الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 11
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 167 “
النهاية ، به حي كل حي ، وله نشأ كل شيء ، ونحن الفقراء وهو الغني ، فسبحانه هو الواحد العلي ، فمن كانت هذه رتبته ، فقد علت همته ، بنوره أشرف كل نور وسطع ، وعما سواه انقطع ، تعزز به كل عارف وتاه ، وتنزه عن ملاحظة ما سواه ولم يقنع من مولاه إلا بمولاه .
وسماعنا على قول الشريف الرضيّ :
يا طربا لنفحة نجدية * أعدل حر القلب باستبرادها
وما الصبا ريحيّ لولا أنها * إذا جرت مرت على بلادها
السماع في ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « إن للّه نفحات ، ألا فتعرّضوا لنفحات ربكم العلوية التي تحصل للإنسان عند سجوده في مقام القرب عند مناجاته » ، قال : اجعلوها في سجودكم ، يقول : وما أتقيد بريح مخصوصة ، إلا أن الصبا لما كانت تهب من أفق الشروق ، ومطلبنا الشهود والروية ، لذلك أريدها ، وأسمع حديثها ، وعلى قوله أيضا بالنفس :
حلفت بالمقصرين * ركبوا فأوجفوا
لانوا على العيس وخا * فوا فوتها فعنفوا
رجوا لأثقال الذنو * ب ساعة تخفّفوا
فاستنقذوا بجهدهم * سارين حتى وقفوا
فلثموا ومسحوا * وجمّروا وطرفوا
وصية خطاب بن المعلّى المخزومي لابنه
حدثنا يونس بن يحيى ، قال : ثنا الحاجب أبو الفتح محمد بن الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطي ، قال : حدثنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن حبرون ، قال :
حدثنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم بن شادان ، قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الطيبي ، قال : أخبرنا أبو عبد اللّه أحمد بن شاكر الريحاني ، قال : أنا أبو حاتم ، قال : ثنا محمد بن عطية ، قال : قال خطاب بن المعلى المخزومي القرشي لابنه : يا بني ، عليك بتقوى اللّه عز وجل وطاعته ، وتجنب محارمه باتباعك سنّته ومعاملته ، حتى يصحّ عيشك ، وتقرّ عينك ، فإنه لا يخفى على اللّه خافية ، وإني قد رسمت لك رسما ، وسمت لك وسما ، إن أنت حفظته ووعيته وعملت به ملئت بك أعين الملوك .
فأطع أباك واقتصر على وصيته ، وفرّغ لذلك ذهنك ، واشغل به قلبك ولبّك ، وإياك وهدر الكلام ، وكثرة الضحك والمزاح ، ومماراة الإخوان ، فإن ذلك يذهب البهاء ، ويوقع الشحناء ، وعليك بالرزانة
“ 168 “
والوقار ، من غير كبر يوصف منك ، ولا خيلاء تحكى عنك ، والق صديقك وعدوّك بوجه الرضا وكفّ الأذى ، من غير ذلة لهم ، ولا مهابة منهم ، وكن في جميع أمورك أوسطها ، فإن خير الأمور أوسطها ، وأقلل الكلام ، وافش السلام ، وامش متمكنا ، ولا تخطّ برجليك ، ولا تسحب ذيلك ، ولا تلق رداءك ، ولا تنظر في عطفيك ، ولا تكثر الالتفات وراءك ، ولا تقف على الجماعات ، ولا تتخذ السوق مجلسا ، ولا الحوانيت متحدثا ، ولا تكثر المراء ، ولا تنازع السفهاء ، وإن قضيت فاختصر ، وإن مدحت فاقتصر ، وإن جلست فتربّع ، وتحفّظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها ، والعبث بلحيتك وخاتمك ، وذؤابة سيفك ، وتخليل أسنانك ، وإدخال يدك في أنفك ، وطرد الذباب عن وجهك ، وكثرة التثاؤب والتمطي ، وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك ، ويغتمزون به فيك .
وليكن مجلسك هاديا ، وحديثك مقسوما ، واصغ إلى الكلام الحسن ممن يحدثك من غير إظهار عجب منك ، ولا تسأله إعادة ، وغضّ عن الفكاهات من المضاحك والحكايات ، ولا تحدّث عن إعجابك بولدك ، ولا خادمك ، ولا عن فرسك وسيفك .
وإياك وأحاديث الرؤيا ، فإنك إن أظهرت الفرح بها والتعجب منها طمع فيك السفهاء ، فولدوا لك الأحلام ، واغتمزوا في عقلك .
ولا تتصنع تصنّع المرأة ، ولا تبذل ببذل العبد ، وغب بامتشاط لحيتك ، وتوقّ نتف الشيب ، وكثرة الكحل ، والإسراف في الدهن ، وليكن كحلك غبّا . ولا تلحّ في الحاجات ، ولا تخضع في الطلبات ، ولا تعلم أهلك وولدك فضلا عن غيرهم عدّة مالك ، فإنهم إذا رأوه قليلا هنت عليهم ، وإن كان كثيرا لم يبلغ به مرضاتهم ، واجفهم من غير عنف ، ولن لهم من غير ضعف ، ولا تهازل في حاجتك أمتك ولا عبدك ، فيسقط وقارك من قلوبهم .
وإذا خاصمت فتوقّر ، وتحفّظ من جهلك ، وتجنب عجلتك ، وتفكّر في حجتك ، وأر الحاكم بينكما حلمك ، ولا تكثر الإشارة بيدك ، ولا تحفر على رتبتك ، وتوقّ حمرة الوجه ، وعرق الجبين .
وإن سفه عليك فاحلم ، وإذا هدأ غضبك فتكلم ، وأكرم عرضك ، وألق الفضول عنك . وإن قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السنان ، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك ، وارفق به كل رفقك ، وكلّمه بما يشتهي ما لم يصنع في ذلك حقا من حقوق اللّه ، ولا يحملنك ما ترى من ألطافه ، إياك وخاصته بك أن تدخل بينه وبين أحد من أهله وولده ، وحشمه ، إلا بخير ، وإن كان لذلك منك مستمعا ، وللقول منك فيه مطيعا ، فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعة .
وإذا وعدت فحقق ، وإذا حدّثت فاصدق ، ولا تجهر بمنطقك كمنازع الأصمّ ، ولا
“ 169 “
تخافت به كمخافتة الأخرس ، وتخيّر محاسن القول بالحديث المقبول ، وإذا حدّثت بسماع فانسبه إلى أهله ، وإياك والأحاديث الغريبة المستبشعة التي تنكرها القلوب ، وتقف لها الجلود ، وإياك ومضاعف الكلام ، نعم نعم ، ولا ولا ، وأجل وأجل ، وما أشبه ذلك . وإذا توضأت فأجد عرك كفيك ، ولا تتنخع في الطست ، وليكن طرحك الماء من فيك مسترسلا ، ولا تمجّه فينضح على أقرب جلسائك ، ولا تعضّ بعض اللقمة ثم تعيد ما بقي منها في متصبّع ، فإن ذلك مكروه .
ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملوك ، ولا تعبث بالمشاش ، ولا تعبّ طعاما ولا شيئا مما يقرّب على المائدة ، من بقل أو خلّ أو تابل أو عسل ، فإن أصحابه صيّرت لنفسها المهابة . ولا تمسك إمساك المسكين المثبور ، ولا تبذّر تبذير السفيه المغرور ، واعرف في مالك واجب الحقوق ، وحرمة الصديق ، واستغن عن الناس يحتاجون إليك .
واعلم أن الجشع ( يعني الطمع ) يدعو إلى الطبع والرغبة ، كما قيل تدقّ الرقبة ، والأكلة تمنع الأكلات ، والتعفف مال جسيم ، وخلق كريم ، ومعرفة الرجل قدره تشرّف ذكره ، ومن تعدّى القدر هوى في بعيد القفر ، والصدق زين ، والكذب شين ، ولصدق يسرع عطب صاحبه أحسن عاقبة من كذب يسلم عليه قائله ، ومعاداة الحليم خير من مصادقة الأحمق ، والزوجة السوء الدمن الداء العضال ، ونكاح العجوز يذهب ماء الوجه ، وطاعة النساء تزري بالعقلاء .
تشبّه بأهل الفضل تكن منهم ، واتّضع للشرف تدركه ، واعلم أن كل امرئ حيث وضع نفسه ، وإنما ينسب الصارم إلى صانعه ، والمرء يعرف بقرينه ، وإياك وإخوان السوء فإنهم يخونون من رافقهم ، ويخونون من صادقهم ، وقربهم أعدى من الجرب ، ورفضهم من استكمال الأرب ، وجفوة المستجير لؤم ، والعجلة شؤم ، وسوء التدبير وهم .
والإخوان اثنان : فمحافظ عليك عند البلاء ، وصديق لك في الرخاء ، فاحفظ صديق البلية ، وتجنّب صديق العافية ، فإنه أعدى الأعداء . ومن اتّبع الهوى مال به إلى الردى . ولا يعجبنك الظريف من الرجال ، ولا تحقر ضئيلا كالخلال ، وإنما المرء بأصغريه : قلبه ولسانه ، ولا ينتفع منه إلا بأصغريه . وتوقّ الفساد ، وإن كنت في بلاد الأعادي . ولا تفرش عرضك لمن دونك ، ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك . ولا تكثر الكلام ، فتثقل على الأقوام ، وامنح البشر جليسك ، والقبول . وإياك وكثرة التبزيق ، والتلويق ، والتنويق ، فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث ، والتصنع ، لمغازلة النساء .
وكن منتهزا في فرصتك ، رفيقا في حاجتك ، مثبّتا في عجلتك ، والبس لكل دهر ثيابه ، وكن مع كل قوم في سلكهم ، واحذر ما يكون بك اللائمة في آخرتك ، ولا تعجل في
“ 170 “
أمر حتى تنظر في عاقبته ، وعليك بالتنوّر في كل شهر ، وإياك وحلق الإبط بالنورة ، وليكن السواك من طبعك ، وإذا استكت فعرضا ، وعليك بالعمارة فإنها أنفع من التجارة ، وعلاج الزرع خير من اقتناء الضرع ، ومنازعتك اللئيم يطمع فيك ، ومن أكرم عرضه أكرمه الناس ، ومعرفة الحق من إخلاص الصدق ، والرفيق الصالح ابن عم . من أيسر عظم ، ومن افتقر احتقر .
قصّر في المقالة مخافة الإجابة ، والساعي عاتب عليك .
طول السفر ملالة ، وكثرة المنى ضلالة ، وليس للمعاتب صديق ، ولا على الميت شفيق ، والأدب للشيخ عياء ، والأدب للغلام شفاء ، والدين أزين الأمور ، والشماتة سفاهة ، والسكران شيطان ، وكلامه هذيان ، والعادة طبيعة لازمة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . ومن حلّ عقدا احتمل حقدا ، والفرار عار ، والتقدم مخاطرة ، وكثرة العلل مع الوجود من البخل ، وشر الرجال الكثير الاعتلال ( يعني في القول ) ، وحسن اللقاء يذهب بالشحناء ، ولين الكلام من أخلاق الكرام .
يا بني ، إن زوجة الرجل سكنه ، ولا عيش له مع خلافها . وإذا هممت بنكاح امرأة فاسأل عن أهلها ، فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة .
اعلم أن النساء أشد اختلافا من أصابع الكف ، فتوقّ منهن كل ذات يد مجبولة على الأذى ، فمنهم المعجبة بنفسها ، المزرية ببعلها ، إن أكرمها رأت فضلها عليه ، ولا تشكره على جميل ، ولا ترضى منه بقليل ، لسانها عليه سفيه صقيل ، قد كشفت اللقحة ستر الحياء عن وجهها ، ولا تستحي من عوارها ولا من جارها ، هدّارة ، ظنّانة ، مهارشة عقاره ، وجه زوجها مكلوم ، وعرضه مشتوم ، لا ترعاه لدنيا ولا دين ، ولا تحفظه لصحبة ، ولا لكبر سنّ ، حجابه مهتوك ، وسرّه منشور ، وخيره مدفون ، يصبح كئيبا ، ويمسي غائبا ، شرابه شر ، وطعامه غيظ ، وولده صائم ، وبيته مستهلك ، وثوبه وسخ ، ورأسه شعث ، إن ضحك فراهب ، وإن تكلم فمتكاره ، نهاره ليل ، وليله نهار ، تلدغه مثل الحية ، وتكرشه مثل العقرب ، صهصلق ختاره ، دفلس لخناء تهبّ مع الرياح ، وتطير مع كل ذي جناح ، إن قال لا قالت : نعم ، وإن قال : نعم ، قالت : لا ، محتقرة لما في يديه ، تضرب له الأمثال ، وتقصر به دون الرجال ، وتنقله من حال إلى حال ، حتى قلى بيته ، وملّ ولده ، وغبّ عيشه ، وهانت عليه نفسه ، حتى أنكره إخوانه ، ورحمه جيرانه .
ومنهن الحمقاء ذات الدلال في غير موضعه ، الماضغة للسانها ، الآخذة في شأنها ، قد قنعت بحبه ، ورضيت بكسبه ، تأكل كالحمار الراتع ، وترتفع الشمس ولم تسمع لها
“ 171 “
صوتا ، ولم تكنس لها بيتا ، طعامها بائت ، وإناؤها وضر ، وعجينها وماؤها فاتر ، وما عونها ممنوع ، وخادمها مضروب .
ومنهن العطوف الودود ، المباركة الولود ، المأمونة على غيبتها ، المحبوبة في جيرانها ، الحافظة لسرها وعلنها ، الكريمة التبعّل ، الكثيرة التفضّل ، الخافضة صوتا ، النظيفة بيتا ، خادمها مسمّن ، وابنها مزين ، وخيرها دائم ، وزوجها ناعم ، مصونة الوفة ، بالخير والعفاف موصوفة . جعلك اللّه يا بني ممن يقتدي بالخير ، ويأتمّ بالتّقى ، ويتجنب السخط ، ويحب الرضى ، واللّه خليفتي عليك ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم .
ومن الشمائل الأريحية ما ذكره الأصمعي ، قال : دخل إسحاق النديم على أمير المؤمنين الرشيد فقال : ما بالك ؟
فقال إسحاق :
سوامي سوام الأكثرين تجملا * ومالي كما قد تعلمين قليل
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري * فذلك شيء ما إليه سبيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى * ورأي أمير المؤمنين جميل
أرى الناس خلّان الجواد ولا أرى * بخيلا له في العالمين خليل
فقال الرشيد : هذا واللّه الشعر الذي صحّت معانيه ، وقويت أركانه ومبانيه ، ولذّ على أفواه القائلين ، وسماع السامعين . يا غلام ، احمل إليه خمسين ألف درهم .
قال إسحاق : يا أمير المؤمنين ، كيف أقبل صلتك وقد مدحت شعري بأكثر ما مدحتك به ؟ قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد للدراهم مني .
ومن هذا الباب ما حكاه الأصمعي قال : دخل المأمون ذات يوم الديوان ، فنظر إلى غلام جميل على أذنه قلم ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا الناشئ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمّل لخدمتك ، الحسن بن رجاء ، فقال المأمون : بالإحسان بالبديهة تتفاضل العقول ، يرفع من الديوان إلى مرتبة الخاصة ، ويعطى مائة ألف درهم تقوية له .
ومن صفات العارفين ما ذكره إبراهيم بن أدهم قال : من علامات العارف أن يكون أكثر صمته التفكير والعبرة ، وأكثر كلامه الثناء والمدحة ، وأكثر علمه الطاعة والخدمة ، وأكثر نظره إلى الطائف صنع رب العزة .
وسئل بعض المحققين من أهل اللّه : ما علامة العازف والعابد والمحب والخائف ؟
فقال : الخائف ذو هرب ، والعابد ذو نصب ، والمحب ذو شغف ، والعازف ذو طرب .
وقال بعضهم : سمعت بعض المنقطعين وهو يتأوه ويقول : آه على أعمار في
“ 172 “
المعصية ضاعت ، آه على أسرار بسوء المعاملة ذاعت ، آه على أوقات في المخالفة انقرضت ، آه على ساعات اكتساب المعصية ما حفظت ، آه على توبة أبرمت ثم نقضت ، آه على عهود أكدت ثم لفظت ، آه على نفوس تكفّل الخالق بأرزاقها فاعترضت ، آه على شباب ولّي بعد إقباله ، آه على شيب مؤذن للجسد بارتحاله ، فأين الاستعداد والاهتمام ؟
وأين التزوّد والاعتزام ؟ وأين المبادرة والاغتنام ؟ إن كنت ممن يبيع معالم الشريعة بالحطام ، فاعلم أنه ليس في خسارتك كلام .
وأنشدنا محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
إذا وافى بصولته المشيب * فلا عيش يلذّ ولا يطيب
أتطمع في الخلود على الليالي * وشيب الرأس يتبعه شعوب
إذا نزل المشيب بأرض عبد * فمنهل موته منه قريب
وأنشدني أبو بكر بن صاف اللخمي لبعضهم :
الحمد للّه ثم الحمد للّه * فما على الأرض من ساه ولا لاه
ما ذا يعاين ذو عينين من عجب * يوم الخروج من الدنيا إلى اللّه
وروينا من حديث الهاشمي بسنده إلى أنس بن مالك قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « أما رأيت المأخوذين على العزة ، والمزعجين بعد الطمأنينة ، الذين أقاموا على الشّبهات ، وجنحوا إلى الشهوات ، حتى أتتهم رسل ربهم ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم رجعوا ، قدموا على ما عملوا ، وندموا على ما خلّفوا ، أو لم يغن الندم ، وقد جفّ القلم ، فرحم اللّه امرأ قدّم خيرا ، وأنفق قصدا ، وقال صدقا ، وملك دواعي شهواته ولم تملكه ، وعصى إمرة نفسه فلم تهلكه » .
موعظة سفيان الثوري للمنصور بمكة
حدثنا محمد بن إسماعيل التميمي ، ثنا عبد اللّه بن علي بن محمد ، ثنا محمد بن أبي منصور ، عن المبارك بن عبد الجبّار ، ثنا أبو إسحاق البرمكي ، عن أحمد بن جعفر بن سالم ، ثنا أبو بكر بن عبد الخالق ، عن يعقوب بن يوسف النسبي ، عن أبي نشيط محمد بن هارون الغرباني قال : سمعت سفيان الثوري يقول : دخلت على أبي جعفر المنصور بمنى ، فقلت له : اتق اللّه ، فإنما أنزلت هذه المنزلة ، وصرت إلى هذا الموضع ، بسيوف المهاجرين والأنصار ، وأبناؤهم يموتون جوعا . حج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا ، وكان ينزل تحت الشجر ، فقال لي : إنما أريد أن أكون مثلك ،
“ 173 “
فقلت : لا تكن مثلي ، ولكن كن دون ما أنت فيه ، وفوق ما أنا فيه ، فقال : اخرج . قال الثوري : فقلت له : إني لأعلم مكان رجل واحد لو صلح صلحت الأمة كلها ، قال : من هو ؟ قلت : أنت يا أمير المؤمنين .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في واقعتي أبا حامد ، وأبا يزيد ، وأبا طالب ، وأشياخ الصوفية ، وأبا مدين ، فقال أحدهم للشيخ أبي مدين : قل لنا شيئا في المعرفة ، فقال :
المعرفة هي الحجة لبلوغ العافية وثمرتها التوحيد ، وإليه النهاية .
فالتوحيد هو غاية الأمل ، وما افترق في الوجود عنده اشتمل ، هو المبدأ ، وله البيان وإليه المرجع ، وبه يحصل الأمان ، سره في مخلوقاته خفي وحكمه في مصنوعاته ظاهر جلي ، أمره قد انتشر في الورى ، وقضاؤه وقدره في كل شيء قد جرى ، وهو الأول قبل كل شيء ، وهو الآخر ، وإليه يرجع الأمر كله ، وهو الآمر ، فالمحسوسات كلها هباء ، وهي حجابه سبحانه وبه خفي ، فقلب العارف طاهر مما سواه ، فإذا أعين عليه بادره برحمته فقواه بحياته امتدت حياته ، وبصفاته امتدت صفاته ، فمخلوقاته بأسرها إليه مضطرة ، إذ لم يخل شيء من الأشياء من سره حتى الذرة ، قد شهدت بأسرها إليه ، ونطقت بأنه الواحد ، وأنه ليس له شريك في ملكه ، ولا ولد ، ولا والد ، شهادة قد أحكمتها الفطرة ، يشهدها العارف في كل خطرة ونظرة ، فالعارفون به ظهرت لهم الغيوب ، وبذكره اطمأنت منهم القلوب ، فلم يعرجوا على شيء مما سواه ، وما منهم من قنع بشيء عوضا عن مولاه ، فأسرار العارفين عن الخلق محجوبة ، وعند من عرفهم ظاهرة بالحسب مطلوبة ، وقلوب الغير بالأسباب في شعب هي من المعرفة خالية ، ومن الحكمة مسلوبة . لاحظوا أنفسهم فهم منها على غرور ، من أسرار العارفين خلوا ، وبظواهرهم تشبهوا ، والناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا .
روينا من حديث الخطابي قال : كان سعد ممن اعتزل أيام الفتنة ، ولم يكن مع واحد من الفريقين ، فراودوه على الخروج فأبى ، وضرب لهم مثلا :
قال الخطابي : أنا ابن الأعرابي ، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام ، حدثنا أبي ، ثنا كثير بن مروان الفلسطيني ، ثنا جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ،
قال سعد : لما دعوه إلى الخروج معهم أتى عليهم وقال : لا ، إلا أن تعطوني سيفا له عينان بصيرتان ، ولسانا ينطق بالكافر فأقتله ، وبالمؤمن فأكف عنه ، وضرب لهم مثلا ،
وقال : مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجّة بيضاء ، فبينما هم كذلك إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق ، والتبس عليهم ،
وقال بعضهم : الطريق ذات اليمين ، فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا ، فقال آخرون : الطريق ذات
“ 174 “
الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا ، وقال آخرون : كنا على الطريق حيث هاجت الريح فننيخ ، فأناخوا وأصبحوا فذهب الريح ، فتبين الطريق ، فهؤلاء الجماعة قالوا نلزم ما فارقنا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نلقاه ، ولا ندخل في شيء من الفتن . قال ميمون بن مهران : فصار الجماعة والفئة التي يدعى فيها الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن ، حتى أذهب اللّه عز وجل الفرقة ، وجمع الألفة ، فدخلوا الجماعة ، ولزموا الطاعة ، وانقادوا ، فمن فعل ذلك ولزمه نجا ، ومن لم يلزمه وقع في المهالك .
وحدثنا يونس بن يحيى الهاشمي ، عن أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطن ، عن أبي الفضل أحمد بن خيرون ، عن أبي علي الحسن بن إبراهيم بن شادان ، عن الحسن أحمد بن إسحاق ، عن أبي عبد اللّه أحمد بن محمد ، عن عمّار بن عبد اللّه المصيصي ، عن مخلد بن الحسين ، عن واصل ، ذكر أنه أسر غلام من بطاركة الروم ، وكان غلاما جميلا ، فلما صار إلى دار الإسلام ، وقع إلى الخليفة ، وذلك في خلافة بني أمية ، فسمّاه بشيرا ، وأمر به إلى الكتّاب ، فكتب ، وقرأ القرآن ، وطلب الأحاديث ، وروى الشعر ، فلما بلغ أتاه الشيطان فوسوس له ، وذكّره النصرانية دين آبائه ، فهرب مرتدا من دار الإسلام إلى أرض الروم الذي سبق له في أم الكتاب به ، فأتى به إلى الطاغية ، فسأله عن حاله ، وما الذي دعاه إلى الدخول في دين النصرانية ؟ فأخبره برغبته فيه ، فعظم في عين الملك ورأسه ، وصيّره بطريركا من بطاركته ، وأقطعه قرى كثيرة ، فهي اليوم تعرف به ، يقال لها : قرى بشير .
وكان من قضاء اللّه وقدره أنه أسر ثلاثين أسيرا من المسلمين ، فأدخلوا على بشير ، فسألهم رجلا رجلا عن دينهم ، وكان فيهم شيخ من أهل دمشق يقال له واصل ، فسأله بشير ، فأبى الشيخ أن يرد عليه شيئا ، فقال له بشير : ما لك لا تجيبني ؟ قال : لست أجيبك اليوم بشيء ، فقال بشير للشيخ : إني سائلك غدا ، فأعدّ لي جوابا ، وأمره بالانصراف . فلما كان الغد بعث إليه بشير ، فأدخل عليه الشيخ ،
فقال بشير : الحمد للّه الذي كان قبل أن يكون شيء من خلقه ، وخلق سبع سماوات طباقا بلا عون كان معه من خلقه ، ودحى سبع أرضين بلا عون كان معه من خلقه ، فعجب لكم يا معاشر العرب حين تقولون : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
فسكت الشيخ ، فقال : ما لك لا تجيبني ؟ قال : كيف أجيبك وأنا أسير في يديك ؟ فإن أجبتك بما تهوى أسخطت عليّ ربي ، وأهلكت عليّ ديني ، وإن أجبتك بما لا تهوى أهلكت نفسي ، فأعطني عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه عز وجل على النبيين ، وما أخذ
“ 175 “
النبيون على الأمم ، أن لا تغدر بي ، ولا تمحلني ، ولا تبغ لي باغية سوء ، وأنك إذا سمعت الحق تنقاد له . قال بشير : فلك عليّ عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه على النبيين ، وما أخذ النبيون على الأمم ، أن لا أغدر بك ، ولا أمحل بك ، ولا أبغي لك باغية سوء ، وأني إذا سمعت الحق أنقاد له .
فقال الشيخ : أما ما وصفت من صفة اللّه عز وجل ، فقد أحسنت الصفة ، ولم يبلغ علمك ، ولم يستحكم عليه رأيك أكثر من هذا ، واللّه عز وجل أعظم وأكبر مما وصفت ، ولا يصف الواصفون صفته ، وأما ما ذكرت من هذين الرجلين ، فقد أسأت الصفة ، ألم يكونا يأكلان الطعام ، ويشربان الشراب ، ويبوّلان ، ويتغوطان ، وينامان ، ويستيقظان ، ويفرحان ، ويحزنان ؟ قال بشير : بلى . قال : فلم فرّقت بينهما ؟
قال بشير : لأن عيسى كان له روحان اثنان : فروح يبرئ بها الأكمه والأبرص ، وروح يعلم بها الغيب ، ويعلم ما في قعر البحار ، وما يتحات من ورق الشجر ،
قال واصل : روحان اثنان في جسد واحد ؟ قال بشير : نعم . قال الشيخ : فهل كانت القوية تعرف موضع الضعيفة منها أم لا ؟ قال بشير :
قاتلك اللّه ما ذا تريد أن تقول إن قلت إنها لا تعلم ؟ قال الشيخ : إن قلت إنها تعلم ، فما لهذه القوية لا تطرد عنه هذه الآفات ، وإن قلت إنها لا تعلم قلت كيف تعلم الغيوب ؟ ولا نعلم روحا في محل واحد في جسد واحد .
قال : فسكت بشير ، فقال الشيخ : باللّه هل عبدتم الصليب مثالا لعيسى ابن مريم أنه صلب ؟ قال بشير : نعم .
قال الشيخ : فبرضى منه أم بسخط ؟ قال بشير : هذه أخت تلك ، ما ذا تريد أن تقول إن قلت برضى منه ؟ قال الشيخ : إن قلت برضى منه قلت فما أنتم من قوم أعطوا ما سألوا وأرادوا ، وإن قلت بسخط قلت فلم تعبدون ما لا يمنع عن نفسه ؟
قال بشير :
والضارّ والنافع ، ما ينبغي لمثلك أن يعيش إلا في النصرانية ، أراك رجلا قد تعلمت الكلام ، وأنا رجل صاحب سيف ، ولكن آتيك غدا بمن يخزيك اللّه على يديه ، ثم أمره بالانصراف .
فلما كان الغد بعث بشير إلى الشيخ ، فلما دخل عليه إذا عنده قس عظيم اللحية ، فقال له بشير : إن هذا رجل من العرب له حكم وعقل ، وأصل في العرب ، وقد أحب أن يدخل في ديننا فكلّمه حتى تنصّره ، فسجد القس لبشير ، وقال : قديما ما أتيت إلا بالخير ، وهذا أفضل ما أتيت به إليّ .
ثم أقبل على الشيخ وقال له : أيها الشيخ ، ما أنت بالكبير الذي ذهب عنه عقله وتفرق عنه حكمه ، ولا أنت بالصغير الذي لم يستكمل عقله ولم يبلغ حلمه ، غدا أغطسك في المعمودية غطسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك . قال الشيخ : فما هذه المعمودية ؟ قال القس : ماء مقدس . قال الشيخ : من قدّسه ؟ قال القس : أنا قدّسته ،
“ 176 “
والأساقفة من قبلي . قال الشيخ : فهلّا كانت لك ذنوب وخطايا وللأساقفة من قبلك ، أم أنتم مبرءون من النقص ؟ قال القس : نعم ، إنها لأكثر من ذلك ، ولا يسلم من الذنب والعيب إلا اللّه تعالى ، قال الشيخ : هل يقدّس الماء من لم يقدّس نفسه ؟
قال : فسكت القس ، ثم قال : إني لم أقدسه أنا . قال الشيخ : فكيف كانت القصة إذا ؟ قال القس : إنها سنّة من عيسى ابن مريم ، قال الشيخ : فكيف كان الأمر إذا ؟ قال القس : إن يحيى بن زكريا أغطس عيسى ابن مريم بالأردن غطسة ، ومسح له رأسه ، ودعا له بالبركة . قال الشيخ : واحتاج عيسى إلى يحيى بن زكريا أن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة ؟ فاعبدوا يحيى ، فيحيى خير لكم من عيسى . فسكت القس ، واستلقى بشير على فراشه ، وأدخل فاه في كمه وجعل يضحك ، وقال للقس : قم أخزاك اللّه ، دعوتك لتنصّره ، فإذا أنت قد أسلمت .
ثم إن الشيخ بلغ أمره إلى الملك ، فبعث إليه الملك فقال : ما هذا الذي بلغني عنك من تنقيصك لديني ، ووقيعتك فيه ؟ قال الشيخ : إن لي دينا كنت ساكتا عنه ، فلما سئلت عنه لم أجد بدّا من الذبّ عنه . قال الملك : وهل في يدك حجة ؟ قال : ادع لي من شئت حتى يحاورني ، فإن كان الحق في يدي فلم تلومني على الذبّ عن الحق ، وإن كان الحق في يده رجعت إلى الحق . فدعا الملك بعظيم النصرانية ، فلما دخل عليه سجد له الملك ومن عنده أجمعون . فقال الشيخ : أيها الملك من هذا ؟ قال : رأس النصرانية الذي تأخذ النصرانية عنه دينها . قال الشيخ : فهل له من امرأة ؟ أم هل له من ولد ؟ أم هل له من عقب ؟ فقال له الملك : هذا أزكى وأطهر من أن يدنّس بالنساء ، هذا أزكى وأطهر من أن ينسب إليه الولد ويدنّس بالحيض ، هذا أزكى وأطهر من هذا كله . قال الشيخ : فأنتم تكرهون الآدمي ، يكون منه ما يكون من بني آدم من الغائط والبول والنوم والسهر ، وتأخذكم غيرة من ذكر نسبة النساء إليه ، وتزعمون أن رب العالمين سكن ظلمة البطن ، وضيق الرحم ، ودنس الحيض . قال القس : هذا شيطان من شياطين البحر ، رمى به البحر إليكم فأخرجوه من حيث جاء .
فأقبل الشيخ على القس وقال : عبدتم عيسى ابن مريم لأنه لا أب له ، فضمّوا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهان اثنان ، وإن كنتم عبدتموه لأنه أحيا الموتى ، فهذا حزقيل مرّ بميت تجدونه في الإنجيل لا تنكرونه ، فدعا اللّه عز وجل فأحياه له حتى كلّمه ، فضمّوا حزقيل مع عيسى وآدم حتى يكون لكم ثلاثة ، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أراكم المعجزات ، فهذا يوشع بن نون قاتل قومه حتى غربت الشمس ، فقال لها : ارجعي بإذن اللّه
“ 177 “
فرجعت اثني عشر برجا ، فضمّوا يوشع أيضا إلى عيسى يكون رابع أربعة ، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه عرج به إلى السماء ، فمن ملائكة اللّه عز وجل مع كل نفس ، اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، يعرجون إلى السماء ، ما لو ذهبنا نعدّهم لالتبس علينا عقولنا ، واختلط علينا ديننا ، وما زاد في ديننا إلا تحيرا . ثم قال : أيها القس ، أخبرني عن رجل يحل به الموت ، الموت أهون عليه أم القتل ؟
قال القس : بل القتل . قال : فلم لم يقتل عيسى ابن مريم أمه ، بل عذبها بنزع الروح ؟ إن قلت إنه قتلها فما برّ أمه في قتلها ، وإن قلت إنه لم يقتلها فما برّ أمه في تعذيبها بنزع النفس .
فقال القس : اذهبوا به إلى الكنيسة العظمى ، فإنه لا يدخلها أحد إلا تنصّر . قال الملك : اذهبوا به إلى الكنيسة .
قال الشيخ : لما ذا يذهب بي إلى الكنيسة ولا حجة عليّ دحضت حجتي ؟ قال الملك : لا يضرّك شيء إنما هو بيت من بيوت اللّه تعالى تذكر فيه ربك . قال الشيخ : أما إذا كان هكذا فلا بأس .
فذهبوا به إلى الكنيسة ، فلما دخل إلى الكنيسة وضع إصبعيه في أذنيه ورفع صوته بالآذان ، فجزعوا لذلك جزعا شديدا ، وصرخوا لذلك ، وكتفوه ، وجاءوا به إلى الملك ، فقالوا : أيها الملك ، أحل بنفسه القتل . قال الشيخ : أيها الملك ، أين ذهبوا بي ؟
قال :
ذهبوا بك موضعا تذكر ربك فيه . قال : فقد دخلته وذكرت ربي فيه بلساني ، وعظمته بقلبي ، فإن كان كلما ذكر اللّه في كنائسكم صغر إليكم دينكم فزادكم اللّه صغارا .
قال الملك : صدق ، وما لكم عليه سبيل . قالوا : أيها الملك ، لا نرضى حتى نقتله .
قال الشيخ : إنكم متى قتلتموني فبلغ ذلك ملكنا وضع يده في قتل القسيسين والأساقفة ، ويخرّب الكنائس ، وكسر الصلبان ، ومنع النواقيس . قالوا : وإنه ليفعل ؟
قال : فلا تشكّوا في ذلك . قال : فتفكروا في ذلك فتركوه .
قال الشيخ : أيها الملك ، بم علا أهل الكتاب على أهل الأوثان ؟
قال : لأنهم عبدوا ما عملوا بأيديهم . قال : فهذا أنتم عبدتم ما عملتم بأيديكم هذه الأصنام التي في كنائسكم ، فإن كان في الإنجيل فلا كلام لنا فيه ، وإن لم يكن في الإنجيل فما أشبه دينكم بدين الأوثان . قال : صدق ، هل تجدونه في الإنجيل ؟
قال القس : لا . قال : فلم تشبهوا ديني بدين أهل الأوثان ؟
قال : فأمرهم بتبييض الكنائس ، فجعلوا يبيضونها ويبكون .
قال القس : هذا شيطان من شياطين العرب رمى به البحر إليكم ، فأخرجوه من حيث جاء ، ولا يقطر من دمه قطرة في بلادكم فيفسد عليكم دينكم ، فوكلوا به رجالا ، فأخرجوه من حيث جاء من بلاد دمشق . ووضع الملك يده في قتل القسيسين والبطاركة والأساقفة ، حتى هربوا إلى الشام ، لما لم يجد واحدا يحاجّه . انتهى .
أخبرني عبد الوحد بن إسماعيل العسقلاني قال : سمعت جدّي لأميّ عمر بن عبد
“ 178 “
الحميد يقول : اعلم أن الناس في الدنيا على أبواب ملوكهم طبقات ، فمنهم الخواص المقرّبون ، والخدم المنتخبون ، والأمناء الثقات ، والكبراء السادات ، والتجار الطالبون للأرباح ، والفقراء أصحاب الصدقات .
فأحسن أحوالك أن تنزل نفسك منزلة الفقراء والسؤال لا مقام ذي الصلة والنوال ، كم يدعون فلا يجيبون ، ويرغبون فلا يرغبون ؟ فما لكم لا تكونون
كما قال اللّه تعالى :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وأشرف الذكر ذكر القلب ، لأنه موضع نظر اللّه عز وجل من العبد .
وقال بعضهم يوبخ نفسه : أما تستحي من اللّه ، كم يكون منك الخطا ومنه العطا ، كم يكون منك الجفا ومنه الوفا ؟ هلّا كان منك التوبة فيكون منه القبول ؟
يا نفس ، كم تعصيه ويستر عليك وتتمادى في الذنب ويمهلك ؟ أما تخشي عقابه ؟ أما تستحي من عتابه ؟ أخاف عليك إن لم تنته عن قبيح فعلك ليصبنّ عليك سخطه ، وليحرقنك بنار غضبه ، هذا قلبك في فلوات المعاصي ضائع ، وسرك في الأعمال القبيحة رائع ، فبادري بالتوبة والإقلاع ، والندم والاسترجاع ، فكأنك وقد كشف القناع ، ولا تغترّي بالحياة الدنيا فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع .
وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
أنت سترى كيف أهتكه * ذا طريق لست أسلكه
أملك الدنيا بأجمعها * وفؤادي لست أملكه
قال بعض العارفين : للعارفين أربع علامات : ذكر المنة ، وصدق الهمة ، وعرفان الحرمة ، وخوف الفرقة .
وقال بعض الصالحين : من علامات العارف أن ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار ، وإلى الآخرة بعين الانتظار ، وإلى النفس بعين الاحتقار ، وإلى الطاعة بعين الاعتذار لا بعين الاستكبار ، وإلى المغفرة بعين الاستبشار ، وإلى المعروف سبحانه وتعالى بعين الافتخار .
حدثنا يونس بن يحيى ، ثنا ابن البطيء ، عن ابن شادان ، عن أحمد بن إسحاق ، عن أحمد بن محمود ، عن الحسن بن عبد العزيز المخزومي ، أنا أبو حفص القيسي ، عن أبي معبد ،
قال : سمعت بلال بن سعيد يقول : كان أخوان في بني إسرائيل خرجا يتعبدان ، فلما أرادت الطريق تفرق بينهما قال أحدهما لصاحبه : خذ أنت في هذه الطريق ، وأنا في هذه الطريق ، فإذا كان رأس السنة اجتمعنا في ذلك الموضع ،
فلما اجتمعا قال أحدهما لصاحبه : أي ذنب فيما عملت أعظم ؟ قال : بينما أنا أمشي على الطريق إذا بسنبلة فأخذتها
“ 179 “
فألقيتها في إحدى الأرضين ، أرض عن يميني ، وأرض عن شمالي ، ولا أدري أهي للأرض التي ألقيتها فيها أم للأخرى ؟
ثم قال المسؤول للسائل : أي ذنب فيما عملت أعظم ؟ قال : لا أعلم غير إني كنت أقوم إلى الصلاة ، فأميل مرة على هذه الرّجل ، ومرة على هذه الرّجل ، فلا أدري أكنت أعدل فيما بينهما أم لا ؟ فسمعهما أبوهما من داخل الباب ، فقال : اللهمّ إن كان صادقين فأمتهما ، فخرج فإذا بهما قد ماتا .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن الحسن بن شهاب ، عن أبي الهادي ، عن محمد بن منصور ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حمّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ليس شيء يباعدكم من النار إلا وقد ذكرته لكم ، ولا شيء يقرّبكم من الجنة إلا وقد دللتكم عليه ، إن روح القدس نفث في روعي أنه لن يموت عبد حتى يستكمل رزقه ، فاجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوا شيئا من فضل اللّه بمعصيته ، فإنه لا ينال ما عند اللّه إلا بطاعته ، ألا وإن لكل امرئ رزقا هو آتيه لا محالة ، فمن رضي به بورك له فيه فوسعه ، ومن لم يرض به لم يبارك له فيه ولم يسعه ، إن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله » .
الجزء 11
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 167 “
النهاية ، به حي كل حي ، وله نشأ كل شيء ، ونحن الفقراء وهو الغني ، فسبحانه هو الواحد العلي ، فمن كانت هذه رتبته ، فقد علت همته ، بنوره أشرف كل نور وسطع ، وعما سواه انقطع ، تعزز به كل عارف وتاه ، وتنزه عن ملاحظة ما سواه ولم يقنع من مولاه إلا بمولاه .
وسماعنا على قول الشريف الرضيّ :
يا طربا لنفحة نجدية * أعدل حر القلب باستبرادها
وما الصبا ريحيّ لولا أنها * إذا جرت مرت على بلادها
السماع في ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « إن للّه نفحات ، ألا فتعرّضوا لنفحات ربكم العلوية التي تحصل للإنسان عند سجوده في مقام القرب عند مناجاته » ، قال : اجعلوها في سجودكم ، يقول : وما أتقيد بريح مخصوصة ، إلا أن الصبا لما كانت تهب من أفق الشروق ، ومطلبنا الشهود والروية ، لذلك أريدها ، وأسمع حديثها ، وعلى قوله أيضا بالنفس :
حلفت بالمقصرين * ركبوا فأوجفوا
لانوا على العيس وخا * فوا فوتها فعنفوا
رجوا لأثقال الذنو * ب ساعة تخفّفوا
فاستنقذوا بجهدهم * سارين حتى وقفوا
فلثموا ومسحوا * وجمّروا وطرفوا
وصية خطاب بن المعلّى المخزومي لابنه
حدثنا يونس بن يحيى ، قال : ثنا الحاجب أبو الفتح محمد بن الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطي ، قال : حدثنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن حبرون ، قال :
حدثنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم بن شادان ، قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الطيبي ، قال : أخبرنا أبو عبد اللّه أحمد بن شاكر الريحاني ، قال : أنا أبو حاتم ، قال : ثنا محمد بن عطية ، قال : قال خطاب بن المعلى المخزومي القرشي لابنه : يا بني ، عليك بتقوى اللّه عز وجل وطاعته ، وتجنب محارمه باتباعك سنّته ومعاملته ، حتى يصحّ عيشك ، وتقرّ عينك ، فإنه لا يخفى على اللّه خافية ، وإني قد رسمت لك رسما ، وسمت لك وسما ، إن أنت حفظته ووعيته وعملت به ملئت بك أعين الملوك .
فأطع أباك واقتصر على وصيته ، وفرّغ لذلك ذهنك ، واشغل به قلبك ولبّك ، وإياك وهدر الكلام ، وكثرة الضحك والمزاح ، ومماراة الإخوان ، فإن ذلك يذهب البهاء ، ويوقع الشحناء ، وعليك بالرزانة
“ 168 “
والوقار ، من غير كبر يوصف منك ، ولا خيلاء تحكى عنك ، والق صديقك وعدوّك بوجه الرضا وكفّ الأذى ، من غير ذلة لهم ، ولا مهابة منهم ، وكن في جميع أمورك أوسطها ، فإن خير الأمور أوسطها ، وأقلل الكلام ، وافش السلام ، وامش متمكنا ، ولا تخطّ برجليك ، ولا تسحب ذيلك ، ولا تلق رداءك ، ولا تنظر في عطفيك ، ولا تكثر الالتفات وراءك ، ولا تقف على الجماعات ، ولا تتخذ السوق مجلسا ، ولا الحوانيت متحدثا ، ولا تكثر المراء ، ولا تنازع السفهاء ، وإن قضيت فاختصر ، وإن مدحت فاقتصر ، وإن جلست فتربّع ، وتحفّظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها ، والعبث بلحيتك وخاتمك ، وذؤابة سيفك ، وتخليل أسنانك ، وإدخال يدك في أنفك ، وطرد الذباب عن وجهك ، وكثرة التثاؤب والتمطي ، وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك ، ويغتمزون به فيك .
وليكن مجلسك هاديا ، وحديثك مقسوما ، واصغ إلى الكلام الحسن ممن يحدثك من غير إظهار عجب منك ، ولا تسأله إعادة ، وغضّ عن الفكاهات من المضاحك والحكايات ، ولا تحدّث عن إعجابك بولدك ، ولا خادمك ، ولا عن فرسك وسيفك .
وإياك وأحاديث الرؤيا ، فإنك إن أظهرت الفرح بها والتعجب منها طمع فيك السفهاء ، فولدوا لك الأحلام ، واغتمزوا في عقلك .
ولا تتصنع تصنّع المرأة ، ولا تبذل ببذل العبد ، وغب بامتشاط لحيتك ، وتوقّ نتف الشيب ، وكثرة الكحل ، والإسراف في الدهن ، وليكن كحلك غبّا . ولا تلحّ في الحاجات ، ولا تخضع في الطلبات ، ولا تعلم أهلك وولدك فضلا عن غيرهم عدّة مالك ، فإنهم إذا رأوه قليلا هنت عليهم ، وإن كان كثيرا لم يبلغ به مرضاتهم ، واجفهم من غير عنف ، ولن لهم من غير ضعف ، ولا تهازل في حاجتك أمتك ولا عبدك ، فيسقط وقارك من قلوبهم .
وإذا خاصمت فتوقّر ، وتحفّظ من جهلك ، وتجنب عجلتك ، وتفكّر في حجتك ، وأر الحاكم بينكما حلمك ، ولا تكثر الإشارة بيدك ، ولا تحفر على رتبتك ، وتوقّ حمرة الوجه ، وعرق الجبين .
وإن سفه عليك فاحلم ، وإذا هدأ غضبك فتكلم ، وأكرم عرضك ، وألق الفضول عنك . وإن قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السنان ، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك ، وارفق به كل رفقك ، وكلّمه بما يشتهي ما لم يصنع في ذلك حقا من حقوق اللّه ، ولا يحملنك ما ترى من ألطافه ، إياك وخاصته بك أن تدخل بينه وبين أحد من أهله وولده ، وحشمه ، إلا بخير ، وإن كان لذلك منك مستمعا ، وللقول منك فيه مطيعا ، فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعة .
وإذا وعدت فحقق ، وإذا حدّثت فاصدق ، ولا تجهر بمنطقك كمنازع الأصمّ ، ولا
“ 169 “
تخافت به كمخافتة الأخرس ، وتخيّر محاسن القول بالحديث المقبول ، وإذا حدّثت بسماع فانسبه إلى أهله ، وإياك والأحاديث الغريبة المستبشعة التي تنكرها القلوب ، وتقف لها الجلود ، وإياك ومضاعف الكلام ، نعم نعم ، ولا ولا ، وأجل وأجل ، وما أشبه ذلك . وإذا توضأت فأجد عرك كفيك ، ولا تتنخع في الطست ، وليكن طرحك الماء من فيك مسترسلا ، ولا تمجّه فينضح على أقرب جلسائك ، ولا تعضّ بعض اللقمة ثم تعيد ما بقي منها في متصبّع ، فإن ذلك مكروه .
ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملوك ، ولا تعبث بالمشاش ، ولا تعبّ طعاما ولا شيئا مما يقرّب على المائدة ، من بقل أو خلّ أو تابل أو عسل ، فإن أصحابه صيّرت لنفسها المهابة . ولا تمسك إمساك المسكين المثبور ، ولا تبذّر تبذير السفيه المغرور ، واعرف في مالك واجب الحقوق ، وحرمة الصديق ، واستغن عن الناس يحتاجون إليك .
واعلم أن الجشع ( يعني الطمع ) يدعو إلى الطبع والرغبة ، كما قيل تدقّ الرقبة ، والأكلة تمنع الأكلات ، والتعفف مال جسيم ، وخلق كريم ، ومعرفة الرجل قدره تشرّف ذكره ، ومن تعدّى القدر هوى في بعيد القفر ، والصدق زين ، والكذب شين ، ولصدق يسرع عطب صاحبه أحسن عاقبة من كذب يسلم عليه قائله ، ومعاداة الحليم خير من مصادقة الأحمق ، والزوجة السوء الدمن الداء العضال ، ونكاح العجوز يذهب ماء الوجه ، وطاعة النساء تزري بالعقلاء .
تشبّه بأهل الفضل تكن منهم ، واتّضع للشرف تدركه ، واعلم أن كل امرئ حيث وضع نفسه ، وإنما ينسب الصارم إلى صانعه ، والمرء يعرف بقرينه ، وإياك وإخوان السوء فإنهم يخونون من رافقهم ، ويخونون من صادقهم ، وقربهم أعدى من الجرب ، ورفضهم من استكمال الأرب ، وجفوة المستجير لؤم ، والعجلة شؤم ، وسوء التدبير وهم .
والإخوان اثنان : فمحافظ عليك عند البلاء ، وصديق لك في الرخاء ، فاحفظ صديق البلية ، وتجنّب صديق العافية ، فإنه أعدى الأعداء . ومن اتّبع الهوى مال به إلى الردى . ولا يعجبنك الظريف من الرجال ، ولا تحقر ضئيلا كالخلال ، وإنما المرء بأصغريه : قلبه ولسانه ، ولا ينتفع منه إلا بأصغريه . وتوقّ الفساد ، وإن كنت في بلاد الأعادي . ولا تفرش عرضك لمن دونك ، ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك . ولا تكثر الكلام ، فتثقل على الأقوام ، وامنح البشر جليسك ، والقبول . وإياك وكثرة التبزيق ، والتلويق ، والتنويق ، فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث ، والتصنع ، لمغازلة النساء .
وكن منتهزا في فرصتك ، رفيقا في حاجتك ، مثبّتا في عجلتك ، والبس لكل دهر ثيابه ، وكن مع كل قوم في سلكهم ، واحذر ما يكون بك اللائمة في آخرتك ، ولا تعجل في
“ 170 “
أمر حتى تنظر في عاقبته ، وعليك بالتنوّر في كل شهر ، وإياك وحلق الإبط بالنورة ، وليكن السواك من طبعك ، وإذا استكت فعرضا ، وعليك بالعمارة فإنها أنفع من التجارة ، وعلاج الزرع خير من اقتناء الضرع ، ومنازعتك اللئيم يطمع فيك ، ومن أكرم عرضه أكرمه الناس ، ومعرفة الحق من إخلاص الصدق ، والرفيق الصالح ابن عم . من أيسر عظم ، ومن افتقر احتقر .
قصّر في المقالة مخافة الإجابة ، والساعي عاتب عليك .
طول السفر ملالة ، وكثرة المنى ضلالة ، وليس للمعاتب صديق ، ولا على الميت شفيق ، والأدب للشيخ عياء ، والأدب للغلام شفاء ، والدين أزين الأمور ، والشماتة سفاهة ، والسكران شيطان ، وكلامه هذيان ، والعادة طبيعة لازمة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . ومن حلّ عقدا احتمل حقدا ، والفرار عار ، والتقدم مخاطرة ، وكثرة العلل مع الوجود من البخل ، وشر الرجال الكثير الاعتلال ( يعني في القول ) ، وحسن اللقاء يذهب بالشحناء ، ولين الكلام من أخلاق الكرام .
يا بني ، إن زوجة الرجل سكنه ، ولا عيش له مع خلافها . وإذا هممت بنكاح امرأة فاسأل عن أهلها ، فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة .
اعلم أن النساء أشد اختلافا من أصابع الكف ، فتوقّ منهن كل ذات يد مجبولة على الأذى ، فمنهم المعجبة بنفسها ، المزرية ببعلها ، إن أكرمها رأت فضلها عليه ، ولا تشكره على جميل ، ولا ترضى منه بقليل ، لسانها عليه سفيه صقيل ، قد كشفت اللقحة ستر الحياء عن وجهها ، ولا تستحي من عوارها ولا من جارها ، هدّارة ، ظنّانة ، مهارشة عقاره ، وجه زوجها مكلوم ، وعرضه مشتوم ، لا ترعاه لدنيا ولا دين ، ولا تحفظه لصحبة ، ولا لكبر سنّ ، حجابه مهتوك ، وسرّه منشور ، وخيره مدفون ، يصبح كئيبا ، ويمسي غائبا ، شرابه شر ، وطعامه غيظ ، وولده صائم ، وبيته مستهلك ، وثوبه وسخ ، ورأسه شعث ، إن ضحك فراهب ، وإن تكلم فمتكاره ، نهاره ليل ، وليله نهار ، تلدغه مثل الحية ، وتكرشه مثل العقرب ، صهصلق ختاره ، دفلس لخناء تهبّ مع الرياح ، وتطير مع كل ذي جناح ، إن قال لا قالت : نعم ، وإن قال : نعم ، قالت : لا ، محتقرة لما في يديه ، تضرب له الأمثال ، وتقصر به دون الرجال ، وتنقله من حال إلى حال ، حتى قلى بيته ، وملّ ولده ، وغبّ عيشه ، وهانت عليه نفسه ، حتى أنكره إخوانه ، ورحمه جيرانه .
ومنهن الحمقاء ذات الدلال في غير موضعه ، الماضغة للسانها ، الآخذة في شأنها ، قد قنعت بحبه ، ورضيت بكسبه ، تأكل كالحمار الراتع ، وترتفع الشمس ولم تسمع لها
“ 171 “
صوتا ، ولم تكنس لها بيتا ، طعامها بائت ، وإناؤها وضر ، وعجينها وماؤها فاتر ، وما عونها ممنوع ، وخادمها مضروب .
ومنهن العطوف الودود ، المباركة الولود ، المأمونة على غيبتها ، المحبوبة في جيرانها ، الحافظة لسرها وعلنها ، الكريمة التبعّل ، الكثيرة التفضّل ، الخافضة صوتا ، النظيفة بيتا ، خادمها مسمّن ، وابنها مزين ، وخيرها دائم ، وزوجها ناعم ، مصونة الوفة ، بالخير والعفاف موصوفة . جعلك اللّه يا بني ممن يقتدي بالخير ، ويأتمّ بالتّقى ، ويتجنب السخط ، ويحب الرضى ، واللّه خليفتي عليك ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم .
ومن الشمائل الأريحية ما ذكره الأصمعي ، قال : دخل إسحاق النديم على أمير المؤمنين الرشيد فقال : ما بالك ؟
فقال إسحاق :
سوامي سوام الأكثرين تجملا * ومالي كما قد تعلمين قليل
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري * فذلك شيء ما إليه سبيل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى * ورأي أمير المؤمنين جميل
أرى الناس خلّان الجواد ولا أرى * بخيلا له في العالمين خليل
فقال الرشيد : هذا واللّه الشعر الذي صحّت معانيه ، وقويت أركانه ومبانيه ، ولذّ على أفواه القائلين ، وسماع السامعين . يا غلام ، احمل إليه خمسين ألف درهم .
قال إسحاق : يا أمير المؤمنين ، كيف أقبل صلتك وقد مدحت شعري بأكثر ما مدحتك به ؟ قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد للدراهم مني .
ومن هذا الباب ما حكاه الأصمعي قال : دخل المأمون ذات يوم الديوان ، فنظر إلى غلام جميل على أذنه قلم ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا الناشئ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمّل لخدمتك ، الحسن بن رجاء ، فقال المأمون : بالإحسان بالبديهة تتفاضل العقول ، يرفع من الديوان إلى مرتبة الخاصة ، ويعطى مائة ألف درهم تقوية له .
ومن صفات العارفين ما ذكره إبراهيم بن أدهم قال : من علامات العارف أن يكون أكثر صمته التفكير والعبرة ، وأكثر كلامه الثناء والمدحة ، وأكثر علمه الطاعة والخدمة ، وأكثر نظره إلى الطائف صنع رب العزة .
وسئل بعض المحققين من أهل اللّه : ما علامة العازف والعابد والمحب والخائف ؟
فقال : الخائف ذو هرب ، والعابد ذو نصب ، والمحب ذو شغف ، والعازف ذو طرب .
وقال بعضهم : سمعت بعض المنقطعين وهو يتأوه ويقول : آه على أعمار في
“ 172 “
المعصية ضاعت ، آه على أسرار بسوء المعاملة ذاعت ، آه على أوقات في المخالفة انقرضت ، آه على ساعات اكتساب المعصية ما حفظت ، آه على توبة أبرمت ثم نقضت ، آه على عهود أكدت ثم لفظت ، آه على نفوس تكفّل الخالق بأرزاقها فاعترضت ، آه على شباب ولّي بعد إقباله ، آه على شيب مؤذن للجسد بارتحاله ، فأين الاستعداد والاهتمام ؟
وأين التزوّد والاعتزام ؟ وأين المبادرة والاغتنام ؟ إن كنت ممن يبيع معالم الشريعة بالحطام ، فاعلم أنه ليس في خسارتك كلام .
وأنشدنا محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
إذا وافى بصولته المشيب * فلا عيش يلذّ ولا يطيب
أتطمع في الخلود على الليالي * وشيب الرأس يتبعه شعوب
إذا نزل المشيب بأرض عبد * فمنهل موته منه قريب
وأنشدني أبو بكر بن صاف اللخمي لبعضهم :
الحمد للّه ثم الحمد للّه * فما على الأرض من ساه ولا لاه
ما ذا يعاين ذو عينين من عجب * يوم الخروج من الدنيا إلى اللّه
وروينا من حديث الهاشمي بسنده إلى أنس بن مالك قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « أما رأيت المأخوذين على العزة ، والمزعجين بعد الطمأنينة ، الذين أقاموا على الشّبهات ، وجنحوا إلى الشهوات ، حتى أتتهم رسل ربهم ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم رجعوا ، قدموا على ما عملوا ، وندموا على ما خلّفوا ، أو لم يغن الندم ، وقد جفّ القلم ، فرحم اللّه امرأ قدّم خيرا ، وأنفق قصدا ، وقال صدقا ، وملك دواعي شهواته ولم تملكه ، وعصى إمرة نفسه فلم تهلكه » .
موعظة سفيان الثوري للمنصور بمكة
حدثنا محمد بن إسماعيل التميمي ، ثنا عبد اللّه بن علي بن محمد ، ثنا محمد بن أبي منصور ، عن المبارك بن عبد الجبّار ، ثنا أبو إسحاق البرمكي ، عن أحمد بن جعفر بن سالم ، ثنا أبو بكر بن عبد الخالق ، عن يعقوب بن يوسف النسبي ، عن أبي نشيط محمد بن هارون الغرباني قال : سمعت سفيان الثوري يقول : دخلت على أبي جعفر المنصور بمنى ، فقلت له : اتق اللّه ، فإنما أنزلت هذه المنزلة ، وصرت إلى هذا الموضع ، بسيوف المهاجرين والأنصار ، وأبناؤهم يموتون جوعا . حج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا ، وكان ينزل تحت الشجر ، فقال لي : إنما أريد أن أكون مثلك ،
“ 173 “
فقلت : لا تكن مثلي ، ولكن كن دون ما أنت فيه ، وفوق ما أنا فيه ، فقال : اخرج . قال الثوري : فقلت له : إني لأعلم مكان رجل واحد لو صلح صلحت الأمة كلها ، قال : من هو ؟ قلت : أنت يا أمير المؤمنين .
ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في واقعتي أبا حامد ، وأبا يزيد ، وأبا طالب ، وأشياخ الصوفية ، وأبا مدين ، فقال أحدهم للشيخ أبي مدين : قل لنا شيئا في المعرفة ، فقال :
المعرفة هي الحجة لبلوغ العافية وثمرتها التوحيد ، وإليه النهاية .
فالتوحيد هو غاية الأمل ، وما افترق في الوجود عنده اشتمل ، هو المبدأ ، وله البيان وإليه المرجع ، وبه يحصل الأمان ، سره في مخلوقاته خفي وحكمه في مصنوعاته ظاهر جلي ، أمره قد انتشر في الورى ، وقضاؤه وقدره في كل شيء قد جرى ، وهو الأول قبل كل شيء ، وهو الآخر ، وإليه يرجع الأمر كله ، وهو الآمر ، فالمحسوسات كلها هباء ، وهي حجابه سبحانه وبه خفي ، فقلب العارف طاهر مما سواه ، فإذا أعين عليه بادره برحمته فقواه بحياته امتدت حياته ، وبصفاته امتدت صفاته ، فمخلوقاته بأسرها إليه مضطرة ، إذ لم يخل شيء من الأشياء من سره حتى الذرة ، قد شهدت بأسرها إليه ، ونطقت بأنه الواحد ، وأنه ليس له شريك في ملكه ، ولا ولد ، ولا والد ، شهادة قد أحكمتها الفطرة ، يشهدها العارف في كل خطرة ونظرة ، فالعارفون به ظهرت لهم الغيوب ، وبذكره اطمأنت منهم القلوب ، فلم يعرجوا على شيء مما سواه ، وما منهم من قنع بشيء عوضا عن مولاه ، فأسرار العارفين عن الخلق محجوبة ، وعند من عرفهم ظاهرة بالحسب مطلوبة ، وقلوب الغير بالأسباب في شعب هي من المعرفة خالية ، ومن الحكمة مسلوبة . لاحظوا أنفسهم فهم منها على غرور ، من أسرار العارفين خلوا ، وبظواهرهم تشبهوا ، والناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا .
روينا من حديث الخطابي قال : كان سعد ممن اعتزل أيام الفتنة ، ولم يكن مع واحد من الفريقين ، فراودوه على الخروج فأبى ، وضرب لهم مثلا :
قال الخطابي : أنا ابن الأعرابي ، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام ، حدثنا أبي ، ثنا كثير بن مروان الفلسطيني ، ثنا جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ،
قال سعد : لما دعوه إلى الخروج معهم أتى عليهم وقال : لا ، إلا أن تعطوني سيفا له عينان بصيرتان ، ولسانا ينطق بالكافر فأقتله ، وبالمؤمن فأكف عنه ، وضرب لهم مثلا ،
وقال : مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجّة بيضاء ، فبينما هم كذلك إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق ، والتبس عليهم ،
وقال بعضهم : الطريق ذات اليمين ، فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا ، فقال آخرون : الطريق ذات
“ 174 “
الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا ، وقال آخرون : كنا على الطريق حيث هاجت الريح فننيخ ، فأناخوا وأصبحوا فذهب الريح ، فتبين الطريق ، فهؤلاء الجماعة قالوا نلزم ما فارقنا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نلقاه ، ولا ندخل في شيء من الفتن . قال ميمون بن مهران : فصار الجماعة والفئة التي يدعى فيها الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن ، حتى أذهب اللّه عز وجل الفرقة ، وجمع الألفة ، فدخلوا الجماعة ، ولزموا الطاعة ، وانقادوا ، فمن فعل ذلك ولزمه نجا ، ومن لم يلزمه وقع في المهالك .
وحدثنا يونس بن يحيى الهاشمي ، عن أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطن ، عن أبي الفضل أحمد بن خيرون ، عن أبي علي الحسن بن إبراهيم بن شادان ، عن الحسن أحمد بن إسحاق ، عن أبي عبد اللّه أحمد بن محمد ، عن عمّار بن عبد اللّه المصيصي ، عن مخلد بن الحسين ، عن واصل ، ذكر أنه أسر غلام من بطاركة الروم ، وكان غلاما جميلا ، فلما صار إلى دار الإسلام ، وقع إلى الخليفة ، وذلك في خلافة بني أمية ، فسمّاه بشيرا ، وأمر به إلى الكتّاب ، فكتب ، وقرأ القرآن ، وطلب الأحاديث ، وروى الشعر ، فلما بلغ أتاه الشيطان فوسوس له ، وذكّره النصرانية دين آبائه ، فهرب مرتدا من دار الإسلام إلى أرض الروم الذي سبق له في أم الكتاب به ، فأتى به إلى الطاغية ، فسأله عن حاله ، وما الذي دعاه إلى الدخول في دين النصرانية ؟ فأخبره برغبته فيه ، فعظم في عين الملك ورأسه ، وصيّره بطريركا من بطاركته ، وأقطعه قرى كثيرة ، فهي اليوم تعرف به ، يقال لها : قرى بشير .
وكان من قضاء اللّه وقدره أنه أسر ثلاثين أسيرا من المسلمين ، فأدخلوا على بشير ، فسألهم رجلا رجلا عن دينهم ، وكان فيهم شيخ من أهل دمشق يقال له واصل ، فسأله بشير ، فأبى الشيخ أن يرد عليه شيئا ، فقال له بشير : ما لك لا تجيبني ؟ قال : لست أجيبك اليوم بشيء ، فقال بشير للشيخ : إني سائلك غدا ، فأعدّ لي جوابا ، وأمره بالانصراف . فلما كان الغد بعث إليه بشير ، فأدخل عليه الشيخ ،
فقال بشير : الحمد للّه الذي كان قبل أن يكون شيء من خلقه ، وخلق سبع سماوات طباقا بلا عون كان معه من خلقه ، ودحى سبع أرضين بلا عون كان معه من خلقه ، فعجب لكم يا معاشر العرب حين تقولون : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
فسكت الشيخ ، فقال : ما لك لا تجيبني ؟ قال : كيف أجيبك وأنا أسير في يديك ؟ فإن أجبتك بما تهوى أسخطت عليّ ربي ، وأهلكت عليّ ديني ، وإن أجبتك بما لا تهوى أهلكت نفسي ، فأعطني عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه عز وجل على النبيين ، وما أخذ
“ 175 “
النبيون على الأمم ، أن لا تغدر بي ، ولا تمحلني ، ولا تبغ لي باغية سوء ، وأنك إذا سمعت الحق تنقاد له . قال بشير : فلك عليّ عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه على النبيين ، وما أخذ النبيون على الأمم ، أن لا أغدر بك ، ولا أمحل بك ، ولا أبغي لك باغية سوء ، وأني إذا سمعت الحق أنقاد له .
فقال الشيخ : أما ما وصفت من صفة اللّه عز وجل ، فقد أحسنت الصفة ، ولم يبلغ علمك ، ولم يستحكم عليه رأيك أكثر من هذا ، واللّه عز وجل أعظم وأكبر مما وصفت ، ولا يصف الواصفون صفته ، وأما ما ذكرت من هذين الرجلين ، فقد أسأت الصفة ، ألم يكونا يأكلان الطعام ، ويشربان الشراب ، ويبوّلان ، ويتغوطان ، وينامان ، ويستيقظان ، ويفرحان ، ويحزنان ؟ قال بشير : بلى . قال : فلم فرّقت بينهما ؟
قال بشير : لأن عيسى كان له روحان اثنان : فروح يبرئ بها الأكمه والأبرص ، وروح يعلم بها الغيب ، ويعلم ما في قعر البحار ، وما يتحات من ورق الشجر ،
قال واصل : روحان اثنان في جسد واحد ؟ قال بشير : نعم . قال الشيخ : فهل كانت القوية تعرف موضع الضعيفة منها أم لا ؟ قال بشير :
قاتلك اللّه ما ذا تريد أن تقول إن قلت إنها لا تعلم ؟ قال الشيخ : إن قلت إنها تعلم ، فما لهذه القوية لا تطرد عنه هذه الآفات ، وإن قلت إنها لا تعلم قلت كيف تعلم الغيوب ؟ ولا نعلم روحا في محل واحد في جسد واحد .
قال : فسكت بشير ، فقال الشيخ : باللّه هل عبدتم الصليب مثالا لعيسى ابن مريم أنه صلب ؟ قال بشير : نعم .
قال الشيخ : فبرضى منه أم بسخط ؟ قال بشير : هذه أخت تلك ، ما ذا تريد أن تقول إن قلت برضى منه ؟ قال الشيخ : إن قلت برضى منه قلت فما أنتم من قوم أعطوا ما سألوا وأرادوا ، وإن قلت بسخط قلت فلم تعبدون ما لا يمنع عن نفسه ؟
قال بشير :
والضارّ والنافع ، ما ينبغي لمثلك أن يعيش إلا في النصرانية ، أراك رجلا قد تعلمت الكلام ، وأنا رجل صاحب سيف ، ولكن آتيك غدا بمن يخزيك اللّه على يديه ، ثم أمره بالانصراف .
فلما كان الغد بعث بشير إلى الشيخ ، فلما دخل عليه إذا عنده قس عظيم اللحية ، فقال له بشير : إن هذا رجل من العرب له حكم وعقل ، وأصل في العرب ، وقد أحب أن يدخل في ديننا فكلّمه حتى تنصّره ، فسجد القس لبشير ، وقال : قديما ما أتيت إلا بالخير ، وهذا أفضل ما أتيت به إليّ .
ثم أقبل على الشيخ وقال له : أيها الشيخ ، ما أنت بالكبير الذي ذهب عنه عقله وتفرق عنه حكمه ، ولا أنت بالصغير الذي لم يستكمل عقله ولم يبلغ حلمه ، غدا أغطسك في المعمودية غطسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك . قال الشيخ : فما هذه المعمودية ؟ قال القس : ماء مقدس . قال الشيخ : من قدّسه ؟ قال القس : أنا قدّسته ،
“ 176 “
والأساقفة من قبلي . قال الشيخ : فهلّا كانت لك ذنوب وخطايا وللأساقفة من قبلك ، أم أنتم مبرءون من النقص ؟ قال القس : نعم ، إنها لأكثر من ذلك ، ولا يسلم من الذنب والعيب إلا اللّه تعالى ، قال الشيخ : هل يقدّس الماء من لم يقدّس نفسه ؟
قال : فسكت القس ، ثم قال : إني لم أقدسه أنا . قال الشيخ : فكيف كانت القصة إذا ؟ قال القس : إنها سنّة من عيسى ابن مريم ، قال الشيخ : فكيف كان الأمر إذا ؟ قال القس : إن يحيى بن زكريا أغطس عيسى ابن مريم بالأردن غطسة ، ومسح له رأسه ، ودعا له بالبركة . قال الشيخ : واحتاج عيسى إلى يحيى بن زكريا أن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة ؟ فاعبدوا يحيى ، فيحيى خير لكم من عيسى . فسكت القس ، واستلقى بشير على فراشه ، وأدخل فاه في كمه وجعل يضحك ، وقال للقس : قم أخزاك اللّه ، دعوتك لتنصّره ، فإذا أنت قد أسلمت .
ثم إن الشيخ بلغ أمره إلى الملك ، فبعث إليه الملك فقال : ما هذا الذي بلغني عنك من تنقيصك لديني ، ووقيعتك فيه ؟ قال الشيخ : إن لي دينا كنت ساكتا عنه ، فلما سئلت عنه لم أجد بدّا من الذبّ عنه . قال الملك : وهل في يدك حجة ؟ قال : ادع لي من شئت حتى يحاورني ، فإن كان الحق في يدي فلم تلومني على الذبّ عن الحق ، وإن كان الحق في يده رجعت إلى الحق . فدعا الملك بعظيم النصرانية ، فلما دخل عليه سجد له الملك ومن عنده أجمعون . فقال الشيخ : أيها الملك من هذا ؟ قال : رأس النصرانية الذي تأخذ النصرانية عنه دينها . قال الشيخ : فهل له من امرأة ؟ أم هل له من ولد ؟ أم هل له من عقب ؟ فقال له الملك : هذا أزكى وأطهر من أن يدنّس بالنساء ، هذا أزكى وأطهر من أن ينسب إليه الولد ويدنّس بالحيض ، هذا أزكى وأطهر من هذا كله . قال الشيخ : فأنتم تكرهون الآدمي ، يكون منه ما يكون من بني آدم من الغائط والبول والنوم والسهر ، وتأخذكم غيرة من ذكر نسبة النساء إليه ، وتزعمون أن رب العالمين سكن ظلمة البطن ، وضيق الرحم ، ودنس الحيض . قال القس : هذا شيطان من شياطين البحر ، رمى به البحر إليكم فأخرجوه من حيث جاء .
فأقبل الشيخ على القس وقال : عبدتم عيسى ابن مريم لأنه لا أب له ، فضمّوا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهان اثنان ، وإن كنتم عبدتموه لأنه أحيا الموتى ، فهذا حزقيل مرّ بميت تجدونه في الإنجيل لا تنكرونه ، فدعا اللّه عز وجل فأحياه له حتى كلّمه ، فضمّوا حزقيل مع عيسى وآدم حتى يكون لكم ثلاثة ، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أراكم المعجزات ، فهذا يوشع بن نون قاتل قومه حتى غربت الشمس ، فقال لها : ارجعي بإذن اللّه
“ 177 “
فرجعت اثني عشر برجا ، فضمّوا يوشع أيضا إلى عيسى يكون رابع أربعة ، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه عرج به إلى السماء ، فمن ملائكة اللّه عز وجل مع كل نفس ، اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، يعرجون إلى السماء ، ما لو ذهبنا نعدّهم لالتبس علينا عقولنا ، واختلط علينا ديننا ، وما زاد في ديننا إلا تحيرا . ثم قال : أيها القس ، أخبرني عن رجل يحل به الموت ، الموت أهون عليه أم القتل ؟
قال القس : بل القتل . قال : فلم لم يقتل عيسى ابن مريم أمه ، بل عذبها بنزع الروح ؟ إن قلت إنه قتلها فما برّ أمه في قتلها ، وإن قلت إنه لم يقتلها فما برّ أمه في تعذيبها بنزع النفس .
فقال القس : اذهبوا به إلى الكنيسة العظمى ، فإنه لا يدخلها أحد إلا تنصّر . قال الملك : اذهبوا به إلى الكنيسة .
قال الشيخ : لما ذا يذهب بي إلى الكنيسة ولا حجة عليّ دحضت حجتي ؟ قال الملك : لا يضرّك شيء إنما هو بيت من بيوت اللّه تعالى تذكر فيه ربك . قال الشيخ : أما إذا كان هكذا فلا بأس .
فذهبوا به إلى الكنيسة ، فلما دخل إلى الكنيسة وضع إصبعيه في أذنيه ورفع صوته بالآذان ، فجزعوا لذلك جزعا شديدا ، وصرخوا لذلك ، وكتفوه ، وجاءوا به إلى الملك ، فقالوا : أيها الملك ، أحل بنفسه القتل . قال الشيخ : أيها الملك ، أين ذهبوا بي ؟
قال :
ذهبوا بك موضعا تذكر ربك فيه . قال : فقد دخلته وذكرت ربي فيه بلساني ، وعظمته بقلبي ، فإن كان كلما ذكر اللّه في كنائسكم صغر إليكم دينكم فزادكم اللّه صغارا .
قال الملك : صدق ، وما لكم عليه سبيل . قالوا : أيها الملك ، لا نرضى حتى نقتله .
قال الشيخ : إنكم متى قتلتموني فبلغ ذلك ملكنا وضع يده في قتل القسيسين والأساقفة ، ويخرّب الكنائس ، وكسر الصلبان ، ومنع النواقيس . قالوا : وإنه ليفعل ؟
قال : فلا تشكّوا في ذلك . قال : فتفكروا في ذلك فتركوه .
قال الشيخ : أيها الملك ، بم علا أهل الكتاب على أهل الأوثان ؟
قال : لأنهم عبدوا ما عملوا بأيديهم . قال : فهذا أنتم عبدتم ما عملتم بأيديكم هذه الأصنام التي في كنائسكم ، فإن كان في الإنجيل فلا كلام لنا فيه ، وإن لم يكن في الإنجيل فما أشبه دينكم بدين الأوثان . قال : صدق ، هل تجدونه في الإنجيل ؟
قال القس : لا . قال : فلم تشبهوا ديني بدين أهل الأوثان ؟
قال : فأمرهم بتبييض الكنائس ، فجعلوا يبيضونها ويبكون .
قال القس : هذا شيطان من شياطين العرب رمى به البحر إليكم ، فأخرجوه من حيث جاء ، ولا يقطر من دمه قطرة في بلادكم فيفسد عليكم دينكم ، فوكلوا به رجالا ، فأخرجوه من حيث جاء من بلاد دمشق . ووضع الملك يده في قتل القسيسين والبطاركة والأساقفة ، حتى هربوا إلى الشام ، لما لم يجد واحدا يحاجّه . انتهى .
أخبرني عبد الوحد بن إسماعيل العسقلاني قال : سمعت جدّي لأميّ عمر بن عبد
“ 178 “
الحميد يقول : اعلم أن الناس في الدنيا على أبواب ملوكهم طبقات ، فمنهم الخواص المقرّبون ، والخدم المنتخبون ، والأمناء الثقات ، والكبراء السادات ، والتجار الطالبون للأرباح ، والفقراء أصحاب الصدقات .
فأحسن أحوالك أن تنزل نفسك منزلة الفقراء والسؤال لا مقام ذي الصلة والنوال ، كم يدعون فلا يجيبون ، ويرغبون فلا يرغبون ؟ فما لكم لا تكونون
كما قال اللّه تعالى :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وأشرف الذكر ذكر القلب ، لأنه موضع نظر اللّه عز وجل من العبد .
وقال بعضهم يوبخ نفسه : أما تستحي من اللّه ، كم يكون منك الخطا ومنه العطا ، كم يكون منك الجفا ومنه الوفا ؟ هلّا كان منك التوبة فيكون منه القبول ؟
يا نفس ، كم تعصيه ويستر عليك وتتمادى في الذنب ويمهلك ؟ أما تخشي عقابه ؟ أما تستحي من عتابه ؟ أخاف عليك إن لم تنته عن قبيح فعلك ليصبنّ عليك سخطه ، وليحرقنك بنار غضبه ، هذا قلبك في فلوات المعاصي ضائع ، وسرك في الأعمال القبيحة رائع ، فبادري بالتوبة والإقلاع ، والندم والاسترجاع ، فكأنك وقد كشف القناع ، ولا تغترّي بالحياة الدنيا فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع .
وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
أنت سترى كيف أهتكه * ذا طريق لست أسلكه
أملك الدنيا بأجمعها * وفؤادي لست أملكه
قال بعض العارفين : للعارفين أربع علامات : ذكر المنة ، وصدق الهمة ، وعرفان الحرمة ، وخوف الفرقة .
وقال بعض الصالحين : من علامات العارف أن ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار ، وإلى الآخرة بعين الانتظار ، وإلى النفس بعين الاحتقار ، وإلى الطاعة بعين الاعتذار لا بعين الاستكبار ، وإلى المغفرة بعين الاستبشار ، وإلى المعروف سبحانه وتعالى بعين الافتخار .
حدثنا يونس بن يحيى ، ثنا ابن البطيء ، عن ابن شادان ، عن أحمد بن إسحاق ، عن أحمد بن محمود ، عن الحسن بن عبد العزيز المخزومي ، أنا أبو حفص القيسي ، عن أبي معبد ،
قال : سمعت بلال بن سعيد يقول : كان أخوان في بني إسرائيل خرجا يتعبدان ، فلما أرادت الطريق تفرق بينهما قال أحدهما لصاحبه : خذ أنت في هذه الطريق ، وأنا في هذه الطريق ، فإذا كان رأس السنة اجتمعنا في ذلك الموضع ،
فلما اجتمعا قال أحدهما لصاحبه : أي ذنب فيما عملت أعظم ؟ قال : بينما أنا أمشي على الطريق إذا بسنبلة فأخذتها
“ 179 “
فألقيتها في إحدى الأرضين ، أرض عن يميني ، وأرض عن شمالي ، ولا أدري أهي للأرض التي ألقيتها فيها أم للأخرى ؟
ثم قال المسؤول للسائل : أي ذنب فيما عملت أعظم ؟ قال : لا أعلم غير إني كنت أقوم إلى الصلاة ، فأميل مرة على هذه الرّجل ، ومرة على هذه الرّجل ، فلا أدري أكنت أعدل فيما بينهما أم لا ؟ فسمعهما أبوهما من داخل الباب ، فقال : اللهمّ إن كان صادقين فأمتهما ، فخرج فإذا بهما قد ماتا .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن الحسن بن شهاب ، عن أبي الهادي ، عن محمد بن منصور ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حمّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ليس شيء يباعدكم من النار إلا وقد ذكرته لكم ، ولا شيء يقرّبكم من الجنة إلا وقد دللتكم عليه ، إن روح القدس نفث في روعي أنه لن يموت عبد حتى يستكمل رزقه ، فاجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوا شيئا من فضل اللّه بمعصيته ، فإنه لا ينال ما عند اللّه إلا بطاعته ، ألا وإن لكل امرئ رزقا هو آتيه لا محالة ، فمن رضي به بورك له فيه فوسعه ، ومن لم يرض به لم يبارك له فيه ولم يسعه ، إن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله » .
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin