الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء الأول
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
الجزء الثاني
[ تتمة محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ومن باب الحياء
ما قرأته في كتاب المنقطعين إلى اللّه تعالى ، قال بعضهم : رأيت شيخا يأتي إلى باب المسجد ، فيصلي عنده ولا يدخل فيه ، فقلت له : يا شيخ ، ما لك لا تدخل المسجد ؟ قال :
يا أخي ، خلوت يوما في بعض المساجد ، فأعجبتني خلوتي ، فإذا بمناد ينادي : يا شيخ ، أما تحتشم ؟ وقد عصيته ، تدخل بيته ، فما قدرت بعد على دخول مسجد حشمة وحياء .
ومن باب الصبر
وقع كسرى بن هرمز إلى بعض المسجونين : من صبر على النازلة كان كمن لم تنزل به ، ومن طوّل له في الحبل كان فيه عطبه ، ومن أكل بغير مقدار تلفت نفسه .
موعظة في هذا الباب
دخل ابن الزيات على الأفشين وهو محبوس فقال :
اصبر لها صبر أقوام نفوسهم * لا تستريح بلا غلّ ولا قود
قال الأفشين : من صحب الزمان لم ينج من خيره أو شره ، ووجد الكراهية والهوان .
ثم قال :
لم ينج من خيرها أو شرها أحد * فاذكر إساءتها إن كنت من أحد
خاضت بك السنة الحمقاء غمرتها * فتلك أمواجها ترميك بالزبد
حكي أن يوسف عليه السلام شكى إلى اللّه تعالى طول السجن ، فأوحى اللّه إليه : أنت حبست نفسك حين قلت : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، فلو قلت : العافية أحب إليّ لعوفيت . ثم أخرجه اللّه تعالى كما ذكره في كتابه العزيز ، فلما خرج من السجن ،
“ 4 “
واصطفاه العزيز ، أمر أن يكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، ومحزنة الأصدقاء .
من كلام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه
قال يوما لابنه الحسن رضي اللّه عنه : يا بنيّ ، أبذل لصديقك كل المودة ، ولا تطمئن إليه كل الطمأنينة ، وأعطه كل المواساة ، ولا تفش له كل الأسرار .
ومن كتاب التراجم
إن عيسى عليه السلام قال : عاشروا الناس معاشرة ، إن عشتم حنّوا إليكم ، وإن متم بكوا عليكم . وأنشد :
قد يمكث الناس دهرا ليس بينهم * ودّ فيزرعه التسليم واللطف
يسلي الشقيقين طول النأي بينهما * وتلتقي شعب شتى فتأتلف
وفي الحكمة القديمة
ليس للعقلاء تنعم إلا بمودة الإخوان . وقال العباس بن جرير : المودة تعاطف القلوب ، وائتلاف الأرواح ، وإنس النفوس ، ووحشة الأشخاص عند تنائي اللقاء ، وظهور السرور بكثرة التزاور ، على حسب مشاكلة الجواهر ، يكون الاتفاق في الخصال .
وروينا من حديث رباح بن عبيد اللّه ، قال : خرج عمر بن عبد العزيز قبل خلافته ، وشيخ متكئ على يده ، فقلت في نفسي : إن هذا الشيخ جاف ، فلما صلى ودخل لحقته ، فقلت : أصلح اللّه الأمير ، من الشيخ الذي كان متكئا على يدك ؟ فقال : يا رباح ، رأيته ؟
قلت : نعم ، قال : ما أحسبك يا رباح إلا رجلا صالحا ، ذاك أخي الخضر ، أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة ، وأني سأعدل فيها .
وحكى محمد بن فضالة ، فيما رواه أبو نعيم ، أن عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز وقف براهب في الجزيرة في صومعة له ، قد أتى عليه فيها عمر طويل ، وكان ينسب إليه علم من الكتاب ، فهبط إليه ، ولم ير هابطا إلى أحد قبله ، فقال له : يا عبد اللّه ، أتدري لما هبطت إليك ؟ قال : لا ، قال : الحق بأبيك إنّا نجده في أئمة العدل بمنزلة رجب من أشهر الحرم . قال : فسرّه له أبو أيوب بن سويد ، فقال : ثلاثة متوالية : ذو القعدة ، والحجة ،
“ 5 “
والمحرم ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ورجب منفرد ، منها عمر بن عبد العزيز .
قلت : تكلم أبو أيوب في هذا التفسير ببادئ رأيه ، ولم يتحقق مقصد المتكلم ، فلم يرد الراهب بقوله العدد ، فإنه ما تعرض إليه ، وكيف يتعرض للعدد وأئمة الهدى بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحسن رضي اللّه عنهم أجمعين . وإنما أراد بالمثال أنه كان بين رجب والأشهر الحرم شهور ليست بحرم ، وليست لها تلك المرتبة ، كذلك بين أئمة العدل وبين عمر بن عبد العزيز خلفاء ليست لهم في العدل مرتبة ، هؤلاء المذكورين .
حكى لنا بعض الأدباء ، عن أبي الجهم ، وكان بدويا جافيا ، لمّا قدم على المتوكل
وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها يخاطب الخليفة :
أنت كالكلب في حفاظك للودّ * وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا * من كبار الدلا كثير الذنوب
فعرف المتوكل قوته ، ورقة مقصده ، وخشونة لفظه ، فعرف أنه ما رأى سوى ما شبّه به ، لعدم المخالط ، وملازمة البادية ، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة ، فيها بستان حسن يتخلله نسيم لطيف ، يغذي الأرواح ، والجسر قريب منه ، وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به . وكان يركب في أكثر الأوقات ، فيخرج إلى محلات بغداد ، فيرى حركة الناس ، ولطافة الخضر ، ويرجع إلى بيته ، فأقام ستة أشهر على ذلك ، والأدباء والفضلاء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته ، فاستدعاه الخليفة بعد هذه المدة لينشده ، فحضر
وأنشد :
عيون المها بين الرصافة والجسر * جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فقال المتوكل : لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة . وخرجت القصيدة عن فكري ، فإن وجدتها فسألحقها إن شاء اللّه في بعض مجالس هذا الكتاب .
وأنشدنا أبو حامد الخشني الليلي عن بعض أشياخه ، عن ابن مغيث ، قال :
قال علي بن الجهم من باب الرجوع إلى اللّه تعالى :
توكلنا على رب السماء * وسلّمنا لأسباب القضاء
ووطنا على غبر الليالي * نفوسا سامحت بعد الآباء
وأبواب الملوك محجبات * وباب اللّه مبذول الفناء
هذه الأبيات قالها لمّا حبسه المتوكل .
“ 6 “
وقال أيضا في حبسه ذلك :
قالت حبست ، قلت ليس بضائري * حبسي وأي مهنّد لا يغمد
أو ما رأيت الليث بألف غيلة * كبرى وأوباش السباع تردّد
والنار في أحجارها مخبوءة * لا تصطلي ما لم تثرها الأزند
والبدر يدركه الظلام فينجلي * أيامه فكأنه متجدّد
والراعبية لا يقيم كعوبها * إلا الثقاف وجذوة تتوقد
غبر الليالي باديات عوّد * والمال عارية يفاد وينفد
لا يؤيسنك من تفرج كربة * خطب أتاك به الزمان الأنكد
فلكل حال معقب ولربما * أجلى لك المكروه عما تحمد
كم من عليل قد تخطاه الردى * فنجا ومات طبيبه والعود
صبرا فإن اليوم يعقبه غد * ويد الخليفة لا تطاولها يد
والحبس ما لم تغشه لدنيئة * شنعاء نعم المنزل المتورد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه * لا تستذلك بالحجاب الأعبد
بيت يجدد للكريم كرامة * وتزار فيه ولا تزور وتقصد
يا أحمد بن أبي داود إنما * تدعى لكل كريهة يا أحمد
أبلغ أمير المؤمنين ودونه * خوف العدو مخاوف لا تنفد
أنتم بنو عم النبي محمد * أولى بما شرع النبي محمد
ما كان من حسن فأنتم أهله * كرمت مغارسكم وطاب المحتد
أمن السوية يا ابن عم محمد * خصم تقربه وآخر تبعد
إن الذين سعوا إليك بباطل * أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا * فينا وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصمين عندك منزل * يوما لبان لك الطريق الأقصد
والشمس لولا أنها محجوبة * عن ناظريك لما أضاء الفرقد
وفي نقيض هذا ما أنشده عاصم بن محمد الكاتب لنفسه لما حبس أحمد بن عبد العزيز أبا دلف ، فقال :
قالت حبست فقلت خطب أنكد * أنحى عليّ به الزمان المرصد
لو كنت حرا كان سر بي مطلقا * ما كنت أحبس عنوة وأقيّد
لو كنت كالسيف المهند لم يكن * وقت الكريهة والشديدة يغمد
“ 7 “
لو كنت كالليث الهصور لما رعت * فيّ الذئاب وجذوتي تتوقد
من قال إن الحبس بيت كرامة * فمكابر في قوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كل مهانة * ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت * يبدي التوجع تارة ويفنّد
أو زارني فيه العدو فشامت * يبدي التوجع تارة ويفنّد
أو زارني فيه الصديق فموجع * يذري الدموع بزفرة تتردّد
يكفيك أن الحبس بيت لا يرى * أحد عليه من الخلائق يحسد
تمضي الليالي لا أذوق لرقدة * طعما وكيف حياة من لا يرقد
في مطبق فيه النهار مشاكل * لليل والظلمات فيه سرمد
فإلى متى هذا الشقاء موكل * وإلى متى هذا البلاء مجدد
ما لي مجير غير سيّدي الذي * ما زال يقبلني ونعم السيّد
غذيت حشاشة مهجتي بنوافل * من سيبه وصنائع لا تجحد
عشرين حولا عشت تحت جناحه * عيش الملوك وحالتي تتزيد
فخلا العدو بموضعي من قلبه * فحشاه جمرا ناره لا تخمد
فاغفر لعبدك ذنبه متطولا * فالحقد منك سجية لا تعهد
واذكر خصائص خدمتي وتعاوني * أيام كنت جميع أمري تحمد
وقال بعضهم : سئل عمار بن ياسر عن الولايات ، فقال : هي حلوة الرضاع ، مرّة الفطم .
وطلبني بعض السلاطين للولاية ، وعزم عليّ فيها ، فامتنعت عليه إلى أن قال : لا أعزلك ، وعليّ العهد بذلك ، قلت : الأحوال بروق تلمع ، ولا تقم ، وهذه الحالة منك غير دائمة ، ولا سيما إذا جاء سلطان نقضها .
روي في سبب عزل الحجاج بن يوسف عن مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن عيسى بن طلحة بن عبد اللّه وفد على عبد الملك بن مروان في وفد أهل المدينة ، فأثنى الوفد على الحجاج ثناء كثيرا ، وعيسى بن طلحة ساكت ، فلما انصرفوا ثبت عيسى مكانه حتى خلا له وجه عبد الملك ، فقام فجلس بين يديه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، من أنا ؟
قال : عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : فمن أنت ؟
قال : عبد الملك بن مروان ، قال : أفجهلتنا أم تغيرت بعدنا ؟
قال : وما ذاك ؟ قال : ولّيت علينا الحجاج بن يوسف يسير فينا بالباطل ، ويحملنا على أن نثني عليه بغير الحق ، واللّه لئن أعدته علينا لنعصينك ، وإن قاتلتنا أو غلبتنا أو أسأت إلينا قطعت أرحامنا ، ولئن قوينا عليك غصبناك ملكك . فقال له عبد الملك
“ 8 “
انصرف والزم بيتك ، ولا تذكرن من هذا شيئا . قال : وقام إلى منزله . قال : فأصبح الحجاج غاديا إلى عيسى بن طلحة ، فقال : جزاك اللّه خيرا عن خلوتك بأمير المؤمنين ، أبدلكم بي غيري وولّاني العراق .
أنشدنا يونس بن يحيى بمكة ، قال : قرأ عليّ محمد بن علي الطائي وأنا أسمع ، قيل له : أنشدنا ، قال : أنشدنا أبو محمد الحسن بن منصور السمعاني ، قال : أنشدنا والدي الشريف المظفّر السمعاني ، لأبي بكر بن داود السختياني :
تمسّك بحبل اللّه واتبع الهدى * ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ولذ بكتاب اللّه والسنن التي * أتت عن رسول اللّه تنجو وتربح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم * فقول رسول اللّه أزكى وأرجح
ولا تك من قوم تلهّوا بدينهم * فتطعن في أهل الحديث وتقدح
إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه * فأنت على خير تبيت وتصبح
روينا من حديث أبي نعيم ، انا الوليد ، قال : بلغنا أن رجلا ببعض بلاد خراسان قال : أتاني آت في المنام فقال : إذا قام أشجّ بني مروان فانطلق فبايعه ، فإنه إمام عدل .
فجعلت أسأل كلما قام خليفة ، حتى قام عمر بن عبد العزيز ، فأتاني ثلاث مرات في المنام ، فلما كان آخر ذلك زبرني فأوعدني ، فرحلت إليه ، فلما قدمت عليه لقيته فحدثته الحديث ، فقال : ما اسمك ؟ ومن أنت ؟ وأين منزلك ؟ قلت : بخراسان ، قال : ومن أمير المكان الذي أنت فيه ؟ ومن صديقك هناك ؟ ومن عدوّك ؟ فألطف المسألة . ثم حبسني أربعة أشهر ، فشكوت إلى مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز ، فقال : إنه كتب فيك ، فدعاني بعد أربعة أشهر ، فقال : إني كتبت فيك فجاءني ما أسرّ من قبل صديقك وعدوك ، فهلم فبايعني على السمع والطاعة والعدل ، فإذا تركت ذلك فليس لي عليك بيعة ، قال : فبايعته ، قال : ألك حاجة ؟ فقلت له : أنا غني في المال ، إنما أتيتك لهذا ، فودّعني وودّعته ومضيت .
وقال أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه في خلافته ، وقد صعد المنبر ، فخطب الناس ، فقال : أطيعوني ما أطعت اللّه ورسوله ، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم .
وقال علقمة بن ليث لابنه : يا بنيّ ، إن نازعتك نفسك إلى صحبة الرجال ، إذ قد تمسّ الحاجة إليهم ، فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإن تخفضت له صانك ، وإن نزلت بك مئونة مانك ، وإن قلت صدّق قولك ، وإن صلت به شدّد صولتك ، اصحب من إذا مددت يدك إليه لفضل مدها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ،
“ 9 “
اصحب من لا يأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ، ولا يخذلك عند الحقائق .
شعر
أخوك أخوك من تدنو وترجو * مودته وإن دعي استجابا
وقال الآخر :
ومولاك مولاك الذي إن دعوته * أجابك طوعا والدماء تصيب
حكي عن عكرمة ، قال : كنا جلوسا عند ابن عباس وعبد اللّه بن عمر ، فطار غراب يصيح ، فقال رجل من القوم : خير خير ، فقال ابن عباس : لا خير ولا شر .
شعر
ما فرق الأحباب بعد اللّه إلا الإبل * والناس يلحون غراب البين لما جهلوا
وما على ظهر غراب البين تطوى الرحل * ولا إذا صاح غراب في الديار ارتحلوا
وما غراب البين إلا ناقة أو جمل
ولنا في هذا المعنى :
نعقت أغربة البين بهم * لا رعى اللّه غرابا نعقا
ما غراب البين إلا جمل * سار بالأحباب نصحا عنقا
رؤيا آمنة أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في وقت حملها به وما قيل لها فيه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، ثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ، انا حفص بن عمر بن الصباح البرقي ، ثنا يحيى بن عبد اللّه البابلي ، ثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن سعيد بن عمرو الأنصاري ، عن أبيه ، عن كعب الأحبار في صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال ابن عباس : وكان من دلالات حمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة ، وقالت : حمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورب الكعبة ، وهو أمان الدنيا ، وسراج أهلها ، ولم يبق كاهنة من قريش ولا في قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها ، وانتزع علم الكهنة منها ، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا ، والملك مخرسا لا ينطق يومه ، ومرت وحش الشرق إلى وحش الغرب بالبشارات ، وكذلك أهل البحار يبشر بعضها بعضا ،
“ 10 “
وفي كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السماء : أن أبشروا ، فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا .
قال : وبقي في بطن أمه تسعة أشهر كملا لا تشكو وجعا ولا ريحا ولا مغصا ، ولا ما يعرض للنساء من ذوات الحمل ، وهلك أبوه عبد اللّه وهو في بطن أمه ، فقالت الملائكة :
إلهنا وسيدنا ، يبقى نبيك هذا يتيما . فقال اللّه عز وجل للملائكة : أنا له وليّ وحافظ ونصير وتبركوا بمولده ميمونا مباركا ، وفتح اللّه عز وجل لمولده أبواب السماء وجنّاته . فكانت أمه تحدث عن نفسها وتقول : أتاني آت حين مرّ لي من حمله ستة أشهر ، فوكزني برجله في المنام ، وقال لي : يا آمنة ، إنك قد حملت بخير العالمين طرّا ، فإذا ولدتيه فسميه محمدا ، واكتمي شأنك . قال : فكانت تحدث عن نفسها فتقول : لقد أخذني ما يأخذ النساء ، ولم يعلم بي أحد من القوم ذكرا ولا أنثى ، وإني لوحيدة في المنزل ، وعبد المطلب في طوافه ، قالت : فسمعت وجبة شديدة ، وأمرا عظيما ، فهالني ذلك ، وذلك يوم الاثنين ، فرأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي ، فذهب عني كل رعب وكل فزع ووجع ، كنت أجد ، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا ، وكنت عطشى ، فتناولتها ، فشربتها ، فأضاء مني نور عال ، ثم رأيت نسوة كالنخل الطوال ، كأنهن من بنات عبد مناف ، يحدقن بي ، فبينما أنا أعجب من ذلك ، وأقول : وا غوثاه ، من أين علمن بي هؤلاء ؟ واشتد بي الأمر ، وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول ، فإذا أنا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض ، وإذا قائل يقول : خذوه عن أعين الناس .
قالت : ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة ، وأنا أرشح عرقا كالجمان ، أطيب ريحا من المسك الأذفر ، وأنا أقول : يا ليت عبد المطلب قد دخل عليّ ، وعبد المطلب ناء عني ، قالت : فرأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي ، مناقيرها من الزمرد ، وأجنحتها من الياقوت ، فكشف اللّه عن بصري ، فأبصرت ساعتي تلك مشارق الأرض ومغاربها ، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبة : علما في المشرق ، وعلما في المغرب ، وعلما على ظهر الكعبة ، فأخذني المخاض ، واشتد بي الأمر جدا ، فكنت كأني مستندة إلى أركان النساء ، وكثرن عليّ حتى إني لا أرى معي في البيت أحدا ، وأنا لا أرى شيئا ، فولدت محمدا صلى اللّه عليه وسلم . فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه ، فإذا هو ساجد قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل ، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء نزلت حتى غشيته ، فغيّب عن وجهي ، فسمعت مناديا ينادي ويقول : طوفوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم شرق الأرض وغربها ، وأدخلوه البحار كلها ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ،
“ 11 “
ويعلمون أنه يسمى فيها الماحي ، لا يبقى شيء من الشرك إلا محي به في زمنه ، ثم تجلت عنه في أسرع وقت ، فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض أشد بياضا من اللبن ، وتحته حريرة خضراء ، وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض ،
وإذا قائل يقول :
قبض محمد صلى اللّه عليه وسلم على مفاتيح النصرة ، ومفاتيح الريح ، ومفاتيح النبوة . ثم أقبلت سحابة أخرى أعظم من الأولى ، ونور يسمع فيها صهيل الخيل ، وخفقان الأجنحة من كل مكان ، وكلام الرجال ، حتى غشيته ، فغيّب عن عيني أكثر وأطول من المدة الأولى ، فسمعت مناديا ينادي : طوفوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم الشرق والغرب ، وعلى مواليد النبيين ، وأعرضوه عن كل روحاني من الجن والإنس ، والطير والسباع ، وأعطوه صفاء آدم ، ورقّة نوح ، وخلة إبراهيم ، ولسان إسماعيل ، وصبر يعقوب ، وجمال يوسف ، وصوت داود ، وصبر أيوب ، وزهد يحيى ، وكرم عيسى ، واغمروه في أخلاق النبيين .
ثم تجلت عنه في أسرع من طرفة عين ، فإذا أنا قد قبض على حريرة خضراء مطوية طيا شديدا ، ينبع من تلك الحريرة ماء معين ، وإذا قائل يقول : بخخ بخخ ، قبض محمد صلى اللّه عليه وسلم على الدنيا كلها ، لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته ، طائعا بإذن اللّه عز وجل ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه . قالت آمنة : فبينما أنا أتعجب إذا أنا بثلاثة نفر ، ظننت أن الشمس تطلع من خلال وجوههم ، في يد أحدهم إبريق من فضة ، وفي ذلك الإبريق ريح المسك ، وفي يد الثاني طست من زمرد أخضر ، عليها أربع نواحي ، في كل ناحية من نواحيها لؤلؤة بيضاء ، وإذا قائل يقول : هذه الدنيا شرقها وغربها ، برها وبحرها ، فاقبض يا حبيب اللّه على أي ناحية شئت ، قالت : قدرت لأنظر أين قبض من الطست ؟
فإذا هو قد قبض على وسطها ، فسمعت قائلا يقول : قبض على الكعبة ورب الكعبة ، أما إن اللّه تبارك وتعالى قد جعلها له قبلة ومسكنا مباركا .
قالت : ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية طيا شديدا ، فنشرها فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه ، ثم حمل ابني فناوله صاحب الطست ، وأنا أنظر إليه فغسله بذلك الإبريق سبع مرات ، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ختما واحدا ، ولفه في الحريرة ، واستدار عليه خيطا من المسك الأذفر ، ثم حمله فأدخله بين أجنحته ساعة . قال ابن عباس : كان ذلك رضوان خازن الجنان .
قالت : وقال في أذنه كلاما كثيرا لم أفهمه ، وقبّل بين عينيه ، ثم قال : أبشر يا محمد ، فما بقي لبني علم إلا وقد أعطيته ، فأنت أكثرهم علما ، وأشجعهم قلبا ، معك مفاتيح النصرة ، وقد ألبست الخوف والرعب ، فلا يسمع أحد بذكرك إلا وجلّ فؤاده وخاف قلبه ، وإن لم يرك يا رسول اللّه . قالت : ثم رأيت رجلا قد
“ 12 “
أقبل نحوه ، حتى وضع فاه على فيه ، فجعل يزقه كما تزق الحمام فرخها ، فكنت أنظر إلى ابني يشير بإصبعه ، يقول : زدني زدني ، فزقه ساعة ، ثم قال : أبشر يا حبيب اللّه ، فما بقي لبنيّ حلم إلا وقد أوتيته ، ثم احتمله فغيّبه عني ، فجزع فؤادي ، وذهل قلبي فقلت : ويح قريش ، والويل لها ، ماتت كلها ، أنا في ليلتي وفي ولادتي ، أرى ما أرى ويصنع بولدي ما يصنع ، ولا يقربني أحد من قومي ، إن هذا لهو العجب العجاب ، قالت : فبينا أنا كذلك إذا أنا به قد ردّ عليّ كالبدر ، وريحه يسطع كالمسك ، وهو يقول : خذيه ، فقد طافوا به الشرق والغرب ، وعلى مواليد النبيين أجمعين ، والساعة كان عند أبيه آدم ، فضمه إليه ، وقبّل بين عينيه ، وقال : أبشر حبيبي ، فأنت سيد الأولين والآخرين ، ومضى ، وجعل يلتفت ، ويقول : أبشر يا عزّ الدنيا ، وشرف الآخرة ، فقد استمسكت بالعروة الوثقى ، فمن قال بمقالتك ، وشهد بشهادتك ، حشر غدا يوم القيامة تحت لوائك ، وفي زمرتك ، وناولنيه ، ومضى ، ولم أره بعد تلك المرة .
زاد العباس رضي اللّه عنه في حديثه ، قلت : يا آمنة ، ما الذي رأيت في ولادتك من علامة هذا الصبي ؟ فقالت : رأيت علما من سندس على قضيب من ياقوت ، قد ضرب بين السماء والأرض ، ورأيت نورا ساطعا من رأسه قد بلغ السماء ، ورأيت قصور الشام كلها شعلت نارا ، ورأيت قربي سربا من القطا قد سجدت له ، ونشرت أجنحتها ، ورأيت نابغة شعيرة الأسدية ، قد مرت وهي تقول : ما لقي الأصنام والكهان من ولدك هذا ؟ هلكت شعيرة ، والويل للأصنام ، ثم الويل لها ، ورأيت شابا من أتم الناس طولا ، وأشدهم بياضا ، فأخذ المولود مني ، فتفل في فيه ، ومعه طاس من ذهب ، فشق بطنه ثم أخرج قلبه فشقه شقا ، فأخرج منه نكتة سوداء ، فرمى بها ، ثم أخرج صرة من حرير أخضر ففتحها ، فإذا فيها شيء كالدرّة البيضاء ، فحشاه به ، ثم ردّه إلى مكانه ، ثم مسح على بطنه ، فاستيقظ ، فنطق فلم أفهم ما قال ، إلا أنه قال : أنت في أمان اللّه ، وحفظ اللّه ، وكلامه ، قد حشوتك علما ، وحلما ، ويقينا ، وإيمانا ، وعقلا ، وشجاعة ، وأنت خير البشر ، فطوبى لمن اتبعك ، وآمن بك ، وعرفك ، والويل ثم الويل ، قالها سبع مرات ، لمن تخلف عنك ، وخرج منها ولم يعرفك ، ثم تفل فيه أخرى تفلة شديدة ، ثم ضرب الأرض ضربة ، فإذا هو بماء أشد بياضا من اللبن ، فغمسه في ذلك الماء ثلاث غمسات ، فما ظننت إلا أنه قد غرق ، وما من مرة يخرجه إلا رأيت ضوء وجهه كالشمس الطالعة ، ولقد رأيت بريق وجهه يقع على قصور الشام كوقوع الشمس الحديث ، ثم قال : أمرني ربي عز وجل أن أنفخ فيك بروح القدس ، فنفخ فيه ، فألبسه قميصا ، فقال : هذا أمانك من آفات الدنيا ، الحديث رواه أحمد بن أبي عبد اللّه ، عن محمد بن عبد اللّه بن جعفر ، عن محمد بن أحمد بن أبي يحيى ، عن
“ 13 “
سعيد بن عثمان الكريزي ، عن أبي أحمد الزبيري ، عن سعيد بن مسلم مولى لبني مخزوم ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : سمعت أبي العباس يحدث ، فذكره .
لطف خفيّ من لطيف بعبد مهين ضعيف
حدثنا عبد الرحمن بن علي كتابة ، نبأ أبو بكر الصوفي ، انا علي بن أبي صادق ، انا محمد بن عبد اللّه الشيرازي ، قال : سمعت محمد بن فارس يقول : سمعت خير النسّاج يقول : سمعت إبراهيم الخواص . وقد رجع من شدة سفره وكان قد غاب عني سنين ، فقلت : ما الذي أصابك في سفرك ؟ فقال : عطشت عطشا شديدا حتى سقطت من شدة العطش ، فإذا أنا بماء قد رشّ على وجهي ، فلما أحسست ببرده فتحت عيني ، فإذا رجل حسن الوجه ، والذي عليه ثياب خضر ، على فرس أشهب ، فسقاني حتى رويت ، ثم قال :
ارتدف خلفي ، وكنت بالحاجر ، فلما كان بعد ساعة ، قال : أيش ترى ؟ قلت : المدينة ، قال : انزل واقرأ على رسول اللّه مني السلام ، وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر ، وقال : أخوك الخضر يسلم عليك .
وفي رواية : قال له : رضوان يقرأ عليك السلام كثيرا .
نعت معشوق
حدثنا يونس بن يحيى العباسي ، انا ابن ناصر السلامي ، عن أبي طاهر بن أبي الصقر ، ثنا مكي ، انا طاهر بن أحمد ، أنا أبو محمد بن زيد ، ثنا العباس بن محمد ، ثنا الأصمعي ، عن أبي الهذلي ، عن رجال من قومه ، أن أصيلا الهذلي قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة ، فقال له : « يا أصيل ، كيف تركت مكة ؟ » ، قال : يا رسول اللّه ، تركتها قد ابيضّت بطحاؤها ، واخضرّت مسلاتها ، وأمشر سلمها ، وأحجن ثمامها ، وأغدق أدخرها ، فقال :
« يا أصيل ، دع القلوب تقرّ ، لا تشوّقها إلى مكة » .
المسلان : الشعاب . والمشار : ثمر السلم ، وهو ثمر أحمر . والإغداق : اجتماع أصول الشجر . والإحجان : انعقافه ومنه سمي الحجون .
شعر في الوطن
ما من غريب وإن أبدى تجلّده * إلا تذكر بعد الغربة الوطنا
“ 14 “
ولا يزال حمام باللوا غرد * يهيج مني فؤادا طال ما سكنا
وأنشد محمد بن مالكون لبعضهم في ذلك :
إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي * وأضحى فؤادي نهبة للهماهم
حنينا إلى أرض بها اخضرّ شاربي * وحلت بها عني عقود التمائم
وأنشد ابن سكرة لبعضهم في ذلك :
يقرّ بعيني أن أرى في مكانه * ذرى عطفات الأجرع المتقاود
وإن أرد الماء الذي عن شماله * طروقا وقد مل السرى كل واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه * وإن كان ممزوجا بسم الأساود
خبر عبد اللّه بن الثامر والأخدود من حديث ابن إسحاق
حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كان أهل نجران أهل شرك ، يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ، فإن نجران هي القرية العظمى ، يأتي إليها جماعة أهل تلك البلاد ساحر ، يعلّم غلمان أهل نجران السحر ،
فلما نزلها ميمون قالوا : رجل ابتنى خيمة بين نجران وبين ملك القرية التي بها الساحر ، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلّمهم السحر ، فبعث الثامر ابنه عبد اللّه بن ثامر مع غلمان أهل نجران ، فكان إذا مرّ بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته ، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم ، فوحّد اللّه وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام ، حتى إذا فقه فيهم جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلّمه ، فكتمه إياه ،
وقال له : يا ابن أخي ، إنك إن تحمله أخشى ضعفك عنه ، والثامر أبو عبد اللّه يظن أن ابنه يختلف إلى الساحر كما تختلف الغلمان ، فلما رأى عبد اللّه أن صاحبه قد ضنّ به عليه ، وتخوّف ضعفه عنه ، عمد إلى قداح فجمعها ، ثم لم يبق للّه اسما يعلمه إلا كتبه على قدح ، لكل اسم قدح ، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ، فجعل يقذفها فيها قدحا قدحا ، حتى إذا مرّ بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضرّه شيء ، فأخذه ثم أتى صاحبه ، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه ، فقال : وما هو ؟
قال : هو كذا وكذا ، قال : وكيف علمته ؟
فأخبره بما صنع ، قال : أي ابن أخي ، قد أصبته ، فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل ، فجعل عبد اللّه بن الثامر إذا دخل نجران لم يبق أحد به ضرر إلا قال له عبد اللّه : أتوحّد اللّه ، وتدخل في ديني ، وأدعو اللّه فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟
فيقول : نعم ، فيوحّد اللّه ويسلم ، ويدعو له فيشفى ، حتى لم يبق بنجران أحد به
“ 15 “
ضرر إلا أتاه ، فأتبعه على أمره ودعا له فعوفي ، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه ، فقال له : أفسدت عليّ أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين آبائي ، لأمثلنّ بك . قال : لا تقدر على ذلك ، قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه ، فيقع على الأرض ليس به بأس ، وجعل يبعث به إلى مياه نجران ، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك ، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس . فلما غلبه ، قال له عبد اللّه بن الثامر : إنك واللّه لا تقدر على قتلي حتى توحّد اللّه ، فتؤمن بما آمنت به ، فإنك إن فعلت سلّطت عليّ فقتلتني .
قال : فوحّد اللّه ذلك الملك ، وشهد شهادة عبد اللّه بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ، وهلك الملك مكانه . فاجتمع أهل نجران على دين عبد اللّه بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه الصلاة السلام من الإنجيل وحكمه ، فسار إليهم ذو نواس ذرعة بن شنار بجنوده ، فدعاهم إلى اليهودية وخيّرهم بين ذلك والقتل ، فاختاروا القتل ، فخذلهم ، فحرق بالنار ، وقتل بالسيف ، ومثّل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ، وفيه نزل قوله تعالى : قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ .
والأخدود : الحفر الطويل في الأرض كالخندق ، والجمع أخاديد .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزام ، أنه حدّث أن رجلا من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، حفر خربة من خرد نجران لبعض حاجة ، فوجد عبد اللّه بن الثامر تحت الحفيرة التي دفن فيها قاعدا ، واضعا يده على ضربة في رأسه ، ممسكا عليها بيده ، فإذا أخّرت يده عنها تنبعث دماء ، وإذا أرسلت يده ردّها عليها فأمسكت دمها ، في يده خاتم مكتوب فيه : ربي اللّه . فكتب به إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يخبره بأمره ، فكتب إليهم : إن أقرّوه على حاله ، وردّوا عليه الدفن الذي كان عليه ، ففعلوا .
وممن قتله القرآن
ما حدثنا به عبد الرحمن بن علي كتابة ، عن عمر بن ظفر ، عن جعفر بن أحمد ، عن عبد العزيز بن علي ، عن علي بن عبد اللّه ، عن محمد بن داود ، عن أبي زكريا الشيرازي ، قال : تهت في بادية العراق أياما كثيرة لم أجد شيئا أرتفق به ، فلما كان بعد أيام رأيت في الفلاة خباء شعر مضروبا ، فقصدته ، فإذا ببيت وعليه شيء مسبل ، فسلّمت ، فردّت عليّ عجوز من داخل الخباء ، فقالت : يا إنسان ، من أين أقبلت ؟ قلت : من مكة ، قالت : وأين تريد ؟ قلت : الشام ، قالت : أرى شبحك شبح إنسان بطّال ، ألا لزمت زاوية تجلس فيها إلى
“ 16 “
أن يأتيك اليقين ؟ ثم تنظر هذه الكسرة من أين تأكلها ؟ ثم قالت : تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم ، قالت : اقرأ عليّ آخر سورة الفرقان ، فقرأتها ، فشهقت وأغمي عليها ، فلما أفاقت قرأت هي الآيات ، فأخذت مني قراءتها أخذا شديدا . ثم قالت : يا إنسان ، اقرأها عليّ ثانيا ، فقرأتها ، فلحقها مثل ذلك ، غير أنها لم تفق ، فقلت : كيف أستكشف حالها ؟ ماتت أم لا ؟
فتركت البيت على حاله ومشيت أقل من نصف ميل ، فأشرفت على واد فيه أعراب ، فأقبل إليّ غلامان معهما جارية ، فقال أحد الغلامين : يا إنسان ، أتيت البيت في الفلاة ؟ قلت :
نعم ، قال : وتقرأ القرآن ؟
قلت : نعم ، قال : قتل العجوز وربّ الكعبة ، فرجعت معهم حتى أتينا البيت ، فدخلت الجارية ، فكشفت عنها الحجاب فإذا هي ميتة ، فأعجبني خاطر الغلام ، فقلت للجارية : من هذان الغلامان ؟ فقالت : هذه أختهما ، منذ ثلاثين سنة ما تأنس بكلام الناس ، تأكل في كل ثلاثة أيام أكلة وشربة .
ومن باب البكاء عند رؤية القبر
ما حدثنا به حنبل بن أبي الحصين ، عن ابن المذهب ، عن أبي بكر بن مالك ، عن عبد اللّه بن أحمد ، عن أبيه ، عن أبي عبد الرحمن المقري ، عن عبد اللّه بن واقد ، عن محمد بن مالك ، عن البراء بن عازب ، قال : بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ بصر بجماعة ، فقال : « علام اجتمع هؤلاء ؟ » ، قيل : على قبر يحفرونه ، ففزع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه ، قال : فاستقبلته بين يديه لأنظر ما يفعل ، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه ، ثم أقبل علينا فقال : « يا إخواني ، لمثل هذا فاغدوا » .
شعر
أيها المغرور في الد * نيا بعزّ تقتنيه
وبأهل وبمال * وبقصر تبتنيه
كم سحبناكم عليها * ذيل سلطان وتيه
تحسب الأفلاك تجري * بخلود ترتجيه
إذا طوانا الدهر طيّا * فاعتبر ما نحن فيه
روينا من حديث الهاشمي بسنده إلى ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيها الناس ، إن الرزق مقسوم لن يعدو امرؤ ما كتب له ، فأجملوا في الطلب . وإن العمر محدود لن يجاوز أحد ما قدر له ، فبادروا قبل نفاد الأجل . والأعمال محصاة لن يهمل منها صغيرة
الجزء الأول
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
الجزء الثاني
[ تتمة محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ومن باب الحياء
ما قرأته في كتاب المنقطعين إلى اللّه تعالى ، قال بعضهم : رأيت شيخا يأتي إلى باب المسجد ، فيصلي عنده ولا يدخل فيه ، فقلت له : يا شيخ ، ما لك لا تدخل المسجد ؟ قال :
يا أخي ، خلوت يوما في بعض المساجد ، فأعجبتني خلوتي ، فإذا بمناد ينادي : يا شيخ ، أما تحتشم ؟ وقد عصيته ، تدخل بيته ، فما قدرت بعد على دخول مسجد حشمة وحياء .
ومن باب الصبر
وقع كسرى بن هرمز إلى بعض المسجونين : من صبر على النازلة كان كمن لم تنزل به ، ومن طوّل له في الحبل كان فيه عطبه ، ومن أكل بغير مقدار تلفت نفسه .
موعظة في هذا الباب
دخل ابن الزيات على الأفشين وهو محبوس فقال :
اصبر لها صبر أقوام نفوسهم * لا تستريح بلا غلّ ولا قود
قال الأفشين : من صحب الزمان لم ينج من خيره أو شره ، ووجد الكراهية والهوان .
ثم قال :
لم ينج من خيرها أو شرها أحد * فاذكر إساءتها إن كنت من أحد
خاضت بك السنة الحمقاء غمرتها * فتلك أمواجها ترميك بالزبد
حكي أن يوسف عليه السلام شكى إلى اللّه تعالى طول السجن ، فأوحى اللّه إليه : أنت حبست نفسك حين قلت : رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، فلو قلت : العافية أحب إليّ لعوفيت . ثم أخرجه اللّه تعالى كما ذكره في كتابه العزيز ، فلما خرج من السجن ،
“ 4 “
واصطفاه العزيز ، أمر أن يكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وشماتة الأعداء ، ومحزنة الأصدقاء .
من كلام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه
قال يوما لابنه الحسن رضي اللّه عنه : يا بنيّ ، أبذل لصديقك كل المودة ، ولا تطمئن إليه كل الطمأنينة ، وأعطه كل المواساة ، ولا تفش له كل الأسرار .
ومن كتاب التراجم
إن عيسى عليه السلام قال : عاشروا الناس معاشرة ، إن عشتم حنّوا إليكم ، وإن متم بكوا عليكم . وأنشد :
قد يمكث الناس دهرا ليس بينهم * ودّ فيزرعه التسليم واللطف
يسلي الشقيقين طول النأي بينهما * وتلتقي شعب شتى فتأتلف
وفي الحكمة القديمة
ليس للعقلاء تنعم إلا بمودة الإخوان . وقال العباس بن جرير : المودة تعاطف القلوب ، وائتلاف الأرواح ، وإنس النفوس ، ووحشة الأشخاص عند تنائي اللقاء ، وظهور السرور بكثرة التزاور ، على حسب مشاكلة الجواهر ، يكون الاتفاق في الخصال .
وروينا من حديث رباح بن عبيد اللّه ، قال : خرج عمر بن عبد العزيز قبل خلافته ، وشيخ متكئ على يده ، فقلت في نفسي : إن هذا الشيخ جاف ، فلما صلى ودخل لحقته ، فقلت : أصلح اللّه الأمير ، من الشيخ الذي كان متكئا على يدك ؟ فقال : يا رباح ، رأيته ؟
قلت : نعم ، قال : ما أحسبك يا رباح إلا رجلا صالحا ، ذاك أخي الخضر ، أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة ، وأني سأعدل فيها .
وحكى محمد بن فضالة ، فيما رواه أبو نعيم ، أن عبد اللّه بن عمر بن عبد العزيز وقف براهب في الجزيرة في صومعة له ، قد أتى عليه فيها عمر طويل ، وكان ينسب إليه علم من الكتاب ، فهبط إليه ، ولم ير هابطا إلى أحد قبله ، فقال له : يا عبد اللّه ، أتدري لما هبطت إليك ؟ قال : لا ، قال : الحق بأبيك إنّا نجده في أئمة العدل بمنزلة رجب من أشهر الحرم . قال : فسرّه له أبو أيوب بن سويد ، فقال : ثلاثة متوالية : ذو القعدة ، والحجة ،
“ 5 “
والمحرم ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ورجب منفرد ، منها عمر بن عبد العزيز .
قلت : تكلم أبو أيوب في هذا التفسير ببادئ رأيه ، ولم يتحقق مقصد المتكلم ، فلم يرد الراهب بقوله العدد ، فإنه ما تعرض إليه ، وكيف يتعرض للعدد وأئمة الهدى بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وحسن رضي اللّه عنهم أجمعين . وإنما أراد بالمثال أنه كان بين رجب والأشهر الحرم شهور ليست بحرم ، وليست لها تلك المرتبة ، كذلك بين أئمة العدل وبين عمر بن عبد العزيز خلفاء ليست لهم في العدل مرتبة ، هؤلاء المذكورين .
حكى لنا بعض الأدباء ، عن أبي الجهم ، وكان بدويا جافيا ، لمّا قدم على المتوكل
وأنشده يمدحه بقصيدته التي يقول فيها يخاطب الخليفة :
أنت كالكلب في حفاظك للودّ * وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا * من كبار الدلا كثير الذنوب
فعرف المتوكل قوته ، ورقة مقصده ، وخشونة لفظه ، فعرف أنه ما رأى سوى ما شبّه به ، لعدم المخالط ، وملازمة البادية ، فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة ، فيها بستان حسن يتخلله نسيم لطيف ، يغذي الأرواح ، والجسر قريب منه ، وأمر بالغذاء اللطيف أن يتعاهد به . وكان يركب في أكثر الأوقات ، فيخرج إلى محلات بغداد ، فيرى حركة الناس ، ولطافة الخضر ، ويرجع إلى بيته ، فأقام ستة أشهر على ذلك ، والأدباء والفضلاء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته ، فاستدعاه الخليفة بعد هذه المدة لينشده ، فحضر
وأنشد :
عيون المها بين الرصافة والجسر * جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فقال المتوكل : لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة . وخرجت القصيدة عن فكري ، فإن وجدتها فسألحقها إن شاء اللّه في بعض مجالس هذا الكتاب .
وأنشدنا أبو حامد الخشني الليلي عن بعض أشياخه ، عن ابن مغيث ، قال :
قال علي بن الجهم من باب الرجوع إلى اللّه تعالى :
توكلنا على رب السماء * وسلّمنا لأسباب القضاء
ووطنا على غبر الليالي * نفوسا سامحت بعد الآباء
وأبواب الملوك محجبات * وباب اللّه مبذول الفناء
هذه الأبيات قالها لمّا حبسه المتوكل .
“ 6 “
وقال أيضا في حبسه ذلك :
قالت حبست ، قلت ليس بضائري * حبسي وأي مهنّد لا يغمد
أو ما رأيت الليث بألف غيلة * كبرى وأوباش السباع تردّد
والنار في أحجارها مخبوءة * لا تصطلي ما لم تثرها الأزند
والبدر يدركه الظلام فينجلي * أيامه فكأنه متجدّد
والراعبية لا يقيم كعوبها * إلا الثقاف وجذوة تتوقد
غبر الليالي باديات عوّد * والمال عارية يفاد وينفد
لا يؤيسنك من تفرج كربة * خطب أتاك به الزمان الأنكد
فلكل حال معقب ولربما * أجلى لك المكروه عما تحمد
كم من عليل قد تخطاه الردى * فنجا ومات طبيبه والعود
صبرا فإن اليوم يعقبه غد * ويد الخليفة لا تطاولها يد
والحبس ما لم تغشه لدنيئة * شنعاء نعم المنزل المتورد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه * لا تستذلك بالحجاب الأعبد
بيت يجدد للكريم كرامة * وتزار فيه ولا تزور وتقصد
يا أحمد بن أبي داود إنما * تدعى لكل كريهة يا أحمد
أبلغ أمير المؤمنين ودونه * خوف العدو مخاوف لا تنفد
أنتم بنو عم النبي محمد * أولى بما شرع النبي محمد
ما كان من حسن فأنتم أهله * كرمت مغارسكم وطاب المحتد
أمن السوية يا ابن عم محمد * خصم تقربه وآخر تبعد
إن الذين سعوا إليك بباطل * أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا * فينا وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصمين عندك منزل * يوما لبان لك الطريق الأقصد
والشمس لولا أنها محجوبة * عن ناظريك لما أضاء الفرقد
وفي نقيض هذا ما أنشده عاصم بن محمد الكاتب لنفسه لما حبس أحمد بن عبد العزيز أبا دلف ، فقال :
قالت حبست فقلت خطب أنكد * أنحى عليّ به الزمان المرصد
لو كنت حرا كان سر بي مطلقا * ما كنت أحبس عنوة وأقيّد
لو كنت كالسيف المهند لم يكن * وقت الكريهة والشديدة يغمد
“ 7 “
لو كنت كالليث الهصور لما رعت * فيّ الذئاب وجذوتي تتوقد
من قال إن الحبس بيت كرامة * فمكابر في قوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كل مهانة * ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت * يبدي التوجع تارة ويفنّد
أو زارني فيه العدو فشامت * يبدي التوجع تارة ويفنّد
أو زارني فيه الصديق فموجع * يذري الدموع بزفرة تتردّد
يكفيك أن الحبس بيت لا يرى * أحد عليه من الخلائق يحسد
تمضي الليالي لا أذوق لرقدة * طعما وكيف حياة من لا يرقد
في مطبق فيه النهار مشاكل * لليل والظلمات فيه سرمد
فإلى متى هذا الشقاء موكل * وإلى متى هذا البلاء مجدد
ما لي مجير غير سيّدي الذي * ما زال يقبلني ونعم السيّد
غذيت حشاشة مهجتي بنوافل * من سيبه وصنائع لا تجحد
عشرين حولا عشت تحت جناحه * عيش الملوك وحالتي تتزيد
فخلا العدو بموضعي من قلبه * فحشاه جمرا ناره لا تخمد
فاغفر لعبدك ذنبه متطولا * فالحقد منك سجية لا تعهد
واذكر خصائص خدمتي وتعاوني * أيام كنت جميع أمري تحمد
وقال بعضهم : سئل عمار بن ياسر عن الولايات ، فقال : هي حلوة الرضاع ، مرّة الفطم .
وطلبني بعض السلاطين للولاية ، وعزم عليّ فيها ، فامتنعت عليه إلى أن قال : لا أعزلك ، وعليّ العهد بذلك ، قلت : الأحوال بروق تلمع ، ولا تقم ، وهذه الحالة منك غير دائمة ، ولا سيما إذا جاء سلطان نقضها .
روي في سبب عزل الحجاج بن يوسف عن مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن عيسى بن طلحة بن عبد اللّه وفد على عبد الملك بن مروان في وفد أهل المدينة ، فأثنى الوفد على الحجاج ثناء كثيرا ، وعيسى بن طلحة ساكت ، فلما انصرفوا ثبت عيسى مكانه حتى خلا له وجه عبد الملك ، فقام فجلس بين يديه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، من أنا ؟
قال : عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : فمن أنت ؟
قال : عبد الملك بن مروان ، قال : أفجهلتنا أم تغيرت بعدنا ؟
قال : وما ذاك ؟ قال : ولّيت علينا الحجاج بن يوسف يسير فينا بالباطل ، ويحملنا على أن نثني عليه بغير الحق ، واللّه لئن أعدته علينا لنعصينك ، وإن قاتلتنا أو غلبتنا أو أسأت إلينا قطعت أرحامنا ، ولئن قوينا عليك غصبناك ملكك . فقال له عبد الملك
“ 8 “
انصرف والزم بيتك ، ولا تذكرن من هذا شيئا . قال : وقام إلى منزله . قال : فأصبح الحجاج غاديا إلى عيسى بن طلحة ، فقال : جزاك اللّه خيرا عن خلوتك بأمير المؤمنين ، أبدلكم بي غيري وولّاني العراق .
أنشدنا يونس بن يحيى بمكة ، قال : قرأ عليّ محمد بن علي الطائي وأنا أسمع ، قيل له : أنشدنا ، قال : أنشدنا أبو محمد الحسن بن منصور السمعاني ، قال : أنشدنا والدي الشريف المظفّر السمعاني ، لأبي بكر بن داود السختياني :
تمسّك بحبل اللّه واتبع الهدى * ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ولذ بكتاب اللّه والسنن التي * أتت عن رسول اللّه تنجو وتربح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم * فقول رسول اللّه أزكى وأرجح
ولا تك من قوم تلهّوا بدينهم * فتطعن في أهل الحديث وتقدح
إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه * فأنت على خير تبيت وتصبح
روينا من حديث أبي نعيم ، انا الوليد ، قال : بلغنا أن رجلا ببعض بلاد خراسان قال : أتاني آت في المنام فقال : إذا قام أشجّ بني مروان فانطلق فبايعه ، فإنه إمام عدل .
فجعلت أسأل كلما قام خليفة ، حتى قام عمر بن عبد العزيز ، فأتاني ثلاث مرات في المنام ، فلما كان آخر ذلك زبرني فأوعدني ، فرحلت إليه ، فلما قدمت عليه لقيته فحدثته الحديث ، فقال : ما اسمك ؟ ومن أنت ؟ وأين منزلك ؟ قلت : بخراسان ، قال : ومن أمير المكان الذي أنت فيه ؟ ومن صديقك هناك ؟ ومن عدوّك ؟ فألطف المسألة . ثم حبسني أربعة أشهر ، فشكوت إلى مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز ، فقال : إنه كتب فيك ، فدعاني بعد أربعة أشهر ، فقال : إني كتبت فيك فجاءني ما أسرّ من قبل صديقك وعدوك ، فهلم فبايعني على السمع والطاعة والعدل ، فإذا تركت ذلك فليس لي عليك بيعة ، قال : فبايعته ، قال : ألك حاجة ؟ فقلت له : أنا غني في المال ، إنما أتيتك لهذا ، فودّعني وودّعته ومضيت .
وقال أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه في خلافته ، وقد صعد المنبر ، فخطب الناس ، فقال : أطيعوني ما أطعت اللّه ورسوله ، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم .
وقال علقمة بن ليث لابنه : يا بنيّ ، إن نازعتك نفسك إلى صحبة الرجال ، إذ قد تمسّ الحاجة إليهم ، فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإن تخفضت له صانك ، وإن نزلت بك مئونة مانك ، وإن قلت صدّق قولك ، وإن صلت به شدّد صولتك ، اصحب من إذا مددت يدك إليه لفضل مدها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإن بدت منك ثلمة سدّها ،
“ 9 “
اصحب من لا يأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ، ولا يخذلك عند الحقائق .
شعر
أخوك أخوك من تدنو وترجو * مودته وإن دعي استجابا
وقال الآخر :
ومولاك مولاك الذي إن دعوته * أجابك طوعا والدماء تصيب
حكي عن عكرمة ، قال : كنا جلوسا عند ابن عباس وعبد اللّه بن عمر ، فطار غراب يصيح ، فقال رجل من القوم : خير خير ، فقال ابن عباس : لا خير ولا شر .
شعر
ما فرق الأحباب بعد اللّه إلا الإبل * والناس يلحون غراب البين لما جهلوا
وما على ظهر غراب البين تطوى الرحل * ولا إذا صاح غراب في الديار ارتحلوا
وما غراب البين إلا ناقة أو جمل
ولنا في هذا المعنى :
نعقت أغربة البين بهم * لا رعى اللّه غرابا نعقا
ما غراب البين إلا جمل * سار بالأحباب نصحا عنقا
رؤيا آمنة أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في وقت حملها به وما قيل لها فيه
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، ثنا سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ، انا حفص بن عمر بن الصباح البرقي ، ثنا يحيى بن عبد اللّه البابلي ، ثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن سعيد بن عمرو الأنصاري ، عن أبيه ، عن كعب الأحبار في صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال ابن عباس : وكان من دلالات حمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة ، وقالت : حمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورب الكعبة ، وهو أمان الدنيا ، وسراج أهلها ، ولم يبق كاهنة من قريش ولا في قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها ، وانتزع علم الكهنة منها ، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا ، والملك مخرسا لا ينطق يومه ، ومرت وحش الشرق إلى وحش الغرب بالبشارات ، وكذلك أهل البحار يبشر بعضها بعضا ،
“ 10 “
وفي كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السماء : أن أبشروا ، فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا .
قال : وبقي في بطن أمه تسعة أشهر كملا لا تشكو وجعا ولا ريحا ولا مغصا ، ولا ما يعرض للنساء من ذوات الحمل ، وهلك أبوه عبد اللّه وهو في بطن أمه ، فقالت الملائكة :
إلهنا وسيدنا ، يبقى نبيك هذا يتيما . فقال اللّه عز وجل للملائكة : أنا له وليّ وحافظ ونصير وتبركوا بمولده ميمونا مباركا ، وفتح اللّه عز وجل لمولده أبواب السماء وجنّاته . فكانت أمه تحدث عن نفسها وتقول : أتاني آت حين مرّ لي من حمله ستة أشهر ، فوكزني برجله في المنام ، وقال لي : يا آمنة ، إنك قد حملت بخير العالمين طرّا ، فإذا ولدتيه فسميه محمدا ، واكتمي شأنك . قال : فكانت تحدث عن نفسها فتقول : لقد أخذني ما يأخذ النساء ، ولم يعلم بي أحد من القوم ذكرا ولا أنثى ، وإني لوحيدة في المنزل ، وعبد المطلب في طوافه ، قالت : فسمعت وجبة شديدة ، وأمرا عظيما ، فهالني ذلك ، وذلك يوم الاثنين ، فرأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي ، فذهب عني كل رعب وكل فزع ووجع ، كنت أجد ، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا ، وكنت عطشى ، فتناولتها ، فشربتها ، فأضاء مني نور عال ، ثم رأيت نسوة كالنخل الطوال ، كأنهن من بنات عبد مناف ، يحدقن بي ، فبينما أنا أعجب من ذلك ، وأقول : وا غوثاه ، من أين علمن بي هؤلاء ؟ واشتد بي الأمر ، وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول ، فإذا أنا بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض ، وإذا قائل يقول : خذوه عن أعين الناس .
قالت : ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة ، وأنا أرشح عرقا كالجمان ، أطيب ريحا من المسك الأذفر ، وأنا أقول : يا ليت عبد المطلب قد دخل عليّ ، وعبد المطلب ناء عني ، قالت : فرأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي ، مناقيرها من الزمرد ، وأجنحتها من الياقوت ، فكشف اللّه عن بصري ، فأبصرت ساعتي تلك مشارق الأرض ومغاربها ، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبة : علما في المشرق ، وعلما في المغرب ، وعلما على ظهر الكعبة ، فأخذني المخاض ، واشتد بي الأمر جدا ، فكنت كأني مستندة إلى أركان النساء ، وكثرن عليّ حتى إني لا أرى معي في البيت أحدا ، وأنا لا أرى شيئا ، فولدت محمدا صلى اللّه عليه وسلم . فلما خرج من بطني درت فنظرت إليه ، فإذا هو ساجد قد رفع إصبعيه كالمتضرع المبتهل ، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء نزلت حتى غشيته ، فغيّب عن وجهي ، فسمعت مناديا ينادي ويقول : طوفوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم شرق الأرض وغربها ، وأدخلوه البحار كلها ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ،
“ 11 “
ويعلمون أنه يسمى فيها الماحي ، لا يبقى شيء من الشرك إلا محي به في زمنه ، ثم تجلت عنه في أسرع وقت ، فإذا أنا به مدرج في ثوب صوف أبيض أشد بياضا من اللبن ، وتحته حريرة خضراء ، وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب الأبيض ،
وإذا قائل يقول :
قبض محمد صلى اللّه عليه وسلم على مفاتيح النصرة ، ومفاتيح الريح ، ومفاتيح النبوة . ثم أقبلت سحابة أخرى أعظم من الأولى ، ونور يسمع فيها صهيل الخيل ، وخفقان الأجنحة من كل مكان ، وكلام الرجال ، حتى غشيته ، فغيّب عن عيني أكثر وأطول من المدة الأولى ، فسمعت مناديا ينادي : طوفوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم الشرق والغرب ، وعلى مواليد النبيين ، وأعرضوه عن كل روحاني من الجن والإنس ، والطير والسباع ، وأعطوه صفاء آدم ، ورقّة نوح ، وخلة إبراهيم ، ولسان إسماعيل ، وصبر يعقوب ، وجمال يوسف ، وصوت داود ، وصبر أيوب ، وزهد يحيى ، وكرم عيسى ، واغمروه في أخلاق النبيين .
ثم تجلت عنه في أسرع من طرفة عين ، فإذا أنا قد قبض على حريرة خضراء مطوية طيا شديدا ، ينبع من تلك الحريرة ماء معين ، وإذا قائل يقول : بخخ بخخ ، قبض محمد صلى اللّه عليه وسلم على الدنيا كلها ، لم يبق خلق من أهلها إلا دخل في قبضته ، طائعا بإذن اللّه عز وجل ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه . قالت آمنة : فبينما أنا أتعجب إذا أنا بثلاثة نفر ، ظننت أن الشمس تطلع من خلال وجوههم ، في يد أحدهم إبريق من فضة ، وفي ذلك الإبريق ريح المسك ، وفي يد الثاني طست من زمرد أخضر ، عليها أربع نواحي ، في كل ناحية من نواحيها لؤلؤة بيضاء ، وإذا قائل يقول : هذه الدنيا شرقها وغربها ، برها وبحرها ، فاقبض يا حبيب اللّه على أي ناحية شئت ، قالت : قدرت لأنظر أين قبض من الطست ؟
فإذا هو قد قبض على وسطها ، فسمعت قائلا يقول : قبض على الكعبة ورب الكعبة ، أما إن اللّه تبارك وتعالى قد جعلها له قبلة ومسكنا مباركا .
قالت : ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية طيا شديدا ، فنشرها فأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين دونه ، ثم حمل ابني فناوله صاحب الطست ، وأنا أنظر إليه فغسله بذلك الإبريق سبع مرات ، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ختما واحدا ، ولفه في الحريرة ، واستدار عليه خيطا من المسك الأذفر ، ثم حمله فأدخله بين أجنحته ساعة . قال ابن عباس : كان ذلك رضوان خازن الجنان .
قالت : وقال في أذنه كلاما كثيرا لم أفهمه ، وقبّل بين عينيه ، ثم قال : أبشر يا محمد ، فما بقي لبني علم إلا وقد أعطيته ، فأنت أكثرهم علما ، وأشجعهم قلبا ، معك مفاتيح النصرة ، وقد ألبست الخوف والرعب ، فلا يسمع أحد بذكرك إلا وجلّ فؤاده وخاف قلبه ، وإن لم يرك يا رسول اللّه . قالت : ثم رأيت رجلا قد
“ 12 “
أقبل نحوه ، حتى وضع فاه على فيه ، فجعل يزقه كما تزق الحمام فرخها ، فكنت أنظر إلى ابني يشير بإصبعه ، يقول : زدني زدني ، فزقه ساعة ، ثم قال : أبشر يا حبيب اللّه ، فما بقي لبنيّ حلم إلا وقد أوتيته ، ثم احتمله فغيّبه عني ، فجزع فؤادي ، وذهل قلبي فقلت : ويح قريش ، والويل لها ، ماتت كلها ، أنا في ليلتي وفي ولادتي ، أرى ما أرى ويصنع بولدي ما يصنع ، ولا يقربني أحد من قومي ، إن هذا لهو العجب العجاب ، قالت : فبينا أنا كذلك إذا أنا به قد ردّ عليّ كالبدر ، وريحه يسطع كالمسك ، وهو يقول : خذيه ، فقد طافوا به الشرق والغرب ، وعلى مواليد النبيين أجمعين ، والساعة كان عند أبيه آدم ، فضمه إليه ، وقبّل بين عينيه ، وقال : أبشر حبيبي ، فأنت سيد الأولين والآخرين ، ومضى ، وجعل يلتفت ، ويقول : أبشر يا عزّ الدنيا ، وشرف الآخرة ، فقد استمسكت بالعروة الوثقى ، فمن قال بمقالتك ، وشهد بشهادتك ، حشر غدا يوم القيامة تحت لوائك ، وفي زمرتك ، وناولنيه ، ومضى ، ولم أره بعد تلك المرة .
زاد العباس رضي اللّه عنه في حديثه ، قلت : يا آمنة ، ما الذي رأيت في ولادتك من علامة هذا الصبي ؟ فقالت : رأيت علما من سندس على قضيب من ياقوت ، قد ضرب بين السماء والأرض ، ورأيت نورا ساطعا من رأسه قد بلغ السماء ، ورأيت قصور الشام كلها شعلت نارا ، ورأيت قربي سربا من القطا قد سجدت له ، ونشرت أجنحتها ، ورأيت نابغة شعيرة الأسدية ، قد مرت وهي تقول : ما لقي الأصنام والكهان من ولدك هذا ؟ هلكت شعيرة ، والويل للأصنام ، ثم الويل لها ، ورأيت شابا من أتم الناس طولا ، وأشدهم بياضا ، فأخذ المولود مني ، فتفل في فيه ، ومعه طاس من ذهب ، فشق بطنه ثم أخرج قلبه فشقه شقا ، فأخرج منه نكتة سوداء ، فرمى بها ، ثم أخرج صرة من حرير أخضر ففتحها ، فإذا فيها شيء كالدرّة البيضاء ، فحشاه به ، ثم ردّه إلى مكانه ، ثم مسح على بطنه ، فاستيقظ ، فنطق فلم أفهم ما قال ، إلا أنه قال : أنت في أمان اللّه ، وحفظ اللّه ، وكلامه ، قد حشوتك علما ، وحلما ، ويقينا ، وإيمانا ، وعقلا ، وشجاعة ، وأنت خير البشر ، فطوبى لمن اتبعك ، وآمن بك ، وعرفك ، والويل ثم الويل ، قالها سبع مرات ، لمن تخلف عنك ، وخرج منها ولم يعرفك ، ثم تفل فيه أخرى تفلة شديدة ، ثم ضرب الأرض ضربة ، فإذا هو بماء أشد بياضا من اللبن ، فغمسه في ذلك الماء ثلاث غمسات ، فما ظننت إلا أنه قد غرق ، وما من مرة يخرجه إلا رأيت ضوء وجهه كالشمس الطالعة ، ولقد رأيت بريق وجهه يقع على قصور الشام كوقوع الشمس الحديث ، ثم قال : أمرني ربي عز وجل أن أنفخ فيك بروح القدس ، فنفخ فيه ، فألبسه قميصا ، فقال : هذا أمانك من آفات الدنيا ، الحديث رواه أحمد بن أبي عبد اللّه ، عن محمد بن عبد اللّه بن جعفر ، عن محمد بن أحمد بن أبي يحيى ، عن
“ 13 “
سعيد بن عثمان الكريزي ، عن أبي أحمد الزبيري ، عن سعيد بن مسلم مولى لبني مخزوم ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : سمعت أبي العباس يحدث ، فذكره .
لطف خفيّ من لطيف بعبد مهين ضعيف
حدثنا عبد الرحمن بن علي كتابة ، نبأ أبو بكر الصوفي ، انا علي بن أبي صادق ، انا محمد بن عبد اللّه الشيرازي ، قال : سمعت محمد بن فارس يقول : سمعت خير النسّاج يقول : سمعت إبراهيم الخواص . وقد رجع من شدة سفره وكان قد غاب عني سنين ، فقلت : ما الذي أصابك في سفرك ؟ فقال : عطشت عطشا شديدا حتى سقطت من شدة العطش ، فإذا أنا بماء قد رشّ على وجهي ، فلما أحسست ببرده فتحت عيني ، فإذا رجل حسن الوجه ، والذي عليه ثياب خضر ، على فرس أشهب ، فسقاني حتى رويت ، ثم قال :
ارتدف خلفي ، وكنت بالحاجر ، فلما كان بعد ساعة ، قال : أيش ترى ؟ قلت : المدينة ، قال : انزل واقرأ على رسول اللّه مني السلام ، وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر ، وقال : أخوك الخضر يسلم عليك .
وفي رواية : قال له : رضوان يقرأ عليك السلام كثيرا .
نعت معشوق
حدثنا يونس بن يحيى العباسي ، انا ابن ناصر السلامي ، عن أبي طاهر بن أبي الصقر ، ثنا مكي ، انا طاهر بن أحمد ، أنا أبو محمد بن زيد ، ثنا العباس بن محمد ، ثنا الأصمعي ، عن أبي الهذلي ، عن رجال من قومه ، أن أصيلا الهذلي قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة ، فقال له : « يا أصيل ، كيف تركت مكة ؟ » ، قال : يا رسول اللّه ، تركتها قد ابيضّت بطحاؤها ، واخضرّت مسلاتها ، وأمشر سلمها ، وأحجن ثمامها ، وأغدق أدخرها ، فقال :
« يا أصيل ، دع القلوب تقرّ ، لا تشوّقها إلى مكة » .
المسلان : الشعاب . والمشار : ثمر السلم ، وهو ثمر أحمر . والإغداق : اجتماع أصول الشجر . والإحجان : انعقافه ومنه سمي الحجون .
شعر في الوطن
ما من غريب وإن أبدى تجلّده * إلا تذكر بعد الغربة الوطنا
“ 14 “
ولا يزال حمام باللوا غرد * يهيج مني فؤادا طال ما سكنا
وأنشد محمد بن مالكون لبعضهم في ذلك :
إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي * وأضحى فؤادي نهبة للهماهم
حنينا إلى أرض بها اخضرّ شاربي * وحلت بها عني عقود التمائم
وأنشد ابن سكرة لبعضهم في ذلك :
يقرّ بعيني أن أرى في مكانه * ذرى عطفات الأجرع المتقاود
وإن أرد الماء الذي عن شماله * طروقا وقد مل السرى كل واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه * وإن كان ممزوجا بسم الأساود
خبر عبد اللّه بن الثامر والأخدود من حديث ابن إسحاق
حدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : كان أهل نجران أهل شرك ، يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ، فإن نجران هي القرية العظمى ، يأتي إليها جماعة أهل تلك البلاد ساحر ، يعلّم غلمان أهل نجران السحر ،
فلما نزلها ميمون قالوا : رجل ابتنى خيمة بين نجران وبين ملك القرية التي بها الساحر ، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلّمهم السحر ، فبعث الثامر ابنه عبد اللّه بن ثامر مع غلمان أهل نجران ، فكان إذا مرّ بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته ، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم ، فوحّد اللّه وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام ، حتى إذا فقه فيهم جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلّمه ، فكتمه إياه ،
وقال له : يا ابن أخي ، إنك إن تحمله أخشى ضعفك عنه ، والثامر أبو عبد اللّه يظن أن ابنه يختلف إلى الساحر كما تختلف الغلمان ، فلما رأى عبد اللّه أن صاحبه قد ضنّ به عليه ، وتخوّف ضعفه عنه ، عمد إلى قداح فجمعها ، ثم لم يبق للّه اسما يعلمه إلا كتبه على قدح ، لكل اسم قدح ، حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ، فجعل يقذفها فيها قدحا قدحا ، حتى إذا مرّ بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضرّه شيء ، فأخذه ثم أتى صاحبه ، فأخبره أنه قد علم الاسم الذي كتمه ، فقال : وما هو ؟
قال : هو كذا وكذا ، قال : وكيف علمته ؟
فأخبره بما صنع ، قال : أي ابن أخي ، قد أصبته ، فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل ، فجعل عبد اللّه بن الثامر إذا دخل نجران لم يبق أحد به ضرر إلا قال له عبد اللّه : أتوحّد اللّه ، وتدخل في ديني ، وأدعو اللّه فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟
فيقول : نعم ، فيوحّد اللّه ويسلم ، ويدعو له فيشفى ، حتى لم يبق بنجران أحد به
“ 15 “
ضرر إلا أتاه ، فأتبعه على أمره ودعا له فعوفي ، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه ، فقال له : أفسدت عليّ أهل قريتي ، وخالفت ديني ودين آبائي ، لأمثلنّ بك . قال : لا تقدر على ذلك ، قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه ، فيقع على الأرض ليس به بأس ، وجعل يبعث به إلى مياه نجران ، بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك ، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس . فلما غلبه ، قال له عبد اللّه بن الثامر : إنك واللّه لا تقدر على قتلي حتى توحّد اللّه ، فتؤمن بما آمنت به ، فإنك إن فعلت سلّطت عليّ فقتلتني .
قال : فوحّد اللّه ذلك الملك ، وشهد شهادة عبد اللّه بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ، وهلك الملك مكانه . فاجتمع أهل نجران على دين عبد اللّه بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه الصلاة السلام من الإنجيل وحكمه ، فسار إليهم ذو نواس ذرعة بن شنار بجنوده ، فدعاهم إلى اليهودية وخيّرهم بين ذلك والقتل ، فاختاروا القتل ، فخذلهم ، فحرق بالنار ، وقتل بالسيف ، ومثّل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ، وفيه نزل قوله تعالى : قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ .
والأخدود : الحفر الطويل في الأرض كالخندق ، والجمع أخاديد .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزام ، أنه حدّث أن رجلا من أهل نجران في زمن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، حفر خربة من خرد نجران لبعض حاجة ، فوجد عبد اللّه بن الثامر تحت الحفيرة التي دفن فيها قاعدا ، واضعا يده على ضربة في رأسه ، ممسكا عليها بيده ، فإذا أخّرت يده عنها تنبعث دماء ، وإذا أرسلت يده ردّها عليها فأمسكت دمها ، في يده خاتم مكتوب فيه : ربي اللّه . فكتب به إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يخبره بأمره ، فكتب إليهم : إن أقرّوه على حاله ، وردّوا عليه الدفن الذي كان عليه ، ففعلوا .
وممن قتله القرآن
ما حدثنا به عبد الرحمن بن علي كتابة ، عن عمر بن ظفر ، عن جعفر بن أحمد ، عن عبد العزيز بن علي ، عن علي بن عبد اللّه ، عن محمد بن داود ، عن أبي زكريا الشيرازي ، قال : تهت في بادية العراق أياما كثيرة لم أجد شيئا أرتفق به ، فلما كان بعد أيام رأيت في الفلاة خباء شعر مضروبا ، فقصدته ، فإذا ببيت وعليه شيء مسبل ، فسلّمت ، فردّت عليّ عجوز من داخل الخباء ، فقالت : يا إنسان ، من أين أقبلت ؟ قلت : من مكة ، قالت : وأين تريد ؟ قلت : الشام ، قالت : أرى شبحك شبح إنسان بطّال ، ألا لزمت زاوية تجلس فيها إلى
“ 16 “
أن يأتيك اليقين ؟ ثم تنظر هذه الكسرة من أين تأكلها ؟ ثم قالت : تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم ، قالت : اقرأ عليّ آخر سورة الفرقان ، فقرأتها ، فشهقت وأغمي عليها ، فلما أفاقت قرأت هي الآيات ، فأخذت مني قراءتها أخذا شديدا . ثم قالت : يا إنسان ، اقرأها عليّ ثانيا ، فقرأتها ، فلحقها مثل ذلك ، غير أنها لم تفق ، فقلت : كيف أستكشف حالها ؟ ماتت أم لا ؟
فتركت البيت على حاله ومشيت أقل من نصف ميل ، فأشرفت على واد فيه أعراب ، فأقبل إليّ غلامان معهما جارية ، فقال أحد الغلامين : يا إنسان ، أتيت البيت في الفلاة ؟ قلت :
نعم ، قال : وتقرأ القرآن ؟
قلت : نعم ، قال : قتل العجوز وربّ الكعبة ، فرجعت معهم حتى أتينا البيت ، فدخلت الجارية ، فكشفت عنها الحجاب فإذا هي ميتة ، فأعجبني خاطر الغلام ، فقلت للجارية : من هذان الغلامان ؟ فقالت : هذه أختهما ، منذ ثلاثين سنة ما تأنس بكلام الناس ، تأكل في كل ثلاثة أيام أكلة وشربة .
ومن باب البكاء عند رؤية القبر
ما حدثنا به حنبل بن أبي الحصين ، عن ابن المذهب ، عن أبي بكر بن مالك ، عن عبد اللّه بن أحمد ، عن أبيه ، عن أبي عبد الرحمن المقري ، عن عبد اللّه بن واقد ، عن محمد بن مالك ، عن البراء بن عازب ، قال : بينما نحن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ بصر بجماعة ، فقال : « علام اجتمع هؤلاء ؟ » ، قيل : على قبر يحفرونه ، ففزع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه ، قال : فاستقبلته بين يديه لأنظر ما يفعل ، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه ، ثم أقبل علينا فقال : « يا إخواني ، لمثل هذا فاغدوا » .
شعر
أيها المغرور في الد * نيا بعزّ تقتنيه
وبأهل وبمال * وبقصر تبتنيه
كم سحبناكم عليها * ذيل سلطان وتيه
تحسب الأفلاك تجري * بخلود ترتجيه
إذا طوانا الدهر طيّا * فاعتبر ما نحن فيه
روينا من حديث الهاشمي بسنده إلى ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيها الناس ، إن الرزق مقسوم لن يعدو امرؤ ما كتب له ، فأجملوا في الطلب . وإن العمر محدود لن يجاوز أحد ما قدر له ، فبادروا قبل نفاد الأجل . والأعمال محصاة لن يهمل منها صغيرة
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin