الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء الثاني
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 17 “
ولا كبيرة ، فأكثروا من صالح العمل . أيها الناس ، إن في القناعة لسعة ، وإن في الاقتصاد لبلغة ، وإن في الزهد لراحة ، ولكل عمل جزاء ، ولكل أجل كتاب ، وكل آت قريب » .
رؤيا المنصور أمير المؤمنين التي كانت سببا لبعض حججه التي أحرم بها من بغداد
حدثنا يونس بن يحيى ، عن ابن أبي منصور ، عن المبارك بن عبد الجبار ، عن أبي بكر ، عن ابن المنكدر الصلت ، عن أبي بكر بن الأنباري ، عن محمد بن أحمد المقدمي ، عن أبي محمد التميمي ، عن منصور بن أبي مزاحم ، عن ابن سهل الحاسب ، عن طيفور قال : كان سبب إحرام المنصور من بغداد أنه نام ليلة فانتبه مرعوبا ، ثم عاود النوم فانتبه كذلك فزعا مرعوبا ، ثم راجع النوم فانتبه كذلك ، فقال : يا ربيع ، قال الربيع : قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : لقد رأيت في منامي عجبا .
قال : ما رأيت جعلني اللّه فداءك ؟ قال : رأيت كأن آتيا أتاني فهينم بشيء لم أفهمه ، فانتبهت فزعا ، ثم عاودت النوم فعاودني يقول ذلك الشيء ، ثم عاودني بقوله حتى فهمته وحفظته وهو :
كأني بهذا القصر قد باد أهله * وعرّي منه أهله ومنازله
وصار رئيس القوم من بعد بهجة * إلى جدث تبنى عليه جنادله
وما أحسبني يا ربيع إلا وقد حانت وفاتي ، وحضر أجلي ، وما لي غير ربي ، قم فاجعل لي غسلا . ففعلت ، فقام فاغتسل وصلى ركعتين . وقال : أنا عازم على الحج فهيّئ لي آلة الحج ، فخرج وخرجنا حتى إذا انتهى إلى الكوفة ونزل النجف فأقام أياما ، ثم أمر بالرحيل ، فتقدمت نوّابه وجنوده وبقيت أنا بوّابه ، وهو بالقصر ، فقال لي : يا ربيع ، جئني بفحمة من المطبخ ، وقال لي : اخرج فكن مع دابتي إلى أن أخرج ، فلما خرج وركب رجعت إلى المكان كأني أطلب شيئا ، فوجدته قد كتب على الحائط بالفحمة :
المرء يهوى أن يعي * ش وطول عيش قد يضرّه
تفنى بشاشته ويبقى * بعد حلو العيش مرّة
وتصرف الأيام حتى * ما يرى شيئا يسرّه
كم شامت بي إن هلك * ت وقائل للّه درّه
للسهيس أنشدني عمي رحمه اللّه :
“ 18 “
زمان يمر وعيش يمر * ودهر يكر بما لا يسر
ونفس تذوب وهم ينوب * ودنيا تنادي بأن ليس حر
ومن وقائع بعض الفقراء ما حدثنا به عبد اللّه المروزي قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في واقعتي أبا مدين ، وأبا حامد ، وجماعة من الصوفية ، فقالوا لأبي مدين : قل لنا في التوحيد شيئا ، فقال أبو مدين : التوحيد همة المرسلين والنبيين ، وهو سر الخلفاء الصديقين ، وقطب الورثة من العارفين ، به حنّت أسرارهم إلى الحضرة الإلهية ، وبه انكشفت لهم الأمور الربانية ، فأمدهم بالحياة والقيومية ، وأظهر لهم أسرارا لا تكاد تطيقها الأرواح البشرية ، منها السر القائم بالوجود الذي منه بدأ وإليه يعود ، ووراء ذلك أسرار لا ينبغي بثّها ، ولا يليق بالعارف كشفها ، إذ هي أسرار إذا طالعها اضمحلت رسومه ، وتلاشت أفكاره وعلومه ، وفني ما هو محصور مقيد ، وبقي الواحد الفرد الصمد فالعارف المحقق الذي يسير بسيره ، ولم يكن له في قلبه متسع لغيره ، هو قلبه وحياته ، وبه حسنت أخلاقه وصفاته ، فكثيفه ظاهر لكل كثيف ، ولطيفه يلاحظ أسرار اللطيف ، فتوحيد العارفين محض التحقيق ، والقصد القصد بلا تخليق ، ففي التخليق فناء العمر ، وفي القصد الوصول والظفر . فالعارف مقيم بين الخلق بجسمه ، ومسافر إلى جمال الحضرة العلية بسرة ، فثمرة هذا التوحيد مناله بالسفر فيه تشرفوا وتنعموا ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : « سافروا تصحوا وتغنموا » ، فغنيمة العارف تظهر عليه بالصفات والنعوت ، إن اختبرته وجدته باللّه قائل ، وإن تحققته ألفيته مع سيده كالميت بين يدي الغاسل .
وروينا من حديث الهاشمي ، بلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « إياكم وفضول المطعم ، فإن فضول المطعم يسم القلب بالقسوة ، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة ، ويصم الهمم عن سماع الموعظة . وإياكم وفضول النظر ، فإنه يبذر الهوى ، ويولد الغفلة ، وإياكم واستشعار الطمع ، فإنه يشرب القلب شدة الحرص ، ويختم على القلب بطابع حب الدنيا ، فهو مفتاح كل سيئة ، وسبب إحباط كل حسنة » .
وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
وأحيائي من عليم * ليس يخفى عنه حالي
منطقي يبدي جميلا * والبلايا في فعالي
ليت شعري ما اعتذاري * يوم أدعى للسؤال
كيف قولي وجوابي * كيف فعلي واحتيالي
ليتني لم أك شيئا * قبل تحقيق السؤال
“ 19 “
ومن حسن التلطف في المكاتبة
ما ذكره إسماعيل بن أبي شاكر قال : لما أصاب أهل مكة السيل الذي شارق الحجر ، ومات تحته خلق كثير ، كتب عبد اللّه بن الحسن العلوي ، وهو والي الحرمين ، إلى المأمون : يا أمير المؤمنين ، إن أهل حرم اللّه ، وجيران بيته ، وآلاف مسجده ، وعمرة بلاده ، قد استجاروا بعزّ معروفك من سيل تراكمت جريانه في هدم البنيان ، وقتل الرجال والنسوان ، واجتاح الأصول ، وجرف الأثقال حتى ما ترك طارفا ولا تالدا للراجع إليها في مطعم ولا ملبس ، فقد شغلهم طلب الغذاء عن الاستراحة إلى البكاء على الأمهات والأولاد ، والآباء والأجداد ، فأجرهم أمير المؤمنين بعطفك عليهم ، وإحسانك إليهم ، تجد اللّه مكافئك عنهم ، ومثيبك عن الشكر منهم .
قال : فوجّه المأمون إليهم بالأموال الكثيرة ، وكتب إلى عبد اللّه : أما بعد ، فقد وصلت شكيتك لأهل حرم اللّه إلى أمير المؤمنين ، فبكاهم بقلب رحمته وأنجدهم بسيب نعمته ، وهو متّبع لما أسلف إليهم ، بما يخلفه عليهم ، عاجلا وآجلا ، أن أذن اللّه في تثبيت نيته على عزمه .
قال : فكان كتابه هذا أسرّ لأهل مكة من الأموال التي أنفذها إليهم .
ومن حسن الجواب
ما حكي أن أمير المؤمنين وقف على امرأة من بني ثعل ، فقال لها : ممن العجوز ؟
قالت : من طي .
قال : ما منع طيّا أن يكون فيها مثل حاتم ؟ قالت : الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك ، فأعجب بقولها ووصلها .
وقال معاوية حين أتاه سعيد بن مرّة الكندي : أنت سعيد ؟ فقال : أمير المؤمنين أسعد ، وأنا ابن مرّة . وقال الحجاج للمهلب : أنا أطول أم أنت ؟ قال : الأمير أطول ، وأنا أبسط قامة منه.
وقيل للعباس بن عبد المطلب : أنت أكبر أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ قال : هو عليه السلام أكبر مني ، وأنا ولدت قبله .
قيل : دخل سيد ابن أنس على المأمون ، فقال له المأمون : أنت السيد ؟ قال : أنت السيد يا أمير المؤمنين ، وأنا ابن أنس
“ 20 “
حكم
رب قول أشدّ من صول . لكل ساقطة لاقطة . لكل داهية ناهية . لكل قاصمة عاصمة . مقتل الرجل بين فكيه يعني لسانه .
وقال المهلب : اتقوا زلة اللسان ، فإني وجدت الرجل يعثر قدمه فيقوم من عثرته ، ويزلّ لسانه فيكون فيه هلاكه .
وقال يونس بن عبيد : ليست خلة من خلال الخير تكون في الرجل هي أحرى أن تكون جامعة لأنواع الخير كلها من حفظ اللسان .
ومن قولهم في الكتمان : كان أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور يقول : الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثة : إفشاء السر ، والتعرض للحرم ، والقدح في الملك .
وقال بعض الحكماء : سرّك من دمك ، فانظر من يملكه .
وفي الحكمة القديمة : سرّك لا يطلع عليه غيرك .
وقيل لأبي مسلم : بأي شيء أدركت هذا الأمر ؟ قال : ارتديت الكتمان ، واتّزرت بالحزم ، وحالفت الصبر ، وساعدت المقادير ، فأدركت طلبتي ، وحزت بغيتي .
وأنشد في ذلك :
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا * من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولّى رعيها الأسد
روينا من حديث البغوي ، أخبرنا أبو سعيد عبد اللّه بن أحمد الظاهري ، انا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزّار ، أنا أبو بكر بن محمد بن زكريا الغدافري ، أنبأ إسحاق بن إبراهيم ، ثنا عبد الرزاق ، انا معمر ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم الليثي ، عن خالد بن خالد اليشكري ، قال : خرجت زمن فتحت تستر حتى قدمت الكوفة ، فدخلت المسجد ، فإذا أنا بحلقة فيها رجل صدع من الرجال ، حسن الثغر ، يعرف فيه أنه رجل من أهل الحجاز قال : فقلت : من الرجل ؟ فقال القوم : أو ما تعرف ؟
قلت : لا ، قالوا : هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فقعدت ، وحدث القوم . فقال : إن الناس كانوا يجيئون فيسألون النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، فأنكر ذلك القوم عليه ،
“ 21 “
فقال لهم : إني سأخبركم بما أنكرتم من ذلك : جاء الإسلام حين جاء ، فجاء أمرا ليس كأمر الجاهلية ، وكنت قد أعطيت فهما في القرآن ، وكان رجال يسألون عن الخير ، فكنت أسأله عن الشرّ ، قلت : يا رسول اللّه ، أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر ؟ قال :
« نعم » ، قلت : فما العصمة يا رسول اللّه ؟ قال : « السيف » ، قلت : وهل بعد السيف بقية ؟
قال : « نعم ، يكون جماعة على أقذاء وهدنة على دخن » ، قال : قلت : ثم ما ذا ؟ قال : « ثم ينشأ دعاة الضلالة ، فإن كان للّه في الأرض خليفة جلد ظهرك ، وأخذ مالك ، فالزمه ، وإلا قمت وأنت عاص على جذل شجرة » ، قال : قلت : ثم ما ذا ؟ قال : « ثم يخرج الدجال بعد ذلك ومعه نهر ونار ، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزره ، ومن وقع في نهره وجب وزره وحبط أجره » . قال : ثم قلت : ثم ما ذا ؟ قال : « ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة » . قال البغوي : الصدع من الرجال مفتوحة الدال : الشاب المعتدل . ويقال :
الصدع : الربعة في خلقة رجل بين الرجلين . وقوله : فما العصمة ؟ قال : « السيف » . قال قتادة : يضعه على أهل الردة كانت في زمن الصديق رضي اللّه عنه . وقوله : « هدنة على دخن » : صلح على بقايا من الضغن .
وقوله : « على أقذاء » : يكون اجتماعهم على فساد من القلوب ، شبّهه بأقذاء العين .
ومن أشراط الساعة
ما رواه علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال : سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أشراط الساعة فقال : « إذا رأيت الناس قد ضيّعوا الحق ، وأماتوا الصلاة ، وأكثروا القذف ، واستحلّوا الكذب ، وأخذوا الرشوة ، وشيّدوا البنيان ، وعظّموا أرباب الأموال ، واستعملوا السفهاء ، واستحلّوا الدماء ، فصار الجاهل عندهم ظريفا ، والعالم ضعيفا ، والظلم فخرا ، والمساجد طرقا ، وتكثر الشرط ، وحليت المصاحف ، وطوّلت المنارات ، وخربت القلوب من الدين ، وشربت الخمور ، وكثر الطلاق ، وموت الفجأة ، وفشا الفجور ، وقول البهتان ، وحلفوا بغير اللّه ، وائتمن الخائن ، وخان الأمين ، ولبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب ، فعندها قيام الساعة » .
وروى حذيفة بن اليمان قال :
رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متعلقا بأستار الكعبة ، وعيناه تذرفان بالدموع ، فقلت : ما يبكيك لا أبكى اللّه لك عينا ؟ قال : « يا حذيفة ، ذهبت الدنيا ، أو كأنك بالدنيا لم تكن » ، قلت : فداك أبي وأمي يا رسول اللّه ، فهل من علامة يستدل بها على ذلك ؟ قال : « نعم يا
“ 22 “
حذيفة ، احفظ بقلبك ، وانظر بعينيك ، واعقد بيديك ، إذا ضيّعت أمتي الصلاة ، واتّبعت الشهوات ، وكثرت الخيانات ، وقلّت الأمانات ، وشربوا القهوات ، وأظلم الهوى ، وغار الماء ، وأغبرت الأفق ، وخيفت الطريق ، وتشاتم الناس وفسدوا ، وفجرت الباعة ، ورفضت القناعة ، وساءت الظنون ، وتلاشت السنون ، وكثرت الأشجار ، وقلّت الثمار ، وغلت الأسعار ، وكثرت الرياح ، وتبينت الأشراط ، وظهر اللواط ، واستحسنوا الخلف ، وضاقت المكاسب ، وقلّت المطالب ، واستمروا بالهوى ، وتفاكهوا بينهم بشتيمة الآباء والأمهات ، وأكل الرّبا ، وفشا الزنا ، وقلّ الرضا ، واستعملوا السفهاء ، وكثرت الخيانة ، وقلّت الأمانة ، وزكى كل امرئ نفسه وعمله ، واشتهر كل جاهل بجهله ، وزخرفت جدران الدور ، ورفع بناء القصور ، وصار الباطل حقا ، والكذب صدقا ، والصحة عجزا ، واللؤم عقلا ، والضلالة هدى ، والبيان عمى ، والصمت بلاهة ، والعلم جهالة ، وكثرت الآيات ، وتتابعت العلامات ، وتراجموا بالظنون ، ودارت على الناس رحى المنون ، وعميت القلوب وغلب المنكر المعروف ، وذهب التواصل ، وكثرت التجارات ، واستحسنوا البطالات ، وتهادوا أنفسهم بالشهوات ، وتهاونوا بالمعضلات ، وركبوا جلود النمور ، وأكلوا المأثور ، ولبسوا الحبور ، وآثروا الدنيا على الآخرة ، وذهبت الرحمة من القلوب ، وعمّ الفساد ، واتخذوا كتاب اللّه لعبا ، ومال اللّه دولا ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ، والنّجش بالزكاة ، والرّبا بالبيع ، والحكم بالرشا ، وتكافأ الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وصارت المباهاة في المعصية ، والكبر في القلوب ، والجور في السلاطين ، والسفاهة في سائر الناس ، فعند ذلك لا يسلم إلى ذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق ، ومن واد إلى واد ، وذهب الإسلام حتى لا يبقى إلا اسمه ، واندرس القرآن من القلوب حتى لا يبقى إلا رسمه ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيّهم ، لا يعلمون بما فيه من وعد ربهم ووعيده وتحذيره وتنذيره وناسخه ومنسوخه ، فعند ذلك تكون مساجدهم عامرة ، وقلوبهم خاربة من الإيمان ، علماؤهم شر خلق اللّه على وجه الأرض ، منهم بدت الفتنة وإليهم تعود ، ويذهب الخير وأهله ، ويبقى الشر وأهله ، ويصير الناس بحيث لا يعبأ اللّه بشيء من أعمالهم ، قد حبب إليهم الدينار والدرهم ، حتى أن الغني ليحدّث نفسه بالفقر » .
ثم ذكر حديث خراب الأرض في باقي الحديث ، وقد ذكرناه في هذا الكتاب .
رؤيا سهل بن عبد اللّه التستري
حدثنا محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بمدينة فاس ، قال : رويت فيما رويت أن
“ 23 “
سهل بن عبد اللّه قال : نمت ليلة النصف من شعبان عندما غلب عليّ السهر ، فرأيت جبريل عليه السلام والناس يعرضون عليه ، فقدم إليه رجل ، فقال للملائكة الموكلين : كيف وجدتم هذا العبد ؟ قالوا : عبد سوء أنعم عليه فما شكر ، وابتلي فما صبر ، وعوهد فخان وغدر ، وأمر فما أطاع ولا امتثل ، وسوّف نفسه بعسى ولعلّ ، يتبرم لقضاء المولى ، ويتحكم فيما يهوى ، ويقول : هذا أحق وهذا أولى . قل محمد بن قاسم : لما انتهى عمر بن عبد المجيد حين حدّثني بهذا الحديث إلى قوله : وهذا أولى ، بكى وقال : فهذه صفتي التي عرفتها ، وحالتي التي ألفتها ثم أنشد فلا أدري أمن قبله أم متمثلا :
ساعدوني في بكائي * واسمعوا وصفي لحالي
كل ذنب هو عندي * وهو ذخري وهو مالي
وأنا عن قبح هذا * في غرور واشتغال
هل لمثلي من عزاء * ضاق بي وجه احتيالي
ثم رجع إلى الحديث قال : قال سهل : فأمر جبريل عليه السلام ملكا ، فأخذ بيديه ، ونادى بين الملائكة الموكلين به عليه : هذا عبد خلع ربقة العبودية من أعماله ، فخلّوا بينه وبين أشكاله . قال سهل : ثم قدم إليه رجل آخر ، فقال للملائكة الموكلين به : كيف وجدتم هذا العبد ؟ قالوا : هذا عبد صالح شكر اللّه على النّعما ، وصبر على البلوى ، وامتثل أمر المولى ، وجانب الخيانة والجفا ، واتّبع سنّة المصطفى ، ثم أمر ملكا فأخذ بيديه ، ونادى بين الملائكة عليه : هذا عبد لزم آداب العبودية فاعرفوه ، فإن نزل به أمر فلا تخذلوه .
ومن باب قول اللّه عز وجل : وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
قالت العلماء : إذا استخار الرجل ربه ، واستشار نصيحه واجتهد ، فقد قضى ما عليه ، ويقضي اللّه في أمره ما يحبّ . وإياك ومشاورة النساء ، فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن . وقال بعضهم : حسن المشورة من المشير قضاء حق النعمة .
حكمة
إذا قدرت فاصفح ، وإذا استشرت فانصح ، النصيحة في الملا تقريع ، يقال : من وعط أخاه شرا زانه ، ومن وعظه جهارا شانه .
قال بعض الحكماء : نصف عقلك مع أخيك فاستشره ، فإن الاعتصام بالمشورة ، لأنها تقيم اعوجاج الرأي ، وقلّ من هلك إلا برأيه ، ولا يغرّنك قول من قال : لو لم يكن في
“ 24 “
ترك المشورة إلا استضعاف صاحبك ، وظهور فقرك إليه ، لوجب اطراح ما يفيده من المشورة ، وإلقاء ما يكسبه الامتنان .
وقال بعضهم : أمر الحجاج بحضور الشعبيّ ، فجاءه ابن الأشعث قادما ، فلقيه كاتب الحجاج أبو مسلم ، فقال له الشعبيّ : أشر عليّ يا أبا مسلم فأنت أعلم بما هناك ، فقال أبو مسلم : لا أدري بم أشير ، ولكن اعتذر بما قدرت عليه . قال الشعبي : وأشار عليّ بذلك كل من استشرته من أهل ودّي . قال الشعبي : فلما دخلت على الحجاج اعتمدت على ربي الذي بيده تقليب قلوب الملوك ، وعزمت على مخالفة مشورة أصحابي ورأيت واللّه غير الذي قالوا ، وهان عليّ الأمر ، فسلّمت عليه بالأمارة إعطاء لحق المرتبة ، ثم قلت : أصلح اللّه الأمير ، إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم اللّه أنه الحق ، ولك واللّه أن لا أقول في مقامي هذا إلا الحق : قد جهدنا وحرصنا ، فما كنا بالأقوياء الفجرة ، ولا بالأتقياء البررة ، ولقد نصرك اللّه علينا ، وأظفرك بنا ، فإن سطوت فبذنوبنا ، وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا . فقال الحجاج : أنت واللّه أحب إلينا قولا ممن يدخل علينا وسيفه يقطر من دمائنا ، ويقول : واللّه ما فعلت ولا شهدت ، أنت آمن يا شعبي . قال الشعبي : فقلت :
أيها الأمير ، اكتحلت واللّه بعدك السهر ، واستحليت الخوف ، وقطعت صالح الإخوان ، ولم أجد من الأمير خلفا ، قال : صدقت وانصرفت ، فنعم المستشار العلم ، ونعم الوزير العقل .
وقال بعض الأعزّاء من العقلاء : ما استشرت أحدا إلا كنت عند نفسي ضعيفا ، وكان عندي قويا ، وتصاغرت له ، ودخلته الغيرة ، فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب ، واختلفت عليك المسالك ، وأداك الاستبهام إلى الخطأ الفادح ، فإن صاحبها أبدا جليل في العيون ، مهيب في الصدور ، ولن تزال كذلك ما استغنيت عن ذوي العقول ، فإذا افتقرت إليها حقرتك العيون ، ورجفت بك أركانك ، وتضعضع بنيانك ، وفسد تدبيرك ، واستحقرك الصغير ، واستخف بك الكبير ، وعرفت بالحاجة إليهم . انتهى .
ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن سعيد بن سالم ، عن عثمان بن ساج ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، قال : لما طالت ولاية جرهم استحلوا من الحرم أمورا عظاما ، ونالوا ما لم يكونوا ينالون ، واستخفوا بحرمة الحرم وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سرا وعلانية ، وكلما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه ، وظلموا من دخلها من غير أهلها ، حتى دخل رجل منهم بامرأة الكعبة ، فيقال فجر بها أو
“ 25 “
قبّلها ، فمسخا حجرين ، فرق أمرهم فيها وضعفوا ، وتنازعوا أمرهم بينهم واختلفوا ، وكانوا قبل ذلك من أعزّ حيّ في العرب ، وأكثره رجالا وأموالا وسلاحا ، وأعزه غرة .
فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو ، قام فيهم خطيبا فوعظهم وقال : يا قوم ، اتقوا على أنفسكم ، وراقبوا اللّه في حرمه وأمنه ، فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر هذه الأمم قبلكم ، قوم هود وصالح وشعيب ، فلا تفعلوا ، وتواصلوا ، وتواصوا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، ولا تستخفّوا بحرم اللّه تعالى وبيته ، ولا يغرّنكم ما أنتم فيه من الأمن . وبالغ في وعظهم ، فما ازدادوا إلا طغيانا وتجبّرا ، فلما رأى ذلك مضاض منهم ، عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب ، وأسياف ، فدفنها في موضع زمزم ، وكان زمزم إذ ذاك قد ذهب ماؤه ودرس ، فبينما هم كذلك إذ كان من أهل مأرب ما ذكر أنه ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر ، وهو الذي يقال له مرتقب ابن ماء السماء ، وهو عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن ساس بن يعرب بن قحطان ، وكانت رأت في كهانتها أن سدّ مأرب سيخرب ، وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين .
وقال فيما حدثه أبو زيد الأنصاري أن عمرا رأى جردا يحفر في سدّ مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء ، فعلم أنه لا بقاء للسدّ على ذلك ، فباع أمواله ، وسار هو وقومه من بلد إلى بلد ، لا يطول بلدا إلا غلبوا عليه ، وقهروا أهله حتى يخرجوا منه ، فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة .
فقالت لهم : سيروا ، سيروا ، فلن تجتمعوا أنتم ومن خلفتم أبدا ، فهم لكل أصل ، وأنتم لهم فرع ، ثم قالت الكاهنة : وحق ما أقول ما علمني ما أقول إلا الحكيم المحكم رب جميع الإنس من عرب وعجم .
قالوا لها : ما شأنك يا طريفة ؟ قالت : خذوا البعير الشذقم فخضبوه بالدم ، تسكنوا أرض جرهم جيران بيته المحرم . قال : فلما انتهوا إلى مكة ، وأهلها جرهم قد قهروا الناس ، وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وغيرهم ، أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر : يا قوم ، إنّا قد خرجنا من بلادنا ، فلم ننزل بلدا إلا فسح أهلها لنا ، وتزحزحوا عنّا ، فنقيم معهم حتى نرسل روّادنا فيرتادون لنا بلدا يحملنا ، فأفسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم بقدر ما نستريح ، ونرسل روّادنا إلى الشام وإلى الشرق ، فحيث ما بلغنا أنه أمثل لحقنا به ، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا .
فأبت جرهم ذلك ، وبعثوا إليهم أن ارحلوا عنّا ، فأرسل إليهم ثعلبة أنه لا بدّ لي من المقام في هذا البلد حولا ، حتى ترجع إليّ رسلي ، فإن تركتموني طوعا نزلت وحمدتكم ،
“ 26 “
وواسيتكم في الرعي والماء ، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ، ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا ، ولم تشربوا معي إلا زيفا ، وإن قاتلتموني قاتلتكم ، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء ، وقتلت الرجال ، ولم أترك منكم أحدا ينزل للحرم أبدا . فأبت جرهم أن يتركوه طوعا فاقتتلوا ثلاثة أيام ، وأفزع عليهم الصبر ، ومنعوا النصر ، ثم انهزمت جرهم ، فلم يلتفت منهم إلا الشريد ، وكان مضاض بن عمرو بن الحارث قد اعتزل جرهم ، ولم يعنهم في ذلك وقال : قد كنت أحذركم هذا . ثم رحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا فنونا وحلى وما حول ذلك ، فبقايا جرهم بها إلى اليوم وأفنى جرهما السيف في تلك الحرب ، فأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا ، فأصابتهم الحمى فشكوا إلى طريفة ما أصابهم ، فقالت لهم : قد أصابني الذي تشكون ، وهو مفرّق ما بيننا . قالوا : فما ذا تأمرين ؟
قالت :فيكم ومنكم الأمير ، وعلى التيسير .
قالوا : فما تقولين ؟ قالت : فمن كان منكم ذا همّ بعيد ، وحمل شديد ، ومزاد جديد ، فليلحق بقصر عمان المشيد ، فكانت أزد عمان . ثم قالت :
من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أن يأتي الدهر ، فعليه بالإدراك من بطن مرة ، فكانت خزاعة . ثم قالت : من كان منكم يريد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكانت الأوس والخزرج .
ثم قالت : من كان منكم يريد الخمر والخمير ، والملك والتأمير ، ويلبس الديباج والحرير ، فليلحق ببصرى وغوير ، وهما من أرض الشام ، فكان الذي سكنوها جفنة من غسان .
ثم قالت : من كان منكم يريد البنات الرقاق ، والخيل العتاق ، وكنوز الأوراق ، والدم المهراق ، فليلحق بأرض العراق . فكان الذي سكنها آل جذيمة الأبرش ، ومن كان بالحيرة من غسان ، وآل مخرق ، حتى جاءهم روّادهم ، فافترقوا من مكة فرقتين : فرقة توجهت إلى عمان وهم أزد عمان ، وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام ، فنزل الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ، وهم الأنصار بالمدينة ، ومضت غسان فنزلوا الشام ، وانخزعت خزاعة بمكة ، فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحيّ ، فولي أمر مكة وحجابة الكعبة ، فلما حازت خزاعة أمر مكة ، وصاروا أهلها ، جاءهم بنو إسماعيل ، وقد كانوا اعتزلوا حرب جرهم وخزاعة ، فلم يدخلوا في ذلك ، فسألوهم السكنى معهم وحولهم ، فأذنوا لهم ، فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن الحارث ، وقد كان أصابه من الصبابة إلى مكة ما أحزنه ، أرسل إلى خزاعة يستأذنها في الدخول إليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم ، وبث إليهم براءته وتوزيعه قومه عن القتال ، وسوء السيرة في الحرم ،
“ 27 “
واعتزاله الحرب ، فأبت خزاعة أن يقرّوهم ، ونفتهم عن الحرم كله . وقال عمرو بن لحيّ وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر لقومه : من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر . ففزعت إبل مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي من فنونا تريد مكة ، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة ، فمضى إلى الجبال من نحو جياد حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن وادي مكة ، فأبصر الإبل تنحر وتؤكل لا سبيل له إليها ، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل فولى منصرفا لأهله ،
وأنشأ يقول :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يتربع واسطا فجنوبه * إلى المنحنى من ذي الإزالة حاضر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا * صروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا ربي بها دار غربة * بها الذئب يعوي والعدو المحاصر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها * فإن لها حالا وفيها التشاجر
فإن تمل الدنيا علينا بكلّها * سيصلح حال بعدنا وتشاجر
ونحن ولّينا البيت من بعد ثابت * نطوف بذاك البيت والخير حاضر
ملكنا فعزّزنا وأعظم بملكنا * فليس لحيّ غيرنا ثم فاخر
فكنا ولاة البيت من بعد ثابت * بعزّ فما يخطى لدنيا المكاثر
وأنكح جدّ خير شخص علمته * فأبناؤنا منه ونحن الأساهر
فأخرجنا منها المليك بقدرة * كذلك بل للناس تجري المقادر
أقول إذا نام الخليّ ولم أنم * إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منهم أوجها لا أحبها * وحمير قد بدّلتها والبحاتر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة * كذلك غضتنا السنون الغوابر
وسحّت دموع العين تبكي لبلدة * بها حرم أمن وفيها المشاعر
بواد أنيس ليس يؤذي حمامة * تظل به آمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة * إذا خرجت منها فما أن تقادر
فيا ليت شعري هل تعمّر بعدنا * جياد فمعضني سيله فالظواهر
فبطن منى وحش كأن لم يسر به * مضاض ومن حيي عديّ عمائر
وقال عمرو أيضا يذكر بكرا وغسان ومن خلفهم في مكة بعدهم :
يا أيها الحيّ سيروا إن قصركم * أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
إنّا كما كنتم كنّا فغيّرنا * دهر فسوف كما صرنا تصيرونا
حثّوا المطيّ وأرخوا من أزمّتها * قبل الممات وقصّوا ما تقصّونا
“ 28 “
قد مال دهر علينا ثم أهلكنا * بالبغي فيه وبذء الناس تأسونا
وقال حسان بن ثابت الأنصاريّ يذكر الخزاع خزاعة بمكة ، ومسير الأوس والخزرج إلى المدينة ، وغسان إلى الشام :
فلما هبطنا بطن مرو تخزّعت * خزاعة منا في حلول كراكر
حموا كل واد من تهامة واحتموا * بسمر القنا والمرهفات البواتر
فكان لها المرباع في كل غادة * تشنّ بنجد والفجاج العوابر
خزاعتنا أهل اجتهاد وهجرة * وأنصارنا جند النبي المهاجر
وسرنا فلما أن هبطنا بيثرب * بلا وهن منا ولا بتشاجر
وجدنا بها رزقا غدا من بقية * من آثار عاد بالخلال الظواهر
فحلّت بها الأنصار ثم تبوأت * بيثربها دارا على خير طائر
بنو الخزرج الأخيار والأوس إنهم * حموها بفتيان الصباح البواكر
نفوا من طغى في الدهر عنها وديّنوا * يهودا بأطراف الرماح الحواطر
وسارت لنا سيّارة ذات قوة * بكوم المطايا والخيول الجماهر
يؤمّون نحو الشام حتى تمكنوا * ملوكا بأرض الشام فوق المنابر
يصيبون فضل القول من كل خطبة * إذا وصلوا إيمانهم بالمخاصر
أولاك بنو ماء السماء توارثوا * دمشقا بملك كابرا بعد كابر
قال الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى ، وبلغه أن أبا عمرو بن أمية يتواعده :
أتوعدني بنو عمرو ودوني * رجال لا ينهنها الوعيد
رجال من بني تميم بن عمرو * إلى أبياتهم يأوي الطريد
جحاجحة شياظمة كرام * مراجحة إذا فرع الحديد
خضارمة ملاوية ليوث * خلال بيوتهم كرم وجود
ربيع المعدمين وكل جار * إذا نزلت بهم سنة كئود
هم الرأس المقدّم من قريش * وعند بيوتهم تلقى الوفود
فكيف أخاف أو أخشى عدوا * ونصرهم إذا ادعوا عتيد
فليس بعادل بهم سواهم * طوال الدهر ما اختلف الجديد
ومن مكارم ابن المبارك
ما حدثنا به محمد بن عبد اللّه ، عن أبي منصور القزّاز ، عن أبي بكر الخطيب ، عن
“ 29 “
أبي محمد الخلّال ، عن إسماعيل بن محمد ، عن محمد بن حسن المقري ، سمعت عبد اللّه بن أحمد الزورقي ، سمعت محمد بن علي بن حسن بن شقيق ، سمعت أبي يقول : كان ابن المبارك رضي اللّه عنه إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون : نصحبك يا أبا عبد الرحمن ؟ فيقول لهم : هاتوا نفقاتكم ، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ، ثم يكتري لهم ، ويخرجهم من مرو إلى بغداد ، فلا يزال ينفق عليهم ، ويطعمهم أطيب الطعام والحلو ، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي ، وأكمل مروءة ، حتى يصلوا إلى مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا صاروا إلى المدينة قال لكل رجل منهم :
ما أمر عيالك أن تشتري لهم من متاع المدينة ؟
فيقول : كذا وكذا ، فيشتري لهم ، ويخرجهم من المدينة إلى مكة ، فإذا صاروا إلى مكة قال لكل رجل منهم : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة ؟
فيقول : كذا وكذا ، فيشتري لهم ، ويخرجهم من مكة ، فلا يزال ينفق عليهم حتى يصيروا إلى مرو ، فإذا وصل إلى مرو جصّص دورهم ، فإذا كان بعد ثلاثة أيام صنع لهم وليمة وكساهم ، فإذا أكلوا وشربوا دعا بصندوق ففتحه ودفع إلى كل واحد منهم صرّته بعد أن كتب عليها اسمه . قال أبي : أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة ، فقدم على الناس خمسة وعشرين خوانا فالوذج .
قال أبي : وبلغنا أنه قال للفضيل بن عياض : لولاك وأصحابك ما اتجرت . وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم .
ومن سماع أهل اللّه على قول ابن الدمينة
أما والراقصات بذات عرق * ومن صلى بنعمان الأراك
لقد أضمرت حبك في فؤادي * وما أضمرت حبا من سواك
سماعهم في الراقصات التي هل الإبل هم العارفين ، وذات عرق انبعاثها من أصل صحيح . ومن صلى بنعمان الأراك ، من طلب الوصال ليتنعّم بالرؤية .
والبيت الثاني على أصله فإنه متوجه .
وسماعهم في قول الصّمة وهو :
وحنّت قلوصي آخر الليل جنة * فيا روعة ما راع قلبي حنينها
فقلت لها حنّي فكل قرينة * مفارقها لا بدّ يوما قرينها
وقلت لها حنّي رويدا فإنني * وإياك تخفي غولة سنبينها
سماعهم في القلوص : مركب الحسن . وآخر الليل : انقضاء العمر . فيا روعة هول
“ 30 “
المطلع ، والروح والنفس قريبان يتفارقان بالموت ، تخفي غولة سنبينها يوم تشهد عليهم ألسنتهم .
ومن باب حنين الإبل وسيرها قوله :
ثورها ناشطة عقالها * قد ملأت من بدنها حلالها
فلم تزل أشواقه تسوقها * حتى رمت من الوجا رحالها
ما ذا على الناقة من غرامه * لو أنه أنصف أو رثا لها
أراد أن يشرب ماء حاجر * أربها تطلب أم كلالها
إنّ لها على القلوب ذمّة * لأنها قد عرفت بلبالها
كانت لها على الصبا تحيّة * أعجلها السائق أن تنالها
كم تسأل البارق عن سويقة * ولا يجيب عامدا سؤالها
خوفا على قلوبها إن عملت * إن الغوادي أدرست أطلالها
فعلّلوها بحديث حاجر * ولتصنع الفلاة ما بدا لها
وأمدت الفلاة دون خطوها * كأنها قد كرهت زوالها
ومن هذا الباب ما أنشدناه محمد بن عبد اللّه لأبي عبد اللّه البارع رحمه اللّه تعالى :
دع المطايا تسم الجنوبا * إنّ لها لنبأ عجيبا
حنينها وما اشتكت لغوبا * يشهد أن قد فارقت حبيبا
شامت بنجد بارقا كذوبا * أذكرها عهد هوى قريبا
فغادر الشوق لها حبيبا * يضرم في أكبادها لهيبا
تزرم إن ما استشرفت كثيبا * فإن بالرمل لها سقوبا
ما حملت إلا فتى كئيبا * يسرّ مما أعلنت نصيبا
يمسي إذا حنت لها مجيبا * لو غادر الشوق لها قلوبا
إذا لآثرن بهنّ النيبا * إن الغريب يسعد الغريبا
ولعلي بن أفلح من هذا الباب :
دعها لك الخير وما بدا لها * من الحنين ناشطا عقالها
ولا تعقها عن عقيق رامة * فإنها ذاكرة أفعالها
ولا تعلّلها بحيّ بابل * فهو أهاج بالجوى بلبالها
نشدتك اللّه إذا جئت الرّبى * فرد أضاها واستظلّ ضالها
وبارح الورق بشجو ثاكل * أطغى لها ريب الرّدى أطفالها
“ 31 “
وقال أبو نواس في النسيب :
لولا تذكر من ذكرت بحاجر * لم أبك فيه مواقد النيران
يا واقفين معي على الدار طلبا * غيري لها إن كنتما تقفان
منع الوقوف على المنازل طارق * أمر الدموع بمقلتي ونهاني
إنّا ليجمعنا البكاء وكلنا * نبكي على شجن من الأشجان
حماية إلهية
حدثنا عبد الرحمن ، ثنا أبو بكر الصوفي ، أنا أبو سعيد الحميري ، انا ابن باكويه ، سمعت محمد بن أحمد النجار ، سمعت أبا بكر الكتاني يقول : كنت بطريق مكة فإذا أنا بهميان تلمع منه الدنانير ، فهممت أن آخذه فأحمله إلى فقراء مكة ، فهتف بي هاتف من ورائي : إن أخذته سلبناك فقرك .
وبالإسناد إلى البخاري قال : أخبرني أبو علي الروزبادي قال : سمعت بنان الجمال يقول : دخلت البرية على طريق تبوك وحدي ، فاستوحشت ، فإذا بهاتف يهتف : يا بنان ، نقضت العهد ، لم تستوحش ؟ أليس حبيبك معك ؟
ومن باب هوان الدنيا على أهل اللّه
ما حدثنا به محمد بن الفضل ، ثنا أبو منصور ، ثنا أبو بكر بن ثابت ، ثنا عبد العزيز القرميني ، ثنا ابن جهضم ، ثنا الخالدي ، ثنا ابن مسروق ، حدثني محمد بن سهل البخاري قال : كنت أمشي في طريق مكة ، إذ رأيت رجلا من أهل المغرب على بغل وبين يديه مناد ينادي : من أصاب هميانا فله ألف دينار ،
فإذا إنسان أعرج عليه أطمار رثة يقول للمغربي :
أيش علامة الهميان ؟ فقال : كذا وكذا ، وفيه بضائع للقوم ، وأنا أعطي من مالي ألف دينار .
فقال الفقير : من يقرأ الكتابة ؟ فقلت : أنا ، قال : اعدلوا إلى ناحية ، فعدلنا ، فأخرج الهميان ، فجعل المغربي يقول : حبتين لفلانة بنت فلان بخمسمائة دينار ، وحبة لفلان بمائة دينار ، وجعل يعدّ فإذا هو كما قال ، فحلّ المغربي هميانه وقال : خذ ألف دينار التي وعدت ، فقال الأعرج الفقير : لو كان قيمة الهميان عندي بعرتين ما كنت تراه ، فكيف آخذ منك ألف دينار على ما هذا قيمته ، ومضى ولم يأخذ منه شيئا .
أخبرني الوجيه الفاسي بمدينة مائد ، في سنة إحدى وستمائة قال : كان ببخارى والي
الجزء الثاني
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 17 “
ولا كبيرة ، فأكثروا من صالح العمل . أيها الناس ، إن في القناعة لسعة ، وإن في الاقتصاد لبلغة ، وإن في الزهد لراحة ، ولكل عمل جزاء ، ولكل أجل كتاب ، وكل آت قريب » .
رؤيا المنصور أمير المؤمنين التي كانت سببا لبعض حججه التي أحرم بها من بغداد
حدثنا يونس بن يحيى ، عن ابن أبي منصور ، عن المبارك بن عبد الجبار ، عن أبي بكر ، عن ابن المنكدر الصلت ، عن أبي بكر بن الأنباري ، عن محمد بن أحمد المقدمي ، عن أبي محمد التميمي ، عن منصور بن أبي مزاحم ، عن ابن سهل الحاسب ، عن طيفور قال : كان سبب إحرام المنصور من بغداد أنه نام ليلة فانتبه مرعوبا ، ثم عاود النوم فانتبه كذلك فزعا مرعوبا ، ثم راجع النوم فانتبه كذلك ، فقال : يا ربيع ، قال الربيع : قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : لقد رأيت في منامي عجبا .
قال : ما رأيت جعلني اللّه فداءك ؟ قال : رأيت كأن آتيا أتاني فهينم بشيء لم أفهمه ، فانتبهت فزعا ، ثم عاودت النوم فعاودني يقول ذلك الشيء ، ثم عاودني بقوله حتى فهمته وحفظته وهو :
كأني بهذا القصر قد باد أهله * وعرّي منه أهله ومنازله
وصار رئيس القوم من بعد بهجة * إلى جدث تبنى عليه جنادله
وما أحسبني يا ربيع إلا وقد حانت وفاتي ، وحضر أجلي ، وما لي غير ربي ، قم فاجعل لي غسلا . ففعلت ، فقام فاغتسل وصلى ركعتين . وقال : أنا عازم على الحج فهيّئ لي آلة الحج ، فخرج وخرجنا حتى إذا انتهى إلى الكوفة ونزل النجف فأقام أياما ، ثم أمر بالرحيل ، فتقدمت نوّابه وجنوده وبقيت أنا بوّابه ، وهو بالقصر ، فقال لي : يا ربيع ، جئني بفحمة من المطبخ ، وقال لي : اخرج فكن مع دابتي إلى أن أخرج ، فلما خرج وركب رجعت إلى المكان كأني أطلب شيئا ، فوجدته قد كتب على الحائط بالفحمة :
المرء يهوى أن يعي * ش وطول عيش قد يضرّه
تفنى بشاشته ويبقى * بعد حلو العيش مرّة
وتصرف الأيام حتى * ما يرى شيئا يسرّه
كم شامت بي إن هلك * ت وقائل للّه درّه
للسهيس أنشدني عمي رحمه اللّه :
“ 18 “
زمان يمر وعيش يمر * ودهر يكر بما لا يسر
ونفس تذوب وهم ينوب * ودنيا تنادي بأن ليس حر
ومن وقائع بعض الفقراء ما حدثنا به عبد اللّه المروزي قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في واقعتي أبا مدين ، وأبا حامد ، وجماعة من الصوفية ، فقالوا لأبي مدين : قل لنا في التوحيد شيئا ، فقال أبو مدين : التوحيد همة المرسلين والنبيين ، وهو سر الخلفاء الصديقين ، وقطب الورثة من العارفين ، به حنّت أسرارهم إلى الحضرة الإلهية ، وبه انكشفت لهم الأمور الربانية ، فأمدهم بالحياة والقيومية ، وأظهر لهم أسرارا لا تكاد تطيقها الأرواح البشرية ، منها السر القائم بالوجود الذي منه بدأ وإليه يعود ، ووراء ذلك أسرار لا ينبغي بثّها ، ولا يليق بالعارف كشفها ، إذ هي أسرار إذا طالعها اضمحلت رسومه ، وتلاشت أفكاره وعلومه ، وفني ما هو محصور مقيد ، وبقي الواحد الفرد الصمد فالعارف المحقق الذي يسير بسيره ، ولم يكن له في قلبه متسع لغيره ، هو قلبه وحياته ، وبه حسنت أخلاقه وصفاته ، فكثيفه ظاهر لكل كثيف ، ولطيفه يلاحظ أسرار اللطيف ، فتوحيد العارفين محض التحقيق ، والقصد القصد بلا تخليق ، ففي التخليق فناء العمر ، وفي القصد الوصول والظفر . فالعارف مقيم بين الخلق بجسمه ، ومسافر إلى جمال الحضرة العلية بسرة ، فثمرة هذا التوحيد مناله بالسفر فيه تشرفوا وتنعموا ، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : « سافروا تصحوا وتغنموا » ، فغنيمة العارف تظهر عليه بالصفات والنعوت ، إن اختبرته وجدته باللّه قائل ، وإن تحققته ألفيته مع سيده كالميت بين يدي الغاسل .
وروينا من حديث الهاشمي ، بلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « إياكم وفضول المطعم ، فإن فضول المطعم يسم القلب بالقسوة ، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة ، ويصم الهمم عن سماع الموعظة . وإياكم وفضول النظر ، فإنه يبذر الهوى ، ويولد الغفلة ، وإياكم واستشعار الطمع ، فإنه يشرب القلب شدة الحرص ، ويختم على القلب بطابع حب الدنيا ، فهو مفتاح كل سيئة ، وسبب إحباط كل حسنة » .
وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
وأحيائي من عليم * ليس يخفى عنه حالي
منطقي يبدي جميلا * والبلايا في فعالي
ليت شعري ما اعتذاري * يوم أدعى للسؤال
كيف قولي وجوابي * كيف فعلي واحتيالي
ليتني لم أك شيئا * قبل تحقيق السؤال
“ 19 “
ومن حسن التلطف في المكاتبة
ما ذكره إسماعيل بن أبي شاكر قال : لما أصاب أهل مكة السيل الذي شارق الحجر ، ومات تحته خلق كثير ، كتب عبد اللّه بن الحسن العلوي ، وهو والي الحرمين ، إلى المأمون : يا أمير المؤمنين ، إن أهل حرم اللّه ، وجيران بيته ، وآلاف مسجده ، وعمرة بلاده ، قد استجاروا بعزّ معروفك من سيل تراكمت جريانه في هدم البنيان ، وقتل الرجال والنسوان ، واجتاح الأصول ، وجرف الأثقال حتى ما ترك طارفا ولا تالدا للراجع إليها في مطعم ولا ملبس ، فقد شغلهم طلب الغذاء عن الاستراحة إلى البكاء على الأمهات والأولاد ، والآباء والأجداد ، فأجرهم أمير المؤمنين بعطفك عليهم ، وإحسانك إليهم ، تجد اللّه مكافئك عنهم ، ومثيبك عن الشكر منهم .
قال : فوجّه المأمون إليهم بالأموال الكثيرة ، وكتب إلى عبد اللّه : أما بعد ، فقد وصلت شكيتك لأهل حرم اللّه إلى أمير المؤمنين ، فبكاهم بقلب رحمته وأنجدهم بسيب نعمته ، وهو متّبع لما أسلف إليهم ، بما يخلفه عليهم ، عاجلا وآجلا ، أن أذن اللّه في تثبيت نيته على عزمه .
قال : فكان كتابه هذا أسرّ لأهل مكة من الأموال التي أنفذها إليهم .
ومن حسن الجواب
ما حكي أن أمير المؤمنين وقف على امرأة من بني ثعل ، فقال لها : ممن العجوز ؟
قالت : من طي .
قال : ما منع طيّا أن يكون فيها مثل حاتم ؟ قالت : الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك ، فأعجب بقولها ووصلها .
وقال معاوية حين أتاه سعيد بن مرّة الكندي : أنت سعيد ؟ فقال : أمير المؤمنين أسعد ، وأنا ابن مرّة . وقال الحجاج للمهلب : أنا أطول أم أنت ؟ قال : الأمير أطول ، وأنا أبسط قامة منه.
وقيل للعباس بن عبد المطلب : أنت أكبر أم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ قال : هو عليه السلام أكبر مني ، وأنا ولدت قبله .
قيل : دخل سيد ابن أنس على المأمون ، فقال له المأمون : أنت السيد ؟ قال : أنت السيد يا أمير المؤمنين ، وأنا ابن أنس
“ 20 “
حكم
رب قول أشدّ من صول . لكل ساقطة لاقطة . لكل داهية ناهية . لكل قاصمة عاصمة . مقتل الرجل بين فكيه يعني لسانه .
وقال المهلب : اتقوا زلة اللسان ، فإني وجدت الرجل يعثر قدمه فيقوم من عثرته ، ويزلّ لسانه فيكون فيه هلاكه .
وقال يونس بن عبيد : ليست خلة من خلال الخير تكون في الرجل هي أحرى أن تكون جامعة لأنواع الخير كلها من حفظ اللسان .
ومن قولهم في الكتمان : كان أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور يقول : الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثة : إفشاء السر ، والتعرض للحرم ، والقدح في الملك .
وقال بعض الحكماء : سرّك من دمك ، فانظر من يملكه .
وفي الحكمة القديمة : سرّك لا يطلع عليه غيرك .
وقيل لأبي مسلم : بأي شيء أدركت هذا الأمر ؟ قال : ارتديت الكتمان ، واتّزرت بالحزم ، وحالفت الصبر ، وساعدت المقادير ، فأدركت طلبتي ، وحزت بغيتي .
وأنشد في ذلك :
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت * عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى عليهم في ديارهم * والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا * من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة * ونام عنها تولّى رعيها الأسد
روينا من حديث البغوي ، أخبرنا أبو سعيد عبد اللّه بن أحمد الظاهري ، انا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزّار ، أنا أبو بكر بن محمد بن زكريا الغدافري ، أنبأ إسحاق بن إبراهيم ، ثنا عبد الرزاق ، انا معمر ، عن قتادة ، عن نصر بن عاصم الليثي ، عن خالد بن خالد اليشكري ، قال : خرجت زمن فتحت تستر حتى قدمت الكوفة ، فدخلت المسجد ، فإذا أنا بحلقة فيها رجل صدع من الرجال ، حسن الثغر ، يعرف فيه أنه رجل من أهل الحجاز قال : فقلت : من الرجل ؟ فقال القوم : أو ما تعرف ؟
قلت : لا ، قالوا : هذا حذيفة بن اليمان صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فقعدت ، وحدث القوم . فقال : إن الناس كانوا يجيئون فيسألون النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، فأنكر ذلك القوم عليه ،
“ 21 “
فقال لهم : إني سأخبركم بما أنكرتم من ذلك : جاء الإسلام حين جاء ، فجاء أمرا ليس كأمر الجاهلية ، وكنت قد أعطيت فهما في القرآن ، وكان رجال يسألون عن الخير ، فكنت أسأله عن الشرّ ، قلت : يا رسول اللّه ، أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر ؟ قال :
« نعم » ، قلت : فما العصمة يا رسول اللّه ؟ قال : « السيف » ، قلت : وهل بعد السيف بقية ؟
قال : « نعم ، يكون جماعة على أقذاء وهدنة على دخن » ، قال : قلت : ثم ما ذا ؟ قال : « ثم ينشأ دعاة الضلالة ، فإن كان للّه في الأرض خليفة جلد ظهرك ، وأخذ مالك ، فالزمه ، وإلا قمت وأنت عاص على جذل شجرة » ، قال : قلت : ثم ما ذا ؟ قال : « ثم يخرج الدجال بعد ذلك ومعه نهر ونار ، فمن وقع في ناره وجب أجره وحط وزره ، ومن وقع في نهره وجب وزره وحبط أجره » . قال : ثم قلت : ثم ما ذا ؟ قال : « ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة » . قال البغوي : الصدع من الرجال مفتوحة الدال : الشاب المعتدل . ويقال :
الصدع : الربعة في خلقة رجل بين الرجلين . وقوله : فما العصمة ؟ قال : « السيف » . قال قتادة : يضعه على أهل الردة كانت في زمن الصديق رضي اللّه عنه . وقوله : « هدنة على دخن » : صلح على بقايا من الضغن .
وقوله : « على أقذاء » : يكون اجتماعهم على فساد من القلوب ، شبّهه بأقذاء العين .
ومن أشراط الساعة
ما رواه علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال : سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أشراط الساعة فقال : « إذا رأيت الناس قد ضيّعوا الحق ، وأماتوا الصلاة ، وأكثروا القذف ، واستحلّوا الكذب ، وأخذوا الرشوة ، وشيّدوا البنيان ، وعظّموا أرباب الأموال ، واستعملوا السفهاء ، واستحلّوا الدماء ، فصار الجاهل عندهم ظريفا ، والعالم ضعيفا ، والظلم فخرا ، والمساجد طرقا ، وتكثر الشرط ، وحليت المصاحف ، وطوّلت المنارات ، وخربت القلوب من الدين ، وشربت الخمور ، وكثر الطلاق ، وموت الفجأة ، وفشا الفجور ، وقول البهتان ، وحلفوا بغير اللّه ، وائتمن الخائن ، وخان الأمين ، ولبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب ، فعندها قيام الساعة » .
وروى حذيفة بن اليمان قال :
رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متعلقا بأستار الكعبة ، وعيناه تذرفان بالدموع ، فقلت : ما يبكيك لا أبكى اللّه لك عينا ؟ قال : « يا حذيفة ، ذهبت الدنيا ، أو كأنك بالدنيا لم تكن » ، قلت : فداك أبي وأمي يا رسول اللّه ، فهل من علامة يستدل بها على ذلك ؟ قال : « نعم يا
“ 22 “
حذيفة ، احفظ بقلبك ، وانظر بعينيك ، واعقد بيديك ، إذا ضيّعت أمتي الصلاة ، واتّبعت الشهوات ، وكثرت الخيانات ، وقلّت الأمانات ، وشربوا القهوات ، وأظلم الهوى ، وغار الماء ، وأغبرت الأفق ، وخيفت الطريق ، وتشاتم الناس وفسدوا ، وفجرت الباعة ، ورفضت القناعة ، وساءت الظنون ، وتلاشت السنون ، وكثرت الأشجار ، وقلّت الثمار ، وغلت الأسعار ، وكثرت الرياح ، وتبينت الأشراط ، وظهر اللواط ، واستحسنوا الخلف ، وضاقت المكاسب ، وقلّت المطالب ، واستمروا بالهوى ، وتفاكهوا بينهم بشتيمة الآباء والأمهات ، وأكل الرّبا ، وفشا الزنا ، وقلّ الرضا ، واستعملوا السفهاء ، وكثرت الخيانة ، وقلّت الأمانة ، وزكى كل امرئ نفسه وعمله ، واشتهر كل جاهل بجهله ، وزخرفت جدران الدور ، ورفع بناء القصور ، وصار الباطل حقا ، والكذب صدقا ، والصحة عجزا ، واللؤم عقلا ، والضلالة هدى ، والبيان عمى ، والصمت بلاهة ، والعلم جهالة ، وكثرت الآيات ، وتتابعت العلامات ، وتراجموا بالظنون ، ودارت على الناس رحى المنون ، وعميت القلوب وغلب المنكر المعروف ، وذهب التواصل ، وكثرت التجارات ، واستحسنوا البطالات ، وتهادوا أنفسهم بالشهوات ، وتهاونوا بالمعضلات ، وركبوا جلود النمور ، وأكلوا المأثور ، ولبسوا الحبور ، وآثروا الدنيا على الآخرة ، وذهبت الرحمة من القلوب ، وعمّ الفساد ، واتخذوا كتاب اللّه لعبا ، ومال اللّه دولا ، واستحلوا الخمر بالنبيذ ، والنّجش بالزكاة ، والرّبا بالبيع ، والحكم بالرشا ، وتكافأ الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وصارت المباهاة في المعصية ، والكبر في القلوب ، والجور في السلاطين ، والسفاهة في سائر الناس ، فعند ذلك لا يسلم إلى ذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من شاهق إلى شاهق ، ومن واد إلى واد ، وذهب الإسلام حتى لا يبقى إلا اسمه ، واندرس القرآن من القلوب حتى لا يبقى إلا رسمه ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيّهم ، لا يعلمون بما فيه من وعد ربهم ووعيده وتحذيره وتنذيره وناسخه ومنسوخه ، فعند ذلك تكون مساجدهم عامرة ، وقلوبهم خاربة من الإيمان ، علماؤهم شر خلق اللّه على وجه الأرض ، منهم بدت الفتنة وإليهم تعود ، ويذهب الخير وأهله ، ويبقى الشر وأهله ، ويصير الناس بحيث لا يعبأ اللّه بشيء من أعمالهم ، قد حبب إليهم الدينار والدرهم ، حتى أن الغني ليحدّث نفسه بالفقر » .
ثم ذكر حديث خراب الأرض في باقي الحديث ، وقد ذكرناه في هذا الكتاب .
رؤيا سهل بن عبد اللّه التستري
حدثنا محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بمدينة فاس ، قال : رويت فيما رويت أن
“ 23 “
سهل بن عبد اللّه قال : نمت ليلة النصف من شعبان عندما غلب عليّ السهر ، فرأيت جبريل عليه السلام والناس يعرضون عليه ، فقدم إليه رجل ، فقال للملائكة الموكلين : كيف وجدتم هذا العبد ؟ قالوا : عبد سوء أنعم عليه فما شكر ، وابتلي فما صبر ، وعوهد فخان وغدر ، وأمر فما أطاع ولا امتثل ، وسوّف نفسه بعسى ولعلّ ، يتبرم لقضاء المولى ، ويتحكم فيما يهوى ، ويقول : هذا أحق وهذا أولى . قل محمد بن قاسم : لما انتهى عمر بن عبد المجيد حين حدّثني بهذا الحديث إلى قوله : وهذا أولى ، بكى وقال : فهذه صفتي التي عرفتها ، وحالتي التي ألفتها ثم أنشد فلا أدري أمن قبله أم متمثلا :
ساعدوني في بكائي * واسمعوا وصفي لحالي
كل ذنب هو عندي * وهو ذخري وهو مالي
وأنا عن قبح هذا * في غرور واشتغال
هل لمثلي من عزاء * ضاق بي وجه احتيالي
ثم رجع إلى الحديث قال : قال سهل : فأمر جبريل عليه السلام ملكا ، فأخذ بيديه ، ونادى بين الملائكة الموكلين به عليه : هذا عبد خلع ربقة العبودية من أعماله ، فخلّوا بينه وبين أشكاله . قال سهل : ثم قدم إليه رجل آخر ، فقال للملائكة الموكلين به : كيف وجدتم هذا العبد ؟ قالوا : هذا عبد صالح شكر اللّه على النّعما ، وصبر على البلوى ، وامتثل أمر المولى ، وجانب الخيانة والجفا ، واتّبع سنّة المصطفى ، ثم أمر ملكا فأخذ بيديه ، ونادى بين الملائكة عليه : هذا عبد لزم آداب العبودية فاعرفوه ، فإن نزل به أمر فلا تخذلوه .
ومن باب قول اللّه عز وجل : وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
قالت العلماء : إذا استخار الرجل ربه ، واستشار نصيحه واجتهد ، فقد قضى ما عليه ، ويقضي اللّه في أمره ما يحبّ . وإياك ومشاورة النساء ، فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن . وقال بعضهم : حسن المشورة من المشير قضاء حق النعمة .
حكمة
إذا قدرت فاصفح ، وإذا استشرت فانصح ، النصيحة في الملا تقريع ، يقال : من وعط أخاه شرا زانه ، ومن وعظه جهارا شانه .
قال بعض الحكماء : نصف عقلك مع أخيك فاستشره ، فإن الاعتصام بالمشورة ، لأنها تقيم اعوجاج الرأي ، وقلّ من هلك إلا برأيه ، ولا يغرّنك قول من قال : لو لم يكن في
“ 24 “
ترك المشورة إلا استضعاف صاحبك ، وظهور فقرك إليه ، لوجب اطراح ما يفيده من المشورة ، وإلقاء ما يكسبه الامتنان .
وقال بعضهم : أمر الحجاج بحضور الشعبيّ ، فجاءه ابن الأشعث قادما ، فلقيه كاتب الحجاج أبو مسلم ، فقال له الشعبيّ : أشر عليّ يا أبا مسلم فأنت أعلم بما هناك ، فقال أبو مسلم : لا أدري بم أشير ، ولكن اعتذر بما قدرت عليه . قال الشعبي : وأشار عليّ بذلك كل من استشرته من أهل ودّي . قال الشعبي : فلما دخلت على الحجاج اعتمدت على ربي الذي بيده تقليب قلوب الملوك ، وعزمت على مخالفة مشورة أصحابي ورأيت واللّه غير الذي قالوا ، وهان عليّ الأمر ، فسلّمت عليه بالأمارة إعطاء لحق المرتبة ، ثم قلت : أصلح اللّه الأمير ، إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم اللّه أنه الحق ، ولك واللّه أن لا أقول في مقامي هذا إلا الحق : قد جهدنا وحرصنا ، فما كنا بالأقوياء الفجرة ، ولا بالأتقياء البررة ، ولقد نصرك اللّه علينا ، وأظفرك بنا ، فإن سطوت فبذنوبنا ، وإن عفوت فبحلمك والحجة لك علينا . فقال الحجاج : أنت واللّه أحب إلينا قولا ممن يدخل علينا وسيفه يقطر من دمائنا ، ويقول : واللّه ما فعلت ولا شهدت ، أنت آمن يا شعبي . قال الشعبي : فقلت :
أيها الأمير ، اكتحلت واللّه بعدك السهر ، واستحليت الخوف ، وقطعت صالح الإخوان ، ولم أجد من الأمير خلفا ، قال : صدقت وانصرفت ، فنعم المستشار العلم ، ونعم الوزير العقل .
وقال بعض الأعزّاء من العقلاء : ما استشرت أحدا إلا كنت عند نفسي ضعيفا ، وكان عندي قويا ، وتصاغرت له ، ودخلته الغيرة ، فإياك والمشورة وإن ضاقت بك المذاهب ، واختلفت عليك المسالك ، وأداك الاستبهام إلى الخطأ الفادح ، فإن صاحبها أبدا جليل في العيون ، مهيب في الصدور ، ولن تزال كذلك ما استغنيت عن ذوي العقول ، فإذا افتقرت إليها حقرتك العيون ، ورجفت بك أركانك ، وتضعضع بنيانك ، وفسد تدبيرك ، واستحقرك الصغير ، واستخف بك الكبير ، وعرفت بالحاجة إليهم . انتهى .
ولاية خزاعة الكعبة بعد جرهم
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن سعيد بن سالم ، عن عثمان بن ساج ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، قال : لما طالت ولاية جرهم استحلوا من الحرم أمورا عظاما ، ونالوا ما لم يكونوا ينالون ، واستخفوا بحرمة الحرم وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها سرا وعلانية ، وكلما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم من يمنعه ويدفع عنه ، وظلموا من دخلها من غير أهلها ، حتى دخل رجل منهم بامرأة الكعبة ، فيقال فجر بها أو
“ 25 “
قبّلها ، فمسخا حجرين ، فرق أمرهم فيها وضعفوا ، وتنازعوا أمرهم بينهم واختلفوا ، وكانوا قبل ذلك من أعزّ حيّ في العرب ، وأكثره رجالا وأموالا وسلاحا ، وأعزه غرة .
فلما رأى ذلك رجل منهم يقال له مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو ، قام فيهم خطيبا فوعظهم وقال : يا قوم ، اتقوا على أنفسكم ، وراقبوا اللّه في حرمه وأمنه ، فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر هذه الأمم قبلكم ، قوم هود وصالح وشعيب ، فلا تفعلوا ، وتواصلوا ، وتواصوا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، ولا تستخفّوا بحرم اللّه تعالى وبيته ، ولا يغرّنكم ما أنتم فيه من الأمن . وبالغ في وعظهم ، فما ازدادوا إلا طغيانا وتجبّرا ، فلما رأى ذلك مضاض منهم ، عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب ، وأسياف ، فدفنها في موضع زمزم ، وكان زمزم إذ ذاك قد ذهب ماؤه ودرس ، فبينما هم كذلك إذ كان من أهل مأرب ما ذكر أنه ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر ، وهو الذي يقال له مرتقب ابن ماء السماء ، وهو عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن ساس بن يعرب بن قحطان ، وكانت رأت في كهانتها أن سدّ مأرب سيخرب ، وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين .
وقال فيما حدثه أبو زيد الأنصاري أن عمرا رأى جردا يحفر في سدّ مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء ، فعلم أنه لا بقاء للسدّ على ذلك ، فباع أمواله ، وسار هو وقومه من بلد إلى بلد ، لا يطول بلدا إلا غلبوا عليه ، وقهروا أهله حتى يخرجوا منه ، فلما قاربوا مكة ساروا ومعهم طريفة الكاهنة .
فقالت لهم : سيروا ، سيروا ، فلن تجتمعوا أنتم ومن خلفتم أبدا ، فهم لكل أصل ، وأنتم لهم فرع ، ثم قالت الكاهنة : وحق ما أقول ما علمني ما أقول إلا الحكيم المحكم رب جميع الإنس من عرب وعجم .
قالوا لها : ما شأنك يا طريفة ؟ قالت : خذوا البعير الشذقم فخضبوه بالدم ، تسكنوا أرض جرهم جيران بيته المحرم . قال : فلما انتهوا إلى مكة ، وأهلها جرهم قد قهروا الناس ، وحازوا ولاية البيت على بني إسماعيل وغيرهم ، أرسل إليهم ثعلبة بن عمرو بن عامر : يا قوم ، إنّا قد خرجنا من بلادنا ، فلم ننزل بلدا إلا فسح أهلها لنا ، وتزحزحوا عنّا ، فنقيم معهم حتى نرسل روّادنا فيرتادون لنا بلدا يحملنا ، فأفسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم بقدر ما نستريح ، ونرسل روّادنا إلى الشام وإلى الشرق ، فحيث ما بلغنا أنه أمثل لحقنا به ، وأرجو أن يكون مقامنا معكم يسيرا .
فأبت جرهم ذلك ، وبعثوا إليهم أن ارحلوا عنّا ، فأرسل إليهم ثعلبة أنه لا بدّ لي من المقام في هذا البلد حولا ، حتى ترجع إليّ رسلي ، فإن تركتموني طوعا نزلت وحمدتكم ،
“ 26 “
وواسيتكم في الرعي والماء ، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ، ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا ، ولم تشربوا معي إلا زيفا ، وإن قاتلتموني قاتلتكم ، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء ، وقتلت الرجال ، ولم أترك منكم أحدا ينزل للحرم أبدا . فأبت جرهم أن يتركوه طوعا فاقتتلوا ثلاثة أيام ، وأفزع عليهم الصبر ، ومنعوا النصر ، ثم انهزمت جرهم ، فلم يلتفت منهم إلا الشريد ، وكان مضاض بن عمرو بن الحارث قد اعتزل جرهم ، ولم يعنهم في ذلك وقال : قد كنت أحذركم هذا . ثم رحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا فنونا وحلى وما حول ذلك ، فبقايا جرهم بها إلى اليوم وأفنى جرهما السيف في تلك الحرب ، فأقام ثعلبة بمكة وما حولها في قومه وعساكره حولا ، فأصابتهم الحمى فشكوا إلى طريفة ما أصابهم ، فقالت لهم : قد أصابني الذي تشكون ، وهو مفرّق ما بيننا . قالوا : فما ذا تأمرين ؟
قالت :فيكم ومنكم الأمير ، وعلى التيسير .
قالوا : فما تقولين ؟ قالت : فمن كان منكم ذا همّ بعيد ، وحمل شديد ، ومزاد جديد ، فليلحق بقصر عمان المشيد ، فكانت أزد عمان . ثم قالت :
من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أن يأتي الدهر ، فعليه بالإدراك من بطن مرة ، فكانت خزاعة . ثم قالت : من كان منكم يريد الراسيات في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكانت الأوس والخزرج .
ثم قالت : من كان منكم يريد الخمر والخمير ، والملك والتأمير ، ويلبس الديباج والحرير ، فليلحق ببصرى وغوير ، وهما من أرض الشام ، فكان الذي سكنوها جفنة من غسان .
ثم قالت : من كان منكم يريد البنات الرقاق ، والخيل العتاق ، وكنوز الأوراق ، والدم المهراق ، فليلحق بأرض العراق . فكان الذي سكنها آل جذيمة الأبرش ، ومن كان بالحيرة من غسان ، وآل مخرق ، حتى جاءهم روّادهم ، فافترقوا من مكة فرقتين : فرقة توجهت إلى عمان وهم أزد عمان ، وسار ثعلبة بن عمرو بن عامر نحو الشام ، فنزل الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ، وهم الأنصار بالمدينة ، ومضت غسان فنزلوا الشام ، وانخزعت خزاعة بمكة ، فأقام بها ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وهو لحيّ ، فولي أمر مكة وحجابة الكعبة ، فلما حازت خزاعة أمر مكة ، وصاروا أهلها ، جاءهم بنو إسماعيل ، وقد كانوا اعتزلوا حرب جرهم وخزاعة ، فلم يدخلوا في ذلك ، فسألوهم السكنى معهم وحولهم ، فأذنوا لهم ، فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن الحارث ، وقد كان أصابه من الصبابة إلى مكة ما أحزنه ، أرسل إلى خزاعة يستأذنها في الدخول إليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم ، وبث إليهم براءته وتوزيعه قومه عن القتال ، وسوء السيرة في الحرم ،
“ 27 “
واعتزاله الحرب ، فأبت خزاعة أن يقرّوهم ، ونفتهم عن الحرم كله . وقال عمرو بن لحيّ وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر لقومه : من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر . ففزعت إبل مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي من فنونا تريد مكة ، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة ، فمضى إلى الجبال من نحو جياد حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن وادي مكة ، فأبصر الإبل تنحر وتؤكل لا سبيل له إليها ، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل فولى منصرفا لأهله ،
وأنشأ يقول :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يتربع واسطا فجنوبه * إلى المنحنى من ذي الإزالة حاضر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا * صروف الليالي والجدود العواثر
وأبدلنا ربي بها دار غربة * بها الذئب يعوي والعدو المحاصر
فإن تنثني الدنيا علينا بحالها * فإن لها حالا وفيها التشاجر
فإن تمل الدنيا علينا بكلّها * سيصلح حال بعدنا وتشاجر
ونحن ولّينا البيت من بعد ثابت * نطوف بذاك البيت والخير حاضر
ملكنا فعزّزنا وأعظم بملكنا * فليس لحيّ غيرنا ثم فاخر
فكنا ولاة البيت من بعد ثابت * بعزّ فما يخطى لدنيا المكاثر
وأنكح جدّ خير شخص علمته * فأبناؤنا منه ونحن الأساهر
فأخرجنا منها المليك بقدرة * كذلك بل للناس تجري المقادر
أقول إذا نام الخليّ ولم أنم * إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منهم أوجها لا أحبها * وحمير قد بدّلتها والبحاتر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة * كذلك غضتنا السنون الغوابر
وسحّت دموع العين تبكي لبلدة * بها حرم أمن وفيها المشاعر
بواد أنيس ليس يؤذي حمامة * تظل به آمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة * إذا خرجت منها فما أن تقادر
فيا ليت شعري هل تعمّر بعدنا * جياد فمعضني سيله فالظواهر
فبطن منى وحش كأن لم يسر به * مضاض ومن حيي عديّ عمائر
وقال عمرو أيضا يذكر بكرا وغسان ومن خلفهم في مكة بعدهم :
يا أيها الحيّ سيروا إن قصركم * أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
إنّا كما كنتم كنّا فغيّرنا * دهر فسوف كما صرنا تصيرونا
حثّوا المطيّ وأرخوا من أزمّتها * قبل الممات وقصّوا ما تقصّونا
“ 28 “
قد مال دهر علينا ثم أهلكنا * بالبغي فيه وبذء الناس تأسونا
وقال حسان بن ثابت الأنصاريّ يذكر الخزاع خزاعة بمكة ، ومسير الأوس والخزرج إلى المدينة ، وغسان إلى الشام :
فلما هبطنا بطن مرو تخزّعت * خزاعة منا في حلول كراكر
حموا كل واد من تهامة واحتموا * بسمر القنا والمرهفات البواتر
فكان لها المرباع في كل غادة * تشنّ بنجد والفجاج العوابر
خزاعتنا أهل اجتهاد وهجرة * وأنصارنا جند النبي المهاجر
وسرنا فلما أن هبطنا بيثرب * بلا وهن منا ولا بتشاجر
وجدنا بها رزقا غدا من بقية * من آثار عاد بالخلال الظواهر
فحلّت بها الأنصار ثم تبوأت * بيثربها دارا على خير طائر
بنو الخزرج الأخيار والأوس إنهم * حموها بفتيان الصباح البواكر
نفوا من طغى في الدهر عنها وديّنوا * يهودا بأطراف الرماح الحواطر
وسارت لنا سيّارة ذات قوة * بكوم المطايا والخيول الجماهر
يؤمّون نحو الشام حتى تمكنوا * ملوكا بأرض الشام فوق المنابر
يصيبون فضل القول من كل خطبة * إذا وصلوا إيمانهم بالمخاصر
أولاك بنو ماء السماء توارثوا * دمشقا بملك كابرا بعد كابر
قال الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى ، وبلغه أن أبا عمرو بن أمية يتواعده :
أتوعدني بنو عمرو ودوني * رجال لا ينهنها الوعيد
رجال من بني تميم بن عمرو * إلى أبياتهم يأوي الطريد
جحاجحة شياظمة كرام * مراجحة إذا فرع الحديد
خضارمة ملاوية ليوث * خلال بيوتهم كرم وجود
ربيع المعدمين وكل جار * إذا نزلت بهم سنة كئود
هم الرأس المقدّم من قريش * وعند بيوتهم تلقى الوفود
فكيف أخاف أو أخشى عدوا * ونصرهم إذا ادعوا عتيد
فليس بعادل بهم سواهم * طوال الدهر ما اختلف الجديد
ومن مكارم ابن المبارك
ما حدثنا به محمد بن عبد اللّه ، عن أبي منصور القزّاز ، عن أبي بكر الخطيب ، عن
“ 29 “
أبي محمد الخلّال ، عن إسماعيل بن محمد ، عن محمد بن حسن المقري ، سمعت عبد اللّه بن أحمد الزورقي ، سمعت محمد بن علي بن حسن بن شقيق ، سمعت أبي يقول : كان ابن المبارك رضي اللّه عنه إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون : نصحبك يا أبا عبد الرحمن ؟ فيقول لهم : هاتوا نفقاتكم ، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ، ثم يكتري لهم ، ويخرجهم من مرو إلى بغداد ، فلا يزال ينفق عليهم ، ويطعمهم أطيب الطعام والحلو ، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي ، وأكمل مروءة ، حتى يصلوا إلى مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإذا صاروا إلى المدينة قال لكل رجل منهم :
ما أمر عيالك أن تشتري لهم من متاع المدينة ؟
فيقول : كذا وكذا ، فيشتري لهم ، ويخرجهم من المدينة إلى مكة ، فإذا صاروا إلى مكة قال لكل رجل منهم : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة ؟
فيقول : كذا وكذا ، فيشتري لهم ، ويخرجهم من مكة ، فلا يزال ينفق عليهم حتى يصيروا إلى مرو ، فإذا وصل إلى مرو جصّص دورهم ، فإذا كان بعد ثلاثة أيام صنع لهم وليمة وكساهم ، فإذا أكلوا وشربوا دعا بصندوق ففتحه ودفع إلى كل واحد منهم صرّته بعد أن كتب عليها اسمه . قال أبي : أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة ، فقدم على الناس خمسة وعشرين خوانا فالوذج .
قال أبي : وبلغنا أنه قال للفضيل بن عياض : لولاك وأصحابك ما اتجرت . وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم .
ومن سماع أهل اللّه على قول ابن الدمينة
أما والراقصات بذات عرق * ومن صلى بنعمان الأراك
لقد أضمرت حبك في فؤادي * وما أضمرت حبا من سواك
سماعهم في الراقصات التي هل الإبل هم العارفين ، وذات عرق انبعاثها من أصل صحيح . ومن صلى بنعمان الأراك ، من طلب الوصال ليتنعّم بالرؤية .
والبيت الثاني على أصله فإنه متوجه .
وسماعهم في قول الصّمة وهو :
وحنّت قلوصي آخر الليل جنة * فيا روعة ما راع قلبي حنينها
فقلت لها حنّي فكل قرينة * مفارقها لا بدّ يوما قرينها
وقلت لها حنّي رويدا فإنني * وإياك تخفي غولة سنبينها
سماعهم في القلوص : مركب الحسن . وآخر الليل : انقضاء العمر . فيا روعة هول
“ 30 “
المطلع ، والروح والنفس قريبان يتفارقان بالموت ، تخفي غولة سنبينها يوم تشهد عليهم ألسنتهم .
ومن باب حنين الإبل وسيرها قوله :
ثورها ناشطة عقالها * قد ملأت من بدنها حلالها
فلم تزل أشواقه تسوقها * حتى رمت من الوجا رحالها
ما ذا على الناقة من غرامه * لو أنه أنصف أو رثا لها
أراد أن يشرب ماء حاجر * أربها تطلب أم كلالها
إنّ لها على القلوب ذمّة * لأنها قد عرفت بلبالها
كانت لها على الصبا تحيّة * أعجلها السائق أن تنالها
كم تسأل البارق عن سويقة * ولا يجيب عامدا سؤالها
خوفا على قلوبها إن عملت * إن الغوادي أدرست أطلالها
فعلّلوها بحديث حاجر * ولتصنع الفلاة ما بدا لها
وأمدت الفلاة دون خطوها * كأنها قد كرهت زوالها
ومن هذا الباب ما أنشدناه محمد بن عبد اللّه لأبي عبد اللّه البارع رحمه اللّه تعالى :
دع المطايا تسم الجنوبا * إنّ لها لنبأ عجيبا
حنينها وما اشتكت لغوبا * يشهد أن قد فارقت حبيبا
شامت بنجد بارقا كذوبا * أذكرها عهد هوى قريبا
فغادر الشوق لها حبيبا * يضرم في أكبادها لهيبا
تزرم إن ما استشرفت كثيبا * فإن بالرمل لها سقوبا
ما حملت إلا فتى كئيبا * يسرّ مما أعلنت نصيبا
يمسي إذا حنت لها مجيبا * لو غادر الشوق لها قلوبا
إذا لآثرن بهنّ النيبا * إن الغريب يسعد الغريبا
ولعلي بن أفلح من هذا الباب :
دعها لك الخير وما بدا لها * من الحنين ناشطا عقالها
ولا تعقها عن عقيق رامة * فإنها ذاكرة أفعالها
ولا تعلّلها بحيّ بابل * فهو أهاج بالجوى بلبالها
نشدتك اللّه إذا جئت الرّبى * فرد أضاها واستظلّ ضالها
وبارح الورق بشجو ثاكل * أطغى لها ريب الرّدى أطفالها
“ 31 “
وقال أبو نواس في النسيب :
لولا تذكر من ذكرت بحاجر * لم أبك فيه مواقد النيران
يا واقفين معي على الدار طلبا * غيري لها إن كنتما تقفان
منع الوقوف على المنازل طارق * أمر الدموع بمقلتي ونهاني
إنّا ليجمعنا البكاء وكلنا * نبكي على شجن من الأشجان
حماية إلهية
حدثنا عبد الرحمن ، ثنا أبو بكر الصوفي ، أنا أبو سعيد الحميري ، انا ابن باكويه ، سمعت محمد بن أحمد النجار ، سمعت أبا بكر الكتاني يقول : كنت بطريق مكة فإذا أنا بهميان تلمع منه الدنانير ، فهممت أن آخذه فأحمله إلى فقراء مكة ، فهتف بي هاتف من ورائي : إن أخذته سلبناك فقرك .
وبالإسناد إلى البخاري قال : أخبرني أبو علي الروزبادي قال : سمعت بنان الجمال يقول : دخلت البرية على طريق تبوك وحدي ، فاستوحشت ، فإذا بهاتف يهتف : يا بنان ، نقضت العهد ، لم تستوحش ؟ أليس حبيبك معك ؟
ومن باب هوان الدنيا على أهل اللّه
ما حدثنا به محمد بن الفضل ، ثنا أبو منصور ، ثنا أبو بكر بن ثابت ، ثنا عبد العزيز القرميني ، ثنا ابن جهضم ، ثنا الخالدي ، ثنا ابن مسروق ، حدثني محمد بن سهل البخاري قال : كنت أمشي في طريق مكة ، إذ رأيت رجلا من أهل المغرب على بغل وبين يديه مناد ينادي : من أصاب هميانا فله ألف دينار ،
فإذا إنسان أعرج عليه أطمار رثة يقول للمغربي :
أيش علامة الهميان ؟ فقال : كذا وكذا ، وفيه بضائع للقوم ، وأنا أعطي من مالي ألف دينار .
فقال الفقير : من يقرأ الكتابة ؟ فقلت : أنا ، قال : اعدلوا إلى ناحية ، فعدلنا ، فأخرج الهميان ، فجعل المغربي يقول : حبتين لفلانة بنت فلان بخمسمائة دينار ، وحبة لفلان بمائة دينار ، وجعل يعدّ فإذا هو كما قال ، فحلّ المغربي هميانه وقال : خذ ألف دينار التي وعدت ، فقال الأعرج الفقير : لو كان قيمة الهميان عندي بعرتين ما كنت تراه ، فكيف آخذ منك ألف دينار على ما هذا قيمته ، ومضى ولم يأخذ منه شيئا .
أخبرني الوجيه الفاسي بمدينة مائد ، في سنة إحدى وستمائة قال : كان ببخارى والي
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin