إضاءات حول المفرادات وتعريفاتها
قبل أن نشرع في استعراض التنزيل الحكيم ومواضع ذكر هذه المفردات وفحص سياقها وتوجيهها سننثر مجموعة من الإضاءات حول تلك المفرادت لتعزيز فهم التعاريف وربطها ببعضها البعض للوصول لتصور دقيق قدر الإمكان لهذه المكونات الثلاث :
الإضاءة الأولى :
العقل يسميه أهل النفس وعلومها (العقل الباطن) ويسمونه (اللاوعي) ويسمى قديما وحديثاً (بالضمير) لأن محتواه مضمر خفي عن البشر .
الإضاءة الثانية :
ما يظهر لنا من سلوك بشري إنما هو قرار القلب الناتج عن تمازج العقل والفؤاد وتفاعلهما، فالعقل لا يطرح للقلب إلا الحق أما الفؤاد فمصدر رأيه العاطفة والشهوة والهوى والقلب يختار بينهما.
الإضاءة الثالثة :
خفاء القلب والعقل عن التحكم والمشاهدة هو ما جعل من اسمه (قلباً) فهو في أعماق النفس البشرية في حين ان الفؤاد ظاهر عارض للعبد تظهره العواطف على صفحات الوجه وبنات شفاهه فهو متصل بالحواس وفيه تستقر المشاهدات والمسموعات وعموم الأحاسيس ، كما أن تقلبه واختلاف يقينه وعدم استقراره على أمر واحد جعل من اسمه قلبا لتقلبه من حال إلى حال.
الإضاءة الرابعة :
خضوع القلب للشهوة خاصة ولبقية المشاعر عامة ينتج عن إعلاء الفؤاد على العقل فيجترح الباطل ويكبت صوت العقل والفطرة ، فالقلب إما أن يأخذ من الفؤاد فيخضع قراره للعاطفة والهوى والشهوة ، أو يجعل العقل حاجزا بينه وبين الفؤاد فلا يمر شيء إلا أخضعه للعقل ووزنه بميزانه.
الإضاءة الخامسة :
الفؤاد ليس شراً محضاً فلولاه لفقد البشر قيماً سامية كالشفقة ، والمحبة والسعادة ، وقيماً حيوية كالخوف والشجاعة و الحذر ، فيستحيل عضوا قيِّماً وسامياً عندما ينقاد ويخضع للعقل ، ويصبح بهيميا شهوانيا عندما يستعلي الفؤاد على العقل ، وكل ذلك بقرار القلب ورضاه.
الإضاءة السادسة :
أن قلب النفس يقابله قلب الجسد من جهة تأثيره على صلاح العمل والاعتقاد ، فإن فساد القلب ومرضه يؤدي لفساد الاعتقاد في النفس وفساد الأعضاء في الجسد ولكنهما شيئان مختلفان أحدهما مادي ملموس متعلق بالبدن (حسي) والآخر غيبي في بعد آخر يتعلق بالنفس وأحوالها (القلب الشرعي).
الإضاءة السابعة :
نؤكد على أن الدماغ المادي والجهاز العصبي إنما هو وسيطة تترجم من خلالها أوامر النفس في بعدها الخفي إلى أعضاء الجسد ببعده المادي فليس في جوهر الجهاز العصبي قدرة على أخذ قرار وترك فعل بل إن كل ذلك يتم في القلب ، وبالتالي يترجم ذلك القرار على صورة إشارات عصبية تمر عبر الشبكة العصبية للعضو المراد تحريكه وكل ذلك يتم بصورة فائقة السرعة.
الإضاءة الثامنة :
العقل الذي نقصده ليس الدماغ بل هو مكون رئيسي من مكونات النفس وهو خاضع للقلب بجانب الفؤاد ، والقلب يوازن بينهما ويختار ، فأنواع النفس الثلاث إنما هي أحوالها التي تتقلب فيها وليست ثلاث أنفس كما يظن البعض، فالنفس الأمارة ما استعلى عليها الفؤاد ، والنفس اللوامة ما استعلى عليها العقل ، والقلب له بين هذا وذاك أحوال عديدة .
الإضاءة التاسعة :
إن الكافر حين يستمع للدعوة لدين الله فإنه قد يُعلي قيم الفؤاد على قيم العقل فيعاند ، أو يعلي قيم العقل (الفطرة) على قيم الفؤاد فيؤمن ، فالمعاند يقدم عواطفه وفؤاده وهواه على عقله وفطرته (كالخوف من فقدان مال أو جاه أو نبذ المجتمع له أو بغضه للمسلمين ورفضه لهم) ، ومنهم من يخشى فواتِ شهوة كالزنا أو الربا أو الخمر فيرفض الإذعان للعقل بل لا يدع له مجالاً ليزن الأمور فيقدم العاطفة والشهوة (الفؤاد) ويعليها ويؤخر العقل ويغيبه فيخفيه ، فيكون قرار القلب على ضوء ذلك ، وهكذا فإن كل فعل ينشأ من إطاعة الفؤاد وإقصاء العقل فهو يتأثر بالعاطفة ويغض الطرف عن السنن والقوانين والحقائق.
الإضاءة العاشرة :
إن فهم هذا التفصيل غاية في الأهمية لتشريح النفس البشرية بصورة واقعية ومعرفة كنهها وكيفية عملها وتفاعل مكوناتها من عقل وفؤاد تحت قلب هذه النفس وهنا يتمكن ابن آدم من تحليل وتفسير ما يواجهه من تناقضات ويستطيع أيضا أن يحسن التعامل مع ذاته والسيطرة على تصرفاته.
الإضاءة الحادية عشر :
إنما سمي العقل عقلاً لأنه يناط به (تقييدُ) الفؤاد والتقدم عليه في المرتبة وكبح جماح الشهوة وإحكام وثاق العاطفة وشد عقالها واستعمالها في جوانب البذل والخير وزجرها عن مواطن الشر فإن غابت وظيفته كان ابن آدم والحيوان – في مسألة الاعتقاد- واحد حتى لو تفوق في الجوانب الحياتية الأخرى ، وبمنطقنا يصبح ابن آدم (إنساناً) وهي التسمية ذات الدلالة على حقارة خلق البشر سوء طويتهم كما أثبتنا في بحث آخر.
الإضاءة الثانية عشر :
إن الفؤاد تتنازعه شهواته وعواطفه بين جانبين أحدهما خير والآخر شر فما إن يميل للشر وجب على القلب أن يزجره ويصلح أمره ويقدم العقل ويعليه، فإن استعلى الفؤاد على العقل أضعف القلب وامرضه وحجبه فيفسد بذلك العمل.
الإضاءة الثالثة عشر :
إن حركة العقل والفؤاد الدائبة تحت ظل القلب وسيطرته لا تقتصر على الدين والاعتقاد بل تسري على كل جوانب الحياة اليومية اجتماعيةً وتجارية وتعليمية وغيرها فعندما تجد الكافر يجيد استعمال عقله ويعليه في مسائل المادة ثم إذا عرض عليه الدين قدم الفؤاد وغيب العقل كان ذلك مدعاة ومبرراً لعقاب الله له إن استوفي عمله وهو كافر معاند.
الإضاءة الرابعة عشر:
إن المجنون قد يفسد عقله ويغيب ويبقى فؤاده سليماً فتجده عند عواطفه وفطرته في مسائل الخوف والرجاء حاضرة ولكن عقله فسد وتلف فيفقد ميزة التكليف ، والجنون من استتار القلب بفعل فساد العقل أو فساد الوسيطة المادية التي تربطه بالبدن (الدماغ) .
الإضاءة الخامسة عشر :
إن ابن آدم لا يملك العقل ولا يستطيع النفاذ إليه أو العبث بمحتواه ولكنه يملك الفؤاد ويستطيع التصنّع والخضوع للشهوة والكذب متأثراً بعاطفة او مقاوماً لتلك الجوانب العاطفية السلبية عندما يخضعها للعقل.
الإضاءة السادسة عشر:
إن الملائكة لا تحتوي أنفسها على أفئدة ، فلا تتنازعها قوة خير وشر ، ولا تؤثر فيها العاطفة كالشهوة والعطف والطمع والحب وسواه بل تشتمل أنفسها على قلوب عاقلة تحتوي الفطرة ولا شيء سوى الفطرة ، فلا يستمتعون بمتع الدنيا والآخرة ولا يتأثرون بعاطفة تجاه الخلق فخزنة جهنم ينفذون أوامر الله بمعزل عن أي عاطفة أو اسف أو حزن على مآل أولئك المعذبين.
الإضاءة السابعة عشر:
قيمة الفؤاد لدى الشيطان أعلى من قيمة العقل فكان علو الفؤاد لديه سببا في حصول الكبر والحقد والبغض في نفسه فمن أعلى قلبه الفؤاد وأقصى العقل كان من الشيطان أقرب بل وأسوأ ، ومن أعلى قلبه العقل وأقصى الفؤاد كان إلى الملائكة أقرب بل وأفضل ، وما أورد ابليس لمهلكة الغضب الإلهي إلا الفؤاد فالكبر والغرور والغضب والبغض والحسد كلها قيم الفؤاد ، طغت على قلب ابليس فقادته إلى المهالك ، وسبق لنا إثبات مسألة أن العواطف بتناقضاتها المختلفة متعلقة بهذا الفؤاد.
لذلك نفهم كيف أن هذه المشاعر مرتبطة بالتفؤد والاشتعال وبالتالي فهي الموضع المفضل للشيطان الذي يشبهه في مادة خلقه وهي النار ، ولذا كان جريانه في ابن آدم مجرى الدم ، وقد جاء في الحديث عن عروة بن محمد ، عن أبيه عن جده عطية بن عروة السعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضأ).
فهذه المشاعر المتفئدة المشتعلة إذا غيبت العقل وانساق القلب خلفها أفضت لارتكاب الزلل والخطأ.
هذا الغضب والتفؤد جعل نبي الله موسى يلقي الألواح المقدسة التي كتبها الله له فيها الوصايا والشرائع وكادت الدعوة أن تنشطر ويدب فيها الخلاف : يقول تعالى )ولما رجع موسى الى قومه غضبان اسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي اعجلتم امر ربكم والقى الالواح واخذ براس اخيه يجره اليه) الآية.
ولكن بعد سيطرته على نفسه وتقديم عقله على فؤاده أدرك ما يحدث فيصف تعالى ذلك بقوله :
(ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون)
وكذلك نبي الله يونس عليه السلام عندما قدم فؤاده على عقله وخضع للغضب ، يقول تعالى
(وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين )
فكان الغضب بابا لسوء الظن والتقدير وتغييب العقل واقصاءه.
وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين الذين يملكون قلوبهم فلا ينساقون لإملاءات الفؤاد فيكون الفعل المتوقع حال الغضب هو الفعل المدفوع بالعقل وليس بالفؤاد ، يقول تعالى :
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) الشورى (37) فكانت المغفرة والمسامحة قيمة عقلية تكبت اتجاه الفؤاد نحو الانتقام ، وإنما كان ذلك بفعل استقرار الايمان ، فلم ينف الله تفؤد النفس واشتعالها غضبا ولكنه حدد السلوك الايماني الذي ينبغي أن يتبع تلك الحالة ، وهذا السلوك ليس بسلوك مصطنع بل سلوك طبيعي أصيل سببه استقرار الإيمان ، وعليه فكل فعل انتقامي إنما هو حالة غير إيمانية تعتري الإنسان وتسيطر عليه بفعل ذلك الغضب.
الإضاءة الثامنة عشر:
لتقريب المفهوم للقارئ الكريم نستشهد بمثال جهاز كشف الكذب فالفؤاد هو من يدفع القلب لإظهار الانفعالات الكاذبة والملامح المزورة إلا أن العقل (يصرخ) بعكس ذلك لأن فطرته لا تقبل الكذب ولكن استعلاء الفؤاد والشهوة واستيلاءها على القلب كبت قدرة العقل على فرض الحق ونبذ الباطل ، ولكن الحقيقة أن ظاهر هذه الفعلة المشينة مهما كان خفاؤه فهو في حقيقته يخفي صراعا شرسا يمكن قياس حدته بما تتركه من آثار على أعضاء الجسد من ارتفاع في نبضات القلب أو تعرق ولغة جسدية فاضحة وقد تكون خفية جدا لدرجة لا تقاس إلا بأجهزة إلكترونية تتحسس التفاعلات الحيوية أثناء إجراء اختبار معين لكشف الكذب.
الإضاءة التاسعة عشر :
عندما نستظهر هذه العلاقة والتفاعل بين العقل والفؤاد وسباقهما للقلب واقناعه كلا بما لديه فإننا سنتمكن من فهم الحديث الشريف :
حَدَّثَنَا أَبُو هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يَقْلِبُ وَيَصْرِفُ كَيْفَ شَاءَ»
وهنا تظهر بوضوح هاتين القوتين (اصبعي الرحمن) اللتين تقلبان (قلب) العبد ، فالله الذي يريه الحق والباطل بعينيه ويسمعه بأذنيه ويتفاعل معه بفؤاده آتاه عقلا وفطره على الحق وطهره من الباطل فإن استعلى الفؤاد على العقل تحول القلب وانقلب الى الباطل وإن استعلى العقل على الفؤاد تحول القلب وانقلب عن الباطل إلى الحق فالقرار زمامه بيد العبد وعلى الله الدلالة والهداية والتوفيق فهذين (الاصبعين) من خلق الله عقلا وفؤادا يتنازعان القلب ويتجاذبانه وهو بالخيار على أي اتجاه ينقلب ، ومن عدله جلت قدرته أن أودع الأمانة في ابن آدم (أمانة الاختيار) فيحاسبه على ما يختار بذاته ولا يأطره أو يجبره على شيء ، وفي رواية :ما من قلب إلاّ هو بين اصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، فكان العقل مناط الإقامة والصلاح وكان الفؤاد مناط الهوى والزيغ.
وهذا لا يعني امتناع الجبر على الله بل إنه جل شأنه يملك القدرة المطلقة على كل شيء بلا قيد ولا حد.
ومن الناس من ضل في فهم المسألة فنسب العضو المادي إلى الله تعالى وظن أن القلب المراد به القلب الحسي والمضخة التي تدفع الدم في الجسد البالي الفاني وهذا الفهم قد يشي بتجسيم باطل في حق الله ، في حين أن هذا غير متحقق بصورته التي يتوهمها البعض ، ولكنها كما أسلفنا متسقة مفهومة لا توقع في النفس الشك أو الريب أو الاستغراب ، فقد أشار مفهوم الاصبعين إلى قدرتين أودعهما الله في قلب ابن آدم هما القلب والفؤاد يقلبان رأي العبد ويغيران اتجاهه من عقيدة إلى أخرى ومن سلوك إلى سلوك ، وإن أراد الله هداية عبد من عبادة كبت فؤاده وأعلى عقله فلا يرى القلب أمامه سوى الحق فيذعن ، والعكس صحيح ، وفي نهاية الأمر فإن القلب مالك الإرادة فهو ينوب عن النفس في الاختيار بين السبيلين.
وهنا نتمكن من فهم الرسالات ، فالله يخاطب برسالاته عقول العباد ويستحثها على الوقوف والتقدم على الهوى والعاطفة والشهوة فينقلب قلب العبد من المعصية إلى الطاعة ومن الكفر إلى الإيمان ، فإن أبى وفضل الركون للفؤاد والعاطفة فإن الله يمده بالقوة والمال والحفظ والخيرات ، فيظن المسكين أن منهجه حق ولولا ذلك لانتقم الله منه فيتمسك بكفره ويعتوا عتواً شديداً ، وهنا يحق عليه القول فيبدو ما يحدث وكأن الله أضله ولكن الحقيقة أنه ضل بإرادته ورغبته بلا جبر ولا إرغام.
الإضاءة العشرون :
إن القلوب الغلف هي تلك القلوب التي طغت عليها الأفئدة فغلفت القلب بغلافها وسيطرت على منافذها حتى صمت آذانها عن سماع الحق وأبصارها عن رؤيته فحيدت العقل وأطغت الفؤاد عليه فرفضت الحق تحت قيم الفؤاد الشريرة (الكبر ، الحسد ، الطمع ، الشح ).
الإضاءة الحادية والعشرون:
من فضل الله على بني آدم أن جعل القرار لدى القلب لتتحقق ميزة الاختيار وتتحقق المسؤولية عن الأفعال الصادرة من العبد ، فالفؤاد يقول للقلب شيئا والعقل قد يقول شيئا آخر فيكون الاختيار بيد القلب إن انساق خلف الفؤاد خاب وإن كان انسياقه خلف العقل سلم وفاز.
الإضاءة الثانية و العشرون :
لم يكن الخضر عليه السلام سوى ملكا من الملائكة جعله الله رجلا ولبس عليه ما يلبسون غاب عنده الفؤاد فلم تدخله عاطفة الحزن تجاه أصحاب السفينة ، ولم تدخله عاطفة الانتقام والبغض تجاه أهل القرية التي منع أهلها الضيافة عنه وعن موسى عليه السلام ، ولم تأخذه شفقة ولا عطف تجاه الغلام الذي ذبحه لأنه يتعامل بالعقل ويقصي الفؤاد ، العقل الذي يتبع أوامر الله وينفذها مقصيا الفؤاد بالكلية بل لا يحمل في قلبه فؤاداً ، وفي ذات الوقت كان فؤاد موسى عليه السلام متوقداً مشتعلا تجاه أفعال الخضر رافضا لها متعجبا من فعله ، فكان الدرس الرباني لعبده موسى حمل دروسا هامة منها أن اتباع شرائع الله وأوامره لا تخضع للفؤاد وعواطفه بل تخضع للعقل وثوابته.
الإضاءة الثالثة والعشرون:
الملكين هاروت وماروت لم يحملا أفئدة تدفعهما للإيمان بالسحر واستعماله أو الانحراف بحيازتهما لذلك العلم الشرير فاختار الله ملائكة لهذا الغرض فمن جهة لديهما من القدرات والخوارق ما يفوق السحر والتخييل فلا ينتفعان اصلا بذلك العلم ومن جهة أخرى فهما لا ينبغي لهما أن يخالفان أمر الله وينحرفان لشهوة أو رغبة من فؤاد زائغ يصغي القلب ويحرفه عن الحق كما يفعل أكثر الناس.
الإضاءة الرابعة والعشرون :
إن السمع والبصر الذي ينفذ للفؤاد يختلف عن السمع والبصر الذي ينفذ للعقل ، فالبصر النافذ للعقل يسمى بصيرة يخضع فيه العقل معطيات السمع والبصر المادي لثوابت العقل والفطرة فإن خالفها انتفت عنه السمع والأبصار حتى لو تحققت الرؤية المادية ، فالرؤية المادية بلا إعلاء للعقل وفي ظل اتباع الفؤاد تظل رؤية وليست بصرا وبصيرة واستماعا وليست سمعا فلم تنتج إعلاء للعقل بل أعلت الفؤاد وشهواته على العقل وفطرته فكان الإنسان في مقام الأعمى والأصم حين لم ينتج عن أذنه وعينيه فائدة تذكر حينذاك تعلي العقل على الفؤاد .
الإضاءة الخامسة والعشرون:
يقول تعالى (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) فابن آدم يتبع عقله فيتحقق الإيمان ويفضي به إلى الشكر ويتبع الفؤاد فيهوي به للكفر ، والقلب مناط الفعل وهو قائد النفس (اللوامة ، الأمارة ، المطمئنة) إنما هي أحوال للنفس الواحدة وليست أنفس متعددة ، فالنفس الأمارة هي التي اعتلى فيها الفؤاد فغلف القلب فاستأمر بأمره وأقصى العقل وكبت فطرته ، فإن ثاب ورجع و وجدت نفسه أثر سوء انقيادها لشهوة الفؤاد فأقصاه واسترجع العقل وأعلاه فإن العقل يلوم القلب فيكون ذلك حال النفس فتسمى اللوامة.
الإضاءة السادسة والعشرون :
إن الإتيان بمفردة القلب في القرآن الكريم دائما يحمل دلالة على ما خفي من الاعتقاد عن الخلق فجاز أن يكون الظاهر من أفعال العبد مخالفا لما يحويه قلبه ، أو أن لا يفعل بالضرورة ما يوافق الاعتقاد الخفي في داخل النفس وجوهرها وهو القلب ، لذا وجب أن نفرق دوما بين المتبادر للذهن عند ورود مفردة القلب – العضلة المستقرة في الجسد- وبين قلب النفس وجوهرها الذي يشارك النفس ذاتها في الخفاء والاستتار.
الإضاءة السابعة والعشرون :
إن القلب الذي يتبع الفؤاد إنما يتبع الهوى لأنه يهوي به أسفل سافلين ، فالفؤاد صنو الهوى ، فإن عرض للقلب أمرين قدم العقل ما يجب على النفس اتباعه، وقدم الفؤاد ما تشتهي النفس أتباعه فإنه أطاع القلب رأي الفؤاد فقد أطاع الهوى وزاغ إليه، ومال عن الحق والعقل إلى الباطل والشهوات.
ولك أيها المسلم أن تستكشف مصدر رأيك وميولك هل هي بدافع الفؤاد ؟ أم بدافع العقل ولك بعد ذلك أن تقدم منهما ما شئت ، إلا أن اتباع العقل لا يردك بإذن الله نادما أو متحسرا.
الإضاءة الثامنة والعشرون:
إن اشتعال الفؤاد بالمشاعر المفتئدة كالغضب والشهوة والحسد والكبر والبغض والحقد أمر واقع لكل بني آدم بدرجات مختلفة ، ولكن كل الأفعال الناشئة عن تلك المشاعر إنما هي صورة لخضوع القلب للفؤاد فالمشاعر تنسب للفؤاد ولكن الأفعال تنسب للقلب فهو صاحب القرار الأخير والفاعل لكل ما يعرض له فمنه تنبت النية والنفس تأمر بما يحقق هذا الفعل، فأي فعل يتماشى مع دوافع الفؤاد فإنه فعل سوء فإن خالفه العقل فخضع القلب للعقل كانت محصلة الأمر خيراً وصلاحاً.
لذلك نجد أن الله تعالى في كتابه الكريم ينسب الأفعال الى القلوب فهي من يتبنى المشاعر فيترجمها إلى أفعال ، فإن أخضعها للعقل فقد أفلح وأصاب ، أما إن سلمها للعاطفة والفؤاد فقد أخطأ وأساء.
الإضاءة التاسعة والعشرون:
ينظر الناس للواحد منهم بعين الميزان فيزنون أفعال العبد المتئدة الواعية فينعت بالعقل ، وكلما زادت درجة الاتزان ازداد مستوى العقل لاحتكامه على القلب وهيمنته عليه وتقدمه عن الفؤاد وسيطرته عليه.
فوظيفة العقل بتقييد الفؤاد والإمساك بزمامه هي التي ترسم صورة العبد لدى الخلق وهي حرية بالدراسة والبحث والتنقيب ففيها اسرار للنفس تقود لفتوح هائلة في أصول التعامل معها وسياقتها الى الخير وزجرها عن الشر ، وللعقل اسم آخر وهو “الحجر” الذي يحجر الفؤاد عن الانزلاق للشهوة والشذوذ عن حدود الحق ، فالإلحاد والكفر هو خضوع لقيم الفؤاد وغياب لقيم العقل فالكافر يكفر بمالا يدركه بحواسه برغم أن العقل يقول بأن إدراك الرب بالحواس إحدى دلائل فساد ربوبيته ، ولأن العقل يقيد الفؤاد عن الجموح والانطلاق خارج القيم العقلية فيحصل الكفر ويحدث الجحود.
وهنا يستقر لدينا بأن العقل يقتضي الإيمان قطعاً ومن لا إيمان له لا عقل له.
الإضاءة الثلاثون:
إن العبد المسلم عندما يأتي طاعة مخصوصة كالصيام أو الصلاة ونحوها فإنه يأتيها مدفوعا برغبة القلب وتوجيهه ، وهو يستمد شرعيتها لديها من وزنها بميزان العقل.
فنجد مثلا أن الحيوانات والعجماوات لا يمكن أن تمتنع عن الطعام صياماً لفترة محدودة وبصفة معلومة لأن أفئدتها تسوق قلوبها ، وشهوتها للطعام وهي من ابسط الشهوات لا يوجد ما يعقلها ويقيدها ، وكذلك العبد العاصي ، فقلبه يستسلم للفؤاد فيخترق الفرائض وينعتق من قيود العقل التي تدفعه للعبادة فيكون في درجة العجماوات.
قد يقول قائل إن بعض الحيوانات تأتي بأفعال عجيبة تدل على ذكاء وبصيرة قد يفتقدها بعض البشر ، فنقول لو تتبعت الكيفية التي يجري تدريب العجماوات على تلك الأفعال لوجدت بأنها تكافأ في كل مرة تأتي فعلا مطلوبا عند المدرب تكافأ بطعام أو تحرم من شيء أو يجري ايقاع عقوبة عليها وبذلك فإن هذه الحالة في حقيقتها هي خضوع للشهوة والفؤاد وليس لصورة من صور العقل ابدا ، لذلك فإنها لا تلقي بالا لمدربها عند الشبع مثلا او اذا امنت عقابه.
إن بنو آدم ممن ينتظم في اتباع أنظمة بلاده لقناعته بصلاحيتها وقيامها على حياة مجتمعه وصلاح أمر قومه فهو يوظف العقل بصورة سليمة ، وهذا النمط من الناس هو من أقرب الخلق لاعتناق الإسلام إن لم يكن مسلما ، ومن أنفع البشر لمجتمعه.
أما أولئك الذين لا يأتون فرائضهم ولا يلتزمون بقوانين مجتمعاتهم إلا خشية عقوبة أو رغبة في مثوبة دنيوية فهؤلاء لا يختلفون عن حيوانات السيرك إن لم يكونوا أسوأ ، فعند أول حالة فوضى وغياب للنظام تراهم يعيثون في الأرض فسادا بصورة تأنف منها العجماوات وتعجب لها الشياطين.
إن هذه المسألة هي اختبار حقيقي للعبد المسلم هل هو مسلم لله أم مستسلم للسلطة ؟ هل يأتي فرائضه خوفا من قيل وقال ورياء وسمعة ؟ أم قناعة ومحبة وصلاحا ؟.
فهنا نجد الفرق بين المسلمين المستسلمين للسلطة الذين قال الله تعالى عنهم:
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:14]
فالمراد قولوا استسلمنا لسلطتك وحكمك يا محمد ولم نستسلم لله ، بما يحقق الاسلام كدين يرتبط ويخضع فيه العبد لسلطة الله الواحد القهار، الاسلام الذي يدفع الفرد ذاتيا لاتيان الطاعة وترك المعصية محبة وطاعة لله تعالى.
وهو ما دعا به نبي الله ابراهيم عليه السلام عندما قال :
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128]
ولعل القارئ الكريم يطلع على ما كتبته من توضيح لأصول الدين ونقض مفهوم مراتب الدين الذي يتعلمه ابناؤنا وبناتنا وتوضيح ماهية المفهوم الحقيقي للاسلام والايمان والاحسان.
قبل أن نشرع في استعراض التنزيل الحكيم ومواضع ذكر هذه المفردات وفحص سياقها وتوجيهها سننثر مجموعة من الإضاءات حول تلك المفرادت لتعزيز فهم التعاريف وربطها ببعضها البعض للوصول لتصور دقيق قدر الإمكان لهذه المكونات الثلاث :
الإضاءة الأولى :
العقل يسميه أهل النفس وعلومها (العقل الباطن) ويسمونه (اللاوعي) ويسمى قديما وحديثاً (بالضمير) لأن محتواه مضمر خفي عن البشر .
الإضاءة الثانية :
ما يظهر لنا من سلوك بشري إنما هو قرار القلب الناتج عن تمازج العقل والفؤاد وتفاعلهما، فالعقل لا يطرح للقلب إلا الحق أما الفؤاد فمصدر رأيه العاطفة والشهوة والهوى والقلب يختار بينهما.
الإضاءة الثالثة :
خفاء القلب والعقل عن التحكم والمشاهدة هو ما جعل من اسمه (قلباً) فهو في أعماق النفس البشرية في حين ان الفؤاد ظاهر عارض للعبد تظهره العواطف على صفحات الوجه وبنات شفاهه فهو متصل بالحواس وفيه تستقر المشاهدات والمسموعات وعموم الأحاسيس ، كما أن تقلبه واختلاف يقينه وعدم استقراره على أمر واحد جعل من اسمه قلبا لتقلبه من حال إلى حال.
الإضاءة الرابعة :
خضوع القلب للشهوة خاصة ولبقية المشاعر عامة ينتج عن إعلاء الفؤاد على العقل فيجترح الباطل ويكبت صوت العقل والفطرة ، فالقلب إما أن يأخذ من الفؤاد فيخضع قراره للعاطفة والهوى والشهوة ، أو يجعل العقل حاجزا بينه وبين الفؤاد فلا يمر شيء إلا أخضعه للعقل ووزنه بميزانه.
الإضاءة الخامسة :
الفؤاد ليس شراً محضاً فلولاه لفقد البشر قيماً سامية كالشفقة ، والمحبة والسعادة ، وقيماً حيوية كالخوف والشجاعة و الحذر ، فيستحيل عضوا قيِّماً وسامياً عندما ينقاد ويخضع للعقل ، ويصبح بهيميا شهوانيا عندما يستعلي الفؤاد على العقل ، وكل ذلك بقرار القلب ورضاه.
الإضاءة السادسة :
أن قلب النفس يقابله قلب الجسد من جهة تأثيره على صلاح العمل والاعتقاد ، فإن فساد القلب ومرضه يؤدي لفساد الاعتقاد في النفس وفساد الأعضاء في الجسد ولكنهما شيئان مختلفان أحدهما مادي ملموس متعلق بالبدن (حسي) والآخر غيبي في بعد آخر يتعلق بالنفس وأحوالها (القلب الشرعي).
الإضاءة السابعة :
نؤكد على أن الدماغ المادي والجهاز العصبي إنما هو وسيطة تترجم من خلالها أوامر النفس في بعدها الخفي إلى أعضاء الجسد ببعده المادي فليس في جوهر الجهاز العصبي قدرة على أخذ قرار وترك فعل بل إن كل ذلك يتم في القلب ، وبالتالي يترجم ذلك القرار على صورة إشارات عصبية تمر عبر الشبكة العصبية للعضو المراد تحريكه وكل ذلك يتم بصورة فائقة السرعة.
الإضاءة الثامنة :
العقل الذي نقصده ليس الدماغ بل هو مكون رئيسي من مكونات النفس وهو خاضع للقلب بجانب الفؤاد ، والقلب يوازن بينهما ويختار ، فأنواع النفس الثلاث إنما هي أحوالها التي تتقلب فيها وليست ثلاث أنفس كما يظن البعض، فالنفس الأمارة ما استعلى عليها الفؤاد ، والنفس اللوامة ما استعلى عليها العقل ، والقلب له بين هذا وذاك أحوال عديدة .
الإضاءة التاسعة :
إن الكافر حين يستمع للدعوة لدين الله فإنه قد يُعلي قيم الفؤاد على قيم العقل فيعاند ، أو يعلي قيم العقل (الفطرة) على قيم الفؤاد فيؤمن ، فالمعاند يقدم عواطفه وفؤاده وهواه على عقله وفطرته (كالخوف من فقدان مال أو جاه أو نبذ المجتمع له أو بغضه للمسلمين ورفضه لهم) ، ومنهم من يخشى فواتِ شهوة كالزنا أو الربا أو الخمر فيرفض الإذعان للعقل بل لا يدع له مجالاً ليزن الأمور فيقدم العاطفة والشهوة (الفؤاد) ويعليها ويؤخر العقل ويغيبه فيخفيه ، فيكون قرار القلب على ضوء ذلك ، وهكذا فإن كل فعل ينشأ من إطاعة الفؤاد وإقصاء العقل فهو يتأثر بالعاطفة ويغض الطرف عن السنن والقوانين والحقائق.
الإضاءة العاشرة :
إن فهم هذا التفصيل غاية في الأهمية لتشريح النفس البشرية بصورة واقعية ومعرفة كنهها وكيفية عملها وتفاعل مكوناتها من عقل وفؤاد تحت قلب هذه النفس وهنا يتمكن ابن آدم من تحليل وتفسير ما يواجهه من تناقضات ويستطيع أيضا أن يحسن التعامل مع ذاته والسيطرة على تصرفاته.
الإضاءة الحادية عشر :
إنما سمي العقل عقلاً لأنه يناط به (تقييدُ) الفؤاد والتقدم عليه في المرتبة وكبح جماح الشهوة وإحكام وثاق العاطفة وشد عقالها واستعمالها في جوانب البذل والخير وزجرها عن مواطن الشر فإن غابت وظيفته كان ابن آدم والحيوان – في مسألة الاعتقاد- واحد حتى لو تفوق في الجوانب الحياتية الأخرى ، وبمنطقنا يصبح ابن آدم (إنساناً) وهي التسمية ذات الدلالة على حقارة خلق البشر سوء طويتهم كما أثبتنا في بحث آخر.
الإضاءة الثانية عشر :
إن الفؤاد تتنازعه شهواته وعواطفه بين جانبين أحدهما خير والآخر شر فما إن يميل للشر وجب على القلب أن يزجره ويصلح أمره ويقدم العقل ويعليه، فإن استعلى الفؤاد على العقل أضعف القلب وامرضه وحجبه فيفسد بذلك العمل.
الإضاءة الثالثة عشر :
إن حركة العقل والفؤاد الدائبة تحت ظل القلب وسيطرته لا تقتصر على الدين والاعتقاد بل تسري على كل جوانب الحياة اليومية اجتماعيةً وتجارية وتعليمية وغيرها فعندما تجد الكافر يجيد استعمال عقله ويعليه في مسائل المادة ثم إذا عرض عليه الدين قدم الفؤاد وغيب العقل كان ذلك مدعاة ومبرراً لعقاب الله له إن استوفي عمله وهو كافر معاند.
الإضاءة الرابعة عشر:
إن المجنون قد يفسد عقله ويغيب ويبقى فؤاده سليماً فتجده عند عواطفه وفطرته في مسائل الخوف والرجاء حاضرة ولكن عقله فسد وتلف فيفقد ميزة التكليف ، والجنون من استتار القلب بفعل فساد العقل أو فساد الوسيطة المادية التي تربطه بالبدن (الدماغ) .
الإضاءة الخامسة عشر :
إن ابن آدم لا يملك العقل ولا يستطيع النفاذ إليه أو العبث بمحتواه ولكنه يملك الفؤاد ويستطيع التصنّع والخضوع للشهوة والكذب متأثراً بعاطفة او مقاوماً لتلك الجوانب العاطفية السلبية عندما يخضعها للعقل.
الإضاءة السادسة عشر:
إن الملائكة لا تحتوي أنفسها على أفئدة ، فلا تتنازعها قوة خير وشر ، ولا تؤثر فيها العاطفة كالشهوة والعطف والطمع والحب وسواه بل تشتمل أنفسها على قلوب عاقلة تحتوي الفطرة ولا شيء سوى الفطرة ، فلا يستمتعون بمتع الدنيا والآخرة ولا يتأثرون بعاطفة تجاه الخلق فخزنة جهنم ينفذون أوامر الله بمعزل عن أي عاطفة أو اسف أو حزن على مآل أولئك المعذبين.
الإضاءة السابعة عشر:
قيمة الفؤاد لدى الشيطان أعلى من قيمة العقل فكان علو الفؤاد لديه سببا في حصول الكبر والحقد والبغض في نفسه فمن أعلى قلبه الفؤاد وأقصى العقل كان من الشيطان أقرب بل وأسوأ ، ومن أعلى قلبه العقل وأقصى الفؤاد كان إلى الملائكة أقرب بل وأفضل ، وما أورد ابليس لمهلكة الغضب الإلهي إلا الفؤاد فالكبر والغرور والغضب والبغض والحسد كلها قيم الفؤاد ، طغت على قلب ابليس فقادته إلى المهالك ، وسبق لنا إثبات مسألة أن العواطف بتناقضاتها المختلفة متعلقة بهذا الفؤاد.
لذلك نفهم كيف أن هذه المشاعر مرتبطة بالتفؤد والاشتعال وبالتالي فهي الموضع المفضل للشيطان الذي يشبهه في مادة خلقه وهي النار ، ولذا كان جريانه في ابن آدم مجرى الدم ، وقد جاء في الحديث عن عروة بن محمد ، عن أبيه عن جده عطية بن عروة السعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضأ).
فهذه المشاعر المتفئدة المشتعلة إذا غيبت العقل وانساق القلب خلفها أفضت لارتكاب الزلل والخطأ.
هذا الغضب والتفؤد جعل نبي الله موسى يلقي الألواح المقدسة التي كتبها الله له فيها الوصايا والشرائع وكادت الدعوة أن تنشطر ويدب فيها الخلاف : يقول تعالى )ولما رجع موسى الى قومه غضبان اسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي اعجلتم امر ربكم والقى الالواح واخذ براس اخيه يجره اليه) الآية.
ولكن بعد سيطرته على نفسه وتقديم عقله على فؤاده أدرك ما يحدث فيصف تعالى ذلك بقوله :
(ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون)
وكذلك نبي الله يونس عليه السلام عندما قدم فؤاده على عقله وخضع للغضب ، يقول تعالى
(وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين )
فكان الغضب بابا لسوء الظن والتقدير وتغييب العقل واقصاءه.
وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين الذين يملكون قلوبهم فلا ينساقون لإملاءات الفؤاد فيكون الفعل المتوقع حال الغضب هو الفعل المدفوع بالعقل وليس بالفؤاد ، يقول تعالى :
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) الشورى (37) فكانت المغفرة والمسامحة قيمة عقلية تكبت اتجاه الفؤاد نحو الانتقام ، وإنما كان ذلك بفعل استقرار الايمان ، فلم ينف الله تفؤد النفس واشتعالها غضبا ولكنه حدد السلوك الايماني الذي ينبغي أن يتبع تلك الحالة ، وهذا السلوك ليس بسلوك مصطنع بل سلوك طبيعي أصيل سببه استقرار الإيمان ، وعليه فكل فعل انتقامي إنما هو حالة غير إيمانية تعتري الإنسان وتسيطر عليه بفعل ذلك الغضب.
الإضاءة الثامنة عشر:
لتقريب المفهوم للقارئ الكريم نستشهد بمثال جهاز كشف الكذب فالفؤاد هو من يدفع القلب لإظهار الانفعالات الكاذبة والملامح المزورة إلا أن العقل (يصرخ) بعكس ذلك لأن فطرته لا تقبل الكذب ولكن استعلاء الفؤاد والشهوة واستيلاءها على القلب كبت قدرة العقل على فرض الحق ونبذ الباطل ، ولكن الحقيقة أن ظاهر هذه الفعلة المشينة مهما كان خفاؤه فهو في حقيقته يخفي صراعا شرسا يمكن قياس حدته بما تتركه من آثار على أعضاء الجسد من ارتفاع في نبضات القلب أو تعرق ولغة جسدية فاضحة وقد تكون خفية جدا لدرجة لا تقاس إلا بأجهزة إلكترونية تتحسس التفاعلات الحيوية أثناء إجراء اختبار معين لكشف الكذب.
الإضاءة التاسعة عشر :
عندما نستظهر هذه العلاقة والتفاعل بين العقل والفؤاد وسباقهما للقلب واقناعه كلا بما لديه فإننا سنتمكن من فهم الحديث الشريف :
حَدَّثَنَا أَبُو هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يَقْلِبُ وَيَصْرِفُ كَيْفَ شَاءَ»
وهنا تظهر بوضوح هاتين القوتين (اصبعي الرحمن) اللتين تقلبان (قلب) العبد ، فالله الذي يريه الحق والباطل بعينيه ويسمعه بأذنيه ويتفاعل معه بفؤاده آتاه عقلا وفطره على الحق وطهره من الباطل فإن استعلى الفؤاد على العقل تحول القلب وانقلب الى الباطل وإن استعلى العقل على الفؤاد تحول القلب وانقلب عن الباطل إلى الحق فالقرار زمامه بيد العبد وعلى الله الدلالة والهداية والتوفيق فهذين (الاصبعين) من خلق الله عقلا وفؤادا يتنازعان القلب ويتجاذبانه وهو بالخيار على أي اتجاه ينقلب ، ومن عدله جلت قدرته أن أودع الأمانة في ابن آدم (أمانة الاختيار) فيحاسبه على ما يختار بذاته ولا يأطره أو يجبره على شيء ، وفي رواية :ما من قلب إلاّ هو بين اصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، فكان العقل مناط الإقامة والصلاح وكان الفؤاد مناط الهوى والزيغ.
وهذا لا يعني امتناع الجبر على الله بل إنه جل شأنه يملك القدرة المطلقة على كل شيء بلا قيد ولا حد.
ومن الناس من ضل في فهم المسألة فنسب العضو المادي إلى الله تعالى وظن أن القلب المراد به القلب الحسي والمضخة التي تدفع الدم في الجسد البالي الفاني وهذا الفهم قد يشي بتجسيم باطل في حق الله ، في حين أن هذا غير متحقق بصورته التي يتوهمها البعض ، ولكنها كما أسلفنا متسقة مفهومة لا توقع في النفس الشك أو الريب أو الاستغراب ، فقد أشار مفهوم الاصبعين إلى قدرتين أودعهما الله في قلب ابن آدم هما القلب والفؤاد يقلبان رأي العبد ويغيران اتجاهه من عقيدة إلى أخرى ومن سلوك إلى سلوك ، وإن أراد الله هداية عبد من عبادة كبت فؤاده وأعلى عقله فلا يرى القلب أمامه سوى الحق فيذعن ، والعكس صحيح ، وفي نهاية الأمر فإن القلب مالك الإرادة فهو ينوب عن النفس في الاختيار بين السبيلين.
وهنا نتمكن من فهم الرسالات ، فالله يخاطب برسالاته عقول العباد ويستحثها على الوقوف والتقدم على الهوى والعاطفة والشهوة فينقلب قلب العبد من المعصية إلى الطاعة ومن الكفر إلى الإيمان ، فإن أبى وفضل الركون للفؤاد والعاطفة فإن الله يمده بالقوة والمال والحفظ والخيرات ، فيظن المسكين أن منهجه حق ولولا ذلك لانتقم الله منه فيتمسك بكفره ويعتوا عتواً شديداً ، وهنا يحق عليه القول فيبدو ما يحدث وكأن الله أضله ولكن الحقيقة أنه ضل بإرادته ورغبته بلا جبر ولا إرغام.
الإضاءة العشرون :
إن القلوب الغلف هي تلك القلوب التي طغت عليها الأفئدة فغلفت القلب بغلافها وسيطرت على منافذها حتى صمت آذانها عن سماع الحق وأبصارها عن رؤيته فحيدت العقل وأطغت الفؤاد عليه فرفضت الحق تحت قيم الفؤاد الشريرة (الكبر ، الحسد ، الطمع ، الشح ).
الإضاءة الحادية والعشرون:
من فضل الله على بني آدم أن جعل القرار لدى القلب لتتحقق ميزة الاختيار وتتحقق المسؤولية عن الأفعال الصادرة من العبد ، فالفؤاد يقول للقلب شيئا والعقل قد يقول شيئا آخر فيكون الاختيار بيد القلب إن انساق خلف الفؤاد خاب وإن كان انسياقه خلف العقل سلم وفاز.
الإضاءة الثانية و العشرون :
لم يكن الخضر عليه السلام سوى ملكا من الملائكة جعله الله رجلا ولبس عليه ما يلبسون غاب عنده الفؤاد فلم تدخله عاطفة الحزن تجاه أصحاب السفينة ، ولم تدخله عاطفة الانتقام والبغض تجاه أهل القرية التي منع أهلها الضيافة عنه وعن موسى عليه السلام ، ولم تأخذه شفقة ولا عطف تجاه الغلام الذي ذبحه لأنه يتعامل بالعقل ويقصي الفؤاد ، العقل الذي يتبع أوامر الله وينفذها مقصيا الفؤاد بالكلية بل لا يحمل في قلبه فؤاداً ، وفي ذات الوقت كان فؤاد موسى عليه السلام متوقداً مشتعلا تجاه أفعال الخضر رافضا لها متعجبا من فعله ، فكان الدرس الرباني لعبده موسى حمل دروسا هامة منها أن اتباع شرائع الله وأوامره لا تخضع للفؤاد وعواطفه بل تخضع للعقل وثوابته.
الإضاءة الثالثة والعشرون:
الملكين هاروت وماروت لم يحملا أفئدة تدفعهما للإيمان بالسحر واستعماله أو الانحراف بحيازتهما لذلك العلم الشرير فاختار الله ملائكة لهذا الغرض فمن جهة لديهما من القدرات والخوارق ما يفوق السحر والتخييل فلا ينتفعان اصلا بذلك العلم ومن جهة أخرى فهما لا ينبغي لهما أن يخالفان أمر الله وينحرفان لشهوة أو رغبة من فؤاد زائغ يصغي القلب ويحرفه عن الحق كما يفعل أكثر الناس.
الإضاءة الرابعة والعشرون :
إن السمع والبصر الذي ينفذ للفؤاد يختلف عن السمع والبصر الذي ينفذ للعقل ، فالبصر النافذ للعقل يسمى بصيرة يخضع فيه العقل معطيات السمع والبصر المادي لثوابت العقل والفطرة فإن خالفها انتفت عنه السمع والأبصار حتى لو تحققت الرؤية المادية ، فالرؤية المادية بلا إعلاء للعقل وفي ظل اتباع الفؤاد تظل رؤية وليست بصرا وبصيرة واستماعا وليست سمعا فلم تنتج إعلاء للعقل بل أعلت الفؤاد وشهواته على العقل وفطرته فكان الإنسان في مقام الأعمى والأصم حين لم ينتج عن أذنه وعينيه فائدة تذكر حينذاك تعلي العقل على الفؤاد .
الإضاءة الخامسة والعشرون:
يقول تعالى (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) فابن آدم يتبع عقله فيتحقق الإيمان ويفضي به إلى الشكر ويتبع الفؤاد فيهوي به للكفر ، والقلب مناط الفعل وهو قائد النفس (اللوامة ، الأمارة ، المطمئنة) إنما هي أحوال للنفس الواحدة وليست أنفس متعددة ، فالنفس الأمارة هي التي اعتلى فيها الفؤاد فغلف القلب فاستأمر بأمره وأقصى العقل وكبت فطرته ، فإن ثاب ورجع و وجدت نفسه أثر سوء انقيادها لشهوة الفؤاد فأقصاه واسترجع العقل وأعلاه فإن العقل يلوم القلب فيكون ذلك حال النفس فتسمى اللوامة.
الإضاءة السادسة والعشرون :
إن الإتيان بمفردة القلب في القرآن الكريم دائما يحمل دلالة على ما خفي من الاعتقاد عن الخلق فجاز أن يكون الظاهر من أفعال العبد مخالفا لما يحويه قلبه ، أو أن لا يفعل بالضرورة ما يوافق الاعتقاد الخفي في داخل النفس وجوهرها وهو القلب ، لذا وجب أن نفرق دوما بين المتبادر للذهن عند ورود مفردة القلب – العضلة المستقرة في الجسد- وبين قلب النفس وجوهرها الذي يشارك النفس ذاتها في الخفاء والاستتار.
الإضاءة السابعة والعشرون :
إن القلب الذي يتبع الفؤاد إنما يتبع الهوى لأنه يهوي به أسفل سافلين ، فالفؤاد صنو الهوى ، فإن عرض للقلب أمرين قدم العقل ما يجب على النفس اتباعه، وقدم الفؤاد ما تشتهي النفس أتباعه فإنه أطاع القلب رأي الفؤاد فقد أطاع الهوى وزاغ إليه، ومال عن الحق والعقل إلى الباطل والشهوات.
ولك أيها المسلم أن تستكشف مصدر رأيك وميولك هل هي بدافع الفؤاد ؟ أم بدافع العقل ولك بعد ذلك أن تقدم منهما ما شئت ، إلا أن اتباع العقل لا يردك بإذن الله نادما أو متحسرا.
الإضاءة الثامنة والعشرون:
إن اشتعال الفؤاد بالمشاعر المفتئدة كالغضب والشهوة والحسد والكبر والبغض والحقد أمر واقع لكل بني آدم بدرجات مختلفة ، ولكن كل الأفعال الناشئة عن تلك المشاعر إنما هي صورة لخضوع القلب للفؤاد فالمشاعر تنسب للفؤاد ولكن الأفعال تنسب للقلب فهو صاحب القرار الأخير والفاعل لكل ما يعرض له فمنه تنبت النية والنفس تأمر بما يحقق هذا الفعل، فأي فعل يتماشى مع دوافع الفؤاد فإنه فعل سوء فإن خالفه العقل فخضع القلب للعقل كانت محصلة الأمر خيراً وصلاحاً.
لذلك نجد أن الله تعالى في كتابه الكريم ينسب الأفعال الى القلوب فهي من يتبنى المشاعر فيترجمها إلى أفعال ، فإن أخضعها للعقل فقد أفلح وأصاب ، أما إن سلمها للعاطفة والفؤاد فقد أخطأ وأساء.
الإضاءة التاسعة والعشرون:
ينظر الناس للواحد منهم بعين الميزان فيزنون أفعال العبد المتئدة الواعية فينعت بالعقل ، وكلما زادت درجة الاتزان ازداد مستوى العقل لاحتكامه على القلب وهيمنته عليه وتقدمه عن الفؤاد وسيطرته عليه.
فوظيفة العقل بتقييد الفؤاد والإمساك بزمامه هي التي ترسم صورة العبد لدى الخلق وهي حرية بالدراسة والبحث والتنقيب ففيها اسرار للنفس تقود لفتوح هائلة في أصول التعامل معها وسياقتها الى الخير وزجرها عن الشر ، وللعقل اسم آخر وهو “الحجر” الذي يحجر الفؤاد عن الانزلاق للشهوة والشذوذ عن حدود الحق ، فالإلحاد والكفر هو خضوع لقيم الفؤاد وغياب لقيم العقل فالكافر يكفر بمالا يدركه بحواسه برغم أن العقل يقول بأن إدراك الرب بالحواس إحدى دلائل فساد ربوبيته ، ولأن العقل يقيد الفؤاد عن الجموح والانطلاق خارج القيم العقلية فيحصل الكفر ويحدث الجحود.
وهنا يستقر لدينا بأن العقل يقتضي الإيمان قطعاً ومن لا إيمان له لا عقل له.
الإضاءة الثلاثون:
إن العبد المسلم عندما يأتي طاعة مخصوصة كالصيام أو الصلاة ونحوها فإنه يأتيها مدفوعا برغبة القلب وتوجيهه ، وهو يستمد شرعيتها لديها من وزنها بميزان العقل.
فنجد مثلا أن الحيوانات والعجماوات لا يمكن أن تمتنع عن الطعام صياماً لفترة محدودة وبصفة معلومة لأن أفئدتها تسوق قلوبها ، وشهوتها للطعام وهي من ابسط الشهوات لا يوجد ما يعقلها ويقيدها ، وكذلك العبد العاصي ، فقلبه يستسلم للفؤاد فيخترق الفرائض وينعتق من قيود العقل التي تدفعه للعبادة فيكون في درجة العجماوات.
قد يقول قائل إن بعض الحيوانات تأتي بأفعال عجيبة تدل على ذكاء وبصيرة قد يفتقدها بعض البشر ، فنقول لو تتبعت الكيفية التي يجري تدريب العجماوات على تلك الأفعال لوجدت بأنها تكافأ في كل مرة تأتي فعلا مطلوبا عند المدرب تكافأ بطعام أو تحرم من شيء أو يجري ايقاع عقوبة عليها وبذلك فإن هذه الحالة في حقيقتها هي خضوع للشهوة والفؤاد وليس لصورة من صور العقل ابدا ، لذلك فإنها لا تلقي بالا لمدربها عند الشبع مثلا او اذا امنت عقابه.
إن بنو آدم ممن ينتظم في اتباع أنظمة بلاده لقناعته بصلاحيتها وقيامها على حياة مجتمعه وصلاح أمر قومه فهو يوظف العقل بصورة سليمة ، وهذا النمط من الناس هو من أقرب الخلق لاعتناق الإسلام إن لم يكن مسلما ، ومن أنفع البشر لمجتمعه.
أما أولئك الذين لا يأتون فرائضهم ولا يلتزمون بقوانين مجتمعاتهم إلا خشية عقوبة أو رغبة في مثوبة دنيوية فهؤلاء لا يختلفون عن حيوانات السيرك إن لم يكونوا أسوأ ، فعند أول حالة فوضى وغياب للنظام تراهم يعيثون في الأرض فسادا بصورة تأنف منها العجماوات وتعجب لها الشياطين.
إن هذه المسألة هي اختبار حقيقي للعبد المسلم هل هو مسلم لله أم مستسلم للسلطة ؟ هل يأتي فرائضه خوفا من قيل وقال ورياء وسمعة ؟ أم قناعة ومحبة وصلاحا ؟.
فهنا نجد الفرق بين المسلمين المستسلمين للسلطة الذين قال الله تعالى عنهم:
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:14]
فالمراد قولوا استسلمنا لسلطتك وحكمك يا محمد ولم نستسلم لله ، بما يحقق الاسلام كدين يرتبط ويخضع فيه العبد لسلطة الله الواحد القهار، الاسلام الذي يدفع الفرد ذاتيا لاتيان الطاعة وترك المعصية محبة وطاعة لله تعالى.
وهو ما دعا به نبي الله ابراهيم عليه السلام عندما قال :
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128]
ولعل القارئ الكريم يطلع على ما كتبته من توضيح لأصول الدين ونقض مفهوم مراتب الدين الذي يتعلمه ابناؤنا وبناتنا وتوضيح ماهية المفهوم الحقيقي للاسلام والايمان والاحسان.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin