الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء الثالث
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 32 “
يظلم ويجور ، فركب في يوم شديد البرد ، فرأى في بعض الأزقة كلبا أجرب قد أنكاه البرد ، فدمعت عيناه وأخذته عليه شفقة ، فقال لبعض جماعته : احمل هذا الكلب إلى البيت حتى أرجع ، فلما رجع من وجهه إلى البيت تولى موضعا من داره جعله مربطا لذلك الكلب ، وأطعمه وسقاه ودهنه وكساه جلا ، وأوقد حوله نارا يستدفي بها على بعد . فلم يلبث الوالي بعد هذه الفعلة سوى ليلتين ومات رحمه اللّه . فرآه بعض الصالحين ممن كان يعرف ظلمه وجوره قال : ما فعل اللّه تعالى بك ؟ فقال له : يا هذا ، أوقفني الحق بين يديه ، وقال لي :
كنت كلبا فوهبناك لكلب ، فغفر لي ، وضمن عني ، وأدخلني الجنة . فقلت : يصدق هذا ما أخبر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بغي من بغايا بني إسرائيل رأت كلبا على بئر يلهث عطشا ، فنزعت موقها من رجلها ، واستقت له ، وسقته وانصرفت ، فشكر اللّه تعالى فعلها وغفر لها .
فتوة ومروءة
حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي بكر الصوفي ، عن علي الحبري ، عن ابن باكويه ، عن أبي الحسن الحنظلي ، عن أحمد بن علي الإصطخري ، عن أبي عمر الدمشقي قال : خرجنا مع أبي عبد اللّه بن الجلاء إلى مكة ، فمكثنا أياما لم نأكل ، فوقعنا في البرية إلى أعرابية عندها شاة ، فقلنا لها : بكم هذه الشاة ؟ قالت : بخمسين درهما ، فقلنا لها : أحسني ، فقالت : بخمسة دراهم ، فقلنا لها : تهزئين ؟ فقالت : لا واللّه ، ولكن سألتموني الإحسان ، ولو أمكنني لما أخذت شيئا . فقال ابن الجلاء : أيش معكم ؟ قلنا : ستمائة درهم .
فقال :
أعطوها واتركوا الشاة عليها . فما سافرنا سفرا أطيب منها .
سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
استنصار دوس ذي ثعلبان قيصر ملك الروم على ذي نواس
روينا من حديث ابن إسحاق ، عن المكي ، عن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس ، أن زرعة ذا نواس لما قتل أصحاب الأخدود وقد ذكرنا قصته في هذا الكتاب ، أفلت رجل منهم يقال له دوس ذو ثعلبان ، فذهب على فرس له يركض عليه حتى أعجزهم في الرمل ، فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم ذو نواس ، واستنصره ، فقال : بعدت بلادك ، ونأت دارك عنّا ، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة ، فإنه على ديننا فينصرك . فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره . فلما قدم على النجاشي بعث معه رجلا من الحبشة يقال له
“ 33 “
أرباط ، وقال : إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها ، وأخرب ثلث بلادها . فلما دخلوا أرض اليمن وهم في سبعين ألفا من الحبشة ، من جملتهم أبرهة الأشرم أحد أجناد أرباط ، وكان طريقهم إلى اليمن في البحر ، فلما نزلوا بساحل اليمن سار إليهم ذو نواس في حمير ، ومن أطاعه من قبائل اليمن ، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه ، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجّه فرسه في البحر فضربه فدخل به حتى لجّج في البحر ، فكان آخر العهد به ، فدخل أرباط اليمن ، ففعل ما أمره به النجاشي من القتل والتخريب .
فقال ذو جدن فيما أصاب أهل اليمن :
دعيني لا أبا لك أن تطيقي * لحاك اللّه قد أنزفت ريقي
لدى عزف القيان إذا انتشينا * وإذ نسقى من الخمر الرحيق
وشرب الخمر ليس عليّ عار * إذا لم يشكني فيه رفيقي
فإن الموت لا ينهاه ناه * ولو شرب الشفاء مع النسوق
ولا مترهب في أسطوان * يناطح حدره بيض الأنوق
وغمدان الذي حدّثت عنه * بنوه مسمّكا في رأس نيق
بمنهمة وأسفله حروث * وحرّ الموحل اللثق اللزيق
مصابيح السليط تلوح فيه * إذا تمسي كتوماض البروق
ونخلته التي غرست إليه * يكاد البسر يهصر بالغدوق
فأصبح بعد جثته رمادا * وغيّر حسنه لهب الحريق
وأسلم ذو نواس مستكينا * وحذر قومه ضنك المضيق
المنهمة : التجارة . والحروث : أرض الزرع . وحرّ الموحل : يعني الطين الحرّ الذي هو كالوحل من شدة ريّه .
وقال ذو جدن الحميري أيضا :
هونك ما أن يردّ الدمع ما فاتا * لا تهلكا أسفا في إثر من ماتا
أبعد بينون لا عين ولا أثر * وبعد سلحين يبني الناس أبياتا
بينون وسلحين وعمدان : من حصون اليمن الذي هدم أرباط .
زاد ابن هشام في هذا الحديث ما قاله ربيعة بن عبد ياليل الثقفي في ذلك :
لعمرك ما للفتى من مفرّ * مع الموت يلحقه والكبر
لعمرك ما للفتى صخرة * لعمرك ما إن له من وزر
أبعد قبائل من حمير * أبيدوا صباحا بذات العبر
“ 34 “
بألف ألوف وحرابة * كمثل السماء قبيل المطر
بضمر صباحهم المقربات * ينفون من قاتلوا بالذفر
سعالى مثل عديد التراب * تيبّس منهم رطاب الشجر
يعني من أنفاسهم . وذات العبر : الداهية التي فيها عبر العين ، أي سخنتها . وصار ملك اليمن بين أرباط وأبرهة ، وكان أرباط فوق أبرهة . فأقام أرباط سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد ، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك ، وكان في جند من الحبشة ، فانحاز إلى كل واحد من الحبشة طائفة ، ثم سار أحدهما على الآخر ، وكان لأرباط في صنعاء وأحوازها ، وكان لأبرهة الجند وأحوازها ، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض ، أرسل أبرهة إلى أرباط : إنك لا تصنع شيئا بأن تلقي الحبشة بعضهم ببعض فتفني ما بيننا فيضعف أمرها ، فابرز إليّ بنفسك ، وأبرز إليك ، فمن ظهر على صاحبه منّا كان الأمر له .
فقال أرباط :
أنصفت . وكان أرباط طويلا في الرجال وسيما عظيم الخلق . وكان أبرهة قصيرا دحداحة ، وكان ذا دين في النصرانية ، وعقل وحلم . فجعل أبرهة خلفه عبدا له يحمي ظهره يقال له عتودة ، فلما دنا كل واحد من صاحبه رفع أرباط الحربة يريد نافوخ أبرهة فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفتيه ، فبذلك سمي أبرهة الأشرم ، وحمل غلام أبرهة عتودة على أرباط من خلف أبرهة فزرقه بالحربة فقتله . فانصرف جند أرباط إلى أبرهة واجتمعت عليه الحبشة باليمن .
وكان ما وقع من هذا الأمر كله بين أبرهة وأرباط عن غير علم ولا أمر من النجاشي ملك الحبشة ، وكان مسكنه باكسوم من بلاد الحبشة ، فلما بلغه ذلك غضب غضبا شديدا وقال : عدا على أميري بغير أمري فقتله ، وما كنت أمّرته ، ثم حلف النجاشي لا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ، ويجزّ ناصيته . فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه ، ثم ملأ جرابا من تراب أرض اليمن ، ثم بعث به إلى النجاشي ، وكتب إليه : أيها الملك ، إنما كان أرباط عبدك ، وأنا عبدك ، اختلفنا في أمرك وكلنا طاعة لك ، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه ، وأضبط وأسوس لهم منه ، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك ، وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه ، فيبرّ بذلك قسمه .
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه ، وكتب إليه : أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري . فأقام أبرهة باليمن إلى أن هلك . وقد ذكرت قصة هلاكه في حديث الفيل .
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن القاسم بن هاشم ، عن علي بن عباس ، عن إسماعيل بن عيّاش عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد أن بني إسرائيل لم يكن فيهم
“ 35 “
ملك إلا ومعه رجل حكيم ، فإذا رآه غضبان كتب له صحائف ، في كل صحيفة ارحم المسكين ، واخش الموت ، واذكر الآخرة . فكلما أخذ الملك صحيفة قطعها حتى يسكن غضبه .
وحدثنا عبد الصمد بن علي قال : كان ببلاد فارس في زمان الأكاسرة ينادي كل يوم مناد على باب قصر الملك : لا يكون ملك إلا بالرجال ، ولا يثبت الرجال إلا بالمال ، ولا يحصل المال إلا بالعمارة ، ولا تصحّ العمارة إلا بالعدل .
وحدثنا بعض الهنود أن الملك فيهم إذا خرج ركب على الفيل وبين يديه راكب مشرف على الناس ينادي بلسانهم وفي يده طشت من ذهب فيه جمجمة إنسان ، وفي يده اليمنى قضيب ، فيقول : يا أيها الناس ، وقال : ينظر إلى الملك ويقول : يا أيها الملك ، أنت ملك الناس قد ركبت على ملك السباع وإلى هذا مصيرك ، ويشير بالقضيب إلى الجمجمة ، والملك يبكي وينظر في أمور الناس إلى أن يرجع .
ووقفت في كتاب « سر الأسرار » لأرسطو على دائرة اصطنعها للإسكندر يوصيه فيها :
تتضمن العالم بستان سياجه الدولة .
الدولة سلطان يحجبه السّنة . السّنة سياسة يسوسها الملك . الملك راع يعضّده الجيش . الجيش أعوان يكفلهم المال .
المال رزق تجمعه الرعيّة . الرعية عبيد يعبدهم العدل . العدل مألوف فيه صلاح العالم . تصل الكلام بأوله .
وقال عيسى ابن مريم عليهما السلام : معاشر الفقهاء ، قعدتم على طريق الآخرة ، فلا أنتم مشيتم فوصلتم إليها ، ولا أنتم تركتم أحدا يجوزكم إليها ، فالويل لمن اغتر بكم .
روينا من حديث ابن مروان ، عن عبد اللّه بن مسلم ، عن الرياشي ، عن الأصمعي قال : كان بلال بن سعد يصلي الليل أجمع ، فكان إذا غلبه النوم في الشتاء ، وكان في داره بركة ، فيجيء فيطرح عنه ثيابه وينغمس في الماء ليذهب عنه النوم ، فعوتب في ذلك فقال :
ماء البركة في الدنيا خير من صديد أهل جهنم .
وكان عندنا بإشبيلية رجل عابد ، حسن الصوت ، كثير الاجتهاد ، سريع الدمعة ، دائم العبرة ، كثير الفكرة والتهجّد ، بتّ معه ليالي عدّة فلم يكن يفتر ، فربما أسمعه في بعض الأحايين ينشد بصوت طيّب غرد ، ودموعه تنحدر على خدّيه :
قطع الليل رجال * ورجال وصلوه
رقدوا فيه أناس * وأناس سهروه
لا يميلون إلى النو * م ولا يستعذبوه
فكأن النوم شيء * لم يكونوا يعرفوه
“ 36 “
لبسوا ثوبا من الخد * مة حتى خلعوه
مع جلباب من الحز * ن فما أن نزعوه
وروينا من حديث الدينوري ، عن سعيد بن عمر الأزدي ، عن أبيه ، عن يونس بن حازم قال : قال العتابي : مررت بدير فصحت : يا راهب ، فلم يجبني أحد حتى قلت : يا صاحب الدير ، فإذا به قد أشرف عليّ ، فقلت له : ما منعك أن تجيبني ؟ قال : لأنك سمّيتني بغير اسمي ، فقلت : وما اسمك ؟ قال : الكلب العقور ، وإنما حبست نفسي في هذا الموضع لكي لا أعقر الناس .
وقال العتّابي أيضا : مررت بدير فإذا راهب ينادي ، فرفعت رأسي إليه فقال لي :
ويحك ، هب أن المسئ قد عفي عنه ، أليس قد فاته ثواب الصالحين ؟
وقال أبو سليمان الداراني : لقيت راهبا فقلت له : يا راهب كيف ترى الدهر ؟ فقال :
يخلق الأبدان ، ويجدد الآمال ، ويباعد الأمنية ، ويقرّب المنية . فقلت له : فكيف ترى أهله ؟ فقال : من ظفر بها نصب ، ومن فاتته تعب . قال : فما الغنى عنه ؟ قال : قطع الرجاء منه . قال : فقلت له : فأي الأصحاب أبرّ وأوفى ؟ قال : العمل الصالح والتقى . قلت : فأين المخرج ؟ قال : في سلوك المنهج ، قلت : وما هو ؟ قال : بذل المجهود وخلع الراحة .
قلت : فأوصني ، قال : قد فعلت .
رويناه من حديث المالكي ، عن أحمد بن عبّاد ، عن أحمد بن أبي الحواري ، عن أبي سليمان ، ورويناه من حديث العتابي قبله من حديثه أيضا ، عن علي بن الحسين عنه .
واقعة لبعض الفقراء
حدثنا عبد اللّه ابن الأستاذ بمرشانة بدار شمس العابدات أم الفقراء ، رأى بعض الفقراء في واقعته أبا مدين وبعض مشايخ الصوفية ، فقال بعضهم لأبي مدين : ما معنى الوصول ؟ فقال : إذا دلك به عليه كنت منه وإليه ، وإذا أفناك عن الإحساس كنت في حضرة الإيناس ، وإذا كاشفك بحبه لم تتلذذ إلا بقربه ، وإذا غيّبك عن شهودك تجلّى لك من وجودك .
قلت : وأفدت ليلة في واقعة ، وذلك أني بتّ في جماعة من الصالحين ، منهم أبو العباس الحريري الإمام بزقاق القناديل بمصر ، وأخوه محمد الخياط ، وعبد اللّه المروزي ، ومحمد الهاشمي اليشكري ، ومحمد بن أبي الفضل ، فأريت نفسي والجماعة في بيت
“ 37 “
شديد الظلمة ، وليس لنا فيه نور سوى ما ينبعث من ذواتنا ، فكانت الأنوار تنفهق علينا من أجسامنا فنضيء بها ، فدخل علينا شخص من أحسن الناس وجها ومنطقا ، فقال : أنا رسول الحق إليكم ، فكنت أقول له : فما جئت به في رسالتك ؟ فقال : اعلموا أن الخير في الوجود ، والشر في العدم ، أوجد الإنسان بجوده ، وجعله واجدا ينافي وجوده ، تخلق بأسمائه وصفاته ، وفني عنها بمشاهدة ذاته ، فرأى نفسه بنفسه ، وعاد العدد إلى أسه ، فكان هو ولا أنت .
فأخبرت الجماعة بالواقعة ، فسروا وشكروا اللّه .
ثم وضعت رأسي في عبّي فنظمت في نفسي أبياتا في المعرفة ، ونام أصحابي فاستيقظ عبد اللّه وناداني : يا أبا عبد اللّه . فلم أجبه كأني نائم . فقال لي : ما أنت بنائم ، أنت تعمل شعرا في معرفة اللّه وتوحيده . فرفعت رأسي وقلت له : من أين لك هذا ؟ فقال لي : رأيتك تعقد شبكة رفيعة ، فأوّلت الخيوط المنثورة تعقدها شبكة معاني متفرقة تجمعها ، وكلاما منثورا تنظمه . فقلت : هذا يعمل شعرا . قلت له : صدقت ، فمن أين عرفت أنه معرفة اللّه وتوحيده ؟ قال : قلت : الشبكة لا يصاد فيها إلا ذو روح حيّ عزيز المأخذ ، فلم أجد شعرا فيه روح وحياة وعزة إلا فيما يتعلق باللّه تعالى . فكان تأويل رؤياه أعجب إلينا من الرؤيا رضي اللّه عنهم أجمعين .
حكاية من لم يقيّد جوارحه أتعب قلبه
حدثنا أبو محمد بن يحيى ، ثنا المبارك بن علي بن محمد ، عن عبد الملك بن بشران ، عن أحمد بن إبراهيم الكندي ، عن جعفر الخرائطي ، عن أبي العباس المبرّد ، عن هشام ، عن معمر بن المثنى ، قال : حجّ عبد الملك بن مروان ، وحج معه خالد بن يزيد بن معاوية ، وكان من رجالات قريش المعدودين وعلمائهم ، وكان عظيم القدر ، جليل المنزلة ، مهيب المجلس ، موقرا معظّما عند عبد الملك ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام ، فعشقها عشقا شديدا ، وأخذت بجميع قلبه ، وتغير عليه الحال ، ولم يملك من أمره شيئا . فلما أراد عبد الملك القفول ، همّ خالد بالتخلف عنه فبعث إليه فسأله عن أمره ، فقال : يا أمير المؤمنين ، رملة بنت الزبير ، رأيتها تطوّف بالبيت فأذهلت عقلي ، فو اللّه ما أبديت لك ما بي حتى عيل صبري ، ولقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله ، والسلو على قلبي فامتنع منه . فأطال عبد الملك التعجب من ذلك وقال : ما كنت أقول إن الهوى يستأثر مثلك . فقال خالد : وإني لأشدّ تعجبا من تعجبك مني ، فقد
“ 38 “
كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس : الأعراب ، والشعراء . أما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء والغزل ، فمال طبعهم إلى النساء ، فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى ، فاستسلموا له منقادين . وأما الأعراب ، فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها .
وجملة أمري ما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحرم ، وحسن عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه . فتبسّم عبد الملك وقال : أوكل هذا بلغ بك ؟ فقال : واللّه ما عرفت هذه البليّة قبل وقتي هذا . فوجّه عبد الملك إلى آل الزبير يخطب رملة على خالد ، فذكروا ذلك ، فقالت : لا واللّه أو يطلّق نساءه . فطلّق امرأتين كانتا عنده وتزوّجها وظعن بها إلى الشام .
وفيها يقول :
أليس يزيد الشوق في كل ليلة * وفي كل يوم من حبيبتنا قربا
خليليّ ما من ساعة تذكرانها * من الدهر إلا فرجت عني الكربا
أحبّ بني العوّام طرّا لحبّها * ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى * لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
ومما وجد بخطّ الإمام العلّامة القاضي بدر الدين بن شهبة رحمه اللّه تتمة هذه الحكاية . فلما وقف عبد الملك على الأبيات نظم بيتا ودسّه ليكيد به خالدا ، لأنه كان يروم الخلافة كأبيه يزيد وجدّه معاوية ، فقال عبد الملك : يا خالد ، أأنت القائل :
فإن تسلمي أسلم وإن تتنصّري * تحطّ رجال بين أعينهم صلبا ؟
فقال خالد : لعن اللّه قائل هذا البيت ، ولم يعلم خالد قائله . فخجل عبد الملك ولام نفسه .
كنت يوما أطوف وقد عراني حال أعرفه ، فخرجت عن البلاط من أجل الناس ، وطفت على الرمل فحضرتني أبيات فأنشدتها أسمع نفسي بها ومن يليني لو كان هناك أحد وأنا أقول وأبكي :
ليت شعري هل دروا * أيّ قلب ملكوا ؟
وفؤادي لو درى * أيّ شعب سلكوا
أتراهم سلموا * أم تراهم هلكوا ؟
حار أرباب الهوى * في الهوى وارتبكوا
فلم أشعر إلا وضربة بين كتفيّ من كفّ ألين من الخزّ ، فرددت وجهي فرأيت جارية من بنات الروم لم أر أحسن وجها ، ولا أعذب منطقا ، ولا أرقّ حاشية ، ولا ألطف معنى ،
“ 39 “
ولا أظرف محاورة منها . قد فاقت النساء ظرفا ، وأدبا ، وجمالا ، ومعرفة . فقالت : يا سيدي ، كيف قلت ؟ فقلت :
ليت شعري هل دروا * أيّ قلب ملكوا ؟
فقالت : عجبا منك وأنت عارف زمانك تقول مثل هذا ؟ أليس كل مملوك معروف ؟
وهل يصح الملك إلا بعد المعرفة ؟ وتمني الشعور يؤذن بعدم المعرفة ، والطريق لسان صدق ، فكيف يتجوّز مثلك ؟ قل : فما ذا قلت بعده ؟ قلت :
وفؤادي لو درى * أيّ شعب سلكوا
فقالت : الشعب الذي بين الشغاف والفؤاد ، وهو المانع له من المعرفة به ، فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إلى معرفته ؟ والطريق لسان صدق ، فكيف يتجوّز مثلك يا سيدي ؟ قل : فما ذا قلت بعده ؟
قلت :
أتراهم سلموا * أم تراهم هلكوا ؟
فقالت : أما هم فسلموا ، ولكن عنك ينبغي أن تسأل نفسك ، هل هلكت أم سلمت ؟
يا سيدي قل : فما ذا فعلت بعده ؟ قلت :
حار أرباب الهوى * في الهوى وارتبكوا
فصاحت وقالت : يا عجبا كيف يبقى للمشغوف فضلة يجار بها ؟
والهوى شأنه التعميم يخدّر الحواس ، ويذهب بالعقول ، ويدهش الخواطر ، ويذهب بصاحبه في الذاهبين ، فأين الحيرة هنا ؟ ومن هنا باق فيحار ؟
والطريق لسان صدق ، والتجوّز على مثلك لا يليق . قلت : يا بنت الخالة ، ما اسمك ؟ قالت : قرة العين ، قلت لها : لي . ومن شعري فيها ما قلته :
ما رحلوا يوم بانوا البزل العيسا * إلا وقد حملوا فيها الطواويسا
من كل فاتكة الألحاظ مالكة * تخالها فوق عرش الدّرّ بلقيسا
إذا تمشت على صرح الزجاج ترى * شمسا على فلك في حجر إدريسا
تحيي إذا قتلت باللحظ منطقها * كأنها عندما تحيي بها عيسا
توارتها لوح ساقيها سنى وأنا * أتلو وأدرسها كأنني موسى
أسقفّة من بنات الروم راهبة * ترى عليها من الأنوار ناموسا
وحشية ما لها أنس قد اتخذت * في بيت ناموسها للذكر ناووسا
قد أعجزت كل علّام بملّتنا * وداوديا وحبرا ثم قسيسا
إن أومأت تطلب الإنجيل تحسبها * أقسّة أو بطاريقا شماميسا
“ 40 “
ناديت إذ رحلت للبين ناقتها * يا حادي العيس لا تحدو بها العيسا
عيّيت أجياد صبري يوم بينهم * على الطريق كراديسا كراديسا
سألت إذ بلغت نفسي تراقيها * ذاك الجمال وذاك اللطف تنفيسا
فأسلمت ووقانا اللّه شرّتها * وزحزح الملك المنصور إبليسا
وكان لنا أهل تقرّ العين بها ففرّق الدهر بيني وبينها ، فتذكرتها ومنزلها بالحلة من بغداد فقلت :
خليليّ عوجا بالكثيب وعرّجا * على لعلع واطلب مياه يلملم
فإن بها من قد علمت ومن لهم * صيامي وحجّي واعتماري وموسمي
فلا أنس يوما بالمحصّب من منى * وبالمنحر الأعلى أمورا وزمزم
محصّبهم قلبي لرمي جمارهم * ومنحرهم نفسي ومشربهم دمي
فيا حادي الأجمال إن جئت حاجرا * فقف بالمطايا ساعة ثم سلّم
وناد القباب الحمر من جانب الحمى * تحيّة مشتاق إليكم متيّم
فإن سلموا فأعد السلام مع الصبا * وإن سكتوا فارحل بها وتقدّم
إلى نهر عيسى حيث حلّت ركابهم * وحيث الخيام البيض من جانب الفم
وناد بوعد والرباب وزينب * وهند وسلمى ثم لبنى وزمزم
وسلهنّ هل بالحلة الغادة التي * تريك سنا البيضاء عند التبسّم
ولنا من باب النسب ، والإشارة للمقام الأعلى ، والمنظر الأجلى
سلامي عن سلمى ومن حلّ بالحمى * وحق لمثلي رقة أن يسلما
وما ذا عليها لو تردّ تحية * علينا ولكن لا احتكام إلى الدما
سروا وظلام الليل أرخى سدوله * فقلت لها صبّا غريبا متيّما
أحاطت به الأشواق سورا وأرشدت * له راشفات النبل أيّان يمّما
فأبدت ثناياها وأومض بارق * فلم أدر من شق الحنادس منهما
وقالت : أما يكفيه أني بقلبه * يشاهدني سرا وجهرا أما أما ؟
خبر الحية الطائفة بالبيت
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن سعيد بن سالم ، عن سالم ، عن عثمان بن ساج ، عن بشر بن تميم ، عن أبي الطفيل قال : كانت امرأة من الجن في الجاهلية
“ 41 “
تسكن ذا طوى ، وكان لها ابن ولم يكن ولد غيره ، وكانت تحبه حبا شديدا ، وكان شريفا في قومه ، فتزوج وأتى زوجته ، فلما كان يوم سابعه قال لأمه : يا أمّه ، إني أحب أن أطوف بالكعبة سبعا نهارا ، قالت له أمه : أي بنيّ ، إني أخاف عليك سفهاء قريش ، فقال : أرجو السلامة ، فأذنت له ، فولى في صورة جان ، فلما أدبر جعلت تعوّذه وتقول :
أعيذه بالكعبة المستورة * ودعوات ابن أبي محذورة
وما تلى محمد من سورة * إني إلى حياته فقيرة
وإنني بعيشه مسرورة فمضى الجان نحو الطواف فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم أقبل منقلبا حتى إذا كان ببعض دور بني سهم عرض له شاب من بني سهم أحمر أكشف أزرق أحول أعسر فقتله فثارت بمكة غبرة حتى لم تبصر لها الجبال . قال أبو الطفيل :
وبلغنا أنه إنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن ، قال : فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن ، فكان فيهم سبعون شيخا أصلع سوى الشباب ، قال :
فنهضت بنو سهم وخلفاؤها ومواليها وعبيدها ، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية ، فما تركوا حية ، ولا عقربا ، ولا خنفساء ، ولا شيئا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه ، فأقاموا بذلك ثلاثا ، فسمعوا في الليلة الثالثة على أبي قبيس هاتفا يهتف بصوت له جهوري يسمع بين الجبلين : يا معشر قريش ، اللّه اللّه ، فإن لكم أحلاما وعقولا ، اعذرونا اعذرونا من بني سهم ، فقد قتلوا منّا أضعاف ما قتلنا منهم ، ادخلوا بيننا وبينهم بصلح نعطيهم ويعطونا العهد والميثاق أن لا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدا ، ففعلت ذلك قريش واستوثقوا لبعضهم من بعض ، فسمّيت بنو سهم العياطلة قتلة الجن .
ما جاء من الحكم في مثل هذه الواقعة
حدثنا الضرير إبراهيم بن سليمان الصوفي الخابوري من دير الرمان بحلب قال :
كنت بذي نصر ، فخرج رجل يحتطب لعياله ، ففقد أياما حتى حزن عليه أهله ، فدخل عليهم بعد ذلك ضعيفا ، متغير اللون ، كاسف البال ، أثر الرعب والجزع عليه ظاهر ، قال :
فسألناه عن شأنه ، قال : بينا أنا أحتطب إذ عرضت لي حية فقتلتها ، فغشي عليّ ، وغبت عن نفسي ، فما أفقت إلا وأنا بأرض لا أعرفها ، بين قوم لا أعرفهم ، فأخذني جماعة منهم فجاءوا بي إلى شيخ فيهم كبير هو زعيمهم ، فمثلوني بين يديه ، فقال : ما شأنكم ؟ فقالوا :
هذا قتل ابن عمنا ، وأشاروا إليّ ، فقد لنا منه ، فقال الشيخ : ما تقول ؟ فقلت : لا أعرف ما
“ 42 “
يقولون ، إنما أنا رجل كنت أحتطب فعرضت لي حية فقتلتها ، فقالوا : ذلك ابن عمنا ، فقال ذلك الزعيم : امسكوه عندكم واستوصوا به خيرا حتى أرى في أمركم وأمره ، فأخذوني إليهم ، وجاءوا بأطعمة لا أعرف منها سوى اللبن ، فكنت أشربه لا أعدل إلى غيره مدة هذه الأيام التي غبت فيها عنكم ، فبينا أنا على ذلك إذ جاءوني فأخذوني وحضروا بي عند ذلك الشيخ ، فذكروا مثل مقالتهم الأولى من الدعوى ، فسألني الشيخ ، فذكرت له الأمر على ما جرى ، فقال الشيخ للقوم : ما لكم عليه حق ، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « من تصوّر في غير صورته فقتل ، فلا عقل فيه ولا قود » ، وصاحبكم تصوّر في صورة حية . فخلّوا سبيلي ، فقلت : يا شيخ ، وهل رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقال : نعم ، كنت في وفد جن نصيبين حين قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وما عاش لليوم من ذلك اليوم غيري ، فهؤلاء الجن قومنا ، يتحاكمون إلينا في أمورهم ، فأحكم بينهم . ثم قال لهم : ردّوه إلى حيث أخذتموه ، فما شعرت إلا وأنا في موضعي ، فأخذت عدّتي وجئت . فهذا ما كان من خبري في غيبتي .
خبر حية أخرى طائفة بالبيت
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج ، عن عبد اللّه بن عبيد ، عن عمير ، عن طلق بن حبيب قال : كنا جلوسا مع عبد اللّه بن عمرو بن العاص في الحجر إذ قلص الظل ، وقامت المجالس ، إذا بأيّم طالع من هذا الباب ، يعني باب بني شيبة ، فأشرفت له عيون الناس ، فطاف بالبيت سبعا ، وصلى ركعتين وراء المقام ، فقمنا إليه ، فقلنا له : ألا أيها المعتمر ، قد قضى اللّه نسكك ، وإن بأرضنا عبيدا وسفهاء وإنّا نخشى عليك منهم ، فكوّم برأسه كومة بطحاء ، فوضع ذنبه عليها ، فسما في السماء حتى مثل علينا فما نراه . قال أبو محمد الخزاعي : الأيّم الحية الذكر .
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ كانوا أهل نصيبين ، وكانوا سبعة : حسا ، ومسا ، وشاصرا ، وناصرا ، وابنا الأرب ، وأبنين ، والأخصم . هذا من حديث محمد بن إسحاق .
وأما حديث إسحاق بن عبد اللّه ، عن أبي جعفر ، فذكر منهم الأذريان والأحقب .
خبر الحيّة الشهيدة العابدة
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن سليمان بن أحمد ، ثنا مطّلب بن شعيب ، عن عبد اللّه بن صالح ، عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون ، عن معاذ بن عبد اللّه بن معمر ، قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان رضي اللّه عنه ، فجاء رجل فقال : يا أمير
“ 43 “
المؤمنين ، بينا أنا بفلاة كذا وكذا ، إذا إعصاران قد أقبلت إحداهما من مكان والأخرى من مكان آخر ، فالتقتا واعتركتا ثم افترقتا ، وإحداهما أقل منها حين جاءت ، فذهبت حتى جئت معتركيهما ، فإذا من الحيات شيء ما رأيت مثله قطّ غيره ، فإذا ريح مسك من بعضها ، فجعلت أقلب الحيات أنظر من أيّها هذه الرائحة ، فإذا ذلك من حية صفراء دقيقة . قال أبو محمد بن حيان في حديثه : تتثنى ببطن أبيض ينفح منها ريح المسك . فقلت لأصحابي : امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير أمر هذه الحية . قال : فلما لبثت أن ماتت ، فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها . وفي حديث ابن معمر : في عمامتي . قال ابن حيان : ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها ، وأدركت أصحابي في المتعشى . قال : فو اللّه إنّا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب ، فقالت واحدة منهن : أيكم دفن عمرا ؟ قلنا : ومن عمرو ؟ قالت : أيكم دفن الحية ؟
قال : قلت : أنا . فقالت : أما واللّه لقد دفنت صوّاما قوّاما يأمر بما أنزل اللّه عز وجل ، ولقد آمن بنبيكم صلى اللّه عليه وسلم ، وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة .
وفي حديث ابن معمر بعد أن ذكر دفنها : فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد ولا أراه ، فقال : يا عبد اللّه ، ما هذا الذي صنعت ؟ فأخبرته بالذي رأيت ، فقال : إنك قد هديت ، هذان حيّان من الجن : بني شيبان وبني أقبش ، التقوا فكان من القتلى ما رأيت ، فاستشهد الذي أخذته ، فكان من الذين استمعوا الوحي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
وفي حديث ابن حيان ، قال الرجل : فلما قضينا حجّنا مررت بعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بالمدينة ، فأنبأته بأمر الحية ، فقال : صدقت ، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :
« لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة » .
إني رأيت أحد عشر كوكبا
وهي : حرنان ، والطارق ، والدّيّال ، والكتفان ويقال : ذو الكتفين ، ووناب ، وعمودان ، والفلق ، والصروح ، والضياء ، والنور ، وقابس ، والمضبح ، وذو الفرع ، يعني بالضياء ، والنور ، والشمس ، والقمر .
مفارقة حبيب
روينا من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا ، عن محمد بن سلام قال : احتضر سيبويه النحوي ، فوضع رأسه في حجر أخيه ، فقطرت قطرة من دموع أخيه على خده ، فأفاق من غشيته فقال :
“ 44 “
أخيّين كنا فرّق الدهر بيننا * إلى أمد الأقصى ومن يأمن الدهرا
خبر شق وسطيح مع ملك اليمن
قال ابن إسحاق : كان ربيعة بن نصر ملك اليمن فرأى رؤيا هالته وفظع بها ، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائقا ولا منجّما إلا جمعه إليه ، فقال لهم : إني رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها ، فأخبروني بها وبتعبيرها ، قالوا له : اقصصها علينا نخبرك بتأويلها ، فقال : إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها ، لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها ، فقال له رجل : إن أردت علم ذلك فابعث إلى شق وسطيح ، فبعث إليهما ، فقدم عليه سطيح وهو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان ، فقال له الملك : إني رأيت رؤيا فأخبرني بها وبتأويلها ، قال : افعل ، رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة . فقال له الملك : ما أخطأت منها شيئا ، فما عندك من تأويلها ؟ قال : أحلف بما بين الحرّتين من حنش ، لتزلن أرضكم الحبش ، فلتملكنّ ما بين أبين وجرش . فقال الملك : يا سطيح ، إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى هو كائن ؟ أفي زماني أم بعده ؟ قال : لا بل بعده بحين ، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين ، قال : أفيدوم ذلك في ملكهم أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع لبضع وسبعين تمضين من السنين ، ثم يقتلون ، ويخرجون منها هاربين . قال : ومن يلي ذلك من قتلهم ؟
قال : يليه أرم ذي يزن ، يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحدا منهم باليمن . قال : أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع . قال : ومن يقطعه ؟ قال : نبيّ زكي يأتيه الوحي من قبل العلي . قال : وممن هذا النبي ؟ قال : رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر ، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر . قال : وهل للدهر من آخر ؟ قال : نعم ، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، يسعد فيه المحسنون ، ويشقى فيه المسيئون . قال : أحق ما تخبرني ؟ قال : نعم ، والشفق والغسق والفلق إذا اتّسق ، إن ما أنبأتك به لحق .
ثم قدم عليه بعد ذلك شق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قسز بن عبقر بن أنمار بن نزار ، فقال له كقوله لسطيح ، وكتمه ما قال سطيح ، لينظر أيتفقان أم يختلفان ؟
قال شق : نعم ، رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة ، فأكلت كل ذات نسمة . قال الملك ما أخطأت يا شق شيئا ، يريد المعنى ، فما عندك في تأويلها ؟ قال شق : أحلف ما الحرتين من إنسان لينزلنّ أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان ، وليملكنّ ما بين أبين إلى نجران . فقال الملك : إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى هو كائن ؟
“ 45 “
أفي زماني أم بعده ؟ قال : لا ، بل بعدك بزمان ، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شان ، ويذيقهم أشد الهوان . قال : ومن العظيم الشأن ؟ قال : غلام ليس بدنيّ ولا مدن ، أراد مدني بوزن مفعل فحذف الياء للسجع ، يخرج عليهم من بيت ذي يزن . قال : أفيدوم سلطانه أم ينقطع ؟
قال : بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل ، بين أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل . قال : وما يوم الفصل ؟ قال : يوم تجزى فيه الولات ، يدعى فيه من السماء بدعوات ، تسمع منها الأحياء والأموات ، ويجمع فيه الناس للميقات ، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات . قال : أحق ما تقول ؟ قال : أي ورب السماء والأرض ، وما بينهما من رفع وخفض ، أن ما أنبأتك لحقّ ما فيه أمض .
فوقع في نفس الملك ما قالا ، فجهّز بيته وأهله إلى العراق بما يصلحهم ، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ ، فأسكنهم الحيرة ، وإليهم ينتمي النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ، هذا الملك صاحب الرؤيا .
رؤيا الموبذان وارتجاج الإيوان وما قال في ذلك سطيح والكهّان
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، عن عبد الرحمن بن الحسن ، عن علي بن حرب ، عن أبي أيوب يعلى بن عمران البجلي ، عن مخزوم بن هانئ المخزومي ، عن أبيه ، وأتت له خمسون ومائة سنة ، قال : لما كان ليلة ولد فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى ، وسقطت منه أربعة عشر شرافة ، وخمدت نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وغاضت بحيرة ساوى ، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، قد قطعت دجلة ، وانتشرت في بلادها .
فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى ، فتصبّر عليه تشجّعا ، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته ، فلبس تاجه ، وقعد على سريره ، وأرسل إلى الموبذان ، فقال : يا موبذان ، إنه سقط من إيواني أربعة عشر شرافة ، وخمدت نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام . فقال : وأنا أيها الملك قد رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا حتى عبرت دجلة ، وانتشرت في بلاد فارس . قال : فما ترى في ذلك يا موبذان ؟ قال : وكان رأسهم في العلم ، فقال : حدث يكون من قبل العرب.
فكتب حينئذ كسرى :
من كسرى ملك الملوك إلى النعمان أحمد بن المنذر ، ابعث إليّ رجلا من العرب يخبرني بما أسأله عنه . فبعث إليه عبد المسيح بن حيان بن نفيلة ، فقال : يا عبد المسيح ، هل عندك علم بما أريد أن أسألك عنه ؟ قال : يسألني الملك ، فإن كان عندي منه علم
“ 46 “
أعلمته أو لا أعلمته بمن علمه عنده . فأخبره به الملك ، فقال : علمه عند خال لي يسكن مشارق الشام يقال له سطيح . قال : فاذهب إليه واسأله ، وأخبرني بما يخبرك به . فخرج عبد المسيح حتى قدم على سطيح وهو مشرف على الموت ، فسلّم عليه وحيّاه بتحية الملك ، فلم يجبه سطيح ، فأقبل يقول :
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن * أم فارق أزليم به شاو العنن
يا فاصل الخطّة أعيت من ومن * وكاشف الكربة في الوجه الغضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن * وأمه من آل ذئب بن حجن
تحمله وجناء تهوي من وجن * حتى أتى غار الجآجي والفطن
أصكّ مهما الناب صرار الأذن
فرفع سطيح رأسه إليه ، فقال : عبد المسيح يهوي إلى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك ساسان لاتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان : رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة ، وانتشرت في بلاد فارس . يا عبد المسيح ، إذا ظهرت التلاوة ، وغارت بحيرة ساوة ، وخرج صاحب الهراوة ، وفاض وادي سماوة ، فليس الشام لسطيح بشام ، يملك منهم ملوك وملكات ، على عدد الشرافات ، وكل ما هو آت آت ، ثم مات .
فقام عبد المسيح وهو يقول :
شمّر فإنك ماضي الهمّ شمير * لا يفزعنك تشديد وتعزير
فربما ربما أضحوا بمنزلة * يهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وسابور وشابور
والناس أولاد علّات فمن علموا * أن قد أقلّ فمهجور ومحقور
وهم بنو آدم لما رأوا نسبا * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشرّ مجموعان في قرن * فالخير متّبع والشرّ محذور
قال : فرجع عبد المسيح إلى كسرى ، فأخبره ، فقال : إلى أن يملك منّا أربعة عشر تكون أمور وأمور . قال : فملك منهم عشرة في أربع سنين ، وملك الباقون بعد أولاد علاتهم ، الأولاد لأب واحد ، وأمهم شتى . أشد هصور ، وهصير ، وهصار : وهو الذي يكسر أزلام القوم أزليما ، أي ولّوا سراعا . وشاو : أسبق . والعنن : مصدر عنّ يعنّ عنّا ، أي اعترض ، ويكون أزلم مقصورا من إزلام ، والجآجئ : جمع جؤجؤ ، وهو صدر الطير والسفينة . والموبذان : قاضي المجوس ، ويجمع موابذة . والشرفة : جمعها شرف ،
“ 47 “
والشرفة في غير هذا الموضع خيار المال . ورجست السماء وارتجست : إذا رعدت وتمخّضت .
خبر ظريف في الحنين إلى الوطن
قال ابن الرومي في ذلك :
وحبّب أوطان الرجال إليهم * مأرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا الأوطان ذكرتهم * عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
روينا من حديث أبي الوليد ، عن محمد بن أبي عمر ، عن القاضي محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي ، عن القاضي الأوقص محمد بن عبد الرحمن بن هشام ، قال : خرجت غازيا في خلافة ابن مروان ، فقفلنا من بلاد الروم ، فأصابنا مطر ، فآوينا إلى قصر فاستكنّا به من المطر ، فلما أمسينا خرجت جارية مولدة من القصر ، فتذكرت مكة وبكت عليها ، وأنشأت تقول :
من كان ذا شجن بالشام يحسبه * فإن في غيره أمسى إلى الشجن
فإن ذا القصر حقا ما به وطن * لكن بمكة أمسى الأهل والوطن
من ذا يسائل عنّا أين منزلنا * فالأقحوانة منّا منزل قمن
إذ يلبث العيش صفوا ما يكدّره * طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن
قال : فلما أصبحنا لقيت صاحب القصر فقلت له : رأيت جارية مولّدة خرجت من قصرك ، فسمعتها تنشد كذا وكذا ، فقال : هذه جارية مولدة مكيّة اشتريتها ، وخرجت بها إلى الشام ، فو اللّه ما ترى عيشنا ولا ما نحن فيه شيئا ، فقلت : أتبيعها ؟ فقال : إذا فارقت روحي .
قولها : فالأقحوانة منّا منزل قمن : الأقحوانة منزل عند الليط بمكة ، كان مجلسا يجلس فيه من يخرج من مكة ، يتحدثون فيه بالعشيّ ، ويلبسون الثياب المحمّرة والمورّدة والمطيّبة ، فكان مجلسهم من حسن ثيابهم يقال له الأقحوانة .
وقالت بعض بنات الأعراب : روتني صاحبة القصر الذي على شاطئ دجلة قبالة سامرّاء يقال له عاشق ومعشوق ، وكان قد عشقها بعض الخلفاء فتزوّجها ، ونقلها من البادية ، فتغيّر عليها الحال . وكانت تحنّ إلى ما نشأت عليه ، فبنى لها هذا القصر ، وأمر بالإبل والغنم أن تحلب بكرة وعشية على باب قصرها في البرية ، فأنست بعض أنس ، فدخل عليها الخليفة يوما وهي تبكي وتقول :
الجزء الثالث
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 32 “
يظلم ويجور ، فركب في يوم شديد البرد ، فرأى في بعض الأزقة كلبا أجرب قد أنكاه البرد ، فدمعت عيناه وأخذته عليه شفقة ، فقال لبعض جماعته : احمل هذا الكلب إلى البيت حتى أرجع ، فلما رجع من وجهه إلى البيت تولى موضعا من داره جعله مربطا لذلك الكلب ، وأطعمه وسقاه ودهنه وكساه جلا ، وأوقد حوله نارا يستدفي بها على بعد . فلم يلبث الوالي بعد هذه الفعلة سوى ليلتين ومات رحمه اللّه . فرآه بعض الصالحين ممن كان يعرف ظلمه وجوره قال : ما فعل اللّه تعالى بك ؟ فقال له : يا هذا ، أوقفني الحق بين يديه ، وقال لي :
كنت كلبا فوهبناك لكلب ، فغفر لي ، وضمن عني ، وأدخلني الجنة . فقلت : يصدق هذا ما أخبر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بغي من بغايا بني إسرائيل رأت كلبا على بئر يلهث عطشا ، فنزعت موقها من رجلها ، واستقت له ، وسقته وانصرفت ، فشكر اللّه تعالى فعلها وغفر لها .
فتوة ومروءة
حدثنا عبد الرحمن ، عن أبي بكر الصوفي ، عن علي الحبري ، عن ابن باكويه ، عن أبي الحسن الحنظلي ، عن أحمد بن علي الإصطخري ، عن أبي عمر الدمشقي قال : خرجنا مع أبي عبد اللّه بن الجلاء إلى مكة ، فمكثنا أياما لم نأكل ، فوقعنا في البرية إلى أعرابية عندها شاة ، فقلنا لها : بكم هذه الشاة ؟ قالت : بخمسين درهما ، فقلنا لها : أحسني ، فقالت : بخمسة دراهم ، فقلنا لها : تهزئين ؟ فقالت : لا واللّه ، ولكن سألتموني الإحسان ، ولو أمكنني لما أخذت شيئا . فقال ابن الجلاء : أيش معكم ؟ قلنا : ستمائة درهم .
فقال :
أعطوها واتركوا الشاة عليها . فما سافرنا سفرا أطيب منها .
سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
استنصار دوس ذي ثعلبان قيصر ملك الروم على ذي نواس
روينا من حديث ابن إسحاق ، عن المكي ، عن سعيد بن جبير ، وعكرمة ، عن ابن عباس ، أن زرعة ذا نواس لما قتل أصحاب الأخدود وقد ذكرنا قصته في هذا الكتاب ، أفلت رجل منهم يقال له دوس ذو ثعلبان ، فذهب على فرس له يركض عليه حتى أعجزهم في الرمل ، فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم ذو نواس ، واستنصره ، فقال : بعدت بلادك ، ونأت دارك عنّا ، ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة ، فإنه على ديننا فينصرك . فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره . فلما قدم على النجاشي بعث معه رجلا من الحبشة يقال له
“ 33 “
أرباط ، وقال : إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها ، وأخرب ثلث بلادها . فلما دخلوا أرض اليمن وهم في سبعين ألفا من الحبشة ، من جملتهم أبرهة الأشرم أحد أجناد أرباط ، وكان طريقهم إلى اليمن في البحر ، فلما نزلوا بساحل اليمن سار إليهم ذو نواس في حمير ، ومن أطاعه من قبائل اليمن ، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه ، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجّه فرسه في البحر فضربه فدخل به حتى لجّج في البحر ، فكان آخر العهد به ، فدخل أرباط اليمن ، ففعل ما أمره به النجاشي من القتل والتخريب .
فقال ذو جدن فيما أصاب أهل اليمن :
دعيني لا أبا لك أن تطيقي * لحاك اللّه قد أنزفت ريقي
لدى عزف القيان إذا انتشينا * وإذ نسقى من الخمر الرحيق
وشرب الخمر ليس عليّ عار * إذا لم يشكني فيه رفيقي
فإن الموت لا ينهاه ناه * ولو شرب الشفاء مع النسوق
ولا مترهب في أسطوان * يناطح حدره بيض الأنوق
وغمدان الذي حدّثت عنه * بنوه مسمّكا في رأس نيق
بمنهمة وأسفله حروث * وحرّ الموحل اللثق اللزيق
مصابيح السليط تلوح فيه * إذا تمسي كتوماض البروق
ونخلته التي غرست إليه * يكاد البسر يهصر بالغدوق
فأصبح بعد جثته رمادا * وغيّر حسنه لهب الحريق
وأسلم ذو نواس مستكينا * وحذر قومه ضنك المضيق
المنهمة : التجارة . والحروث : أرض الزرع . وحرّ الموحل : يعني الطين الحرّ الذي هو كالوحل من شدة ريّه .
وقال ذو جدن الحميري أيضا :
هونك ما أن يردّ الدمع ما فاتا * لا تهلكا أسفا في إثر من ماتا
أبعد بينون لا عين ولا أثر * وبعد سلحين يبني الناس أبياتا
بينون وسلحين وعمدان : من حصون اليمن الذي هدم أرباط .
زاد ابن هشام في هذا الحديث ما قاله ربيعة بن عبد ياليل الثقفي في ذلك :
لعمرك ما للفتى من مفرّ * مع الموت يلحقه والكبر
لعمرك ما للفتى صخرة * لعمرك ما إن له من وزر
أبعد قبائل من حمير * أبيدوا صباحا بذات العبر
“ 34 “
بألف ألوف وحرابة * كمثل السماء قبيل المطر
بضمر صباحهم المقربات * ينفون من قاتلوا بالذفر
سعالى مثل عديد التراب * تيبّس منهم رطاب الشجر
يعني من أنفاسهم . وذات العبر : الداهية التي فيها عبر العين ، أي سخنتها . وصار ملك اليمن بين أرباط وأبرهة ، وكان أرباط فوق أبرهة . فأقام أرباط سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد ، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك ، وكان في جند من الحبشة ، فانحاز إلى كل واحد من الحبشة طائفة ، ثم سار أحدهما على الآخر ، وكان لأرباط في صنعاء وأحوازها ، وكان لأبرهة الجند وأحوازها ، فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض ، أرسل أبرهة إلى أرباط : إنك لا تصنع شيئا بأن تلقي الحبشة بعضهم ببعض فتفني ما بيننا فيضعف أمرها ، فابرز إليّ بنفسك ، وأبرز إليك ، فمن ظهر على صاحبه منّا كان الأمر له .
فقال أرباط :
أنصفت . وكان أرباط طويلا في الرجال وسيما عظيم الخلق . وكان أبرهة قصيرا دحداحة ، وكان ذا دين في النصرانية ، وعقل وحلم . فجعل أبرهة خلفه عبدا له يحمي ظهره يقال له عتودة ، فلما دنا كل واحد من صاحبه رفع أرباط الحربة يريد نافوخ أبرهة فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفتيه ، فبذلك سمي أبرهة الأشرم ، وحمل غلام أبرهة عتودة على أرباط من خلف أبرهة فزرقه بالحربة فقتله . فانصرف جند أرباط إلى أبرهة واجتمعت عليه الحبشة باليمن .
وكان ما وقع من هذا الأمر كله بين أبرهة وأرباط عن غير علم ولا أمر من النجاشي ملك الحبشة ، وكان مسكنه باكسوم من بلاد الحبشة ، فلما بلغه ذلك غضب غضبا شديدا وقال : عدا على أميري بغير أمري فقتله ، وما كنت أمّرته ، ثم حلف النجاشي لا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ، ويجزّ ناصيته . فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه ، ثم ملأ جرابا من تراب أرض اليمن ، ثم بعث به إلى النجاشي ، وكتب إليه : أيها الملك ، إنما كان أرباط عبدك ، وأنا عبدك ، اختلفنا في أمرك وكلنا طاعة لك ، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه ، وأضبط وأسوس لهم منه ، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك ، وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه ، فيبرّ بذلك قسمه .
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه ، وكتب إليه : أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري . فأقام أبرهة باليمن إلى أن هلك . وقد ذكرت قصة هلاكه في حديث الفيل .
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن القاسم بن هاشم ، عن علي بن عباس ، عن إسماعيل بن عيّاش عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد أن بني إسرائيل لم يكن فيهم
“ 35 “
ملك إلا ومعه رجل حكيم ، فإذا رآه غضبان كتب له صحائف ، في كل صحيفة ارحم المسكين ، واخش الموت ، واذكر الآخرة . فكلما أخذ الملك صحيفة قطعها حتى يسكن غضبه .
وحدثنا عبد الصمد بن علي قال : كان ببلاد فارس في زمان الأكاسرة ينادي كل يوم مناد على باب قصر الملك : لا يكون ملك إلا بالرجال ، ولا يثبت الرجال إلا بالمال ، ولا يحصل المال إلا بالعمارة ، ولا تصحّ العمارة إلا بالعدل .
وحدثنا بعض الهنود أن الملك فيهم إذا خرج ركب على الفيل وبين يديه راكب مشرف على الناس ينادي بلسانهم وفي يده طشت من ذهب فيه جمجمة إنسان ، وفي يده اليمنى قضيب ، فيقول : يا أيها الناس ، وقال : ينظر إلى الملك ويقول : يا أيها الملك ، أنت ملك الناس قد ركبت على ملك السباع وإلى هذا مصيرك ، ويشير بالقضيب إلى الجمجمة ، والملك يبكي وينظر في أمور الناس إلى أن يرجع .
ووقفت في كتاب « سر الأسرار » لأرسطو على دائرة اصطنعها للإسكندر يوصيه فيها :
تتضمن العالم بستان سياجه الدولة .
الدولة سلطان يحجبه السّنة . السّنة سياسة يسوسها الملك . الملك راع يعضّده الجيش . الجيش أعوان يكفلهم المال .
المال رزق تجمعه الرعيّة . الرعية عبيد يعبدهم العدل . العدل مألوف فيه صلاح العالم . تصل الكلام بأوله .
وقال عيسى ابن مريم عليهما السلام : معاشر الفقهاء ، قعدتم على طريق الآخرة ، فلا أنتم مشيتم فوصلتم إليها ، ولا أنتم تركتم أحدا يجوزكم إليها ، فالويل لمن اغتر بكم .
روينا من حديث ابن مروان ، عن عبد اللّه بن مسلم ، عن الرياشي ، عن الأصمعي قال : كان بلال بن سعد يصلي الليل أجمع ، فكان إذا غلبه النوم في الشتاء ، وكان في داره بركة ، فيجيء فيطرح عنه ثيابه وينغمس في الماء ليذهب عنه النوم ، فعوتب في ذلك فقال :
ماء البركة في الدنيا خير من صديد أهل جهنم .
وكان عندنا بإشبيلية رجل عابد ، حسن الصوت ، كثير الاجتهاد ، سريع الدمعة ، دائم العبرة ، كثير الفكرة والتهجّد ، بتّ معه ليالي عدّة فلم يكن يفتر ، فربما أسمعه في بعض الأحايين ينشد بصوت طيّب غرد ، ودموعه تنحدر على خدّيه :
قطع الليل رجال * ورجال وصلوه
رقدوا فيه أناس * وأناس سهروه
لا يميلون إلى النو * م ولا يستعذبوه
فكأن النوم شيء * لم يكونوا يعرفوه
“ 36 “
لبسوا ثوبا من الخد * مة حتى خلعوه
مع جلباب من الحز * ن فما أن نزعوه
وروينا من حديث الدينوري ، عن سعيد بن عمر الأزدي ، عن أبيه ، عن يونس بن حازم قال : قال العتابي : مررت بدير فصحت : يا راهب ، فلم يجبني أحد حتى قلت : يا صاحب الدير ، فإذا به قد أشرف عليّ ، فقلت له : ما منعك أن تجيبني ؟ قال : لأنك سمّيتني بغير اسمي ، فقلت : وما اسمك ؟ قال : الكلب العقور ، وإنما حبست نفسي في هذا الموضع لكي لا أعقر الناس .
وقال العتّابي أيضا : مررت بدير فإذا راهب ينادي ، فرفعت رأسي إليه فقال لي :
ويحك ، هب أن المسئ قد عفي عنه ، أليس قد فاته ثواب الصالحين ؟
وقال أبو سليمان الداراني : لقيت راهبا فقلت له : يا راهب كيف ترى الدهر ؟ فقال :
يخلق الأبدان ، ويجدد الآمال ، ويباعد الأمنية ، ويقرّب المنية . فقلت له : فكيف ترى أهله ؟ فقال : من ظفر بها نصب ، ومن فاتته تعب . قال : فما الغنى عنه ؟ قال : قطع الرجاء منه . قال : فقلت له : فأي الأصحاب أبرّ وأوفى ؟ قال : العمل الصالح والتقى . قلت : فأين المخرج ؟ قال : في سلوك المنهج ، قلت : وما هو ؟ قال : بذل المجهود وخلع الراحة .
قلت : فأوصني ، قال : قد فعلت .
رويناه من حديث المالكي ، عن أحمد بن عبّاد ، عن أحمد بن أبي الحواري ، عن أبي سليمان ، ورويناه من حديث العتابي قبله من حديثه أيضا ، عن علي بن الحسين عنه .
واقعة لبعض الفقراء
حدثنا عبد اللّه ابن الأستاذ بمرشانة بدار شمس العابدات أم الفقراء ، رأى بعض الفقراء في واقعته أبا مدين وبعض مشايخ الصوفية ، فقال بعضهم لأبي مدين : ما معنى الوصول ؟ فقال : إذا دلك به عليه كنت منه وإليه ، وإذا أفناك عن الإحساس كنت في حضرة الإيناس ، وإذا كاشفك بحبه لم تتلذذ إلا بقربه ، وإذا غيّبك عن شهودك تجلّى لك من وجودك .
قلت : وأفدت ليلة في واقعة ، وذلك أني بتّ في جماعة من الصالحين ، منهم أبو العباس الحريري الإمام بزقاق القناديل بمصر ، وأخوه محمد الخياط ، وعبد اللّه المروزي ، ومحمد الهاشمي اليشكري ، ومحمد بن أبي الفضل ، فأريت نفسي والجماعة في بيت
“ 37 “
شديد الظلمة ، وليس لنا فيه نور سوى ما ينبعث من ذواتنا ، فكانت الأنوار تنفهق علينا من أجسامنا فنضيء بها ، فدخل علينا شخص من أحسن الناس وجها ومنطقا ، فقال : أنا رسول الحق إليكم ، فكنت أقول له : فما جئت به في رسالتك ؟ فقال : اعلموا أن الخير في الوجود ، والشر في العدم ، أوجد الإنسان بجوده ، وجعله واجدا ينافي وجوده ، تخلق بأسمائه وصفاته ، وفني عنها بمشاهدة ذاته ، فرأى نفسه بنفسه ، وعاد العدد إلى أسه ، فكان هو ولا أنت .
فأخبرت الجماعة بالواقعة ، فسروا وشكروا اللّه .
ثم وضعت رأسي في عبّي فنظمت في نفسي أبياتا في المعرفة ، ونام أصحابي فاستيقظ عبد اللّه وناداني : يا أبا عبد اللّه . فلم أجبه كأني نائم . فقال لي : ما أنت بنائم ، أنت تعمل شعرا في معرفة اللّه وتوحيده . فرفعت رأسي وقلت له : من أين لك هذا ؟ فقال لي : رأيتك تعقد شبكة رفيعة ، فأوّلت الخيوط المنثورة تعقدها شبكة معاني متفرقة تجمعها ، وكلاما منثورا تنظمه . فقلت : هذا يعمل شعرا . قلت له : صدقت ، فمن أين عرفت أنه معرفة اللّه وتوحيده ؟ قال : قلت : الشبكة لا يصاد فيها إلا ذو روح حيّ عزيز المأخذ ، فلم أجد شعرا فيه روح وحياة وعزة إلا فيما يتعلق باللّه تعالى . فكان تأويل رؤياه أعجب إلينا من الرؤيا رضي اللّه عنهم أجمعين .
حكاية من لم يقيّد جوارحه أتعب قلبه
حدثنا أبو محمد بن يحيى ، ثنا المبارك بن علي بن محمد ، عن عبد الملك بن بشران ، عن أحمد بن إبراهيم الكندي ، عن جعفر الخرائطي ، عن أبي العباس المبرّد ، عن هشام ، عن معمر بن المثنى ، قال : حجّ عبد الملك بن مروان ، وحج معه خالد بن يزيد بن معاوية ، وكان من رجالات قريش المعدودين وعلمائهم ، وكان عظيم القدر ، جليل المنزلة ، مهيب المجلس ، موقرا معظّما عند عبد الملك ، فبينما هو يطوف بالبيت إذ بصر برملة بنت الزبير بن العوام ، فعشقها عشقا شديدا ، وأخذت بجميع قلبه ، وتغير عليه الحال ، ولم يملك من أمره شيئا . فلما أراد عبد الملك القفول ، همّ خالد بالتخلف عنه فبعث إليه فسأله عن أمره ، فقال : يا أمير المؤمنين ، رملة بنت الزبير ، رأيتها تطوّف بالبيت فأذهلت عقلي ، فو اللّه ما أبديت لك ما بي حتى عيل صبري ، ولقد عرضت النوم على عيني فلم تقبله ، والسلو على قلبي فامتنع منه . فأطال عبد الملك التعجب من ذلك وقال : ما كنت أقول إن الهوى يستأثر مثلك . فقال خالد : وإني لأشدّ تعجبا من تعجبك مني ، فقد
“ 38 “
كنت أقول إن الهوى لا يتمكن إلا من صنفين من الناس : الأعراب ، والشعراء . أما الشعراء فإنهم ألزموا قلوبهم الفكر في النساء والغزل ، فمال طبعهم إلى النساء ، فضعفت قلوبهم عن دفع الهوى ، فاستسلموا له منقادين . وأما الأعراب ، فإن أحدهم يخلو بامرأته فلا يكون الغالب عليه غير حبه لها .
وجملة أمري ما رأيت نظرة حالت بيني وبين الحرم ، وحسن عندي ركوب الإثم مثل نظرتي هذه . فتبسّم عبد الملك وقال : أوكل هذا بلغ بك ؟ فقال : واللّه ما عرفت هذه البليّة قبل وقتي هذا . فوجّه عبد الملك إلى آل الزبير يخطب رملة على خالد ، فذكروا ذلك ، فقالت : لا واللّه أو يطلّق نساءه . فطلّق امرأتين كانتا عنده وتزوّجها وظعن بها إلى الشام .
وفيها يقول :
أليس يزيد الشوق في كل ليلة * وفي كل يوم من حبيبتنا قربا
خليليّ ما من ساعة تذكرانها * من الدهر إلا فرجت عني الكربا
أحبّ بني العوّام طرّا لحبّها * ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى * لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
ومما وجد بخطّ الإمام العلّامة القاضي بدر الدين بن شهبة رحمه اللّه تتمة هذه الحكاية . فلما وقف عبد الملك على الأبيات نظم بيتا ودسّه ليكيد به خالدا ، لأنه كان يروم الخلافة كأبيه يزيد وجدّه معاوية ، فقال عبد الملك : يا خالد ، أأنت القائل :
فإن تسلمي أسلم وإن تتنصّري * تحطّ رجال بين أعينهم صلبا ؟
فقال خالد : لعن اللّه قائل هذا البيت ، ولم يعلم خالد قائله . فخجل عبد الملك ولام نفسه .
كنت يوما أطوف وقد عراني حال أعرفه ، فخرجت عن البلاط من أجل الناس ، وطفت على الرمل فحضرتني أبيات فأنشدتها أسمع نفسي بها ومن يليني لو كان هناك أحد وأنا أقول وأبكي :
ليت شعري هل دروا * أيّ قلب ملكوا ؟
وفؤادي لو درى * أيّ شعب سلكوا
أتراهم سلموا * أم تراهم هلكوا ؟
حار أرباب الهوى * في الهوى وارتبكوا
فلم أشعر إلا وضربة بين كتفيّ من كفّ ألين من الخزّ ، فرددت وجهي فرأيت جارية من بنات الروم لم أر أحسن وجها ، ولا أعذب منطقا ، ولا أرقّ حاشية ، ولا ألطف معنى ،
“ 39 “
ولا أظرف محاورة منها . قد فاقت النساء ظرفا ، وأدبا ، وجمالا ، ومعرفة . فقالت : يا سيدي ، كيف قلت ؟ فقلت :
ليت شعري هل دروا * أيّ قلب ملكوا ؟
فقالت : عجبا منك وأنت عارف زمانك تقول مثل هذا ؟ أليس كل مملوك معروف ؟
وهل يصح الملك إلا بعد المعرفة ؟ وتمني الشعور يؤذن بعدم المعرفة ، والطريق لسان صدق ، فكيف يتجوّز مثلك ؟ قل : فما ذا قلت بعده ؟ قلت :
وفؤادي لو درى * أيّ شعب سلكوا
فقالت : الشعب الذي بين الشغاف والفؤاد ، وهو المانع له من المعرفة به ، فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إلى معرفته ؟ والطريق لسان صدق ، فكيف يتجوّز مثلك يا سيدي ؟ قل : فما ذا قلت بعده ؟
قلت :
أتراهم سلموا * أم تراهم هلكوا ؟
فقالت : أما هم فسلموا ، ولكن عنك ينبغي أن تسأل نفسك ، هل هلكت أم سلمت ؟
يا سيدي قل : فما ذا فعلت بعده ؟ قلت :
حار أرباب الهوى * في الهوى وارتبكوا
فصاحت وقالت : يا عجبا كيف يبقى للمشغوف فضلة يجار بها ؟
والهوى شأنه التعميم يخدّر الحواس ، ويذهب بالعقول ، ويدهش الخواطر ، ويذهب بصاحبه في الذاهبين ، فأين الحيرة هنا ؟ ومن هنا باق فيحار ؟
والطريق لسان صدق ، والتجوّز على مثلك لا يليق . قلت : يا بنت الخالة ، ما اسمك ؟ قالت : قرة العين ، قلت لها : لي . ومن شعري فيها ما قلته :
ما رحلوا يوم بانوا البزل العيسا * إلا وقد حملوا فيها الطواويسا
من كل فاتكة الألحاظ مالكة * تخالها فوق عرش الدّرّ بلقيسا
إذا تمشت على صرح الزجاج ترى * شمسا على فلك في حجر إدريسا
تحيي إذا قتلت باللحظ منطقها * كأنها عندما تحيي بها عيسا
توارتها لوح ساقيها سنى وأنا * أتلو وأدرسها كأنني موسى
أسقفّة من بنات الروم راهبة * ترى عليها من الأنوار ناموسا
وحشية ما لها أنس قد اتخذت * في بيت ناموسها للذكر ناووسا
قد أعجزت كل علّام بملّتنا * وداوديا وحبرا ثم قسيسا
إن أومأت تطلب الإنجيل تحسبها * أقسّة أو بطاريقا شماميسا
“ 40 “
ناديت إذ رحلت للبين ناقتها * يا حادي العيس لا تحدو بها العيسا
عيّيت أجياد صبري يوم بينهم * على الطريق كراديسا كراديسا
سألت إذ بلغت نفسي تراقيها * ذاك الجمال وذاك اللطف تنفيسا
فأسلمت ووقانا اللّه شرّتها * وزحزح الملك المنصور إبليسا
وكان لنا أهل تقرّ العين بها ففرّق الدهر بيني وبينها ، فتذكرتها ومنزلها بالحلة من بغداد فقلت :
خليليّ عوجا بالكثيب وعرّجا * على لعلع واطلب مياه يلملم
فإن بها من قد علمت ومن لهم * صيامي وحجّي واعتماري وموسمي
فلا أنس يوما بالمحصّب من منى * وبالمنحر الأعلى أمورا وزمزم
محصّبهم قلبي لرمي جمارهم * ومنحرهم نفسي ومشربهم دمي
فيا حادي الأجمال إن جئت حاجرا * فقف بالمطايا ساعة ثم سلّم
وناد القباب الحمر من جانب الحمى * تحيّة مشتاق إليكم متيّم
فإن سلموا فأعد السلام مع الصبا * وإن سكتوا فارحل بها وتقدّم
إلى نهر عيسى حيث حلّت ركابهم * وحيث الخيام البيض من جانب الفم
وناد بوعد والرباب وزينب * وهند وسلمى ثم لبنى وزمزم
وسلهنّ هل بالحلة الغادة التي * تريك سنا البيضاء عند التبسّم
ولنا من باب النسب ، والإشارة للمقام الأعلى ، والمنظر الأجلى
سلامي عن سلمى ومن حلّ بالحمى * وحق لمثلي رقة أن يسلما
وما ذا عليها لو تردّ تحية * علينا ولكن لا احتكام إلى الدما
سروا وظلام الليل أرخى سدوله * فقلت لها صبّا غريبا متيّما
أحاطت به الأشواق سورا وأرشدت * له راشفات النبل أيّان يمّما
فأبدت ثناياها وأومض بارق * فلم أدر من شق الحنادس منهما
وقالت : أما يكفيه أني بقلبه * يشاهدني سرا وجهرا أما أما ؟
خبر الحية الطائفة بالبيت
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن سعيد بن سالم ، عن سالم ، عن عثمان بن ساج ، عن بشر بن تميم ، عن أبي الطفيل قال : كانت امرأة من الجن في الجاهلية
“ 41 “
تسكن ذا طوى ، وكان لها ابن ولم يكن ولد غيره ، وكانت تحبه حبا شديدا ، وكان شريفا في قومه ، فتزوج وأتى زوجته ، فلما كان يوم سابعه قال لأمه : يا أمّه ، إني أحب أن أطوف بالكعبة سبعا نهارا ، قالت له أمه : أي بنيّ ، إني أخاف عليك سفهاء قريش ، فقال : أرجو السلامة ، فأذنت له ، فولى في صورة جان ، فلما أدبر جعلت تعوّذه وتقول :
أعيذه بالكعبة المستورة * ودعوات ابن أبي محذورة
وما تلى محمد من سورة * إني إلى حياته فقيرة
وإنني بعيشه مسرورة فمضى الجان نحو الطواف فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، ثم أقبل منقلبا حتى إذا كان ببعض دور بني سهم عرض له شاب من بني سهم أحمر أكشف أزرق أحول أعسر فقتله فثارت بمكة غبرة حتى لم تبصر لها الجبال . قال أبو الطفيل :
وبلغنا أنه إنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن ، قال : فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن ، فكان فيهم سبعون شيخا أصلع سوى الشباب ، قال :
فنهضت بنو سهم وخلفاؤها ومواليها وعبيدها ، فركبوا الجبال والشعاب بالثنية ، فما تركوا حية ، ولا عقربا ، ولا خنفساء ، ولا شيئا من الهوام يدب على وجه الأرض إلا قتلوه ، فأقاموا بذلك ثلاثا ، فسمعوا في الليلة الثالثة على أبي قبيس هاتفا يهتف بصوت له جهوري يسمع بين الجبلين : يا معشر قريش ، اللّه اللّه ، فإن لكم أحلاما وعقولا ، اعذرونا اعذرونا من بني سهم ، فقد قتلوا منّا أضعاف ما قتلنا منهم ، ادخلوا بيننا وبينهم بصلح نعطيهم ويعطونا العهد والميثاق أن لا يعود بعضنا لبعض بسوء أبدا ، ففعلت ذلك قريش واستوثقوا لبعضهم من بعض ، فسمّيت بنو سهم العياطلة قتلة الجن .
ما جاء من الحكم في مثل هذه الواقعة
حدثنا الضرير إبراهيم بن سليمان الصوفي الخابوري من دير الرمان بحلب قال :
كنت بذي نصر ، فخرج رجل يحتطب لعياله ، ففقد أياما حتى حزن عليه أهله ، فدخل عليهم بعد ذلك ضعيفا ، متغير اللون ، كاسف البال ، أثر الرعب والجزع عليه ظاهر ، قال :
فسألناه عن شأنه ، قال : بينا أنا أحتطب إذ عرضت لي حية فقتلتها ، فغشي عليّ ، وغبت عن نفسي ، فما أفقت إلا وأنا بأرض لا أعرفها ، بين قوم لا أعرفهم ، فأخذني جماعة منهم فجاءوا بي إلى شيخ فيهم كبير هو زعيمهم ، فمثلوني بين يديه ، فقال : ما شأنكم ؟ فقالوا :
هذا قتل ابن عمنا ، وأشاروا إليّ ، فقد لنا منه ، فقال الشيخ : ما تقول ؟ فقلت : لا أعرف ما
“ 42 “
يقولون ، إنما أنا رجل كنت أحتطب فعرضت لي حية فقتلتها ، فقالوا : ذلك ابن عمنا ، فقال ذلك الزعيم : امسكوه عندكم واستوصوا به خيرا حتى أرى في أمركم وأمره ، فأخذوني إليهم ، وجاءوا بأطعمة لا أعرف منها سوى اللبن ، فكنت أشربه لا أعدل إلى غيره مدة هذه الأيام التي غبت فيها عنكم ، فبينا أنا على ذلك إذ جاءوني فأخذوني وحضروا بي عند ذلك الشيخ ، فذكروا مثل مقالتهم الأولى من الدعوى ، فسألني الشيخ ، فذكرت له الأمر على ما جرى ، فقال الشيخ للقوم : ما لكم عليه حق ، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « من تصوّر في غير صورته فقتل ، فلا عقل فيه ولا قود » ، وصاحبكم تصوّر في صورة حية . فخلّوا سبيلي ، فقلت : يا شيخ ، وهل رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ فقال : نعم ، كنت في وفد جن نصيبين حين قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وما عاش لليوم من ذلك اليوم غيري ، فهؤلاء الجن قومنا ، يتحاكمون إلينا في أمورهم ، فأحكم بينهم . ثم قال لهم : ردّوه إلى حيث أخذتموه ، فما شعرت إلا وأنا في موضعي ، فأخذت عدّتي وجئت . فهذا ما كان من خبري في غيبتي .
خبر حية أخرى طائفة بالبيت
روينا من حديث أبي الوليد ، عن جده ، عن داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج ، عن عبد اللّه بن عبيد ، عن عمير ، عن طلق بن حبيب قال : كنا جلوسا مع عبد اللّه بن عمرو بن العاص في الحجر إذ قلص الظل ، وقامت المجالس ، إذا بأيّم طالع من هذا الباب ، يعني باب بني شيبة ، فأشرفت له عيون الناس ، فطاف بالبيت سبعا ، وصلى ركعتين وراء المقام ، فقمنا إليه ، فقلنا له : ألا أيها المعتمر ، قد قضى اللّه نسكك ، وإن بأرضنا عبيدا وسفهاء وإنّا نخشى عليك منهم ، فكوّم برأسه كومة بطحاء ، فوضع ذنبه عليها ، فسما في السماء حتى مثل علينا فما نراه . قال أبو محمد الخزاعي : الأيّم الحية الذكر .
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ كانوا أهل نصيبين ، وكانوا سبعة : حسا ، ومسا ، وشاصرا ، وناصرا ، وابنا الأرب ، وأبنين ، والأخصم . هذا من حديث محمد بن إسحاق .
وأما حديث إسحاق بن عبد اللّه ، عن أبي جعفر ، فذكر منهم الأذريان والأحقب .
خبر الحيّة الشهيدة العابدة
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن سليمان بن أحمد ، ثنا مطّلب بن شعيب ، عن عبد اللّه بن صالح ، عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون ، عن معاذ بن عبد اللّه بن معمر ، قال : كنت جالسا عند عثمان بن عفان رضي اللّه عنه ، فجاء رجل فقال : يا أمير
“ 43 “
المؤمنين ، بينا أنا بفلاة كذا وكذا ، إذا إعصاران قد أقبلت إحداهما من مكان والأخرى من مكان آخر ، فالتقتا واعتركتا ثم افترقتا ، وإحداهما أقل منها حين جاءت ، فذهبت حتى جئت معتركيهما ، فإذا من الحيات شيء ما رأيت مثله قطّ غيره ، فإذا ريح مسك من بعضها ، فجعلت أقلب الحيات أنظر من أيّها هذه الرائحة ، فإذا ذلك من حية صفراء دقيقة . قال أبو محمد بن حيان في حديثه : تتثنى ببطن أبيض ينفح منها ريح المسك . فقلت لأصحابي : امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير أمر هذه الحية . قال : فلما لبثت أن ماتت ، فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها . وفي حديث ابن معمر : في عمامتي . قال ابن حيان : ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها ، وأدركت أصحابي في المتعشى . قال : فو اللّه إنّا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب ، فقالت واحدة منهن : أيكم دفن عمرا ؟ قلنا : ومن عمرو ؟ قالت : أيكم دفن الحية ؟
قال : قلت : أنا . فقالت : أما واللّه لقد دفنت صوّاما قوّاما يأمر بما أنزل اللّه عز وجل ، ولقد آمن بنبيكم صلى اللّه عليه وسلم ، وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة .
وفي حديث ابن معمر بعد أن ذكر دفنها : فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد ولا أراه ، فقال : يا عبد اللّه ، ما هذا الذي صنعت ؟ فأخبرته بالذي رأيت ، فقال : إنك قد هديت ، هذان حيّان من الجن : بني شيبان وبني أقبش ، التقوا فكان من القتلى ما رأيت ، فاستشهد الذي أخذته ، فكان من الذين استمعوا الوحي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
وفي حديث ابن حيان ، قال الرجل : فلما قضينا حجّنا مررت بعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بالمدينة ، فأنبأته بأمر الحية ، فقال : صدقت ، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :
« لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة » .
إني رأيت أحد عشر كوكبا
وهي : حرنان ، والطارق ، والدّيّال ، والكتفان ويقال : ذو الكتفين ، ووناب ، وعمودان ، والفلق ، والصروح ، والضياء ، والنور ، وقابس ، والمضبح ، وذو الفرع ، يعني بالضياء ، والنور ، والشمس ، والقمر .
مفارقة حبيب
روينا من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا ، عن محمد بن سلام قال : احتضر سيبويه النحوي ، فوضع رأسه في حجر أخيه ، فقطرت قطرة من دموع أخيه على خده ، فأفاق من غشيته فقال :
“ 44 “
أخيّين كنا فرّق الدهر بيننا * إلى أمد الأقصى ومن يأمن الدهرا
خبر شق وسطيح مع ملك اليمن
قال ابن إسحاق : كان ربيعة بن نصر ملك اليمن فرأى رؤيا هالته وفظع بها ، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائقا ولا منجّما إلا جمعه إليه ، فقال لهم : إني رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها ، فأخبروني بها وبتعبيرها ، قالوا له : اقصصها علينا نخبرك بتأويلها ، فقال : إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها ، لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها ، فقال له رجل : إن أردت علم ذلك فابعث إلى شق وسطيح ، فبعث إليهما ، فقدم عليه سطيح وهو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان ، فقال له الملك : إني رأيت رؤيا فأخبرني بها وبتأويلها ، قال : افعل ، رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة . فقال له الملك : ما أخطأت منها شيئا ، فما عندك من تأويلها ؟ قال : أحلف بما بين الحرّتين من حنش ، لتزلن أرضكم الحبش ، فلتملكنّ ما بين أبين وجرش . فقال الملك : يا سطيح ، إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى هو كائن ؟ أفي زماني أم بعده ؟ قال : لا بل بعده بحين ، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين ، قال : أفيدوم ذلك في ملكهم أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع لبضع وسبعين تمضين من السنين ، ثم يقتلون ، ويخرجون منها هاربين . قال : ومن يلي ذلك من قتلهم ؟
قال : يليه أرم ذي يزن ، يخرج عليهم من عدن فلا يترك أحدا منهم باليمن . قال : أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع . قال : ومن يقطعه ؟ قال : نبيّ زكي يأتيه الوحي من قبل العلي . قال : وممن هذا النبي ؟ قال : رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر ، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر . قال : وهل للدهر من آخر ؟ قال : نعم ، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون ، يسعد فيه المحسنون ، ويشقى فيه المسيئون . قال : أحق ما تخبرني ؟ قال : نعم ، والشفق والغسق والفلق إذا اتّسق ، إن ما أنبأتك به لحق .
ثم قدم عليه بعد ذلك شق بن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قسز بن عبقر بن أنمار بن نزار ، فقال له كقوله لسطيح ، وكتمه ما قال سطيح ، لينظر أيتفقان أم يختلفان ؟
قال شق : نعم ، رأيت جمجمة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة ، فأكلت كل ذات نسمة . قال الملك ما أخطأت يا شق شيئا ، يريد المعنى ، فما عندك في تأويلها ؟ قال شق : أحلف ما الحرتين من إنسان لينزلنّ أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان ، وليملكنّ ما بين أبين إلى نجران . فقال الملك : إن هذا لنا لغائظ موجع ، فمتى هو كائن ؟
“ 45 “
أفي زماني أم بعده ؟ قال : لا ، بل بعدك بزمان ، ثم يستنقذكم منه عظيم ذو شان ، ويذيقهم أشد الهوان . قال : ومن العظيم الشأن ؟ قال : غلام ليس بدنيّ ولا مدن ، أراد مدني بوزن مفعل فحذف الياء للسجع ، يخرج عليهم من بيت ذي يزن . قال : أفيدوم سلطانه أم ينقطع ؟
قال : بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل ، بين أهل الدين والفضل ، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل . قال : وما يوم الفصل ؟ قال : يوم تجزى فيه الولات ، يدعى فيه من السماء بدعوات ، تسمع منها الأحياء والأموات ، ويجمع فيه الناس للميقات ، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات . قال : أحق ما تقول ؟ قال : أي ورب السماء والأرض ، وما بينهما من رفع وخفض ، أن ما أنبأتك لحقّ ما فيه أمض .
فوقع في نفس الملك ما قالا ، فجهّز بيته وأهله إلى العراق بما يصلحهم ، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ ، فأسكنهم الحيرة ، وإليهم ينتمي النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر ، هذا الملك صاحب الرؤيا .
رؤيا الموبذان وارتجاج الإيوان وما قال في ذلك سطيح والكهّان
روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، عن عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، عن عبد الرحمن بن الحسن ، عن علي بن حرب ، عن أبي أيوب يعلى بن عمران البجلي ، عن مخزوم بن هانئ المخزومي ، عن أبيه ، وأتت له خمسون ومائة سنة ، قال : لما كان ليلة ولد فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى ، وسقطت منه أربعة عشر شرافة ، وخمدت نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وغاضت بحيرة ساوى ، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، قد قطعت دجلة ، وانتشرت في بلادها .
فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى ، فتصبّر عليه تشجّعا ، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته ، فلبس تاجه ، وقعد على سريره ، وأرسل إلى الموبذان ، فقال : يا موبذان ، إنه سقط من إيواني أربعة عشر شرافة ، وخمدت نار فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام . فقال : وأنا أيها الملك قد رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا حتى عبرت دجلة ، وانتشرت في بلاد فارس . قال : فما ترى في ذلك يا موبذان ؟ قال : وكان رأسهم في العلم ، فقال : حدث يكون من قبل العرب.
فكتب حينئذ كسرى :
من كسرى ملك الملوك إلى النعمان أحمد بن المنذر ، ابعث إليّ رجلا من العرب يخبرني بما أسأله عنه . فبعث إليه عبد المسيح بن حيان بن نفيلة ، فقال : يا عبد المسيح ، هل عندك علم بما أريد أن أسألك عنه ؟ قال : يسألني الملك ، فإن كان عندي منه علم
“ 46 “
أعلمته أو لا أعلمته بمن علمه عنده . فأخبره به الملك ، فقال : علمه عند خال لي يسكن مشارق الشام يقال له سطيح . قال : فاذهب إليه واسأله ، وأخبرني بما يخبرك به . فخرج عبد المسيح حتى قدم على سطيح وهو مشرف على الموت ، فسلّم عليه وحيّاه بتحية الملك ، فلم يجبه سطيح ، فأقبل يقول :
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن * أم فارق أزليم به شاو العنن
يا فاصل الخطّة أعيت من ومن * وكاشف الكربة في الوجه الغضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن * وأمه من آل ذئب بن حجن
تحمله وجناء تهوي من وجن * حتى أتى غار الجآجي والفطن
أصكّ مهما الناب صرار الأذن
فرفع سطيح رأسه إليه ، فقال : عبد المسيح يهوي إلى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك ساسان لاتجاس الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان : رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة ، وانتشرت في بلاد فارس . يا عبد المسيح ، إذا ظهرت التلاوة ، وغارت بحيرة ساوة ، وخرج صاحب الهراوة ، وفاض وادي سماوة ، فليس الشام لسطيح بشام ، يملك منهم ملوك وملكات ، على عدد الشرافات ، وكل ما هو آت آت ، ثم مات .
فقام عبد المسيح وهو يقول :
شمّر فإنك ماضي الهمّ شمير * لا يفزعنك تشديد وتعزير
فربما ربما أضحوا بمنزلة * يهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وسابور وشابور
والناس أولاد علّات فمن علموا * أن قد أقلّ فمهجور ومحقور
وهم بنو آدم لما رأوا نسبا * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشرّ مجموعان في قرن * فالخير متّبع والشرّ محذور
قال : فرجع عبد المسيح إلى كسرى ، فأخبره ، فقال : إلى أن يملك منّا أربعة عشر تكون أمور وأمور . قال : فملك منهم عشرة في أربع سنين ، وملك الباقون بعد أولاد علاتهم ، الأولاد لأب واحد ، وأمهم شتى . أشد هصور ، وهصير ، وهصار : وهو الذي يكسر أزلام القوم أزليما ، أي ولّوا سراعا . وشاو : أسبق . والعنن : مصدر عنّ يعنّ عنّا ، أي اعترض ، ويكون أزلم مقصورا من إزلام ، والجآجئ : جمع جؤجؤ ، وهو صدر الطير والسفينة . والموبذان : قاضي المجوس ، ويجمع موابذة . والشرفة : جمعها شرف ،
“ 47 “
والشرفة في غير هذا الموضع خيار المال . ورجست السماء وارتجست : إذا رعدت وتمخّضت .
خبر ظريف في الحنين إلى الوطن
قال ابن الرومي في ذلك :
وحبّب أوطان الرجال إليهم * مأرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا الأوطان ذكرتهم * عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
روينا من حديث أبي الوليد ، عن محمد بن أبي عمر ، عن القاضي محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي ، عن القاضي الأوقص محمد بن عبد الرحمن بن هشام ، قال : خرجت غازيا في خلافة ابن مروان ، فقفلنا من بلاد الروم ، فأصابنا مطر ، فآوينا إلى قصر فاستكنّا به من المطر ، فلما أمسينا خرجت جارية مولدة من القصر ، فتذكرت مكة وبكت عليها ، وأنشأت تقول :
من كان ذا شجن بالشام يحسبه * فإن في غيره أمسى إلى الشجن
فإن ذا القصر حقا ما به وطن * لكن بمكة أمسى الأهل والوطن
من ذا يسائل عنّا أين منزلنا * فالأقحوانة منّا منزل قمن
إذ يلبث العيش صفوا ما يكدّره * طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن
قال : فلما أصبحنا لقيت صاحب القصر فقلت له : رأيت جارية مولّدة خرجت من قصرك ، فسمعتها تنشد كذا وكذا ، فقال : هذه جارية مولدة مكيّة اشتريتها ، وخرجت بها إلى الشام ، فو اللّه ما ترى عيشنا ولا ما نحن فيه شيئا ، فقلت : أتبيعها ؟ فقال : إذا فارقت روحي .
قولها : فالأقحوانة منّا منزل قمن : الأقحوانة منزل عند الليط بمكة ، كان مجلسا يجلس فيه من يخرج من مكة ، يتحدثون فيه بالعشيّ ، ويلبسون الثياب المحمّرة والمورّدة والمطيّبة ، فكان مجلسهم من حسن ثيابهم يقال له الأقحوانة .
وقالت بعض بنات الأعراب : روتني صاحبة القصر الذي على شاطئ دجلة قبالة سامرّاء يقال له عاشق ومعشوق ، وكان قد عشقها بعض الخلفاء فتزوّجها ، ونقلها من البادية ، فتغيّر عليها الحال . وكانت تحنّ إلى ما نشأت عليه ، فبنى لها هذا القصر ، وأمر بالإبل والغنم أن تحلب بكرة وعشية على باب قصرها في البرية ، فأنست بعض أنس ، فدخل عليها الخليفة يوما وهي تبكي وتقول :
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin