ثمّ قال المصنّف رضي الله عنه:
من أفطر الفرض قضاه ويزد *** كفارة في رمضان إن عمد
لأكل أو شرب فم أو للمني *** ولو بفكر أو لرفض ما بني
بلا تأول قريب يباح *** للضر أو سفر قصر أي مباح
ذكر في هذه الأبيات حكم الراجع إلى الخلق قبل استغراقه في مشاهدة الحقّ, وأثبتهم بعد إمساكه عنهم أي نقض عهده وبطل صومه بعد ادعائه لا يرجع للخلق إلاّ إذا رجع إليهم بالله ثم رجع بنفسه, فقد وجب عليه في شرع القوم أن يكفر أي ما وقع فيه من المخالفة, ونقض العهد بأن يمسك ثانيا عن كلّ ما سبق, ويخرج عن الحسّ, ويستغرق في المعنى استغراقا كليّا, ولا يرجع للخلق إلاّ إذا تحقّق بتعظيمهم, وعلم يقينا من نفسه أنّه لا يعود إليهم, وتحقّق زوال الكلّ من قلبه.
قد تقدّم أنّ إمساك المريد عمّا سوى الله في حضرة تعلّق الأسماء والصفات يتعذر في الغالب, فلهذا لا يجب عليه شهود الذات في هذا العالم قبل معرفته لأصله لكثرة مظاهر الأسماء والصفات, وإذا وقع ونزل وتمكّن من الشهود في هذا العالم قبل الخروج عليه فذلك هو المطلوب, فينبغي له أن يمسك عن رؤية الغير, وليدم على تلك الحالة, وقد نبّه الحق سبحانه وتعالى على من لم يصبر على الطعام الواحد أي على توحيد الذات والتشوّف لما سوى ذلك من المصنوعات: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا / البقرة آية / 61), والمتبادر من فهم معنى مصر على مقتضى ما نحن بصدده هي مركز النفس, وما فيها من الشهوات الخفيّة والجليّة المشار إليها بقوله تعالى: (ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها / البقرة آية / 61), وكلّ شهوات النفس مقترنة بوجود الذلّة, ولهذا ضربت عليهم الذلّة وباءوا بغضب من الله, فلا ذلّ إلاّ مع وجود النفس ولا عزّ إلاّ مع وجود الأنس, وأمّا الكفارة عليه أن يرجع المريد لله, ويكفّر عمّا صدر منه ويبادر فيما يجبر كسره, لئلا يسقط من عين الله حيث نقض عهده مع الله في حضرة الله, ثمّ اعلم أنّ المريد إذا وقعت له الإساءة ونقض عهده مع الله وبطل صومه, فينبغي له الرجوع على الفور, ويقصد الله تبارك وتعالى ويرجع إليه بقلبه المنيب ويتوسط له بأحبابه ذوي القلب السليم والشرف والتكريم ويجمعهم وهو أعلم بهم, لأنّهم سفراء الله بينه وبين خلقه.
(7): كتاب الحجّ:
الحجّ في اللغة هو القصد مطلقا, وعند القوم هو القصد إلى مقام لا يمكن المزيد عليه, ولا يساعد التلفظ بكنهه وحقيقته, لعدم وجود الألفاظ المساعدة في التعبير على ماهيته, فمن أجل هذا قلّ من يتكلّم عليه, كما قلّ من يصل إليه من عامّة القوم, لفقد الاستطاعة, والحجّ لمن استطاع إليه سبيلا, ولهذا كان واجبا مرّة في العمر, لقول المصنّف رضي الله عنه:
الحجّ فرض مرّة في العمر *** أركانه إن تركت لم تجبر
الإحرام والسعي وقوف عرفة *** ليلة الأضحى والطواف ردفه
لقد نبّه إلى أنّ الأركان هنا أربعة, أوّلها: الإحرام وذلك يحرم على صاحب هذا المقام حالة تلبسه به كلّ حلال فضلا عن الحرام تعظيما لحرمة الله, والثاني السعي وهو تقلّب العارف بين جلاله وجماله إلى أن يصير الجلال عنده هو عين الجمال, لخروجه عن نفسه فضلا عن إرادته واختياره, والثالث الوقوف بعرفة وهذا محط الرحال لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (الحجّ عرفه), وقد عبّر أكثر العارفين عن هذا المقام, ولم يستوفوا الكلام على معانيه, لأنّهم مقصّرون من وجوه, وكلّما يقصد صاحب هذا المقام التعبير إلاّ ويزداد في التقصير, لفقد التعبير والإشارة, إلاّ أنّهم جعلوا للحجّ بعض الألفاظ التي تناسب في الكلام لا في المقام وذلك يعرف عندهم بالطمس أو العمى, وكلّما أراد العارف الإفصاح عن هذا المقام إلاّ ويزداد عجمه, وأغلبهم محجوبون عن هذا المقام, وربّما ينكر أحدهم من تكلّم فيه ويرى ذلك من مدهشات الأمور, لأنّ العارف من حيث هو إلاّ ويكتفي بالوصول, وكيف إذا قيل له: إنّ في الوصول وصولا, وقد قال سلطان العاشقين في هذا المعنى:
وإن اكتفى غيري بطرف خيالكم *** فأنا الذي بوصالكم لا أكتفي
وقد طلب منّي بعض الإخوان أن نرشح له بنصيب من ذلك الشراب الصعيب, والسرّ الغريب الذي قلّ من يراه فضلا عن أن يتعاطاه, فلمّا فهّمته بترشيح بين تلويح وتصريح وعبرت له بالتقريب, قال لي: تالله إنّ هذا الأمر عجيب قد تعيّن علينا الابتداء, مع أنّه كان من أهل المشاهدة, فلمّا وصلوا ابتدءوا السير منه, فقد ساروا أولا لله, ثمّ ساروا في الله, قال سيدي (أبو مدين الغوث) رضي الله عنه في حكمه: (السائر ذاهب إليه والعارف ذاهب فيه), وهذا شيء من وراء العقول لا يجب إلاّ على المستطيع استطاعة تامّة, والرابع الطواف بعد الوقوف, والمراد به هو الرجوع إلى ظهور الذات المستحقة للألوهيّة المتصفة بصفة المعاني والمعنويّة والجولان في معنى صلوحيّة التعلّق وكيفيّات إظهار الخالق والمخلوق وهو المعبّر عنه بالطواف.
قسم أفعال الحج إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول الأركان: وهي الأصول إن تركت لم تجبر بشيء, القسم الثاني الواجبات: وهي التي تجبر بالدم, القسم الثالث إن تركت أفعاله فلا شيء فيه قد يمكن الاستغناء عنها في هذا المحل والمراد بالدم الذبح أو النحر أي ذبح النفس ونحرها إن تحققت موتها, فكلّ تقصير مع موت النفس مقبول.
ولمّا كان الأمر غميضا من حيث كنهه, وحقيقة طلب المصنف من المريد أن يحضر قلبه, ويستجمع ذهنه, ليحصل له من الفهم نصيب حتى إذا طلب هذا المقام يكون على بصيرة من السير إليه أحسن من أن يدخله بدون أن يسبق له شيء في علمه, كما أنّ لكلّ عارف ميقات لا يجوز له تجاوزه, وهو إمّا أن يكون زمانيّا أو مكانيّا, فالميقات الزمانيّ هو تحقّق المريد بوحدانية الله وبعدها يتهيأ للمسير لكنه الذات والاستغراق في غوامضها والإطلاع على أسرارها, وأمّا الميقات المكانيّ مبتدؤه من حدود الكون أو تقول سدرة المنتهى, أو تقول منتهى التقييد, فالميقات هو كناية عن حالة خروج المريد عن التقيّيد وتشوفه للإطلاق سواء كان من العلو أو من الدنو, فالمطلوب هو الخروج عن المكان والزمان, ليتمكن له الغوص في الإطلاق, وقد وجدت بعض العارفين لا يتيسر له الكلام فيما ذكرنا فنبهته عن ذلك فتعذّر عليه الحال فتذكرت قوله تعالى حكاية عن ملائكته: (وما منّا إلاّ له مقام معلوم / الصافات آية / 164), حيث إنّ المقام مقام اضمحلال, وقد يعبّرون عنه بالرهبوت, لأنّ هنالك سرا خفيّا لا يدركه إلاّ الإنسان الكامل, فأول ركن في الحجّ هو الإحرام, ويعني به الخروج عن كلّ ظرف جليل أو حقير زمانيّا كان, أو مكانيّا والمعبّر عنه بالتجريد من المخيط والمحيط, فمن عظمت هذه الخليقة في نظره صار ينزّه الحقّ عن المكان والزمان والجهة والأركان, وإلاّ فإنّ الحقّ منزّه عن هذه الأوصاف من قديم, وما هذه الأكوان بالنسبة لعظمته إلاّ كخردلة, بل أصغر وأضعف حيث نظمت ما قاله لسان هذه الحضرة:
وهل لي فسحة تكون إلى غيري *** وهل يكون الفراغ والكلّ ممثلا
فإنّي باطن الكنه من حيث عينه *** وإنّي ظهير النعت إجمالا لا مفصلا
ولا وجهة إلاّ وإنّي موليّها *** وهل للسوى وجود وهل من ذاتي خلا
فذاتي ذات الوجود كانت كما تراه *** تعظيم غير محدود بك قدر خردلا
وحاصل الأمر إنّ المريد إذا خلّف هذا العالم من خلفه, ثمّ سار مستسلما بروحه وجسده لربّه بربّه نادته الحقائق الخفيّة من الحضرة الواحديّة المتصفة بصفات المعاني والمعنويّة بلسان الربوبيّة قائلة هل وجدت لغيري سميّا, أو كان لغيري إثبات, وكلّما تكرّر عليه النداء, وأذن له بالتقريب إلاّ وهو يقول لبيك اللهم لبيك ها أنا بين يديك, ويجدّد التلبية كلّما سمع النداء.
فإذا دنوت إلى الحضرة الواحديّة المعبّر عنها بمكّة, وقد عبّر عنها القوم بالذات المستحقة للألوهيّة, فينبغي للمريد أن يجدّد أدبه لأنّ لكلّ مقام أدب ولكلّ حال أدب, وقد يصعب الدخول على المريد لهذه الحضرة لوجود ظهورها وتعلّق صفاتها, حيث تطلب من الإنسان وجوده وانتفاؤه في آن واحد, وقد يتعذّر ذلك على أغلب المحقّقين لوجود التناقض, ومن مقتضاها اضمحلال العبد ووجوده في آن واحد لاتصافها بالصفة الوجوديّة والأسماء السنيّة, قال صاحب الحكم: (الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحديّة ذاته), وإنّ صاحب هذا المقام لا يساعده إلاّ التسليم, وليس له دخول إلاّ من باب السلام, لأنّ فائدة التلبية تظهر عند القرب, وإذا غبت عن القرب في عظيم القرب فما فائدة الطلب, وحاصل الأمر أنّ أدب هذه الحضرة هو أن تشتغل بمشاهدتها, والاستلام عن يمينها وهو الحجر لما قيل فيه يمين الله, لأنّه كناية عمّا صدر من تعلّق الصفات, أو تقول فيه صفة التكوين, فإنّ العارف إذا وصل هذا المقام يرى السّماوات والأرض مطويات بيمينه, فنجد العارف يرى يمين الله قبل أن يرى الأشياء, ومن الأدب أيضا الطواف سبعا, والمراد فيه هو جولان الفكر في تعلّق الصفات السبع, وكيفيّات ترتيبها وتوقفها على بعضها بعضا, لأنّ المقام مقام تفصيل لا تقبل فيه المعرفة الإجماليّة, لأنّ الحقّ تبارك وتعالى يظهر لأوليائه في هذا المظهر بأسمائه وصفاته, ثمّ يشتدّ ذلك الظهور حتى يصير بداهة أي بذاته على اختلاف صفاتها لأنّ الحاج إذا دخل الكعبة يجد الجهات الست كلّها متوجهة نحوه, فكيف بالعارف إذا انطوى في ذات موجده قال سلطان العاشقين مشيرا إلى حجّ العارفين:
وكلّ الجهات الست نحوي توجهت *** بما تمّ من نسك وحجّ وعمرتي
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin