..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: تنبيه السالكين إلى غرور المتشيخين للشيخ حسن حلمي الدغستاني
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 20:03 من طرف Admin

» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 20:02 من طرف Admin

» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:42 من طرف Admin

» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:39 من طرف Admin

» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:37 من طرف Admin

» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:34 من طرف Admin

» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:31 من طرف Admin

» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:28 من طرف Admin

» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:26 من طرف Admin

» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:24 من طرف Admin

» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:21 من طرف Admin

» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:19 من طرف Admin

» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:17 من طرف Admin

» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:14 من طرف Admin

» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Emptyأمس في 19:12 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1 Empty المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي ـ ج1

    مُساهمة من طرف Admin 25/5/2021, 20:58

    المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي

    المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية
    لقد عقّبّ الأستاذ مترجما وشارحا لأمور ونواح عديدة كلّها تتعلّق بالدين الإسلاميّ والدعوة إليه بالحجّة والبيان الواضح، الذي لا يوجد فيه لبس بأسلوب بسيط في لفظه عميق المعنى في شرحه وتأويله ويزخر بالعلوم اللطيفة الفخيمة التي تجلب التنزّلات الرقيقة لسويداء هذا القلب الإنساني، وممّا تجدر الإشارة إليه هو كتاب (المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة)  ويبحث في أركان الإسلام الخمس، إنّه حقيقة مطابق اسمه لمسمّاه وهو يعتبر من النماذج العالية جدا في السلوك والنهج الصوفيّ المؤيد بالكتاب والسنّة.
    مختصر المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة ومن الواجب المفروض أن نقتبس بعض الفقرات منه تيمنا للفائدة ومحبّة في الله ورسوله علّ الله أن ينفع القارئ والسامع آمين يا ربّ العالمين.

    يقول الشيخ العلاوي:
    حمدا لمن ظهر في بطونه وبطن في ظهوره حتى خفي من شدّة الظهور عن بصائر عباده لعظمة نوره, واضمحلّ الكلّ في حال الشهود حيث تجلّى بجبل طوره, فالأرض جميعا بقبضته, نحمده على ما أولانا من معارفه الغيبيّة, ونشكره جلّ مولانا على ما منحنا من لطائفه القلبيّة, وحبانا بمزيد التفضّل والامتنان بمرتبة التربية, ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص أرشده مولاه لطريق الكمال, فأقرّ له بالربوبيّة واعترف له بالوحدانيّة المطلقة في الذات والصفات والأفعال, ونزهّه عن الأنداد والأشباه والنظر والأمثال, ونشهد أنّ سيدنا ونبيّنا ومولانا محمد روح العالم ومظهر الذات ونقطة الوجود وسرّ الكائنات, صلّى الله عليه وسلّم وأله وأصحابه الأعيان الهداة صلاة وسلاما يكونان لنا حصنا حصينا وحرزا منيعا من البلايا والآفات, يتعاقبان ويتجدّدان بتجدّد الأيام والأوقات.
    إنّه لمّا منّ الله عليّ بورود منهله المعين, ووفقني لفتح مغلفات هذا النظم العجيب, المحتوي ظاهرا أركان الدين وباطنا على مسلك من مسالك الإشارة غريب فبقيت نفوس بعض من ينتمي لهذا المشرب طامحة للبحث عن إشارته, متشوّقة لما يلوح من معاني ألفاظ عباراته, فحملتني الغبطة في هذا الفن, على أنّني لست من أهل هذا الميدان, ولا من فرسان هذا الشأن, ولكنّي اعتمدت في الدخول لهذا المدخل البعيد قول الناظم للمتن طيب الله ثراه أبياته للأميّ, وقد قدمت على المقصود بالذات مقدمتين جليلتين مفيدتين:
    (1): المقدمة الأولى في شرف علم القوم على غيره:
    اعلم إنّ هذا العلم هو أفضل العلوم, وأزليّ الفهوم, لا ينكره إلاّ من كان من بركته محروم, لكنّ العلوم من حيث هي قد يقع الاستغناء عنها في وقت ما بخلاف هذا العلم فإنّه لا يستغنى عنه في سائر الأوقات حتما, ولا يقول بالاستغناء عنه إلاّ جهول حرم لذّة الوصول, ومن جهل شيئا عاداه, ولله درّ الغزالي حيث كان يلهج ببيتي أبي الفتح البستي رحمهما الله, وهما:
    يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته *** وتطلب الربح ممّا فيه خسران
    عليك بالنفس فاستكمل سعادتها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
    فلاح لنا من هذا المرقوم أنّ هذا العلم أشرف العلوم, وشرفه بشرف المعلوم, وقدره بقدر متعلّقة, وهو متعلّق بذات القيوم.
    قال حكيم الصوفيّة: (شتان بين من يستدل به, وبين من يستدل عليه, وكلّ علم يقع الجدال والمنازعة بين أهله, والمخالفة والتباين بين أربابه, إلاّ هذا العلم الشريف فإنّه منزّه عن المشاققة والتحريف), قال سيدي (عمر بن الفارض):
    وكم بين حذّاق الجدال تنازع *** وما بين عشّاق الحبيب تنازع
    قال عليه الصلاة والسلام: (القرآن بستان العارفين), وقال (ابن العربي الحاتمي) قدّس الله سرّه: (أعطيت مفاتيح القرآن العظيم), وليس هو أول من أعطي مفاتيحه, ولا هو أخرهم, وإنّما كلّ من كان له نصيب من فهم القرآن العظيم, ومن لم يكن له نصيب من هذا العلم فلا نصيب له من باطن القرآن, وإنّما حظّه بظاهر اللفظ.
    ذكر عن الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ما معناه: (لو شئت لوقرت أربعين وقرا من تفسير الفاتحة), وكلّ ذلك ممّا أعطي من تلويح الإشارة, ودقائق العبارة في علم الباطن, وله أن يستخرج أكثر من ذلك.
    وإذا استقر في ذهنك أيّها القارىء اللبيب أن نقطة الباء جامعة لسائر الأحكام والرسوم والمعارف والفهوم, فمن باب أولى وأحرى الكلمة, فسلّم لأهل هذا العلم ولا تستغرب إن رأيتهم استخرجوا من المعنى الواحد معاني شتى, ومن الكلمة الواحدة كلمات جمّة, فلهم أن يستخرجوا ما شاءوا من أي شيء شاءوا, تالله لو أراد أحدهم أن يستخرج العسل من الخل لفعل: (يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ / الروم آية / 19) وكلّ ذلك دليل على ما منحهم الله من الأسرار والمعارف والأنوار, فلا تغتر يا أخي بأقوال المغرورين الذين ينقصون أولياء الله, ويخوضون في أعراضهم, ويزعمون أنّ لهم يدا عليهم, وما هم إلاّ بمنزلة الصبيان معهم, لكونهم لا يدرون من أي بحر غرفوا, ولا لأي جهة من الجهات توجّهوا, كما قال الشيخ (محي الدين بن العربي) رضي الله تعالى عنه:
    تركنا البحار الزاخرات وراءنا *** فمن أين يدري الناس أين توجهنا

