا الإطلاق كافر.][8]. وأما نحن فلا نكفر من لقب ابن تيمية بشيخ الإسلام، وإنما نجهّله ونبدّعه.
6. يقول ابن حجر الهيتمي: [ومن ثم قال بن جماعة، وهو أحد معاصري ابن تيمية ومعارضيه: "إنَّهُ عَبْدٌ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَخَذَلَهُ" نَسْأَلُ اللَّهَ دَوَامَ الْعَافِيَةِ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.][9]. وهذا هو رأينا فيه.
ولو أردنا أن نستقصي كل ما قيل في ابن تيمية، لخرج بنا ذلك عن غرض هذا الكتاب؛ ولكننا أومأنا إلى بعضه، ليعلم الناس أنه قد فتن الناس في زمانه، وفي الأزمنة التي أتت بعده، وليحتاطوا منه ويتجنبوا انحرافه. وبعد هذا، عندما نجد الأستاذ عبد السلام، يأتي على ذكره في كل مرة، فإننا نجزم بكونه على بعض ضلال يشترك معه فيه؛ لا بد من هذا!... وهذا يكفي لأن يجعل المستبرئ لدينه يجتنبه (الكاتب) ويجتنب أقواله كلها، إن لم يكن من العلماء الذين يزنون الأقوال بميزانها. وإن ما يدعو إليه الكاتب في كلامه من اجتناب المعارك السابقة، ليس صحيحا إن كانت المعركة (العلمية) مع ابن تيمية ومن تابعه في ضلالاته. ذلك لأن الرد على ابن تيمية وتسفيه أقواله، هو واجب على كل عالم بفسادها، في كل الأزمنة. ومتى كان الباطل ينقلب حقا بتقادم الزمان؟!... ومتى كانت موافقة أهل الضلال من العلم؟!... وأما الفتنة حقيقة، فهي السكوت على ابن تيمية وأضرابه، اليوم وغدا. ومن يرى أن المبطل يستحق التجاوز، لأنه قد نال حظه من التسفيه سابقا، فقد أخطأ؛ وإلا لكان أولى الخلق بالتجاوز إبليس ذاته، الذي لم يُلعَن أحدٌ قدر ما لُعن هو...
[إن من أحوج ما نحتاج إليه بسط صفحة من التسامح والرحمة والاعتدال وضبط النفس.]:
قبول ضلالات ابن تيمية، لا يكون قط من الاعتدال ولا من التسامح، بل هو من ارتضاء الضلال والانخراط فيه. وعلى من لا يعلم ما نقول من كلام ابن تيمية، إن كان منصفا، أن يتوقف، ويتجنب الإشادة به والإزراء معا، ليكون صادقا فيما يناسب طوره ومرتبته. وأما نحن فكلامنا عن ابن تيمية نصدر فيه عن علم كشفي، هو أعلى من علم الفقهاء الذين عارضوه؛ وقد رددنا على بعض رسائله في كتابنا "تجريد التوحيد". فمن أراد أن يعلم ذلك، فلينظره، فإنه متاح على الإنترنت، وإن لم يُطبع بعد.
[كان الصوفية ولا يزالون، أعني الصادقين لا المنتحلين للاسم والسمعة، أصحاب قلوب حشوها المحبة والرفق والرحمة بالخلق كافة. ولئن اصطدم بهم بعض الفقهاء والمحدثين الذين من شأنهم التعامل مع النصوص بدقة العقل القانوني والتعامل مع الناس بميزان الجرح والتعديل الباني الهادم فإن صدق الفريقين يرجع آخر الأمر إلى الإنصاف، والاعتدال، والاعتراف، والرجوع إلى الحق.]:
هذا الكلام جهل محض. الصوفية على ما ذكر الكاتب من صفاتهم، لا يخرجون عن الشريعة التي تأمر بموالاة المحقين، ومعاداة المبطلين وفضحهم. ولقد كان حريا بالكاتب أن يدعو التيميين إلى الاعتدال وهم من يكفّرون المسلمين ويدعون إلى توحيد المجسمين، بدل أن يجعل الأمر مناصفة، وكأن الدين قد أصبح محلا للرأي؛ يقول كلٌّ فيه بما يشاء، وعلى الأطراف الأخرى أن تقبله ضمن الدائرة العامة، التي لن تختلف عما يدعو إليه اليوم الدجاليّون، أصحاب مقولة "السلم العالمي" الخادعة، ودعوى "التسامح" الملغية للحدود بين الحق والباطل. ومع كل ما كنا نظنه من اختلاف بيننا، لم يخطر ببالنا أن يلتقي عبد السلام ياسين مع الدجاليين في التنظير، هكذا!... ولو كان العلماء السابقون الصادقون، على الصفة التي يدعو إليها الكاتب هنا، لاندرس الدين وضاع، قبل أن يصل إلى أقاصي الأرض... لم يُحفظ الدين إلا بالعدول، لا بـ"المعتدلين"!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ؛ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ.»[10]. والفرق بين العدل والمعتدل، هو أن الأول ملتزم لأحكام الله، لا يحيد عنها؛ وأن الثاني -بحسب ما يراد الآن- هو من يكون في منتصف المسافة مع المخالف. وهذا المبدأ، لا يصح إن كان المخالف على باطل بيّن؛ كما هو الشأن مع ابن تيمية والتيميين، ومع عبدة الشيطان من الدجاليين أجمعين.
[مثال هذا الاعتدال والمراجعة نفتقده في زماننا، فلا نجد إلا التعنت والتصلب والرفض لكل حوار. لذا نستعرض تاريخ الرجال من سلفنا الصالحين لنستلهم الرفق كفاء لجهود غيرنا ممن ينفخ في رماد الفتنة ليوري الشرار.]:
أولا، ينبغي أن نأخذ مصطلح "الفتنة" بمعناه الشرعي، لا بالمعنى العامي الذي يعتبر الصورة وحدها، والتي تُعتبر فيها مخالفة الأغراض وحدها. فهل البلاد الكافرة -مثلا- التي تعيش في سلم واستقرار، على غير الفتنة في أحوالها؟!... وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. فالعوام قد يرون أن مجرد القتال فتنة، في حين هو هنا معاكس لها ودافع، لكن بشروطه. وكأن صاحبنا يميل إلى هذا الرأي، وهو من كان قبل صفحات يدعو إلى الجهاد. ظهر الآن أن الجهاد الذي يدعو إليه الأستاذ سياسي أيديولوجي، غير شرعي؛ وإن رام التشبه فيه بالصحابة، أو رام التلبيس على السامع بذكرهم. وسننظر في النماذج التي سيأتي بها الآن دليلا على مذهب "الاعتدال"، لنتبيّن مدى صوابه...
وأما مصطلح "السلف الصالح"، فهو مما يشيّد عليه ابن تيمية ضلاله؛ وهو مصطلح مبهم، قد يجعل أحيانا كل سابق في الزمان على صواب. وقد يجعل العوام من السابقين، أفضل من الأئمة الذين أتوا بعدهم. وكل لفظ مبهم، يجده المريدون للإضلال خادما لهم فيما يرومون. ولقد كان على الكاتب أن يتجنب الوقوع في هذا التعميم، الذي لا يفيد علما، بقدر ما يؤكد اتباع التيار العام الذي لا يخلو من انحراف.
[كثيرا ما قرأنا عبارات «أخذ عنه» أو «تلقى عنه»، فيا عجبا أي شيء يتلقاه أئمة الدين حماة الشريعة من أساتذتهم الصوفية؟]:
يعود الكاتب هنا إلى تدليسه، ليُنسي القارئ أن ابن تيمية لم يقبل أقواله الفقهاء الصادقون أنفسهم. ثم لمَ لمْ يأخذ ابن تيمية -كسائر النماذج التي يسوقها الكاتب- عن أحد من صوفية عصره؟... فأقصى ما كان يفعل هو مع معاصريه من الصوفية، أن يشهد لواحد منهم بصواب كلامه، وكأنه لا أعلم بالدين منه!... كيف يخفى قصور ابن تيمية واغتراره على أستاذنا؟!... إن إصراره على فرض ابن تيمية على من يريد الاجتماع على الحق من مختلف أطراف الأمة، لا يصح ولا يشي بخير. ثم إن من يكون من أهل الحق العارفين به، لا يتوسل بالجمع بين المتناقضات التاريخية للدعوة إليه؛ لأنه يدعو إلى الحق المعلوم، لا إلى حق افتراضي يحصله من الجمع بين الأقوال والقسمة على عدد المختلفين (عملية رياضية تدل على فقدان النور). هذه أيديولوجيا لا يُخطئها إلا أعمى البصيرة!...
[أفي الأمر أسرار كهنوتية أم أن الأمة أجمعت على ضلال حين اتبعت فقهاء في أغلبهم يتصوفون، واقتدت بصوفية تتلقى عنهم وتأخذ شيئا زائدا عن العلم والفتوى والإرشاد؟ إن في هذا ما يحير من كان خالي الفؤاد من همّ الآخرة وهم الله، ويشل حركته، ويرتد به إلى السلبية والعدمية والشك. ألا يكفي يا فقهاء ما جمعتموه من علوم حتى تلتمسوا من قوم ليس لهم أحيانا سماع ولا رواية ولا أصول مضبوطة محفوظة؟]:
يعود الكاتب إلى الصوفية وكأنه يُثبت مذهبهم، وفي الحقيقة هو يتمسح بهم، لعل فقهاء عصره يأتونه ليجدوا عنده -زعما- ما وجد الأولون عندهم. يقول هذا، وكأنه صوفي!... وهذه مغالطة. ثم متى كان التدين، بجمع الأقوال وكثرة تردادها؟... وهل إذا انحرف الإدراك العام لدى الناس، نكون نحن ملزمين بمجاراته؟... أم نصرُّ -في مقابل ذلك- على البقاء على ما دل عليه الوحي وشهد به الوجدان (الوجود)؟!... ألا إن السلبية، هي الخواء من النور؛ ألا وإن العدمية، هي الميل إلى السوء الأصلي الذي للنفس. ألا وإن إرادة الله واليوم الآخر، لا تُلبّى بالانخراط في الجماعات الحركية السياسية. يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. فمن رجى الله بالسعي إلى لقائه، ومن رجى اليوم الآخر بالعمل في نجاته، ليس له من سبيل إلا اتباع السنة النبوية الخطوة بالخطوة، مع الإكثار من ذكر الله؛ على طريقة الصوفية في هذه الأزمنة. وإن من معاني ذكر الله، نسيان ما سواه؛ نعني أن الذكر والنسيان متلازمان. وإن الإسلاميين بكثرة كلامهم في مخاصمة الحكام وفي الدلالة على العمل الرامي إلى انتزاع الحكم منهم، يذكرون الحكام لا الله. يقول الله (من باب الإشارة): {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]؛ وهذا المعنى صحيح جدا من جهة علم السلوك. فوالله ما ذكر الله ذاكر (حقيقة)، إلا مع نسيانه لكل ما سواه. يعلم هذا من يعلمه، ويجهله الإسلاميون!...
[ماذا تتلقون مما لا تجدونه في كتاب الله وسنة رسوله؟ أثم شيء زاده الصوفية في الدين، أم هو وحي بعد الوحي أم أن الدين الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى من يكمله؟]:
هذه الأسئلة كلها مغالطات، وإن أوردها الكاتب في صورة تقمُّص لما عليه مُخاطَبوه من الجهلة:
1. لأن مخالفة بعض الفقهاء للصوفية، ليست عن إلمام بالكتاب والسنة؛ وإنما هي عن قصور في فهم نصوصهما. وكل فقيه يزعم أنه عالم بالكتاب والسنة على وجه الكمال، فهو مغتر وواهم؛ بل هو مجنون وكذاب!...
2. التعريض بأن الصوفية عند مخالفتهم للفقهاء فيما يأتون، قد زادوا في الدين ما ليس منه، أمر باطل؛ لأن الزيادة في الدين نقصان. وإن أهل الكمال من الصوفية، لا ينقض عملهم حالهم، فيكونون كاملين ناقصين، بزيادتهم في الدين. ويبقى الأمر منوطا بعد هذا، بما هو المزيد؛ لنعلم هل هو مزيد حقا، أم إنه من أصل الدين، ومع ذلك لا يقبل به بعض الفقهاء. وسنعلم حينها، لمن يكون النقصان حليفا...
3. إن الدين قد كمل حقا، لقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ ولا شيء يُزاد فيه، كما لا شيء يُنقص منه؛ لأن النقص هنا أيضا زيادة في التشريع لا تخفى... وقد سمعنا من بعض متصوفة العصر، أن الصوفية زادوا الأخلاق!... هذا جهل وخروج عن صحيح الدين!... وهؤلاء ينبغي أن يقوم إليهم جميع المسلمين، ليردوهم (بالقوة إن اقتضى الأمر) إلى الصراط المستقيم.
إن الصوفية قد زادوا على غيرهم، بالتزام أحكام الدين ظاهرا وباطنا؛ عندما اكتفى الغير بالتظاهر بشعائر الدين، على خواء باطني، صغير أو كبير... هذا فحسب!...
[أسئلة إنكار وجدال تبقى صماء لا تصيخ لجواب في فم الغاضب لنفسه، وقد يوهمه جهله أنه يغضب لله. أما من كان في قلبه حرقة، وكان من ذوي الأفق الواسع، استكشف رحاب العلم وجوانب الاطلاع، فانتهى مثل الغزالي إلى أن علمه المكتسب ما زاده إلا تخبطا في الدنيا وهوسها بعيدا عن علم الآخرة بعيدا عن معرفة ربه، فذاك يطلب العلم لا يمل، ويتعرض كما تعرض موسى عليه السلام لمن يعلمه علما، يتبعه على ذلك ويطيعه ويصبر معه.]:
هذا الكلام يرتد به الكاتب عما يريد أن يدل عليه، وكأنه متردد؛ أو كأنه يعلم أن ما سيُلقي به، من الباطل المتبيَّن؛ أو كأنه يخشى عدوان الجهلة من مُخاطَبيه التيميين. وأما ذكره للغزالي مرة أخرى، وقد أثبت له -بالنظر إلى زماننا- النقص، فلن يُسعفه فيما يريد. فإن كان صاحبنا على بعض تصوف، فليخرج به إلى العالم لينظره الناظرون؛ وإن لم يكن، فلمَ الخروج والتخفي، والتقدم مرة والتأخر أخرى؟!... عند المغاربة مثل عامي معناه: "الراقصة لا تخفي وجهها". وأما قصة موسى مع الخضر، فهي من غير الباب الذي يتكلم فيه صاحبنا، ما دام لم يخرج عن نطاق العوام من الصوفية والعوام من الفقهاء، في الغالب؛ لأن من أراد أن يكون موسويا من الفقهاء، فعليه أن يكون على علم بالأحكام وعلى التزام تام بها؛ ومن أراد أن يكون خضريا من المتصوفة، فعليه أن يكون مع الحق لا مع سواه، في كل أمر وكل حال وكل وقت.
[أو كمثل مجتهد القرنين الثاني عشر والثالث عشر الشوكاني الذي يحظى عند السادة السلفية والحنابلة بالقبول التام وتحظى كتبه بالتقدير الكامل. هذا الرجل مثال للاعتدال والإنصاف، نعرض نصوصا له لمن يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق لبعده عن الحق.]:
يأتينا الكاتب بشاهد جديد، يقدم له بأوصاف تجعل الناظر يُحجم عن التفحص؛ ويهاب المقام. وهذه عادة صاحبنا مع قرائه في إرهابهم وإرغامهم على التسليم له من البداية... لمَ لمْ يكتف بعرض ما لديه، ويترك القارئ الفهِم يحكم ما يشاء؟... وإن كان لا بد من الكلام، فليكن إعانة للناظر على معرفة الحق، بتفكيك المركّب، وبتوضيح المبهم...
[الشوكاني أيضا أخذ وتلقى عن شيخ صوفي، هو أيضا تتلمذ وقعد بين يدي مرب ماهر في طب القلوب. أتدري يا أخي ماذا تلقى؟ إنه تلقى دواء كما تلقى غيره ممن قرأت وممن لم تقرأ. فإن كنت مطمئنا إلى إيمانك وسلامة قلبك أكثر من اطمئنان من سردت عليك من الفحول فلا عليك أن ترضى بحالك وأن تقعد فأنت الطاعم الكاسي.]:
تمطيط لا ينفع!... يشير به الكاتب إلى نفسه، ويجعلها نظيرا لكل من ذكر من الشيوخ أهل التصوف. ولا ندري عن أي تصوف يتكلم... فإن كان لمن ذكرهم حظ من تصوف الإيمان وتصوف الإحسان، فإنه لم يبدر منه ما يدل على ذا ولا ذاك، وهو من لم يميّز ضلال ابن تيمية الذي لا ينطلي إلا على من لا نور له!... وددنا لو أن الأستاذ دل الناس على الله حقيقة، أو على الطريق إليه صدقا، لأن ذلك كان سيصب في الإصلاح العام الذي ننشده؛ ولكنه بدل ذلك يدل على أقوال من أناس مضوا، لا جامع بينها إلا عدم الاتساق وانبهام المعاني. فكيف يكون هذا منه عملا معتبرا، نشهد له فيه بالإصابة!... لا ينقص من قدر كلامنا ما يقوله المتعصبون له، الذين ينسبون إليه كل فضل وفضيلة، من غير أن يعلموا شيئا مما نخوض فيه. ليس هكذا يُخدم الدين، ولا هكذا يُساس المسلمون!...
[تحدث الشوكاني في كتابه «البدر الطالع» عن شيخه في طريق القوم السيد عبد الوهاب الحسني الموصلي. قال: «وقدم علينا إلى صنعاء في سنة 1234. وكثر اتصاله بي. وهو جامع بين علم الأديان والأبدان، جيد الفهم فصيح اللسان، حسن العبارة، حسن الإشارة».]:
بين التشدد والاعتدال
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله:
[وللتقي السبكي إمام عصره شيخ آخر شاذلي. فمن هم هؤلاء العارفون الذين تخضع لهم هامات رفعها العلم وزانتها التقوى وأحاطتها هالة الاحترام؟ هل كان مشايخ التربية أهلا لذلك التقدير العظيم الذي نالوه من خاصة العلماء وأفذاذهم كما نالوه من العامة؟ هل كانوا من الأخيار الصالحين بدرجة يجمع على الشهادة بها كل ملاحظ، أم هي كتب «المناقب» والمذاهب تحابي وتداهن؟]:
عبارة "إمام عصره" غير محددة المعنى من الكاتب. وعلى كل حال فلا سبيل للقارئ إلى معرفة معنى الإمامة ومرتبتها؛ ولا يبقى بعد ذلك إلا إحسان الظن العام، والتلقي بالقبول. ونحن هنا لا نريد الطعن في علم السبكي رحمه الله،
ولكننا لا نقرّ له بالإمامة في الدين إلا بشروطها. وإن أغلب من يحسن الناس الظن بهم من الأمة وينسبون إليهم المراتب العليا بغير علم، هم من الفقهاء العاملين. ومرتبة الفقيه العامل، ليست هينة حتى يُظن بصاحبها السوء؛ فنحن لا ندعو إلى ذلك، ولا نريده للناس؛ ولكن مع ذلك نشير إلى أن العوام لا يُعظّمون إلا العوام، من الفقهاء أو من المتصوفة؛ لأنهم وحدهم من يدخلون -لقربهم منهم من حيث المكانة- ضمن دائرة إدراكهم. وكل من يبقى خارج هذه الدائرة من كبار العلماء والأولياء، لا يُعظّمون -إن عُظّموا- إلا لقرينة حسية، كقيام العالم للظالمين، أو كظهور الكرامات من الولي. غير هذين الصنفين، لا يكاد يشعر الناس بوجودهم، ولا يكادون يميّزون لهم مرتبة؛ بل إن الأمر قد يعود معكوسا، إذا وجدوا من عوام الفقهاء من يطعن في أحدهم؛ فإنهم عندئذ لا يتورعون عن الطعن في الولي، من دون أن يترددوا. والكاتب هنا، لم يخرج عن منطق العوام في حكمه على الرجال، لأنه لا يخرج عن الشائع المبثوث في الكتب، والذي لا يعدو مرتبة الظن. ومرة أخرى نؤكد على أننا لسنا ضد إحسان الظن بجميع العلماء، إلا أننا في المقابل، وعند إرادة التحليل العلمي، لا نقبل بالتزكية المجانية، التي قد ترفع الشخص فوق مرتبته، أو تجعله في مصاف الكبار وهو ليس منهم، أو تجعله أحيانا فوق من هو فوقه في الحقيقة. لهذا، كنا نتمنى أن يأتينا الكاتب بأحكامه على الرجال مستندة إلى شواهد علمية معيّنة، لنفحصها معه، ونقبل أو نرد بحسبها؛ لا أن يأتينا بالشائع في الناس، وكأنه يُرهبنا بالقوة العددية، أو بالعصبية المذهبية، ليضطرنا إلى الانصياع له، فيأخذنا إلى حيث يريد من الاستنتاجات. إن هذا الأسلوب ليس من العلم في شيء، وإنما هو من الديماغوجيا ومن الاحتيال الفكري، الذي لا يتفطن إليه عوام الناس. ونحن رَأْيُنا -إن كنا نبغي العودة إلى طريق الحق في جميع أمورنا- أن نغيّر من أساليب الخطاب لدينا؛ حتى نخرج عن هيمنة التعصب والتحريض، اللذين طغيا على الخطاب الديني من قِبل مختلف الأفرقاء. هذه خطوة أولى ضرورية، من أجل بلوغ تجديد للخطاب الديني، الذي ما فتئنا نسمع له دعوات من هنا وهناك، من دون أن نرى أثرا يُذكر.
وما ينبغي أن نمسكه هنا في حق السبكي، هو أنه من الفقهاء الذي عرفوا للتصوف حقه ومكانته؛ لكنه ليس إماما في الطريق، حتى يُرجع إليه في أحكامه.
[ينقل الإمام الشوكاني «خاتمة المحققين» عن المؤرخ الناقد الشديد الذهبي ترجمة واحد من مشايخ المدرسة الشاذلية، أحد أساطينها، ما يلي: «كانت له خلال عجيبة ووقع في النفوس ومشاركة في الفضائل. ورأيت الشيخ تاج الدين الفارقي لما رجع من مصر معظما لوعظه وإشارته. وكان يتكلم بالجامع الأزهر يمزج كلام القوم بآثار عن السلف وفنون من العلم. فكثر أتباعه. وكان عليه سيماء الخير. ويقال إن ثلاثة قصدوا مجلسه فقال أحدهم: لو سلمت من العائلة لتجردت. وقال الآخر: أنا أصلي وأصوم ولا أجد من الصلاح ذرة. فقال الثالث: إن صلاتي ما ترضيني فكيف ترضي ربي. فلما حضروا مجلسه قال في أثناء كلامه: ومن الناس من يقول، فأعاد كلامهم بعينه. ومن جملة من أخذ عنه الشيخ تقي الدين السبكي. وهو صاحب الحكم المشهورة الآن بحكم ابن عطاء الله التي يلهج كثير من متصوفة زماننا بحفظ كلمات منها»]:
ما يذكره الكاتب هنا، عشنا منه أحوالا، ونحن بعد مريدون لشيخنا رضي الله عنه. ولقد من الله علينا من واسع فضله، فلم نكن نعتني بذلك، ولا نرفع به رأسا؛ ونحرص على أن لا يُعرف عنا منه شيء بين أقراننا؛ لعلمنا بأن ذلك لا عبرة به عند الله، وإن كان صاحبه صادقا؛ فالله لا ينظر إلا إلى عبودية عبده. فمن شاء أن يكون محل نظر الله، فليكن عبدا في ظاهره وفي باطنه. هذا هو ما نعرفه نحن من الطريق، وهذا هو ما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من جميع المراتب؛ لو كان الناس يعلمون. وأما ما يقوله الكاتب هنا، فهو من سنخ ما يعيش عليه العوام، ويحسبون أنهم معه قد أدركوا الغايات.
وكلامنا بشيء مما وجدنا في الطريق ذوقا هنا، هو لدلالة الناس على أن الطريق ما زال هو الطريق، لم يتغير منه شيء؛ ولدلالتهم على أن رحمة الله قريب من كل من أراد أن يتعرّض لها. لا يَحجُب عنها -ولله الحمد- شيء من السوء العام، ولا الفساد الذي صار دينا لدى المرائين، ولا اختلاط الأمور و"سيادة" السفهاء. إنا والله لم نجد فرقا بيننا وبين الصحابة من جهة المدد قط؛ ولم يفضلونا رضي الله عنهم، إلا برؤيتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ملء أعينهم من الصباح والمساء، ولمسٍ لبشرته الكريمة وشمٍّ لطيبه المنتشر. فهذا لن ندانيهم فيه ولا نطمع؛ وإنما نرجو من الله أن ننال منه الحظ الأتم إذا انقلبنا إلى الآخرة، بجاه من تُرجى صُحبته ويؤمّل عطاؤه صلى الله عليه وآله وسلم.
[هذا الشيخ الذي أشاد به المحدث الناقد الذهبي ونقل شهادته الشوكاني الفقيه الجامع المجتهد هو السيد أحمد المعروف بابن عطاء الله السكندري تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية. «وكان المتكلم على لسان الصوفية في زمانه وهو ممن قام على الشيخ تقي الدين ابن تيمية».]:
لا يشك أحد في ولاية ابن عطاء الله، رضي الله عنه؛ ولسنا في حاجة إلى شهادة الذهبي ولا الشوكاني. ومتى كانت شهادة الأدنى على الأعلى تصح، حتى نقبل هذه؟!... لكن كلام ابن عطاء الله في التصوف، لا يتجاوز طور السلوك الأول، الخاص بالمريدين. نعني بهذا أنه شيخ حقيقة، ولكن كلامه هو من طور عوام العارفين؛ ولكل مقام مقال، كما لكل مقام رجال. ومع هذا، فإن من سعى إلى شرح الحكم العطائية من أهل زماننا، من الوعاظ ومتصوفة الفقهاء، لم يكادوا يظفرون منها بشيء، لعلوّ عبارتها وسموّ إشارتها بالمقارنة إلى مرتبتهم. فكيف يطمع مع هذا طامع في إدراك ما هو فوق تلك الحكم وفوق شروحها من العلوم!...
لا بد من أن نذكر هنا أن إطلاق صفة "الصوفي" قديما وحديثا، يكاد لا ينطبق إلا على المتصوفة أو عوام الصوفية؛ بسبب غلبة المعنى العرفي على المعنى العلمي. وعلى طالب الحق أن يختار، فإما أن يُبقي على اسم التصوف، ويجعل منه أعلى وأدنى، ليكون كل من ذُكر هنا من أهل التصوف منسوبا إلى الأدنى؛ وإما أن يخص باسم التصوف المرتبة الدنيا ويُخرج منها المتصوفة، ويجعل المرتبة العليا للورثة. فليختر كل واحد ما يناسبه من التقسيمين، وليعمل عليه في نفسه. وإن نحن استعملنا اللفظ، فليَعْتَبِر المعنى الذي ندل عليه منه، ليُبقي عليه في ذهنه كما أوردناه، أو ليعدل عنه؛ فالأمر هكذا معنا... وأما من صار يتتبع اللفظ كما هو حيث كان، فإن الأمور ستختلط عليه، وسيأتي عليه وقت لن يجد فيه مخرجا مما هو فيه من الالتباس.
[كان هذا المربي الكبير مالكي المذهب، تلميذه تقي الدين السبكي شافعي بارز حاز لقب «الشافعي الثاني» من معاصريه، أمامهما الحنبلي الثائر تقي الدين ابن تيمية، خاصماه وجادلاه. فما منع ذلك الخصام شيخ الإسلام الحنبلي من إنصاف خصمه السبكي كما رأينا في الفقرة السابقة. وما منع الذهبي تحزبه الشديد الذي عرف به من إنصاف السبكي وشيخه الشاذلي كما رأينا.]:
ابن تيمية والذهبي قاصرا العقل، فهما من هذه الجهة من فسقة العوام (الفسق هنا معنوي، والعوام عوام الفقهاء)؛ وقد سبق أن قلنا في الفصل الذي قبل هذا، إن العوام يعرفون قدر بعض الأولياء، ويُنكرون من هو أعلى منهم في الولاية. وهذا التصرف منهم منطقي، عند النظر إلى ما يعطيه علم المراتب. ومع هذا، فما يُقرّ به ابن تيمية ومن على مذهبه للصوفية، ليس ولايتهم كما يريد أن يُفهمنا الكاتب، وإنما هو فقههم الذي وجدوه أعلى مما لديهم. فما يعرف المحجوبون من الأولياء إلا ظاهرهم وحده، ويعرف الولاية الأولياء. هكذا هو الأمر!... وكل من يجعل هذا الإقرار دليلا على المشاركة في الولاية، ولو بقدر ما؛ فهو مدلس، إن كان يعلم ما يقول؛ أو هو ملبوس عليه، إن كان لا يعلم حقيقة ما يقول. وصاحبنا هنا بين هذا وذاك، إلى أن يشهد عليه شاهد من كلامه أو حاله.
[يأتي في زماننا مقلدون امتلأت أردانهم رعونة ونزقا فيتبنون تلك الخصومات ويتشددون ويلعنون فيعيدون إشعال نيران الفتنة بعد أن خمدت، يبعثونها من طي الكتب الراقدة التي كان من حقها أن تخلد إلى الراحة بعد أن أتعب الأمة وأوهاها ما سجلته من صدام تاريخي مؤلم.]:
هذا الكلام من الكاتب مغالطة كبيرة، لأن الرعونة والنزق صفتان لابن تيمية نفسه؛ لا من صفات من قام له في زمانه أو يقوم له الآن. ونحن وإن لم يكن مذهبنا الاستشهاد بالرجال على الرجال، إلا أن الكاتب قد اضطرنا إلى الإتيان ببعض النقول في مقابل ما جاء به؛ لأننا نراه يريد منا الإقرار لابن تيمية بشيء من الفضل، ونحن نأبى عليه، لما علّمنا الله من أمره؛ ولكن كلامنا وحده، قد يُطعن فيه، إن لم نعضده بأقوال بعض السابقين من المعاصرين له، ومن غير المعاصرين:
1. ذكر الحافظ مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء([1]): قال التقي السبكي: [وكتاب العرش من أقبح كتبه (أي ابن تيمية)؛ ولما وقف عليه الشيخ أبو حيّان ما زال يلعنه إلى أن مات بعد أن كان يعظمه.][2]. هذا الكلام يدل على صحة علم السبكي، لكنه لا يدل على أنه من التصوف في أعلاه.
2. ويقول السبكي عن ابن تيمية أيضا: [وهو كان مكثرا من الحفظ، ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم؛ بل يأخذها بذهنه مع جسارته واتساع خيال وشغب كثير. ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة. وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه، وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ثم مات.][3]
3. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [منهم مَن ينسبه (ابن تيمية) إلى النفاق لقوله في علي ما تقدم، ولقوله إنه كان مخذولا حيث ما توجه، وإنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها، وإنما قاتل للرئاسة لا للديانة؛ ولقوله إنه كان يحب الرئاسة، وإن عثمان كان يحب المال؛ ولقوله: "أبو بكر أسلم شيخا يدري ما يقول، وعلي أسلم صبيا؛ والصبي لا يصح إسلامه على قول…"][4]. ونحن نقول: من نسبه إلى النفاق، حكم بما يعطيه العلم؛ لأن مبغض علي عليه السلام قد أعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفاقه، في قوله لعليّ عليه السلام: «لَا يُحِبُّك إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ.»[5]وقال علي عليه السلام: "وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهَ وَسَلَّمَ إِلَيَّ أَنْ: "لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ."[6]. ونضيف نحن، وهذا حكم كل من أبغض أحد الخلفاء عليهم السلام أجمعين. نقول هذا، لأن الناس لا يعلمون قدر الخلفاء، ولا يفهمون من الخلافة إلا الحكم. والحقيقة أكبر من ذلك وأجل!...
4. كان الشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي، ممن يعتقد كفر ابن تيمية وله عليه الرد؛ وكان يقول بأعلى صوته في بعض المجالس: [معذور السبكي (يعني في تكفيره)][7]. نقول: ومع ذلك فنحن لا نكفره، وإنما نترك حكمه إلى الله ورسوله. فالعبد ليس من شأنه تكفير أحد، إلا من شهد على نفسه بالكفر؛ فيكون حينئذ حاكيا عن الكافر، لا حاكما. هذا أفضل له عند ربه وأسلم!...
5. ذكر أبو عبد الله علاء الدين البخاري العجمي الحنفي [أنّ مَن أطلق على ابن تيمية لقب شيخ الإسلام فهو بهذا الإطلاق كافر.][8]. وأما نحن فلا نكفر من لقب ابن تيمية بشيخ الإسلام، وإنما نجهّله ونبدّعه.
6. يقول ابن حجر الهيتمي: [ومن ثم قال بن جماعة، وهو أحد معاصري ابن تيمية ومعارضيه: "إنَّهُ عَبْدٌ أَضَلَّهُ اللَّهُ وَخَذَلَهُ" نَسْأَلُ اللَّهَ دَوَامَ الْعَافِيَةِ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.][9]. وهذا هو رأينا فيه.
ولو أردنا أن نستقصي كل ما قيل في ابن تيمية، لخرج بنا ذلك عن غرض هذا الكتاب؛ ولكننا أومأنا إلى بعضه، ليعلم الناس أنه قد فتن الناس في زمانه، وفي الأزمنة التي أتت بعده، وليحتاطوا منه ويتجنبوا انحرافه. وبعد هذا، عندما نجد الأستاذ عبد السلام، يأتي على ذكره في كل مرة، فإننا نجزم بكونه على بعض ضلال يشترك معه فيه؛ لا بد من هذا!... وهذا يكفي لأن يجعل المستبرئ لدينه يجتنبه (الكاتب) ويجتنب أقواله كلها، إن لم يكن من العلماء الذين يزنون الأقوال بميزانها. وإن ما يدعو إليه الكاتب في كلامه من اجتناب المعارك السابقة، ليس صحيحا إن كانت المعركة (العلمية) مع ابن تيمية ومن تابعه في ضلالاته. ذلك لأن الرد على ابن تيمية وتسفيه أقواله، هو واجب على كل عالم بفسادها، في كل الأزمنة. ومتى كان الباطل ينقلب حقا بتقادم الزمان؟!... ومتى كانت موافقة أهل الضلال من العلم؟!... وأما الفتنة حقيقة، فهي السكوت على ابن تيمية وأضرابه، اليوم وغدا. ومن يرى أن المبطل يستحق التجاوز، لأنه قد نال حظه من التسفيه سابقا، فقد أخطأ؛ وإلا لكان أولى الخلق بالتجاوز إبليس ذاته، الذي لم يُلعَن أحدٌ قدر ما لُعن هو...
[إن من أحوج ما نحتاج إليه بسط صفحة من التسامح والرحمة والاعتدال وضبط النفس.]:
قبول ضلالات ابن تيمية، لا يكون قط من الاعتدال ولا من التسامح، بل هو من ارتضاء الضلال والانخراط فيه. وعلى من لا يعلم ما نقول من كلام ابن تيمية، إن كان منصفا، أن يتوقف، ويتجنب الإشادة به والإزراء معا، ليكون صادقا فيما يناسب طوره ومرتبته. وأما نحن فكلامنا عن ابن تيمية نصدر فيه عن علم كشفي، هو أعلى من علم الفقهاء الذين عارضوه؛ وقد رددنا على بعض رسائله في كتابنا "تجريد التوحيد". فمن أراد أن يعلم ذلك، فلينظره، فإنه متاح على الإنترنت، وإن لم يُطبع بعد.
[كان الصوفية ولا يزالون، أعني الصادقين لا المنتحلين للاسم والسمعة، أصحاب قلوب حشوها المحبة والرفق والرحمة بالخلق كافة. ولئن اصطدم بهم بعض الفقهاء والمحدثين الذين من شأنهم التعامل مع النصوص بدقة العقل القانوني والتعامل مع الناس بميزان الجرح والتعديل الباني الهادم فإن صدق الفريقين يرجع آخر الأمر إلى الإنصاف، والاعتدال، والاعتراف، والرجوع إلى الحق.]:
هذا الكلام جهل محض. الصوفية على ما ذكر الكاتب من صفاتهم، لا يخرجون عن الشريعة التي تأمر بموالاة المحقين، ومعاداة المبطلين وفضحهم. ولقد كان حريا بالكاتب أن يدعو التيميين إلى الاعتدال وهم من يكفّرون المسلمين ويدعون إلى توحيد المجسمين، بدل أن يجعل الأمر مناصفة، وكأن الدين قد أصبح محلا للرأي؛ يقول كلٌّ فيه بما يشاء، وعلى الأطراف الأخرى أن تقبله ضمن الدائرة العامة، التي لن تختلف عما يدعو إليه اليوم الدجاليّون، أصحاب مقولة "السلم العالمي" الخادعة، ودعوى "التسامح" الملغية للحدود بين الحق والباطل. ومع كل ما كنا نظنه من اختلاف بيننا، لم يخطر ببالنا أن يلتقي عبد السلام ياسين مع الدجاليين في التنظير، هكذا!... ولو كان العلماء السابقون الصادقون، على الصفة التي يدعو إليها الكاتب هنا، لاندرس الدين وضاع، قبل أن يصل إلى أقاصي الأرض... لم يُحفظ الدين إلا بالعدول، لا بـ"المعتدلين"!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ؛ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ.»[10]. والفرق بين العدل والمعتدل، هو أن الأول ملتزم لأحكام الله، لا يحيد عنها؛ وأن الثاني -بحسب ما يراد الآن- هو من يكون في منتصف المسافة مع المخالف. وهذا المبدأ، لا يصح إن كان المخالف على باطل بيّن؛ كما هو الشأن مع ابن تيمية والتيميين، ومع عبدة الشيطان من الدجاليين أجمعين.
[مثال هذا الاعتدال والمراجعة نفتقده في زماننا، فلا نجد إلا التعنت والتصلب والرفض لكل حوار. لذا نستعرض تاريخ الرجال من سلفنا الصالحين لنستلهم الرفق كفاء لجهود غيرنا ممن ينفخ في رماد الفتنة ليوري الشرار.]:
أولا، ينبغي أن نأخذ مصطلح "الفتنة" بمعناه الشرعي، لا بالمعنى العامي الذي يعتبر الصورة وحدها، والتي تُعتبر فيها مخالفة الأغراض وحدها. فهل البلاد الكافرة -مثلا- التي تعيش في سلم واستقرار، على غير الفتنة في أحوالها؟!... وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. فالعوام قد يرون أن مجرد القتال فتنة، في حين هو هنا معاكس لها ودافع، لكن بشروطه. وكأن صاحبنا يميل إلى هذا الرأي، وهو من كان قبل صفحات يدعو إلى الجهاد. ظهر الآن أن الجهاد الذي يدعو إليه الأستاذ سياسي أيديولوجي، غير شرعي؛ وإن رام التشبه فيه بالصحابة، أو رام التلبيس على السامع بذكرهم. وسننظر في النماذج التي سيأتي بها الآن دليلا على مذهب "الاعتدال"، لنتبيّن مدى صوابه...
وأما مصطلح "السلف الصالح"، فهو مما يشيّد عليه ابن تيمية ضلاله؛ وهو مصطلح مبهم، قد يجعل أحيانا كل سابق في الزمان على صواب. وقد يجعل العوام من السابقين، أفضل من الأئمة الذين أتوا بعدهم. وكل لفظ مبهم، يجده المريدون للإضلال خادما لهم فيما يرومون. ولقد كان على الكاتب أن يتجنب الوقوع في هذا التعميم، الذي لا يفيد علما، بقدر ما يؤكد اتباع التيار العام الذي لا يخلو من انحراف.
[كثيرا ما قرأنا عبارات «أخذ عنه» أو «تلقى عنه»، فيا عجبا أي شيء يتلقاه أئمة الدين حماة الشريعة من أساتذتهم الصوفية؟]:
يعود الكاتب هنا إلى تدليسه، ليُنسي القارئ أن ابن تيمية لم يقبل أقواله الفقهاء الصادقون أنفسهم. ثم لمَ لمْ يأخذ ابن تيمية -كسائر النماذج التي يسوقها الكاتب- عن أحد من صوفية عصره؟... فأقصى ما كان يفعل هو مع معاصريه من الصوفية، أن يشهد لواحد منهم بصواب كلامه، وكأنه لا أعلم بالدين منه!... كيف يخفى قصور ابن تيمية واغتراره على أستاذنا؟!... إن إصراره على فرض ابن تيمية على من يريد الاجتماع على الحق من مختلف أطراف الأمة، لا يصح ولا يشي بخير. ثم إن من يكون من أهل الحق العارفين به، لا يتوسل بالجمع بين المتناقضات التاريخية للدعوة إليه؛ لأنه يدعو إلى الحق المعلوم، لا إلى حق افتراضي يحصله من الجمع بين الأقوال والقسمة على عدد المختلفين (عملية رياضية تدل على فقدان النور). هذه أيديولوجيا لا يُخطئها إلا أعمى البصيرة!...
[أفي الأمر أسرار كهنوتية أم أن الأمة أجمعت على ضلال حين اتبعت فقهاء في أغلبهم يتصوفون، واقتدت بصوفية تتلقى عنهم وتأخذ شيئا زائدا عن العلم والفتوى والإرشاد؟ إن في هذا ما يحير من كان خالي الفؤاد من همّ الآخرة وهم الله، ويشل حركته، ويرتد به إلى السلبية والعدمية والشك. ألا يكفي يا فقهاء ما جمعتموه من علوم حتى تلتمسوا من قوم ليس لهم أحيانا سماع ولا رواية ولا أصول مضبوطة محفوظة؟]:
يعود الكاتب إلى الصوفية وكأنه يُثبت مذهبهم، وفي الحقيقة هو يتمسح بهم، لعل فقهاء عصره يأتونه ليجدوا عنده -زعما- ما وجد الأولون عندهم. يقول هذا، وكأنه صوفي!... وهذه مغالطة. ثم متى كان التدين، بجمع الأقوال وكثرة تردادها؟... وهل إذا انحرف الإدراك العام لدى الناس، نكون نحن ملزمين بمجاراته؟... أم نصرُّ -في مقابل ذلك- على البقاء على ما دل عليه الوحي وشهد به الوجدان (الوجود)؟!... ألا إن السلبية، هي الخواء من النور؛ ألا وإن العدمية، هي الميل إلى السوء الأصلي الذي للنفس. ألا وإن إرادة الله واليوم الآخر، لا تُلبّى بالانخراط في الجماعات الحركية السياسية. يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. فمن رجى الله بالسعي إلى لقائه، ومن رجى اليوم الآخر بالعمل في نجاته، ليس له من سبيل إلا اتباع السنة النبوية الخطوة بالخطوة، مع الإكثار من ذكر الله؛ على طريقة الصوفية في هذه الأزمنة. وإن من معاني ذكر الله، نسيان ما سواه؛ نعني أن الذكر والنسيان متلازمان. وإن الإسلاميين بكثرة كلامهم في مخاصمة الحكام وفي الدلالة على العمل الرامي إلى انتزاع الحكم منهم، يذكرون الحكام لا الله. يقول الله (من باب الإشارة): {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]؛ وهذا المعنى صحيح جدا من جهة علم السلوك. فوالله ما ذكر الله ذاكر (حقيقة)، إلا مع نسيانه لكل ما سواه. يعلم هذا من يعلمه، ويجهله الإسلاميون!...
[ماذا تتلقون مما لا تجدونه في كتاب الله وسنة رسوله؟ أثم شيء زاده الصوفية في الدين، أم هو وحي بعد الوحي أم أن الدين الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى من يكمله؟]:
هذه الأسئلة كلها مغالطات، وإن أوردها الكاتب في صورة تقمُّص لما عليه مُخاطَبوه من الجهلة:
1. لأن مخالفة بعض الفقهاء للصوفية، ليست عن إلمام بالكتاب والسنة؛ وإنما هي عن قصور في فهم نصوصهما. وكل فقيه يزعم أنه عالم بالكتاب والسنة على وجه الكمال، فهو مغتر وواهم؛ بل هو مجنون وكذاب!...
2. التعريض بأن الصوفية عند مخالفتهم للفقهاء فيما يأتون، قد زادوا في الدين ما ليس منه، أمر باطل؛ لأن الزيادة في الدين نقصان. وإن أهل الكمال من الصوفية، لا ينقض عملهم حالهم، فيكونون كاملين ناقصين، بزيادتهم في الدين. ويبقى الأمر منوطا بعد هذا، بما هو المزيد؛ لنعلم هل هو مزيد حقا، أم إنه من أصل الدين، ومع ذلك لا يقبل به بعض الفقهاء. وسنعلم حينها، لمن يكون النقصان حليفا...
3. إن الدين قد كمل حقا، لقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ ولا شيء يُزاد فيه، كما لا شيء يُنقص منه؛ لأن النقص هنا أيضا زيادة في التشريع لا تخفى... وقد سمعنا من بعض متصوفة العصر، أن الصوفية زادوا الأخلاق!... هذا جهل وخروج عن صحيح الدين!... وهؤلاء ينبغي أن يقوم إليهم جميع المسلمين، ليردوهم (بالقوة إن اقتضى الأمر) إلى الصراط المستقيم.
إن الصوفية قد زادوا على غيرهم، بالتزام أحكام الدين ظاهرا وباطنا؛ عندما اكتفى الغير بالتظاهر بشعائر الدين، على خواء باطني، صغير أو كبير... هذا فحسب!...
[أسئلة إنكار وجدال تبقى صماء لا تصيخ لجواب في فم الغاضب لنفسه، وقد يوهمه جهله أنه يغضب لله. أما من كان في قلبه حرقة، وكان من ذوي الأفق الواسع، استكشف رحاب العلم وجوانب الاطلاع، فانتهى مثل الغزالي إلى أن علمه المكتسب ما زاده إلا تخبطا في الدنيا وهوسها بعيدا عن علم الآخرة بعيدا عن معرفة ربه، فذاك يطلب العلم لا يمل، ويتعرض كما تعرض موسى عليه السلام لمن يعلمه علما، يتبعه على ذلك ويطيعه ويصبر معه.]:
هذا الكلام يرتد به الكاتب عما يريد أن يدل عليه، وكأنه متردد؛ أو كأنه يعلم أن ما سيُلقي به، من الباطل المتبيَّن؛ أو كأنه يخشى عدوان الجهلة من مُخاطَبيه التيميين. وأما ذكره للغزالي مرة أخرى، وقد أثبت له -بالنظر إلى زماننا- النقص، فلن يُسعفه فيما يريد. فإن كان صاحبنا على بعض تصوف، فليخرج به إلى العالم لينظره الناظرون؛ وإن لم يكن، فلمَ الخروج والتخفي، والتقدم مرة والتأخر أخرى؟!... عند المغاربة مثل عامي معناه: "الراقصة لا تخفي وجهها". وأما قصة موسى مع الخضر، فهي من غير الباب الذي يتكلم فيه صاحبنا، ما دام لم يخرج عن نطاق العوام من الصوفية والعوام من الفقهاء، في الغالب؛ لأن من أراد أن يكون موسويا من الفقهاء، فعليه أن يكون على علم بالأحكام وعلى التزام تام بها؛ ومن أراد أن يكون خضريا من المتصوفة، فعليه أن يكون مع الحق لا مع سواه، في كل أمر وكل حال وكل وقت.
[أو كمثل مجتهد القرنين الثاني عشر والثالث عشر الشوكاني الذي يحظى عند السادة السلفية والحنابلة بالقبول التام وتحظى كتبه بالتقدير الكامل. هذا الرجل مثال للاعتدال والإنصاف، نعرض نصوصا له لمن يعرف الحق بالرجال ولا يعرف الرجال بالحق لبعده عن الحق.]:
يأتينا الكاتب بشاهد جديد، يقدم له بأوصاف تجعل الناظر يُحجم عن التفحص؛ ويهاب المقام. وهذه عادة صاحبنا مع قرائه في إرهابهم وإرغامهم على التسليم له من البداية... لمَ لمْ يكتف بعرض ما لديه، ويترك القارئ الفهِم يحكم ما يشاء؟... وإن كان لا بد من الكلام، فليكن إعانة للناظر على معرفة الحق، بتفكيك المركّب، وبتوضيح المبهم...
[الشوكاني أيضا أخذ وتلقى عن شيخ صوفي، هو أيضا تتلمذ وقعد بين يدي مرب ماهر في طب القلوب. أتدري يا أخي ماذا تلقى؟ إنه تلقى دواء كما تلقى غيره ممن قرأت وممن لم تقرأ. فإن كنت مطمئنا إلى إيمانك وسلامة قلبك أكثر من اطمئنان من سردت عليك من الفحول فلا عليك أن ترضى بحالك وأن تقعد فأنت الطاعم الكاسي.]:
تمطيط لا ينفع!... يشير به الكاتب إلى نفسه، ويجعلها نظيرا لكل من ذكر من الشيوخ أهل التصوف. ولا ندري عن أي تصوف يتكلم... فإن كان لمن ذكرهم حظ من تصوف الإيمان وتصوف الإحسان، فإنه لم يبدر منه ما يدل على ذا ولا ذاك، وهو من لم يميّز ضلال ابن تيمية الذي لا ينطلي إلا على من لا نور له!... وددنا لو أن الأستاذ دل الناس على الله حقيقة، أو على الطريق إليه صدقا، لأن ذلك كان سيصب في الإصلاح العام الذي ننشده؛ ولكنه بدل ذلك يدل على أقوال من أناس مضوا، لا جامع بينها إلا عدم الاتساق وانبهام المعاني. فكيف يكون هذا منه عملا معتبرا، نشهد له فيه بالإصابة!... لا ينقص من قدر كلامنا ما يقوله المتعصبون له، الذين ينسبون إليه كل فضل وفضيلة، من غير أن يعلموا شيئا مما نخوض فيه. ليس هكذا يُخدم الدين، ولا هكذا يُساس المسلمون!...
[تحدث الشوكاني في كتابه «البدر الطالع» عن شيخه في طريق القوم السيد عبد الوهاب الحسني الموصلي. قال: «وقدم علينا إلى صنعاء في سنة 1234. وكثر اتصاله بي. وهو جامع بين علم الأديان والأبدان، جيد الفهم فصيح اللسان، حسن العبارة، حسن الإشارة».]:
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin