الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء العاشر
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 153 “
الصمصامة ، وكان صاحب غارات ، مذكورا بالشجاعة ، مشهورا في العرب ، فذكر أنه هجم في بعض غاراته على شابة جميلة منفردة ، فأخذها ، فلما أمعن بها بكت ، فقال : ما يبكيك ؟
قالت : أبكي لفراق بنات عمي ، هن مثلي في الجمال ، وأفضل مني ، خرجت معهن فانقطعنا من الحي . قال : وأين هنّ ؟ قالت : خلف ذلك الجبل ، وددت إذا أخذتني أنك تأخذهن معي ، وهن يودّن ذلك ، فأعد إلى الموضع الذي وصفته لك . فمضى عمرو إلى هناك ، فما شعر حتى هجم عليه فارس شاكي السلاح ، فعرض عليه المصارعة فصرعه الفارس ، ثم عرض عليه ضروبا من المناوشة فغلبه الفارس في جميع ذلك كله ، فسأله عمرو عن اسمه ، فإذا هو ربيعة بن مكرم الكنانيّ ، فاستنقذ الجارية منه .
حدثنا محمد بن قاسم ، ثنا عمر بن عبد الحميد ، قال : قال لي بعض الرجال : جلس رجل من المسرفين على نفسه في مجلس راحته مع ندمائه ، ثم دعا بغلامه فدفع إليه أربعة دراهم وأمره أن يشتري بها من المشمومات ما يليق بمجلس راحته ، فمرّ الغلام بمجلس منصور بن عمار وهو يسأل لفقير بين يديه ، فسمعه يقول : بقيت لهذا الفقير أربعة دراهم فمن دفعها له دعوت له أربع دعوات ، فدفع الغلام له الدراهم ، فقال له منصور : ما الذي تريد أن أدعو لك به ؟ فقال : سيدي ، أريد أن أتخلص منه ، فدعا له بذلك . فقال : وما الذي تريد أن أدعو لك به ثانية ؟ فقال : أريد أن تخلف هذه الدراهم ، فدعا له . قال : فما الدعوة الثالثة ؟ قال : أحب أن يتوب اللّه على سيدي ، فدعا له بذلك ، وسأله عن الرابعة فقال :
أحب أن يغفر اللّه لي ولسيدي ولك وللقوم الحضور ، فدعا منصور بذلك ، وانصرف الغلام راجعا إلى سيده وقد أبطأ عليه ، فقال له سيده : لم أبطأت عليّ ؟ وأين الحاجة التي أمرتك بشرائها ؟ فقص عليه الغلام القصة ، فقال له : أخبرني ما الذي دعا لك به ؟ فقال : سألته أن يدعو اللّه لي بالعتق ، فقال له : اذهب فأنت حر لوجه اللّه تعالى . فما الثانية ؟ قال : إن تخلف عليّ الدراهم . فقال له : لك من مالي أربعمائة درهم ، فما الثالثة ؟ قال : أن يتوب اللّه عليك . قال : فإني أشهد اللّه أني تائب . فما الرابعة ؟ قال : أن يغفر اللّه لي ولك ، وللمذكور ولأهل مجلسه . قال : ذلك للّه عز وجل . فلما كان الليل وقف للرجل هاتف في منامه ، فقال له : يقول اللّه لك : أنت فعلت ما إليك وأنت عبد ضعيف ، أتراني ما أفعل ما كان إليّ ، وأنا المولى الكريم ، قد غفرت لك ، وللغلام ، وللمذكور ، ولأهل مجلسه .
ذكر نبذ من الأنساب
وانتهاء بكل نسب إلى الجد الذي مجتمع فيه صاحب ذلك النسب برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
“ 154 “
فمن ذلك : قحطان ، وهو أبو اليمن كلها ، وإليه مجتمع نسبها ، وهو ابن غابر ، هنا يجتمع .
ومن ذلك : جرهم ، وهو ابن قحطان بن عامر ، وقيل : هو جرهم بن يقطن بن عابر ، هنا يجتمع .
عاد : وهو ابن عوص بن إرم بن سام ، هنا يجتمع .
ثمود ، وجديس : ابنا غابر بن إرم بن سام ، هنا .
طسم ، وعملاق ، أميم ، وأميم ، بضم الهمزة وفتح الميم ، وقيل : بكسر الهمزة والميم وتشديدهما على وزن سكين ، وهؤلاء الثلاثة أبناء لأولاد ابن سام هنا ، وهم عرب كلهم .
عك : هو ابن عدنان هنا .
أشعر : هو ابن بنت ابن أدد بن يزيد بن مهسع بن عمرو بن غريب بن يشخب بن يزيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا . ويقال : إنما هو أشعر بن سبا بن يشخب .
مدحج : قال بعض النسّابين : ليس مدحج أبا ولا أما ، وإنما هو اسم أكمة ولدت عليها دلة بنت منشجان فسمّيت مدحج ، فلما ولدت طيبا ، وهو جلمة بن مالك ، فقيل :
طيّ ، وهو الذي سمّي مدحج . وقد قيل : إن هذا مالك هو أبو شعر ، فأشعر على هذا هو أشعر بن مالك ، ومالك هو مدحج فطيّ ، ومالك ، ابنا أزد ابنا زيد بن يشخب . وقيل : إنما هو زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا . وقد قيل : طيّ بن أزد بن مالك بن أزد بن زيد بن كهلان . فهذا نسب طي قد ذكرناه .
سليم : هو ابن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيسان بن غيلان بن مضر هنا .
غسان : هو اسم ماء بسدّ مأرب باليمن ، وقيل : هو ماء بالمشلّل ، فسمّوا به قبائل شربوا منه ، من ولد مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، وسمّي سبا لأنه أول من سبى العرب ، ابن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر ، وإليه ترجع الأزد ، والأوس ، والخزرج ، وغيرهم .
فأما الأوس ، والخزرج ، فهما ولدان لحارثة بن ثعلبة بن عمر بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا .
“ 155 “
وأما الأزد ، فهو ابن الغوث ، وقد تقدم سياق النسب .
أنشدني ابن إسحاق :
أما سألت فإنا معشر نجب * الأزد نسبتنا والماء غسان
بالسين والتاء معا .
قضاعة ، وضباعة ، وإياد : أولاد معدّ هنا .
وأم قضاعة الآخر ، فهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا الأكبر بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
جهينة : هو ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الجان بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
لخم : هو ابن عديّ بن حارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن مهسع ، وقد تقدم سياق النسب في الشعر . وقيل : إنما هو لخم بن عدي بن عمرو بن سبا ، ونسب سبا قد ذكر ، والاجتماع بالأصل في غابر .
ربيعة : يجتمع أيضا في غابر ، وربيعة هو نضر بن أبي حارثة بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث ، وقد ذكر نسب الأزد بن الغوث .
بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن قصيّ بن جليدة بن أزد بن ربيعة بن نزار هنا .
ويقال : أقصى بن دعما بن جليدة .
ثقيف : اسمه قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر هنا . وقيل : هو قيس بن الثبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أقصى بن دعما بن إياد بن معدّ هنا .
قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :
قومي إياد لو أنهم أمم * ولو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم ساحة العراق إذا * ساروا جميعا والقطّ والقلم
وقال أيضا :
فإن ما تسألي عني لبيبا * وعن نسبي أخبّرك اليقينا
فإنا للبيب أبي قيس * لمنصور بن يقدم الأقدمينا
قيس ، هو ابن غيلان بن مضر هنا .
“ 156 “
جعدة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر هنا .
هذيل بن مدركة هنا .
خولان ، هو ابن عمرو بن الحارث بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
وقيل : بل هو خولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مدحج .
وقيل : بل هو خلاون بن عمرو بن مرة بن أدد بن مهيع بن عمرو بن عريب بن سعد بن كهلان بن سبا .
والعمالقة منسوبون إلى عملق ، ويقال : عمليق ، لفتان ، وقد نسبناه .
جشم ، هو ابن وائل بن زيد بن قيس بن عامرة بن مرة بن مالك بن الأوس ، وقد ذكرنا نسب أوس .
كلب ، هو ابن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمرو بن الجاف بن قضاعة ، وقد ذكرنا نسب قضاعة .
همدان ، واسم همدان حلوان بن عمرو بن زيد بن ربيعة بن أوسلة بن الحيان بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، ويقال له : أوسلة بن زيد بن أوسلة الخا بن زيد بن أوسلة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، وقد تقدم اتصال سبا بغابر وهناك يجتمع .
خثعمة ، هو الأسد بن الغوث يشكر بن بشير بن صعب بن دهمان بن نضر بن زهران بن الحارث بن كعب بن عبيد اللّه بن مالك بن الأسد بن الغوث ، وقد قيل :
خثعمة بن ميسر بن يشكر بن صعب بن نضر بن زهران بن الأسد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر ، وهناك يجتمع وغابر وغبيران ، لغتان ، هو ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام .
وقد قيل في سياق نسب خثعمة بدل صعب كعب ، انتهى المجلس .
موعظة شيبان الراعي لهارون الرشيد بمكة
حدثنا يونس بن سبا ، عن أبي بكر بن أبي منصور ، عن محمد بن عبد الملك
“ 157 “
الأسدي ، عن الحسن بن جعفر السلماسي ، ثنا المعافى بن زكريا ، عن محمد بن مخلد ، عن حمّاد بن مؤمل ، ثنا زيد بن العباس قال : لما حجّ هارون الرشيد فقيل له : يا أمير المؤمنين ، قد حجّ شيبان الراعي ، قال : اطلبوه لي ، فطلبوه ، فأتوا به ، فقال له : يا شيبان عظني ، قال : يا أمير المؤمنين ، أنا رجل ألكن لا أفصح بالعربية ، فجئني بمن يفهم كلامي حتى أكلمه ، فأتى برجل يفهم كلامه ، فقال له بالقبطية : قل له : يا أمير المؤمنين ، إن الذي يخوّفك قبل أن تبلغ المأمن أنصح لك من الذي يؤمّنك قبل أن تبلغ الخوف ، فقال له : أي شيء تفسير هذا ؟ قال : قل له : يا أمير المؤمنين ، الذي يقول لك اتق اللّه فإنك رجل مسؤول عن هذه الأمة ، استرعاك اللّه عليها ، وقلّدك أمورها ، وأنت مسؤول عنها ، فاعدل في الرعية ، واقسم بالسويّة ، وانفر في السرية ، واتق اللّه في نفسك ، هذا هو الذي يخوّفك ، فإذا بلغت المأمن أمنت ، هو أنصح لك ممن يقول لك أنت من أهل بيت مغفور لهم ، وأنت قرابة من قرابة نبيكم ، وفي شفاعته ، فلا يزال يؤمّنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت .
قال :
فبكى هارون حتى رحمه من حوله ، قال : زدني ، قال : حسبك إن وقفت .
روينا من حديث ابن ودعان ، قال : حدثنا علي بن عبد الواحد ، عن أبي الفتح العكبري ، عن العباس بن محمد ، عن محمد بن زكريا ، عن عبد اللّه بن مسلمة القعنبي ، عن مالك بن أنس ، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أولياء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ؟ فقال : « الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، واهتموا بأجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم ، فما عرض لهم من نائلها عارض إلا رفضوه ، ولا خدعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فما يجدّدونها ، وخربت بينهم فما يعمرونها ، وماتت في صدورهم فما يحيونها ، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، ونظروا إلى أهلها صرعى ، وقد حلّت بهم المثلات ، فما يرون أمانا دون ما يرجون ، ولا خوفا دون ما يحذرون » .
روينا من حديث محمد بن إسحاق ، عن محمد بن شهاب ، عن عبد اللّه بن عتبة ، عن ابن مسعود ، عن عبد اللّه بن عباس ، أنه قال : كان بين آدم ونوح عشرة آباء ، وذلك ألف ومائتا سنة . وبين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة آباء ، وذلك ألف ومائة واثنان وأربعون سنة . وبين إبراهيم وموسى سبعة آباء ، وذلك خمسمائة وخمس وستون سنة .
وبين داود وعيسى ألف وثلاثمائة وخمسون سنة ، وهي الفترة .
“ 158 “
وعدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف نبي ، وأربعة وعشرون ألف نبي ، الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر ، منهم خمسة عبرانيون : آدم ، وشيث ، وإدريس ، ونوح ، وإبراهيم .
وخمسة من العرب : هود ، وصالح ، وإسماعيل ، وشعيب ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم .
وأرسل بين موسى وعيسى ألف نبي من بني إسرائيل ، سوى من أرسل من غيرهم ، يريد بقوله أرسل مؤيدين لشريعة موسى لا ناسخين . وكان بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام أربعة من الرسل ، وهو قوله تعالى : إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ، وأما الرابع فهو خالد بن سنان ، واللّه أعلم فيما أحسبه ، وهو خالد بن سنان بن غيث العبسي . وعاشت مريم بعد رفع عيسى خمسين سنة ، وكان عمرها ثلاثا وخمسين سنة . وصلّى شيث على أبيه آدم بأمر جبريل ، وكبّر عليه أربعا وتسعين تكبيرة .
وأما أصحاب الأحلام ، والآداب ، والعلم ، أربعة : العرب ، والفرس ، والروم ، والهند ، والباقون همج .
وأولو العزم من الرسل ثلاثة : نوح ، وإبراهيم ، ومحمد ، عليهم الصلاة والسلام .
وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى .
والكتب التي أنزلت على الأنبياء ، مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل منها على شيث خمسون صحيفة ، وعلى موسى التوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين القرآن .
ذكر نسب تنصّر النعمان بن المنذر ، ورفعه يوم بؤسه ، ووفاء الطائي ، وفضل شريك بن عمير
أخبرنا بعض الأدباء من إخواننا من سيس ، أن النعمان بن المنذر ركب في يوم بؤسه ، وكان له يومان : يوم بؤس ، ويوم نعيم ، لم يلقه أحد في بؤسه إلا قتله ، ولا في يوم نعيمه أحد إلا حباه وأعطاه ، فاستقبله يوم بؤسه أعرابي من طيّ ، فأراد قتله ، فقال : حيّا اللّه الملك ، إن لي صبية صغارا لم أوص بهم إلى أحد ، فإن رأى الملك في أن يأذن لي في إتيانهم ، وأعطيه عهد اللّه أن أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي في يده . فرقّ له النعمان وقال له : لا ، إلا أن يضمنك رجل ممن معنا ، فإن لم تأت قتلناه . وكان مع النعمان شريك بن عمرو بن شراحيل ، فنظر إليه الطائي وقال :
يا شريك بن عمير * هل من الموت محاله
“ 159 “
يا أخا كل مصاف * يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فيك ال * يوم عن شيخ علاله
ابن شيبان قتيل * أحسن للّه فعاله
فقال شريك : هو عليّ ، أصلح اللّه الملك . فمضى الطائي وأجّل له أجلا يأتي فيه .
فلما كان ذلك اليوم ، أحضر النعمان شريكا ، وجعل يقول له : إن صدر هذا اليوم قد ولّى ، وشريك يقول له : ليس لك عليّ سبيل حتى يمسي . فلما أمسى أقبل شخص والنعمان ينظر إليه وإلى شريك ، فقال له : ليس لك عليّ سبيل حتى يدنو الشخص ، فلعله صاحبي ، فبينما هم كذلك إذ أقبل الطائي ، فقال النعمان : واللّه ما رأيت أكرم منكما ، وما أدري أيكما أكرم ، أهذا الذي ضمنك في الموت أم أنت إذ رجعت إلى القتل ؟ ثم قال للوزير الذي هو شريك : ما حملك على ضمانه مع علمك أنه هو الموت ؟ قال : لئلا يقال : ذهب الكرم من الوزراء . وقال للطائي : ما حملك على الرجوع إلى القتل ؟ قال : لئلا يقال : ذهب الوفاء من الناس ، ويكون عارا في عقبي وفي قبيلتي . قال النعمان : فو اللّه لا أكون ألأم الثلاثة ، فيقال : ذهب العفو من الملوك . فعفا عنه ، وأمر برفع يوم بؤسه .
وأنشد الطائي يقول :
ولقد دعتني للخلاف جماعة * فأبيت عند تجهّم الأقوال
إني امرؤ مني الوفاء خليقة * وفعال كل مهذب مبذال
فقال النعمان : ومع ما ذكرت ، ما حملك على الوفاء ، قال : أيها الملك ، ديني .
قال : وما دينك ؟ قال : النصرانية . قال : اعرضها عليّ ، فأعرضها عليه ، فتنصّر النعمان .
وحدثني أبو جعفر بن يحيى قال : دخل رجل على أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي نصيحة . قال : وما نصيحتك ؟ قال : فلان كان عاملا ليزيد بن معاوية ، وعبد الملك ، والوليد ، فخانهم فيما تولاه في أيامهم ، واقتطع أموالا جليلة ، فمر باستخراجها منه . قال : أنت شر منه وأخون حيث اطلعت على أمره وأظهرته ، ولولا أني أنفر النصّاح لعاقبتك ، ولكن اختر مني خصلة من ثلاث ، قال :
اعرضهنّ يا أمير المؤمنين . قال : إن شئت فتشنا على ما ذكرت ، فإن كنت صادقا مقتناك ، وإن كنت كاذبا عاقبناك ، وإن شئت أقلناك . قال : بل يقيلني أمير المؤمنين . قال : قد فعلت ، فلا تعودنّ بعد هذا إلى قلة الوفاء ، وإن ظهر لك من ذي جرمة أمر فاكتمه .
وحدثنا مصعب الخشني الخطيب أن مخارف بن عفان ، ومعن بن زائدة ، تلقيا رجلا ببلاد الشرك ومعه جارية لم يريا مثلها شبابا وجمالا وفصاحة ، فصاحا به ليخلّي عنها ،
“ 160 “
ومعه قوص فرمى بها ، وهابا الإقدام عليه ، ثم عاود ليرمي فانقطع وتره ، وسلّم الجارية ، واشتدّ يعدو في جبل كان قريبا منه ، فابتدرا الجارية وفي أذنها قرط فيه درّة ، فانتزعاها من أذنها ، فقالت : وما قدر هذه ؟ لو رأيتما درّتين معه في قلنسوته ، وفي قلنسوته وتر قد أعدّه ونسيه من الدهشة . فلما سمعا قول الجارية تبعاه وصاحا به : ارم القلنسوة ، وانج بنفسك .
فلما سمع قولهما ذكر الوتر ، فأخذه وعقده في قوسه ، فولّيا ليست لهما همة إلا النجاء ، وخلّيا عن الجارية .
وحدثنا أيضا قال : قال سليمان بن عبد الملك : أنشدوني أحسن ما سمعتم من شعر النساء . فقال بعضهم : يا أمير المؤمنين ، بينما رجل من الظرفاء في بعض طرقاته إذ أخذته السماء ، فوقف تحت مظلة ليسكن من المطر وجارية مشرفة عليه ، فلما رأته حذفته بحجر ، فرفع رأسه وقال :
لو بتفاحة رميت رجونا * ومن الرمي بالحصاة جفاء
فأجابته :
ما جهلنا الذي ذكرت من الشكل * ولا بالذي ذكرته خفاء
وداية معها فقالت :
قد بدا التيه بالذي ذكرته * ليت شعري فهل لهذا وفاء
وسائلة بالباب :
ولعمري دعوتها فأجابت * هي داء وأنت منها دواء
قال سليمان : قاتلها اللّه ، وهي واللّه أشعرهم .
وقرأت في كتاب ( المحاسن والأضداد ) للجاحظ : عن عنان جارية الناطفي ، قال عمرو بن بحر الجاحظ في باب المماجنات من الكتاب ، قال السلولي : دخلت يوما على عنان وعندها رجل أعرابي ، فقالت : يا عم ، لقد أتى اللّه بك . قلت : وما ذاك ؟ قالت : هذا الأعرابي دخل عليّ فقال : بلغني أنك تقولين الشعر ، فقولي بيتا . قال السلولي : فقلت لها :
قولي ، فقالت : قد ارتجّ عليّ ، فقل أنت . فقلت :
لقد جلّ الفراق وعيل صبري * عشية عيرهم للبين ذمت
فقال الأعرابي :
نظرت إلى أواخرها مخبّا * وقد بانت وأرض الشام أمّت
فقالت عنان :
“ 161 “
كتمت هواهم في الصدر مني * على أن الدموع عليّ نمّت
فقال الأعرابي : أنت واللّه أشعرنا ، ولولا أنك بحرمة رجل لقبّلتك ، ولكن أقبّل البساط .
وقرأت في الكتاب المذكور : قال عمرو وقال بعضهم : دخلت على عنان فإذا عليها قميص يكاد يقطر صبغه ، وقد تناولها مولاها بضرب شديد وهي تبكي ، فقلت :
إن عنانا أرسلت دمعها * كالدرّ إذ ينسل من خيطه
فقالت :
فليت من يضربها ظالما * تجفّ يمناه على سوطه
فقال مولاها : هي حرّة لوجه اللّه ، إن ضربتها ظالما أو غير ظالم .
أنشدنا أبو عبد اللّه بن عبد الجليل ، قال : أنشدني أبو الحسن علي المسفر بنسبته لنفسه :
يا أيها المبتلي بذمّي * قد علم اللّه ما تقول
فالقول إن خفّ في لساني * أخانني وزنه الثقيل
وحافظ كاتب شهيد * يكتب عني الذي أقول
من حاسب النفس كلّ حين * لم يتهاون بما يقول
كان هذا الشيخ المسفر جليل القدر ، حكيما ، عارفا ، غامضا في الناس محمود الذكر ، رأيته بسبته له تصانيف ، منها منهاج العابدين الذي يعزى لأبي حامد الغزالي وليس له ، وإنما هو من مصنفات هذا الشيخ ، وكذلك كتاب النفخ والتسوية الذي يعزى إلى أبي حامد أيضا ، وتسميه الناس : المصون الصغير .
ولهذا الشيخ أيضا القصيدة المشهورة ، وهي هذه :
قل لإخوان رأوني ميتا * فبكوني إذ رأوني حزنا
أتظنون بأني ميتكم * لست ذاك الميت واللّه أنا
أنا عصفور وهذا قفصي * كان سجني وقميصي زمنا
أنا في الصور وهذا جسدي * كان جسمي إذ ألفت السجنا
أنا كنز وحجابي طلسم * من تراب قد تخلى للفنا
فاهدموا البيت ورضّوا قفصي * وذروا الكل دفينا بيننا
وقميصي مزّقوه رمما * وذروا الطلسم بعدي وثنا
“ 162 “
لا ترعكم هجمة الموت فما * هو إلا نقلة من هاهنا
فحياتي وسن في مقلتي * خيبة الموت تطير الوسنا
لا تظنوا الموت موتا إنه * لحياة هي غايات المنا
فاخلعوا الأجساد عن أنفسكم * تبصروا الحق جهارا بيّنا
حسّنوا الظنّ بربّ راحم * تشكروا السعي وتأتوا أمنا
ما أرى نفسي إلا أنتم * واعتقادي أنكم أنتم أنا
عنصر الأنفس شيء واحد * وكذا الجسم جميعا عمّنا
فمتى ما كان خيرا فلنا * ومتى ما كان شرّا فبنا
أشكر اللّه الذي خلّصني * وبنى لي في المعالي ركنا
فأنا اليوم أناجي ملأ * وأرى الحق جهارا علنا
عاكف في اللوح أقرأ وأرى * كل ما كان ويأتي ودنا
وطامي وشرابي واحد * وهو رمز فافهموه حسنا
ليس خمرا سائغا أو عسلا * لا ولا ماء ولكن لبنا
هو مشروب رسول اللّه إذ * كان يسري فطره مع فطرنا
فافهموا السرّ ففيه نبأ * أي معنى تحت لفظ كمنا
قد ترحّلت وخلّفتكم * لست أرضى داركم لي وطنا
فخذوا في الزاد جهدا لا تنوا * ليس بالعاقل منّا من ونا
أسأل اللّه لنفسي رحمة * رحم اللّه صديقا أمّنا
وعليكم من سلامي صيب * وسلام اللّه بدءا وثنا
وكتبت عنان إلى الفضل بن الربيع :
كن لي هديت إلى الخليفة شافعا * بوركت يا ابن وزيره من مسلم
حثّ الإمام على شراي وقل له * ريحانة دخرت لأنفك فاشمم
وفيها يقول أبو نواس :
عنان يا من تشبه العينا * أنت على الحبّ تلومينا
حسنك حسن لا يرى مثله * قد صيّر الناس مجانينا
وقالت غريبة جارية المأمون :
وأنتم أناس فيكم الغدر شيمة * لكم أوجه شتى والسنة عشر
عجبت لقلبي كيف يصبو إليكم * على عظم ما يلقى وليس له صبر
“ 163 “
ويقال : إن هذه الجارية هي التي يقول فيها أمير المؤمنين المأمون يخاطبها :
أنا المأمون والملك الهمام * على أني بحبك مستهام
أترضى أن أموت عليك وجدا * ويبقى الناس ليس لهم إمام
فقالت له : يا أمير المؤمنين ، أبوك الرشيد أعشق منك ، حيث يقول :
ملك الثلاث الآنسات عناني * وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها * وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى * وبه قوين أعزّ من سلطاني
فقدم ذكرهن على ذكر نفسه ، وأنت قدمت نفسك على من تزعم أنك تهواها . قال لها المأمون : غير أني منفرد لك ، والرشيد قسم بين ثلاث ، . قالت : أعرفهن : الواحدة المقصودة وهي فلانة ، والثنتان محبوبتان لها ، فأحبهما لحبّها إذ ذاك مما يسرّها ، كما قال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة :
أحب بني العوّام طرّا لأجلها * ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وقال الآخر :
أحبّ لأجلها السودان حتى * أحبّ لأجلها سود الكلاب
فهؤلاء أحبوا القبيلة من أجلها فأحرى من أحبت هذا المخرج لأمير المؤمنين الرشيد ، فأين المخرج لأمير المؤمنين ؟ فسكت وعظم وجد .
ولنا في هذا المعنى في صاحب حبشي أخلص لي في محبته واسمه بدر :
أحب لحبّك الحبشان طرّا * وأعشق لاسمك البدر المنيرا
حدثنا مصعب بن محمد الخشنيّ القاضي الخطيب الجناني ، في مجلس كان بيني وبينه في الأدب ، في حق شخص كان وسيم الوجه ، وقد أصاب عينيه رمد فاحمرت عيناه ، فقلت له : يا سيدي ، ما أحسن قول القائل في مثل هذا ، فقال : وما قال ؟
قلت :
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم * من كثرة الفتك نالها وصب
حمرتها من دماء من قتلت * والدم في السيف شاهد عجب
فقال رحمه اللّه لنا في هذا المعنى في زمان الصبا شيء ،
قلت : فأنشدني :
أكر صحبي إذ رأوا طرفه * ذا حمرة يشفي بها المغرم
لا تنكروا الحمرة في طرفه * فالسيف لا ينكر فيه الدم
“ 164 “
ولنا في هذا المعنى :
لا تنكروا الحمرة في طرف من * يسفك بالطرف دماء البشر
وإنما الإنكار من أنفس * أرضية سالت بعين القمر
والنفوس هنا الدماء ، كما قال القائل :
تسيل على حد السيوف نفوسنا * وليس على غير السيوف تسيل
ثم تذاكرنا فيما قال الأدباء في فنون شتى ، إلى أن وقع ذكر النساء المتقدمات فقال :
ما نرى في زماننا من مثل أولئك أحدا ، فقلت له : يا سيدي ، هنا عندنا بالبلد أمّ النساء بنت عبد المؤمن التاجر الفاسيّ ، وهي تجيد الشعر ، وقد أنشدت للسيد أبي علي صاحبك عندما ولّي علينا قصيدتها ، وكنت أحفظها فأنشدته إياها ، فاستحسنها ، ولا أذكر الآن منها إلا أول بيت ، وهو
قولها :
جاء البشير بوعد كان ينتظر * فأصبح الحقّ ما في صفوه كدر
من خير هاد غدا بالهدى يأمرنا * وفي أوامره التسديد والنظر
وفيها تصفه بالحرب :
ليث إذا اقتحم الأبطال حومتها * يفني الكتائب لا يبقي ولا يذر
فجرينا في هذا الميدان ساعة ، فأمتعني منه ما ملأ القلب أنسا وطبت به نفسا ، إلى أن جرى في أثناء ذلك المجلس الزاهر ، النمام بأعراف هذه الأزاهر . وذكر فضل الشاعرة وآدابها ، وأنها ممن جمعت بين الشعر والصوت ، فكانت تقول الشعر وتلحنه ، ثم تغني به على العود . فقلت له : هل تحفظ من شعرها الذي لها فيه صوت ؟ فقال : كثير ، فقلت : فإن رأي سيدي في ذلك ، فقال : روينا من حديث قاسم بن عبد اللّه أنه قال : كنت عند سعيد بن حميد الكاتب وقد افتصد ، فأتته هدايا فضل الشاعرة ألف جدي ، وألف دجاجة ، وألف طبق رياحين وطيب ، فلما وصل ذلك كتب إليها : إن هذا يوم لا يتم السرور فيه إلا بك وبحضورك . قال القاسم يصفها : وكانت من أجود الناس شعرا ، وأملحهم صوتا ، وأحسن الناس ضربا بالعود . فأتته فضرب بينها وبينه حجابا ، وأحضر ندماه ، فلما استوى المجلس بالقوم وسرى السرور أخذت العود وغنّت ،
والشعر لها :
يا من أطلت تفرّسي * في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل * يزهو بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأ * ت بلى أقول أنا المسئ
أحلفتني أن لا أسا * رق نظرة في مجلس
“ 165 “
فنظرت نظرة عاشق * أتبعتها بتنفّس
ونسيت أني قد حلف * ت فما يقال لمن نسي
وضربت أيضا وغنّت :
عاد الحبيب إلى الرضا * فصفحت عما قد مضى
من بعد ما بصدوده * شمت الحسود وحرّضا
تعس البغيض فلم يزل * لصدودنا متعرّضا
هبني أسأت وما أسأ * ت وإن أسأت لك الرضا
قال : فما أتى عليّ يوم أسرّ من ذلك اليوم .
حكومة : جرت للمنصور عند محمد بن عمران ، ثنا يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن ثابت بن شداد ، عن عبد الوهاب المليحيّ ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن مزيد ، وحدّثنا عبد الرحمن بن علي ، عن أبي منصور ، عن محمد بن علي بن ميمون ، عن محمد بن علي العلوي ومحمد بن أحمد بن علّان قالا : حدثنا محمد بن عبد اللّه النهرواني ، عن الحسن بن محمد السكواني ، عن أحمد بن سعيد الدمشقي ،
قالا :
حدثنا الزبير بن بكار والسياق لأبي يحيى ، حدثني عمر بن أبي بكر ، عن نمير المدني قال :
قدم علينا أمير المؤمنين المنصور المدينة ، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه ، وأنا كاتبه ، فاستعد الحمالون على أمير المؤمنين في شيء ذكروه ، فأمرني أن أكتب إليه كتابا بالحضور معهم وإنصافهم ، فقلت : تعفيني من هذا ، فإنه يعرف خطي ، فقال : اكتب ، فكتبت ، ثم ختمته ، وقال : لا يمضي به غيرك ، فمضيت به إلى الربيع ، وجعلت أعتذر إليه ، فقال : لا عليك ، فدخل عليه بالكتاب ، ثم خرج الربيع فقال للناس ،
وقد حضر وجوه أهل المدينة والأشراف وغيرهم : إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ، ويقول لكم : إني قد دعيت إلى مجلس الحكم فلا أعلم أحدا قام إليّ إذا خرجت ، أو بدأني بالسلام ، ثم خرج المسيّب بين يديه ، والربيع ، وأنا خلفه ، وهو في إزار ورداء ، فسلّم على الناس فما قام إليه أحد ، ثم مضى حتى بدأ بالقبر ، فسلّم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما ،
ثم التفت إلى الربيع فقال : ويحك يا ربيع أخشى أن يراني ابن عمران فتدخل قلبه هيبة فيتحول عن مجلسه ، وتاللّه لئن فعل ذلك لأولي لي ولاية أبدا ، قال : فلما رآه ابن عمران وكان متكئا أطلق رداءه على عاتقه ثم احتبى به ، ودعا بالخصوم والحمالين ، ثم دعا بأمير المؤمنين ، ثم ادعى عليه القوم ، فقضى لهم عليه ، فلما دخل الدار
قال للربيع :
اذهب ، فإذا خرج من عنده الخصوم فادعه ، فقال : واللّه يا أمير المؤمنين ما دعا بك إلا بعد
“ 166 “
أن فرغ من أمور الناس جميعا ، فدعاه ، فلما دخل عليه سلّم عليه ، فرد عليه السلام وقال :
جزاك اللّه عن دينك وعن نبيك ، وعن حسبك ، وعن خليفتك ، أحسن الجزاء ، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها ، فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك الصلة .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن أبي الحسن بن السماك الواعظ ، عن أبيه ، عن ابن عرفة ، عن العباس بن محمد بن كثير ، عن حمّاد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال : بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس إذ رأيته ضحك حتى بدت ثناياه ، فقيل له : ممّ تضحك يا رسول اللّه ؟
قال : « رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز وجل ، فقال أحدهما :
يا رب خذ لي بظلامتي من أخي ، فقال اللّه تعالى : أعط أخاك مظلمته ، فقال : يا رب ما بقي من حسناتي شيء ، قال : يا رب فليحمل من أوزاري » ، وفاضت عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال : « إن ذلك ليوم يحتاج الناس إلى أن يحمل من أوزارهم ، ثم قال اللّه تعالى للمطالب بحقه : ارفع رأسك فانظره إلى الجنان ، فرفع رأسه ، فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة ، فقال : لمن هذا يا رب ؟
فقال : لمن أعطاني ثمنه ، قال : ومن يملك ذلك يا رب ؟ قال :
أنت ، قال : بما ذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، قال : يا رب قد عفوت عنه ، قال : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة » ، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم ، فإن اللّه عز وجل يصلح بين خلقه المؤمنين يوم القيامة » .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ، ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي بإشبيلية غير مرة من لفظه قال : قال لي بعض المريدين : رأيت في أبي حامد الغزالي ، وأشياخ الصوفية ، ومعهم الشيخ أبو مدين ، فقال له بعضهم : أعد علينا كلامك في التوحيد ، فقال لهم : التوحيد أصل في الوجود ، وعليه أخذت المواثيق والعهود ، وهو دليل على كل مفقود ، فمن بقي على أصله فقد وفى ، ومن عدل عن رسمه فقد أخطأ الطريق وجفا ، ومن أتاه بقلب سليم تلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم ، به يسيرون ، وبه يتلذذون ، وبه يهتدون ، وأكثر الخلق للجزاء يعملون ، ولعليين قوم آخرون ، هو قلب الوجود به قام ، وهو المحرّك والمسكّن لسائر الأجرام ، سره في مخلوقاته قد انتشر ، وحكمه في مصنوعاته كما قدّر وأمر ، فما من شيء قلّ أو جلّ إلا هو معه ، ولا ظاهر ، ولا باطن إلا وقد أتقنه وصنعه ، إن قلت فقوله سبق الأقوال ، وإن علمت فهو خالق الأعمال ، هو الممدّ للحركات والسكون ، وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، فسرّ هذا التوحيد مستور بالغيرة ، وإذا صحّت الوحدة بطلب الكثرة ، فمن انتهت همته إلى هذا المقام ، كان شفعه بالخالق العلّام ، لا يلتفت إلى غيره ، يتخلق بأخلاقه ويسير بسيره وهو الأول والغاية ، وهو الآخر وإليه
الجزء العاشر
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 153 “
الصمصامة ، وكان صاحب غارات ، مذكورا بالشجاعة ، مشهورا في العرب ، فذكر أنه هجم في بعض غاراته على شابة جميلة منفردة ، فأخذها ، فلما أمعن بها بكت ، فقال : ما يبكيك ؟
قالت : أبكي لفراق بنات عمي ، هن مثلي في الجمال ، وأفضل مني ، خرجت معهن فانقطعنا من الحي . قال : وأين هنّ ؟ قالت : خلف ذلك الجبل ، وددت إذا أخذتني أنك تأخذهن معي ، وهن يودّن ذلك ، فأعد إلى الموضع الذي وصفته لك . فمضى عمرو إلى هناك ، فما شعر حتى هجم عليه فارس شاكي السلاح ، فعرض عليه المصارعة فصرعه الفارس ، ثم عرض عليه ضروبا من المناوشة فغلبه الفارس في جميع ذلك كله ، فسأله عمرو عن اسمه ، فإذا هو ربيعة بن مكرم الكنانيّ ، فاستنقذ الجارية منه .
حدثنا محمد بن قاسم ، ثنا عمر بن عبد الحميد ، قال : قال لي بعض الرجال : جلس رجل من المسرفين على نفسه في مجلس راحته مع ندمائه ، ثم دعا بغلامه فدفع إليه أربعة دراهم وأمره أن يشتري بها من المشمومات ما يليق بمجلس راحته ، فمرّ الغلام بمجلس منصور بن عمار وهو يسأل لفقير بين يديه ، فسمعه يقول : بقيت لهذا الفقير أربعة دراهم فمن دفعها له دعوت له أربع دعوات ، فدفع الغلام له الدراهم ، فقال له منصور : ما الذي تريد أن أدعو لك به ؟ فقال : سيدي ، أريد أن أتخلص منه ، فدعا له بذلك . فقال : وما الذي تريد أن أدعو لك به ثانية ؟ فقال : أريد أن تخلف هذه الدراهم ، فدعا له . قال : فما الدعوة الثالثة ؟ قال : أحب أن يتوب اللّه على سيدي ، فدعا له بذلك ، وسأله عن الرابعة فقال :
أحب أن يغفر اللّه لي ولسيدي ولك وللقوم الحضور ، فدعا منصور بذلك ، وانصرف الغلام راجعا إلى سيده وقد أبطأ عليه ، فقال له سيده : لم أبطأت عليّ ؟ وأين الحاجة التي أمرتك بشرائها ؟ فقص عليه الغلام القصة ، فقال له : أخبرني ما الذي دعا لك به ؟ فقال : سألته أن يدعو اللّه لي بالعتق ، فقال له : اذهب فأنت حر لوجه اللّه تعالى . فما الثانية ؟ قال : إن تخلف عليّ الدراهم . فقال له : لك من مالي أربعمائة درهم ، فما الثالثة ؟ قال : أن يتوب اللّه عليك . قال : فإني أشهد اللّه أني تائب . فما الرابعة ؟ قال : أن يغفر اللّه لي ولك ، وللمذكور ولأهل مجلسه . قال : ذلك للّه عز وجل . فلما كان الليل وقف للرجل هاتف في منامه ، فقال له : يقول اللّه لك : أنت فعلت ما إليك وأنت عبد ضعيف ، أتراني ما أفعل ما كان إليّ ، وأنا المولى الكريم ، قد غفرت لك ، وللغلام ، وللمذكور ، ولأهل مجلسه .
ذكر نبذ من الأنساب
وانتهاء بكل نسب إلى الجد الذي مجتمع فيه صاحب ذلك النسب برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
“ 154 “
فمن ذلك : قحطان ، وهو أبو اليمن كلها ، وإليه مجتمع نسبها ، وهو ابن غابر ، هنا يجتمع .
ومن ذلك : جرهم ، وهو ابن قحطان بن عامر ، وقيل : هو جرهم بن يقطن بن عابر ، هنا يجتمع .
عاد : وهو ابن عوص بن إرم بن سام ، هنا يجتمع .
ثمود ، وجديس : ابنا غابر بن إرم بن سام ، هنا .
طسم ، وعملاق ، أميم ، وأميم ، بضم الهمزة وفتح الميم ، وقيل : بكسر الهمزة والميم وتشديدهما على وزن سكين ، وهؤلاء الثلاثة أبناء لأولاد ابن سام هنا ، وهم عرب كلهم .
عك : هو ابن عدنان هنا .
أشعر : هو ابن بنت ابن أدد بن يزيد بن مهسع بن عمرو بن غريب بن يشخب بن يزيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا . ويقال : إنما هو أشعر بن سبا بن يشخب .
مدحج : قال بعض النسّابين : ليس مدحج أبا ولا أما ، وإنما هو اسم أكمة ولدت عليها دلة بنت منشجان فسمّيت مدحج ، فلما ولدت طيبا ، وهو جلمة بن مالك ، فقيل :
طيّ ، وهو الذي سمّي مدحج . وقد قيل : إن هذا مالك هو أبو شعر ، فأشعر على هذا هو أشعر بن مالك ، ومالك هو مدحج فطيّ ، ومالك ، ابنا أزد ابنا زيد بن يشخب . وقيل : إنما هو زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا . وقد قيل : طيّ بن أزد بن مالك بن أزد بن زيد بن كهلان . فهذا نسب طي قد ذكرناه .
سليم : هو ابن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيسان بن غيلان بن مضر هنا .
غسان : هو اسم ماء بسدّ مأرب باليمن ، وقيل : هو ماء بالمشلّل ، فسمّوا به قبائل شربوا منه ، من ولد مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، وسمّي سبا لأنه أول من سبى العرب ، ابن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر ، وإليه ترجع الأزد ، والأوس ، والخزرج ، وغيرهم .
فأما الأوس ، والخزرج ، فهما ولدان لحارثة بن ثعلبة بن عمر بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا .
“ 155 “
وأما الأزد ، فهو ابن الغوث ، وقد تقدم سياق النسب .
أنشدني ابن إسحاق :
أما سألت فإنا معشر نجب * الأزد نسبتنا والماء غسان
بالسين والتاء معا .
قضاعة ، وضباعة ، وإياد : أولاد معدّ هنا .
وأم قضاعة الآخر ، فهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا الأكبر بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
جهينة : هو ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الجان بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
لخم : هو ابن عديّ بن حارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن مهسع ، وقد تقدم سياق النسب في الشعر . وقيل : إنما هو لخم بن عدي بن عمرو بن سبا ، ونسب سبا قد ذكر ، والاجتماع بالأصل في غابر .
ربيعة : يجتمع أيضا في غابر ، وربيعة هو نضر بن أبي حارثة بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث ، وقد ذكر نسب الأزد بن الغوث .
بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن قصيّ بن جليدة بن أزد بن ربيعة بن نزار هنا .
ويقال : أقصى بن دعما بن جليدة .
ثقيف : اسمه قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر هنا . وقيل : هو قيس بن الثبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أقصى بن دعما بن إياد بن معدّ هنا .
قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :
قومي إياد لو أنهم أمم * ولو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم ساحة العراق إذا * ساروا جميعا والقطّ والقلم
وقال أيضا :
فإن ما تسألي عني لبيبا * وعن نسبي أخبّرك اليقينا
فإنا للبيب أبي قيس * لمنصور بن يقدم الأقدمينا
قيس ، هو ابن غيلان بن مضر هنا .
“ 156 “
جعدة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر هنا .
هذيل بن مدركة هنا .
خولان ، هو ابن عمرو بن الحارث بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
وقيل : بل هو خولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مدحج .
وقيل : بل هو خلاون بن عمرو بن مرة بن أدد بن مهيع بن عمرو بن عريب بن سعد بن كهلان بن سبا .
والعمالقة منسوبون إلى عملق ، ويقال : عمليق ، لفتان ، وقد نسبناه .
جشم ، هو ابن وائل بن زيد بن قيس بن عامرة بن مرة بن مالك بن الأوس ، وقد ذكرنا نسب أوس .
كلب ، هو ابن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمرو بن الجاف بن قضاعة ، وقد ذكرنا نسب قضاعة .
همدان ، واسم همدان حلوان بن عمرو بن زيد بن ربيعة بن أوسلة بن الحيان بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، ويقال له : أوسلة بن زيد بن أوسلة الخا بن زيد بن أوسلة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، وقد تقدم اتصال سبا بغابر وهناك يجتمع .
خثعمة ، هو الأسد بن الغوث يشكر بن بشير بن صعب بن دهمان بن نضر بن زهران بن الحارث بن كعب بن عبيد اللّه بن مالك بن الأسد بن الغوث ، وقد قيل :
خثعمة بن ميسر بن يشكر بن صعب بن نضر بن زهران بن الأسد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر ، وهناك يجتمع وغابر وغبيران ، لغتان ، هو ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام .
وقد قيل في سياق نسب خثعمة بدل صعب كعب ، انتهى المجلس .
موعظة شيبان الراعي لهارون الرشيد بمكة
حدثنا يونس بن سبا ، عن أبي بكر بن أبي منصور ، عن محمد بن عبد الملك
“ 157 “
الأسدي ، عن الحسن بن جعفر السلماسي ، ثنا المعافى بن زكريا ، عن محمد بن مخلد ، عن حمّاد بن مؤمل ، ثنا زيد بن العباس قال : لما حجّ هارون الرشيد فقيل له : يا أمير المؤمنين ، قد حجّ شيبان الراعي ، قال : اطلبوه لي ، فطلبوه ، فأتوا به ، فقال له : يا شيبان عظني ، قال : يا أمير المؤمنين ، أنا رجل ألكن لا أفصح بالعربية ، فجئني بمن يفهم كلامي حتى أكلمه ، فأتى برجل يفهم كلامه ، فقال له بالقبطية : قل له : يا أمير المؤمنين ، إن الذي يخوّفك قبل أن تبلغ المأمن أنصح لك من الذي يؤمّنك قبل أن تبلغ الخوف ، فقال له : أي شيء تفسير هذا ؟ قال : قل له : يا أمير المؤمنين ، الذي يقول لك اتق اللّه فإنك رجل مسؤول عن هذه الأمة ، استرعاك اللّه عليها ، وقلّدك أمورها ، وأنت مسؤول عنها ، فاعدل في الرعية ، واقسم بالسويّة ، وانفر في السرية ، واتق اللّه في نفسك ، هذا هو الذي يخوّفك ، فإذا بلغت المأمن أمنت ، هو أنصح لك ممن يقول لك أنت من أهل بيت مغفور لهم ، وأنت قرابة من قرابة نبيكم ، وفي شفاعته ، فلا يزال يؤمّنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت .
قال :
فبكى هارون حتى رحمه من حوله ، قال : زدني ، قال : حسبك إن وقفت .
روينا من حديث ابن ودعان ، قال : حدثنا علي بن عبد الواحد ، عن أبي الفتح العكبري ، عن العباس بن محمد ، عن محمد بن زكريا ، عن عبد اللّه بن مسلمة القعنبي ، عن مالك بن أنس ، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أولياء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ؟ فقال : « الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، واهتموا بأجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم ، فما عرض لهم من نائلها عارض إلا رفضوه ، ولا خدعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فما يجدّدونها ، وخربت بينهم فما يعمرونها ، وماتت في صدورهم فما يحيونها ، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، ونظروا إلى أهلها صرعى ، وقد حلّت بهم المثلات ، فما يرون أمانا دون ما يرجون ، ولا خوفا دون ما يحذرون » .
روينا من حديث محمد بن إسحاق ، عن محمد بن شهاب ، عن عبد اللّه بن عتبة ، عن ابن مسعود ، عن عبد اللّه بن عباس ، أنه قال : كان بين آدم ونوح عشرة آباء ، وذلك ألف ومائتا سنة . وبين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة آباء ، وذلك ألف ومائة واثنان وأربعون سنة . وبين إبراهيم وموسى سبعة آباء ، وذلك خمسمائة وخمس وستون سنة .
وبين داود وعيسى ألف وثلاثمائة وخمسون سنة ، وهي الفترة .
“ 158 “
وعدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف نبي ، وأربعة وعشرون ألف نبي ، الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر ، منهم خمسة عبرانيون : آدم ، وشيث ، وإدريس ، ونوح ، وإبراهيم .
وخمسة من العرب : هود ، وصالح ، وإسماعيل ، وشعيب ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم .
وأرسل بين موسى وعيسى ألف نبي من بني إسرائيل ، سوى من أرسل من غيرهم ، يريد بقوله أرسل مؤيدين لشريعة موسى لا ناسخين . وكان بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام أربعة من الرسل ، وهو قوله تعالى : إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ، وأما الرابع فهو خالد بن سنان ، واللّه أعلم فيما أحسبه ، وهو خالد بن سنان بن غيث العبسي . وعاشت مريم بعد رفع عيسى خمسين سنة ، وكان عمرها ثلاثا وخمسين سنة . وصلّى شيث على أبيه آدم بأمر جبريل ، وكبّر عليه أربعا وتسعين تكبيرة .
وأما أصحاب الأحلام ، والآداب ، والعلم ، أربعة : العرب ، والفرس ، والروم ، والهند ، والباقون همج .
وأولو العزم من الرسل ثلاثة : نوح ، وإبراهيم ، ومحمد ، عليهم الصلاة والسلام .
وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى .
والكتب التي أنزلت على الأنبياء ، مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل منها على شيث خمسون صحيفة ، وعلى موسى التوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين القرآن .
ذكر نسب تنصّر النعمان بن المنذر ، ورفعه يوم بؤسه ، ووفاء الطائي ، وفضل شريك بن عمير
أخبرنا بعض الأدباء من إخواننا من سيس ، أن النعمان بن المنذر ركب في يوم بؤسه ، وكان له يومان : يوم بؤس ، ويوم نعيم ، لم يلقه أحد في بؤسه إلا قتله ، ولا في يوم نعيمه أحد إلا حباه وأعطاه ، فاستقبله يوم بؤسه أعرابي من طيّ ، فأراد قتله ، فقال : حيّا اللّه الملك ، إن لي صبية صغارا لم أوص بهم إلى أحد ، فإن رأى الملك في أن يأذن لي في إتيانهم ، وأعطيه عهد اللّه أن أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي في يده . فرقّ له النعمان وقال له : لا ، إلا أن يضمنك رجل ممن معنا ، فإن لم تأت قتلناه . وكان مع النعمان شريك بن عمرو بن شراحيل ، فنظر إليه الطائي وقال :
يا شريك بن عمير * هل من الموت محاله
“ 159 “
يا أخا كل مصاف * يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فيك ال * يوم عن شيخ علاله
ابن شيبان قتيل * أحسن للّه فعاله
فقال شريك : هو عليّ ، أصلح اللّه الملك . فمضى الطائي وأجّل له أجلا يأتي فيه .
فلما كان ذلك اليوم ، أحضر النعمان شريكا ، وجعل يقول له : إن صدر هذا اليوم قد ولّى ، وشريك يقول له : ليس لك عليّ سبيل حتى يمسي . فلما أمسى أقبل شخص والنعمان ينظر إليه وإلى شريك ، فقال له : ليس لك عليّ سبيل حتى يدنو الشخص ، فلعله صاحبي ، فبينما هم كذلك إذ أقبل الطائي ، فقال النعمان : واللّه ما رأيت أكرم منكما ، وما أدري أيكما أكرم ، أهذا الذي ضمنك في الموت أم أنت إذ رجعت إلى القتل ؟ ثم قال للوزير الذي هو شريك : ما حملك على ضمانه مع علمك أنه هو الموت ؟ قال : لئلا يقال : ذهب الكرم من الوزراء . وقال للطائي : ما حملك على الرجوع إلى القتل ؟ قال : لئلا يقال : ذهب الوفاء من الناس ، ويكون عارا في عقبي وفي قبيلتي . قال النعمان : فو اللّه لا أكون ألأم الثلاثة ، فيقال : ذهب العفو من الملوك . فعفا عنه ، وأمر برفع يوم بؤسه .
وأنشد الطائي يقول :
ولقد دعتني للخلاف جماعة * فأبيت عند تجهّم الأقوال
إني امرؤ مني الوفاء خليقة * وفعال كل مهذب مبذال
فقال النعمان : ومع ما ذكرت ، ما حملك على الوفاء ، قال : أيها الملك ، ديني .
قال : وما دينك ؟ قال : النصرانية . قال : اعرضها عليّ ، فأعرضها عليه ، فتنصّر النعمان .
وحدثني أبو جعفر بن يحيى قال : دخل رجل على أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي نصيحة . قال : وما نصيحتك ؟ قال : فلان كان عاملا ليزيد بن معاوية ، وعبد الملك ، والوليد ، فخانهم فيما تولاه في أيامهم ، واقتطع أموالا جليلة ، فمر باستخراجها منه . قال : أنت شر منه وأخون حيث اطلعت على أمره وأظهرته ، ولولا أني أنفر النصّاح لعاقبتك ، ولكن اختر مني خصلة من ثلاث ، قال :
اعرضهنّ يا أمير المؤمنين . قال : إن شئت فتشنا على ما ذكرت ، فإن كنت صادقا مقتناك ، وإن كنت كاذبا عاقبناك ، وإن شئت أقلناك . قال : بل يقيلني أمير المؤمنين . قال : قد فعلت ، فلا تعودنّ بعد هذا إلى قلة الوفاء ، وإن ظهر لك من ذي جرمة أمر فاكتمه .
وحدثنا مصعب الخشني الخطيب أن مخارف بن عفان ، ومعن بن زائدة ، تلقيا رجلا ببلاد الشرك ومعه جارية لم يريا مثلها شبابا وجمالا وفصاحة ، فصاحا به ليخلّي عنها ،
“ 160 “
ومعه قوص فرمى بها ، وهابا الإقدام عليه ، ثم عاود ليرمي فانقطع وتره ، وسلّم الجارية ، واشتدّ يعدو في جبل كان قريبا منه ، فابتدرا الجارية وفي أذنها قرط فيه درّة ، فانتزعاها من أذنها ، فقالت : وما قدر هذه ؟ لو رأيتما درّتين معه في قلنسوته ، وفي قلنسوته وتر قد أعدّه ونسيه من الدهشة . فلما سمعا قول الجارية تبعاه وصاحا به : ارم القلنسوة ، وانج بنفسك .
فلما سمع قولهما ذكر الوتر ، فأخذه وعقده في قوسه ، فولّيا ليست لهما همة إلا النجاء ، وخلّيا عن الجارية .
وحدثنا أيضا قال : قال سليمان بن عبد الملك : أنشدوني أحسن ما سمعتم من شعر النساء . فقال بعضهم : يا أمير المؤمنين ، بينما رجل من الظرفاء في بعض طرقاته إذ أخذته السماء ، فوقف تحت مظلة ليسكن من المطر وجارية مشرفة عليه ، فلما رأته حذفته بحجر ، فرفع رأسه وقال :
لو بتفاحة رميت رجونا * ومن الرمي بالحصاة جفاء
فأجابته :
ما جهلنا الذي ذكرت من الشكل * ولا بالذي ذكرته خفاء
وداية معها فقالت :
قد بدا التيه بالذي ذكرته * ليت شعري فهل لهذا وفاء
وسائلة بالباب :
ولعمري دعوتها فأجابت * هي داء وأنت منها دواء
قال سليمان : قاتلها اللّه ، وهي واللّه أشعرهم .
وقرأت في كتاب ( المحاسن والأضداد ) للجاحظ : عن عنان جارية الناطفي ، قال عمرو بن بحر الجاحظ في باب المماجنات من الكتاب ، قال السلولي : دخلت يوما على عنان وعندها رجل أعرابي ، فقالت : يا عم ، لقد أتى اللّه بك . قلت : وما ذاك ؟ قالت : هذا الأعرابي دخل عليّ فقال : بلغني أنك تقولين الشعر ، فقولي بيتا . قال السلولي : فقلت لها :
قولي ، فقالت : قد ارتجّ عليّ ، فقل أنت . فقلت :
لقد جلّ الفراق وعيل صبري * عشية عيرهم للبين ذمت
فقال الأعرابي :
نظرت إلى أواخرها مخبّا * وقد بانت وأرض الشام أمّت
فقالت عنان :
“ 161 “
كتمت هواهم في الصدر مني * على أن الدموع عليّ نمّت
فقال الأعرابي : أنت واللّه أشعرنا ، ولولا أنك بحرمة رجل لقبّلتك ، ولكن أقبّل البساط .
وقرأت في الكتاب المذكور : قال عمرو وقال بعضهم : دخلت على عنان فإذا عليها قميص يكاد يقطر صبغه ، وقد تناولها مولاها بضرب شديد وهي تبكي ، فقلت :
إن عنانا أرسلت دمعها * كالدرّ إذ ينسل من خيطه
فقالت :
فليت من يضربها ظالما * تجفّ يمناه على سوطه
فقال مولاها : هي حرّة لوجه اللّه ، إن ضربتها ظالما أو غير ظالم .
أنشدنا أبو عبد اللّه بن عبد الجليل ، قال : أنشدني أبو الحسن علي المسفر بنسبته لنفسه :
يا أيها المبتلي بذمّي * قد علم اللّه ما تقول
فالقول إن خفّ في لساني * أخانني وزنه الثقيل
وحافظ كاتب شهيد * يكتب عني الذي أقول
من حاسب النفس كلّ حين * لم يتهاون بما يقول
كان هذا الشيخ المسفر جليل القدر ، حكيما ، عارفا ، غامضا في الناس محمود الذكر ، رأيته بسبته له تصانيف ، منها منهاج العابدين الذي يعزى لأبي حامد الغزالي وليس له ، وإنما هو من مصنفات هذا الشيخ ، وكذلك كتاب النفخ والتسوية الذي يعزى إلى أبي حامد أيضا ، وتسميه الناس : المصون الصغير .
ولهذا الشيخ أيضا القصيدة المشهورة ، وهي هذه :
قل لإخوان رأوني ميتا * فبكوني إذ رأوني حزنا
أتظنون بأني ميتكم * لست ذاك الميت واللّه أنا
أنا عصفور وهذا قفصي * كان سجني وقميصي زمنا
أنا في الصور وهذا جسدي * كان جسمي إذ ألفت السجنا
أنا كنز وحجابي طلسم * من تراب قد تخلى للفنا
فاهدموا البيت ورضّوا قفصي * وذروا الكل دفينا بيننا
وقميصي مزّقوه رمما * وذروا الطلسم بعدي وثنا
“ 162 “
لا ترعكم هجمة الموت فما * هو إلا نقلة من هاهنا
فحياتي وسن في مقلتي * خيبة الموت تطير الوسنا
لا تظنوا الموت موتا إنه * لحياة هي غايات المنا
فاخلعوا الأجساد عن أنفسكم * تبصروا الحق جهارا بيّنا
حسّنوا الظنّ بربّ راحم * تشكروا السعي وتأتوا أمنا
ما أرى نفسي إلا أنتم * واعتقادي أنكم أنتم أنا
عنصر الأنفس شيء واحد * وكذا الجسم جميعا عمّنا
فمتى ما كان خيرا فلنا * ومتى ما كان شرّا فبنا
أشكر اللّه الذي خلّصني * وبنى لي في المعالي ركنا
فأنا اليوم أناجي ملأ * وأرى الحق جهارا علنا
عاكف في اللوح أقرأ وأرى * كل ما كان ويأتي ودنا
وطامي وشرابي واحد * وهو رمز فافهموه حسنا
ليس خمرا سائغا أو عسلا * لا ولا ماء ولكن لبنا
هو مشروب رسول اللّه إذ * كان يسري فطره مع فطرنا
فافهموا السرّ ففيه نبأ * أي معنى تحت لفظ كمنا
قد ترحّلت وخلّفتكم * لست أرضى داركم لي وطنا
فخذوا في الزاد جهدا لا تنوا * ليس بالعاقل منّا من ونا
أسأل اللّه لنفسي رحمة * رحم اللّه صديقا أمّنا
وعليكم من سلامي صيب * وسلام اللّه بدءا وثنا
وكتبت عنان إلى الفضل بن الربيع :
كن لي هديت إلى الخليفة شافعا * بوركت يا ابن وزيره من مسلم
حثّ الإمام على شراي وقل له * ريحانة دخرت لأنفك فاشمم
وفيها يقول أبو نواس :
عنان يا من تشبه العينا * أنت على الحبّ تلومينا
حسنك حسن لا يرى مثله * قد صيّر الناس مجانينا
وقالت غريبة جارية المأمون :
وأنتم أناس فيكم الغدر شيمة * لكم أوجه شتى والسنة عشر
عجبت لقلبي كيف يصبو إليكم * على عظم ما يلقى وليس له صبر
“ 163 “
ويقال : إن هذه الجارية هي التي يقول فيها أمير المؤمنين المأمون يخاطبها :
أنا المأمون والملك الهمام * على أني بحبك مستهام
أترضى أن أموت عليك وجدا * ويبقى الناس ليس لهم إمام
فقالت له : يا أمير المؤمنين ، أبوك الرشيد أعشق منك ، حيث يقول :
ملك الثلاث الآنسات عناني * وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تطاوعني البرية كلها * وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى * وبه قوين أعزّ من سلطاني
فقدم ذكرهن على ذكر نفسه ، وأنت قدمت نفسك على من تزعم أنك تهواها . قال لها المأمون : غير أني منفرد لك ، والرشيد قسم بين ثلاث ، . قالت : أعرفهن : الواحدة المقصودة وهي فلانة ، والثنتان محبوبتان لها ، فأحبهما لحبّها إذ ذاك مما يسرّها ، كما قال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة :
أحب بني العوّام طرّا لأجلها * ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وقال الآخر :
أحبّ لأجلها السودان حتى * أحبّ لأجلها سود الكلاب
فهؤلاء أحبوا القبيلة من أجلها فأحرى من أحبت هذا المخرج لأمير المؤمنين الرشيد ، فأين المخرج لأمير المؤمنين ؟ فسكت وعظم وجد .
ولنا في هذا المعنى في صاحب حبشي أخلص لي في محبته واسمه بدر :
أحب لحبّك الحبشان طرّا * وأعشق لاسمك البدر المنيرا
حدثنا مصعب بن محمد الخشنيّ القاضي الخطيب الجناني ، في مجلس كان بيني وبينه في الأدب ، في حق شخص كان وسيم الوجه ، وقد أصاب عينيه رمد فاحمرت عيناه ، فقلت له : يا سيدي ، ما أحسن قول القائل في مثل هذا ، فقال : وما قال ؟
قلت :
قالوا اشتكت عينه فقلت لهم * من كثرة الفتك نالها وصب
حمرتها من دماء من قتلت * والدم في السيف شاهد عجب
فقال رحمه اللّه لنا في هذا المعنى في زمان الصبا شيء ،
قلت : فأنشدني :
أكر صحبي إذ رأوا طرفه * ذا حمرة يشفي بها المغرم
لا تنكروا الحمرة في طرفه * فالسيف لا ينكر فيه الدم
“ 164 “
ولنا في هذا المعنى :
لا تنكروا الحمرة في طرف من * يسفك بالطرف دماء البشر
وإنما الإنكار من أنفس * أرضية سالت بعين القمر
والنفوس هنا الدماء ، كما قال القائل :
تسيل على حد السيوف نفوسنا * وليس على غير السيوف تسيل
ثم تذاكرنا فيما قال الأدباء في فنون شتى ، إلى أن وقع ذكر النساء المتقدمات فقال :
ما نرى في زماننا من مثل أولئك أحدا ، فقلت له : يا سيدي ، هنا عندنا بالبلد أمّ النساء بنت عبد المؤمن التاجر الفاسيّ ، وهي تجيد الشعر ، وقد أنشدت للسيد أبي علي صاحبك عندما ولّي علينا قصيدتها ، وكنت أحفظها فأنشدته إياها ، فاستحسنها ، ولا أذكر الآن منها إلا أول بيت ، وهو
قولها :
جاء البشير بوعد كان ينتظر * فأصبح الحقّ ما في صفوه كدر
من خير هاد غدا بالهدى يأمرنا * وفي أوامره التسديد والنظر
وفيها تصفه بالحرب :
ليث إذا اقتحم الأبطال حومتها * يفني الكتائب لا يبقي ولا يذر
فجرينا في هذا الميدان ساعة ، فأمتعني منه ما ملأ القلب أنسا وطبت به نفسا ، إلى أن جرى في أثناء ذلك المجلس الزاهر ، النمام بأعراف هذه الأزاهر . وذكر فضل الشاعرة وآدابها ، وأنها ممن جمعت بين الشعر والصوت ، فكانت تقول الشعر وتلحنه ، ثم تغني به على العود . فقلت له : هل تحفظ من شعرها الذي لها فيه صوت ؟ فقال : كثير ، فقلت : فإن رأي سيدي في ذلك ، فقال : روينا من حديث قاسم بن عبد اللّه أنه قال : كنت عند سعيد بن حميد الكاتب وقد افتصد ، فأتته هدايا فضل الشاعرة ألف جدي ، وألف دجاجة ، وألف طبق رياحين وطيب ، فلما وصل ذلك كتب إليها : إن هذا يوم لا يتم السرور فيه إلا بك وبحضورك . قال القاسم يصفها : وكانت من أجود الناس شعرا ، وأملحهم صوتا ، وأحسن الناس ضربا بالعود . فأتته فضرب بينها وبينه حجابا ، وأحضر ندماه ، فلما استوى المجلس بالقوم وسرى السرور أخذت العود وغنّت ،
والشعر لها :
يا من أطلت تفرّسي * في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل * يزهو بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأ * ت بلى أقول أنا المسئ
أحلفتني أن لا أسا * رق نظرة في مجلس
“ 165 “
فنظرت نظرة عاشق * أتبعتها بتنفّس
ونسيت أني قد حلف * ت فما يقال لمن نسي
وضربت أيضا وغنّت :
عاد الحبيب إلى الرضا * فصفحت عما قد مضى
من بعد ما بصدوده * شمت الحسود وحرّضا
تعس البغيض فلم يزل * لصدودنا متعرّضا
هبني أسأت وما أسأ * ت وإن أسأت لك الرضا
قال : فما أتى عليّ يوم أسرّ من ذلك اليوم .
حكومة : جرت للمنصور عند محمد بن عمران ، ثنا يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن ثابت بن شداد ، عن عبد الوهاب المليحيّ ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن مزيد ، وحدّثنا عبد الرحمن بن علي ، عن أبي منصور ، عن محمد بن علي بن ميمون ، عن محمد بن علي العلوي ومحمد بن أحمد بن علّان قالا : حدثنا محمد بن عبد اللّه النهرواني ، عن الحسن بن محمد السكواني ، عن أحمد بن سعيد الدمشقي ،
قالا :
حدثنا الزبير بن بكار والسياق لأبي يحيى ، حدثني عمر بن أبي بكر ، عن نمير المدني قال :
قدم علينا أمير المؤمنين المنصور المدينة ، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه ، وأنا كاتبه ، فاستعد الحمالون على أمير المؤمنين في شيء ذكروه ، فأمرني أن أكتب إليه كتابا بالحضور معهم وإنصافهم ، فقلت : تعفيني من هذا ، فإنه يعرف خطي ، فقال : اكتب ، فكتبت ، ثم ختمته ، وقال : لا يمضي به غيرك ، فمضيت به إلى الربيع ، وجعلت أعتذر إليه ، فقال : لا عليك ، فدخل عليه بالكتاب ، ثم خرج الربيع فقال للناس ،
وقد حضر وجوه أهل المدينة والأشراف وغيرهم : إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ، ويقول لكم : إني قد دعيت إلى مجلس الحكم فلا أعلم أحدا قام إليّ إذا خرجت ، أو بدأني بالسلام ، ثم خرج المسيّب بين يديه ، والربيع ، وأنا خلفه ، وهو في إزار ورداء ، فسلّم على الناس فما قام إليه أحد ، ثم مضى حتى بدأ بالقبر ، فسلّم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما ،
ثم التفت إلى الربيع فقال : ويحك يا ربيع أخشى أن يراني ابن عمران فتدخل قلبه هيبة فيتحول عن مجلسه ، وتاللّه لئن فعل ذلك لأولي لي ولاية أبدا ، قال : فلما رآه ابن عمران وكان متكئا أطلق رداءه على عاتقه ثم احتبى به ، ودعا بالخصوم والحمالين ، ثم دعا بأمير المؤمنين ، ثم ادعى عليه القوم ، فقضى لهم عليه ، فلما دخل الدار
قال للربيع :
اذهب ، فإذا خرج من عنده الخصوم فادعه ، فقال : واللّه يا أمير المؤمنين ما دعا بك إلا بعد
“ 166 “
أن فرغ من أمور الناس جميعا ، فدعاه ، فلما دخل عليه سلّم عليه ، فرد عليه السلام وقال :
جزاك اللّه عن دينك وعن نبيك ، وعن حسبك ، وعن خليفتك ، أحسن الجزاء ، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها ، فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك الصلة .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن أبي الحسن بن السماك الواعظ ، عن أبيه ، عن ابن عرفة ، عن العباس بن محمد بن كثير ، عن حمّاد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال : بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس إذ رأيته ضحك حتى بدت ثناياه ، فقيل له : ممّ تضحك يا رسول اللّه ؟
قال : « رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز وجل ، فقال أحدهما :
يا رب خذ لي بظلامتي من أخي ، فقال اللّه تعالى : أعط أخاك مظلمته ، فقال : يا رب ما بقي من حسناتي شيء ، قال : يا رب فليحمل من أوزاري » ، وفاضت عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال : « إن ذلك ليوم يحتاج الناس إلى أن يحمل من أوزارهم ، ثم قال اللّه تعالى للمطالب بحقه : ارفع رأسك فانظره إلى الجنان ، فرفع رأسه ، فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة ، فقال : لمن هذا يا رب ؟
فقال : لمن أعطاني ثمنه ، قال : ومن يملك ذلك يا رب ؟ قال :
أنت ، قال : بما ذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، قال : يا رب قد عفوت عنه ، قال : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة » ، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم ، فإن اللّه عز وجل يصلح بين خلقه المؤمنين يوم القيامة » .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ، ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي بإشبيلية غير مرة من لفظه قال : قال لي بعض المريدين : رأيت في أبي حامد الغزالي ، وأشياخ الصوفية ، ومعهم الشيخ أبو مدين ، فقال له بعضهم : أعد علينا كلامك في التوحيد ، فقال لهم : التوحيد أصل في الوجود ، وعليه أخذت المواثيق والعهود ، وهو دليل على كل مفقود ، فمن بقي على أصله فقد وفى ، ومن عدل عن رسمه فقد أخطأ الطريق وجفا ، ومن أتاه بقلب سليم تلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم ، به يسيرون ، وبه يتلذذون ، وبه يهتدون ، وأكثر الخلق للجزاء يعملون ، ولعليين قوم آخرون ، هو قلب الوجود به قام ، وهو المحرّك والمسكّن لسائر الأجرام ، سره في مخلوقاته قد انتشر ، وحكمه في مصنوعاته كما قدّر وأمر ، فما من شيء قلّ أو جلّ إلا هو معه ، ولا ظاهر ، ولا باطن إلا وقد أتقنه وصنعه ، إن قلت فقوله سبق الأقوال ، وإن علمت فهو خالق الأعمال ، هو الممدّ للحركات والسكون ، وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، فسرّ هذا التوحيد مستور بالغيرة ، وإذا صحّت الوحدة بطلب الكثرة ، فمن انتهت همته إلى هذا المقام ، كان شفعه بالخالق العلّام ، لا يلتفت إلى غيره ، يتخلق بأخلاقه ويسير بسيره وهو الأول والغاية ، وهو الآخر وإليه
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin