الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 16
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 235 “
أقم عندي . قال : فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إليك ، وأمرني باللحوق لك ، وقد حضرك من أمر اللّه ما ترى ، فإلى من توصيني ؟ قال : واللّه إني ما أعلم رجلا على ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان ، فالحق به .
فلما مات وغيّب لحقت بصاحب نصيبين ، فجئته وأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي ، فقال : أقم عندي ، فوجدته على أمر صاحبه ، فأقمت معه ، فكان خير رجل ، فو اللّه ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضرته الوفاة قال : قلت : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إلى فلان ، وأوصاني فلان إليك ، فإلى من توصيني وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، ما أجد أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل أمرنا ، فإن أحببت فائته . فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبري . فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم . قال : ثم اكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة .
قال : ثم نزل به أمر اللّه ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ، ثم أوصاني فلان إلى فلان ، ثم أوصاني فلان إليك ، فإلى من توصيني وتأمرني ؟ فقال : أي بني ، واللّه ما أعلم أصبح على ما كنّا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم ، يخرج بأرض العرب ، مهاجرة إلى أرض بين الحرنين بها نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدبة ولا يأكل الصدفة ، بين كتفيه خاتم النبوّة ، فإن استطعت أن تلحق به بتلك البلاد فافعل . قال : ثم مات وغيّب .
ومكث بعمورية ما شاء اللّه أن أمكث .
ثم مرّ بي نفر من كلب تجار ، فقلت : أتحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري هذا وغنمي هذه ؟ فأعطيتهم إياهها ، وحملوني معهم حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني وباعوني من رجل يهودي ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلد الذي وصفه لي صاحبي ، فبينما أنا كذلك إذ قدم ابن عم له من المدينة من بني قريضة ، فابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة ، فو اللّه ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر ، على ما أنا عليه من شغل الرقّ ، ثم هاجر إلى المدينة ، فباللّه أني لفي رأس عذق لسيدي ، أعمل فيها بعض عمله ، وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل عم له ، فوقف عليه فقال : يا فلان ، قاتل اللّه بني قيلة ، واللّه إنهم الآن مجتمعون بقبا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعم أنه نبيّ ، قال : فلما سمعتها أخذتني العراء حتى ظننت أني ساقط على سيدي ، قال : فنزلت عن
“ 236 “
النخلة ، وجعلت أقول لابن عم سيدي : ما تقول ؟ فغضب سيدي فلطمني لطمة شديدة ، ثم قال لي : ما لك ولهذا ؟ اقبل على عملك ، قال : قلت : لأي شيء أردت تستبين عما قال ؟ وكان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بقبا ، فدخلت المسجد عليه فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، ثم قرّبته إليه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كلوا » ، وأمسك يده ولم يأكل ، قال :
فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا ، ولما تحوّل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة فجئته ، فقلت له : إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، قال : فأكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ، قال : فقلت في نفسي :
هاتان اثنتان ، قال : ثم جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ببقيع الفرقد ، تبع جنازة رجل من أصحابه ، عليه شملتان ، فسلمت عليه ، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبّله وأبكي . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تحوّل » ، فتحولت ، فجلست بين يديه ، فقصصت حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يسمع أصحابه . ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كاتب يا سلمان » ، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة ، أجيبها بالفقر ، وبأربعين أوقية ذهب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أعينوا أخاكم » ، فأعانوني بالنخل : الرجل بثلاثين ، والرجل بخمسة عشر ، والرجل بقدر ما عنده ، حتى جمعوا ثلاثمائة ودية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « اذهب يا سلمان ففقّرها ، فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي » ، قال : ففقرت لها ، فأعانني أصحابه ، حتى إذا فرغت جئته ، فأخبرته ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معي إليها ، فجعلنا نقرب له الوادي ، ويضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده الشريفة ، حتى فرغنا ، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة ، فأديت النخل ، وبقي عليّ المال ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما فعل الفارسي المكاتب ؟ » ، قال : فدعيت له ، قال : « خذ هذه ، فأدّها بما عليك يا سلمان » ، قال : قلت : ما تقع هذه يا رسول اللّه مما عليّ ؟ قال : « خذها فإن اللّه سيؤدي بها عنك » ، فأخذتها فوزنت لهم منها ، والذي نفسي بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم ، وعتق سلمان ، فشهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخندق وأحدا .
ثم لما نعتني الفقر مخرج الماء من القناة ، فقرّت للودية تفقيرا ، وهو أن يحفر حفرة حول النخلة إذا غرست .
“ 237 “
وصية إلهية
روينا من حديث ابن مروان ، عن عبيد بن شريك ، عن أبي صالح الفرّا ، عن سالم بن ميمون الخوّاص ، عن مكرم بن يوسف العابد ، قال : أوحى اللّه إلى نبي من الأنبياء أن قف على المدائن والحصون ، فأبلغهم عني حرفين ، وقل لهم : لا يأكلون إلا حلالا ، ولا يتكلمون إلا بالحق .
وكان الحسن بن صالح كثيرا ما ينشد هذين البيتين :
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا * ندمت على التفريط في زمن البذر
فما لك يوم الحشر شيء سوى الذي * تزودّته يوم الحساب إلى الحشر
ولنا من قصيدة قريب من هذا :
سيحصد عبد اللّه ما كان حارثا * فطوبى لعبد كان للّه يحرث
روينا من حديث المالكي ، عن معاذ بن المثنى ، عن يحيى بن معين ، عن أبي معاوية ، عن هشام ، قال : قيل للحسن : لم لم تغسل قميصك ؟ قال : الأمر أسرع من ذلك .
وقدم هند بن عوف من سفر ، فمهدت له امرأته فراشا ، فنام عليه ، فكانت له ساعة يصلي فيها من الليل ، فنام عنها ، فلما أصبح حلف أن لا ينام على فراش أبدا .
روينا من حديث الدينوري ، عن عباس بن محمد الدوري ، عن يحيى بن معين ، عن جرير ، عن طلق بن معاوية وهو جد حفص بن غياث ، قال : الغفلة سنّة الكريم .
سأل رجل عمران بن مسلم ، فأعطاه وبكى ، فقيل له : وما يبكيك وقد قضيت حاجته ؟ قال : بكيت حيث أحوجته إلى مسألتي .
روينا هذا من حديث إبراهيم الحربي ، عن أبي الحسن الباهلي ، قال : حدثني بعض أهل المعرفة وذكره .
كتاب طاوس إلى عمر بن عبد العزيز
روينا من حديث ابن مروان ، عن أحمد بن عبّاد التميمي ، عن سليمان بن أبي شيخ ، عن محمد بن أحمد القرشي ، قال ابن عبد العزيز : ما وعظني أحد أحسن مما وعظني به طاوس ، كتب إلي : استعن بأهل الخير يكن عملك خيرا كله ، ولا تستعن بأهل الشر فيكون عملك شرا كله .
“ 238 “
وروينا من حديث ابن أبي الدنيا ، قال : حدثنا قاسم بن هشام ، نبأ عصمة بن سلمان ، نبّأ فضل بن جعفر ، قال : خرج الحسن من دار ابن هبيرة ، وإذا هو بالقراء على الباب ، قال : ما أجلسكم هنا ؟ تريدون الدخول على هؤلاء ، أما واللّه ما مخالطتكم مخالطة الأبرار ، تفرقوا ، فرق اللّه بين أرواحكم وأجسامكم ، خصفتم نعالكم ، وشمرتم ثيابكم ، وجززتم رءوسكم ، فضحتم القراء ، فضحكم اللّه ، أما واللّه لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم ، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم ، فأبعد اللّه من أبعد .
خبر أساف ونائلة الأصنام
روينا من حديث ابن إسحاق ، أن جرهم لما طغت في الحرم دخل رجل منهم بامرأة الكعبة ، ففجر بها ، ويقال : بل قبّلها ، فمسخا حجرين اسم الرجل : أساف بن بقاء ، واسم المرأة : نائلة بنت ذئب . فأخرجا من الكعبة ، فنصب أحدهما على الصفاء علما ، والآخر على المروة . وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس ، وينزجروا عن مثل ما ارتكبا ، لما يرون من الحال الذي صار إليه فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم حتى صار يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة . فلما كان عمرو بن لحيّ أمر بعبادتهما وتعظيمهما والتمسح بهما :
وقال : إنهما كانا معبودين لمن قبلكم . فلما كان قصيّ بن كلاب حوّلهما من الصفا والمروة ، فجعل أحدهما ملصقا بالكعبة ، وجعل الآخر في موضع زمزم . وكان يطرح بينهما ما يهدي للكعبة ، وكان يسمى ذلك الموضع الحطيم . وكان ينحر عندهما ويذبح ، ولم يكن يدنو منهما امرأة ظلمت .
وفي ذلك يقول بشر بن أبي حزم الأسدي أسد خزيمة بيتا مفردا :
عليه الطير ما يدنون منه * مقامات العوارك من أساف
فكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بأساف ومستلمة ، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها . فكان كذلك حتى كسرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع الأصنام يوم فتح مكة ، دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح فكان بها ثلاثمائة وستون صنما حول الكعبة قد شد بالرصاص منها ، فطاف على راحلته وهو يقول : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ، ويشير إليها بقضيب في يده الكريمة على بعد لا يمسّها فما منها صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره ، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه ، حتى وقعت كلها ، فلما صلى العصر أمر بها فجمعت ، ثم أحرقت بالنار . وفي ذلك يقول فضلة بن عمير بن الملوّح الليثي في يوم الفتح شعرا :
“ 239 “
لما رأيت محمدا وجنوده * بالفتح يوم تكسّر الأصنام
لرأيت نور اللّه أصبح بيّنا * والشرك يغشى وجهه الإظلاموقيل : بل كان الرجل أساف بن عمرو ، والمرأة نائلة بنت سهيل ، فلما كسرا يوم الفتح مع الأصنام ، خرج من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها ، عريانة ناشرة شعرها ، تدعو بالويل والثبور . فقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك ، فقال : “ تلك نائلة أيست أن تعبد ببلادكم أبدا “ . ويقال : إن إبليس رنّ ثلاث رنّات ، رنّة حين لعن فتغيّرت صورته عن زيّ الملائكة ، ورنّة حين رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم قائما يصلي بمكة ، ورنّة حين افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ، فاجتمعت إليه ذريته ، فقال إبليس : أيسوا أن تردوا أمة محمد الشرك بعد يومهم هذا أبدا ، ولكن افشوا فيهم النوح والشعر .ومن محاسن المكاتبة
ما كتب به عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر إلى بعض إخوانه : أما بعد ، فقد عاقني الشك عن عزيمة الرأي ، ابتدأتني بلطف من غير خبرة ، ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب ، فأطمعني أوّلك في إخائك ، وأيسني آخرك من وفائك ، فلا أنا في حين الرّجا مجمع لك إطراحا ، ولا أنا في غد بنصرة منك على ثقة ، فسبحان من لو شاء وكشف إيضاح الرأي فيك ، فأقمنا على ائتلاف ، أو افترقنا على اختلاف .
وقيل : الولاية حلوة الرضاع مرّة الفطام .
لما ولّي الحجاج المدينة ، وجاز فيها ، وقدم وفد المدينة وفيهم عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه على عبد الملك بن مروان ، فأثنى الوفد على الحجاج ، وعيسى ساكت ، فلما قاموا ثبت عيسى حتى خلا له وجه عبد الملك ، فقام فجلس بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين ، من أنا ؟ قال : عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : فمن أنت ؟ قال عبد الملك بن مروان ، قال : فجهلتنا أم تغيرت بعدنا ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : ولّيت علينا الحجاج بن يوسف يسير فينا بالباطل ، وتحملنا أن نثني عليه بغير الحق ، واللّه إن أعدته علينا لنعصينك ، وإن قاتلتنا وغلبتنا وأسأت إلينا قطعت أرحامنا ، ولئن قوينا عليك لنغصبنّك ملكك . فقال له عبد الملك : انصرف والزم بيتك ، ولا تذكرن من هذا شيئا .
قال : وقام من منزله ، وأصبح الحجاج غاديا على عيسى بن طلحة ، فقال : جزاك اللّه خيرا عن خلوتك بأمير المؤمنين ، فقد أبدلني بكم خيرا ، وأبدلكم بي غيري ، وولّاني العراق .
وحدثنا أبو الربيع الكتاني ، عن أبي محمد بن عبد اللّه بن عبد الرحمن ، عن
“ 240 “
عبد الرحمن بن محمد ، قال : حج الشبلي ، فلما وصل إلى مكة جعل يقول :
أبطحاء مكة هذا الذي * أراه عيانا وهذا أنا
ثم غشي عليه فأفاق وهو يقول :
هذه دارهم وأنت محبّ * ما بقاء الدموع في الآماق
وقال الآخر :
إذا هزّنا الشوق اضطربنا لهزّه * على شعب الرحل اضطراب الأراقم
فمن صبوات تستقيم بمائل * ومن أريحيّات تهب بنائم
واستشرف الأعلام حين تدلّني * على طيبها مرّ الرياح النواسم
وما أنسم الأرواح إلا لأنها * تمرّ على تلك الرّبا والمعالم
ولنا من المعاني الغزلية :
رأى البرق شرقيا فحنّ إلى الشرق * ولو لاح غربيا لحنّ إلى الغرب
فإن غرامي بالبريق ولمعه * وليس غرامي بالأماكن والترب
روت لي الصّبا عنهم حديثا معنعنا * عن البيت عن وجدي عن الحزن عن كرب
عن السكر عن عقلي عن الشوق عن جوى * عن الدمع عن جفني عن النار عن قلبي
بأن الذي تهواه بين ضلوعكم * تقلبه الأنفاس جنبا إلى جنب
فقلت له بلّغ إليه بأنّه * هو الموقد النار التي داخل القلب
فإن كان إطفاء فوصل مخلّد * وإن كان إحراق فلا ذنب للصّبّ
ولنا في هذا المعنى مقطوع :
قل للذي مسكنه أضلعي * ومن له في القلب إضمار
ما خفت إذ أضرمت نار الأسى * في أضلعي تحرقك النار
سلمنا الأمر إليه فقلنا :
أيها العذب التجني والجنا * أيها البدر سناء وسنا
نحن حكّمناك في أنفسنا * فاحكم إن شئت علينا ولنا
( ذكر المؤاخاة التي كان وأخاها النبي صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار رضي اللّه عنهم ) .
روينا من حديث محمد بن إسحاق المطلبيّ قال : واخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تواخوا في اللّه » ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب
“ 241 “
فقال : “ هذا أخي “ ، فكان عليّ ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخوين . وكان حمزة بن عبد المطلب عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخوين . وكان معاذ بن جبل وجعفر بن أبي طالب أخوين . وكان أبو بكر الصدّيق وخارجة بن أبي زهير أخوين . وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين .
وكان أبو عبيدة بن الجراح ، واسمه عامر بن عبد اللّه ، وسعيد بن معاذ أخوين . وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين . وكان الزبير بن العوّام وسلمة بن سلامة بن وقس أخوين . ويقال : بل الزبير وعبد اللّه بن مسعود أخوين . وكان عثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين . وكان طلحة بن عبد اللّه وكعب بن عدن أخوين . وكان سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب أخوين .
وكان مصعب بن عمير بن هشام وأبو أيوب خالد بن زيد أخوين . وكان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعبّاد بن بشر بن وقش أخوين . وكان عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين .
ويقال : بل ثابت بن قيس بن شمّاس خطيب النبي صلى اللّه عليه وسلم وعمّار بن ياسر أخوين . وكان أبو ذرّ واسمه يزيد ، وقيل : كان اسمه جندب بن جنادة الغفاري ، والمنذر بن عمرو أخوين . وكان حاطب بن أبي بلتعة وعويمر بن ساعدة أخوين . وكان سلمان الفارسي وأبو الدرداء عويمر بن زيد ، والخلاف في أبيه ، أخوين . وكان بلال وأبو رويحة عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي .
قال ابن إسحاق : فهؤلاء من سمّي لنا ممن كان عليه الصلاة والسلام آخى بينهم من أصحابه رضي اللّه عنهم .
ذكر خراب البلاد الذي يكون في آخر الزمان
روينا من حديث المياسي ، أسنده إلى حذيفة ، قال حذيفة : قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذكر الحديث بطوله ، وقد أوردناه في الكتاب في رقم 22 وفيه أن مصر آمنت من الخراب حتى تخر البصر . ثم ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن خراب البصرة من العراق ، وخراب مصر من جفاف النيل ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من السّيل ، وخراب اليمن من الجراد ، وخراب الأيلة من الحصار ، وخراب فارس من الصعاليك من الديلم ، وخراب الديلم من الأرمن ، وخراب الأرمن من الجزر ، وخراب الجزر من الترك ، وخراب الترك من الصواعق ، وخراب السّند من الهند ، وخراب الهند من الصين ، وخراب الصين من الرمل ، وخراب الحبشة من الرجفة ، وخراب الزوراء من السفياني ، وخراب الرّوحاء من الخسف ، وخراب العراق من القحط .
وحدثني عبد الواحد بن إسماعيل بن إبراهيم العسقلاني الكتاني قال : حدثني أبي ،
“ 242 “
قال : قرأت في كتاب ابن عصمة في القران العاشر من المثلثة الترابية الموافقة لسنة خمسمائة وإحدى وستين من الهجرة النبوية ، تكون أمور هائلة في الأقاليم الثالث والرابع ، بتقدير العزيز العليم الذي أودع علم ذلك في جري الكواكب وحركات الأفلاك ، كما أودع السحاب والمطر والأرض والنبات . وسائر الأسباب الإلهية المصنوعات بسياقها .
فمن ذلك ظهور ملك المشرق ، فيعظم أمره ، ويشتد في الآفاق خبره ، ويعلو شأنه ، إلى أن تصعد جناحاه إلى الغرب والقبلة ، ويكون مؤيدا منصورا في جميع أموره ، وذلك في أول القرآن ، وهو قران زحل والمشتري العلويين ، في برج الجدي في الثلث الأخير منه .
ويستولي هذا الملك المذكور على مملكة مصر ويضعفها ، ويسقيها بكأس الحمام ، وينغصها ويهلك أعوانها ومن يقول بقولها ، وذلك من أول القرن إلى ربعه .
ويهلك اللّه به السودان هلاكا لا يرجى جبرانه إلى أن يعودون ذمة تحت يديه ، ويقوى على بني الأصفر ، ويكسرهم ثلاث مرات ، ويفتح بنو الأصفر على أيامهم قرية بلبيس ، ويهلك بها خلق كثير . فإذا كان الربع الثاني من القرن ظهر منه غضب ، ويتفرق ملكه على ثلاث فرق ، فيجوز كل منهم مكانا يجوزه برجاله وعساكره ، ويكون أحد الثلث قويا ، والثلثان فيهم ضعف ، ويبقى الملك في عقبهم إلى نصف القرن ، ثم ينتقل الكوكبان إلى الديران ، وهو الثلث الثالث من القرن ، ففي ذلك الزمان يتحرك صاحب الغرب في جيوش كثيرة ، وعساكر غزيرة ، وينزلون شرقا وغربا ، ويعمر مدينة يقال لها شبرة أو صبرة ، ويملئون بنيان القيروان ، فيبلغ الروم ذلك ، فيتحركون في الأساطيل العظيمة ، فيفتحون سواحل البحر ، ويخاف على الجزيرتين والإسكندرية فإذا أنزل حركة كيوان وجسده في البرج الغربي .
وحرك سبحانه عند ذلك جيوش المغرب ، فينزلون قريبا من الحجر الأبيض ، فيقسمون جيوشهم على ثلاث فرق فرقة تقصد الصعيد الأعلى ، وفرقة تأخذ الطريقة الوسطى ، وفرقة تأخذ على طريق البحر فيجتمعون بأسرهم على نيل مصر ، ويكون النيل سبعة من اثني عشر حتى تغور بحيرة طبرية ، وتجف العيون في جميع الأقاليم ، وتغور المياه في قرار الأرض ، ويعدم القوت ، وتسيب البلاد ، ويجوز كل واحد موضعه ، ويفيض اللسان الأعوج في جميع الأقاليم ، وتحرق في مصر ثالثة ، ويستباح ما فيها ، وتستباح دماء أهل الذمة وأموالهم ، ويملك أكثرهم ، ويخرب الصعيد والريفان ، ويكون أمر الخلق في ضلال من بعد أن تستباح أموالهم ، وتضعف أحوالهم ، ويموت كثير منهم ، والويل لمن يقيم في إقليم مصر ، إذا أنزل اللّه كيوان برج السرطان وذلك في الربع الأخير من القران ، فإذا نزل تحرّك
“ 243 “
بنو الأصفر بقوة عظيمة في الأساطيل ، ويفتحون مدينة الإسكندرية من بين البابين ، ويدخلون فيها إلى أن يبلغوا سوق الريحان ، فيقتلون خلقا كثيرا ، وينقلع بنو الأصفر من الشام جميعه حتى السواحل ، ويكون سبب خروجهم يظهر عليهم رجل من المشرق بغتة لا يعلمون بخروجه ، وينضاف إليهم عساكر من الترك ، يقتحمون بيت المقدس ، والشام جميعه ، ويقيمون بها دون الحول ، فعند ذلك يتحرّك ملك الجزر ، يقال له : ذو العرف ، يخرج بعساكره برا وبحرا ويقصد بعضهم إلى الدروف ، وبعضهم إلى الشام ، وبعضهم إلى الإسكندرية وجزائر البحر .
ويقع بينه وبين الترك خمس وقعات إلى أن تجري دماؤهم كالنهر ، وفي عقب ذلك تنتصر جيوش الغرب بقوة عظيمة مائة ألف أو أكثر ، وتعود دفعة ثانية إلى مصر ، ويضربون خيامهم من الترك وعسقلان وطبرية ، ثم يخرج السفياني بعساكر عظيمة ، فيقتلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، ويوجه السفياني جيشين : جيشا إلى الكوفة فيقتل حتى لا يبقى منهم أحد أصلا ، وأما الجيش الآخر فيأتي إلى مدينة يثرب فيستبيحها ثلاثة أيام ، ثم يرحل يطلب مكة فيخسف به في البيداء فلا يسلم منهم أحد سوى رجلين ، أحدهما من جهينة فهو الذي يأتيه بالخبر ، ثم يخرج المهدي فيقتل السفياني ذبحا تحت شجرة بخارج دمشق ، ويبايع بين الركن والمقام ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا ، ثم يغزو القسطنطينية بعساكر في جملتهم سبعون ألفا من ولد إسحاق فيكبّرون عليها فينهدم ثلثها ، ثم يكبّرون ثانية فينهدم الثلث الثاني ، ثم يكبّرون ثالثة فينهدم سورها كله فيدخلونها فيكسبون فيها أموالا عظاما ، ثم يخرج الدجال فيلبث أربعين يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم ، فينزل عيسى عليه السلام بين مهرودتين عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق ، فيصلي العصر بالناس ويطلب الدجال فيقتله بباب لدّ ويخرج يأجوج ومأجوج .
وقد ذكرنا حديثهم في هذا الكتاب ، فينحصروا في جبل الطور ، في القلعة التي بناها الملك المعظم ابن الملك العادل ، بنيان عيس لعيسى ، وأرجو أن يدعو لبانيها ، فلا يزال محصورا بها داعيا في هلاك يأجوج ومأجوج ، فيموتون موت رجل واحد بداء النفف كما ذكرنا . ثم يخرج عيسى عليه السلام وتخرج الأرض خيرها وبركتها ، فيتزوج ويولد له ، ثم يموت فيدفن بالمدينة بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر ، ويرسل اللّه ريحا ليّنة تحت العرش تأخذ المؤمنين من تحت آباطهم فيموتون ، فيبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ، ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ قال : رأى بعض المريدين في الواقعة أبا مدين جالسا في روضة من نور ، وأشياخ الصوفية قد أحدقوا
“ 244 “
به ، وأحدقت بالجميع صور لم أر أحسن منها ولا أجمل ، وعليهم من نفائس الجواهر واللآلئ ما لا أستطيع وصفه ، ولا أحسن العبارة عن نقشه ، وعلى رأس أبي مدين ثلاثة ألوية من نور ، مركوز واحد عن يمينه مكتوب عليه : حسبي اللّه ، وواحد على رأسه وهو أعلاها مكتوب عليه : اللّه ، والآخر على يساره مكتوب عليه : لا حول ولا قوة إلا باللّه .
فقال أبو حامد لأبي مدين : يا شيخ ، تكلم لنا على هذه الأسماء المكتوبة على هذه الألوية ، فقال الشيخ : أما هذا الاسم الذي هو اللّه ، فهو الاسم الأعظم الذي هو رأس الأسماء ، وإليه يرجع كل معنى ، وهو المنزّه المتبوع الذي به ظهرت المخلوقات ، وعليه أسست الأرضون والسماوات ، وعنه صدرت الأسماء والصفات ، فالمصنوعات بأسرها من العرش إلى الثرى تشهد بأنه موجدها ، وما من ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا رطب ولا يابس إلا وهو معها .
فقال له أبو حامد : فما معنى حسبي اللّه ؟ فقال : هو أمن وأمان من أن تغدو عليه النيران ، فمن تخلّق به سلم وصفا ، وكان ممن وفا حين وفا . فقال : ما معنى لا حول ولا قوة إلا باللّه ؟ فقال : هو التبرّي من باطن الأحوال ، وردّها إلى ظاهر الأقوال والأفعال ، ثم ردّها إلى ذي الكلام والجلال . فهذه وما عداها راجعة إلى الاسم الأعظم الذي هو مبدأها ومنتهاها ، فهو الاسم الذي حنّ به بعض كل شيء إلى بعض ، وهو نور السماوات والأرض ، فإذا تجلى من نوره لمعه كان اللّه ولا شيء معه ، ثم قال له : قل لنا في التوحيد شيئا .
فقال : التوحيد سرّي ، ووطني ، ومستقرّي ، وسكني ، وهو مبدأي ، ومنتهاي ، وهو الأساس لبناي ، خصّني اللّه منه بفضائل ، وأكرمني منه بدلائل ، إن نزعت إلى سبب من الأسباب نوديت : اذكر ربك لا تذكر الأسباب . فالتوحيد يجلي كل ظلمة ، وهو الرافع لكل ذي همة ، هو القطب الذي عليه المدار ، وبه أشرق الوجود واستنار .
ثم قال أبو حامد : ما هي مادة اللّه في الوجود ؟ فقال : مادة اللّه في الوجود تسري ، وعلى ما سبقت به المقادير تجري ، قد سترها الغيب ، فهي منزّهة عن النقص والعيب ، فقد أخفاها اللّه سبحانه عن الكائن والبائن ، وجفّ القلم بما هو كائن فسترها عن خلقه من وجوه الرحمة والعطف ، وتغيّبها عنهم من كمال الجود واللطف .
ولنا من باب الرموز والإشارات العلوية :قالت عجبت لصبّ من محاسنه * يختال ما بين أزهار ببستان
فقلت لا تعجبي مما ترين فقد * أبصرت نفسك في مرآة إنسانولنا من باب اللطائف الربانية :
“ 245 “
بأثيلات النقا سرب قطا * ضرب الحسن عليه طنبا
وبأجواز الفلا من أضم * نعم ترعى لديها وظبا
يا خليليّ قفا واستنطقا * رسم دار بعدهم قد خربا
واندبا قلب فتى فارقهم * يوم باتوا وابكيا وانتحبا
عله يخبر حيث يمموا * الجرعاء الحمى أم لقبا
رحّلوا العيس ولم أشعر بهم * السهو كان أم طرف نبا
لم يكن ذاك ولا هذا وما * كان إلا وله قد غلبا
يا هموما شرّدت وافترقت * خلفهم تطلبهم أيدي سبا
أي ريح نسمت ناديتها * يا شمالي يا جنوبي يا صبا
هل لديكم خبر مما بنا * قد لقينا من هواهم نصبا
أسندت ريح الصبا أخبارهم * عن نبات الشيخ عن زهر الرّبا
إن من أمراضه داء الهوى * فليعلل بأحاديث الصّبا
ثم قالت يا شمال خبّري * مثل ما خبّرته أو أعجبا
ثم أنت يا جنوب حدّثي * مثل ما حدّثته أو أعذبا
قالت الشمأل عندي فرج * شاركت فيه الشمال الأزيبا
كل سوء في هواهم حسن * وعذاب برضاهم عذّبا
فإلام وعلام ولما * تشتكي اللبث وتشكو الوصبا
وإذا ما وعدوكم ما ترى * برقه إلا بريقا خلّبا
رقم الغيم على ردن الغما * من سنان البرق طرازا مذهبا
فجرت أدمعها منها على * صحن خدّيها فأذكت لهبا
وردة ثابتة من أدمع * نرجس يمطر غيث عجبا
ومتى رمت جناها أرسلت * عطف صدغيها عليها عقربا
تشرق الشمس إذا ما ابتسمت * ربّ ما أنور ذاك الحببا
يطلع الليل إذا ما أسدلت * فاحما جثلا أثيثا غيهبا
يتجارى النحل مهما تفلت * ربّ ما أعذب ذاك الشنبا
وإذا مالت أرتنا فننا * أي رنت سلّت من اللحظ ظبا
كم تناغي بالنقا من حاجر * يا سليل العربيّ العربا
أنا إلا عربيّ ولذا * أعشق البيض وأهوى العربا
لا أبالي مشرق الوجد بنا * حيثما كانت به أو غربا
“ 246 “
كلما قلت إلا قالوا أما * وإذا ما قلت هل قالوا أبا
ومتى ما أنجدوا أو اتهموا * أقطع البيدا أحثّ الطلبا
سامريّ الوقت قلبي كلما * أبصر الآثار يبغي المذهبا
وإذا ما غرّبوا أو شرّقوا * كان ذو القرنين يقفو السّببا
كم دعونا بالوصال رغبا * كم دعونا من فراق رهبا
يا بني الزوراء هذا قمر * عندكم لاح وعندي غربا
خربي واللّه منه حربي * كم أنادي خلفه وا حربا
لهف نفسي لهف نفسي لفتى * كلما غنّى حمام غيّبا
حدثنا محمد بن علي ابن أخت المقري ، حدثنا محمد بن أحمد بن علي ، حدثنا محمد بن برار ، نبأ عبد اللّه بن قاسم ، حدثنا محمد بن القاسم ، عن أبيه ، عن علي بن حرب ، عن أسباط بن محمد ، عن هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه كل مئونة ، ومن انقطع إلى الدنيا وكّله اللّه إليها ، ومن حاول أمرا بمعصية اللّه كان أبعد له مما رجا وأقرب مما اتقى ، ومن طلب محامد الناس بمعاصي اللّه عاد حامده منهم ذامّا ، ومن أرضى الناس بسخط اللّه وكّله اللّه إليهم ، ومن أرضى اللّه بسخط الناس كفاه اللّه شرهم ، ومن أحسن فيما بينهم وبين اللّه كفاه اللّه ما بينه وبين الناس ، ومن أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته ، ومن عمل لآخرته كفاه اللّه أمر دنياه » .
وحدثنا علي بن عبد اللّه بن عبد الرحمن ، نبأ شعبة ، عن الحكم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « رحم اللّه عبدا تكلم فغنم ، أو سكت فسلم ، إن اللسان أملك شيء للإنسان ، ألا وإن كلام العبد كله عليه ، إلا ذكر اللّه ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو إصلاح بين المؤمنين » .
فقال له معاذ بن جبل : يا رسول اللّه ، أنؤاخذكم بما نتكلم به ؟ قال : « وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ فمن أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه ، وليحرص على ما انطوى عليه جنانه ، وليحسن عمله ، وليقصر أمله » . ثم لم تمض أيام حتى نزلت هذه الآية : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ .
عناية أزلية
روينا من حديث أبي عبد الرحمن ، قال : سمعت عن ابن عبد الرحمن الطوسيّ ،
“ 247 “
قال : سمعت علوس الدينوري ، قال : سمعت المزني يقول : كنت مجاورا بمكة فخطر لي خاطر في الخروج إلى المدينة ، فخرجت ، فبينما أنا بين المسجد أمشي ، فإذا أنا بشاب مطروح ينزع ، فشهق شهقة كانت فيها نفسه ، فكفّنته في أطمار ، ودفنته ، ورجعت .
وبه قال الخوّاص : كنت بمكة ، فبينما أنا أطوف بالبيت نوديت في سرّي : امضي إلى بلاد الروم . فقلت : يا عجبا ، أكون ببيت اللّه الحرام فأتركه ، وأمضي إلى بلاد الروم ؟ ثم هممت بالطواف ، فلم أستطع ، فسرت إلى بلاد الروم ، فلما دخلتها سمعت الناس يقولون :
إن بنت الملك قد صرعت ، وقد عرضت على الأطباء فما عرفوا لها دواء . فقلت : احملوني إليها ، فأنا غلام طبيب . فحملت ، فلما دخلت عليها ، قلت : مرحبا يا خوّاص ، فقلت : ما لك ؟ قلت : كنت على ديننا حتى البارحة ، وإني نمت فرأيت في المنام عرش ربي بارزا ، فانتبهت كما ترى ، لا ينطق لساني إلا بقول لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فلما رأوني هكذا ، نسبوني إلى الجنون . فقلت : لعل اللّه عز وجل يخلصك منهم . قلت : فمن أين عرفت اسمي ؟ قالت : نوديت : سنبعث لك من تسلمين على يديه ، وألهمت ذكرك .
فهممت بالنهوض ، فقالت : إلى أين ؟ قلت : إلى مكة . قالت : ها هي مكة . فنظرت ، فإذا مكة . فسرت قليلا ، فإذا أنا بالبيت .
ومن باب سماع العارفين قوله :قفا ودّعا نجدا ومن حل بالحمى * وقلّ لنجد عندنا أن تودّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع * إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
واذكر أيام الحمى ثم انثنى * على كبدي من خشية أن تصدّعاتفسيره : يقول لعقله ولنفسه : ودّعا الرفيق الأعلى ، والأرواح العلى التي محلها الحمى الإلهي ، على أنه لا يصح مفارقته بالكنه الرقائق التي بينهما وبينه . وليست عشّيت الحمى برواجع ، أي الأنوار التي تغشى حمتها إلا لطاف الخفيّة عنها ، فهي بحجابها في عالم الأكوان تذكر أيامها بالحمى الإلهي ، فتنعطف على كبدها ، إشارة إلى عنصر الحياة التي سرت مادته في جميع الموجودات ، وتصدعه وتفرقه .
ولنا نظم في هذا الباب :وزاحمني عند استلامي أو أنس * أتين إلى التطواف معتجرات
حسرن عن أمثال الشموس وقلن لي * تودّع فموت النفس في اللحظات
فكم قد قتلنا بالمحصّب من منى * نفوسا أبيات لدى الجمرات
وفي سرحة الوادي وأعلام رامة * وجمع وعند النفر من عرفات
“ 248 “
ألم تدر أن الحسن يسلب من له * عفاف فيدعى سالب الحسنات
فموعدنا بعد الطواف بزمزم * لدى القبة الوسطى لدى الصخرات
هنالك من قد شفه الوجد يشتفي * بما شاقه من نسوة عطرات
إذا خفن أسدلن الشعور فهنّ من * غدائرها في الحف الظلمات
ولنا من باب المفاريد في باب الفخر قولنا :
في كل عصر واحد يسمو به * وأنا لباقي العصر ذاك الواحد
خبر الفيل وأصحابه وما أظهر اللّه في ذلك من البيّنات على تعظيم الحرم
روينا من حديث أبي الوليد ، وأبي هشام ، وابن إسحاق ، وبعضهم يزيد على بعض ، والسياق لابن إسحاق ، غير أني قد أدخل في أثناء حديثه الزيادات في أماكنها .
ولما بنى أبرهة الكنيسة التي سماها القليس ، وكتب إلى النجاشي بأنه عزم على أن يصرف حاجّ العرب إليه ويتركوا مكة ، وما قال في هدم الكعبة شيئا ، غضب رجل من النّسأة ، أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، فجاء إلى الكنيسة المذكورة فقعد فيها .
قال ابن هشام : يعني أحدث فيها . ثم خرج الكنانيّ فلحق بأرضه ، فبلغ أبرهة ذلك ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة ، لما بلغه قولك : أصرف إليها حج العرب ، غضب فجاء فأحدث فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل . فغضب أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه . ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج بالفيل معه ، وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه ، ودعوا به ، ورأوا أن جهاده حق عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت اللّه الحرام ، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت اللّه ، وما يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك .
ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر فأتى به أسيرا .
فلما أراد أبرهة قتله قال ذو نفر : لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ، فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما ورعا ذا دين في النصرانية . ومضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج إليه ، حتى إذا كان بأرض خثعم ، خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي ، من أكمل بني ربيعة بن عفرس في قبيلتي خثعم شهران وناهس ، وهما ابنا عفرس بن خلف بن أقبل ، وهو خثعم ، ومن تابعه من قبائل
الجزء 16
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 235 “
أقم عندي . قال : فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إليك ، وأمرني باللحوق لك ، وقد حضرك من أمر اللّه ما ترى ، فإلى من توصيني ؟ قال : واللّه إني ما أعلم رجلا على ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان ، فالحق به .
فلما مات وغيّب لحقت بصاحب نصيبين ، فجئته وأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي ، فقال : أقم عندي ، فوجدته على أمر صاحبه ، فأقمت معه ، فكان خير رجل ، فو اللّه ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضرته الوفاة قال : قلت : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إلى فلان ، وأوصاني فلان إليك ، فإلى من توصيني وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، ما أجد أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل أمرنا ، فإن أحببت فائته . فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبري . فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم . قال : ثم اكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة .
قال : ثم نزل به أمر اللّه ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ، ثم أوصاني فلان إلى فلان ، ثم أوصاني فلان إليك ، فإلى من توصيني وتأمرني ؟ فقال : أي بني ، واللّه ما أعلم أصبح على ما كنّا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم ، يخرج بأرض العرب ، مهاجرة إلى أرض بين الحرنين بها نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدبة ولا يأكل الصدفة ، بين كتفيه خاتم النبوّة ، فإن استطعت أن تلحق به بتلك البلاد فافعل . قال : ثم مات وغيّب .
ومكث بعمورية ما شاء اللّه أن أمكث .
ثم مرّ بي نفر من كلب تجار ، فقلت : أتحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري هذا وغنمي هذه ؟ فأعطيتهم إياهها ، وحملوني معهم حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني وباعوني من رجل يهودي ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلد الذي وصفه لي صاحبي ، فبينما أنا كذلك إذ قدم ابن عم له من المدينة من بني قريضة ، فابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة ، فو اللّه ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر ، على ما أنا عليه من شغل الرقّ ، ثم هاجر إلى المدينة ، فباللّه أني لفي رأس عذق لسيدي ، أعمل فيها بعض عمله ، وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل عم له ، فوقف عليه فقال : يا فلان ، قاتل اللّه بني قيلة ، واللّه إنهم الآن مجتمعون بقبا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعم أنه نبيّ ، قال : فلما سمعتها أخذتني العراء حتى ظننت أني ساقط على سيدي ، قال : فنزلت عن
“ 236 “
النخلة ، وجعلت أقول لابن عم سيدي : ما تقول ؟ فغضب سيدي فلطمني لطمة شديدة ، ثم قال لي : ما لك ولهذا ؟ اقبل على عملك ، قال : قلت : لأي شيء أردت تستبين عما قال ؟ وكان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بقبا ، فدخلت المسجد عليه فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، ثم قرّبته إليه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كلوا » ، وأمسك يده ولم يأكل ، قال :
فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا ، ولما تحوّل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة فجئته ، فقلت له : إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، قال : فأكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ، قال : فقلت في نفسي :
هاتان اثنتان ، قال : ثم جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ببقيع الفرقد ، تبع جنازة رجل من أصحابه ، عليه شملتان ، فسلمت عليه ، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبّله وأبكي . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تحوّل » ، فتحولت ، فجلست بين يديه ، فقصصت حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يسمع أصحابه . ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كاتب يا سلمان » ، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة ، أجيبها بالفقر ، وبأربعين أوقية ذهب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أعينوا أخاكم » ، فأعانوني بالنخل : الرجل بثلاثين ، والرجل بخمسة عشر ، والرجل بقدر ما عنده ، حتى جمعوا ثلاثمائة ودية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « اذهب يا سلمان ففقّرها ، فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي » ، قال : ففقرت لها ، فأعانني أصحابه ، حتى إذا فرغت جئته ، فأخبرته ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معي إليها ، فجعلنا نقرب له الوادي ، ويضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده الشريفة ، حتى فرغنا ، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة ، فأديت النخل ، وبقي عليّ المال ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما فعل الفارسي المكاتب ؟ » ، قال : فدعيت له ، قال : « خذ هذه ، فأدّها بما عليك يا سلمان » ، قال : قلت : ما تقع هذه يا رسول اللّه مما عليّ ؟ قال : « خذها فإن اللّه سيؤدي بها عنك » ، فأخذتها فوزنت لهم منها ، والذي نفسي بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم ، وعتق سلمان ، فشهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخندق وأحدا .
ثم لما نعتني الفقر مخرج الماء من القناة ، فقرّت للودية تفقيرا ، وهو أن يحفر حفرة حول النخلة إذا غرست .
“ 237 “
وصية إلهية
روينا من حديث ابن مروان ، عن عبيد بن شريك ، عن أبي صالح الفرّا ، عن سالم بن ميمون الخوّاص ، عن مكرم بن يوسف العابد ، قال : أوحى اللّه إلى نبي من الأنبياء أن قف على المدائن والحصون ، فأبلغهم عني حرفين ، وقل لهم : لا يأكلون إلا حلالا ، ولا يتكلمون إلا بالحق .
وكان الحسن بن صالح كثيرا ما ينشد هذين البيتين :
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا * ندمت على التفريط في زمن البذر
فما لك يوم الحشر شيء سوى الذي * تزودّته يوم الحساب إلى الحشر
ولنا من قصيدة قريب من هذا :
سيحصد عبد اللّه ما كان حارثا * فطوبى لعبد كان للّه يحرث
روينا من حديث المالكي ، عن معاذ بن المثنى ، عن يحيى بن معين ، عن أبي معاوية ، عن هشام ، قال : قيل للحسن : لم لم تغسل قميصك ؟ قال : الأمر أسرع من ذلك .
وقدم هند بن عوف من سفر ، فمهدت له امرأته فراشا ، فنام عليه ، فكانت له ساعة يصلي فيها من الليل ، فنام عنها ، فلما أصبح حلف أن لا ينام على فراش أبدا .
روينا من حديث الدينوري ، عن عباس بن محمد الدوري ، عن يحيى بن معين ، عن جرير ، عن طلق بن معاوية وهو جد حفص بن غياث ، قال : الغفلة سنّة الكريم .
سأل رجل عمران بن مسلم ، فأعطاه وبكى ، فقيل له : وما يبكيك وقد قضيت حاجته ؟ قال : بكيت حيث أحوجته إلى مسألتي .
روينا هذا من حديث إبراهيم الحربي ، عن أبي الحسن الباهلي ، قال : حدثني بعض أهل المعرفة وذكره .
كتاب طاوس إلى عمر بن عبد العزيز
روينا من حديث ابن مروان ، عن أحمد بن عبّاد التميمي ، عن سليمان بن أبي شيخ ، عن محمد بن أحمد القرشي ، قال ابن عبد العزيز : ما وعظني أحد أحسن مما وعظني به طاوس ، كتب إلي : استعن بأهل الخير يكن عملك خيرا كله ، ولا تستعن بأهل الشر فيكون عملك شرا كله .
“ 238 “
وروينا من حديث ابن أبي الدنيا ، قال : حدثنا قاسم بن هشام ، نبأ عصمة بن سلمان ، نبّأ فضل بن جعفر ، قال : خرج الحسن من دار ابن هبيرة ، وإذا هو بالقراء على الباب ، قال : ما أجلسكم هنا ؟ تريدون الدخول على هؤلاء ، أما واللّه ما مخالطتكم مخالطة الأبرار ، تفرقوا ، فرق اللّه بين أرواحكم وأجسامكم ، خصفتم نعالكم ، وشمرتم ثيابكم ، وجززتم رءوسكم ، فضحتم القراء ، فضحكم اللّه ، أما واللّه لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم ، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم ، فأبعد اللّه من أبعد .
خبر أساف ونائلة الأصنام
روينا من حديث ابن إسحاق ، أن جرهم لما طغت في الحرم دخل رجل منهم بامرأة الكعبة ، ففجر بها ، ويقال : بل قبّلها ، فمسخا حجرين اسم الرجل : أساف بن بقاء ، واسم المرأة : نائلة بنت ذئب . فأخرجا من الكعبة ، فنصب أحدهما على الصفاء علما ، والآخر على المروة . وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس ، وينزجروا عن مثل ما ارتكبا ، لما يرون من الحال الذي صار إليه فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم حتى صار يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة . فلما كان عمرو بن لحيّ أمر بعبادتهما وتعظيمهما والتمسح بهما :
وقال : إنهما كانا معبودين لمن قبلكم . فلما كان قصيّ بن كلاب حوّلهما من الصفا والمروة ، فجعل أحدهما ملصقا بالكعبة ، وجعل الآخر في موضع زمزم . وكان يطرح بينهما ما يهدي للكعبة ، وكان يسمى ذلك الموضع الحطيم . وكان ينحر عندهما ويذبح ، ولم يكن يدنو منهما امرأة ظلمت .
وفي ذلك يقول بشر بن أبي حزم الأسدي أسد خزيمة بيتا مفردا :
عليه الطير ما يدنون منه * مقامات العوارك من أساف
فكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بأساف ومستلمة ، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها . فكان كذلك حتى كسرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع الأصنام يوم فتح مكة ، دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح فكان بها ثلاثمائة وستون صنما حول الكعبة قد شد بالرصاص منها ، فطاف على راحلته وهو يقول : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ، ويشير إليها بقضيب في يده الكريمة على بعد لا يمسّها فما منها صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره ، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه ، حتى وقعت كلها ، فلما صلى العصر أمر بها فجمعت ، ثم أحرقت بالنار . وفي ذلك يقول فضلة بن عمير بن الملوّح الليثي في يوم الفتح شعرا :
“ 239 “
لما رأيت محمدا وجنوده * بالفتح يوم تكسّر الأصنام
لرأيت نور اللّه أصبح بيّنا * والشرك يغشى وجهه الإظلاموقيل : بل كان الرجل أساف بن عمرو ، والمرأة نائلة بنت سهيل ، فلما كسرا يوم الفتح مع الأصنام ، خرج من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها ، عريانة ناشرة شعرها ، تدعو بالويل والثبور . فقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك ، فقال : “ تلك نائلة أيست أن تعبد ببلادكم أبدا “ . ويقال : إن إبليس رنّ ثلاث رنّات ، رنّة حين لعن فتغيّرت صورته عن زيّ الملائكة ، ورنّة حين رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم قائما يصلي بمكة ، ورنّة حين افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ، فاجتمعت إليه ذريته ، فقال إبليس : أيسوا أن تردوا أمة محمد الشرك بعد يومهم هذا أبدا ، ولكن افشوا فيهم النوح والشعر .ومن محاسن المكاتبة
ما كتب به عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر إلى بعض إخوانه : أما بعد ، فقد عاقني الشك عن عزيمة الرأي ، ابتدأتني بلطف من غير خبرة ، ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب ، فأطمعني أوّلك في إخائك ، وأيسني آخرك من وفائك ، فلا أنا في حين الرّجا مجمع لك إطراحا ، ولا أنا في غد بنصرة منك على ثقة ، فسبحان من لو شاء وكشف إيضاح الرأي فيك ، فأقمنا على ائتلاف ، أو افترقنا على اختلاف .
وقيل : الولاية حلوة الرضاع مرّة الفطام .
لما ولّي الحجاج المدينة ، وجاز فيها ، وقدم وفد المدينة وفيهم عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه على عبد الملك بن مروان ، فأثنى الوفد على الحجاج ، وعيسى ساكت ، فلما قاموا ثبت عيسى حتى خلا له وجه عبد الملك ، فقام فجلس بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين ، من أنا ؟ قال : عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : فمن أنت ؟ قال عبد الملك بن مروان ، قال : فجهلتنا أم تغيرت بعدنا ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : ولّيت علينا الحجاج بن يوسف يسير فينا بالباطل ، وتحملنا أن نثني عليه بغير الحق ، واللّه إن أعدته علينا لنعصينك ، وإن قاتلتنا وغلبتنا وأسأت إلينا قطعت أرحامنا ، ولئن قوينا عليك لنغصبنّك ملكك . فقال له عبد الملك : انصرف والزم بيتك ، ولا تذكرن من هذا شيئا .
قال : وقام من منزله ، وأصبح الحجاج غاديا على عيسى بن طلحة ، فقال : جزاك اللّه خيرا عن خلوتك بأمير المؤمنين ، فقد أبدلني بكم خيرا ، وأبدلكم بي غيري ، وولّاني العراق .
وحدثنا أبو الربيع الكتاني ، عن أبي محمد بن عبد اللّه بن عبد الرحمن ، عن
“ 240 “
عبد الرحمن بن محمد ، قال : حج الشبلي ، فلما وصل إلى مكة جعل يقول :
أبطحاء مكة هذا الذي * أراه عيانا وهذا أنا
ثم غشي عليه فأفاق وهو يقول :
هذه دارهم وأنت محبّ * ما بقاء الدموع في الآماق
وقال الآخر :
إذا هزّنا الشوق اضطربنا لهزّه * على شعب الرحل اضطراب الأراقم
فمن صبوات تستقيم بمائل * ومن أريحيّات تهب بنائم
واستشرف الأعلام حين تدلّني * على طيبها مرّ الرياح النواسم
وما أنسم الأرواح إلا لأنها * تمرّ على تلك الرّبا والمعالم
ولنا من المعاني الغزلية :
رأى البرق شرقيا فحنّ إلى الشرق * ولو لاح غربيا لحنّ إلى الغرب
فإن غرامي بالبريق ولمعه * وليس غرامي بالأماكن والترب
روت لي الصّبا عنهم حديثا معنعنا * عن البيت عن وجدي عن الحزن عن كرب
عن السكر عن عقلي عن الشوق عن جوى * عن الدمع عن جفني عن النار عن قلبي
بأن الذي تهواه بين ضلوعكم * تقلبه الأنفاس جنبا إلى جنب
فقلت له بلّغ إليه بأنّه * هو الموقد النار التي داخل القلب
فإن كان إطفاء فوصل مخلّد * وإن كان إحراق فلا ذنب للصّبّ
ولنا في هذا المعنى مقطوع :
قل للذي مسكنه أضلعي * ومن له في القلب إضمار
ما خفت إذ أضرمت نار الأسى * في أضلعي تحرقك النار
سلمنا الأمر إليه فقلنا :
أيها العذب التجني والجنا * أيها البدر سناء وسنا
نحن حكّمناك في أنفسنا * فاحكم إن شئت علينا ولنا
( ذكر المؤاخاة التي كان وأخاها النبي صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار رضي اللّه عنهم ) .
روينا من حديث محمد بن إسحاق المطلبيّ قال : واخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تواخوا في اللّه » ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب
“ 241 “
فقال : “ هذا أخي “ ، فكان عليّ ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخوين . وكان حمزة بن عبد المطلب عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخوين . وكان معاذ بن جبل وجعفر بن أبي طالب أخوين . وكان أبو بكر الصدّيق وخارجة بن أبي زهير أخوين . وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين .
وكان أبو عبيدة بن الجراح ، واسمه عامر بن عبد اللّه ، وسعيد بن معاذ أخوين . وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين . وكان الزبير بن العوّام وسلمة بن سلامة بن وقس أخوين . ويقال : بل الزبير وعبد اللّه بن مسعود أخوين . وكان عثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين . وكان طلحة بن عبد اللّه وكعب بن عدن أخوين . وكان سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب أخوين .
وكان مصعب بن عمير بن هشام وأبو أيوب خالد بن زيد أخوين . وكان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعبّاد بن بشر بن وقش أخوين . وكان عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين .
ويقال : بل ثابت بن قيس بن شمّاس خطيب النبي صلى اللّه عليه وسلم وعمّار بن ياسر أخوين . وكان أبو ذرّ واسمه يزيد ، وقيل : كان اسمه جندب بن جنادة الغفاري ، والمنذر بن عمرو أخوين . وكان حاطب بن أبي بلتعة وعويمر بن ساعدة أخوين . وكان سلمان الفارسي وأبو الدرداء عويمر بن زيد ، والخلاف في أبيه ، أخوين . وكان بلال وأبو رويحة عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي .
قال ابن إسحاق : فهؤلاء من سمّي لنا ممن كان عليه الصلاة والسلام آخى بينهم من أصحابه رضي اللّه عنهم .
ذكر خراب البلاد الذي يكون في آخر الزمان
روينا من حديث المياسي ، أسنده إلى حذيفة ، قال حذيفة : قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذكر الحديث بطوله ، وقد أوردناه في الكتاب في رقم 22 وفيه أن مصر آمنت من الخراب حتى تخر البصر . ثم ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن خراب البصرة من العراق ، وخراب مصر من جفاف النيل ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من السّيل ، وخراب اليمن من الجراد ، وخراب الأيلة من الحصار ، وخراب فارس من الصعاليك من الديلم ، وخراب الديلم من الأرمن ، وخراب الأرمن من الجزر ، وخراب الجزر من الترك ، وخراب الترك من الصواعق ، وخراب السّند من الهند ، وخراب الهند من الصين ، وخراب الصين من الرمل ، وخراب الحبشة من الرجفة ، وخراب الزوراء من السفياني ، وخراب الرّوحاء من الخسف ، وخراب العراق من القحط .
وحدثني عبد الواحد بن إسماعيل بن إبراهيم العسقلاني الكتاني قال : حدثني أبي ،
“ 242 “
قال : قرأت في كتاب ابن عصمة في القران العاشر من المثلثة الترابية الموافقة لسنة خمسمائة وإحدى وستين من الهجرة النبوية ، تكون أمور هائلة في الأقاليم الثالث والرابع ، بتقدير العزيز العليم الذي أودع علم ذلك في جري الكواكب وحركات الأفلاك ، كما أودع السحاب والمطر والأرض والنبات . وسائر الأسباب الإلهية المصنوعات بسياقها .
فمن ذلك ظهور ملك المشرق ، فيعظم أمره ، ويشتد في الآفاق خبره ، ويعلو شأنه ، إلى أن تصعد جناحاه إلى الغرب والقبلة ، ويكون مؤيدا منصورا في جميع أموره ، وذلك في أول القرآن ، وهو قران زحل والمشتري العلويين ، في برج الجدي في الثلث الأخير منه .
ويستولي هذا الملك المذكور على مملكة مصر ويضعفها ، ويسقيها بكأس الحمام ، وينغصها ويهلك أعوانها ومن يقول بقولها ، وذلك من أول القرن إلى ربعه .
ويهلك اللّه به السودان هلاكا لا يرجى جبرانه إلى أن يعودون ذمة تحت يديه ، ويقوى على بني الأصفر ، ويكسرهم ثلاث مرات ، ويفتح بنو الأصفر على أيامهم قرية بلبيس ، ويهلك بها خلق كثير . فإذا كان الربع الثاني من القرن ظهر منه غضب ، ويتفرق ملكه على ثلاث فرق ، فيجوز كل منهم مكانا يجوزه برجاله وعساكره ، ويكون أحد الثلث قويا ، والثلثان فيهم ضعف ، ويبقى الملك في عقبهم إلى نصف القرن ، ثم ينتقل الكوكبان إلى الديران ، وهو الثلث الثالث من القرن ، ففي ذلك الزمان يتحرك صاحب الغرب في جيوش كثيرة ، وعساكر غزيرة ، وينزلون شرقا وغربا ، ويعمر مدينة يقال لها شبرة أو صبرة ، ويملئون بنيان القيروان ، فيبلغ الروم ذلك ، فيتحركون في الأساطيل العظيمة ، فيفتحون سواحل البحر ، ويخاف على الجزيرتين والإسكندرية فإذا أنزل حركة كيوان وجسده في البرج الغربي .
وحرك سبحانه عند ذلك جيوش المغرب ، فينزلون قريبا من الحجر الأبيض ، فيقسمون جيوشهم على ثلاث فرق فرقة تقصد الصعيد الأعلى ، وفرقة تأخذ الطريقة الوسطى ، وفرقة تأخذ على طريق البحر فيجتمعون بأسرهم على نيل مصر ، ويكون النيل سبعة من اثني عشر حتى تغور بحيرة طبرية ، وتجف العيون في جميع الأقاليم ، وتغور المياه في قرار الأرض ، ويعدم القوت ، وتسيب البلاد ، ويجوز كل واحد موضعه ، ويفيض اللسان الأعوج في جميع الأقاليم ، وتحرق في مصر ثالثة ، ويستباح ما فيها ، وتستباح دماء أهل الذمة وأموالهم ، ويملك أكثرهم ، ويخرب الصعيد والريفان ، ويكون أمر الخلق في ضلال من بعد أن تستباح أموالهم ، وتضعف أحوالهم ، ويموت كثير منهم ، والويل لمن يقيم في إقليم مصر ، إذا أنزل اللّه كيوان برج السرطان وذلك في الربع الأخير من القران ، فإذا نزل تحرّك
“ 243 “
بنو الأصفر بقوة عظيمة في الأساطيل ، ويفتحون مدينة الإسكندرية من بين البابين ، ويدخلون فيها إلى أن يبلغوا سوق الريحان ، فيقتلون خلقا كثيرا ، وينقلع بنو الأصفر من الشام جميعه حتى السواحل ، ويكون سبب خروجهم يظهر عليهم رجل من المشرق بغتة لا يعلمون بخروجه ، وينضاف إليهم عساكر من الترك ، يقتحمون بيت المقدس ، والشام جميعه ، ويقيمون بها دون الحول ، فعند ذلك يتحرّك ملك الجزر ، يقال له : ذو العرف ، يخرج بعساكره برا وبحرا ويقصد بعضهم إلى الدروف ، وبعضهم إلى الشام ، وبعضهم إلى الإسكندرية وجزائر البحر .
ويقع بينه وبين الترك خمس وقعات إلى أن تجري دماؤهم كالنهر ، وفي عقب ذلك تنتصر جيوش الغرب بقوة عظيمة مائة ألف أو أكثر ، وتعود دفعة ثانية إلى مصر ، ويضربون خيامهم من الترك وعسقلان وطبرية ، ثم يخرج السفياني بعساكر عظيمة ، فيقتلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، ويوجه السفياني جيشين : جيشا إلى الكوفة فيقتل حتى لا يبقى منهم أحد أصلا ، وأما الجيش الآخر فيأتي إلى مدينة يثرب فيستبيحها ثلاثة أيام ، ثم يرحل يطلب مكة فيخسف به في البيداء فلا يسلم منهم أحد سوى رجلين ، أحدهما من جهينة فهو الذي يأتيه بالخبر ، ثم يخرج المهدي فيقتل السفياني ذبحا تحت شجرة بخارج دمشق ، ويبايع بين الركن والمقام ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا ، ثم يغزو القسطنطينية بعساكر في جملتهم سبعون ألفا من ولد إسحاق فيكبّرون عليها فينهدم ثلثها ، ثم يكبّرون ثانية فينهدم الثلث الثاني ، ثم يكبّرون ثالثة فينهدم سورها كله فيدخلونها فيكسبون فيها أموالا عظاما ، ثم يخرج الدجال فيلبث أربعين يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم ، فينزل عيسى عليه السلام بين مهرودتين عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق ، فيصلي العصر بالناس ويطلب الدجال فيقتله بباب لدّ ويخرج يأجوج ومأجوج .
وقد ذكرنا حديثهم في هذا الكتاب ، فينحصروا في جبل الطور ، في القلعة التي بناها الملك المعظم ابن الملك العادل ، بنيان عيس لعيسى ، وأرجو أن يدعو لبانيها ، فلا يزال محصورا بها داعيا في هلاك يأجوج ومأجوج ، فيموتون موت رجل واحد بداء النفف كما ذكرنا . ثم يخرج عيسى عليه السلام وتخرج الأرض خيرها وبركتها ، فيتزوج ويولد له ، ثم يموت فيدفن بالمدينة بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر ، ويرسل اللّه ريحا ليّنة تحت العرش تأخذ المؤمنين من تحت آباطهم فيموتون ، فيبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ، ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ قال : رأى بعض المريدين في الواقعة أبا مدين جالسا في روضة من نور ، وأشياخ الصوفية قد أحدقوا
“ 244 “
به ، وأحدقت بالجميع صور لم أر أحسن منها ولا أجمل ، وعليهم من نفائس الجواهر واللآلئ ما لا أستطيع وصفه ، ولا أحسن العبارة عن نقشه ، وعلى رأس أبي مدين ثلاثة ألوية من نور ، مركوز واحد عن يمينه مكتوب عليه : حسبي اللّه ، وواحد على رأسه وهو أعلاها مكتوب عليه : اللّه ، والآخر على يساره مكتوب عليه : لا حول ولا قوة إلا باللّه .
فقال أبو حامد لأبي مدين : يا شيخ ، تكلم لنا على هذه الأسماء المكتوبة على هذه الألوية ، فقال الشيخ : أما هذا الاسم الذي هو اللّه ، فهو الاسم الأعظم الذي هو رأس الأسماء ، وإليه يرجع كل معنى ، وهو المنزّه المتبوع الذي به ظهرت المخلوقات ، وعليه أسست الأرضون والسماوات ، وعنه صدرت الأسماء والصفات ، فالمصنوعات بأسرها من العرش إلى الثرى تشهد بأنه موجدها ، وما من ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا رطب ولا يابس إلا وهو معها .
فقال له أبو حامد : فما معنى حسبي اللّه ؟ فقال : هو أمن وأمان من أن تغدو عليه النيران ، فمن تخلّق به سلم وصفا ، وكان ممن وفا حين وفا . فقال : ما معنى لا حول ولا قوة إلا باللّه ؟ فقال : هو التبرّي من باطن الأحوال ، وردّها إلى ظاهر الأقوال والأفعال ، ثم ردّها إلى ذي الكلام والجلال . فهذه وما عداها راجعة إلى الاسم الأعظم الذي هو مبدأها ومنتهاها ، فهو الاسم الذي حنّ به بعض كل شيء إلى بعض ، وهو نور السماوات والأرض ، فإذا تجلى من نوره لمعه كان اللّه ولا شيء معه ، ثم قال له : قل لنا في التوحيد شيئا .
فقال : التوحيد سرّي ، ووطني ، ومستقرّي ، وسكني ، وهو مبدأي ، ومنتهاي ، وهو الأساس لبناي ، خصّني اللّه منه بفضائل ، وأكرمني منه بدلائل ، إن نزعت إلى سبب من الأسباب نوديت : اذكر ربك لا تذكر الأسباب . فالتوحيد يجلي كل ظلمة ، وهو الرافع لكل ذي همة ، هو القطب الذي عليه المدار ، وبه أشرق الوجود واستنار .
ثم قال أبو حامد : ما هي مادة اللّه في الوجود ؟ فقال : مادة اللّه في الوجود تسري ، وعلى ما سبقت به المقادير تجري ، قد سترها الغيب ، فهي منزّهة عن النقص والعيب ، فقد أخفاها اللّه سبحانه عن الكائن والبائن ، وجفّ القلم بما هو كائن فسترها عن خلقه من وجوه الرحمة والعطف ، وتغيّبها عنهم من كمال الجود واللطف .
ولنا من باب الرموز والإشارات العلوية :قالت عجبت لصبّ من محاسنه * يختال ما بين أزهار ببستان
فقلت لا تعجبي مما ترين فقد * أبصرت نفسك في مرآة إنسانولنا من باب اللطائف الربانية :
“ 245 “
بأثيلات النقا سرب قطا * ضرب الحسن عليه طنبا
وبأجواز الفلا من أضم * نعم ترعى لديها وظبا
يا خليليّ قفا واستنطقا * رسم دار بعدهم قد خربا
واندبا قلب فتى فارقهم * يوم باتوا وابكيا وانتحبا
عله يخبر حيث يمموا * الجرعاء الحمى أم لقبا
رحّلوا العيس ولم أشعر بهم * السهو كان أم طرف نبا
لم يكن ذاك ولا هذا وما * كان إلا وله قد غلبا
يا هموما شرّدت وافترقت * خلفهم تطلبهم أيدي سبا
أي ريح نسمت ناديتها * يا شمالي يا جنوبي يا صبا
هل لديكم خبر مما بنا * قد لقينا من هواهم نصبا
أسندت ريح الصبا أخبارهم * عن نبات الشيخ عن زهر الرّبا
إن من أمراضه داء الهوى * فليعلل بأحاديث الصّبا
ثم قالت يا شمال خبّري * مثل ما خبّرته أو أعجبا
ثم أنت يا جنوب حدّثي * مثل ما حدّثته أو أعذبا
قالت الشمأل عندي فرج * شاركت فيه الشمال الأزيبا
كل سوء في هواهم حسن * وعذاب برضاهم عذّبا
فإلام وعلام ولما * تشتكي اللبث وتشكو الوصبا
وإذا ما وعدوكم ما ترى * برقه إلا بريقا خلّبا
رقم الغيم على ردن الغما * من سنان البرق طرازا مذهبا
فجرت أدمعها منها على * صحن خدّيها فأذكت لهبا
وردة ثابتة من أدمع * نرجس يمطر غيث عجبا
ومتى رمت جناها أرسلت * عطف صدغيها عليها عقربا
تشرق الشمس إذا ما ابتسمت * ربّ ما أنور ذاك الحببا
يطلع الليل إذا ما أسدلت * فاحما جثلا أثيثا غيهبا
يتجارى النحل مهما تفلت * ربّ ما أعذب ذاك الشنبا
وإذا مالت أرتنا فننا * أي رنت سلّت من اللحظ ظبا
كم تناغي بالنقا من حاجر * يا سليل العربيّ العربا
أنا إلا عربيّ ولذا * أعشق البيض وأهوى العربا
لا أبالي مشرق الوجد بنا * حيثما كانت به أو غربا
“ 246 “
كلما قلت إلا قالوا أما * وإذا ما قلت هل قالوا أبا
ومتى ما أنجدوا أو اتهموا * أقطع البيدا أحثّ الطلبا
سامريّ الوقت قلبي كلما * أبصر الآثار يبغي المذهبا
وإذا ما غرّبوا أو شرّقوا * كان ذو القرنين يقفو السّببا
كم دعونا بالوصال رغبا * كم دعونا من فراق رهبا
يا بني الزوراء هذا قمر * عندكم لاح وعندي غربا
خربي واللّه منه حربي * كم أنادي خلفه وا حربا
لهف نفسي لهف نفسي لفتى * كلما غنّى حمام غيّبا
حدثنا محمد بن علي ابن أخت المقري ، حدثنا محمد بن أحمد بن علي ، حدثنا محمد بن برار ، نبأ عبد اللّه بن قاسم ، حدثنا محمد بن القاسم ، عن أبيه ، عن علي بن حرب ، عن أسباط بن محمد ، عن هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه كل مئونة ، ومن انقطع إلى الدنيا وكّله اللّه إليها ، ومن حاول أمرا بمعصية اللّه كان أبعد له مما رجا وأقرب مما اتقى ، ومن طلب محامد الناس بمعاصي اللّه عاد حامده منهم ذامّا ، ومن أرضى الناس بسخط اللّه وكّله اللّه إليهم ، ومن أرضى اللّه بسخط الناس كفاه اللّه شرهم ، ومن أحسن فيما بينهم وبين اللّه كفاه اللّه ما بينه وبين الناس ، ومن أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته ، ومن عمل لآخرته كفاه اللّه أمر دنياه » .
وحدثنا علي بن عبد اللّه بن عبد الرحمن ، نبأ شعبة ، عن الحكم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « رحم اللّه عبدا تكلم فغنم ، أو سكت فسلم ، إن اللسان أملك شيء للإنسان ، ألا وإن كلام العبد كله عليه ، إلا ذكر اللّه ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو إصلاح بين المؤمنين » .
فقال له معاذ بن جبل : يا رسول اللّه ، أنؤاخذكم بما نتكلم به ؟ قال : « وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ فمن أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه ، وليحرص على ما انطوى عليه جنانه ، وليحسن عمله ، وليقصر أمله » . ثم لم تمض أيام حتى نزلت هذه الآية : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ .
عناية أزلية
روينا من حديث أبي عبد الرحمن ، قال : سمعت عن ابن عبد الرحمن الطوسيّ ،
“ 247 “
قال : سمعت علوس الدينوري ، قال : سمعت المزني يقول : كنت مجاورا بمكة فخطر لي خاطر في الخروج إلى المدينة ، فخرجت ، فبينما أنا بين المسجد أمشي ، فإذا أنا بشاب مطروح ينزع ، فشهق شهقة كانت فيها نفسه ، فكفّنته في أطمار ، ودفنته ، ورجعت .
وبه قال الخوّاص : كنت بمكة ، فبينما أنا أطوف بالبيت نوديت في سرّي : امضي إلى بلاد الروم . فقلت : يا عجبا ، أكون ببيت اللّه الحرام فأتركه ، وأمضي إلى بلاد الروم ؟ ثم هممت بالطواف ، فلم أستطع ، فسرت إلى بلاد الروم ، فلما دخلتها سمعت الناس يقولون :
إن بنت الملك قد صرعت ، وقد عرضت على الأطباء فما عرفوا لها دواء . فقلت : احملوني إليها ، فأنا غلام طبيب . فحملت ، فلما دخلت عليها ، قلت : مرحبا يا خوّاص ، فقلت : ما لك ؟ قلت : كنت على ديننا حتى البارحة ، وإني نمت فرأيت في المنام عرش ربي بارزا ، فانتبهت كما ترى ، لا ينطق لساني إلا بقول لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فلما رأوني هكذا ، نسبوني إلى الجنون . فقلت : لعل اللّه عز وجل يخلصك منهم . قلت : فمن أين عرفت اسمي ؟ قالت : نوديت : سنبعث لك من تسلمين على يديه ، وألهمت ذكرك .
فهممت بالنهوض ، فقالت : إلى أين ؟ قلت : إلى مكة . قالت : ها هي مكة . فنظرت ، فإذا مكة . فسرت قليلا ، فإذا أنا بالبيت .
ومن باب سماع العارفين قوله :قفا ودّعا نجدا ومن حل بالحمى * وقلّ لنجد عندنا أن تودّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع * إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
واذكر أيام الحمى ثم انثنى * على كبدي من خشية أن تصدّعاتفسيره : يقول لعقله ولنفسه : ودّعا الرفيق الأعلى ، والأرواح العلى التي محلها الحمى الإلهي ، على أنه لا يصح مفارقته بالكنه الرقائق التي بينهما وبينه . وليست عشّيت الحمى برواجع ، أي الأنوار التي تغشى حمتها إلا لطاف الخفيّة عنها ، فهي بحجابها في عالم الأكوان تذكر أيامها بالحمى الإلهي ، فتنعطف على كبدها ، إشارة إلى عنصر الحياة التي سرت مادته في جميع الموجودات ، وتصدعه وتفرقه .
ولنا نظم في هذا الباب :وزاحمني عند استلامي أو أنس * أتين إلى التطواف معتجرات
حسرن عن أمثال الشموس وقلن لي * تودّع فموت النفس في اللحظات
فكم قد قتلنا بالمحصّب من منى * نفوسا أبيات لدى الجمرات
وفي سرحة الوادي وأعلام رامة * وجمع وعند النفر من عرفات
“ 248 “
ألم تدر أن الحسن يسلب من له * عفاف فيدعى سالب الحسنات
فموعدنا بعد الطواف بزمزم * لدى القبة الوسطى لدى الصخرات
هنالك من قد شفه الوجد يشتفي * بما شاقه من نسوة عطرات
إذا خفن أسدلن الشعور فهنّ من * غدائرها في الحف الظلمات
ولنا من باب المفاريد في باب الفخر قولنا :
في كل عصر واحد يسمو به * وأنا لباقي العصر ذاك الواحد
خبر الفيل وأصحابه وما أظهر اللّه في ذلك من البيّنات على تعظيم الحرم
روينا من حديث أبي الوليد ، وأبي هشام ، وابن إسحاق ، وبعضهم يزيد على بعض ، والسياق لابن إسحاق ، غير أني قد أدخل في أثناء حديثه الزيادات في أماكنها .
ولما بنى أبرهة الكنيسة التي سماها القليس ، وكتب إلى النجاشي بأنه عزم على أن يصرف حاجّ العرب إليه ويتركوا مكة ، وما قال في هدم الكعبة شيئا ، غضب رجل من النّسأة ، أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، فجاء إلى الكنيسة المذكورة فقعد فيها .
قال ابن هشام : يعني أحدث فيها . ثم خرج الكنانيّ فلحق بأرضه ، فبلغ أبرهة ذلك ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة ، لما بلغه قولك : أصرف إليها حج العرب ، غضب فجاء فأحدث فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل . فغضب أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه . ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج بالفيل معه ، وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه ، ودعوا به ، ورأوا أن جهاده حق عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت اللّه الحرام ، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت اللّه ، وما يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك .
ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر فأتى به أسيرا .
فلما أراد أبرهة قتله قال ذو نفر : لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ، فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما ورعا ذا دين في النصرانية . ومضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج إليه ، حتى إذا كان بأرض خثعم ، خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي ، من أكمل بني ربيعة بن عفرس في قبيلتي خثعم شهران وناهس ، وهما ابنا عفرس بن خلف بن أقبل ، وهو خثعم ، ومن تابعه من قبائل
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin