شواهد قرآنية
سأعبث قليلاً في ترتيب المفرادات ليتحقق العرض السليم لمادة هذا البحث وسأبدأ بعرض مواضع ذكر الفؤاد في القرآن الكريم ، ثم اعلق على كل آية ليتمكن القارئ الكريم عرض هذا المفهوم على الإضاءات السابقة ونرى مدى اتساقها واتفاقها مع بعضها البعض والفؤاد مرده في اللغة إلى(الفأد) وهو الشوي والتوقد ، المعنى المنسق فعلا مع وظيفته التي يتوقد فيها الفؤاد ويشتعل عاطفة تجاه المواقف المختلفة بدرجة قد تصل للجور والتطرف والشطط حال تغييب القلب للعقل وتقديم الفؤاد عليه:
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [القصص:10]
وطالما كان الفؤاد مناط العاطفة فقد كادت أم موسى أن تبدي ماحدث لوليدها فرقاً وخوفاً عليه فكان الفؤاد سيفسد الأمر لولا أن الله أعلى العقل ومكنه على الفؤاد فحصل الربط على القلب فيتحقق الإيمان ، وهنا فإن الفؤاد يقدم ما يستقر لديه من مشاعر وعواطف على ما يوحيه العقل إليه من قناعات ، والخضوع لتلك العواطف الظاهرة وتجاهل نداءات العقل الباطنة هو مكمن الخطر.
ونجد ان الله تعالى اتجه لقلبها فربط عليه حتى لا يتأثر بما ضج به الفؤاد ولم يمت الفؤاد أو يلغيه لأنه مكون رئيسي من مكونات النفس البشرية.
ولذلك فما يستقر في القلب من عقيدة هو الأصل وهو ما يُعتمد عليه أما الفؤاد وما يظهره على صفحات الوجه فيمكن أن يتم تزويره وتحويره لدرجة يصعب على الخبير معرفته ، فالكافر بالإكراه لا يقع كفره طالما كان (قلبه مطمئن بالإيمان).
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم:11]
ولما كان الفؤاد متعلق بالحواس فيتفاعل مع ما يرى ويسمع ولقد بلغ من شدة حقيقة ما رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج ما استقر في فؤاده واطمئن إلى حقيقته برغم ضخامته وغرابته وعجائبه ، فطالما كان الأمر رؤية مباشرة فمحلها الفؤاد وهنا نجد أن العقل الممتلئ بالإيمان صدّقه الفؤاد وهذه الحالة المثالية التي يتوافق فيها مكونات القلب الرئيسية فيصطبغ القلب بصبغة الإيمان الكامل.
ومن ثمرات هذا المفهوم هو تأكيد أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأشياء والأشخاص والعوالم والأبعاد المختلفة إنما كان على وجه الحقيقة ولم يكن خيالات أو وحي أو رؤيا بل حقيقة قادنا لتقرير ذلك مفهوم الفؤاد ووظيفته وأدواته.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } [الفرقان:32]
فالفؤاد قد يؤثر على العقل بدافع الخوف والحزن فيؤذي الإيمان فالفؤاد بحاجة للذكرى المستمرة من نوافذ السمع والبصر حتى لا تطغى عاطفة سلبية تحيده عن السبيل القويم فكان استمرار انصباب الوحي القرآني طيلة البعثة الشريفة وسيلة لتثبيت الفؤاد فكلما طال الأمد عن الفؤاد حزن أو شك نزلت جرعة قرآنية فثبتته على الحق ، ونرى كيف استعمل مفردة (القرآن) التي تشير للقراءة وبالتالي التعلق بالنظر و السماع ومن ثم النفاذ للفؤاد من منافذه المتعلقة به.
{ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود:120]
فالقصص القرآني يستثير عواطف ويكبح أخرى فيثبت الفؤاد على الحق ولا ينحرف تحت وطاة وثقل الدعوة والتكذيب والأذى فيريه كيف أن الله ختم لكل الأنبياء بالنصر وأن ما يعتريك اليوم يا محمد من طرد وصد وتكذيب وسباب قد اعترى من سبقك من الرسل فلا تبتئس ولا يضج فؤادك باليأس والخوف والحزن فكانت تسلية فؤاده صلى الله عليه وسلم عن واقعه متحققة بهذا القصص العظيم.
{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء:36]
ولما كان الفؤاد في محيط سيطرة الإنسان فإن استعلاءه وسيطرته بما يصله من محيطه المنظور والمسموع قد يؤدي لقول الباطل واعتقاده ، فينهى الله القلب عن الخضوع لشهوة الفؤاد والعقل عن الضعف والهوان لأن الله سيسأل النفس عن تلك الحواس وكيف وظف الفؤاد وظيفة فاسدة أو أخضع الشهوة للعقل فصلح القلب وصلح عمله.
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37]
وخليل الله ابراهيم عليه السلام يدعو الله أن يقيض لهم من يحمل في جوانحه العطف والخير والمحبة في نفسه ويتحقق لهم الرزق فالأفئدة تحمل العواطف والشفقة على هذه المرأة الوحيدة ووليدها وتحمل إليهم الرزق في هذا الوادي المقفر.
قال ابن عاشور رحمه الله في ذلك :
(والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب . والمراد به هنا النفس والعقل .
والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم . فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر { أفئدة } لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم { من الناس } ، ف { من } بيانية لا تبعيضية ، إذ لا طائل تحته . والمعنى : فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم . إ هـ)
أما في قوله أن الفؤاد هو القلب فقد جانبه الصواب في ذلك ، أما في قوله أن مسير الناس في شوق ومحبة فهو ما يناسب الأفئدة من حيث طبيعتها وهو العاطفة الجياشة.
إن الدعوة بتسخير الأفئدة التي يدعو إبراهيم عليه السلام بها لتتجه لموضع زوجه وابنه كان دافعها الشفقة على هاجر وإسماعيل عليهما السلام ورجاءه في نجدتهما بأناس يحملون في قلوبهم قلوبا رقيقة تعتني بهما وتؤنس وحشتهما.
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:78]
فالطفل خلال سنوات عمره الأولى يتشكل العقل ويبدأ يلتحق بالفؤاد سرعة ونمواً ليكتسب الخبرات حتى يبدأ تأهيله للتكليف عند البلوغ ، فكان ترتيب تلك الحواس والمكونات وفق أولوية الخلق فبدأ بالسمع الذي يتخلق في بطن الأم ، ثم الأبصار التي تكتمل بعد الولادة وتبدأ في الأسابيع الأولى ثم الفؤاد الذي يبدأ يتشكل لدى الطفل على هيئة عواطف ومشاعر فياضة تجاه أمه في مرحلة لاحقة ثم العقل الذي لا يكتمل إلا في مرحلة البلوغ فتبدأ معه مرحلة التكليف.
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [إبراهيم:43]
ولما كان الخوف الشديد عاطفة منشؤها الفؤاد فإن افئدتهم تطير خوفاً وهلعاً مما ينتظرها من عذاب ، يقول صاحب التحرير رحمه الله (وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه بليغ ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول .) ا هـ.
ونرى كيف أن منافذ الفؤاد نجدها في آيات القرآن الكريم حاضرة في غالب المواضع فإينما تجد الفؤاد تجد مفردات (الطرف، السمع ، البصر) صراحة أو ضمنا ، في ذات الآية أو في سياقها.
{ وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [الأنعام:113]
فتميل الافئدة لزخرف قول (شياطين الإنس والجن) الذي يستجلب عواطفهم ويوافق شهواتهم في دفع نور الإيمان عنهم فيستعلي الفؤاد على العقل ويستقوي عليه فيمرض القلب ويميل عن الطريق القويم ، وياتي الإصغاء في الاصل بمعنى الاستماع ، ولما كان الفؤاد وعاء من أوعية الاسماع ، والأسماع قناة من قنوات الفؤاد كان استعمال الإصغاء أنسب مايرد معه هو الفؤاد كما سبق.
جاء في تفسير الطبري رحمه الله تعالى:
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا =(ولتصغى إليه)، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . إ هــ.
وهنا نلحظ الخلط في تسمية الفؤاد بالقلب ولكنه من وجه آخر جائزٌ في مفهومنا هذا إذ أن استعلاء الفؤاد يصبغ القلب بصبغته فتميل وتنقلب استجابة لشهوة الفؤاد وتاثيره.
{ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [الهمزة:7]
وهي نار الله الموقدة ، واطلاعها على الأفئدة لكونها مناطق الشر والعصيان من حيث استعلائها على العقل وتقديم شهوتها وعاطفتها على الحق واستعمالها في مالا ينبغي فتكون أول من يجني ثمرة فعلها ، وكذلك فإن الأفئدة كما رأينا من وظيفتها يدخلها الخوف الشديد والهلع والحزن والرعب فكان اطلاع النار الموقدة عليها من خلال مصبات الفؤاد وهي الابصار تشعل الفؤاد رعباً وتفرغه هواءً فيكون عذاب بجانب الم الحرق بنار جهنم وعذابها.
وكان التعبير بأن النار هي من تطلع على الافئدة وليست الافئدة من خلال حواسها من تستطلع النار بل أن الأفئدة من شدة العذاب ورعب الموقف تتجنب النظر لشدة ما يداخلها من خوف ورعب ولكن النار تطلع بذاتها لداخل تلك الافئدة المكذبة العاصية المغضوب عليها إمعانا في وصف جسامة هذا المآل وسوءه وحجم الألم الذي يدخل للنفس.
سأعبث قليلاً في ترتيب المفرادات ليتحقق العرض السليم لمادة هذا البحث وسأبدأ بعرض مواضع ذكر الفؤاد في القرآن الكريم ، ثم اعلق على كل آية ليتمكن القارئ الكريم عرض هذا المفهوم على الإضاءات السابقة ونرى مدى اتساقها واتفاقها مع بعضها البعض والفؤاد مرده في اللغة إلى(الفأد) وهو الشوي والتوقد ، المعنى المنسق فعلا مع وظيفته التي يتوقد فيها الفؤاد ويشتعل عاطفة تجاه المواقف المختلفة بدرجة قد تصل للجور والتطرف والشطط حال تغييب القلب للعقل وتقديم الفؤاد عليه:
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [القصص:10]
وطالما كان الفؤاد مناط العاطفة فقد كادت أم موسى أن تبدي ماحدث لوليدها فرقاً وخوفاً عليه فكان الفؤاد سيفسد الأمر لولا أن الله أعلى العقل ومكنه على الفؤاد فحصل الربط على القلب فيتحقق الإيمان ، وهنا فإن الفؤاد يقدم ما يستقر لديه من مشاعر وعواطف على ما يوحيه العقل إليه من قناعات ، والخضوع لتلك العواطف الظاهرة وتجاهل نداءات العقل الباطنة هو مكمن الخطر.
ونجد ان الله تعالى اتجه لقلبها فربط عليه حتى لا يتأثر بما ضج به الفؤاد ولم يمت الفؤاد أو يلغيه لأنه مكون رئيسي من مكونات النفس البشرية.
ولذلك فما يستقر في القلب من عقيدة هو الأصل وهو ما يُعتمد عليه أما الفؤاد وما يظهره على صفحات الوجه فيمكن أن يتم تزويره وتحويره لدرجة يصعب على الخبير معرفته ، فالكافر بالإكراه لا يقع كفره طالما كان (قلبه مطمئن بالإيمان).
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم:11]
ولما كان الفؤاد متعلق بالحواس فيتفاعل مع ما يرى ويسمع ولقد بلغ من شدة حقيقة ما رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج ما استقر في فؤاده واطمئن إلى حقيقته برغم ضخامته وغرابته وعجائبه ، فطالما كان الأمر رؤية مباشرة فمحلها الفؤاد وهنا نجد أن العقل الممتلئ بالإيمان صدّقه الفؤاد وهذه الحالة المثالية التي يتوافق فيها مكونات القلب الرئيسية فيصطبغ القلب بصبغة الإيمان الكامل.
ومن ثمرات هذا المفهوم هو تأكيد أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأشياء والأشخاص والعوالم والأبعاد المختلفة إنما كان على وجه الحقيقة ولم يكن خيالات أو وحي أو رؤيا بل حقيقة قادنا لتقرير ذلك مفهوم الفؤاد ووظيفته وأدواته.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } [الفرقان:32]
فالفؤاد قد يؤثر على العقل بدافع الخوف والحزن فيؤذي الإيمان فالفؤاد بحاجة للذكرى المستمرة من نوافذ السمع والبصر حتى لا تطغى عاطفة سلبية تحيده عن السبيل القويم فكان استمرار انصباب الوحي القرآني طيلة البعثة الشريفة وسيلة لتثبيت الفؤاد فكلما طال الأمد عن الفؤاد حزن أو شك نزلت جرعة قرآنية فثبتته على الحق ، ونرى كيف استعمل مفردة (القرآن) التي تشير للقراءة وبالتالي التعلق بالنظر و السماع ومن ثم النفاذ للفؤاد من منافذه المتعلقة به.
{ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود:120]
فالقصص القرآني يستثير عواطف ويكبح أخرى فيثبت الفؤاد على الحق ولا ينحرف تحت وطاة وثقل الدعوة والتكذيب والأذى فيريه كيف أن الله ختم لكل الأنبياء بالنصر وأن ما يعتريك اليوم يا محمد من طرد وصد وتكذيب وسباب قد اعترى من سبقك من الرسل فلا تبتئس ولا يضج فؤادك باليأس والخوف والحزن فكانت تسلية فؤاده صلى الله عليه وسلم عن واقعه متحققة بهذا القصص العظيم.
{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء:36]
ولما كان الفؤاد في محيط سيطرة الإنسان فإن استعلاءه وسيطرته بما يصله من محيطه المنظور والمسموع قد يؤدي لقول الباطل واعتقاده ، فينهى الله القلب عن الخضوع لشهوة الفؤاد والعقل عن الضعف والهوان لأن الله سيسأل النفس عن تلك الحواس وكيف وظف الفؤاد وظيفة فاسدة أو أخضع الشهوة للعقل فصلح القلب وصلح عمله.
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37]
وخليل الله ابراهيم عليه السلام يدعو الله أن يقيض لهم من يحمل في جوانحه العطف والخير والمحبة في نفسه ويتحقق لهم الرزق فالأفئدة تحمل العواطف والشفقة على هذه المرأة الوحيدة ووليدها وتحمل إليهم الرزق في هذا الوادي المقفر.
قال ابن عاشور رحمه الله في ذلك :
(والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب . والمراد به هنا النفس والعقل .
والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم . فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر { أفئدة } لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم { من الناس } ، ف { من } بيانية لا تبعيضية ، إذ لا طائل تحته . والمعنى : فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم . إ هـ)
أما في قوله أن الفؤاد هو القلب فقد جانبه الصواب في ذلك ، أما في قوله أن مسير الناس في شوق ومحبة فهو ما يناسب الأفئدة من حيث طبيعتها وهو العاطفة الجياشة.
إن الدعوة بتسخير الأفئدة التي يدعو إبراهيم عليه السلام بها لتتجه لموضع زوجه وابنه كان دافعها الشفقة على هاجر وإسماعيل عليهما السلام ورجاءه في نجدتهما بأناس يحملون في قلوبهم قلوبا رقيقة تعتني بهما وتؤنس وحشتهما.
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:78]
فالطفل خلال سنوات عمره الأولى يتشكل العقل ويبدأ يلتحق بالفؤاد سرعة ونمواً ليكتسب الخبرات حتى يبدأ تأهيله للتكليف عند البلوغ ، فكان ترتيب تلك الحواس والمكونات وفق أولوية الخلق فبدأ بالسمع الذي يتخلق في بطن الأم ، ثم الأبصار التي تكتمل بعد الولادة وتبدأ في الأسابيع الأولى ثم الفؤاد الذي يبدأ يتشكل لدى الطفل على هيئة عواطف ومشاعر فياضة تجاه أمه في مرحلة لاحقة ثم العقل الذي لا يكتمل إلا في مرحلة البلوغ فتبدأ معه مرحلة التكليف.
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [إبراهيم:43]
ولما كان الخوف الشديد عاطفة منشؤها الفؤاد فإن افئدتهم تطير خوفاً وهلعاً مما ينتظرها من عذاب ، يقول صاحب التحرير رحمه الله (وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه بليغ ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول .) ا هـ.
ونرى كيف أن منافذ الفؤاد نجدها في آيات القرآن الكريم حاضرة في غالب المواضع فإينما تجد الفؤاد تجد مفردات (الطرف، السمع ، البصر) صراحة أو ضمنا ، في ذات الآية أو في سياقها.
{ وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [الأنعام:113]
فتميل الافئدة لزخرف قول (شياطين الإنس والجن) الذي يستجلب عواطفهم ويوافق شهواتهم في دفع نور الإيمان عنهم فيستعلي الفؤاد على العقل ويستقوي عليه فيمرض القلب ويميل عن الطريق القويم ، وياتي الإصغاء في الاصل بمعنى الاستماع ، ولما كان الفؤاد وعاء من أوعية الاسماع ، والأسماع قناة من قنوات الفؤاد كان استعمال الإصغاء أنسب مايرد معه هو الفؤاد كما سبق.
جاء في تفسير الطبري رحمه الله تعالى:
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا =(ولتصغى إليه)، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . إ هــ.
وهنا نلحظ الخلط في تسمية الفؤاد بالقلب ولكنه من وجه آخر جائزٌ في مفهومنا هذا إذ أن استعلاء الفؤاد يصبغ القلب بصبغته فتميل وتنقلب استجابة لشهوة الفؤاد وتاثيره.
{ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [الهمزة:7]
وهي نار الله الموقدة ، واطلاعها على الأفئدة لكونها مناطق الشر والعصيان من حيث استعلائها على العقل وتقديم شهوتها وعاطفتها على الحق واستعمالها في مالا ينبغي فتكون أول من يجني ثمرة فعلها ، وكذلك فإن الأفئدة كما رأينا من وظيفتها يدخلها الخوف الشديد والهلع والحزن والرعب فكان اطلاع النار الموقدة عليها من خلال مصبات الفؤاد وهي الابصار تشعل الفؤاد رعباً وتفرغه هواءً فيكون عذاب بجانب الم الحرق بنار جهنم وعذابها.
وكان التعبير بأن النار هي من تطلع على الافئدة وليست الافئدة من خلال حواسها من تستطلع النار بل أن الأفئدة من شدة العذاب ورعب الموقف تتجنب النظر لشدة ما يداخلها من خوف ورعب ولكن النار تطلع بذاتها لداخل تلك الافئدة المكذبة العاصية المغضوب عليها إمعانا في وصف جسامة هذا المآل وسوءه وحجم الألم الذي يدخل للنفس.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin