..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty20/11/2024, 22:49 من طرف Admin

» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 23:30 من طرف Admin

» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 23:25 من طرف Admin

» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 23:20 من طرف Admin

» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 23:08 من طرف Admin

» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 23:03 من طرف Admin

» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 23:01 من طرف Admin

» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 22:57 من طرف Admin

» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 22:55 من طرف Admin

» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 22:41 من طرف Admin

» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 22:34 من طرف Admin

» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 22:23 من طرف Admin

» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 22:21 من طرف Admin

» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 21:50 من طرف Admin

» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty18/11/2024, 21:38 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 22:05

    إحسان الإحسان - 11 -
    أخذ العلم عن أهله

    يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:

    [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.]
    [ورث أهل العلم من علوم النبوة، وورث أهل التقوى من فيض النبوة، لكلٍّ مشْرب وَوِرْدٌ وصَدَرٌ. فمن حسن السمع أن نُلقِيَ الانتباه إلى ما يقوله العلماء. فإن كانت الأمثلة العديدة التي سقتها في الفصل الأول من هذا الكتاب لفقيه وعالم يَنقاد لشيخ مرب، ويسمع ويطيع، ويتتلمذ، لم تكف لإيقافك للعبرة، فاسمع الأصوات الفاصلة.]:

    لا ندري من هم أهل العلم الذين يتكلم عنهم الكاتب، خصوصا بعد الخلط الذي سبق أن رصدناه في الفصل الفارط. وتفريقه بين العلم والتقوى، من كون الأول من النبوة، والثانية من فيضها، من دون أن يُطلعنا على معاييره في هذا التصنيف، هو مجازفة منه، وكلام عام يبغي به إبراز فضل العلماء على غيرهم، من دون أن يكون هو ذاته متبيِّنا لما يقول. وهذا الأمر لا يكون إلا ممن تكلم قبل أن يعقل، وتصدّر قبل أن يكمل. وبما أننا نحن ممن لم تكف معه أمثلته السابقة حتى نسلم له بما يقول، فإننا سنسمع الأصوات الفاصلة التي يعدنا بها، ونرى هل هي كما يقول، أم إن الانبهام معها سيزداد، والالتباس سيترسخ!...

    [قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يوصيك باستثبات الأحوال: "لا يزال الناس صالحين ما أخذوا العلم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم. فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا". رواه الطبراني بإسناد صحيح.]:

    سيدنا عبد الله بن مسعود، من فقهاء الصحابة بالمعنى اللغوي قبل الاصطلاحي، وحق علينا إن تكلم رضي الله عنه، أن نستمع وننصت. والكلمة التي أوردها الكاتب عنه هنا، هي من عيون العلم، ومن أنفس ما يتعلق بمنهجيته. وهي المعنى نفسه الذي نستقيه من الحديث النبوي الشريف: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.»[1]. والمعنى هو أن الناس ينبغي أن يعلموا عمن يأخذون علمهم؛ لأنه سيأتي زمان، يُرفع فيه العلم بقبض العلماء. وهذا يعني أيضا، أن العلماء المعروفين بين الناس حينئذ لا يكونون علماء بالمعنى الصحيح؛ وهو يشبه ما نحن عليه في زماننا. فمع كثرة المشتغلين بالعلم في زماننا زعما، لا نكاد نجد في البلد الواحد عالما واحدا!... بل لا نكاد نجد في العالم من المتصدرين عالما واحدا!... فإنا لله وإنا إليه راجعون!...

    وإذا صار الناس إلى هذه الحال، اتخذوا أئمة من الجهال الذين لا هداية لهم في أنفسهم، فأحرى أن يتفضلوا على سواهم بها؛ فإذا استفتوهم، أفتوهم بغير علم، فضلوا وأضلوا؛ أي ازدادوا ضلالا في أنفسهم، وتسببوا في ضلال غيرهم. كل هذا، والناس لا خبر لهم عما وقع من انحراف، وما طرأ من انقلاب في المعايير؛ وإنما هم على ما تعطيه الصورة في الظاهر من استفتاء وهداية، ومن تعلّم وعلم. ولقد بلغ هذا الأمر في زماننا، إلى الحد الذي يكاد الناس يفقدون معه الدين جملة. ألا نرى من بين المسلمين من صاروا لا يفرقون بين يهودية ولا نصرانية ولا إسلام، مع إصرارهم على أنهم لا يصدرون إلا عن العلم!... ومن أكبر الرؤوس الجاهلة التي كنا دائما نحذر من اتباعها ابن تيمية، الذي أسس لهذا الصنف من الإضلال تأسيسا يجعل منه مذهبا في العلم، كما يتوهم أتباعه. وهيهات!...

    ولقد كان أولى بالكاتب أن يعمل بنصيحة ابن مسعود رضي الله عنه، ليخرج هو أولا من دائرة الضلال؛ وبعد ذلك إن هو أراد هداية غيره، صحت منه الهداية ولم يكن من صنف الرؤوس الجهال. وسنرى فيما يأتي من الكلام، مدى التزام الكاتب بهذه القاعدة النفيسة، أو مدى إهماله لها...

    [الأكابر هم أكابر العِلم والتقوى، عظيمو الحظ من الله، والأصاغر أصاغر العلم والتقوى والحظ من الله وإن علا بهم السن وتقدم بهم الزمان. وسيدنا عبد الله بن مسعود من أكابر علماء الصحابة رضي الله عنهم.]:

    أما حرص الكاتب على التفريق بين العلم والتقوى، فلا نفهمه؛ وما زلنا ننتظر منه الحكمة من ذلك لديه؛ وإن كانت التقوى عندنا هي العمل بالعلم في كل مرتبة بحسبها. وأما الشهادة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فهي حق؛ وإن كان الصحابي في غنى عنها منا جميعا.

    [ويقول الإمام أبو حامد الغزالي في إحيائه: "وأما الآخرة فلا تنفعُ فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها. وليس ذلك من فنّ الفقيه. وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب، وكان خارجا عن فنه".]:

    لو عمل الناس بهذه الفائدة وحدها، لكفوا شرا كثيرا؛ لأننا نجد فقهاء آخر الزمان، قد صاروا أئمة -بحسب الزعم- إلى الآخرة، مع كونهم على غير طريقها. نعني أنهم صاروا دجاليين: إذا دعوا إلى جنة، فهي نار في حقيقتها؛ وإذا حذروا من نار، فهي الجنة في الغالب!... ولقد نتج عن هذا الخلط بين العلماء حقيقة والرؤوس الجهال، في نظر العامة، ما ينتج عن رعاية الذئاب لقطعان الأغنام. فلا دنيا الناس ستسلم معهم، ولا الآخرة...

    [وذكر أن حكم الفقيه على صلاة الغافل الذي يحسب معاملاته في السوق أثناء الصلاة بالصحة حكم على ظواهر الأمور. قال: "فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه. ولو تعرض له لكان خارجا عن فنه".]:

    فماذا بقي للفقيه، وهو لا يعلم ما تصح به الأعمال (الصحة هنا بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي الفقهي)؟!... وعلى هذا، فإن أحوج الناس اليوم إلى شيوخ التربية الفقهاء، من أجل تصحيح إسلامهم فحسب؛ لا من أجل بلوغ غاية الإحسان. فإننا نراها تكاد تكون محرمة عليهم!... ووالله ما نقول هذا الكلام إلا شفقة عليهم، وإن كان الظاهر يوحي بالتحامل!...

    [وقال: "فإن تكلم في شيءٍ من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل".]:

    صدق الغزالي رضي الله عنه!... ولكن أين من يعمل بهذا العلم!... مع أن حكم الغزالي مناسب لفقهاء زمانه؛ وأما نحن فنقول: إن الفقيه لا خبر له عن القلب البتة!... فهو على دين مادي، لا تُعلم منه هنا، إلا الحركات البدنية والعطايا والمنح؛ ولا يُنتظر منه هناك (في الآخرة)، إلا المأكل والمشرب ومحسوس اللذات. حقيق بالمتأخرين، أن يتكلموا عن المذهب المادي في الدين، كما يتكلم المفكرون عن المادية في الفلسفة.

    [وأخيرا وَضع الإمام الغزالي فقه الفقيه وربانية المربي في مكانهما فقال: "علم الفقه مُجَاوِرٌ لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح ومَنشَؤُها صفات القلوب".]:

    يعني الغزالي بالمجاورة هنا، أنه غيره؛ وإن كان الأمر في الحقيقة تراتبا تقتضيه المراتب الدينية. وفي النهاية فإن علم الفقيه متعلق بصور الأعمال، وعلم الرباني من أرباب علم القلوب، متعلق بأرواح تلك الصور. وكل صورة لا روح لها، فهي جثة، لا تصلح إلا للدفن (الستر) أو الحرق (إذا آلت إلى النار بصاحبها). وهذا الكلام كله من مرتبة الإسلام، ومن طور الدلالة على الطريق (الدين)؛ وتبقى الدلالة على الله فوق علم الآخرة نفسه، وفوق إدراك الفقيه!...

    [ضعفوا حديث "العلماء ورثة الأنبياء"، لكن هناك حديث: "العلماء أمناء الرسل" وإسناده حسن. قال المناوي: "هناك أربعون حديثا تقوي هذا المعنى".]:

    المعنى صحيح، لكن ينبغي التفصيل فيه: فالفقهاء العاملون الناصحون، ورثة علم الرسالة؛ وعلماء القلوب كالغزالي، ورثة النبوة؛ وأما المتحققون من كبار الأولياء، فهم ورثة ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهؤلاء هم الأئمة في الدين حقيقة، وهم الورثة بالمعنى الكامل. وقد كان منهم أكابر الصحابة والأئمة من أهل البيت على الجميع السلام؛ ومنهم أيضا أئمة الطريق المعروفون كالجنيد والرفاعي وغيرهما، رضي الله عن الجميع.

    [تفرد المحدثون رضي الله عنهم بالنصيب الوافر من أمانة الرسالة وتفرد الفقهاء بالأحكام، وتخصص مشايخ التربية في القلوب وعلاجها وتوجيه سيرها إلى الله. لم يكن في عهد النبوة انصداع في الأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع والطبيب والأمير، والوحي ينزل، وتَسليم الصحابة أنفسهم لله ورسوله كان تسليما كاملا. من بعد عهد الصحابة عامت سحابات الفلسفة ودخن الفتنة فغطت على الجلاء الأول، وترجم كل فريق من أمناء الرسالة وورثتها عما عنده من علم، وخاض كل فريق في طائفة العلم التي تخصص فيها إلى درجة الاستغراق.]:

    ليس ما دعا إلى النزوع نحو التخصص في العلم، هو ما ذُكر من دخول الدخن وحده؛ وإنما تفصيل ما كان مجملا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. والتفصيل هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما أصاب فيه أهل كل علم من العلوم الفرعية المستحدثة. وسيبقى هذا التفصيل إلى ما لا نهاية، دنيا وآخرة؛ لكون العلم لا نهاية له. ولسنا نعني هنا بالعلم إلا العلم بالله حصرا، الذي هو العلم المخدوم وحده، والذي هو المشار إليه بجميع تفاصيل العلوم، وإن كان العلماء لا يُدركون ذلك. وأما العلم الخادم كعلم الحديث، وكالفقه، فلا يتعدى فضله النسبي الدنيا؛ لأن كل فروع العلم ستندرج في العلم بالله في الآخرة، كما يندرج نور النجوم في نور الشمس إذا ظهرت. فهذا من الإجمال الأخروي، الذي لا يعلمه في الدنيا إلا الورثة وحدهم. ومن لم يُدرك هذا الفرق الأساس الذي يتعلق من جهة بمناط العلم ذاته، ومن جهة أخرى بمجاله (الدنيا وحدها أو الدنيا والآخرة معا)، ثم يُدرك بعد ذلك نسبة كل علم مفرد إلى العلم الكلي، فإنه لن يعلم التراتب الذي تكون عليه العلوم المختلفة، وستختلط عليه الأقوال دائما، عند نظره إليها. وهذه القاعدة، لَهي مما ينبغي أن يُلقّن لكل طالب علم، حتى يتسنى له اختيار ما يناسبه من العلوم، بدل أن يتوهم أن كل علم فرعي، هو جنس العلم كله.

    والتخصص لا يضر العالم في نفسه، ولا يضر الأمة من بعده، إن هو لم يدخل في معارضة علم آخر من تخصص غيره بغير علم. نعني أن العلوم كلها ينبغي أن تحافظ على تكاملها، لينال منها كل محتاج غايته. ولكن عند نزول درجة العلماء، وعند تصدر الجهلاء في الأزمنة المتأخرة، قد صارت الأمة تعرف صراعات يوهم أصحابها أنها من تمحيص العلم، وما هي في الحقيقة إلا دليل على جهل الخائضين في تلك الخصومات. ومن أشد هذا الجهل ما صار إليه التيميون الوهابية عند خلطهم في الكلام بين ما هو من التوحيد (علم الكلام في الظاهر ومن مرتبة الإسلام)، وما هو من أحكام الفقه العامة، التي تُعنى بالحلال والحرام في الأعمال والمعاملات. فنشأت عن هذا التضارب الجاهل آفات بلغت حد الاقتتال وحد تكفير المسلمين؛ وصار العلم مع هذه الآفات مانعا عن الحق، لا طريقا إليه. وهذا أيضا يلحق بما ذكرناه سابقا، من انحراف عام في الدين، ومن انعكاس تام له، مما يطبع عصور آخر الزمان، السابقة لزمن الخلافة الخاتمة، والسابقة أيضا لقيام الساعة.

    [فمن أدركته العناية الإلهية سمع الكبراء التراجمة بانفِتاحٍ، وشمَّ طيب النبوة وشَامَ نورها. وأقوى ما وجد الواجدون النسمات النبوية المنعشة عند أطباء القلوب. فيذهب أمثال الغزالي عند "متبوع مقدم" للسماع والتلمذة. وتمنع الأنانية عن السماع من أهل "الفن"، أو يمنعهم تحجر على العادة، أو تخشب على ذهنية تجزيئية سطحية حرفية.]:

    هذا الكلام فيه خلط منشأه التعميم، عبّر عنه الكاتب بـ"الشم"، يكون بين ما هو من المدد القلبي المأخوذ من النبوة عبر الورثة، وما هو من كلام النبوة الذي يقتات عليه أهل الظاهر (الشيْم). فهما طريقان متجاوران، كما أخبر الغزالي سابقا؛ وليسا طريقا واحدا وُفِّق إليه هذا وخُذل عنه ذاك. وإن هذه الازدواجية في التديّن، ستبقى حاكمة على كل العصور، بدءا من عصر التابعين وإلى قيام الساعة؛ من دون أن يشعر بها العامة من أهل العلم.

    وأما ما ذكره الكاتب من امتناع بعضهم عن الأخذ من الورثة، بسبب الأمراض التي عليها قلوبهم، والتي على رأسها الكبر والحسد والغلظة (كثافة الحجاب)، فهو صحيح ويكاد يكون سمة عامة لدى الفقهاء الرسميين من المتأخرين؛ ومع ذلك، فلا أحد يحذّر من أمراضهم، ولا أحد يدل الناس في المقابل على من لديه صلاحهم؛ وكأن الأمة اتفقت على غش نفسها بمخالفة مقتضى العلم وموافقة مقتضى الأهواء!... وحتى الكاتب نفسه، لا نجد له موقفا جليا من هذه المسألة، ينحاز به إلى الحق مرة واحدة، من دون حسابٍ لرأي أحد مهما كان...

    [كان الغزالي فقيها أصوليا متَكلما ذا حظوة في بلاط نظام الملك وزير السلطنة السلجوقية القوية. ما صده جاهه العريض وعلمه عن الخرُوج لسؤال الأكابر والأخذ عنهم.]:

    لا ينبغي أن يغيب عن ذهن الكاتب، أن من سماهم أكابر هنا، هم أكابر في عين الغزالي ومن على شاكلته؛ وأما في نظر الأصاغر من الفقهاء ومن العامة، فهم أصاغر، وفي بعض الأحايين من أصغر الأصاغر!... ولا يعرف الفضل لأهل الفضل في النهاية إلا ذوو الفضل...

    [كبير آخر من الفقهاء الأصوليين يدلي بنصيحته إلينا في اتباع العلماء والأخذ عنهم. هو الإمام الشاطبي ذو العلم الواسع والفهم الجامع والاستنباط الرائع. لم يكن من أهل "فن" التربية، لكنه كان يسلم للقوم ويعتبر الصادقين كل الاعتبار. أورد الحديث الشريف: "إن الله لا يقبضُ العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء". الحديث. ثم قال: "فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتيحه بلا شك. فإذا تقرر هذا فلا يوخذ (العلم) إلا ممن تحقق به. وهذا أيضا واضح في نفسه متفق عليه بين العقلاء. إذ من شروطهم في العالم، بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم".]:

    بدأ الكاتب هنا في الخلط؛ وعندما يسمع منه القارئ وصف الشاطبي بالكبير، بعدما سمع وصف شيخ الغزالي بذلك أيضا، من دون إبراز لمعايير هذا التوصيف، فإنه سيخلط بين علماء التربية والفقهاء. وهذا من أضر الأشياء على الناس!... وأما ما ساقه الكاتب من كلام الشاطبي في عموم العلم، عند عرضه لفهمه في الحديث النبوي، فإنه لا ينفع إلا في الشهادة للشاطبي بأنه كان من العقلاء؛ في مقابل حمقى الفقهاء ومجانينهم الذين ليس لهم من الفقه إلا التسمية، كما هو حال فقهاء زماننا. ولكنه لا يصلح لأن يُبنى عليه في التأسيس لما نحن بصدده من التفريق بين أصناف العلوم وأصناف العلماء.

    [وذكر من شروط العالم المتحقق: "أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم وملازمته لهم". هذا يقال لمن يقرأون في الصحف والمجلات والكتب الجليلة بلا فهم، لم يربهم الشيوخ ولم يأخذوا إلا عن قال وقيل، ولم يلزموا الأكابر، ففاتتهم الفوائد. بل فاتتهم الدنيا والآخرة لما فاتهم العلم يأخذونه من أهله.]:

    هذا الكلام، وإن كان صحيحا من الشاطبي، وصحيحا من الكاتب، فإنه لا يعدو أن يكون عاما، يحتاج إلى كثير من التفصيل؛ لأن بعض الجاهلين يقرّون به ظاهرا، ويعملون بعكسه في الحقيقة؛ فيبدو لغير البصير أنهم من صنف المتحققين وليسوا منهم. نعني من هذا، أن كثيرا من الشيوخ، تكون السلامة في اجتنابهم ومخالفة طريقهم؛ لأنهم وإن كانوا شيوخا في العرف، هم من الرؤوس الجهال ومن أئمة الضلال. فلا سبيل إلى العمل بالقواعد العامة، من غير تمحيص عند التنزيل أبدا.

    ثم إن كان علماء الكسب، لا يستغنون عن الشيخ، ليصحح لهم الفهم، وليحميهم من شطط الفكر؛ فإن علماء التزكية والهداية القلبية، أحوج إلى ذلك وأولى به، لدقة علومهم بالمقارنة إلى فقه الظاهر، ولكثرة الآفات المحدقة والضلالات العارضة. نعني من هذا، أن عمل الشيطان فيما هو متعلق بالقلب، أوسع مما هو متعلق بالجوارح؛ وما اتسع فيه عمل الشيطان، اشتدت الحاجة فيه إلى الشيخ العاصم المقابل له في الوظيفة. وهذا أيضا، مما ينبغي أن يكون من أول ما يلقّن لطالب العلوم الدينية، حتى يعلم مراتب الشيوخ ولا يخلط بينهم. ولكن يبدو أن الأمة قد تعرّضت لمؤامرة قديمة في هذه المسألة على الأخص، حتى يتمكن الفقهاء الدنيويون من نيل أوطارهم، في غفلة من رقابة العامة من الناس. وإن كل ما تعيشه أمتنا اليوم من أزمة دينية خانقة، أدت بكثير من أبنائها إلى نبذ الدين وإلى الكفر برب العالمين (الإلحاد)، ليس إلا نتيجة للخلط في المسألة التي ذكرنا، ونتيجة لما انجر عنه من فروع الضلالات...

    [وذكر الإمام الشاطبي فوائد صحبة العلماء وملازمتهم وقال: "فهذا من فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان. وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا رأيكم، فوالله لقد رأيتني يوم أبي جَندل (قصته معروفة في صلح الحديبية لما ظن بعض الصحابة أن شروط الصلح مجحفة بالمسلمين)، ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته. وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه (أي في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أبي جندل إلى المشركين) من الإشكال. وإنما نزلت سورة الفتح بعدما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر. ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس، وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم (أي الصحابة). فالتزم التابعون في (صحبة) الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية. وحسبك من صحة هذه القاعدة (أي تلقي جيل عن جيل بالملازمة والصحبة والأخذ والصبر) أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك".]:

    هذه الفقرة تدور حول التسليم؛ تسليم التابع للمتبوع؛ لكن المسألة مع الفقهاء، تختلف عنها مع الربانيين من شيوخ التربية. وذلك لأن التسليم المطلوب لطالب الفقه مع شيخه، لا يتجاوز فيه التريث والتثبت (الصبر)، إلى حين ظهور الدليل له؛ لأن الدليل في مجال الفقه حاكم على الشيخ وعلى التلميذ. أما المريد مع شيخ التربية (بشرط الربانية)، فتسليمه أقرب إلى المعنى الصحيح للكلمة؛ وهو يتطلب سكوتا من جهة الباطن وسكونا، من غير انتظار بدوّ دليل. فإن ظهر الدليل بكيفية ما، فهو من فضل الله؛ وإن لم يظهر، فعلى المريد البقاء على حاله من التسليم الأول. وهذا، لأن معاملة الفقيه تكون معاملة للدين من وراء مظهره؛ وأما معاملة شيخ التربية، فهي معاملة لله من وراء مظهره؛ وبين الشيخين ما بين الدين وربه من بعد المكانة. ولم نر من المتأخرين، من ينبه إلى هذه المتشابهات، على كثرة الكلام وكثرة المتكلمين في شؤون الدين.

    وإنّ خلط الكاتب بين الأمرين، سيزيد من الالتباس الحاصل لدى الناس؛ مع العلم بأنه بهذه الطريقة لم يُضف جديدا يستدعي منه كتابة هذا الكتاب من الأصل. والأمة بحاجة الآن، وبعد قرون من المعاناة، إلى من يقلل من حيرتها ويزيد من وضوح إدراكها؛ لا إلى إعادة إنتاج ما أُنتج من هذا الخلط، الذي لا يبدو منه ما يبشر بجلاء الرؤية، حتى يعقبه الضباب الكثيف مرة أخرى... كان الله في عون جميع المسلمين!...

    [ومما ينكره بعض المتلَفّعين في رداء أنانيتهم ويرفضونه أن يكون تسلسل مشيخة في علم القلوب وفن الفطرة وأدب التربية والتزكية المسمى في الاصطلاح تصوفا. ينقصهم صبر أمثال الغزالي وانقياده للأمناء. من الشروط التي وضعها الشاطبي في اعتبار أهلية العالم: "الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بآدابه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم. واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرنٍ".]:

    الانتقال من كلام الغزالي الذي هو من رجال التربية بالمعنى الشرعي، إلى كلام الشاطبي انتكاس. وقد وقع فيه الكاتب، بسبب عدم تفريقه بين الصنفين من العلماء: الفقهاء والصوفية؛ إلى الآن. وهذا كله يدل على أن الكاتب يتكلم من مرتبة الإسلام، كما تكلم ابن تيمية وغيره ممن كان الخلط ملازما لهم قبله. نعني من هذا، أن كل كلام له معياران أساسان عند النظر فيه: الأول، المرتبة التي منها صدر، وهذا يتعلق بمقام المتكلم ومرتبته في نفسه؛ والثاني، المرتبة التي يشير إليها الكلام، وقد تكون مرتبة المتكلم نفسها، كما قد تكون غيرها. فعندما يتكلم ابن تيمية -مثلا- من مرتبة الإسلام، فإن كلامه يكون منطلقا منها؛ فإذا تكلم عن الإحسان، فإن كلامه عنه من مرتبة الإسلام، سيعطي معنى لا يمكن أن يكون صحيحا؛ لأنه يدل فيه على ما لا يعلم. وهذه القاعدة أيضا، مما ينبغي أن يُلقَّنه طالب العلم منذ البداية؛ حتى إذا صار مؤهلا للنظر في كلام العلماء، حكم عليه بها، فخرج حكمه أقرب إلى الصواب.

    وأما أخذ كل قرن عن القرن الذي قبله، فيصح في علوم الكسب أكثر مما يصح في التصوف. وذلك لأن الصوفي، وإن كان يُشبه في التلقي التربوي غيره من العلماء، عند أخذه عن الجيل الذي قبله، فإنه يمتاز عنهم بمجرد حصول الوصول له. فهو عند فراغه من السلوك، يتلقى عن الله، كما كان يتلقى مَن قبله؛ وقد يفوق التلميذ من هذا الوجه شيوخه؛ بخلاف الفقيه الذي يبقى على بعض تقليد، وإن بلغ درجة الاجتهاد في نفسه. والسبب في هذا، هو أن الفقيه يأخذ عن الله من وراء حجاب، لا كما يأخذ الصوفي. وقد غلط في هذه المسألة كثيرون من المتصوفة، وجعلوا تقليد اللاحق للسابق شرطا، ظنا منهم أن الأمر يشابه ما عليه أهل الظاهر. بل لقد بلغ الأمر بمتأخري المتصوفة، أن جعلوا للتزكية سندا مثلما يكون للحديث؛ يزعمون بذلك أنهم يمحصون التلقي، حتى لا يدخله ما ليس منه، أو يتصدر في مجاله من ليس له بأهل. والحقيقة هي أنهم ما دلوا بذلك، إلا على نقص إدراكهم لخصائص علم التزكية، عندما قاسوه على الفقه الكسبي وحده. ولو كان ما يذهب إليه هؤلاء المتصوفة صحيحا، لثبت التزكي لكل واحد اتصل بشيخ للتزكية بنسبة ما، كما يثبت للمتلقي عن الشيخ الفقيه الفقه بدرجة ما. وكم من فقيه لم يأخذ من أحد شيوخه، إلا مسألة واحدة أو اثنتين. فإن قيل: إن التزكية تثبت بشهادة الشيخ لتلميذه بالوصول، قلنا: فإن كان الأمر هكذا، فهو متعلق بالشيخ نفسه، من غير اعتبار للسند. فإن قيل: إن السند تثبت به أهلية الشيخ لا غير؛ قلنا: وهذا أيضا لا يُقطع به؛ لأن علوم الوهب لا تخضع لمعايير علوم الكسب، كما لا يخضع علم الغيب لمعايير عالم الشهادة. ويبقى الشاهد على أهلية الشيخ غيبيا، ما لم تقم الحجة على التلميذ من جهة الباطن، عند ذوقه لتربية شيخه ذوقا. ويبقى التلميذ الذي لا استعداد له، أو لا تسليم له، مع الشيخ الرباني كالأجنبي، لا يعلم صدقه من كذبه. ولولا هذا الذي نقول: لم يكن تلاميذ الصوفية يوصَوْن بالتسليم للشيوخ، ولدُلّوا على معايير معرفة صدق الشيخ من كذبه فحسب؛ كما يُدل طالب الفقه على إتقان النظر في الأدلة فحسب. كل هذا الكلام، هو مع من له استعداد مرتبة الإسلام في الحد الأدنى؛ وأما في زماننا، حيث يلامس الناس الكفر مرارا في اليوم الواحد، فإن ذوقهم للتربية ورؤيتهم للكرامات الباهرة، لا ينفعان معهم في تمييز مرتبة الشيخ، ولا في التسليم له، لشدة البعد. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ: يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا؛ أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.»[2]. ولا يغتر أحد، عندما لا يعرف الكفر والإيمان من نفسه، فيتوهم بقاءه على حال واحد؛ لأن ما يظنه ثبات حال، هو ثبات تغير الحال بين الإيمان والكفر، لا ما يظنه إيمانا خالصا. وهذا يجعل الكلام في التصوف أو في التزكية، مخالفا لكل ما ذكره الغزالي ودل عليه. وهو يعني أيضا، أن كل كلام مستورد للكاتب، هو غير ذي جدوى في عصرنا؛ لأن الأمر منوط بسلامة القابلة من جهة، وبصحة توافر المدد من الجهة الأخرى. وهذان أمران يُمازان بالذوق وحده، لا بالعلم المجرد.

    [ويذكر كيف يحصل العلم والبركة بحضرة الشيخ: "وقد يحصل بأمر غير معتاد. ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ظاهر الفقر، بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه". وهذا ليس ينكر، فقد نبه عليه الحديث الذي جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.]:

    القياس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصح، لأنه لا أحد في مرتبته تربية وتعليما؛ كما لا أحد يعلم ما عاشه الصحابة رضي الله عنهم عند موته، إلا هم. فهذا الحال فريد لا يعلمه إلا من ذاقه وحده؛ وكل تمثل له أو تصور، فإنما يقع على معنى آخر لا عليه. والشيخ الرباني، وإن كانت له حرمة الدلالة على الله وهيبة التجلي التعريفي، فإنه لا يداني ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم البتة. فكما لا يلحق الفرع بالأصل أبدا، فكذلك الشيخ لا يُقاس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع ثبوت ما ذكرنا له. وهذا باب من العلم نفيس، ينبغي أن لا يؤخذ بالقياس العقلي من كل وجوهه؛ نعني باعتماد القياس ذاته من جميع الوجوه.

    وأما بركة الجلوس بين يدي الشيخ، فلا تخفى؛ لكن ما دل عليه الشاطبي منها ليس إلا أدناها. فالشيخ الرباني الكامل، تحصل بمجالسته مجالسة الحق تعالى؛ وهذا أعلى ما يكون من بركة الصحبة. ولقد ذقنا نحن هذا مع شيخنا ذوقا، كما يذوقه معنا الصادقون من أصحابنا. ولو علم الناس ما نقوله هنا، لاقتتلوا على باب الشيخ الرباني؛ ولكن الله يحجب هؤلاء الشيوخ كما احتجب هو سبحانه عن أعين عموم خلقه. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ وعدم الإبصار من الآية، هو ما سميناه نحن حجابا...

    [وذكر رحمه الله أن العلوم تحصل بمشافهة العلماء، "ومفاتيحه بأيدي الرجال، والكتب لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء".]:

    كلام الشاطبي يلزم أضرابه، ولا يلزم الصوفية؛ والكاتب يخلط هنا على عادته. وأما الصوفية، فالمشافهة عندهم تكون على قدر الحاجة، ولا تكون ضرورية في تلقين العلم؛ لأن مدار التصوف على القلوب التي هي غيب الإنسان، لا على الأسماع والأفهام التي لا تتجاوز شهادته (نعني من جهة المناطات والتعلقات). وأما كون المفاتيح بيد الشيوخ، فهو صحيح؛ لكن المفاتيح تختلف باختلاف العلوم: فمفاتيح فقه الظاهر العبارات، ومفاتيح فقه القلوب الإشارات، ومفاتيح فقه الحقيقة الإرادات (إرادة الشيخ). ولقد رأينا في واقعة عند بداية سلوكنا على يد شيخنا حمزة رضي الله عنه، أن تحت موضع قدميه الشريفتين خزانة تشبه تلك التي تكون في مراكز البريد، والتي يكون لكل صندوق منها مفتاح خاص. فكانت الصناديق التي رأينا، خزائن العلوم التي يتصرف فيها الشيخ؛ فأخذنا وقتها مما أُذن لنا في فتحه، وقد كانت خزائن معدودة. ولم نزل نأخذ من علمه وحاله -رضي الله عنه- حتى استوينا معه في الأخذ عن الله ورسوله. فعند ذلك -فقط- انفصلنا عنه واستقللنا بأمرنا. ولقد كنا مصرين على البقاء معه، رغم تحقق وصولنا، لإلفنا الاستناد إليه استناد الولد إلى أبيه، ولخوفنا من المكر؛ حتى إن بعض الأشخاص كانوا يُدلّون علينا من جهة الغيب فكنا نصرفهم إلى الشيخ، ونستحيي أن يخطر ذلك لنا. واستمررنا على هذه الحال مدة غير يسيرة، تتجاوز العقد من الزمان، قبل أن نبدأ دعوتنا بحمد الله.
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري Empty رد: كتاب: إحسان الإحسان - 11 - عبد الغني العمري

    مُساهمة من طرف Admin 23/10/2020, 22:06

    [وذكر رحمه الله أن الإعراض عن الكبراء، والاعتراض عليهم، والأنفة من الانقياد لهم سبب للحرمان والعياذ بالله. قال: "عُهِد بالتجربة أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة، مبعد بين الشيخ والتلميذ، ولاسيما عند الصوفية، فإنه عندهم الداء الأكبر".]:

    ظهر أن الشاطبي أفقه من كاتبنا هنا، فهو -على الأقل- يميّز في الحال بين الصوفية والفقهاء؛ وإن كان تمييزه مما تعطيه الملاحظة والنباهة، لا مما يكون عن علم ذوقي؛ لأنه لا علم في الحقيقة إلا ما يكون عن ذوق. وهذا مما يقع فيه الاختلاف بين أهل الظاهر وأهل الباطن، ومما يقع فيه الاختلاف بين الخواص وخواص الخواص من أهل الباطن أيضا. وأما لمَ كان الأمر عند الإنكار هينا مع الفقهاء، دون الصوفية؛ فلأن طالب الفقه إذا اعترض على شيخه، يكون مسيئا للأدب مع شيخه؛ وهذا يحرمه بركة العلم فلا يفلح فيه. وأما المريد لدى الصوفية، فإنه يكون (هكذا يُفترض) مقبلا على الله الذي هو ولي شيخه (إن كان الشيخ وليا)، من وراء حجاب شيخه. واعتراض المعترض هنا، يُدخله مباشرة في الجراءة على الله وفي معاندته ومبارزته. وهذا الأمر يسلب منه الإيمان كله، ويجلب عليه المقت؛ إلا أن يتوب الله، ويقبل منه توبته. نعني أن الاعتراض على الشيخ الصوفي يكون فيه الهلاك المبرم، والسم الزعاف، الذي لا شفاء منه؛ لأن الخسران به خسران للدارين. ولقد رأينا من هذا القبيل أقواما، لم يبق لهم من الإسلام إلا صورته الظاهرة؛ تكاد الشقاوة تنطق على سحناتهم. وهذا يشبه ما ذكرناه سابقا في مسألة تصنيف الكلام؛ فكما يُنظر في الكلام إلى مقام المتكلم ومقام الكلام، فكذلك هنا ينبغي أن يُنظر إلى مقدار الاعتراض ومكانة المعترَض عليه. والذي نذكره، مما يجب تعليمه للمريدين منذ البداية؛ حتى يُجنّبوا الهلاك. ولكن أيضا، لا ينبغي للمتصوفة أن يجعلوا ذلك إرهابا للناس حتى لا ينتقدوهم أو يردوا عليهم جهلهم وجهالاتهم. والموفق من وفقه الله!...

    [ننتقل الآن إلى أحد عظماء الإسلام وكبراء الأمة في عصرنا يدلي بشهادته في الموضوع. قال الإمام حسن البنا رحمه الله: "وظللت معلق القلب بالشيخ (الحصافي) رحمه الله (...) وواظبت على الحضرة في مسجد التوبة في كل ليلة. وسألت عن مقدم الإخوان فعرفت أنه الرجل الصالح التقي الشيخ بسيوني العبد التاجر، فرجوته أن يأذن لي بأخذ العهد عليه ففعل". ثم التقى بشيخ الطريقة الحصافية الشيخ عبد الوهاب، فيقول عنه: "وجزى الله عنا الشيخ عبد الوهاب خير الجزاء، قد أفادتني صحبته أعظم الفائدة".]:

    حسن البنا رحمه الله، ليس صوفيا، وليس من الكبراء والعظماء (بمعايير الكِبَر والعظمة)؛ وإنما هو متصوف متبرك، خرج إلى طريق الفكر والعمل السياسي؛ وكلامه هنا لا عبرة به ولا وزن له. والكاتب يعلم هذا منه، لأنه سيذكره في كلام لاحق له؛ ومع ذلك يسلك سبيل التلبيس على القارئ!... وهو لا يتكلم عن التزكية بما هي تزكية، لنتتبع قواعدها معه، ونحاكمه إليها؛ وإنما يؤسس لتربية مخلوطة بين السياسة والتصوف التبركي. وهذا أمر سيضر كثيرا بكل من يأخذ هذه التعريفات كما هي عن صاحبنا، وسيكون أخذ الناس في هذا السبيل من الإضلال لا من الهدي؛ وإن زُعم غير ذلك. ولا يكفي وجود كلمات ضمن الكلام، من مثل "شيخ" و"ذكر" و"فائدة" و"حضرة"... لنقطع بأن المجال المتكلم فيه تصوف. ولقد وقع الكاتب في هذا اللبس، لأنه يتتبع الألفاظ دون المعاني؛ وأوقع فيه غيره، عندما لم يصمت عما لا يُحسن؛ كما يحدث كثيرا مع من لا خبرة له بالمجال...

    [وللإمام البنا رحمه الله "رأي في التصوف" نرجع إليه إن شاء الله، فشهادة أمثاله من الكبراء لها الأهمية القصوى.]:

    حسن البنا إمام لأن له أتباعا من جماعة الإخوان المسلمين في شتى بلاد العالم؛ ولكنه ليس إماما في الدين، كما يدل مصطلح الإمامة. والغالب على الظن، أن الكاتب لا يميّز بين الأمرين، ويأخذ الرجال وكلامهم بحسب الظاهر وحده، كما تفعل العامة. وهذا ليس من شأن العلماء، وإلا فما يكون الفرق بين العلماء وغيرهم؟!... ولقد بدأ توجه الكاتب يظهر هنا: فهو لا يريد تربية تصل العبد بربه، ليعلم العبد من ربه ما ينبغي عليه إتيانه وما ينبغي تركه؛ ولكنه يدل على استعمال للدين في تحقيق المآرب السياسية التي هي من الدنيا لا من الدين. ونحن بكلامنا هنا عن علم ما يـأتي العبد وما يذر، لا نتكلم عن الأمر والنهي الشرعيين، لأن هذين يُعلمان من ظاهر النصوص ومن تبيين الفقهاء، ومن يخالفهما فهو عاص؛ وإنما نتكلم عن الفهم عن الله في تفاصيل الأمور، الذي لا يكون إلا لخواص العباد، ممن هم على شاكلة الخضر عليه السلام. والله لم يذكر لنا الخضر في القرآن، إلا ليدل على تلك المرتبة، زيادة على ما هو متعلق بخصوصية الخضر فيها. فينبغي أن يُعلم هذا، وأن لا يُنظر إلى القصة القرآنية وكأنها حدث تاريخي محدود المساحة ومحدود الأثر...

    [التقى بالبنا في بداياته صوفي اشتهر في سوريا وكان علَما فيما بعد. هو الشيخ محمد الحامد رحمه الله. وشهد الحامد في البنا شهادة تكشف وجها لدعوة الإمام طالما غطى عليه صيت الإخوان المسلمين الواسع في كل ميدان. هذا الوجه هو الوجه الرباني الصوفي، ويا للمصطلحات! قال الشيخ الحامد: "إني أقولها كلمة حرة، ولا بأس بروايتها عني. أقول: إن المسلمين لم يروا مثل حسن البنا منذ مئات السنين في مجموع الصفات التي تحلى بها وخفقت أعلامها على رأسه الشريف. لا أنكر إرشاد المرشدين، وعلم العالمين، ومعرفة العارفين، وبلاغة الخطباء والكاتبين، وتدبير المدبرين، وحُنكة السائسين. لا أنكر هذا كله عليهم، من سابقين ولاحقين، لكن هذا التجمع لهذه المتفرقات من الكمالات قلما ظفر به أحد كالإمام الشهيد رحمه الله".]:

    شهادة الرجل للرجل لا تلزم إلا صاحبها؛ وأما العلماء فينبغي أن يستقرئوا الأحوال والأقوال، إن لم يكونوا من أهل الكشف المنوط بالخواص. وحسن البنا، وإن كان قد سعى إلى خير لم يُدركه، ونوى عملا لم يتم له، وامتاز عن غيره من أهل عصره بالسعي إلى تحقيق ما يريد من دون كلل ولا ملل؛ إلا أنه ليس بهذه المثابة التي يريد الكاتب أن يُثبتها له باعتماد الديماغوجيا. ولعله ما أتى بذكره، إلا توطئة لما سينتهجه هو نفسه، مما هو مبني على غير أساس، ومشيد على هوى أو على التباس. وسينجلي أمر كاتبنا -إن شاء الله- كلما تقدمنا في الكتاب بفضل الله...

    [في زماننا قل من يجسر على ذكر الصوفية والصحبة والذكر والمعرفة والكرامات والانقياد للمشايخ. إلا أن يكون الدكتور عبد الله عزام الذي يكتب عن كرامات أولياء الله المجاهدين في أفغانستان، أو يكون الفارس المعلم الشيخ عبد الحميد كشك كثر الله من أمثاله، أو الشيخ عبد الله علوان في كتبه رحمه الله.]:

    كل هؤلاء المذكورين ليسوا صوفية؛ فمنهم من هو من الإخوان، ومنهم من هو من الوعاظ، ومنهم من هو من المفكرين؛ فكيف يُؤخذ برأيهم في التصوف وأهله، وهم لا علم لهم به!... ولعل الكاتب، كشأن العامة في زماننا، يرى أن كل من يقر بفضل الصوفية فهو منهم؛ وأن كل من لا يُنكر عليهم، فهو منهم أيضا. وهذا مما يعمل عليه التيميون أيضا، الذين يكونون أكثر سرورا عند تكفير أكبر عدد من المسلمين؛ وهم يرون في عدم إنكار أحد على الصوفية، شبهة تصوف لديه؛ لكن هذا لا يكون من شأن العلماء قط!... وهو لا يليق بالكاتب، ونحن نريد أن نجد معه أساسا علميا للكلام، نبني عليه موقفا واضحا منه وممن يأتي على ذكرهم؛ قد يكون في مصلحة أحدهم، وقد يكون غير ذلك. فليس المهم لدينا الانتصار للأشخاص، وإنما المهم وضوح الرؤية!... لعل ذلك ينفع المسلمين في تبيّن الطريق!...

    [من القلة، بل أبرزهم، الشيخ الأستاذ أبو الحسن النّدْوي، هذا الحكيم من بين الحكماء يعالج موضوع التربية والتزكية وهو في وضع حَرِج من جراء نشاطاته الواسعة ومخالطته لطوائف منهم الحرْفيون الذين لا يسمعون إلا من جهة واحدة، و«فن» واحد، وتعصب واحد. فهو لا يستعمل لفظ تصوف لكن يقول: "تزكية".]:

    أبو الحسن الندوي ليس صوفيا؛ نعني أنه ليس مربيا بالمعنى الشرعي؛ وإنما هو مفكر إسلامي وإن كان قد انتسب إلى طريقة صوفية في مدة من عمره كالبنا. ولعل الكاتب يقع في مثل هذا الخلط، لأنه لا يميّز التربية بالمعنى الشرعي؛ ويظن أن كل مربّ هو مربّ حقيقة. والحقيقة هي أن التربية قد تكون فكرية (أيديولوجية)، وقد تكون صحيحة عامة (مما يكون عليه الآباء وعلماء الدين)، وقد تكون منحرفة (كما هو الشأن داخل المذاهب إما جزئيا وإما كليا)، كما قد تكون باطلة (إن كانت على المعتقدات الكفرية إما جزئيا وإما كليا). وتبقى التربية المشروعة، هي ما وافق أمر الله ورسوله، ظاهرا وباطنا، في كل مرتبة بحسبها. فالتربية على الإسلام، هي غير التربية على الإيمان، وهي غير التربية على الإحسان. وكل من يخلط في التربية الشرعية، ويجعلها مرتبة واحدة وعلى إدراك واحد، فهو من أهل مرتبة الإسلام الذين يجب عليهم السكوت عما هو من اختصاص الخواص من العباد، إن أرادوا السلامة. ويبدو أن الكاتب وقع في هذا اللبس عمليا، بعد وقوعه فيه علميا؛ عند تصدره للتربية من غير أهلية تجعله في مأمن هو ومن تابعه في أمره. ولسنا هنا متحاملين ولا مغرضين، عياذا بالله؛ بل نبغي تحذير المسلمين مما نعلم نحن أنه ضرر بيّن عليهم؛ لأننا لو سكتنا، فإننا سندخل في زمرة الغاشين للدين ولأهله. نقول هذا، ونحن نعلم أن بعض أصحاب الأهواء من أتباع الأستاذ عبد السلام، سيرونه منا إعلان حرب وإشهار عداء...

    وأما استبدال كلمة "تزكية" بكلمة "تصوف"، فهو مما نحبذه؛ لأن التزكية لفظ قرآني، لا يمكن أن يبلغه اللفظ الآخر في الدلالة قط، وإن اشتهر في أزمنة ماضية شهرة فاقت المصطلح الشرعي. وإن في استعمال اللفظ القرآني أيضا بركة التأسي بالله، وهو أمر لا ينبغي أن يغيب عن أهل الدين عموما، وعن أهل التربية خصوصا.

    [كتب الشيخ الندوي عن فن التصوف في تاريخ المسلمين يقول: "قيض الله للمسلمين في كل عصر وجيل من ينفون عن هذا الدين "تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"]:

    هذه الصفة التي وردت في الحديث النبوي الشريف، ليست مقصورة على أهل التصوف؛ وإنما هي عامة، يأخذ منها كل أهل مرتبة، وكل أهل علم، على قدر علمهم بالحق وعلى قدر عملهم في سبيل تبيانه.

    [ويدعون إلى التزكية الخالصة من شوائب العجمية والفلسفة، وإلى "الإحسان" و"فقه الباطن" من غير تحريف وانتحال وتأويل.]:

    هذا يدخل ضمن التزكية، نعم؛ فنفي الشوائب هو من معنى التطهير، والدعوة إلى الإحسان هي من معنى الترقي. ومن فضل الله على هذه الأمة، أن هذه الوظائف فيها لا تنقطع، وإن بلغ الضعف العام ما بلغ، أو دخل على الأمة من الفساد العام ما دخل.

    [ويُجدّدون هذا الطب النبوي لكل عصر. وينفخون في الأمة روحا جديدة من الإيمان والإحسان، ويجددون صلة القلوب بالله، والأجسام بالأرواح، والمجتمع بالأخلاق، والعلماء بالربانية.]:

    كلام جيد، وترتيب محكم. وأما الطب النبوي العام، فينبغي أن يُعلم أنه يكون بالمدد الذي يأتي عن طريق الورثة، لا بالكلام الفكري وحده، كما نرى ذلك من حال علماء زماننا الذين يكادون يجهلون أمر المدد جهلا، أو يُنكرونه إذا سمعوا به إنكارا. ولا نرى شبيها لمن أنكر المدد، إلا الأكمه الذي ينكر أشعة الشمس عندما لم يرها...

    [ويوجِدون في الجمهور قُوة مقاومة الشهوات، وفتنة المال والولد، وزينة الحياة الدنيا، وفي الخواص قوة مقاومة صلات الملوك وسياطهم، ووعدهم ووعيدهم، والجرأة على الجهر بكلمة حق عند سلطان جائر، والاحتساب على الملوك والأمراء، والاستهانة بالمظاهر والزخارف، والقناعة باليسير.]:

    كلام جيد وسليم، لكن رائحة الفكر السياسي بدأت تُشتمّ منه، من وراء الألفاظ؛ لأن الناس لم يُكَلّفوا بالاحتساب على الحكام، وإنما أقصى ما كُلِّفوه معصيتهم إن هم أمروهم بخلاف ما أمر الله ورسوله. هذا فحسب!... وكل ما نراه من فهم للعمل السياسي من الجماعات الحركية الإخوانية أو المتفرعة عنها، هو فهم منحرف؛ وبالتالي فإنه سيدخل بالناس في المعصية، وإن كانوا يتوهمون العكس. وأما القناعة باليسير التي صارت كلاما لا مدلول له، فإن الإسلاميين لو تحققوا بها، ما كانوا يجعلون من معاداة السلاطين محور تدينهم المحرف!... ولو أن الزهاد كانوا كثيرين في أمتنا اليوم، لعاش معهم السلاطين ذلا لا مزيد عليه؛ بعكس الإسلاميين الذين لن يزيدوا بمعاداتهم الحكامَ إلا تعززا وتعاظما. كل هذا لأن الدنيا عندما تكون معظمة في قلب العبد، فإنها تذهب ببركة عمله وإن كان في ظاهره مبنيا على نصوص شرعية ثابتة الصحة. ولهذا السبب، كنا نحن نقول إن الإسلاميين لا يختلفون عن الحكام في الذهنية ولا في النوع؛ وإنما يختلفون من جهة موضع التقابل السياسي فحسب.

    [فيستطيع أحدهم أن يقول -وقد طلب إليه أن يقبل يد ملك بلاده ليرضى عنه-: يا مسكين! والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده! يا قوم أنتم في واد وأنا في واد!]:

    هذا الكلام لا يكون ممن تزكى أبدا، لأن فيه تعظيما للنفس يفر منه الخواص أكثر مما يفر صاحبنا من السلطان ومن المعصية. ذلك لأن الاتصاف بالربوبية عند القوم، أشد من كل معصية!... وقول الندوي: "والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده!" كبر لا يقع فيه عباد الرحمن، الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].

    وأما من جهة ثانية، فإن الخواص يشهدون الله في المراتب الثلاث (الأفعال والصفات والذات)([3])، فهم لا ينظرون إلى الخلق نظرة العوام من أهل التوحيد العام. ومن هذا الفرق الذي بين الفريقين، يكون شهود الخواص لتجليات الحق من السلاطين؛ ولأجل هذا يعاملونهم بالتعظيم اللائق بهم من جهتي الظاهر والباطن معا. والتوفيق بين نظرة الظاهر ونظرة الباطن، لا يتقن تركيبه المتعلق بالوقت كل أحد؛ وإنما هو من اختصاص الكبار حقا. والأولياء لا يأنفون من تقبيل يد السلطان ولا من تقبيل يد عالم أو واحد من المعظمين، لأنهم لا نفس لهم هناك؛ وهم في ذلك بحسب التجلي، لا بحسب الحكم الفقهي وحده. ولا ينبغي للطالب أن يُحجب بالظاهر عن المخابر، ويحكم بحكم العامة، الذين يرون الاجتراء على السلاطين قوة في الحق دائما، ويرون التواضع لهم ذلة لأهل الباطل دائما. الأمر أعقد من هذا، وأدعى إلى أن تُتبيّن فيه الأصول والفروع من جهتي الظاهر والباطن جميعا. ولعل هذا القول من الندوي سيكون له أثره على الأستاذ ياسين، في معاملته لملك بلاده، وفي تربية أصحابه على معارضته إجمالا وتفصيلا، وفي التقليل من احترامه؛ وبعضهم (ممن نعرف) لا سند لهم في ذلك إلا عدم الحياء وفساد القلب. ولقد كلمنا بعض المنتسبين إلى جماعة الكاتب في هذه المسألة، فلم يكونوا يجدون مخرجا منها إلا بالمداراة وإبداء الموافقة أحيانا، لا بالأدلة الشرعية المعتبرة... والحقيقة هي أن الأمر ينبغي أن يكون مبنيا في هذه المسألة على العلم من جهة الظاهر ومن جهة الباطن، كما ذكرنا مرارا. ولعلنا سنُضطر للعودة إلى كل هذا من وجوه أخرى إن شاء الله، بما يُوسع من جلاء المسألة ويزيد في وضوحها.

    [ومن الراسخين في العلم من أكابر الدعاة الشيخ الدكتور سعيد رمضان البوطي نفع الله به ينصح لهذه الأجيال الإسلامية الصاحية المباركة. يقول في مقال عنوانه: "موقف ابن تيمية من ابن عربي": "صفوة القول: غياب التصوف هو المسؤول عن جل مشكلاتنا اليوم. بل هو المسؤول أيضا عن البدع والانحرافات التي تسللت إلى جوهر التصوف وحقيقته. فلو أن النفوس زُكيت وتطهرت من أهوائها ورعونتها وعصبيتها -وهذا هو لب التصوف ومعناه- لما تحول التصوف عند أرباب هذه النفوس إلى مطية لشهرة، أو حرفة لمال، أو إطار لأبهة، أو خندق لمحاربة العلم والانضباط بقيوده وأحكامه.]:

    على عادة الكاتب، هذا الكلام فيه خلط؛ نرى أن نرفعه بإذن الله، بما يلي:
    1. البوطي ليس من الراسخين في العلم، بل وليس من الصوفية؛ وإنما هو فقيه من عوام الفقهاء، له بعض تصديق بالتصوف وأهله. هذا فحسب.
    2. عنوان المقال "موقف ابن تيمية من ابن العربي"، يدل على جهل صاحبه، وعلى جهل من اعتبره؛ لأن السفهاء لا يُلتفت إلى رأيهم في الكبراء!... فأين ابن تيمية الذي لم يسلم له الإسلام، من الشيخ الأكبر وهو أكبر الورثة عليه السلام!...
    3. التصوف الذي يتكلم عنه البوطي، تصوف مجرد؛ يشبه ما يكون عليه أهل العقائد في عقائدهم. والدليل هو أننا لم نر لهذا التصوف من البوطي نفسه شاهدا يشهد له به؛ بله أن يدل غيره عليه أو يهدي الناس إليه. وقد سمعنا من كلامه على شاشة إحدى الإذاعات المرئية، ما يدل على عدم السير في طريقه قدما واحدة!...

    وإن إصرار الكاتب على نسج تنظير من خيوط أقوال مختلفة، وأحيانا غير متجانسة، من هذا الشخص أو من ذاك، لن يزيد الأمر إلا انبهاما لديه ولدى من يأخذ عنه؛ ولن يزيدهم في أنفسهم إلا ترددا واضطرابا. ولو أن الكاتب كان من أهل "مكة" كما ذكر عن نفسه سابقا، لكفاه أن يعرض ما يراه هو، بعبارته هو؛ ليتحقق كل ما يصبو إليه من هداية وإصلاح، من أيسر طريق وبأقل الألفاظ!...

    [لو زكيت النفوس، كما أمر الله في محكم تبيانه، لما مزق المسلمون أنفسهم فئات وجماعات، ثم انهالت كل جماعة على الأخرى توسعها انتقاصا وشتما وتكفيرا في كثير من الأحيان (...). والشباب المسلم الذي يتكاثر بفضل الله في كل بقعة من أرضه الواسعة يظل يسأل، تحت إلحاح فطرته الإسلامية الظامئة: كيف السبيل إلى أن أسْمُوَ على نَفْسي وأهوائها في هذه الأزْمنة العصيبة وسط هذه المغريات المتأججة؟(…). نعم إنكم لتعلمون أيّها السادة أن الشباب المسلم الظامئ يظل يَسْأل هذه الأسئلة، ولا من مجيب، لأن الذين عليهم أن يجيبوا منهمكون في ملاحقة البدع والسعي للقضاء عليها. (…). إننا لا نعدو الحقيقة عندما نقول: إن جل مشكلات مجتمعاتنا الإسلامية اليوم إنما يكمن في غياب هذه التربية الوجدانية التي هي العمود الفقري في جوهر الإسلام".]:

    تشخيص الداء، لا يكفي في علاجه وحده!... الأمر يتطلب إذنا ربانيا أولا، في تغيير ما بالأمة؛ وليس منوطا برغبة هذا أو ذاك من العلماء والمصلحين، الذين لا يُحسنون إلا التنظير. الأمر يحتاج إلى وجود الرباني (والربانيون لا يخلو منهم زمان بحمد الله) الذي يقول فتنفعل الأشياء لقوله، ويسأل ربه فيُجاب!... ونعني بوجود الرباني، معرفته من قِبل معاصريه لا عين وجوده، كما ينبغي أن يُفهم من سياق كلامنا. ولقد نُقل عن أحدهم قوله (مع تحفظنا على العبارة): "إن لله عبادا، لو سألوه أن لا يقيم القيامة، لما أقامها؛ ولكنهم يريدون ما أراد"([4]). وفي طي هذه العبارة من العلوم ما لا يطيق سماعه أحد ممن نعلم من أهل زماننا!...

    وأما الغافلون من العامة، الذين ينتصرون لمذاهب أئمتهم، فلن يُخرسهم إلا النور إذا هو طالعهم من وجه الرباني، فتتصاغر له ظلمتهم؛ لأن الكلام العقلاني لا يجد إليهم سبيلا؛ بل قد يزيد من تطاولهم عند رؤيتهم عجز المتكلم، إن لم يكن معه غيره (الكلام).

    [شباب يسأل ولا من مجيب، وصمت مطبق -كان-، و"إرهاب فكري". وقد خرق هذا الصمت واحد من أبرز الدعاة، هو الشيخ سعيد حوى غفر الله لنا وله، فقد شن حملة تكفيرية شعواء على المسلمين الشيعة. وتوفي بعدُ رحمه الله وتجاوز عنا وعنه.]:

    سعيد حوى رحمه الله، لم يكن من المربين بالمعنى الاصطلاحي الشرعي، إلا من جهة المرتبة المشتركة التي يعلمها الإخوان. وهو عندما تكلم عن التربية، لم يزد على أن دل عليها ونظّر لها فكريا، كما يفعل صاحبنا نفسه في هذا الكتاب. وعلى هذا، فنحن نعرف لسعيد حوى فضله، ونراه من علامات التصحيح العام، ولا نراه من أئمته وأهله بالمعنى الخاص...

    [يمثل الشيخ سعيد أسعده الله معلمة بارزة في فكر الإخوان المسلمين، ويمثل رجوعه إلى علم التصوف في كتاباته الأخيرة تحولا نوعيا في هذا التفكير. أخبره شيخه محمد الحامد رحمه الله أن الإمام البنا كان يدرس حكم ابن عطاء الله، وهي من نفائس الكلام، لقلة من أخِصّائه. وعكف الشيخ سعيد على التأليف، فأنشأَ في علم التصوف كُتبا يدرك أهل الفن والذوق أنها فقه تبركي بمعزل عن السلوك والوصول والمعرفة.]:

    حكم سليم من الكاتب على سعيد حوى، عندما نسبه إلى التبرك؛ ولكنه هو عينه لا يتجاوز ما ذُكر... وأما مُدارسة الحكم العطائية، كما نرى عددا من أهل زماننا يفعلون، فإنها لا تنفع السامع شيئا؛ بل ستجعله على تصوف مجرد، يشبه ما يكون عليه أهل العقائد في عقائدهم الكلامية. ولقد استمعنا إلى البوطي في بعض مجالسه يشرحها، فوجدناه ينزل بمعانيها عما قصده صاحبها، إلى ما يتصوره العامة من مرتبة غفلتهم ونقصهم. وهذا لا شك سيجلب على الشارح الإثم، ويجلب على السامع التثبيت في الحجاب. وهما أمران لو كان يعلم المتطفلون حقيقة ما يصيبهم منهما، لفروا منهما فرارا، بدل أن يسعوا إليهما سعيا!...

    [والرجل صادق في دعوته لالتزام وظيفة البنا، والمحافظة على الذكر رجاء "إحياء الربانية". ويقترح ترتيبا "لجمعية الربانيين" حتى تخرج الربانية من "عفويتها" ويستفيد منها الجيل الإسلامي الحاضِر الذي يصفه، وهو أعرف الناس به، بالخواء الروحي.]:

    يعود الكاتب إلى الكلام عن سعيد حوى، لأنه أشبه الناس به؛ مع فارق جرأة صاحبنا على التصدر للمشيخة، وإحجام سعيد حوى عنها لأدبه وعلمه بحقيقة مرتبته. وأما إحياء الربانية فيكون لو تحقق موتها، وهي موجودة دائما في الأمة لا تغيب عنها شمسها بحمد الله. والتغيير الذي وقع في حال الأمة، إنما وقع لانحجابها عن الربانيين، بسبب غياب الأهلية من عمومها. هذا فحسب!... وهذا، لأن الله يغار على عباده المخلَصين، فلا يأذن للفساق والسفهاء بمعرفتهم. ومسألة الإذن من الله تُشعر، بأن معرفة الخواص هي من جزاء العباد في دنياهم على بعض أعمالهم؛ بل إنها ستكون من أخص الجزاء، لمن عرف قيمته. وسنعود إن شاء الله إلى معاني الربانية عندما نجد من كلام الكاتب داعيا إليها، كما هو دأبنا...

    [ليست الربانية اجتهادا وتحصيلا وشهادات وإجازات، بل هي وهب إلهي وعطاء ومنة. وكيْف تعرف العارفين بالله إن لم تكن واحدا منهم؟]:

    كلام حق، ولكنه عام؛ سنرى ما تحته مما يأتي بعده إن شاء الله...

    [قال الصوفي المشتاق:

    أحن بأطراف النهــار صـبــابة *** وفي الليل يدعوني الهوى فأجيب
    وأيامنـا تفـنى وشــوقــيَ زائــد *** كأن زمان الشـوق ليـس يغـيــب]:


    هذا الشعر ليس من طور الربانيين من الشيوخ، وإنما هو مترجم عن حال المريدين فحسب...

    [وقال الصوفي المفتت الكبد:

    بزمزم بالأركان بالحِجْـرِ بالصــــفـا *** بمَشْعَــره بالركـن بالبــركــات
    بحجاج بيت الله من كل جـانـب *** بحَصْـب حَجيـج الله بالجمـــرات
    أجِرْني من الإعراض والصَّد والجفا *** فلي كـبــد تنْـفَــتُّ بالحسرات]:


    هذه الأبيات أيضا ليست من طور الربانيين، لأنهم قد جاوزوا مقام الخوف من الإعراض والصد والجفاء. فهذه كلها مما يليق بالمريدين وحدهم.

    [وقلت غفر الله لي وأجارني:

    ولي كَبِــــدٌ تَنْفـَـتُّ بالحســرات *** تَحِـــنُّ لذاك الـربـــع بالجَـمـراتِ
    ويُلهبني شوقي لأَعْتَسِــفَ الفلا *** وأركب مَتْنَ البحر في الغَمَــراتِ
    تَصَرَّم عمري والطـــريق طويلةٌ *** فيا ربِّ أدرِكْــني أقــل عَـثراتـي]:


    وهذا أيضا كلام لا يليق إلا بالمريدين؛ ولعله قد بدأ الآن يظهر شيئا فشيئا ما يعنيه الكاتب من وراء ألفاظه!... وبدأ يظهر مقامه...
    ويخلط الكاتب مرة أخرى بين أصناف العلماء في هذا الجزء، وهو من وعد بتوجيه القارئ إلى الأخذ عنهم. فإن كان يقصد بالأخذ مجرد الاستهداء العام، الذي يكون عليه عوام الناس، فقد وُفّق في الدلالة عليه؛ وأما إن كان يريد تحقيق الأمر بمعرفة طبقة العلماء حقيقة، وبمعرفة كيفية الأخذ، فهو لا يزال بعيدا عن بلوغه، ويكاد يكون فيه هو عينه بحاجة إلى من يدله ويرقيه...


    [1] . متفق عليه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
    [2] . أخرجه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
    [3] . ليحترز القارئ هنا، لأن الكلام عن مشاهدة الحق، لا عن معرفة النفس التي تكلمنا عنها سابقا. فمعرفة النفس تتحقق على طول الطريق، ومشاهدة الحق تكون من أعلى الإحسان وحده.
    [4] . نقل الغزالي مثل هذا عن التستري في إحياء علوم الدين: 356/4؛ وقد أنكر الشعراني أن يرد في كلام الغزالي شيء كهذا، انظر لطائف المنن: 199- 200.

      الوقت/التاريخ الآن هو 22/11/2024, 22:37