    نقل الإمام (الغزالي) في (إحياء علوم الدين) عن بعض العارفين ما نصه: (من لم يكن له نصيب من هذا العلم أي علم الباطن, أخاف عليه سوء الخاتمة, وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله).
    قال (أبو الحسن الشاذلي) رضي الله تعالى عنه: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرّا على الكبائر وهو لا يشعر).
    ومن الكبائر عند القوم شهود الغير, ولا يسلم من هذه البليّة إلاّ من كان متذلّلا واقفا على أبوابهم, ولو كان من العلماء المتقين والزهّاد العابدين, فتذللك يا أخي لهم لعلّك تحظى بودادهم وإلاّ صدّق بعلمهم.
    قال (الجنيد) رضي الله تعالى عنه: (التصديق بعلمنا هذا ولاية, وإذا فاتتك المنّة في نفسك, فلا يفوتك أن تصدّق بها غيرك).
    قال الشيخ (أبو يزيد البسطامي) رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت من يؤمن بالطريق فقل له يدعو لك الله فإنّه مجاب الدعوة).
    قال (الصقلي) في كتابه (نور القلوب في العلم الموهوب): (كلّ من صدّق بهذا العلم فهو من الخاصّة, وكلّ من فهمه فهو من خاصّة الخاصّة, وكلّ من عبّر عنه وتكلّم فيه فهو النجم الذي لا يدرك, والبحر الذي لا يترك).
    كان (الطبيب صاحب حاشية الكشاف) يقول: (لا ينبغي للعالم ولو تبحّر في العلوم حتى صار واحد أهل زمانه أن يقنع بما علمه, وإنّما الواجب عليه الاجتماع بأهل الطريق, ليدلّوه على الصراط المستقيم حتى يكون ممن يحدثهم الله في سرائرهم من شدّة صفاء بواطنهم, إلى أن قال: حتى يصير يقتبس من أنوار النبوّة).
    نقل (النووي) في (شرح المهذب عن الشافعي) رضي الله عنهما أنّه قال: (استفدت من الصوفيّة في مجالستهم كلمتين قولهم الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك, وقولهم إن لم تشغل نفسك بالخير أشغلتك بالشر), وقد قال الشيخ (الشعراني) رضي الله عنه: (فانظر كيف نقل الشافعي ذلك عن الصوفيّة من دون غيرهم).
    (2): المقدمة الثانية في بيان فهم القوم من اللفظ الواحد معاني مختلفة:
    اعلم إنّ القوم لا يفهمون مخاطبة الخلق لهم إلاّ عن الله, وذلك يقتضيه مقامهم لا يستعملونه في أنفسهم, فلا تستغرب يا أخي من فهمهم الكلمة الواحدة الموضوعة على معنى مخصوص آخر, فإنّ ذلك عندهم من أشرف المقامات, وأعظم الدرجات, لكونهم يفهمون الأمور عن الله, وقد أجمع أهل الله على أنّ الفهم عن الله على قدر مقام العبد عند الله, ولم يختلفوا في أنّ الكلمة الواحدة الدالّة على معنى مخصوص قد يفهم منها العبد معاني كثيرة لا تحصى, وربّما الكلمة يكون ظاهرها قبيحا, ويستفيد منها العارف أمرا مليحا, أمّا على وجه التصريح وأمّا على وجه التلويح, فإنّ القوم وإن اشتركوا مع غيرهم في ظاهر اللفظ, فإنّهم مختلفون في القصد, كما أنّهم اشتركوا في المشهود واختلفوا في الشهود, واشتركوا في المسموع, واختلفوا في الأسماع, قال تعالى: (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل / الرعد آية / 4).
    فسبحان من هداهم وقربهم إليه, واجتباهم حتى صاروا يأخذون أحكامهم وأفعالهم من مولاهم فسمعوا ما لم يسمعه الخلق, وأبصروا ما لم يبصره الخلق, فأجسامهم عندنا وأرواحهم عند الملك الحقّ, وكما قال بعضهم:
    فؤادي عند محبوبي مقيم *** يناجيه وعندكم لساني

    قال الإمام (الجيلي) في (عينيته) المشهورة:
    إذا زمزمت ورقاء على غصن بانة *** وجاوبها قمريّ على الأيك ساجع
    فأذني لم تسمع سوى نغمة الهوى *** ومنكم فإنّي لا من الطير سامع

    فإذا كان هؤلاء القوم يستخرجون الجدّ من الهزل, فكيف لا يستخرجون الجدّ, من الجدّ, بل لهم ذلك لكونهم لا يقفون عند ظاهر الألفاظ, وإنّما ينظرون إلى المعاني الدالّة على المراد, ولا يلتفتون للحن ولا للإعراب, بل يأخذون المعاني من حيث وجدوها, فهم ناظرون لإشارة الأرواح, غافلون عما يتلفظ به اللسان, تراهم مع الله في كلّ حال وشأن, مع انّه كلّ يوم هو في شأن, ما اتخذ الله وليّا جاهلا إلاّ علّمه, وابتداء التعليم به ثمّ بأحكامه, وأمّا بقيّة العلوم فليست شرطا في صحّة الولاية وإنّما هي شرط كمال وذلك كالنحو والصرف, والمعاني والبيان, وعلم اللغة, حيث من لم تغنه معرفة الله, فذلك هو الشقي.
    قال سيدي (أحمد بن عجيبة) رضي الله عنه: (إصلاح اللسان دون إصلاح القلب فسق وضلال, وإصلاح القلب دون إصلاح اللسان كمال دون كمال, وإصلاح القلب واللسان كمال الكمال).
    قال الفقيه (ميمون) رحمة الله عليه: (أقبح كلّ قبيح أن يتعلّم الإنسان نحو اللسان ويعلّمه, ولا يتعلّم نحو القلب ويعلّمه, مع أنّه محلّ نظر الربّ, فإذا كان نحو اللسان مع نحو الجنان كان صاحبهما في أمان, ولا يخشى عليه الخسارة والخذلان, يوم وقوفه بين يدي الرحمن, لأنّ الله تبارك وتعالى لا يثيب العباد على إعرابهم, وإنّما يثيبهم على قلوبهم.
    الخلائق مخاطبون بظاهر الشرع ما عدا الصوفيّة, فإنّهم مخاطبون بظاهر الشرع وباطنه, قال شيخ شيوخنا مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه: (ما عرفنا من النحو إلاّ إعراب قوله تعالى: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله / النور آية / 32), إنّ حرف شرط, ويغنهم جواب الشرط, والمقصود بالغنى الغنى الأكبر فيكون خطابه للمتوجهين على طريق أهل الإشارة.
    وعن بعضهم أنّه رأى النبيّ عليه الصلاة والسلام في منامه فقال له: (يا رسول الله إنّي متطفل في هذا العلم, فقال: اقرأ كلام القوم, فإنّ المتطفل على هذا العلم هو الوليّ, وأمّا العامل به فهو النجم الذي لا يدرك), فمن أجل علوّ مقامهم, وإشراف رتبهم وفهمهم الأمور التي لا يدركها أحد إلاّ بمجالستهم والتذلّل على أعتابهم, أردت أن أبين بعض ما يأخذونه من الفقه وغيره بالإشارة التي تناسبهم مع أخذهم لظاهره والعمل به, والتديّن بأحكامه, ولا نفهم من أخذهم باطن الألفاظ أن يتركوا ما يقتضيه الظاهر حاشاهم من ذلك, بل يأخذون ما لا يقدر أن يأخذ به غيرهم من العزائم وسيرتهم في ذلك مشهورة, ولا يناقض هذا أقوال بعض أهل الجذب الغالب عليهم الحال, لكونهم ناقصين عن درجات الكمال, وأمّا الكمّل فأقوالهم مشهورة في عدم انفكاك الحقيقة عن الشريعة, أو العكس منها قولهم: (الحقيقة عين, والشريعة أمرها), ومنها قولهم: (من تحقّق ولم يتشرّع فقد تزندق, ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسق, ومن جمع بينهما فقد تحقق), ومنها قولهم: (الحقيقة باطنة في الشريعة كبطون الزبد في اللبن فبمخض اللبن يظهر الزبد), ويقال: (أنّ الحقيقة شجرة والشريعة أغصانها), ويكفي في هذا ما قيل: (الشريعة مقالي, والطريقة أفعالي, والحقيقة حالي), وإذا كان هذا وصفه عليه الصلاة والسلام فكيف يتأخر عن هذا المقام مثل هؤلاء القوم, قد زيّنوا ظاهرهم بالشرع وجمّلوا باطنهم بالجمع, وأخذوا من الشرع ما لا يقتضيه الطبع, ولا يسبق إليه السمع, فمن أجل ذلك صار جميع ما يفهمونه عن الله في سائر أحوالهم مأخوذا من الكتاب والسنّة, (وقلّما تجد قولا من أقوالهم في الشريعة إلاّ ولهم فيه جميع مراتب الشريعة كالإسلام والإيمان والإحسان, وإن شئت قلت الشريعة والطريقة والحقيقة بخلاف ما عداهم فإنّهم لا يأخذون من القول سوى الظاهر من غير التفات لما له في الباطن من الأسرار القدسيّة والمعاني الغيبيّة, ولهذا احتجب عنهم ما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نظرهم لباطن الأشياء لما وقف الناس مع ظاهرها, وقد مدحهم عليه الصلاة والسلام بقوله: ( سيروا هذا جمدان سبق المفردون, قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) رواه الإمام أحمد في مسنده.
    إنّ المريد إذا حصل له الفناء والاستغراق في الاسم المفرد (الله) يخرج به عن نفسه, وعن دائرة حسّه ولم يبق له إلاّ الاسم ممتزجا بدمه ولحمه, فإذا قام به وإذا تكلّم فيه.

    قال (الشبلي) رضي الله عنه: (كنت سائحا في بريّة فإذا بجارية مصفرة اللون مغبرة الثياب وهي ناهضة بأسرع مشي, فقلت: رفقا على نفسك يا أمة الله, فقالت: هو, هو, فقلت لها: من أين أتيت؟ فقالت: من هو, فقلت لها: ما اسمك؟ فقالت: هو, فقلت: ماذا تريدين بقولك هو؟ الله تريدين, فصعقت صعقة حين سمعت اسم الله, ففاضت منها نفسها رحمة الله عليها, وعلى أمثالها, والله أرجو أن ينظّمنا في سلك الذاكرين بمنّه وكرمه).
    ثمّ قال رضي الله عنه:
    صلّ وسلّم على محمد *** وآله وصحبه والمقتدي

    فالصلاة عند القوم معناها التجلّي الإلهيّ, وهذا لا يقع إلاّ لأنبيائه وخواص أوليائه, اللّهم إلاّ بالتبعية لكونه مقاما شريفا لا يناله إلاّ خواص أهل التعريف, والصلاة بمعنى التجلّي إن كانت من الله وإلاّ فهي بمعنى الدعاء, فإذا قلت اللّهم صلّ على محمد وعلى آله كأنّك تقول اللّهم تجلّ على محمد, وعلى آله, ويقول بعض الصالحين: (لي وقت لا يسعني فيه غير ربي), وحاصل الأمر أنّ الصلاة من الله على عباده هي غاية عطفه عليهم, وغاية قربهم منه, فإذا حصلت لأحدهم حصل له الكلّ, وبها يخرج الله أولياءه من قيد أنفسهم إلى مشاهدة ربّهم, وذلك بقوله تعالى: (هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور / الأحزاب آية / 43), أي يخرجكم من ظلمات الكون إلى نور المكوّن, أو من قيد الاغيار إلى فضاء الأسرار, ولهذا يقال بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينتفع بالصلاة عليه, نعم ينتفع بها, ولم يحل له الجنان والزخارف بدونها (وجوه يومئذ ناضرة, إلى ربّها ناظرة / القيامة آية / 22, 23), هذا معنى الصلاة والله أعلم, وأمّا السلام من الله على عباده فبمعنى الأمان والثبات, وإذا أراد الله تبارك وتعالى صيانة من يصلّي عليهم, وصيانة غيرهم بسببهم أعقب الصلاة بالسلام عليهم, فعند ذلك تسكن روعتهم ويستقيم سيرهم ويصير ظاهرهم مع الخلق وباطنهم مع الحق جامعين بين الضدين, عالمين بأحكام المقامين, وهؤلاء ورثة الأنبياء, وعلى هذا المقام الشريف يعبّرون بالسكر والصحو والفناء والبقاء, وغير ذلك من اصطلاحاتهم, فالسكر كناية عن الصلاة من الله عليهم, والسلام كناية عن الصحو بعد استغراقهم في مشاهدة ربّهم, وحاصل الأمر أنّ الصلاة من الله على أحبابه كناية عن الوصول, كما أنّ اللعنة على أعدائه كناية عن البعد والانقطاع.
    إنّ القوم لا ينفع معهم إلاّ الصدق والاعتقاد, ولهذا قال بعضهم (طريقتنا مبنيّة على النيّة والتصديق لا على البحث والتدقيق), فينبغي للعاقل أن ينظر لنفسه بعين التقصير, فعقل القوم ليس كعقل العموم, فكيف تقيسه على ما عندك من العلوم, إذ علمهم لا يتوقف على عادة ولا على رسوم, بل عقلهم جامع لسائر العلوم.

    إنّ ظهور الحقّ لأوليائه صار عندهم لا يقبل النفي بحال, قال الإمام (الشافعي) رضي الله عنه: (قوي عليّ الشهود مدّة, فسألت الله أن يستره عني, فهتف بي هاتف: لو سألته بما سأله به أنبياؤه وأصفياؤه ومحمد حبيبه ما فعل, ولكن اسأله أن يقويّك عليه, فقواني والحمد لله).

    يقول (ابن عطاء الله السكندري) في (الحكم العطائية): (الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته), هذا معنى الجائز عندهم, والله أعلم, ثمّ قسّم كلا من: الجائز والواجب والمستحيل إلى ضروري ونظري, فالضروري هو الذي يدركه العارف بغير تأمل, والنظري هو الذي يدركه بعد التأمل لدقته, فمثال الواجب الضروري إثبات الوحدانية لله, فإنّ العارف يدركها بلا تأمل ولا تخيل, ومثال الواجب النظري كإثبات القدرة مع وجود القادر, فهذا لا يثبت لأحدهم حالة استغراقه في عظمة الذات إلاّ بعد التأمل, لأنّ ظهور الذات يقتضي بطون الأسماء والصفات, ومن تحقق بعظمة الذات لا يمكن له أن يثبت شيئا زائدا على الذات, لعدم تحيّزها وشدّة ظهورها, ومثال المستحيل النظري كمنع رؤية الحقّ فيما سوى هذا المظهر, بحيث أن يريد العارف أن يراه خارج العالم فهذا مستحيل لكنّه نظري, ولهذا لما سأل موسى عليه السلام الرؤية من الله في غير هذا المظهر أجابه بقوله: (لن تراني), لأنّي لست خارج العالم, ولست داخله ولا منفصلا عنه, ولا متصلا به, فأنا الكلّ منك, مالك عني غافل.

    وعليه فينبغي للعارف إذا عرف الله بالذات والصفات, واستغرق في الشهود أن لا يخرج بمعرفته عن الحدود, بل يكون راسخا جامعا ظاهره مع الحدود, وباطنه مع الشهود, لا يحجبه قربه عن جمعه, ولا جمعه عن فرقه, وتكون الحقيقة في باطنه مشهودة, والشريعة على ظاهره موجودة, وهذا مقام شريف, فيه تفاوت أهل التعريف, فهو أعزّ من الكبريت الأحمر, ولا يجمع بين هاتين الحالتين إلاّ من كان له مقام بالغ, وعقل جامع.

    وحاصل الأمر أنّ الكلّ مفتقرا لله افتقارا ذاتيّا بحيث لا وجود له إلاّ بوجود موجده, ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف أوصافه من أوصاف ربّه, لما قيل تحقق بأوصافك يمدّك الله بأوصافه, حتى إذا فتحت بصيرتك أيّها المريد, ونظرت فيما يجب لله وما يجب لنفسك وجدت نفسك عدما محضا, كأن لم تكن شيئا مذكورا, فطهّر سريرتك وتحقّق بأوصافك.
    قال رضي الله عنه:

    يجب لله الوجود والقدم *** كذا البقاء والغنى المطلق عمّ
    وخلقه لخلقه بلا مثال *** ووحدة الذات ووصف والفعال
    وقدرة إرادة علم حياة *** سمع كلام بصر ذي واجبات

    فالله سبحانه وتعالى يجب في حقّه الوجود, والوجود هو عين الموجود, والمراد به الوجود المطلق الذي لا يتحيّز ولا يتعدّد ولا يتميّز, وإنّ هذا الوجود لا يقبل الانتفاء في بصائر العارفين, كما إنّ الحسّ لا يقبل الانتفاء في أبصار المحجوبين, ولهذا يطرأ ظهور الوجود المطلق على الصوفيّ, فيغرق في التعظيم, فحينئذ يسلم نفسه لذلك الوجود ويتحقق بأن ليس مع ذلك الوجود لا عدم ولا وجود, وحاصل الأمر إنّ الوجود هو نفس الذات, والقدم صفة نافية وجود الأوليّة, كما إنّ البقاء ينفي عن الله وجود الآخريّة, إنّ الذات غنيّة عن سائر الممكنات, بل حتى عن الصفات فهي قائمة بنفسها لا تفتقر لغيرها.

    وممّا يجب لله أيضا الوحدانية في الذات والصفات والأفعال, إذ هو ليس بمركب ولا متعدد, ولهذا قال الوحدانية في الذات والصفات خشية منه على السامع أن يتوهم حيث يسمع بوجود الصفات وبقدّمها فيعتقد تعدد القدماء تعالى الله عن ذلك, هذا معنى الوحدانيّة في الذات والصفات, وأمّا الوحدانيّة في الفعل فهو أنّه لا يمكن أن يكون فعلا مع فعل الله سبحانه وتعالى, إنّ القوم انقسموا إلى ثلاثة أقسام, القسم الأول: يرى أنّه لا فاعل إلاّ الله ويتحقّق بمعنى الوحدانيّة في الأفعال عن طريق الكشف, لا من طريق الاعتقاد, ويرى أنّ الفاعل واحد, والقسم الثاني: يتحقّق بحقيقة الوحدانيّة في الصفات, وعندما يحصل له هذا الإطلاع على الوحدانيّة في الصفات يجد لا سميعا ولا بصيرا ولا حيّا ولا متكلّما ولا قادرا ولا مريدا ولا عالما إلاّ الله, ويراعي الصفات في سائر المكونات من طريق العيان, لا من طريق البرهان, والقسم الثالث: هم الذين تحقّقوا بحقائق الوحدانيّة في الذات, فحجبوا عما سوى ذلك من المكونات, وذلك لما اكتشفوا عن عظمة الذات ولم يجدوا هنالك فسحة تظهر فيها المكونات, قالوا لا موجود في الحقيقة إلاّ الله حيث فقدوا ما سواه فهؤلاء هم الذاتيون والعارفون الموحدون وما سواهم محجوبون وغافلون لم يذوقوا طعم التوحيد ولا استنشقوا رائحة التفريد, وإنّما سمعوا بالتوحيد, وحيث طرق أسماعهم ظنوا أنّهم موحدون, كلا, وإنّما هم مبعدون عن الحقّ ومنقطعون.

    فالقدرة حجاب القادر, والإرادة حجاب المريد, والعلم حجاب العالم, والحياة حجاب الحيّ, والسمع حجاب السامع, والبصر حجاب البصير, والكلام حجاب المتكلّم, فإنّ صفات المعاني حجاب عن مصدرها, فمن وقف مع الأفعال, احتجب عن شهود الصفات, ومن وقف مع شهود الصفات, احتجب عن شهود الذات, ومن عرف الذات لم ير سواها في سائر الذوات, ويقول: ما احتجبت الذات إلاّ بالذات, فالقدرة احتجبت بالمظاهر, والإرادة احتجبت بالخواطر, والكلام احتجب بتنوع دلالته مع الحروف والأصوات, والحياة احتجبت بعدم مفارقتها للذات, والسمع والبصر احتجبا من شدّة ظهورهما في المكونات, والعلم احتجب لشدّة إحاطته وشموله بالمعلومات.

    ثمّ اعلم أنّ هذه الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام, لكلّ قسم منها عالم يخصّه فالسمع والبصر والكلام عالمهم عالم الناسوت, والقدرة والإرادة والعلم عالمها الملكوت, والحياة عالمها عالم الجبروت, وكلّهم لا ينفصلون عن الذات لإحاطتها وتنزيهها عن الجهات.
    ويجب على المكلّف معرفة الرسل عليهم الصلاة والسلام, وملازمة الأدب معهم, ولو مع استغراقه في الشهود والتغلغل في المعرفة لا ينبغي له أن يتعدى طورها أو يدعي ما ليس له كأن يزعم أنّه حصل ما حصل للأنبياء وما أشبه, وإن كانت الحضرة الإلهيّة منتهاهم, والتجلّي الإلهيّ مطلوبهم, ففي ذلك التجلّي تفاوت فليس هو في كلّ شخص كما عند الآخر, ولا على قانون واحد, ولا على كيفية مطرّدة, بل البصائر فيه متفاوتة, وأسرار الخلق في ذلك متباينة من كثير, وقليل فهو يتجلّى لكلّ شخص على قدر طاقته, وعلى قدر ما تسعه حوصلته من تجلّي الجمال القدسيّ الذي لا تدرك له غاية, ولا يوقف له على حدّ ولا نهاية, وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ الذي في مرتبته صلّى الله عليه وسلّم من تجليّات الأسماء والصفات والحقائق لا مطمع لأحد إلاّ من أكابر أولي العزم من مرتبته, وإنّ الذي في مرتبة أولي العزم لا مطمع لأحد من الصديقين في مرتبته, وإذا كان الأمر كذلك, وعرفت هذا بالتفصيل فاعلم إنّ الشطحات التي صدرت عن أكابر العارفين ممّا يوهم, أو يقتضي أن لهم تفوّقا وعلوا على مرتبة الأنبياء والمرسلين يأتي الجواب عنها, ومثال ذلك قول: (أبي يزيد البسطامي) رضي الله تعالى عنه (خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله), وقول الشيخ (عبد القادر الجيلاني) رضي الله تعالى عنه: (معاشر الأنبياء أوتيتم لقبا وأوتينا ما لم تؤتوه).
    إنّ العقل شرط من شروط التكليف, والمكلّف يعاقب على ترك الأدب بخلاف ما إذا كان مغلوبا عليه, وصدر منه كلام ككلام المتقدمين في الذكر فلا ملامة عليه, وأمّا إذا كان صاحيا فلا يمكن أن يتلفظ بمثل ذلك الكلام, لأنّ كلّ عارف يعلم من نفسه أنّه بعيد عن رتبة النبوّة لما يجد من التقصير لنفسه في سائر الأمور بخلاف الأنبياء, فإنّهم فطروا على الطاعة, والعصمة تساعدهم, وإن كان الأولياء لهم الحفظ, والحفظ يكون مع الولاية لا قبلها بخلاف العامّة, فإنّها تكون قبل النبوة وبعدها, ولهذا وجبت في حقّهم هذه الصفات التي لا تجب في حقّ غيرهم, فأولها الصدق, وثانيها الأمانة وحفظها واجب على الأنبياء وخواص الأولياء وقلّ من يحمل أثقالها ويكتم أسرارها ما عدا هؤلاء الرجال المذكورين, قال تعالى (إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوما جهولا / الأحزاب آية / 72), وكذلك يجب في حقّ الرسل عليهم الصلاة والسلام التبليغ, وهو أن يبلغ الرسول كلّ ما أمره الله عزّ وجلّ بتبليغه, ولا يكتم منه شيئا, ولا يخاف في الله لومة لائم, ولو تحقق الهلاك من الخلق وعدم إجابتهم له, فإنّه لا يبالي بذلك ويبلّغ رسالة ربّه بخلاف الوليّ, فإنّه ربما يقع منه سكوت عن الأمر المنهيّ عنه, إمّا يؤديه لذلك السكوت مراعاة للقدر, أو قلّة العزم لأنّه مقصّر بالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
    إنّ المعجزة مصدّقة للأنبياء في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم, وهي قائمة مقام تصديق الحقّ عزّ وجلّ لأنبيائه, إنّ المعجزة تكون شرطا في صحّة النبوّة بخلاف الكرامة, فإنّها ليست شرطا في صحّة الولاية, أمّا العارفون بالله فهم الراسخون في الشهود ولا يحتاجونها, لعلمهم بصحة أحوالهم وغيبتهم في شهود ربّهم, ولهذا قال صاحب الحكم العطائيّة رضي الله عنه: (ربّما وجدها أهل البداية في بدايتهم, وفقدها أهل النهاية في نهايتهم).
    إنّ جواز ظهور الأعراض البشريّة عليهم وقوعها بهم, ومشاهدة ظهورها عليهم عند أهل زمانهم من أكل وشرب وجوع وموت, وإذاية الخلق لهم لكن ذلك حدّه ظاهر البشريّة, وحكمة ظهوره تلك الأعراض عليهم تسترا من ظهور الخصوصيّة, قال حكيم الصوفيّة: (سبحان من ستر سرّ الخصوصيّة بأوصاف البشريّة).
    (3): شهادة التوحيد:
    إنّ الإخبار بلا إله إلاّ الله محمد رسول الله يجمع كلّ المعاني, والمراد بالمعاني كلّ ظاهر وباطن وغائب وحاضر, أو تقول كلّ محسوس وموهوم ومجهول ومعلوم أو تقول كلّ موجود ومعدوم, والحاصل أنّ لا إله إلاّ الله أحاطت وكان الله بكلّ شيء محيطا لا غاية له (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مددا / الكهف آية / 109).
    وإذا تحققت أنّ لا إله إلاّ الله أحاطت بكلّ المعاني, وأنّ الكلّ منطو ومندرج في ماهيتها لا بدّ أن تقول: ما من شيء إلاّ حقيقته لا إله إلاّ الله, فالعارف لا يكون عارفا إلاّ إذا عرف الله من كلّ الوجوه (فأينما تولوا فثمّ وجه الله / البقرة آية / 115).
    إنّ لا إله إلاّ الله يندرج تحت لفظها الوجود بأسره أي الوجود الكلّي, والوجود الجزئي, أو تقول وجود الحق ووجود الخلق, فيدخل وجود الخلق تحت لا إله, والمعنى أنّ كلّ ما خلا الله باطل أي منفي لا إثبات له, ويدخل وجود الحق تحت قولنا إلاّ الله, فكلّ المساوي تدخل تحت الشقّ الأول, كما إنّ المحامد تدخل تحت الشق الثاني, وهو الأول والآخر, وإذا فهمت هذا تعرف حقيقة الجمال والجلال والجامع بين ذلك هو الكمال, وليس ذلك إلاّ الذات في تسمية أشرف العبيد, وهو قولنا محمد رسول الله, فاجتمعت الكلمات الثلاث في هذا اللفظ الشريف, وهي (الرسالة المحمديّة, والألوهيّة) فيتحصل من هذا أنّ لفظ محمد رسول الله اجتمعت فيه العوالم الثلاث (الملك, الملكوت, والجبروت), فلفظ محمد كناية عن الملك وهو ما ظهر من حواس الكائنات, ولفظ الرسالة كناية عن الملكوت أي ما بطن في الكون من أسرار المعاني, وهو واسطة بين الحدوث والقدم المعبّر عنه بالروح الأمين, ولفظ الألوهيّة كناية عن الجبروت, وهو البحر الذي تدّفق منه الحسّ والمعنى, وكلّ من الحسّ والمعنى شيء, والحقّ ليس كمثله شيء, فإنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم من حيث ظاهره نقطة من طين, ومن حيث باطنه خليفة ربّ العالمين.
    ثمّ اعلم أنّ الرسول هذا هو المعبّر عنه بالبرزخ المشار إليه في الآية بقوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان, بينهما برزخ لا يبغيان / الرحمن آية / 19, 20), إذ لولا برزخ الرسالة لاختل الوجود وانطوى العابد في وجود المعبود, لأنّك إذا حذفت رسول من قولنا محمد رسول الله صار المعنى محمد الله, وذلك لا يعقل وحذف البرزخ من الاختلال, وسبب هلاك النصارى بحذف الواسطة, وهو الروح من قولنا عيسى روح الله فقالوا عيسى هو الله, فأجابت الألوهيّة (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم / المائدة آية / 17), وحاصل الأمر أنّ المعنى لا يتمّ, والنفع لا يعمّ إلاّ بثبوت الذات والصفات والأفعال, وقد تقدّم لك أنّ ذلك يؤخذ من قولك محمدا رسول الله, وهذا بعض ما يتعلّق بكلمتي الشهادة من حيث المعنى, أمّا ما يتعلق بكلمة التوحيد من جهة الإعراب تقول: لا نافية للجنس تعمل على أن تنصب اسم ذاكرها على مقتضى العبوديّة وترفع خبره في عالم الحريّة, ومعناها لا موجود على الإطلاق إلاّ الله, وقولنا نافية للجنس أي للغير, أو تقول لما سوى الله في الجملة, لأنّ العارفين إذا قال أحدهم لا إله إلاّ الله فلا يجد إلاّ الله حقيقة لا مجازا, فالقوم نفوا وجود الغير واستراحوا ودخلوا حصن الله وما برحوا, وأنت ما زلت تنفي منذ خلقت إلى أن تموت يموت المرء على ما عاش عليه, ولو صحّ لك النفي لصحّ لك الإثبات, من أشرقت بدايته أشرقت نهايته, يا هذا ألا تصحب طبيبا يعلّمك كيفية المحو, لكي تمحو ما سوى الله في الجملة, ثمّ ينهض بك لحضرة الصحو فلا تجد إلاّ الله تعالى, فحينئذ تعيش بالله, وتموت بالله, وتحشر مع أحباء الله, وتسكن في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وكلّ ذلك بذكرك, ومعرفتك لا إله إلاّ الله, فيا ليتك عرفت معرفة الخواص قبل أن تعرف ما أنت عليه, ألا تنفي الجميع على يد شيخ في الحقيقة بارع حتى لا يبقى لك ما سوى الله شهودا وعيانا لا على نعت الإيمان والإيقان, فليس الخبر كالعيان , فالعارفون عرفوا لا إله إلاّ الله, وتحقّقت نسبتهم إلى الله ظاهرا وباطنا, واشتغلوا بالذكر, وتغلغلوا بالفكر, فوجدوا لا إله إلاّ الله حاوية لكلّ سرّ, جامعة لكلّ خير, فمن الذكر: ما هو مجهول, ومنه ما هو معلوم, فالذكر المجهول: هو ما صدر من الفرق الضّالة, والمعقول ما صدر من الموحدين, والكلّ مجتمع في كلمة الإخلاص, وهو النفي بدون إثبات, فكان ذلك لا يعقل بأنّه ذكر إلاّ إذا ضمّ للشق الثاني الذي هو الإثبات, وإن كان هنا معنى خافيا عن المخلوقات يؤخذ من قوله تعالى (ولكن لا تفقهون تسبيحهم / الإسراء آية / 44).
    أخبر رحمه الله أنّ صاحب هذا الفن لا يتم له الرسوخ إلاّ بالقواعد الآتي ذكرها وهي خمس وإن ترك منها قاعدة اختل له النظام وأشرف على الاضمحلال والانعدام, ثم ذكر أنّ الشهادتين شرط في الجملة والمراد بهما المشاهدتان بأن تكون حاصلة لصاحب هذا المقام مشاهدة للحقّ عزّ وجلّ على نعت المكاشفة, ثمّ حصلت له مشاهدة ثانية للحضرة المحمديّة حتى تمكّن منها, وصار متخلّقا بأخلاقها ظاهرا وباطنا, فأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم الباطنة مشاهدة الألوهيّة وأخلاقه الظاهرة المحافظة على مصالح البشريّة (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين / الأنبياء آية / 107), فمن تغلغل في هذين المقامين, فقد حاز رتبة لا مزيد عنها, لأنّه قويّ في الجانبين راسخ في الجهتين, فتحصل من أن هذين المقامين شرطان في الأركان الباقية إذ لو لم تكن للعارف مشاهدة على أي شيء يضع ما بعدها فلهذا عطف ما بعدها من القواعد.
    (4): كتاب الصلاة:
    إنّ الصلاة هي أشرف القربات, ومنتهى الدرجات فهي منقولة من الصلة, والصلة هي ما يربط بين الشيء والشيء, ولا شكّ أنّ الصلاة هي الصلة بين العبد وربّه, وعنها يعبرون بالوصول, وإذا وصل العبد إلى ربّه, فقد تمكّن بصلاة الاتصال التي لا فصل بعدها, كما قال بعضهم رحمة الله تعالى عليه:
    ومنذ وصلوا ما رجعوا *** ومنذ سجدوا ما رفعوا

    وقد تطرّق الشيخ قبل ذلك إلى كتاب الطهارة وما يتعلّق به من (أنواع المياه, فرائض الوضوء وسننه ومستحباته, مكروهات الوضوء, نواقض الوضوء, الاستبراء من الخبث والاستجمار, فرائض الغسل وسنّنه ومستحباته, الطهارة الكبرى من الحدث والحيض والنفاس, التيمم وفرائضه وسنّنه, ونواقض التيمم) وشرح فيها شرحا قيّما وافيا فيه كلّ أنواع الفوائد والخير.
    وحاصل الأمر أن هذه الصلاة هي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (حبّب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرّة عيني في الصلاة) رواه النسائي في سننه والإمام أحمد في مسنده, وعليه فهذه الصلاة هي قرّة أعين النبيّين ومنتهى غاية العارفين فكل من حصل له بعض من تلك الصلاة, فقد حصل له الكلّ وما زال مطلب العارفين ولسان الموحدين واشتياق المريدين يتزايد لهذه الرتبة إلى أن يبلغ الكتاب أجله, فالعارفون بالله هم الذين حلّت لهم هذه الصلاة, وأمّا ما سواهم لا خبرة لهم بل لا تخطر في أفكارهم, لعدم معرفتهم لها فمن جهل شيئا عاداه, وقد دخلت جماعة من العلماء على بعض العارفين بالله في مصر على نيّة الاعتراض, فقال لهم العارف: هل فيكم من صلّى يا علماء؟ فتعجبوا من قوله, وقالوا: هل فينا من ترك الصلاة ؟ فقال لهم: أنتم الذين استثناكم الحقّ عزّ وجلّ في قوله (إنّ الإنسان خلق هلوعا, إذا مسّه الشرّ جزوعا, وإذا مسّه الخير منوعا, إلاّ المصلين, الذين هم على صلاتهم دائمون / المعارج آية / من 19 - 23) فسكتوا لعدم معرفتهم بهذه الصلاة لأنّها سرّ من أسرار الله يختص الله بها من يشاء ويهدي بها من ينيب, وقد قيل: لا يحلّ لامريء أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه, وخصوصا في هذا الشأن العظيم والأمر المهم الذي قلّ من يدريه, والكلّ لا خبرة لهم به إلاّ المصلين الذين هم على صلاتهم يحافظون والذين هم عن اللغو معرضون, وكلّ ما سوى الله فهو لغو عند العارفين بالله, وهؤلاء هم الذين عرفوا هذه الصلاة وشروطها وأتوا بالفرائض وسننها.
    ولا يجزي المصلّي استحضار ما سوى هاتين الصفتين اللتين هما العظمة والكبرياء, لأنّ كلّ ما سوى العظمة والكبرياء ربّما يقتضي وجود الغيريّة, وإن كان المصلّي ملاحظا للغير فإنّه لم يدخل حرمات الصلاة, ولهذا لا يجزيه قوله: الله أجلّ بأن يستحضر الجلال أو القدرة أو ما سوى ذلك من الصفات, وكما ينبغي للمصلّي استحضار الكبرياء, كذلك يطلب منه التلّفظ بها ليكون جامعا بين قلب ولسان وأمّا إن كان له قلب بلا لسان فهذا يكفيه ما هو عليه من شهود الرحمن, وقد يضيق الصدر ولا ينطق اللسان, قال بعض الصالحين رضي الله عنهم: (من عرف الله كلّ لسانه) وحاصل الأمر أنّ صلاة القوم جلّت عن فهم العموم.
    لقد بيّن الشيخ العلاوي ست عشرة فريضة للصلاة, وكما هو مبين بالمنظومة أعلاه, فقد قال في الفريضة الخامسة وهي القيام لها: (أي القيام بحقّ المناجاة بأن يناجي الله عزّ وجلّ بكلامه الذي ارتضاه لنفسه ولا يصحّ للمصلّي أن يناجيه بكلام غيره وذلك لا يقع لعدم وجود الغير في حضرة الله الخاصّة, وعليه إذا كان الكلام كلام الله يكون الحقّ عزّ وجلّ في هذه الحضرة الخاصّة هو المتكلّم مع نفسه بنفسه, لأنّ العبد الذي كان موجودا قبل دخوله لهذه الحضرة قد فني عند دخوله إليها واضمحلّ وتلاشى وذهب ذهابا كليّا, وقد تقدّم قول بعضهم في هذا المعنى:

    خرجت في حين من بعد الفنا *** ومن هنا بقيت بلا أنا *** ومن أنا يا أنا إلاّ أنا

    أمّا الفريضة الثامنة, وهي السجود وهي منتهى المقصود من المصلّي لكونه عبارة عن انحطاطه من درجات الوجود إلى أسفل العدم, وهذا الانحطاط هو المسمّى عند القوم بمحو الذات في الذات, وغاية قرب المصلّي من ربّه حالة سجوده, ومن هنا خاطب الحقّ عزّ وجلّ صاحب هذا المقام بقوله: (واسجد واقترب / العلق آية / 19), قال عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم في صحيحه, والإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه, أي حالة كونه ساجدا, فإذا حصلت للمصلّي رتبة السجود وفني عن الوجود يسجد ثانيا للفناء عن ذلك الفناء, فلهذا يسجد ليكون سجوده عين الرفع منه الذي هو عبارة عن البقاء, فيفنى أولا عن نفسه وعن ما سوى الله في الجملة, ثمّ يفنى عن ذلك الفناء ليكون بقاؤه بالله, فإذا حصل له الفناء والاضمحلال في عظمة الله عزّ وجلّ فيفنى حينئذ إلاّ أنّه يبقى هو بلا هو, وذلك لأنّه يكون ساجدا في نظر الحقّ رافعا في نظر الخلق, فانيا من حيث الأحديّة باقيا من حيث الواحديّة, فسجود العارفين سجود متصل ووصولهم غير منفصل, فهذا من حيث قرب العبد من ربّه حتى يصير معربا عن ذات الحق لأنّ ذاته لغيبته في شهوده, وكلّ ما يقع لهم في حال دخولهم لهذه الحضرة السنيّة فمقتضاه اضمحلال المكونات وبطلانها في نظره, كما قال بعضهم:
    أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبا خاليا فتمّكنا

    ولهذا ينبغي لصاحب هذا المقام أن يتكلّم مع الخلق بلسانهم, وهو المراد بقوله السلام عليكم, وهذه فريضة عليه, وعلى كلّ حال هو مطلوب بالرجوع لعالم الحكمة والقيام بحقوق الأسماء, فلهذا يأتي بالسلام عليكم كأنّ معه جمعا غفيرا مع أنّه منفرد في صلاته, فيكون سلامه على نفسه بنفسه (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها / فصلت آية / 46), ويروى أنّ المصلّي إذا قال السلام عليكم حالة خروجه من الصلاة, وكان مع الحقّ تقول الملائكة: السلام عليكم ورحمة الله, وإذا كان مع نفسه ترمى صلاته عليه ويرجع مذموما مدحورا, فلهذا ينبغي له أن يكون متوسطا في المقام, وخير الأمور أوسطها, وقد يقال: (عاش من عرف قدره وجلس دونه).
    أمّا الخامسة عشرة فهي متابعة الإمام وهو المرشد في طريق الله الدالّ عليه, فينبغي لصاحب السير أن يتبع إمامه في الإحرام, وهو الدخول إلى حضرة الله إذا أدخله, وكذلك يتبعه في السلام وهو الرجوع للخلق, والتمسّك بأذيال الشريعة المحمديّة, وإن لم يتبعه بأن زج به في حضرة الحقّ, ولم يتبعه أو خرج به إلى الحضرة المحمديّة, ولم يساعده فصلاته باطلة لكن هذا مع الشعور وإلاّ فلا تبطل, لأنّ فاقد الشعور صلاته تجبر.
    أمّا السادسة عشرة, نيّة الاقتداء: وهذه النيّة تطلب من مريد الدخول على الله أن ينوي الاقتداء بإمامه, وهو الأستاذ الدّال على الله في جميع الأمور الدينيّة والدنيويّة بأن لا يعترض عليه بقلبه ولا بلسانه, ولا يتهاون بأمره ويدور معه من حيث دار ويسير معه حيث سار, ولا ينبغي الانبرام عليه ولو بقدر يسير لكون الإمام شافعا في المقتدي به, ثمّ اعلم أنّ الإمام وهو الدّال كذلك ينوي الإمامة أن ينوي بأنّه دّال على الله وإن لم يجد من يقتدي به ليحصل له فضل الجماعة, ويكون يوم القيامة من الداعين إلى الله لكن هذا إن كان له إذن من الله ورسوله وهو المعبّر عنه بإمام الراتب, وإن لم يجد من يتبعه في توجهه إلى الله عزّ وجلّ فعليه أن ينوي الإمامة ليحصل له فضل الجماعة, وعلى الله الكمال وليأمر بالمعروف, ولينه عن المنكر: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر / آل عمران آية / 110), وعليه فلا تجب النيّة على الإمام الدّال على الله إلاّ في أربعة مواضع, وهي قول المصنف: (نيّته اقتداء كذا الإمام في خوف, وجمع جمعة, ومستخلف) ويقول في الذي تجب فيه النيّة على الإمام صلاة الجمعة بخلاف صلاة الجماعة, لأنّ الجماعة كناية عن التكلّم في حضرة الأسماء والصفات, وهذا المقام لا يحتاج للمرشد أن ينوي فيه بأنّه إمام, أو بأنّ له مزيّة على غيره, لأنّ التكلّم فيه مباح لعامّة العارفين بخلاف صلاة الجمعة التي هي كناية عن التكلّم في هوية الحقّ أي غيب الذات المقدّسة التي لا يمكن لها ظهور في هذا العالم إلاّ على منوال آخر لأنّ الهويّة مأخوذة من لفظه (هو الذي ……) هو إشارة للغائب وهي في حقه تعالى إشارة إلى كنه الذات المقّدسة التي لا يمكن أنّ مجالها في المكونات, كما قال بعضهم:
    إنّ الهوية ذات الواحد *** ومن المحال ظهورها في المشاهد
    فكأنّها نعت وقد وقعت على *** شأن البطون وما لدى من جاحد
    وحاصل الأمر أنّ الكلام مع الخلق في هذا المحل ممنوع إلاّ على من توافرت فيه شروط الإمامة, واستحق التقدّم لصلاة الجمعة على غيره, فينبغي له أن ينوي أنّه إمام, ويعلم أنّ هناك من هو يقتدي به في ذلك الكلام, ويحذر غاية الحذر لأنّه إذا لم يستحضر بأنّ هناك من هو مقتد به ربّما تكلّم بكلام يكون فتنة على عوام العارفين لأنّ في العارفين عوامّا وخواصّا لقوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض / البقرة آية / 253).
    ثمّ اعلم أنّ هذا الستر يجب مع الذكر والقدرة, وأمّا إذا كان صاحب هذا المقام مغلوبا عليه أي عادما القدرة على الكتمان فلا تبطل صلاته ولا ينقطع سيره لكونه معذورا لأنّ العقل الذي يميّز به الشواهد ويعطيه تفصيل المراتب والمقامات غاب عنه واضمحل, وبتلاشي العقل يتلاشى التكليف, وعليه ففاقد الشعور أي المغلوب عليه لا يشترط في حقّه الستر, وقد قيل إنّ (بشر الحافي) رضي الله عنه عاش حافيا حتى مات على تلك الحالة, فقيل له ألا تشتري نعلا؟ فقال لهم: لا نرضى أن نغيّر الحال الذي دخلت به على الله, وعليه فلا يطلب من الواصل بعد وصوله إلاّ الأدب في حضرة الله عزّ وجلّ, ولمّا تكلّم المصنف على ستر العورة بأنّه يجب مع الذكر والقدرة دون العجز والنسيان تكلّم هنا على مقصد العارفين وبقية العاشقين التي تطاولت إليها أعناق الطالبين وعبّروا عنها بأسماء لا تحصى واصطلاحات لا تستقصى, فمنهم: من صرّح, ومنهم: من لوّح, وحيث كان التصريح لأرباب الشطحات والتلويح لأصحاب المقامات.
    لمّا ذكر أنّ الستر واجب تشوّفت نفوس العارفين إلى حدّ الستر وما يباح للعارف إفشاؤه من أسرار الحريّة (أخبر أنّ الحريّة هي ضدّ العبوديّة لها شأن لا يجوز كشفها بحال ما عدا الوجه والكفين), لكن هذا بين الأجانب الذين هم من وراء حجاب, أمّا الواصلون فقد كشفت لهم عما لا ينبغي انكشافه لغيرهم, وأمّا المحجوبون فلا يجوز انكشافها أمام أحدهم ما عدا الوجه والكفين, والمراد بهما انكشاف بعض الصفات, ليقع لهم تشوف للذات, لأنّ العاشق كلّما رأى من معشوقه طرفا إزداد شوقا إلى أن يصل للغاية.
    فلمّا كانت النفس تتشوّف للحريّة وتطلب الترقي للمراتب السنيّة, مع إنّ الوصول للحريّة له قوانين وشروط مخصوصة, فذكر المصنف من شروط وجوبها أي شروط وجوب الوصول إليها النقاء من الدم, حيث شبّه النفس الأمّارة بالمرأة الحائضة لكون الحائضة يعتزلها زوجها حالة الحيض لقوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض / البقرة آية / 222), فكذلك يطلب من صاحب النفس الأمارة أن يعتزلها حالة الحيض أي يجانبها ولا يقربها حتى تطهر, فما دام صاحب هذه النفس يعلم من نفسه أنّها تميل إلى الشهوات بطبعها أو عاداتها, أو يبرز منها وصف رديء مخالف للشرع وهو المشبه بدم الحيض بل هو أخبث منه فلا يقربها لأنّها ملطخة بنجاسة المعصيّة ولا يعمل بعملها ولا يلتفت لقولها بل يجانبها مجانبة العدو, وإذا تطهّرت بعد نجاستها فله أن يقبل عليها ولا يعرض عنها لقوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن / البقرة آية / 187), وكلمّا اعتراها ذلك الوصف المذموم ينبغي لصاحبها أن يعتزلها حتى تطهر طهارة تدوم وتبقى, وتلك الطهارة لها أوصاف, وكما ذكر المصنّف, ولمّا يتمّ طهرها ويستقيم سيرها فلا تطلب الحريّة قبل أوانها بل تنتظر الوقت الذي يدعوها فيه الحقّ عزّ وجلّ إلى الدخول, فلا تطلب الدخول قبل أن يأذن لها حتى إذا ناداها: (يا أيّتها النفس المطمئنّة, ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة, فادخلي في عبادي وادخلي جنتي / الفجر آية / من 27 - 30), فينبغي لها أن تقول: (وقل ربّي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق / الإسراء آية / 80), أي أدخلني بصدق لحضرتك, وأخرجني بصدق لخلقك, فإذا صحّ لها هذا فلتطب نفسا وتقرّ عينا قد بلغت المنى وارتاحت من التعب والعنا.
    إنّ هويات الحقّ هي غيب الذات التي لا يمكن ظهورها في المكونات, والهويّة مأخوذة من ضمير هو المستعمل للغائب, وحيث كانت الغيبة لا تحصل للعارف إلاّ في غيب بالذات, وبعد أن يقوم المستغرق من وسط الهويّة ويرجع إلى مظهر الشهادة أن يحافظ ويرسخ في المقامات الثلاثة, ويتمسّك بها ظاهرها إسلام وإيمان وإحسان, وباطنها استسلام وإيقان وعيان, وعلى كلّ حال يطلب منه أن يرجع لبدايته من حيث العمل, أمّا إذا توالت عليه أسرار المشاهدة وأنوار الجمال واستولى مالك المشاهدة على مملوك المجاهدة ولم يمكنه حينئذ الجمع بين المتناقضين, والضدان لا يجتمعان, وعليه فليسلك سبيل المشاهدة ويترك ما خلاه, وعليه فليرجع لسيرته ويحافظ عليها, وعلى تلك المواصلة أشد المحافظة من سائر الصلوات لكونها هي الصلاة الوسطى التي قال الله فيها: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى / البقرة آية / 238), ثمّ اعلم أنّ صاحب هذا المقام هو في أشرف المقامات ومن شاهد المنازل لا يرضى بمشاهدة الغير.

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/9/2024, 03:31