إحسان الإحسان - 11 -
أخذ العلم عن أهله
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.]
[ورث أهل العلم من علوم النبوة، وورث أهل التقوى من فيض النبوة، لكلٍّ مشْرب وَوِرْدٌ وصَدَرٌ. فمن حسن السمع أن نُلقِيَ الانتباه إلى ما يقوله العلماء. فإن كانت الأمثلة العديدة التي سقتها في الفصل الأول من هذا الكتاب لفقيه وعالم يَنقاد لشيخ مرب، ويسمع ويطيع، ويتتلمذ، لم تكف لإيقافك للعبرة، فاسمع الأصوات الفاصلة.]:
لا ندري من هم أهل العلم الذين يتكلم عنهم الكاتب، خصوصا بعد الخلط الذي سبق أن رصدناه في الفصل الفارط. وتفريقه بين العلم والتقوى، من كون الأول من النبوة، والثانية من فيضها، من دون أن يُطلعنا على معاييره في هذا التصنيف، هو مجازفة منه، وكلام عام يبغي به إبراز فضل العلماء على غيرهم، من دون أن يكون هو ذاته متبيِّنا لما يقول. وهذا الأمر لا يكون إلا ممن تكلم قبل أن يعقل، وتصدّر قبل أن يكمل. وبما أننا نحن ممن لم تكف معه أمثلته السابقة حتى نسلم له بما يقول، فإننا سنسمع الأصوات الفاصلة التي يعدنا بها، ونرى هل هي كما يقول، أم إن الانبهام معها سيزداد، والالتباس سيترسخ!...
[قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يوصيك باستثبات الأحوال: "لا يزال الناس صالحين ما أخذوا العلم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم. فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا". رواه الطبراني بإسناد صحيح.]:
سيدنا عبد الله بن مسعود، من فقهاء الصحابة بالمعنى اللغوي قبل الاصطلاحي، وحق علينا إن تكلم رضي الله عنه، أن نستمع وننصت. والكلمة التي أوردها الكاتب عنه هنا، هي من عيون العلم، ومن أنفس ما يتعلق بمنهجيته. وهي المعنى نفسه الذي نستقيه من الحديث النبوي الشريف: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.»[1]. والمعنى هو أن الناس ينبغي أن يعلموا عمن يأخذون علمهم؛ لأنه سيأتي زمان، يُرفع فيه العلم بقبض العلماء. وهذا يعني أيضا، أن العلماء المعروفين بين الناس حينئذ لا يكونون علماء بالمعنى الصحيح؛ وهو يشبه ما نحن عليه في زماننا. فمع كثرة المشتغلين بالعلم في زماننا زعما، لا نكاد نجد في البلد الواحد عالما واحدا!... بل لا نكاد نجد في العالم من المتصدرين عالما واحدا!... فإنا لله وإنا إليه راجعون!...
وإذا صار الناس إلى هذه الحال، اتخذوا أئمة من الجهال الذين لا هداية لهم في أنفسهم، فأحرى أن يتفضلوا على سواهم بها؛ فإذا استفتوهم، أفتوهم بغير علم، فضلوا وأضلوا؛ أي ازدادوا ضلالا في أنفسهم، وتسببوا في ضلال غيرهم. كل هذا، والناس لا خبر لهم عما وقع من انحراف، وما طرأ من انقلاب في المعايير؛ وإنما هم على ما تعطيه الصورة في الظاهر من استفتاء وهداية، ومن تعلّم وعلم. ولقد بلغ هذا الأمر في زماننا، إلى الحد الذي يكاد الناس يفقدون معه الدين جملة. ألا نرى من بين المسلمين من صاروا لا يفرقون بين يهودية ولا نصرانية ولا إسلام، مع إصرارهم على أنهم لا يصدرون إلا عن العلم!... ومن أكبر الرؤوس الجاهلة التي كنا دائما نحذر من اتباعها ابن تيمية، الذي أسس لهذا الصنف من الإضلال تأسيسا يجعل منه مذهبا في العلم، كما يتوهم أتباعه. وهيهات!...
ولقد كان أولى بالكاتب أن يعمل بنصيحة ابن مسعود رضي الله عنه، ليخرج هو أولا من دائرة الضلال؛ وبعد ذلك إن هو أراد هداية غيره، صحت منه الهداية ولم يكن من صنف الرؤوس الجهال. وسنرى فيما يأتي من الكلام، مدى التزام الكاتب بهذه القاعدة النفيسة، أو مدى إهماله لها...
[الأكابر هم أكابر العِلم والتقوى، عظيمو الحظ من الله، والأصاغر أصاغر العلم والتقوى والحظ من الله وإن علا بهم السن وتقدم بهم الزمان. وسيدنا عبد الله بن مسعود من أكابر علماء الصحابة رضي الله عنهم.]:
أما حرص الكاتب على التفريق بين العلم والتقوى، فلا نفهمه؛ وما زلنا ننتظر منه الحكمة من ذلك لديه؛ وإن كانت التقوى عندنا هي العمل بالعلم في كل مرتبة بحسبها. وأما الشهادة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فهي حق؛ وإن كان الصحابي في غنى عنها منا جميعا.
[ويقول الإمام أبو حامد الغزالي في إحيائه: "وأما الآخرة فلا تنفعُ فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها. وليس ذلك من فنّ الفقيه. وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب، وكان خارجا عن فنه".]:
لو عمل الناس بهذه الفائدة وحدها، لكفوا شرا كثيرا؛ لأننا نجد فقهاء آخر الزمان، قد صاروا أئمة -بحسب الزعم- إلى الآخرة، مع كونهم على غير طريقها. نعني أنهم صاروا دجاليين: إذا دعوا إلى جنة، فهي نار في حقيقتها؛ وإذا حذروا من نار، فهي الجنة في الغالب!... ولقد نتج عن هذا الخلط بين العلماء حقيقة والرؤوس الجهال، في نظر العامة، ما ينتج عن رعاية الذئاب لقطعان الأغنام. فلا دنيا الناس ستسلم معهم، ولا الآخرة...
[وذكر أن حكم الفقيه على صلاة الغافل الذي يحسب معاملاته في السوق أثناء الصلاة بالصحة حكم على ظواهر الأمور. قال: "فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه. ولو تعرض له لكان خارجا عن فنه".]:
فماذا بقي للفقيه، وهو لا يعلم ما تصح به الأعمال (الصحة هنا بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي الفقهي)؟!... وعلى هذا، فإن أحوج الناس اليوم إلى شيوخ التربية الفقهاء، من أجل تصحيح إسلامهم فحسب؛ لا من أجل بلوغ غاية الإحسان. فإننا نراها تكاد تكون محرمة عليهم!... ووالله ما نقول هذا الكلام إلا شفقة عليهم، وإن كان الظاهر يوحي بالتحامل!...
[وقال: "فإن تكلم في شيءٍ من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل".]:
صدق الغزالي رضي الله عنه!... ولكن أين من يعمل بهذا العلم!... مع أن حكم الغزالي مناسب لفقهاء زمانه؛ وأما نحن فنقول: إن الفقيه لا خبر له عن القلب البتة!... فهو على دين مادي، لا تُعلم منه هنا، إلا الحركات البدنية والعطايا والمنح؛ ولا يُنتظر منه هناك (في الآخرة)، إلا المأكل والمشرب ومحسوس اللذات. حقيق بالمتأخرين، أن يتكلموا عن المذهب المادي في الدين، كما يتكلم المفكرون عن المادية في الفلسفة.
[وأخيرا وَضع الإمام الغزالي فقه الفقيه وربانية المربي في مكانهما فقال: "علم الفقه مُجَاوِرٌ لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح ومَنشَؤُها صفات القلوب".]:
يعني الغزالي بالمجاورة هنا، أنه غيره؛ وإن كان الأمر في الحقيقة تراتبا تقتضيه المراتب الدينية. وفي النهاية فإن علم الفقيه متعلق بصور الأعمال، وعلم الرباني من أرباب علم القلوب، متعلق بأرواح تلك الصور. وكل صورة لا روح لها، فهي جثة، لا تصلح إلا للدفن (الستر) أو الحرق (إذا آلت إلى النار بصاحبها). وهذا الكلام كله من مرتبة الإسلام، ومن طور الدلالة على الطريق (الدين)؛ وتبقى الدلالة على الله فوق علم الآخرة نفسه، وفوق إدراك الفقيه!...
[ضعفوا حديث "العلماء ورثة الأنبياء"، لكن هناك حديث: "العلماء أمناء الرسل" وإسناده حسن. قال المناوي: "هناك أربعون حديثا تقوي هذا المعنى".]:
المعنى صحيح، لكن ينبغي التفصيل فيه: فالفقهاء العاملون الناصحون، ورثة علم الرسالة؛ وعلماء القلوب كالغزالي، ورثة النبوة؛ وأما المتحققون من كبار الأولياء، فهم ورثة ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهؤلاء هم الأئمة في الدين حقيقة، وهم الورثة بالمعنى الكامل. وقد كان منهم أكابر الصحابة والأئمة من أهل البيت على الجميع السلام؛ ومنهم أيضا أئمة الطريق المعروفون كالجنيد والرفاعي وغيرهما، رضي الله عن الجميع.
[تفرد المحدثون رضي الله عنهم بالنصيب الوافر من أمانة الرسالة وتفرد الفقهاء بالأحكام، وتخصص مشايخ التربية في القلوب وعلاجها وتوجيه سيرها إلى الله. لم يكن في عهد النبوة انصداع في الأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع والطبيب والأمير، والوحي ينزل، وتَسليم الصحابة أنفسهم لله ورسوله كان تسليما كاملا. من بعد عهد الصحابة عامت سحابات الفلسفة ودخن الفتنة فغطت على الجلاء الأول، وترجم كل فريق من أمناء الرسالة وورثتها عما عنده من علم، وخاض كل فريق في طائفة العلم التي تخصص فيها إلى درجة الاستغراق.]:
ليس ما دعا إلى النزوع نحو التخصص في العلم، هو ما ذُكر من دخول الدخن وحده؛ وإنما تفصيل ما كان مجملا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. والتفصيل هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما أصاب فيه أهل كل علم من العلوم الفرعية المستحدثة. وسيبقى هذا التفصيل إلى ما لا نهاية، دنيا وآخرة؛ لكون العلم لا نهاية له. ولسنا نعني هنا بالعلم إلا العلم بالله حصرا، الذي هو العلم المخدوم وحده، والذي هو المشار إليه بجميع تفاصيل العلوم، وإن كان العلماء لا يُدركون ذلك. وأما العلم الخادم كعلم الحديث، وكالفقه، فلا يتعدى فضله النسبي الدنيا؛ لأن كل فروع العلم ستندرج في العلم بالله في الآخرة، كما يندرج نور النجوم في نور الشمس إذا ظهرت. فهذا من الإجمال الأخروي، الذي لا يعلمه في الدنيا إلا الورثة وحدهم. ومن لم يُدرك هذا الفرق الأساس الذي يتعلق من جهة بمناط العلم ذاته، ومن جهة أخرى بمجاله (الدنيا وحدها أو الدنيا والآخرة معا)، ثم يُدرك بعد ذلك نسبة كل علم مفرد إلى العلم الكلي، فإنه لن يعلم التراتب الذي تكون عليه العلوم المختلفة، وستختلط عليه الأقوال دائما، عند نظره إليها. وهذه القاعدة، لَهي مما ينبغي أن يُلقّن لكل طالب علم، حتى يتسنى له اختيار ما يناسبه من العلوم، بدل أن يتوهم أن كل علم فرعي، هو جنس العلم كله.
والتخصص لا يضر العالم في نفسه، ولا يضر الأمة من بعده، إن هو لم يدخل في معارضة علم آخر من تخصص غيره بغير علم. نعني أن العلوم كلها ينبغي أن تحافظ على تكاملها، لينال منها كل محتاج غايته. ولكن عند نزول درجة العلماء، وعند تصدر الجهلاء في الأزمنة المتأخرة، قد صارت الأمة تعرف صراعات يوهم أصحابها أنها من تمحيص العلم، وما هي في الحقيقة إلا دليل على جهل الخائضين في تلك الخصومات. ومن أشد هذا الجهل ما صار إليه التيميون الوهابية عند خلطهم في الكلام بين ما هو من التوحيد (علم الكلام في الظاهر ومن مرتبة الإسلام)، وما هو من أحكام الفقه العامة، التي تُعنى بالحلال والحرام في الأعمال والمعاملات. فنشأت عن هذا التضارب الجاهل آفات بلغت حد الاقتتال وحد تكفير المسلمين؛ وصار العلم مع هذه الآفات مانعا عن الحق، لا طريقا إليه. وهذا أيضا يلحق بما ذكرناه سابقا، من انحراف عام في الدين، ومن انعكاس تام له، مما يطبع عصور آخر الزمان، السابقة لزمن الخلافة الخاتمة، والسابقة أيضا لقيام الساعة.
[فمن أدركته العناية الإلهية سمع الكبراء التراجمة بانفِتاحٍ، وشمَّ طيب النبوة وشَامَ نورها. وأقوى ما وجد الواجدون النسمات النبوية المنعشة عند أطباء القلوب. فيذهب أمثال الغزالي عند "متبوع مقدم" للسماع والتلمذة. وتمنع الأنانية عن السماع من أهل "الفن"، أو يمنعهم تحجر على العادة، أو تخشب على ذهنية تجزيئية سطحية حرفية.]:
هذا الكلام فيه خلط منشأه التعميم، عبّر عنه الكاتب بـ"الشم"، يكون بين ما هو من المدد القلبي المأخوذ من النبوة عبر الورثة، وما هو من كلام النبوة الذي يقتات عليه أهل الظاهر (الشيْم). فهما طريقان متجاوران، كما أخبر الغزالي سابقا؛ وليسا طريقا واحدا وُفِّق إليه هذا وخُذل عنه ذاك. وإن هذه الازدواجية في التديّن، ستبقى حاكمة على كل العصور، بدءا من عصر التابعين وإلى قيام الساعة؛ من دون أن يشعر بها العامة من أهل العلم.
وأما ما ذكره الكاتب من امتناع بعضهم عن الأخذ من الورثة، بسبب الأمراض التي عليها قلوبهم، والتي على رأسها الكبر والحسد والغلظة (كثافة الحجاب)، فهو صحيح ويكاد يكون سمة عامة لدى الفقهاء الرسميين من المتأخرين؛ ومع ذلك، فلا أحد يحذّر من أمراضهم، ولا أحد يدل الناس في المقابل على من لديه صلاحهم؛ وكأن الأمة اتفقت على غش نفسها بمخالفة مقتضى العلم وموافقة مقتضى الأهواء!... وحتى الكاتب نفسه، لا نجد له موقفا جليا من هذه المسألة، ينحاز به إلى الحق مرة واحدة، من دون حسابٍ لرأي أحد مهما كان...
[كان الغزالي فقيها أصوليا متَكلما ذا حظوة في بلاط نظام الملك وزير السلطنة السلجوقية القوية. ما صده جاهه العريض وعلمه عن الخرُوج لسؤال الأكابر والأخذ عنهم.]:
لا ينبغي أن يغيب عن ذهن الكاتب، أن من سماهم أكابر هنا، هم أكابر في عين الغزالي ومن على شاكلته؛ وأما في نظر الأصاغر من الفقهاء ومن العامة، فهم أصاغر، وفي بعض الأحايين من أصغر الأصاغر!... ولا يعرف الفضل لأهل الفضل في النهاية إلا ذوو الفضل...
[كبير آخر من الفقهاء الأصوليين يدلي بنصيحته إلينا في اتباع العلماء والأخذ عنهم. هو الإمام الشاطبي ذو العلم الواسع والفهم الجامع والاستنباط الرائع. لم يكن من أهل "فن" التربية، لكنه كان يسلم للقوم ويعتبر الصادقين كل الاعتبار. أورد الحديث الشريف: "إن الله لا يقبضُ العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء". الحديث. ثم قال: "فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتيحه بلا شك. فإذا تقرر هذا فلا يوخذ (العلم) إلا ممن تحقق به. وهذا أيضا واضح في نفسه متفق عليه بين العقلاء. إذ من شروطهم في العالم، بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم".]:
بدأ الكاتب هنا في الخلط؛ وعندما يسمع منه القارئ وصف الشاطبي بالكبير، بعدما سمع وصف شيخ الغزالي بذلك أيضا، من دون إبراز لمعايير هذا التوصيف، فإنه سيخلط بين علماء التربية والفقهاء. وهذا من أضر الأشياء على الناس!... وأما ما ساقه الكاتب من كلام الشاطبي في عموم العلم، عند عرضه لفهمه في الحديث النبوي، فإنه لا ينفع إلا في الشهادة للشاطبي بأنه كان من العقلاء؛ في مقابل حمقى الفقهاء ومجانينهم الذين ليس لهم من الفقه إلا التسمية، كما هو حال فقهاء زماننا. ولكنه لا يصلح لأن يُبنى عليه في التأسيس لما نحن بصدده من التفريق بين أصناف العلوم وأصناف العلماء.
[وذكر من شروط العالم المتحقق: "أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم وملازمته لهم". هذا يقال لمن يقرأون في الصحف والمجلات والكتب الجليلة بلا فهم، لم يربهم الشيوخ ولم يأخذوا إلا عن قال وقيل، ولم يلزموا الأكابر، ففاتتهم الفوائد. بل فاتتهم الدنيا والآخرة لما فاتهم العلم يأخذونه من أهله.]:
هذا الكلام، وإن كان صحيحا من الشاطبي، وصحيحا من الكاتب، فإنه لا يعدو أن يكون عاما، يحتاج إلى كثير من التفصيل؛ لأن بعض الجاهلين يقرّون به ظاهرا، ويعملون بعكسه في الحقيقة؛ فيبدو لغير البصير أنهم من صنف المتحققين وليسوا منهم. نعني من هذا، أن كثيرا من الشيوخ، تكون السلامة في اجتنابهم ومخالفة طريقهم؛ لأنهم وإن كانوا شيوخا في العرف، هم من الرؤوس الجهال ومن أئمة الضلال. فلا سبيل إلى العمل بالقواعد العامة، من غير تمحيص عند التنزيل أبدا.
ثم إن كان علماء الكسب، لا يستغنون عن الشيخ، ليصحح لهم الفهم، وليحميهم من شطط الفكر؛ فإن علماء التزكية والهداية القلبية، أحوج إلى ذلك وأولى به، لدقة علومهم بالمقارنة إلى فقه الظاهر، ولكثرة الآفات المحدقة والضلالات العارضة. نعني من هذا، أن عمل الشيطان فيما هو متعلق بالقلب، أوسع مما هو متعلق بالجوارح؛ وما اتسع فيه عمل الشيطان، اشتدت الحاجة فيه إلى الشيخ العاصم المقابل له في الوظيفة. وهذا أيضا، مما ينبغي أن يكون من أول ما يلقّن لطالب العلوم الدينية، حتى يعلم مراتب الشيوخ ولا يخلط بينهم. ولكن يبدو أن الأمة قد تعرّضت لمؤامرة قديمة في هذه المسألة على الأخص، حتى يتمكن الفقهاء الدنيويون من نيل أوطارهم، في غفلة من رقابة العامة من الناس. وإن كل ما تعيشه أمتنا اليوم من أزمة دينية خانقة، أدت بكثير من أبنائها إلى نبذ الدين وإلى الكفر برب العالمين (الإلحاد)، ليس إلا نتيجة للخلط في المسألة التي ذكرنا، ونتيجة لما انجر عنه من فروع الضلالات...
[وذكر الإمام الشاطبي فوائد صحبة العلماء وملازمتهم وقال: "فهذا من فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان. وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا رأيكم، فوالله لقد رأيتني يوم أبي جَندل (قصته معروفة في صلح الحديبية لما ظن بعض الصحابة أن شروط الصلح مجحفة بالمسلمين)، ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته. وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه (أي في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أبي جندل إلى المشركين) من الإشكال. وإنما نزلت سورة الفتح بعدما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر. ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس، وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم (أي الصحابة). فالتزم التابعون في (صحبة) الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية. وحسبك من صحة هذه القاعدة (أي تلقي جيل عن جيل بالملازمة والصحبة والأخذ والصبر) أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك".]:
هذه الفقرة تدور حول التسليم؛ تسليم التابع للمتبوع؛ لكن المسألة مع الفقهاء، تختلف عنها مع الربانيين من شيوخ التربية. وذلك لأن التسليم المطلوب لطالب الفقه مع شيخه، لا يتجاوز فيه التريث والتثبت (الصبر)، إلى حين ظهور الدليل له؛ لأن الدليل في مجال الفقه حاكم على الشيخ وعلى التلميذ. أما المريد مع شيخ التربية (بشرط الربانية)، فتسليمه أقرب إلى المعنى الصحيح للكلمة؛ وهو يتطلب سكوتا من جهة الباطن وسكونا، من غير انتظار بدوّ دليل. فإن ظهر الدليل بكيفية ما، فهو من فضل الله؛ وإن لم يظهر، فعلى المريد البقاء على حاله من التسليم الأول. وهذا، لأن معاملة الفقيه تكون معاملة للدين من وراء مظهره؛ وأما معاملة شيخ التربية، فهي معاملة لله من وراء مظهره؛ وبين الشيخين ما بين الدين وربه من بعد المكانة. ولم نر من المتأخرين، من ينبه إلى هذه المتشابهات، على كثرة الكلام وكثرة المتكلمين في شؤون الدين.
وإنّ خلط الكاتب بين الأمرين، سيزيد من الالتباس الحاصل لدى الناس؛ مع العلم بأنه بهذه الطريقة لم يُضف جديدا يستدعي منه كتابة هذا الكتاب من الأصل. والأمة بحاجة الآن، وبعد قرون من المعاناة، إلى من يقلل من حيرتها ويزيد من وضوح إدراكها؛ لا إلى إعادة إنتاج ما أُنتج من هذا الخلط، الذي لا يبدو منه ما يبشر بجلاء الرؤية، حتى يعقبه الضباب الكثيف مرة أخرى... كان الله في عون جميع المسلمين!...
[ومما ينكره بعض المتلَفّعين في رداء أنانيتهم ويرفضونه أن يكون تسلسل مشيخة في علم القلوب وفن الفطرة وأدب التربية والتزكية المسمى في الاصطلاح تصوفا. ينقصهم صبر أمثال الغزالي وانقياده للأمناء. من الشروط التي وضعها الشاطبي في اعتبار أهلية العالم: "الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بآدابه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم. واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرنٍ".]:
الانتقال من كلام الغزالي الذي هو من رجال التربية بالمعنى الشرعي، إلى كلام الشاطبي انتكاس. وقد وقع فيه الكاتب، بسبب عدم تفريقه بين الصنفين من العلماء: الفقهاء والصوفية؛ إلى الآن. وهذا كله يدل على أن الكاتب يتكلم من مرتبة الإسلام، كما تكلم ابن تيمية وغيره ممن كان الخلط ملازما لهم قبله. نعني من هذا، أن كل كلام له معياران أساسان عند النظر فيه: الأول، المرتبة التي منها صدر، وهذا يتعلق بمقام المتكلم ومرتبته في نفسه؛ والثاني، المرتبة التي يشير إليها الكلام، وقد تكون مرتبة المتكلم نفسها، كما قد تكون غيرها. فعندما يتكلم ابن تيمية -مثلا- من مرتبة الإسلام، فإن كلامه يكون منطلقا منها؛ فإذا تكلم عن الإحسان، فإن كلامه عنه من مرتبة الإسلام، سيعطي معنى لا يمكن أن يكون صحيحا؛ لأنه يدل فيه على ما لا يعلم. وهذه القاعدة أيضا، مما ينبغي أن يُلقَّنه طالب العلم منذ البداية؛ حتى إذا صار مؤهلا للنظر في كلام العلماء، حكم عليه بها، فخرج حكمه أقرب إلى الصواب.
وأما أخذ كل قرن عن القرن الذي قبله، فيصح في علوم الكسب أكثر مما يصح في التصوف. وذلك لأن الصوفي، وإن كان يُشبه في التلقي التربوي غيره من العلماء، عند أخذه عن الجيل الذي قبله، فإنه يمتاز عنهم بمجرد حصول الوصول له. فهو عند فراغه من السلوك، يتلقى عن الله، كما كان يتلقى مَن قبله؛ وقد يفوق التلميذ من هذا الوجه شيوخه؛ بخلاف الفقيه الذي يبقى على بعض تقليد، وإن بلغ درجة الاجتهاد في نفسه. والسبب في هذا، هو أن الفقيه يأخذ عن الله من وراء حجاب، لا كما يأخذ الصوفي. وقد غلط في هذه المسألة كثيرون من المتصوفة، وجعلوا تقليد اللاحق للسابق شرطا، ظنا منهم أن الأمر يشابه ما عليه أهل الظاهر. بل لقد بلغ الأمر بمتأخري المتصوفة، أن جعلوا للتزكية سندا مثلما يكون للحديث؛ يزعمون بذلك أنهم يمحصون التلقي، حتى لا يدخله ما ليس منه، أو يتصدر في مجاله من ليس له بأهل. والحقيقة هي أنهم ما دلوا بذلك، إلا على نقص إدراكهم لخصائص علم التزكية، عندما قاسوه على الفقه الكسبي وحده. ولو كان ما يذهب إليه هؤلاء المتصوفة صحيحا، لثبت التزكي لكل واحد اتصل بشيخ للتزكية بنسبة ما، كما يثبت للمتلقي عن الشيخ الفقيه الفقه بدرجة ما. وكم من فقيه لم يأخذ من أحد شيوخه، إلا مسألة واحدة أو اثنتين. فإن قيل: إن التزكية تثبت بشهادة الشيخ لتلميذه بالوصول، قلنا: فإن كان الأمر هكذا، فهو متعلق بالشيخ نفسه، من غير اعتبار للسند. فإن قيل: إن السند تثبت به أهلية الشيخ لا غير؛ قلنا: وهذا أيضا لا يُقطع به؛ لأن علوم الوهب لا تخضع لمعايير علوم الكسب، كما لا يخضع علم الغيب لمعايير عالم الشهادة. ويبقى الشاهد على أهلية الشيخ غيبيا، ما لم تقم الحجة على التلميذ من جهة الباطن، عند ذوقه لتربية شيخه ذوقا. ويبقى التلميذ الذي لا استعداد له، أو لا تسليم له، مع الشيخ الرباني كالأجنبي، لا يعلم صدقه من كذبه. ولولا هذا الذي نقول: لم يكن تلاميذ الصوفية يوصَوْن بالتسليم للشيوخ، ولدُلّوا على معايير معرفة صدق الشيخ من كذبه فحسب؛ كما يُدل طالب الفقه على إتقان النظر في الأدلة فحسب. كل هذا الكلام، هو مع من له استعداد مرتبة الإسلام في الحد الأدنى؛ وأما في زماننا، حيث يلامس الناس الكفر مرارا في اليوم الواحد، فإن ذوقهم للتربية ورؤيتهم للكرامات الباهرة، لا ينفعان معهم في تمييز مرتبة الشيخ، ولا في التسليم له، لشدة البعد. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ: يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا؛ أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.»[2]. ولا يغتر أحد، عندما لا يعرف الكفر والإيمان من نفسه، فيتوهم بقاءه على حال واحد؛ لأن ما يظنه ثبات حال، هو ثبات تغير الحال بين الإيمان والكفر، لا ما يظنه إيمانا خالصا. وهذا يجعل الكلام في التصوف أو في التزكية، مخالفا لكل ما ذكره الغزالي ودل عليه. وهو يعني أيضا، أن كل كلام مستورد للكاتب، هو غير ذي جدوى في عصرنا؛ لأن الأمر منوط بسلامة القابلة من جهة، وبصحة توافر المدد من الجهة الأخرى. وهذان أمران يُمازان بالذوق وحده، لا بالعلم المجرد.
[ويذكر كيف يحصل العلم والبركة بحضرة الشيخ: "وقد يحصل بأمر غير معتاد. ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ظاهر الفقر، بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه". وهذا ليس ينكر، فقد نبه عليه الحديث الذي جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.]:
القياس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصح، لأنه لا أحد في مرتبته تربية وتعليما؛ كما لا أحد يعلم ما عاشه الصحابة رضي الله عنهم عند موته، إلا هم. فهذا الحال فريد لا يعلمه إلا من ذاقه وحده؛ وكل تمثل له أو تصور، فإنما يقع على معنى آخر لا عليه. والشيخ الرباني، وإن كانت له حرمة الدلالة على الله وهيبة التجلي التعريفي، فإنه لا يداني ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم البتة. فكما لا يلحق الفرع بالأصل أبدا، فكذلك الشيخ لا يُقاس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع ثبوت ما ذكرنا له. وهذا باب من العلم نفيس، ينبغي أن لا يؤخذ بالقياس العقلي من كل وجوهه؛ نعني باعتماد القياس ذاته من جميع الوجوه.
وأما بركة الجلوس بين يدي الشيخ، فلا تخفى؛ لكن ما دل عليه الشاطبي منها ليس إلا أدناها. فالشيخ الرباني الكامل، تحصل بمجالسته مجالسة الحق تعالى؛ وهذا أعلى ما يكون من بركة الصحبة. ولقد ذقنا نحن هذا مع شيخنا ذوقا، كما يذوقه معنا الصادقون من أصحابنا. ولو علم الناس ما نقوله هنا، لاقتتلوا على باب الشيخ الرباني؛ ولكن الله يحجب هؤلاء الشيوخ كما احتجب هو سبحانه عن أعين عموم خلقه. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ وعدم الإبصار من الآية، هو ما سميناه نحن حجابا...
[وذكر رحمه الله أن العلوم تحصل بمشافهة العلماء، "ومفاتيحه بأيدي الرجال، والكتب لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء".]:
كلام الشاطبي يلزم أضرابه، ولا يلزم الصوفية؛ والكاتب يخلط هنا على عادته. وأما الصوفية، فالمشافهة عندهم تكون على قدر الحاجة، ولا تكون ضرورية في تلقين العلم؛ لأن مدار التصوف على القلوب التي هي غيب الإنسان، لا على الأسماع والأفهام التي لا تتجاوز شهادته (نعني من جهة المناطات والتعلقات). وأما كون المفاتيح بيد الشيوخ، فهو صحيح؛ لكن المفاتيح تختلف باختلاف العلوم: فمفاتيح فقه الظاهر العبارات، ومفاتيح فقه القلوب الإشارات، ومفاتيح فقه الحقيقة الإرادات (إرادة الشيخ). ولقد رأينا في واقعة عند بداية سلوكنا على يد شيخنا حمزة رضي الله عنه، أن تحت موضع قدميه الشريفتين خزانة تشبه تلك التي تكون في مراكز البريد، والتي يكون لكل صندوق منها مفتاح خاص. فكانت الصناديق التي رأينا، خزائن العلوم التي يتصرف فيها الشيخ؛ فأخذنا وقتها مما أُذن لنا في فتحه، وقد كانت خزائن معدودة. ولم نزل نأخذ من علمه وحاله -رضي الله عنه- حتى استوينا معه في الأخذ عن الله ورسوله. فعند ذلك -فقط- انفصلنا عنه واستقللنا بأمرنا. ولقد كنا مصرين على البقاء معه، رغم تحقق وصولنا، لإلفنا الاستناد إليه استناد الولد إلى أبيه، ولخوفنا من المكر؛ حتى إن بعض الأشخاص كانوا يُدلّون علينا من جهة الغيب فكنا نصرفهم إلى الشيخ، ونستحيي أن يخطر ذلك لنا. واستمررنا على هذه الحال مدة غير يسيرة، تتجاوز العقد من الزمان، قبل أن نبدأ دعوتنا بحمد الله.
أخذ العلم عن أهله
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.]
[ورث أهل العلم من علوم النبوة، وورث أهل التقوى من فيض النبوة، لكلٍّ مشْرب وَوِرْدٌ وصَدَرٌ. فمن حسن السمع أن نُلقِيَ الانتباه إلى ما يقوله العلماء. فإن كانت الأمثلة العديدة التي سقتها في الفصل الأول من هذا الكتاب لفقيه وعالم يَنقاد لشيخ مرب، ويسمع ويطيع، ويتتلمذ، لم تكف لإيقافك للعبرة، فاسمع الأصوات الفاصلة.]:
لا ندري من هم أهل العلم الذين يتكلم عنهم الكاتب، خصوصا بعد الخلط الذي سبق أن رصدناه في الفصل الفارط. وتفريقه بين العلم والتقوى، من كون الأول من النبوة، والثانية من فيضها، من دون أن يُطلعنا على معاييره في هذا التصنيف، هو مجازفة منه، وكلام عام يبغي به إبراز فضل العلماء على غيرهم، من دون أن يكون هو ذاته متبيِّنا لما يقول. وهذا الأمر لا يكون إلا ممن تكلم قبل أن يعقل، وتصدّر قبل أن يكمل. وبما أننا نحن ممن لم تكف معه أمثلته السابقة حتى نسلم له بما يقول، فإننا سنسمع الأصوات الفاصلة التي يعدنا بها، ونرى هل هي كما يقول، أم إن الانبهام معها سيزداد، والالتباس سيترسخ!...
[قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، يوصيك باستثبات الأحوال: "لا يزال الناس صالحين ما أخذوا العلم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم. فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا". رواه الطبراني بإسناد صحيح.]:
سيدنا عبد الله بن مسعود، من فقهاء الصحابة بالمعنى اللغوي قبل الاصطلاحي، وحق علينا إن تكلم رضي الله عنه، أن نستمع وننصت. والكلمة التي أوردها الكاتب عنه هنا، هي من عيون العلم، ومن أنفس ما يتعلق بمنهجيته. وهي المعنى نفسه الذي نستقيه من الحديث النبوي الشريف: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.»[1]. والمعنى هو أن الناس ينبغي أن يعلموا عمن يأخذون علمهم؛ لأنه سيأتي زمان، يُرفع فيه العلم بقبض العلماء. وهذا يعني أيضا، أن العلماء المعروفين بين الناس حينئذ لا يكونون علماء بالمعنى الصحيح؛ وهو يشبه ما نحن عليه في زماننا. فمع كثرة المشتغلين بالعلم في زماننا زعما، لا نكاد نجد في البلد الواحد عالما واحدا!... بل لا نكاد نجد في العالم من المتصدرين عالما واحدا!... فإنا لله وإنا إليه راجعون!...
وإذا صار الناس إلى هذه الحال، اتخذوا أئمة من الجهال الذين لا هداية لهم في أنفسهم، فأحرى أن يتفضلوا على سواهم بها؛ فإذا استفتوهم، أفتوهم بغير علم، فضلوا وأضلوا؛ أي ازدادوا ضلالا في أنفسهم، وتسببوا في ضلال غيرهم. كل هذا، والناس لا خبر لهم عما وقع من انحراف، وما طرأ من انقلاب في المعايير؛ وإنما هم على ما تعطيه الصورة في الظاهر من استفتاء وهداية، ومن تعلّم وعلم. ولقد بلغ هذا الأمر في زماننا، إلى الحد الذي يكاد الناس يفقدون معه الدين جملة. ألا نرى من بين المسلمين من صاروا لا يفرقون بين يهودية ولا نصرانية ولا إسلام، مع إصرارهم على أنهم لا يصدرون إلا عن العلم!... ومن أكبر الرؤوس الجاهلة التي كنا دائما نحذر من اتباعها ابن تيمية، الذي أسس لهذا الصنف من الإضلال تأسيسا يجعل منه مذهبا في العلم، كما يتوهم أتباعه. وهيهات!...
ولقد كان أولى بالكاتب أن يعمل بنصيحة ابن مسعود رضي الله عنه، ليخرج هو أولا من دائرة الضلال؛ وبعد ذلك إن هو أراد هداية غيره، صحت منه الهداية ولم يكن من صنف الرؤوس الجهال. وسنرى فيما يأتي من الكلام، مدى التزام الكاتب بهذه القاعدة النفيسة، أو مدى إهماله لها...
[الأكابر هم أكابر العِلم والتقوى، عظيمو الحظ من الله، والأصاغر أصاغر العلم والتقوى والحظ من الله وإن علا بهم السن وتقدم بهم الزمان. وسيدنا عبد الله بن مسعود من أكابر علماء الصحابة رضي الله عنهم.]:
أما حرص الكاتب على التفريق بين العلم والتقوى، فلا نفهمه؛ وما زلنا ننتظر منه الحكمة من ذلك لديه؛ وإن كانت التقوى عندنا هي العمل بالعلم في كل مرتبة بحسبها. وأما الشهادة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فهي حق؛ وإن كان الصحابي في غنى عنها منا جميعا.
[ويقول الإمام أبو حامد الغزالي في إحيائه: "وأما الآخرة فلا تنفعُ فيها الأموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها. وليس ذلك من فنّ الفقيه. وإن خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب، وكان خارجا عن فنه".]:
لو عمل الناس بهذه الفائدة وحدها، لكفوا شرا كثيرا؛ لأننا نجد فقهاء آخر الزمان، قد صاروا أئمة -بحسب الزعم- إلى الآخرة، مع كونهم على غير طريقها. نعني أنهم صاروا دجاليين: إذا دعوا إلى جنة، فهي نار في حقيقتها؛ وإذا حذروا من نار، فهي الجنة في الغالب!... ولقد نتج عن هذا الخلط بين العلماء حقيقة والرؤوس الجهال، في نظر العامة، ما ينتج عن رعاية الذئاب لقطعان الأغنام. فلا دنيا الناس ستسلم معهم، ولا الآخرة...
[وذكر أن حكم الفقيه على صلاة الغافل الذي يحسب معاملاته في السوق أثناء الصلاة بالصحة حكم على ظواهر الأمور. قال: "فأما الخشوع وإحضار القلب الذي هو عمل الآخرة وبه ينفع العمل الظاهر لا يتعرض له الفقيه. ولو تعرض له لكان خارجا عن فنه".]:
فماذا بقي للفقيه، وهو لا يعلم ما تصح به الأعمال (الصحة هنا بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي الفقهي)؟!... وعلى هذا، فإن أحوج الناس اليوم إلى شيوخ التربية الفقهاء، من أجل تصحيح إسلامهم فحسب؛ لا من أجل بلوغ غاية الإحسان. فإننا نراها تكاد تكون محرمة عليهم!... ووالله ما نقول هذا الكلام إلا شفقة عليهم، وإن كان الظاهر يوحي بالتحامل!...
[وقال: "فإن تكلم في شيءٍ من صفات القلب وأحكام الآخرة فذلك يدخل في كلامه على سبيل التطفل".]:
صدق الغزالي رضي الله عنه!... ولكن أين من يعمل بهذا العلم!... مع أن حكم الغزالي مناسب لفقهاء زمانه؛ وأما نحن فنقول: إن الفقيه لا خبر له عن القلب البتة!... فهو على دين مادي، لا تُعلم منه هنا، إلا الحركات البدنية والعطايا والمنح؛ ولا يُنتظر منه هناك (في الآخرة)، إلا المأكل والمشرب ومحسوس اللذات. حقيق بالمتأخرين، أن يتكلموا عن المذهب المادي في الدين، كما يتكلم المفكرون عن المادية في الفلسفة.
[وأخيرا وَضع الإمام الغزالي فقه الفقيه وربانية المربي في مكانهما فقال: "علم الفقه مُجَاوِرٌ لعلم طريق الآخرة لأنه نظر في أعمال الجوارح، ومصدر أعمال الجوارح ومَنشَؤُها صفات القلوب".]:
يعني الغزالي بالمجاورة هنا، أنه غيره؛ وإن كان الأمر في الحقيقة تراتبا تقتضيه المراتب الدينية. وفي النهاية فإن علم الفقيه متعلق بصور الأعمال، وعلم الرباني من أرباب علم القلوب، متعلق بأرواح تلك الصور. وكل صورة لا روح لها، فهي جثة، لا تصلح إلا للدفن (الستر) أو الحرق (إذا آلت إلى النار بصاحبها). وهذا الكلام كله من مرتبة الإسلام، ومن طور الدلالة على الطريق (الدين)؛ وتبقى الدلالة على الله فوق علم الآخرة نفسه، وفوق إدراك الفقيه!...
[ضعفوا حديث "العلماء ورثة الأنبياء"، لكن هناك حديث: "العلماء أمناء الرسل" وإسناده حسن. قال المناوي: "هناك أربعون حديثا تقوي هذا المعنى".]:
المعنى صحيح، لكن ينبغي التفصيل فيه: فالفقهاء العاملون الناصحون، ورثة علم الرسالة؛ وعلماء القلوب كالغزالي، ورثة النبوة؛ وأما المتحققون من كبار الأولياء، فهم ورثة ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهؤلاء هم الأئمة في الدين حقيقة، وهم الورثة بالمعنى الكامل. وقد كان منهم أكابر الصحابة والأئمة من أهل البيت على الجميع السلام؛ ومنهم أيضا أئمة الطريق المعروفون كالجنيد والرفاعي وغيرهما، رضي الله عن الجميع.
[تفرد المحدثون رضي الله عنهم بالنصيب الوافر من أمانة الرسالة وتفرد الفقهاء بالأحكام، وتخصص مشايخ التربية في القلوب وعلاجها وتوجيه سيرها إلى الله. لم يكن في عهد النبوة انصداع في الأمر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع والطبيب والأمير، والوحي ينزل، وتَسليم الصحابة أنفسهم لله ورسوله كان تسليما كاملا. من بعد عهد الصحابة عامت سحابات الفلسفة ودخن الفتنة فغطت على الجلاء الأول، وترجم كل فريق من أمناء الرسالة وورثتها عما عنده من علم، وخاض كل فريق في طائفة العلم التي تخصص فيها إلى درجة الاستغراق.]:
ليس ما دعا إلى النزوع نحو التخصص في العلم، هو ما ذُكر من دخول الدخن وحده؛ وإنما تفصيل ما كان مجملا في عهد الصحابة رضي الله عنهم. والتفصيل هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما أصاب فيه أهل كل علم من العلوم الفرعية المستحدثة. وسيبقى هذا التفصيل إلى ما لا نهاية، دنيا وآخرة؛ لكون العلم لا نهاية له. ولسنا نعني هنا بالعلم إلا العلم بالله حصرا، الذي هو العلم المخدوم وحده، والذي هو المشار إليه بجميع تفاصيل العلوم، وإن كان العلماء لا يُدركون ذلك. وأما العلم الخادم كعلم الحديث، وكالفقه، فلا يتعدى فضله النسبي الدنيا؛ لأن كل فروع العلم ستندرج في العلم بالله في الآخرة، كما يندرج نور النجوم في نور الشمس إذا ظهرت. فهذا من الإجمال الأخروي، الذي لا يعلمه في الدنيا إلا الورثة وحدهم. ومن لم يُدرك هذا الفرق الأساس الذي يتعلق من جهة بمناط العلم ذاته، ومن جهة أخرى بمجاله (الدنيا وحدها أو الدنيا والآخرة معا)، ثم يُدرك بعد ذلك نسبة كل علم مفرد إلى العلم الكلي، فإنه لن يعلم التراتب الذي تكون عليه العلوم المختلفة، وستختلط عليه الأقوال دائما، عند نظره إليها. وهذه القاعدة، لَهي مما ينبغي أن يُلقّن لكل طالب علم، حتى يتسنى له اختيار ما يناسبه من العلوم، بدل أن يتوهم أن كل علم فرعي، هو جنس العلم كله.
والتخصص لا يضر العالم في نفسه، ولا يضر الأمة من بعده، إن هو لم يدخل في معارضة علم آخر من تخصص غيره بغير علم. نعني أن العلوم كلها ينبغي أن تحافظ على تكاملها، لينال منها كل محتاج غايته. ولكن عند نزول درجة العلماء، وعند تصدر الجهلاء في الأزمنة المتأخرة، قد صارت الأمة تعرف صراعات يوهم أصحابها أنها من تمحيص العلم، وما هي في الحقيقة إلا دليل على جهل الخائضين في تلك الخصومات. ومن أشد هذا الجهل ما صار إليه التيميون الوهابية عند خلطهم في الكلام بين ما هو من التوحيد (علم الكلام في الظاهر ومن مرتبة الإسلام)، وما هو من أحكام الفقه العامة، التي تُعنى بالحلال والحرام في الأعمال والمعاملات. فنشأت عن هذا التضارب الجاهل آفات بلغت حد الاقتتال وحد تكفير المسلمين؛ وصار العلم مع هذه الآفات مانعا عن الحق، لا طريقا إليه. وهذا أيضا يلحق بما ذكرناه سابقا، من انحراف عام في الدين، ومن انعكاس تام له، مما يطبع عصور آخر الزمان، السابقة لزمن الخلافة الخاتمة، والسابقة أيضا لقيام الساعة.
[فمن أدركته العناية الإلهية سمع الكبراء التراجمة بانفِتاحٍ، وشمَّ طيب النبوة وشَامَ نورها. وأقوى ما وجد الواجدون النسمات النبوية المنعشة عند أطباء القلوب. فيذهب أمثال الغزالي عند "متبوع مقدم" للسماع والتلمذة. وتمنع الأنانية عن السماع من أهل "الفن"، أو يمنعهم تحجر على العادة، أو تخشب على ذهنية تجزيئية سطحية حرفية.]:
هذا الكلام فيه خلط منشأه التعميم، عبّر عنه الكاتب بـ"الشم"، يكون بين ما هو من المدد القلبي المأخوذ من النبوة عبر الورثة، وما هو من كلام النبوة الذي يقتات عليه أهل الظاهر (الشيْم). فهما طريقان متجاوران، كما أخبر الغزالي سابقا؛ وليسا طريقا واحدا وُفِّق إليه هذا وخُذل عنه ذاك. وإن هذه الازدواجية في التديّن، ستبقى حاكمة على كل العصور، بدءا من عصر التابعين وإلى قيام الساعة؛ من دون أن يشعر بها العامة من أهل العلم.
وأما ما ذكره الكاتب من امتناع بعضهم عن الأخذ من الورثة، بسبب الأمراض التي عليها قلوبهم، والتي على رأسها الكبر والحسد والغلظة (كثافة الحجاب)، فهو صحيح ويكاد يكون سمة عامة لدى الفقهاء الرسميين من المتأخرين؛ ومع ذلك، فلا أحد يحذّر من أمراضهم، ولا أحد يدل الناس في المقابل على من لديه صلاحهم؛ وكأن الأمة اتفقت على غش نفسها بمخالفة مقتضى العلم وموافقة مقتضى الأهواء!... وحتى الكاتب نفسه، لا نجد له موقفا جليا من هذه المسألة، ينحاز به إلى الحق مرة واحدة، من دون حسابٍ لرأي أحد مهما كان...
[كان الغزالي فقيها أصوليا متَكلما ذا حظوة في بلاط نظام الملك وزير السلطنة السلجوقية القوية. ما صده جاهه العريض وعلمه عن الخرُوج لسؤال الأكابر والأخذ عنهم.]:
لا ينبغي أن يغيب عن ذهن الكاتب، أن من سماهم أكابر هنا، هم أكابر في عين الغزالي ومن على شاكلته؛ وأما في نظر الأصاغر من الفقهاء ومن العامة، فهم أصاغر، وفي بعض الأحايين من أصغر الأصاغر!... ولا يعرف الفضل لأهل الفضل في النهاية إلا ذوو الفضل...
[كبير آخر من الفقهاء الأصوليين يدلي بنصيحته إلينا في اتباع العلماء والأخذ عنهم. هو الإمام الشاطبي ذو العلم الواسع والفهم الجامع والاستنباط الرائع. لم يكن من أهل "فن" التربية، لكنه كان يسلم للقوم ويعتبر الصادقين كل الاعتبار. أورد الحديث الشريف: "إن الله لا يقبضُ العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء". الحديث. ثم قال: "فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتيحه بلا شك. فإذا تقرر هذا فلا يوخذ (العلم) إلا ممن تحقق به. وهذا أيضا واضح في نفسه متفق عليه بين العقلاء. إذ من شروطهم في العالم، بأي علم اتفق، أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم".]:
بدأ الكاتب هنا في الخلط؛ وعندما يسمع منه القارئ وصف الشاطبي بالكبير، بعدما سمع وصف شيخ الغزالي بذلك أيضا، من دون إبراز لمعايير هذا التوصيف، فإنه سيخلط بين علماء التربية والفقهاء. وهذا من أضر الأشياء على الناس!... وأما ما ساقه الكاتب من كلام الشاطبي في عموم العلم، عند عرضه لفهمه في الحديث النبوي، فإنه لا ينفع إلا في الشهادة للشاطبي بأنه كان من العقلاء؛ في مقابل حمقى الفقهاء ومجانينهم الذين ليس لهم من الفقه إلا التسمية، كما هو حال فقهاء زماننا. ولكنه لا يصلح لأن يُبنى عليه في التأسيس لما نحن بصدده من التفريق بين أصناف العلوم وأصناف العلماء.
[وذكر من شروط العالم المتحقق: "أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم، لأخذه عنهم وملازمته لهم". هذا يقال لمن يقرأون في الصحف والمجلات والكتب الجليلة بلا فهم، لم يربهم الشيوخ ولم يأخذوا إلا عن قال وقيل، ولم يلزموا الأكابر، ففاتتهم الفوائد. بل فاتتهم الدنيا والآخرة لما فاتهم العلم يأخذونه من أهله.]:
هذا الكلام، وإن كان صحيحا من الشاطبي، وصحيحا من الكاتب، فإنه لا يعدو أن يكون عاما، يحتاج إلى كثير من التفصيل؛ لأن بعض الجاهلين يقرّون به ظاهرا، ويعملون بعكسه في الحقيقة؛ فيبدو لغير البصير أنهم من صنف المتحققين وليسوا منهم. نعني من هذا، أن كثيرا من الشيوخ، تكون السلامة في اجتنابهم ومخالفة طريقهم؛ لأنهم وإن كانوا شيوخا في العرف، هم من الرؤوس الجهال ومن أئمة الضلال. فلا سبيل إلى العمل بالقواعد العامة، من غير تمحيص عند التنزيل أبدا.
ثم إن كان علماء الكسب، لا يستغنون عن الشيخ، ليصحح لهم الفهم، وليحميهم من شطط الفكر؛ فإن علماء التزكية والهداية القلبية، أحوج إلى ذلك وأولى به، لدقة علومهم بالمقارنة إلى فقه الظاهر، ولكثرة الآفات المحدقة والضلالات العارضة. نعني من هذا، أن عمل الشيطان فيما هو متعلق بالقلب، أوسع مما هو متعلق بالجوارح؛ وما اتسع فيه عمل الشيطان، اشتدت الحاجة فيه إلى الشيخ العاصم المقابل له في الوظيفة. وهذا أيضا، مما ينبغي أن يكون من أول ما يلقّن لطالب العلوم الدينية، حتى يعلم مراتب الشيوخ ولا يخلط بينهم. ولكن يبدو أن الأمة قد تعرّضت لمؤامرة قديمة في هذه المسألة على الأخص، حتى يتمكن الفقهاء الدنيويون من نيل أوطارهم، في غفلة من رقابة العامة من الناس. وإن كل ما تعيشه أمتنا اليوم من أزمة دينية خانقة، أدت بكثير من أبنائها إلى نبذ الدين وإلى الكفر برب العالمين (الإلحاد)، ليس إلا نتيجة للخلط في المسألة التي ذكرنا، ونتيجة لما انجر عنه من فروع الضلالات...
[وذكر الإمام الشاطبي فوائد صحبة العلماء وملازمتهم وقال: "فهذا من فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان. وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا رأيكم، فوالله لقد رأيتني يوم أبي جَندل (قصته معروفة في صلح الحديبية لما ظن بعض الصحابة أن شروط الصلح مجحفة بالمسلمين)، ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته. وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه (أي في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أبي جندل إلى المشركين) من الإشكال. وإنما نزلت سورة الفتح بعدما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم، والتباس الأمر. ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس، وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم (أي الصحابة). فالتزم التابعون في (صحبة) الصحابة سيرتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية. وحسبك من صحة هذه القاعدة (أي تلقي جيل عن جيل بالملازمة والصحبة والأخذ والصبر) أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك".]:
هذه الفقرة تدور حول التسليم؛ تسليم التابع للمتبوع؛ لكن المسألة مع الفقهاء، تختلف عنها مع الربانيين من شيوخ التربية. وذلك لأن التسليم المطلوب لطالب الفقه مع شيخه، لا يتجاوز فيه التريث والتثبت (الصبر)، إلى حين ظهور الدليل له؛ لأن الدليل في مجال الفقه حاكم على الشيخ وعلى التلميذ. أما المريد مع شيخ التربية (بشرط الربانية)، فتسليمه أقرب إلى المعنى الصحيح للكلمة؛ وهو يتطلب سكوتا من جهة الباطن وسكونا، من غير انتظار بدوّ دليل. فإن ظهر الدليل بكيفية ما، فهو من فضل الله؛ وإن لم يظهر، فعلى المريد البقاء على حاله من التسليم الأول. وهذا، لأن معاملة الفقيه تكون معاملة للدين من وراء مظهره؛ وأما معاملة شيخ التربية، فهي معاملة لله من وراء مظهره؛ وبين الشيخين ما بين الدين وربه من بعد المكانة. ولم نر من المتأخرين، من ينبه إلى هذه المتشابهات، على كثرة الكلام وكثرة المتكلمين في شؤون الدين.
وإنّ خلط الكاتب بين الأمرين، سيزيد من الالتباس الحاصل لدى الناس؛ مع العلم بأنه بهذه الطريقة لم يُضف جديدا يستدعي منه كتابة هذا الكتاب من الأصل. والأمة بحاجة الآن، وبعد قرون من المعاناة، إلى من يقلل من حيرتها ويزيد من وضوح إدراكها؛ لا إلى إعادة إنتاج ما أُنتج من هذا الخلط، الذي لا يبدو منه ما يبشر بجلاء الرؤية، حتى يعقبه الضباب الكثيف مرة أخرى... كان الله في عون جميع المسلمين!...
[ومما ينكره بعض المتلَفّعين في رداء أنانيتهم ويرفضونه أن يكون تسلسل مشيخة في علم القلوب وفن الفطرة وأدب التربية والتزكية المسمى في الاصطلاح تصوفا. ينقصهم صبر أمثال الغزالي وانقياده للأمناء. من الشروط التي وضعها الشاطبي في اعتبار أهلية العالم: "الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بآدابه، كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم. واقتداء التابعين بالصحابة، وهكذا في كل قرنٍ".]:
الانتقال من كلام الغزالي الذي هو من رجال التربية بالمعنى الشرعي، إلى كلام الشاطبي انتكاس. وقد وقع فيه الكاتب، بسبب عدم تفريقه بين الصنفين من العلماء: الفقهاء والصوفية؛ إلى الآن. وهذا كله يدل على أن الكاتب يتكلم من مرتبة الإسلام، كما تكلم ابن تيمية وغيره ممن كان الخلط ملازما لهم قبله. نعني من هذا، أن كل كلام له معياران أساسان عند النظر فيه: الأول، المرتبة التي منها صدر، وهذا يتعلق بمقام المتكلم ومرتبته في نفسه؛ والثاني، المرتبة التي يشير إليها الكلام، وقد تكون مرتبة المتكلم نفسها، كما قد تكون غيرها. فعندما يتكلم ابن تيمية -مثلا- من مرتبة الإسلام، فإن كلامه يكون منطلقا منها؛ فإذا تكلم عن الإحسان، فإن كلامه عنه من مرتبة الإسلام، سيعطي معنى لا يمكن أن يكون صحيحا؛ لأنه يدل فيه على ما لا يعلم. وهذه القاعدة أيضا، مما ينبغي أن يُلقَّنه طالب العلم منذ البداية؛ حتى إذا صار مؤهلا للنظر في كلام العلماء، حكم عليه بها، فخرج حكمه أقرب إلى الصواب.
وأما أخذ كل قرن عن القرن الذي قبله، فيصح في علوم الكسب أكثر مما يصح في التصوف. وذلك لأن الصوفي، وإن كان يُشبه في التلقي التربوي غيره من العلماء، عند أخذه عن الجيل الذي قبله، فإنه يمتاز عنهم بمجرد حصول الوصول له. فهو عند فراغه من السلوك، يتلقى عن الله، كما كان يتلقى مَن قبله؛ وقد يفوق التلميذ من هذا الوجه شيوخه؛ بخلاف الفقيه الذي يبقى على بعض تقليد، وإن بلغ درجة الاجتهاد في نفسه. والسبب في هذا، هو أن الفقيه يأخذ عن الله من وراء حجاب، لا كما يأخذ الصوفي. وقد غلط في هذه المسألة كثيرون من المتصوفة، وجعلوا تقليد اللاحق للسابق شرطا، ظنا منهم أن الأمر يشابه ما عليه أهل الظاهر. بل لقد بلغ الأمر بمتأخري المتصوفة، أن جعلوا للتزكية سندا مثلما يكون للحديث؛ يزعمون بذلك أنهم يمحصون التلقي، حتى لا يدخله ما ليس منه، أو يتصدر في مجاله من ليس له بأهل. والحقيقة هي أنهم ما دلوا بذلك، إلا على نقص إدراكهم لخصائص علم التزكية، عندما قاسوه على الفقه الكسبي وحده. ولو كان ما يذهب إليه هؤلاء المتصوفة صحيحا، لثبت التزكي لكل واحد اتصل بشيخ للتزكية بنسبة ما، كما يثبت للمتلقي عن الشيخ الفقيه الفقه بدرجة ما. وكم من فقيه لم يأخذ من أحد شيوخه، إلا مسألة واحدة أو اثنتين. فإن قيل: إن التزكية تثبت بشهادة الشيخ لتلميذه بالوصول، قلنا: فإن كان الأمر هكذا، فهو متعلق بالشيخ نفسه، من غير اعتبار للسند. فإن قيل: إن السند تثبت به أهلية الشيخ لا غير؛ قلنا: وهذا أيضا لا يُقطع به؛ لأن علوم الوهب لا تخضع لمعايير علوم الكسب، كما لا يخضع علم الغيب لمعايير عالم الشهادة. ويبقى الشاهد على أهلية الشيخ غيبيا، ما لم تقم الحجة على التلميذ من جهة الباطن، عند ذوقه لتربية شيخه ذوقا. ويبقى التلميذ الذي لا استعداد له، أو لا تسليم له، مع الشيخ الرباني كالأجنبي، لا يعلم صدقه من كذبه. ولولا هذا الذي نقول: لم يكن تلاميذ الصوفية يوصَوْن بالتسليم للشيوخ، ولدُلّوا على معايير معرفة صدق الشيخ من كذبه فحسب؛ كما يُدل طالب الفقه على إتقان النظر في الأدلة فحسب. كل هذا الكلام، هو مع من له استعداد مرتبة الإسلام في الحد الأدنى؛ وأما في زماننا، حيث يلامس الناس الكفر مرارا في اليوم الواحد، فإن ذوقهم للتربية ورؤيتهم للكرامات الباهرة، لا ينفعان معهم في تمييز مرتبة الشيخ، ولا في التسليم له، لشدة البعد. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المعنى: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ: يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا؛ أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا؛ يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.»[2]. ولا يغتر أحد، عندما لا يعرف الكفر والإيمان من نفسه، فيتوهم بقاءه على حال واحد؛ لأن ما يظنه ثبات حال، هو ثبات تغير الحال بين الإيمان والكفر، لا ما يظنه إيمانا خالصا. وهذا يجعل الكلام في التصوف أو في التزكية، مخالفا لكل ما ذكره الغزالي ودل عليه. وهو يعني أيضا، أن كل كلام مستورد للكاتب، هو غير ذي جدوى في عصرنا؛ لأن الأمر منوط بسلامة القابلة من جهة، وبصحة توافر المدد من الجهة الأخرى. وهذان أمران يُمازان بالذوق وحده، لا بالعلم المجرد.
[ويذكر كيف يحصل العلم والبركة بحضرة الشيخ: "وقد يحصل بأمر غير معتاد. ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ظاهر الفقر، بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه". وهذا ليس ينكر، فقد نبه عليه الحديث الذي جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عندما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.]:
القياس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يصح، لأنه لا أحد في مرتبته تربية وتعليما؛ كما لا أحد يعلم ما عاشه الصحابة رضي الله عنهم عند موته، إلا هم. فهذا الحال فريد لا يعلمه إلا من ذاقه وحده؛ وكل تمثل له أو تصور، فإنما يقع على معنى آخر لا عليه. والشيخ الرباني، وإن كانت له حرمة الدلالة على الله وهيبة التجلي التعريفي، فإنه لا يداني ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم البتة. فكما لا يلحق الفرع بالأصل أبدا، فكذلك الشيخ لا يُقاس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع ثبوت ما ذكرنا له. وهذا باب من العلم نفيس، ينبغي أن لا يؤخذ بالقياس العقلي من كل وجوهه؛ نعني باعتماد القياس ذاته من جميع الوجوه.
وأما بركة الجلوس بين يدي الشيخ، فلا تخفى؛ لكن ما دل عليه الشاطبي منها ليس إلا أدناها. فالشيخ الرباني الكامل، تحصل بمجالسته مجالسة الحق تعالى؛ وهذا أعلى ما يكون من بركة الصحبة. ولقد ذقنا نحن هذا مع شيخنا ذوقا، كما يذوقه معنا الصادقون من أصحابنا. ولو علم الناس ما نقوله هنا، لاقتتلوا على باب الشيخ الرباني؛ ولكن الله يحجب هؤلاء الشيوخ كما احتجب هو سبحانه عن أعين عموم خلقه. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]؛ وعدم الإبصار من الآية، هو ما سميناه نحن حجابا...
[وذكر رحمه الله أن العلوم تحصل بمشافهة العلماء، "ومفاتيحه بأيدي الرجال، والكتب لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء".]:
كلام الشاطبي يلزم أضرابه، ولا يلزم الصوفية؛ والكاتب يخلط هنا على عادته. وأما الصوفية، فالمشافهة عندهم تكون على قدر الحاجة، ولا تكون ضرورية في تلقين العلم؛ لأن مدار التصوف على القلوب التي هي غيب الإنسان، لا على الأسماع والأفهام التي لا تتجاوز شهادته (نعني من جهة المناطات والتعلقات). وأما كون المفاتيح بيد الشيوخ، فهو صحيح؛ لكن المفاتيح تختلف باختلاف العلوم: فمفاتيح فقه الظاهر العبارات، ومفاتيح فقه القلوب الإشارات، ومفاتيح فقه الحقيقة الإرادات (إرادة الشيخ). ولقد رأينا في واقعة عند بداية سلوكنا على يد شيخنا حمزة رضي الله عنه، أن تحت موضع قدميه الشريفتين خزانة تشبه تلك التي تكون في مراكز البريد، والتي يكون لكل صندوق منها مفتاح خاص. فكانت الصناديق التي رأينا، خزائن العلوم التي يتصرف فيها الشيخ؛ فأخذنا وقتها مما أُذن لنا في فتحه، وقد كانت خزائن معدودة. ولم نزل نأخذ من علمه وحاله -رضي الله عنه- حتى استوينا معه في الأخذ عن الله ورسوله. فعند ذلك -فقط- انفصلنا عنه واستقللنا بأمرنا. ولقد كنا مصرين على البقاء معه، رغم تحقق وصولنا، لإلفنا الاستناد إليه استناد الولد إلى أبيه، ولخوفنا من المكر؛ حتى إن بعض الأشخاص كانوا يُدلّون علينا من جهة الغيب فكنا نصرفهم إلى الشيخ، ونستحيي أن يخطر ذلك لنا. واستمررنا على هذه الحال مدة غير يسيرة، تتجاوز العقد من الزمان، قبل أن نبدأ دعوتنا بحمد الله.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin