الجزء 19 .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2 الشيخ الأكبر ابن العربي
الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 19
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 276 “
في ثلاثين ألفا ، فدخلناها . وقد مات رجاء بن حيوة قبل ذلك بعشرة أيام ، فبلغ ذلك مسلمة فغمّه غما شديدا . وأقام بباب دمشق ، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له في الدخول إلى المدينة ثلاثة أيام ، حتى طلب إليه جميع بني أمية . فأذن له ، فدخل ، فمضى ومضينا معه إلى منزل عمر بن عبد العزيز بالخيل والناس وهبة السفر . فلم يأذن له ، فرجع إلى منزله ، فلما كان من الغد ، وركبنا معه ألف رجل من القواد ، فلم يأذن له فرجع ، وركب إليه من الغد في أهل بيته ومواليه ، فلم يأذن له . وركب إليه من الغد في إخوانه وبني عمه ، فلم يأذن له . فرجع ومضى إليه من الغد وحده راكبا ، فلم يأذن له .
فرجع ومضى إليه من الغد راجلا ، فأذن له ، وعنده وجوه قريش ، ورؤساء أهل الشام . فسلّم عليه بالخلافة فرد عليه ردا ضعيفا ، ولم يأذن له بالقعود ساعة .
فبكى مسلمة وقال : ما أراني عاصيا ، فإن كنت عاصيا فقد عصى من هو خير مني ، وإن كنت مداهنا فقد داهن من هو خير مني .
فما جرمي إلا أن أنكيت في المشركين ، وأبكيت ، وقمت بحق اللّه تعالى ، وقتلت عدوّه ، ولم تأخذني فيه لومة لائم . فإنما فعلت بما أمرت ، وأوصيت بالدخول إلى المدينة العظمى ، فدخلت .
هذا كلامي وهذا عذري ، فاقبل مني أو دع .
فقال عمر بن عبد العزيز : يا مسلمة ، سرت بالمسلمين إلى أقصى بلاد الروم ، فقتلت الضعيف ، وأتعبت القوي ، تطلب الشرف ، وأردت الرئاسة .
أما كان يكفيك من القسطنطينية بلاد عمورية والقيام بها ؟ ولكنك أردت أن يقال :
هذا مسلمة بن عبد الملك شديد العزم . فالويل لك إن آخذك اللّه بقتل رجل من المسلمين .
ويحك يا مسلمة ، لقد بلغني عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
« الويل لمن أهلك نفسا مؤمنة » . فقد عفونا عنك ما كان من جهلك . اقعد ، فقعد .
فقال : هات يا مسلمة حدثني عن بلاد الروم . فقال مقاتل مولى عمر بن عبد العزيز :
سمعت مسلمة وهو يقول لعمر : ما رأيت بلادا تشبه القسطنطينية .
قال عمر : صفها لي .
قال : هي مدينة برية بحرية ، الخير فيها كثير ، من الفاكهة والطعام ، واللباس فيها ظاهر ، والدواب فيها فرهة . قال عمر : صف لي سورها ، وأبوابها ، وكنيستها العظمى ، وقصرها الكبير .
قال : أما سورها فحجارة ، وعرض السور ما يسير عليه مائة فارس عرضا . فأما الأبواب فإنها حديد عرض ما بين كل باب ميل . وأما الكنيسة العظمى فمن رخام مصفف مفصّص بالحجارة المذهبة وبالجوهر .
وأما قصرها فمن رخام ، ولم أدخله يا أمير المؤمنين .
قال عمر : أسألك باللّه يا مسلمة هل جبنت حيث دخلتها ؟
قال مسلمة : لا واللّه يا أمير المؤمنين ما جبنت ، ولكني أجري ما كنت حيث دخلتها . قال : كيف رأيت أهل
“ 277 “
الروم ؟ قال : قوم سوء وقلوبهم خائفة ، فإذا صدقوا هربوا . ولقد قتلنا منهم مقتلة عظيمة .
فالحمد للّه على ذلك كثيرا . قال عمر : غفر اللّه لك . ثم وجّه سراقة بن عبد الرحمن أميرا على الثغور ، وأمره أن يبلغ العمورية ، فإذا بلغها لا يجوز إلى غيرها . وأقام مسلمة عند عمر بدمشق .
تأديب عمر بن عبد العزيز مسلمة بن عبد الملك
وبالإسناد قال مقاتل : ثم إن عمر بلغه أن مسلمة ينفق على مائدته ألف درهم في كل يوم . وكان عمر يطعم السّؤال من غلته ألف سائل في كل يوم ، يطعمهم ثلاثة ألوان وشواء .
وكان يأكل هو يوما لحما ، ويوما خلا وزيتا ، ويوما عدسا .
وكان قد سيّر الدنيا ثلاثة أيام :
يوما للقضاء ، ويوما لأهله ، ويوما لحوائج الناس ، والليل للعبادة . فكان إذا جنّه الليل لبس جبّة صوف ، وجعل الغلّ في عنقه والقيد في رجله ، ونادى : يا رب ، هذا عذاب الدنيا ، فكيف عذاب الآخرة ؟
ثم بعث إلى مسلمة يأمره أن يتغذى عنده ، فأتاه ، فأمر عمر بجفان السّؤال أن تهيّأ ، وهيأ له طعاما ، وأمر أن يحبس الطعام وأن يقدّم العدس .
فلما أبطأ عليهم الطعام ، وجاع مسلمة جوعا شديدا ، قال عمر : ويحك يا مقاتل ، إن أبا سعيد لا يصبر على الجوع ، فائتنا بما عندك . فأتاه بعدس ، فأكل أكلا منكرا حتى شبع ، ثم أتي بالطعام . فقال عمر : كل يا أبا سعيد . فقال : قد اكتفيت . قال عمر : يا أبا سعيد ، تكفيك أكلة بدانقين ، وأنت تنفق على مائدتك ألف درهم كل يوم ؟ فقال مسلمة : أعطني عهد اللّه أن لا أعود إلى مثل ذلك ، فرجع عنه .
ومن أخبار عمر بن عبد العزيز
وبالإسناد قال مقاتل : رأيت قوما من العبّاد وقد أتوا محمد بن عمر بن عبد العزيز ، فسألوه عن عمل أبيه ، فقال : ما أذكر أني رأيته ، ولكني أدخل على أمي فاطمة ابنة عبد الملك بن مروان ، فأسألها عن هذا إن شاء اللّه تعالى . فدخل عليها ، فقال : يا أمّه ما صنع أبي ؟
فإن الناس قد لجّوا عليّ في ذلك ، فقالت فاطمة ابنة عبد الملك : يا بني ، لا تريد أن تعلم ؟ قال لها : فإنهم لا يدعوني حتى أخبرهم . قالت : نعم ،
قل لهم : إن أبي كان من أعظم قريش ، وأرفههم مركبا ، وألينهم ثوبا ، وأطيبهم طعاما ، قبل أن يلي الخلافة ، فلما ولّي الخلافة لبس الكرابيس والصوف ، وربما ادّهن بزيت العلة ، تعني زيت الماء ، ولا رفع ثوبا يدّخره ، ولا اتخذ أمة منذ ولّي إلى يوم مات ، فهذه كانت حالته .
“ 278 “
قال مقاتل : فلما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال له : يا مقاتل ، إنه بلغني عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن الإمام العادل إذا وضع في قبره نزل على يمينه ، وإذا كان جائرا نقل عن يمينه إلى شماله ، فاطّلع حتى تنظر إليّ . قال : فاطلعت ، فرأيته على يمينه والحمد للّه .
قال مقاتل : رأيته قبل أن تخرج الروح من جسده وهو يضحك ، ويقول : لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ . ثم مات رحمه اللّه تعالى .
ولنا في الأخذ من السلطان وترك الأخذ من الناس للمنّة
إن الحلال من المكاسب همّتي * والأخذ من مال الفتوح أجانبه
تمضي المروءة أخذه من عالم * مذمومة أحواله ومذاهبه
تمتنّ من قبل العطاء وربما * سألت عليك بما يعير مدانبه
فلتجتنب أخذ الفتوح فإنه * يجني على الأعقاب منك عواقبه
إلا من السلطان فهو نصيبكم * مما تعيّن بالشريعة واجبه
هو عنده للمسلمين أمانة * فمتى حباك فخذه إنك صاحبه
قال ابن الواسطي : وقد ذكرت إسنادنا إليه ، حدثنا القاسم بن مزاحم ، عن محمد بن الحسن العسقلاني ، عن محمد بن عمرو بن الجراح الغزّي ، عن أبي الصلت شهاب بن خراش ، عن سعيد بن سنان ، عن أبي الزاهرية ، قال : أتيت بيت المقدس أريد الصلاة ، فدخلت المسجد ، وغفلت عن سدنة المسجد حتى أطفئت القناديل ، وانقطعت الرّجل ، وغلقت الأبواب . فبينما أنا على ذلك إذ سمعت له حفيفا له جناحان قد أقبل ، وهو يقول :
سبحان الدائم القائم ، سبحان القائم الدائم ، سبحان الحي القيّوم ، سبحان الملك القدّوس ، سبحان رب الملائكة والروح ، سبحان اللّه وبحمده ، سبحان العليّ الأعلى ، سبحانه وتعالى .
ثم أقبل حفيف يتلوه ويقول مثل ذلك ، ثم أقبل حفيف بعد حفيف يتجاوبون بها حتى امتلأ المسجد ، فإذا بعضهم قريب مني فقال : آدمي ؟ فقلت : نعم . قال : لا روع عليك ، هؤلاء الملائكة . قلت : سألتك بالذي قوّاكم على ما رأى ، من الأول ؟ قال : جبريل .
قلت : ثم الذي يتلوه ؟ قال : ميكائيل . قلت : من يتلوه بعد ذلك ؟ قال : الملائكة . قلت :
سألتك بالذي قوّاكم على ما أرى ، ما لقائلها من الثواب ؟
قال : من قالها سنة كل يوم مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة ، أو يرى له .
قال أبو الزاهرية : قلت : سنة وسنة كثير ، لعلّي لا أعيش ، فقلتها في يوم عدد أيام السنة ، فرأيت خيرا .
قال سعيد بن سنان : فقلت :
“ 279 “
سنة والسنة كثير ، لعلّي لا أعيش فيها ، فقلتها في يوم عدد أيام السنة ، فرأيت خيرا . قال الحوسي : فقلت : سنة والسنة كثير ، لعلّي لا أعيش فيها ، فقلت في يوم عدد أيام السنة ، فرأيت خيرا .
قال محمد بن عمرو : فقلتها ثلاثة أيام أو أربعة ، كل يوم مائة مرة ، فكان الرجل يلقاني فيقول : رأيت لك كذا وكذا أظنه من ذلك . قلت : وقلتها أنا في ليلة فرأيت خيرا ، وقلتا وقالها صاحبي عبد اللّه الحبشي ، فرأى أو رؤي له خيرا .
ومن باب حب الوطن
ما قالت العجم اللسن :
من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة ، وإلى مسقط رأسها توّاقة .
وقال الحكيم : فطرة الرجل معجونة بحب الوطن ، ولذلك قال أبقراط : يداوى كل عليل بعقاقير أرضه ، فإن الطبيعة تقطع بهواها ، وتفزع إلى غذاها . وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : لو قنع الناس بأرزاقهم قنوعهم بأوطانهم لما اشتكى عبد الرزّاق . والذي يؤيد ما ذكرناه من حب الوطن قول اللّه عز وجل حين ذكر الديار ، فخبر عن مواقعها من قلوب عباده .
فقال تعالى : وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ، فسوّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم .
وقال تعالى : وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا .
وقيل : لولا حبّ الناس الأوطان لخرب البلدان .
وقيل : من أمارات العاقل برّه لإخوانه ، وحنينه إلى أوطانه ، ومداراته لأهل زمانه .
كما قيل : ( ودارهم فاللّبيب من دارى ) .
قالت العرب : حماك أحمى لك ، وأهلك أحفى لك .
حكمة
الغربة كربة ، والقلّة ذلّة .
وقال القائف : إذا أحسّت النفس بمولدها تفتحت مسامّها ، فعرفت النسيم ، وأكثرت الشميم .
“ 280 “
وقال آخر : يحنّ اللبيب إلى وطنه كما يحنّ النجيب إلى عطنه .
وقال بعضهم : كما أن لحاضنتك حقّ لبنها ، فكذلك لأرضك حرمة وطنها .
وشبّهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم ، ثكل أباه وأمه ، فلا أم ترامه ، ولا أب يحرب عليه .
وفي المثل : أوضح من مرآة الغريب .
قالت الحكماء : أكرم الخيل أجزعها من السوط ، وأكيس الصبيان أشدّهم بغضا للكتاب ، وأكرم الإبل أشدهم حنينا إلى أوطانها ، وأكرم المهارى أشدها ملازمة لأمهاتها ، وخير الناس آلفهم للناس .
وقال بعض الشعراء في الوطن :
ألا ليت شعري والحوادث جمة * متى تجمع الأيام ما فرّق الشملا
وكل غريب سوف يمسي بذلّة * إذا بان عن أوطانه وجفا الأهلا
وأنشدنا أبو بكر بن سكر قال : كان المازني ينشد لعروة :
اقرأ على الوشل السلام وقل له * كل المشارب مذ هجرت ذميم
جبل ينيف على البلاد إذا بدا * بين الغدائر والزمان مقيم
لو كنت أملك منع ما بك لم يذق * ما في قلاتك ما حييت لئيم
وأنشدنا أبو جعفر أحمد بن يحيى الوزعي بمسجد ابن عتّاب بقرطبة لمجنون بني عامر :
إلى عامر أصبو وما أرض عامر * هي الرملة الوعساء والبلد الرحب
معاشر بيض لو وردت بلادهم * وردت بحورا للندى ماؤها عذب
إلى ما بدت للناظرين خيامهم * فثمّ العتاق القبّ والأسل القضب
وأنشدنا أبو الحسن علي بن خروف بمنزلي لامرأة من عقيل :
خليليّ من سكان ماوان هاجني * هبوب جنوب مرّها وانتسامها
فإن تسألاني ما ورائي فإنني * بمنزلة أعيا الطبيب سقامها
وأنشدنا :
أقول لقوم ألف الدهر بينهم * وبيني والأيام تحوي وتفرق
فإني وإن أحمدت عقد وصالكم * ففي غير مثوى أرضكم أتشرّق
سقى اللّه قومي كل يوم وليلة * عوارض مزن صوبها يتدفق
“ 281 “
ومن باب العشاق والعشق
قال علي بن عبيدة : العشق أرواح تجول في الخليقة ، وفرح يجول في الروح ، وسرور ينشي الخواطر ، له مستقرّ غامض ، ويحل أطيب المساكن ، ينساب في الحركات ، ويهدئ القوي ، ويقوّي الضعيف .
ولبعضهم :
تقول أناس لو نعت لنا الهوى * وو اللّه ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه جزء أعدّه * وليس لشيء منه وقت موقت
بلى غير أني لا أزال كأنني * عليّ من الأحزان بيت مبيت
وأنضح وجه الأرض طورا بعبرتي * وأقرعها طورا بظفري وأنكت
وقد زعموا بي أنني لا أحبّه * فما لي أراه من بعيد فأبهت
إذا اشتدّ ما بي كان آخر حيلتي * له وضع كفي تحت خدّي وأصمت
وأنشدني ابن مرتين من هذا الباب :
الحبّ فيه حلاوة ومرارة * والحبّ فيه شقاوة ونعيم
الحب أهونه شديد قادح * والحب أصغر ما يكون عظيم
الحب صاحبه ببيت مسهّدا * ويطير من فؤاده ويهيم
الحب لا يخفى وإن أخفيته * إن البكاء على المحب نميم
الحب يشهد صادقا في وجهه * عند التنفس أنه مهموم
الحب داء قد تضمّنه الحشا * بين الجوانح والضلوع مقيم
حكاية
قال إبراهيم بن سعيد : كنت عند المأمون يوم نوروز ، فجاء الناس بهدايا ، فأمر بردّها استحقارا لها ، فردّت الهدايا . وكانت في المهديين امرأة معها هدية ، ولها رقعة مكتوب فيها :
ألم ترنا نهدي إلى اللّه ما له * وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولكننا نهدي إلى من نحبه * على قدرنا لا نحو ما قد يشاكله
قال : فأمر المأمون بقبول الهدايا .
حديث مرفوع ، رفعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز إلى أبي هريرة قال :
“ 282 “
بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم جالس في أحفل ما يكون من أصحابه ، إذ أقبل إليه أعرابي من بني سليم باكيا .
فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ ما يبكيك يا أخا بني سليم ؟ “ ، قال : إني ربما قمت في صلاتي فيأخذني الهذيان ، وربما نمت فتأخذني الفكرة في منامي ، وربما أخذتني الوسوسة حتى كادت تفسد عليّ ديني .
فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ يا سلمي ، هذا عمل إبليس لعنه اللّه . ألا أعلمك تسعة عشر اسما علّمنيها رب العالمين حين أسري بي إلى السماء السابعة ؟ أربعة منها مكتوبة على جبهة إسرافيل . وأربعة مكتوبة على جبهة ميكائيل . وأربعة مكتوبة على جبهة جبريل . وأربعة مكتوبة على جبهة عزرائيل . وثلاثة مكتوبة على جبهة الناموس الأكبر ، وهو أحد حملة العرش ، جناح له في المشرق ، وجناح له في المغرب . وعنقه مثنيّة تحت قائمة العرش ، لو أمره الجبار أن يلتقم السماوات وما بينهنّ وما فيهنّ وما عليهنّ كان أهون عليه من طرفة عين “ .
قال : بلى يا رسول اللّه ، . فقال : “ يا أخا بني سليم ، إنها تسعة عشر اسما ما دعا بهنّ مهموم إلا فرّج اللّه عنه همّه ، ولا مغموم إلا فرّج اللّه عنه غمّه ، ولا غائب إلا ردّه اللّه عز وجل ، ولا مريض إلا شفاه اللّه تعالى ، ولا مديون إلا قضى اللّه دينه . ولم تكن هذه الأسماء في منزل إلا طرد اللّه عنه إبليس وجنوده . فإذا أمسيت وأصبحت فقل :
اللهمّ إني أسألك يا رحمن يا رحيم ، ويا جار المستجيرين ، ويا أمان الخائفين ، ويا عماد من لا عماد له ، ويا سند من لا سند له ، ويا ذخر من لا ذخر له ، ويا حرز الضعفاء ، ويا عظيم الرجاء ، ويا منقذ الهلكى ، ويا منجّي الغرقى ، ويا محسن ، ويا مجمل ، ويا منعم ، ويا مفضل ، ويا عزيز .
أنت الذي سجد لك سواد الليل ، وضوء النهار ، وشعاع الشمس ، وهفيف الشجر ، ودويّ النحل ، ونور القمر .
يا اللّه يا اللّه يا اللّه لا شريك لك . أسألك أن تصلّي على محمد وعلى آل محمد ، ثم تدعو حاجتك “ .ومن جواهر الكلم
طيب الأشياء العافية ، وأفضل الدارين الباقية . الطاعة حرز ، والقناعة عزّ ، والعلم
“ 283 “
كنز ، والصمت فوز . الثقة مال المؤمن ، والرحمة من اللّه حظ المحسن . فمن وثق باللّه أغناه ، ومن أحسن إلى خلقه نجّاه .
إن الدنيا لا تصفو لشارب ، ولا تفي لصاحب ، ولا تخلو من فتنة ، ولا تخلى من محنة .
فاعرض عنها قبل أن تعرض عنك ، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك ، فإن نعيمها ينتقل ، وأحوالها وثمرتها تضمحل .
من أطاع اللّه عز وجل ارتفع ، ومن عصاه ذلّ فاتّضع من أطاع اللّه ملك ، ومن أطاع هواه هلك . كم من جامع لمن لا يشكوه ، ومنفق فيمن لا يسرّه . من تمام العلم استعماله ، ومن تمام العمل استقباله ، فمن استعمله عمله لم يخل من رشاد ، ومن استعمله علمه لم يقصر عن مراد . ثمرة العلم أن تعمل به ، وثمرة العمل أن تؤجر عليه .
كل عزّ لا يوطده دين مذلة ، وكل علم لا يؤيده عقل مظلة . ذل من ليس له ظالم يعضده ، وضلّ من ليس له عالم يرشده . الزهد بصحة اليقين ، وصحة اليقين بصحة الدين ، فمن صحّ يقينه زهد في الثراء ، ومن قوي دينه أيقن بالجزاء .
وصية من شيخ ناصح لتلميذ قابل
روينا من حديث ابن ثابت قال : انا عبد الرحمن بن محمد بن فضالة النيسابوري ، انا محمد بن عبد اللّه بن شادان قال : سمعت يوسف بن الحسين يقول : قلت لذي النون في وقت مفارقتي له من المجلس : من أجالس ؟ فقال : عليك بمجالسة من يذكّرك اللّه رؤيته ، وتقع هيبته على باطنك ، ويزيد في عملك منطقه ، ويزهدك في الدنيا علمه ، ولا تعصي اللّه ما دمت قربه ، يعظك بلسان فعله ، ولا يعظك بلسان قوله .
ومن هذا الباب ما حدثنا المروزي ، عن الخشّاب ، نبأ عبد اللّه ابن الأستاذ قال :
دخل رجل من أصحابنا على أبي العباس الخشاب الزاهد ، فسلم عليه وقال له : يا أبا العباس ، أريد أن أقرأ عليك مما في هذا الكتاب ، لكتاب كان بيده ، ففتح ، فقرأ عليه من باب الورع والزهد والتوكل ، والخشاب ساكت . فقال الرجل : يا أبا العباس ، إنما قرأ عليك هذه الأبواب لتتكلم عليها . فقال له الخشاب : أقرأني فإني أنا ذلك الكتاب . فخرج الرجل من عنده ، ودخل إلى الشيخ أبي مدين ، وهو إذ ذاك بمدينة فاس ، فقال : يا أبا مدين ، اتفق لي مع الخشاب كيت وكيت ، فقال أبو مدين : صدق الخشاب ، هل قرأت عليه بابا ليس هو حاله ؟
فإذا كان حاله لا تفهمه ولا يؤثر فيك ، فكيف قوله ؟ فاتعظ الرجل .
أخبرني عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، عن كشف أبي العباس الخشاب ، قال : خطر لأبي مدين طلاق زوجته ، واستخار اللّه ، ثم رأى أن يستأذن في ذلك أبا العباس الخشاب ، فإنه كانت له حالة تعليم من اللّه ، فوافق هذا الخاطر دخول الخشاب على أبي مدين ، فقبل
“ 284 “
أن يكلمه أبو مدين ، قال له الخشاب : يا أبا مدين ، يقال لك : امسك عليك زوجك ، فمسكها . ولهذا الخشاب عجائب . زرت قبره مع ابن يخلف بمدينة فاس ، فأتى خبر أنه يوم مات ما بقي وليّ للّه له خطوة إلا حضره .
وصية نوح عليه السلام لابنه
روينا من حديث أحمد بن محمد زياد ، قال : نبأ محمد بن عبد الملك الدقيقي ، نبأ خنيس ، نبأ زياد قال : نبأ محمد بن عبد الملك ، نبأ زيد بن بكر بن خنيس ، عن محمد بن إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
« أوصى نوح ابنه فقال : لا أطوّل عليك ، احذر أن لا تنسى : اثنتان يستبشر اللّه عز وجل بهما وصالح خلقه . واثنتان يحتجب اللّه بهما وصالح خلقه . فأما الاثنتان التي يستبشر اللّه عز وجل بهما وصالح خلقه ، فشهادة أن لا إله إلا اللّه ، وأن السماوات والأرض وما بينهما وما فيهنّ لو كنّ حلقة لقصمتها ، ولو كنّ في كفة لرجحت ، وسبحان اللّه وبحمده . فإنها صلاة الخلق ، وبها يرزقون . وأما الاثنتان التي يحتجب اللّه عز وجل منهما وصالح خلقه ، فالشرك به والكبر » .
فقال رجل من أصحابه : يا رسول اللّه ، إني لأحبّ أن يحمل مركبي ، ويلين مطمعي ، ويحل علاق صوتي ، وقبال نعلي ، فذلك كبر ؟
قال : « لا ، ولكن الكبر أن تبطر الحق ، وتغمص الناس » . واللفظ لابن الأعرابي . انتهى .
نصيحة
رويناها عن الحسن ، من حديث ابن ثابت قال : نبأ أحمد بن الحسين بن محمد بن ثابت قال : نبأ أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد اللّه ، نبأ جدّي ، نبأ أبو بكر أحمد بن يحيى بن عمرو بن عتيق العامري ، نبأ أحمد بن علي بن خلف ، نبأ سري بن المفلس السقطي ، نبأ يزيد ، عن المسعودي ، عن محمد ، عن عوف بن عبد اللّه ، قال :
سمعت الحسن يقول : يا ابن آدم ، لو أنك تجد حقيقة الإيمان ما كنت تعيب الناس بعيب هو فيك ، حتى تبدأ بذلك العيب نفسك ، ولا تصلح عيبا إلا ترى عيبا آخر ، فيكون شغلك في خاصة نفسك ، وكذلك أحبّ ما يكون إلى اللّه إذا كنت كذلك .
ومن حديثه أيضا قال : انا محمد بن علي الأصبهاني التاجر ، نبأ أحمد بن محمود
“ 285 “
القاضي بالأهواز ، نبأ محمد بن زكريا ، نبأ ابن عائشة قال : سئل علي بن الحسين عن صفة الزاهد في الدنيا ، قال : يتبلّغ بدون قوته ، ويستعد ليوم موته ، ويتبرم حياته .
حكاية شابّ اصطنعه الحق تعالى
روينا من حديث ابن ثابت قال : نبأ علي بن القاسم الشاهد بالبصرة قال : سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن عيسى قال : سمعت يوسف بن الحسين يقول :
كان شابّ يحضر مجلس ذي النون بن إبراهيم المصري مدة ، ثم انقطع عنه زمانا ثم حضر عنده ، وقد اصفرّ لونه ، ونحل جسمه ، وظهرت آثار العبادة والاجتهاد عليه . فقال له ذو النون : يا فتى ، ما الذي أكسبك خدمة مولاك واجتهادك من المواهب التي منحك بها ووهبها لك واختصّك بها ؟ فقال الفتى : يا أستاذ ، وهل رأيت عبدا اصطنعه مولاه من بين عبيده واصطفاه وأعطاه مفاتيح الخزائن ، ثم أسرّ إليه سرا ، أيحسن به أن يفشي ذلك السر ؟
ثم أنشأ يقول :
من سارروه فأبدى السرّ مجتهدا * لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وباعدوه فلم يسعد بقربهم * وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يصطفون مذيعا بعض سرّهم * حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
قال : وحدثني يحيى بن علي بن عبد اللّه الدمغاني ، عن ابن سلام ، سمعت يحيى بن معاذ يقول : من عرف عاش ، ومن مال إلى الدنيا طاش ، والمؤمن عن عيوب نفسه فتّاش ، والأحمق يسعى في لاش .
قال : وحدثنا عبد الرحمن ، عن أحمد بن مكحول قال : سئل حكيم : أي شيء أحلى ؟ قال : النصرة على العدو بعد الهزيمة ، والاستغناء بعد الحاجة ، والعظة في المجالس ، والغلبة للمتكلم .
كلام لبعض إخواننا فيمن أفناه الشوق
أملى علينا صاحبنا أحمد بن مسعود بن شدّاد المقري ، بمدينة الموصل سنة إحدى وستمائة ، فيمن أفناه الشوق وأودى به التوق ، وأماته التذكّر وأفناه التفكّر ، حتى صارت جزئياته وكلياته للّه ، وحركاته وسكناته باللّه ، ولحظاته وخطراته من اللّه ، وضمائره وسرائره مع اللّه ، فني به عنه ، لما منحه به منه ، وذلك حين زهد في شهواته ولذّاته ، وتجوهر في
“ 286 “
صفاته وذاته ، فني بمولاه عن تربه ونفسه ، بما أولاه عن تربه ونفسه ، بما أولاه من قربه وأنسه ، عرض عرضه على الخلق ، وجاهر بجوهره لدى الحق ، حتى صار بين الأتراب من عالم التراب ، ومن أولي الألباب عند رب الأرباب ، بقي صورة في الفناء ، ومعنى في عالم الفناء ، فعين السعادة لم تزل تلاحظه من قبل الأزل ، فهو في عالم الصور معنا ، وفي عالم الأرواح يشاهد المعنى ، فلما أفناه موجده عن وجوده ، بما حباه من تطوله وجوده ، تحيط جوهر روحانيته ، في عرض إنسانيته ، وطمعت في الخلاص الأرواح ، من حصر أقفاص الأشباح ، هتفت بها هواتف الأقدار بالعشيّ والإبكار ، هذا يقرأ عليها : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ،
وهذا يتلو عليها : وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ * فحينئذ هدرت بلابل بلبالها ، وغرّدت قماري أقمار أحوالها ،
وأنشدت لسان حالها :
يا حسرتي كيف ألقاهم ولي جسد * ولي فؤاد ولي سمع ولي بصر
مادا أقول إذا قالوا فديتهم * أين التحول وأين الدمع والسهر
إذا اعتذرت أجابتني محاسنهم * ما لامرئ لم يمت في حبنا عذر
مبشرة خير تدل على فتح ونصر
رأينا ونحن بسيواس في شهر رمضان ، والسلطان الغالب في ذلك الزمان يحاصر أنطاكية . فرأيت كأنه نصب عليها المجانيق ، ورماها بالأحجار ، فقتل زعيم القوم ، فأولت الأحجار آراؤه السعيدة ، وعزائمه التي يرميهم بها ، وإنه فاتحها إن شاء اللّه تعالى . فكان كما رأيت بحمد اللّه ، وفتحها يوم عيد الفطر ، وكان بين الرؤيا والفتح عشرون يوما ، وذلك سنة اثني عشر وستمائة ، فكتبت إليه من ملطية قبل فتحه إياها بأبيات أذكر فيها رؤياي ، وأذكر فيها ما قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رأى في النوم جبريل عليه السلام ، وقد جاءه بعائشة أم المؤمنين ، قبل أن يتزوج بها ، في سرفة حرير ، فقال له : هذه زوجتك ، فلما استيقظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكرها قال : « إن كان من عند اللّه سيمضيه » . فقلنا : نحن كذلك أدبا واقتداء . فكان من عند اللّه ، وفتح اللّه على السلطان بها كما كان زواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعائشة .
وكانت الأبيات لروميات اتفاقا وهي :
قصدت بلاد الكفر تبغي فتوحها * فأبشر فإن الروم فيك لفي خسر
رأيت لكم رؤيا تدلّ على النصر * وفتح بلاد الكفر والقتل والأسر
قتلتم بأحجار المجانيق كبشهم * فأوّلها الآراء تعضد بالنصر
“ 287 “
فدونك فانهض أيها الملك الذي * علا أمره فوق السماكين في النسر
وخذها من اللّه الكريم بشارة * تدل على التأييد والقهر والقسر
فإن كان عن حق سيمضي وجودها * وإن لم يكن ما فيه في الملك عن عسر
بذا جاء لفظ الشرع إذ جاء وحيه * برؤياه في أمر الحميراء بالسر
إذا جاء نصر اللّه والفتح فلتجد * بمالك من خير على العسر واليسر
روينا من حديث الواسطي قال : نبأ عيسى بن عبد اللّه الورّاق ، أخبرني علي بن جعفر الرازي ، نبأ عبد اللّه بن محمد بن مسلم ، نبأ موسى بن سهل النيسابوري الموصلي قال :
سكن من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة ببيت المقدس : عبادة بن الصامت ، وشداد بن أوس ، وابن أم حزام أبو أبي واسمه شمعون حليف الحضرموت ، وأبو ريحانة ، وسلامة بن قيصر الحضرمي ، وفيروز الديلمي ، وذو الأصابع ، وأبو محمد النجاري ، هؤلاء من أهل بيت المقدس .
ماتوا بها ، أعقب منهم عبادة بن الصامت ، وشداد ، وسلامة ، وفيروز ، ولم يعقب أبو ريحانة ، ولا ذو الأصابع ولا النجاري .
ذكر كعب الأحبار
إن اللّه تعالى قال في التوراة لصخرة بيت المقدس : أنت عرشي الأدنى ، ومنك ارتفعت إلى السماء ، ومن تحتك بسطت الأرض ، وكل ماء يسيل من ذروة الجبال من تحتك ، من مات فيك فكأنما مات في سماء الدنيا ، ومن مات حولك فكأنما مات فيك ، لا تنقضي الأيام والليالي حتى أرسل عليك نارا من السماء ، فتأكل آثار أكفّ بني آدم وأقدامهم منك ، وأرسل عليك ماء من تحت العرش فأغسلك حتى أتركك كالمهات ، وأضرب عليك سورا من غمام غلظه اثنا عشر ميلا وسياجا من نار ، وأجعل عليك قبة خلقتها بيدي ، وأنزل فيك روحي ، وملائكتي ، يسبحون فيك ، لا يدخلك أحد من ولد آدم إلى يوم القيامة ، فمن يرى ضوء تلك القبة من بعيد يقول : طوبى لوجه يخرّ فيك للّه ساجدا ، وأضرب عليك حائطا من نار ، وسياجا من الغمام ، وخمس حيطان من ياقوت ودرّ وزبرجد ، وأنت الأنظر ، وإليك المحشر ، ومنك المنتشر .
حدثني بهذا الحديث جماعة غير واحد ، عن القاسم بن علي ، عن أبي القاسم السوسي ، عن إبراهيم بن يونس ، عن عبد العزيز النصيبي ، عن محمد بن أحمد ، عن عمر ، عن أبيه ، عن الوليد ، عن إبراهيم بن محمد ، عن داود ، عن صدقة بن يزيد ، عن ثور بن يزيد ، عن عبد اللّه بن تبشر ، عن كعب الأحبار رضي اللّه عنه .
“ 288 “
ومن باب العشق والعشاق ما ذكر عن المأمون وهو قوله
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه * فإذا هويت لقد لقيت هوانا
فإذا تعبّدك الهوى فاخضع له * واسجد لإلفك كائنا من كانا
ولجميل بن معن في هذا الباب :
قد كنت أسمع بالمحبّ وذكره * فأضلّ منه عاجبا أتفكّر
حتى بليت بحبكم فوجدته * مرّا ولم أك قبل ذلك أشعر
فاليوم أعذر كل من أثبته * صبّا ومن ذاق الهوى يستشعر
ولام الضحّاك في هذا الباب فقال :
من كان لا يدر ما حبّ وصفت له * أو كان هيّابة أو كان لم يحد
الحبّ أوله روع وآخره * مثل الخزازة بين القلب والكبد
وقال آخر :
الحب أوله حلو وأوسطه * مرّ وآخره التوديع والأجل
وقال صاحب بثينة :
الحبّ أول ما يكون لجاجة * تأتي به وتسوقه الأقدار
حتى إذا اقتحم الهوى لجج الهوى * جاءت أمور لا تطاق كبار
ولنا في هذا الباب :
الحبّ أوله نحبّ وأوسطه * موت وليس له حدّ فينكشف
فمن يقول بأن الحبّ يعرفه * فما لقوم به أعمارهم شغفوا
ولم يقولوا بأن الحبّ نعرفه * خلف ولكنه بالقلب يأتلف
فليس يعرف منه غير لازمة * البثّ والوجد والتبريج والأسف
ولنا من منشور الحكم والوصايا
قال الإسكندر : الحكم يرضي أحد الخصمين ويسخط الآخر ، فليستعملا الحق ليرضيهما جميعا .
وقال : لم صارت سير بلادكم قليلة ؟
قالوا : لإعطائنا الحق من أنفسنا ، ولعدل ملوكنا ، وحسن سيرتهم فينا .
فقال لهم : أيما أفضل ، العدل أم الشجاعة ؟
قالوا : إذا استعمل العدل استغني عن الشجاعة .
“ 289 “
بزرجمهر
العدل هو ميزان الباري سبحانه ، ولذلك هو متبرئ من كل زيغ وميل .
أنوشروان
قيل له : أي الخير أوفى ؟ قال : الدّين . قيل : فأي العدد أقوى ؟ قال : العدل .
أزدشير
قيل له : من الذي لا يخاف أحدا ؟ قال : الذي لا يخافه أحد . فمن عدل في حكمه ، وكفّ عن ظلمه ، نصره الحق وأطاعه ، وصفت له النعمة ، وأقبلت عليه الدنيا ، فتهنّى بالعيش ، واستغنى عن الجيش ، وملك القلوب ، وآمن الحروب ، وصارت طاعته فرضا ، وظلت رعيته جندا .
وإن أول العدل أن يبدأ الرجل بنفسه ، فيلزمها كل خلّة زكية ، وخصلة رضية ، في مذهب سديد ، ومكسب حميد ، ليسلم عاجلا ، ويسعد آجلا . وأول الجور أن يعمد إليها فيجنبها الخير ، ويعوّدها الشر ، ويلبسها الآثام ، ويغبقها المدام ، ليعظم وزرها ، ويقبح ذكرها .
أفلاطون
من بدأ بنفسه فساسها أدرك سياسة الناس . أصلحوا أنفسكم تصلح لكم آخرتكم .
أرسطو
أصلح نفسك لنفسك تكون الناس تبعا لك .
فيثاغورس
أحسن العظات ما بدأت به نفسك ، وأجريت عليك أمرك .
سقراط
من رضي عن نفسه سخط اللّه عليه الناس .
الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء 19
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 2
“ 276 “
في ثلاثين ألفا ، فدخلناها . وقد مات رجاء بن حيوة قبل ذلك بعشرة أيام ، فبلغ ذلك مسلمة فغمّه غما شديدا . وأقام بباب دمشق ، وكتب إلى عمر بن عبد العزيز فلم يأذن له في الدخول إلى المدينة ثلاثة أيام ، حتى طلب إليه جميع بني أمية . فأذن له ، فدخل ، فمضى ومضينا معه إلى منزل عمر بن عبد العزيز بالخيل والناس وهبة السفر . فلم يأذن له ، فرجع إلى منزله ، فلما كان من الغد ، وركبنا معه ألف رجل من القواد ، فلم يأذن له فرجع ، وركب إليه من الغد في أهل بيته ومواليه ، فلم يأذن له . وركب إليه من الغد في إخوانه وبني عمه ، فلم يأذن له . فرجع ومضى إليه من الغد وحده راكبا ، فلم يأذن له .
فرجع ومضى إليه من الغد راجلا ، فأذن له ، وعنده وجوه قريش ، ورؤساء أهل الشام . فسلّم عليه بالخلافة فرد عليه ردا ضعيفا ، ولم يأذن له بالقعود ساعة .
فبكى مسلمة وقال : ما أراني عاصيا ، فإن كنت عاصيا فقد عصى من هو خير مني ، وإن كنت مداهنا فقد داهن من هو خير مني .
فما جرمي إلا أن أنكيت في المشركين ، وأبكيت ، وقمت بحق اللّه تعالى ، وقتلت عدوّه ، ولم تأخذني فيه لومة لائم . فإنما فعلت بما أمرت ، وأوصيت بالدخول إلى المدينة العظمى ، فدخلت .
هذا كلامي وهذا عذري ، فاقبل مني أو دع .
فقال عمر بن عبد العزيز : يا مسلمة ، سرت بالمسلمين إلى أقصى بلاد الروم ، فقتلت الضعيف ، وأتعبت القوي ، تطلب الشرف ، وأردت الرئاسة .
أما كان يكفيك من القسطنطينية بلاد عمورية والقيام بها ؟ ولكنك أردت أن يقال :
هذا مسلمة بن عبد الملك شديد العزم . فالويل لك إن آخذك اللّه بقتل رجل من المسلمين .
ويحك يا مسلمة ، لقد بلغني عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :
« الويل لمن أهلك نفسا مؤمنة » . فقد عفونا عنك ما كان من جهلك . اقعد ، فقعد .
فقال : هات يا مسلمة حدثني عن بلاد الروم . فقال مقاتل مولى عمر بن عبد العزيز :
سمعت مسلمة وهو يقول لعمر : ما رأيت بلادا تشبه القسطنطينية .
قال عمر : صفها لي .
قال : هي مدينة برية بحرية ، الخير فيها كثير ، من الفاكهة والطعام ، واللباس فيها ظاهر ، والدواب فيها فرهة . قال عمر : صف لي سورها ، وأبوابها ، وكنيستها العظمى ، وقصرها الكبير .
قال : أما سورها فحجارة ، وعرض السور ما يسير عليه مائة فارس عرضا . فأما الأبواب فإنها حديد عرض ما بين كل باب ميل . وأما الكنيسة العظمى فمن رخام مصفف مفصّص بالحجارة المذهبة وبالجوهر .
وأما قصرها فمن رخام ، ولم أدخله يا أمير المؤمنين .
قال عمر : أسألك باللّه يا مسلمة هل جبنت حيث دخلتها ؟
قال مسلمة : لا واللّه يا أمير المؤمنين ما جبنت ، ولكني أجري ما كنت حيث دخلتها . قال : كيف رأيت أهل
“ 277 “
الروم ؟ قال : قوم سوء وقلوبهم خائفة ، فإذا صدقوا هربوا . ولقد قتلنا منهم مقتلة عظيمة .
فالحمد للّه على ذلك كثيرا . قال عمر : غفر اللّه لك . ثم وجّه سراقة بن عبد الرحمن أميرا على الثغور ، وأمره أن يبلغ العمورية ، فإذا بلغها لا يجوز إلى غيرها . وأقام مسلمة عند عمر بدمشق .
تأديب عمر بن عبد العزيز مسلمة بن عبد الملك
وبالإسناد قال مقاتل : ثم إن عمر بلغه أن مسلمة ينفق على مائدته ألف درهم في كل يوم . وكان عمر يطعم السّؤال من غلته ألف سائل في كل يوم ، يطعمهم ثلاثة ألوان وشواء .
وكان يأكل هو يوما لحما ، ويوما خلا وزيتا ، ويوما عدسا .
وكان قد سيّر الدنيا ثلاثة أيام :
يوما للقضاء ، ويوما لأهله ، ويوما لحوائج الناس ، والليل للعبادة . فكان إذا جنّه الليل لبس جبّة صوف ، وجعل الغلّ في عنقه والقيد في رجله ، ونادى : يا رب ، هذا عذاب الدنيا ، فكيف عذاب الآخرة ؟
ثم بعث إلى مسلمة يأمره أن يتغذى عنده ، فأتاه ، فأمر عمر بجفان السّؤال أن تهيّأ ، وهيأ له طعاما ، وأمر أن يحبس الطعام وأن يقدّم العدس .
فلما أبطأ عليهم الطعام ، وجاع مسلمة جوعا شديدا ، قال عمر : ويحك يا مقاتل ، إن أبا سعيد لا يصبر على الجوع ، فائتنا بما عندك . فأتاه بعدس ، فأكل أكلا منكرا حتى شبع ، ثم أتي بالطعام . فقال عمر : كل يا أبا سعيد . فقال : قد اكتفيت . قال عمر : يا أبا سعيد ، تكفيك أكلة بدانقين ، وأنت تنفق على مائدتك ألف درهم كل يوم ؟ فقال مسلمة : أعطني عهد اللّه أن لا أعود إلى مثل ذلك ، فرجع عنه .
ومن أخبار عمر بن عبد العزيز
وبالإسناد قال مقاتل : رأيت قوما من العبّاد وقد أتوا محمد بن عمر بن عبد العزيز ، فسألوه عن عمل أبيه ، فقال : ما أذكر أني رأيته ، ولكني أدخل على أمي فاطمة ابنة عبد الملك بن مروان ، فأسألها عن هذا إن شاء اللّه تعالى . فدخل عليها ، فقال : يا أمّه ما صنع أبي ؟
فإن الناس قد لجّوا عليّ في ذلك ، فقالت فاطمة ابنة عبد الملك : يا بني ، لا تريد أن تعلم ؟ قال لها : فإنهم لا يدعوني حتى أخبرهم . قالت : نعم ،
قل لهم : إن أبي كان من أعظم قريش ، وأرفههم مركبا ، وألينهم ثوبا ، وأطيبهم طعاما ، قبل أن يلي الخلافة ، فلما ولّي الخلافة لبس الكرابيس والصوف ، وربما ادّهن بزيت العلة ، تعني زيت الماء ، ولا رفع ثوبا يدّخره ، ولا اتخذ أمة منذ ولّي إلى يوم مات ، فهذه كانت حالته .
“ 278 “
قال مقاتل : فلما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة قال له : يا مقاتل ، إنه بلغني عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أن الإمام العادل إذا وضع في قبره نزل على يمينه ، وإذا كان جائرا نقل عن يمينه إلى شماله ، فاطّلع حتى تنظر إليّ . قال : فاطلعت ، فرأيته على يمينه والحمد للّه .
قال مقاتل : رأيته قبل أن تخرج الروح من جسده وهو يضحك ، ويقول : لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ . ثم مات رحمه اللّه تعالى .
ولنا في الأخذ من السلطان وترك الأخذ من الناس للمنّة
إن الحلال من المكاسب همّتي * والأخذ من مال الفتوح أجانبه
تمضي المروءة أخذه من عالم * مذمومة أحواله ومذاهبه
تمتنّ من قبل العطاء وربما * سألت عليك بما يعير مدانبه
فلتجتنب أخذ الفتوح فإنه * يجني على الأعقاب منك عواقبه
إلا من السلطان فهو نصيبكم * مما تعيّن بالشريعة واجبه
هو عنده للمسلمين أمانة * فمتى حباك فخذه إنك صاحبه
قال ابن الواسطي : وقد ذكرت إسنادنا إليه ، حدثنا القاسم بن مزاحم ، عن محمد بن الحسن العسقلاني ، عن محمد بن عمرو بن الجراح الغزّي ، عن أبي الصلت شهاب بن خراش ، عن سعيد بن سنان ، عن أبي الزاهرية ، قال : أتيت بيت المقدس أريد الصلاة ، فدخلت المسجد ، وغفلت عن سدنة المسجد حتى أطفئت القناديل ، وانقطعت الرّجل ، وغلقت الأبواب . فبينما أنا على ذلك إذ سمعت له حفيفا له جناحان قد أقبل ، وهو يقول :
سبحان الدائم القائم ، سبحان القائم الدائم ، سبحان الحي القيّوم ، سبحان الملك القدّوس ، سبحان رب الملائكة والروح ، سبحان اللّه وبحمده ، سبحان العليّ الأعلى ، سبحانه وتعالى .
ثم أقبل حفيف يتلوه ويقول مثل ذلك ، ثم أقبل حفيف بعد حفيف يتجاوبون بها حتى امتلأ المسجد ، فإذا بعضهم قريب مني فقال : آدمي ؟ فقلت : نعم . قال : لا روع عليك ، هؤلاء الملائكة . قلت : سألتك بالذي قوّاكم على ما رأى ، من الأول ؟ قال : جبريل .
قلت : ثم الذي يتلوه ؟ قال : ميكائيل . قلت : من يتلوه بعد ذلك ؟ قال : الملائكة . قلت :
سألتك بالذي قوّاكم على ما أرى ، ما لقائلها من الثواب ؟
قال : من قالها سنة كل يوم مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة ، أو يرى له .
قال أبو الزاهرية : قلت : سنة وسنة كثير ، لعلّي لا أعيش ، فقلتها في يوم عدد أيام السنة ، فرأيت خيرا .
قال سعيد بن سنان : فقلت :
“ 279 “
سنة والسنة كثير ، لعلّي لا أعيش فيها ، فقلتها في يوم عدد أيام السنة ، فرأيت خيرا . قال الحوسي : فقلت : سنة والسنة كثير ، لعلّي لا أعيش فيها ، فقلت في يوم عدد أيام السنة ، فرأيت خيرا .
قال محمد بن عمرو : فقلتها ثلاثة أيام أو أربعة ، كل يوم مائة مرة ، فكان الرجل يلقاني فيقول : رأيت لك كذا وكذا أظنه من ذلك . قلت : وقلتها أنا في ليلة فرأيت خيرا ، وقلتا وقالها صاحبي عبد اللّه الحبشي ، فرأى أو رؤي له خيرا .
ومن باب حب الوطن
ما قالت العجم اللسن :
من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة ، وإلى مسقط رأسها توّاقة .
وقال الحكيم : فطرة الرجل معجونة بحب الوطن ، ولذلك قال أبقراط : يداوى كل عليل بعقاقير أرضه ، فإن الطبيعة تقطع بهواها ، وتفزع إلى غذاها . وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : لو قنع الناس بأرزاقهم قنوعهم بأوطانهم لما اشتكى عبد الرزّاق . والذي يؤيد ما ذكرناه من حب الوطن قول اللّه عز وجل حين ذكر الديار ، فخبر عن مواقعها من قلوب عباده .
فقال تعالى : وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ، فسوّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم .
وقال تعالى : وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا .
وقيل : لولا حبّ الناس الأوطان لخرب البلدان .
وقيل : من أمارات العاقل برّه لإخوانه ، وحنينه إلى أوطانه ، ومداراته لأهل زمانه .
كما قيل : ( ودارهم فاللّبيب من دارى ) .
قالت العرب : حماك أحمى لك ، وأهلك أحفى لك .
حكمة
الغربة كربة ، والقلّة ذلّة .
وقال القائف : إذا أحسّت النفس بمولدها تفتحت مسامّها ، فعرفت النسيم ، وأكثرت الشميم .
“ 280 “
وقال آخر : يحنّ اللبيب إلى وطنه كما يحنّ النجيب إلى عطنه .
وقال بعضهم : كما أن لحاضنتك حقّ لبنها ، فكذلك لأرضك حرمة وطنها .
وشبّهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم ، ثكل أباه وأمه ، فلا أم ترامه ، ولا أب يحرب عليه .
وفي المثل : أوضح من مرآة الغريب .
قالت الحكماء : أكرم الخيل أجزعها من السوط ، وأكيس الصبيان أشدّهم بغضا للكتاب ، وأكرم الإبل أشدهم حنينا إلى أوطانها ، وأكرم المهارى أشدها ملازمة لأمهاتها ، وخير الناس آلفهم للناس .
وقال بعض الشعراء في الوطن :
ألا ليت شعري والحوادث جمة * متى تجمع الأيام ما فرّق الشملا
وكل غريب سوف يمسي بذلّة * إذا بان عن أوطانه وجفا الأهلا
وأنشدنا أبو بكر بن سكر قال : كان المازني ينشد لعروة :
اقرأ على الوشل السلام وقل له * كل المشارب مذ هجرت ذميم
جبل ينيف على البلاد إذا بدا * بين الغدائر والزمان مقيم
لو كنت أملك منع ما بك لم يذق * ما في قلاتك ما حييت لئيم
وأنشدنا أبو جعفر أحمد بن يحيى الوزعي بمسجد ابن عتّاب بقرطبة لمجنون بني عامر :
إلى عامر أصبو وما أرض عامر * هي الرملة الوعساء والبلد الرحب
معاشر بيض لو وردت بلادهم * وردت بحورا للندى ماؤها عذب
إلى ما بدت للناظرين خيامهم * فثمّ العتاق القبّ والأسل القضب
وأنشدنا أبو الحسن علي بن خروف بمنزلي لامرأة من عقيل :
خليليّ من سكان ماوان هاجني * هبوب جنوب مرّها وانتسامها
فإن تسألاني ما ورائي فإنني * بمنزلة أعيا الطبيب سقامها
وأنشدنا :
أقول لقوم ألف الدهر بينهم * وبيني والأيام تحوي وتفرق
فإني وإن أحمدت عقد وصالكم * ففي غير مثوى أرضكم أتشرّق
سقى اللّه قومي كل يوم وليلة * عوارض مزن صوبها يتدفق
“ 281 “
ومن باب العشاق والعشق
قال علي بن عبيدة : العشق أرواح تجول في الخليقة ، وفرح يجول في الروح ، وسرور ينشي الخواطر ، له مستقرّ غامض ، ويحل أطيب المساكن ، ينساب في الحركات ، ويهدئ القوي ، ويقوّي الضعيف .
ولبعضهم :
تقول أناس لو نعت لنا الهوى * وو اللّه ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه جزء أعدّه * وليس لشيء منه وقت موقت
بلى غير أني لا أزال كأنني * عليّ من الأحزان بيت مبيت
وأنضح وجه الأرض طورا بعبرتي * وأقرعها طورا بظفري وأنكت
وقد زعموا بي أنني لا أحبّه * فما لي أراه من بعيد فأبهت
إذا اشتدّ ما بي كان آخر حيلتي * له وضع كفي تحت خدّي وأصمت
وأنشدني ابن مرتين من هذا الباب :
الحبّ فيه حلاوة ومرارة * والحبّ فيه شقاوة ونعيم
الحب أهونه شديد قادح * والحب أصغر ما يكون عظيم
الحب صاحبه ببيت مسهّدا * ويطير من فؤاده ويهيم
الحب لا يخفى وإن أخفيته * إن البكاء على المحب نميم
الحب يشهد صادقا في وجهه * عند التنفس أنه مهموم
الحب داء قد تضمّنه الحشا * بين الجوانح والضلوع مقيم
حكاية
قال إبراهيم بن سعيد : كنت عند المأمون يوم نوروز ، فجاء الناس بهدايا ، فأمر بردّها استحقارا لها ، فردّت الهدايا . وكانت في المهديين امرأة معها هدية ، ولها رقعة مكتوب فيها :
ألم ترنا نهدي إلى اللّه ما له * وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولكننا نهدي إلى من نحبه * على قدرنا لا نحو ما قد يشاكله
قال : فأمر المأمون بقبول الهدايا .
حديث مرفوع ، رفعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز إلى أبي هريرة قال :
“ 282 “
بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم جالس في أحفل ما يكون من أصحابه ، إذ أقبل إليه أعرابي من بني سليم باكيا .
فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ ما يبكيك يا أخا بني سليم ؟ “ ، قال : إني ربما قمت في صلاتي فيأخذني الهذيان ، وربما نمت فتأخذني الفكرة في منامي ، وربما أخذتني الوسوسة حتى كادت تفسد عليّ ديني .
فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ يا سلمي ، هذا عمل إبليس لعنه اللّه . ألا أعلمك تسعة عشر اسما علّمنيها رب العالمين حين أسري بي إلى السماء السابعة ؟ أربعة منها مكتوبة على جبهة إسرافيل . وأربعة مكتوبة على جبهة ميكائيل . وأربعة مكتوبة على جبهة جبريل . وأربعة مكتوبة على جبهة عزرائيل . وثلاثة مكتوبة على جبهة الناموس الأكبر ، وهو أحد حملة العرش ، جناح له في المشرق ، وجناح له في المغرب . وعنقه مثنيّة تحت قائمة العرش ، لو أمره الجبار أن يلتقم السماوات وما بينهنّ وما فيهنّ وما عليهنّ كان أهون عليه من طرفة عين “ .
قال : بلى يا رسول اللّه ، . فقال : “ يا أخا بني سليم ، إنها تسعة عشر اسما ما دعا بهنّ مهموم إلا فرّج اللّه عنه همّه ، ولا مغموم إلا فرّج اللّه عنه غمّه ، ولا غائب إلا ردّه اللّه عز وجل ، ولا مريض إلا شفاه اللّه تعالى ، ولا مديون إلا قضى اللّه دينه . ولم تكن هذه الأسماء في منزل إلا طرد اللّه عنه إبليس وجنوده . فإذا أمسيت وأصبحت فقل :
اللهمّ إني أسألك يا رحمن يا رحيم ، ويا جار المستجيرين ، ويا أمان الخائفين ، ويا عماد من لا عماد له ، ويا سند من لا سند له ، ويا ذخر من لا ذخر له ، ويا حرز الضعفاء ، ويا عظيم الرجاء ، ويا منقذ الهلكى ، ويا منجّي الغرقى ، ويا محسن ، ويا مجمل ، ويا منعم ، ويا مفضل ، ويا عزيز .
أنت الذي سجد لك سواد الليل ، وضوء النهار ، وشعاع الشمس ، وهفيف الشجر ، ودويّ النحل ، ونور القمر .
يا اللّه يا اللّه يا اللّه لا شريك لك . أسألك أن تصلّي على محمد وعلى آل محمد ، ثم تدعو حاجتك “ .ومن جواهر الكلم
طيب الأشياء العافية ، وأفضل الدارين الباقية . الطاعة حرز ، والقناعة عزّ ، والعلم
“ 283 “
كنز ، والصمت فوز . الثقة مال المؤمن ، والرحمة من اللّه حظ المحسن . فمن وثق باللّه أغناه ، ومن أحسن إلى خلقه نجّاه .
إن الدنيا لا تصفو لشارب ، ولا تفي لصاحب ، ولا تخلو من فتنة ، ولا تخلى من محنة .
فاعرض عنها قبل أن تعرض عنك ، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك ، فإن نعيمها ينتقل ، وأحوالها وثمرتها تضمحل .
من أطاع اللّه عز وجل ارتفع ، ومن عصاه ذلّ فاتّضع من أطاع اللّه ملك ، ومن أطاع هواه هلك . كم من جامع لمن لا يشكوه ، ومنفق فيمن لا يسرّه . من تمام العلم استعماله ، ومن تمام العمل استقباله ، فمن استعمله عمله لم يخل من رشاد ، ومن استعمله علمه لم يقصر عن مراد . ثمرة العلم أن تعمل به ، وثمرة العمل أن تؤجر عليه .
كل عزّ لا يوطده دين مذلة ، وكل علم لا يؤيده عقل مظلة . ذل من ليس له ظالم يعضده ، وضلّ من ليس له عالم يرشده . الزهد بصحة اليقين ، وصحة اليقين بصحة الدين ، فمن صحّ يقينه زهد في الثراء ، ومن قوي دينه أيقن بالجزاء .
وصية من شيخ ناصح لتلميذ قابل
روينا من حديث ابن ثابت قال : انا عبد الرحمن بن محمد بن فضالة النيسابوري ، انا محمد بن عبد اللّه بن شادان قال : سمعت يوسف بن الحسين يقول : قلت لذي النون في وقت مفارقتي له من المجلس : من أجالس ؟ فقال : عليك بمجالسة من يذكّرك اللّه رؤيته ، وتقع هيبته على باطنك ، ويزيد في عملك منطقه ، ويزهدك في الدنيا علمه ، ولا تعصي اللّه ما دمت قربه ، يعظك بلسان فعله ، ولا يعظك بلسان قوله .
ومن هذا الباب ما حدثنا المروزي ، عن الخشّاب ، نبأ عبد اللّه ابن الأستاذ قال :
دخل رجل من أصحابنا على أبي العباس الخشاب الزاهد ، فسلم عليه وقال له : يا أبا العباس ، أريد أن أقرأ عليك مما في هذا الكتاب ، لكتاب كان بيده ، ففتح ، فقرأ عليه من باب الورع والزهد والتوكل ، والخشاب ساكت . فقال الرجل : يا أبا العباس ، إنما قرأ عليك هذه الأبواب لتتكلم عليها . فقال له الخشاب : أقرأني فإني أنا ذلك الكتاب . فخرج الرجل من عنده ، ودخل إلى الشيخ أبي مدين ، وهو إذ ذاك بمدينة فاس ، فقال : يا أبا مدين ، اتفق لي مع الخشاب كيت وكيت ، فقال أبو مدين : صدق الخشاب ، هل قرأت عليه بابا ليس هو حاله ؟
فإذا كان حاله لا تفهمه ولا يؤثر فيك ، فكيف قوله ؟ فاتعظ الرجل .
أخبرني عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، عن كشف أبي العباس الخشاب ، قال : خطر لأبي مدين طلاق زوجته ، واستخار اللّه ، ثم رأى أن يستأذن في ذلك أبا العباس الخشاب ، فإنه كانت له حالة تعليم من اللّه ، فوافق هذا الخاطر دخول الخشاب على أبي مدين ، فقبل
“ 284 “
أن يكلمه أبو مدين ، قال له الخشاب : يا أبا مدين ، يقال لك : امسك عليك زوجك ، فمسكها . ولهذا الخشاب عجائب . زرت قبره مع ابن يخلف بمدينة فاس ، فأتى خبر أنه يوم مات ما بقي وليّ للّه له خطوة إلا حضره .
وصية نوح عليه السلام لابنه
روينا من حديث أحمد بن محمد زياد ، قال : نبأ محمد بن عبد الملك الدقيقي ، نبأ خنيس ، نبأ زياد قال : نبأ محمد بن عبد الملك ، نبأ زيد بن بكر بن خنيس ، عن محمد بن إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
« أوصى نوح ابنه فقال : لا أطوّل عليك ، احذر أن لا تنسى : اثنتان يستبشر اللّه عز وجل بهما وصالح خلقه . واثنتان يحتجب اللّه بهما وصالح خلقه . فأما الاثنتان التي يستبشر اللّه عز وجل بهما وصالح خلقه ، فشهادة أن لا إله إلا اللّه ، وأن السماوات والأرض وما بينهما وما فيهنّ لو كنّ حلقة لقصمتها ، ولو كنّ في كفة لرجحت ، وسبحان اللّه وبحمده . فإنها صلاة الخلق ، وبها يرزقون . وأما الاثنتان التي يحتجب اللّه عز وجل منهما وصالح خلقه ، فالشرك به والكبر » .
فقال رجل من أصحابه : يا رسول اللّه ، إني لأحبّ أن يحمل مركبي ، ويلين مطمعي ، ويحل علاق صوتي ، وقبال نعلي ، فذلك كبر ؟
قال : « لا ، ولكن الكبر أن تبطر الحق ، وتغمص الناس » . واللفظ لابن الأعرابي . انتهى .
نصيحة
رويناها عن الحسن ، من حديث ابن ثابت قال : نبأ أحمد بن الحسين بن محمد بن ثابت قال : نبأ أحمد بن الحسين بن محمد بن عبد اللّه ، نبأ جدّي ، نبأ أبو بكر أحمد بن يحيى بن عمرو بن عتيق العامري ، نبأ أحمد بن علي بن خلف ، نبأ سري بن المفلس السقطي ، نبأ يزيد ، عن المسعودي ، عن محمد ، عن عوف بن عبد اللّه ، قال :
سمعت الحسن يقول : يا ابن آدم ، لو أنك تجد حقيقة الإيمان ما كنت تعيب الناس بعيب هو فيك ، حتى تبدأ بذلك العيب نفسك ، ولا تصلح عيبا إلا ترى عيبا آخر ، فيكون شغلك في خاصة نفسك ، وكذلك أحبّ ما يكون إلى اللّه إذا كنت كذلك .
ومن حديثه أيضا قال : انا محمد بن علي الأصبهاني التاجر ، نبأ أحمد بن محمود
“ 285 “
القاضي بالأهواز ، نبأ محمد بن زكريا ، نبأ ابن عائشة قال : سئل علي بن الحسين عن صفة الزاهد في الدنيا ، قال : يتبلّغ بدون قوته ، ويستعد ليوم موته ، ويتبرم حياته .
حكاية شابّ اصطنعه الحق تعالى
روينا من حديث ابن ثابت قال : نبأ علي بن القاسم الشاهد بالبصرة قال : سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن عيسى قال : سمعت يوسف بن الحسين يقول :
كان شابّ يحضر مجلس ذي النون بن إبراهيم المصري مدة ، ثم انقطع عنه زمانا ثم حضر عنده ، وقد اصفرّ لونه ، ونحل جسمه ، وظهرت آثار العبادة والاجتهاد عليه . فقال له ذو النون : يا فتى ، ما الذي أكسبك خدمة مولاك واجتهادك من المواهب التي منحك بها ووهبها لك واختصّك بها ؟ فقال الفتى : يا أستاذ ، وهل رأيت عبدا اصطنعه مولاه من بين عبيده واصطفاه وأعطاه مفاتيح الخزائن ، ثم أسرّ إليه سرا ، أيحسن به أن يفشي ذلك السر ؟
ثم أنشأ يقول :
من سارروه فأبدى السرّ مجتهدا * لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وباعدوه فلم يسعد بقربهم * وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يصطفون مذيعا بعض سرّهم * حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
قال : وحدثني يحيى بن علي بن عبد اللّه الدمغاني ، عن ابن سلام ، سمعت يحيى بن معاذ يقول : من عرف عاش ، ومن مال إلى الدنيا طاش ، والمؤمن عن عيوب نفسه فتّاش ، والأحمق يسعى في لاش .
قال : وحدثنا عبد الرحمن ، عن أحمد بن مكحول قال : سئل حكيم : أي شيء أحلى ؟ قال : النصرة على العدو بعد الهزيمة ، والاستغناء بعد الحاجة ، والعظة في المجالس ، والغلبة للمتكلم .
كلام لبعض إخواننا فيمن أفناه الشوق
أملى علينا صاحبنا أحمد بن مسعود بن شدّاد المقري ، بمدينة الموصل سنة إحدى وستمائة ، فيمن أفناه الشوق وأودى به التوق ، وأماته التذكّر وأفناه التفكّر ، حتى صارت جزئياته وكلياته للّه ، وحركاته وسكناته باللّه ، ولحظاته وخطراته من اللّه ، وضمائره وسرائره مع اللّه ، فني به عنه ، لما منحه به منه ، وذلك حين زهد في شهواته ولذّاته ، وتجوهر في
“ 286 “
صفاته وذاته ، فني بمولاه عن تربه ونفسه ، بما أولاه عن تربه ونفسه ، بما أولاه من قربه وأنسه ، عرض عرضه على الخلق ، وجاهر بجوهره لدى الحق ، حتى صار بين الأتراب من عالم التراب ، ومن أولي الألباب عند رب الأرباب ، بقي صورة في الفناء ، ومعنى في عالم الفناء ، فعين السعادة لم تزل تلاحظه من قبل الأزل ، فهو في عالم الصور معنا ، وفي عالم الأرواح يشاهد المعنى ، فلما أفناه موجده عن وجوده ، بما حباه من تطوله وجوده ، تحيط جوهر روحانيته ، في عرض إنسانيته ، وطمعت في الخلاص الأرواح ، من حصر أقفاص الأشباح ، هتفت بها هواتف الأقدار بالعشيّ والإبكار ، هذا يقرأ عليها : يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ،
وهذا يتلو عليها : وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ * فحينئذ هدرت بلابل بلبالها ، وغرّدت قماري أقمار أحوالها ،
وأنشدت لسان حالها :
يا حسرتي كيف ألقاهم ولي جسد * ولي فؤاد ولي سمع ولي بصر
مادا أقول إذا قالوا فديتهم * أين التحول وأين الدمع والسهر
إذا اعتذرت أجابتني محاسنهم * ما لامرئ لم يمت في حبنا عذر
مبشرة خير تدل على فتح ونصر
رأينا ونحن بسيواس في شهر رمضان ، والسلطان الغالب في ذلك الزمان يحاصر أنطاكية . فرأيت كأنه نصب عليها المجانيق ، ورماها بالأحجار ، فقتل زعيم القوم ، فأولت الأحجار آراؤه السعيدة ، وعزائمه التي يرميهم بها ، وإنه فاتحها إن شاء اللّه تعالى . فكان كما رأيت بحمد اللّه ، وفتحها يوم عيد الفطر ، وكان بين الرؤيا والفتح عشرون يوما ، وذلك سنة اثني عشر وستمائة ، فكتبت إليه من ملطية قبل فتحه إياها بأبيات أذكر فيها رؤياي ، وأذكر فيها ما قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين رأى في النوم جبريل عليه السلام ، وقد جاءه بعائشة أم المؤمنين ، قبل أن يتزوج بها ، في سرفة حرير ، فقال له : هذه زوجتك ، فلما استيقظ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكرها قال : « إن كان من عند اللّه سيمضيه » . فقلنا : نحن كذلك أدبا واقتداء . فكان من عند اللّه ، وفتح اللّه على السلطان بها كما كان زواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعائشة .
وكانت الأبيات لروميات اتفاقا وهي :
قصدت بلاد الكفر تبغي فتوحها * فأبشر فإن الروم فيك لفي خسر
رأيت لكم رؤيا تدلّ على النصر * وفتح بلاد الكفر والقتل والأسر
قتلتم بأحجار المجانيق كبشهم * فأوّلها الآراء تعضد بالنصر
“ 287 “
فدونك فانهض أيها الملك الذي * علا أمره فوق السماكين في النسر
وخذها من اللّه الكريم بشارة * تدل على التأييد والقهر والقسر
فإن كان عن حق سيمضي وجودها * وإن لم يكن ما فيه في الملك عن عسر
بذا جاء لفظ الشرع إذ جاء وحيه * برؤياه في أمر الحميراء بالسر
إذا جاء نصر اللّه والفتح فلتجد * بمالك من خير على العسر واليسر
روينا من حديث الواسطي قال : نبأ عيسى بن عبد اللّه الورّاق ، أخبرني علي بن جعفر الرازي ، نبأ عبد اللّه بن محمد بن مسلم ، نبأ موسى بن سهل النيسابوري الموصلي قال :
سكن من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة ببيت المقدس : عبادة بن الصامت ، وشداد بن أوس ، وابن أم حزام أبو أبي واسمه شمعون حليف الحضرموت ، وأبو ريحانة ، وسلامة بن قيصر الحضرمي ، وفيروز الديلمي ، وذو الأصابع ، وأبو محمد النجاري ، هؤلاء من أهل بيت المقدس .
ماتوا بها ، أعقب منهم عبادة بن الصامت ، وشداد ، وسلامة ، وفيروز ، ولم يعقب أبو ريحانة ، ولا ذو الأصابع ولا النجاري .
ذكر كعب الأحبار
إن اللّه تعالى قال في التوراة لصخرة بيت المقدس : أنت عرشي الأدنى ، ومنك ارتفعت إلى السماء ، ومن تحتك بسطت الأرض ، وكل ماء يسيل من ذروة الجبال من تحتك ، من مات فيك فكأنما مات في سماء الدنيا ، ومن مات حولك فكأنما مات فيك ، لا تنقضي الأيام والليالي حتى أرسل عليك نارا من السماء ، فتأكل آثار أكفّ بني آدم وأقدامهم منك ، وأرسل عليك ماء من تحت العرش فأغسلك حتى أتركك كالمهات ، وأضرب عليك سورا من غمام غلظه اثنا عشر ميلا وسياجا من نار ، وأجعل عليك قبة خلقتها بيدي ، وأنزل فيك روحي ، وملائكتي ، يسبحون فيك ، لا يدخلك أحد من ولد آدم إلى يوم القيامة ، فمن يرى ضوء تلك القبة من بعيد يقول : طوبى لوجه يخرّ فيك للّه ساجدا ، وأضرب عليك حائطا من نار ، وسياجا من الغمام ، وخمس حيطان من ياقوت ودرّ وزبرجد ، وأنت الأنظر ، وإليك المحشر ، ومنك المنتشر .
حدثني بهذا الحديث جماعة غير واحد ، عن القاسم بن علي ، عن أبي القاسم السوسي ، عن إبراهيم بن يونس ، عن عبد العزيز النصيبي ، عن محمد بن أحمد ، عن عمر ، عن أبيه ، عن الوليد ، عن إبراهيم بن محمد ، عن داود ، عن صدقة بن يزيد ، عن ثور بن يزيد ، عن عبد اللّه بن تبشر ، عن كعب الأحبار رضي اللّه عنه .
“ 288 “
ومن باب العشق والعشاق ما ذكر عن المأمون وهو قوله
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه * فإذا هويت لقد لقيت هوانا
فإذا تعبّدك الهوى فاخضع له * واسجد لإلفك كائنا من كانا
ولجميل بن معن في هذا الباب :
قد كنت أسمع بالمحبّ وذكره * فأضلّ منه عاجبا أتفكّر
حتى بليت بحبكم فوجدته * مرّا ولم أك قبل ذلك أشعر
فاليوم أعذر كل من أثبته * صبّا ومن ذاق الهوى يستشعر
ولام الضحّاك في هذا الباب فقال :
من كان لا يدر ما حبّ وصفت له * أو كان هيّابة أو كان لم يحد
الحبّ أوله روع وآخره * مثل الخزازة بين القلب والكبد
وقال آخر :
الحب أوله حلو وأوسطه * مرّ وآخره التوديع والأجل
وقال صاحب بثينة :
الحبّ أول ما يكون لجاجة * تأتي به وتسوقه الأقدار
حتى إذا اقتحم الهوى لجج الهوى * جاءت أمور لا تطاق كبار
ولنا في هذا الباب :
الحبّ أوله نحبّ وأوسطه * موت وليس له حدّ فينكشف
فمن يقول بأن الحبّ يعرفه * فما لقوم به أعمارهم شغفوا
ولم يقولوا بأن الحبّ نعرفه * خلف ولكنه بالقلب يأتلف
فليس يعرف منه غير لازمة * البثّ والوجد والتبريج والأسف
ولنا من منشور الحكم والوصايا
قال الإسكندر : الحكم يرضي أحد الخصمين ويسخط الآخر ، فليستعملا الحق ليرضيهما جميعا .
وقال : لم صارت سير بلادكم قليلة ؟
قالوا : لإعطائنا الحق من أنفسنا ، ولعدل ملوكنا ، وحسن سيرتهم فينا .
فقال لهم : أيما أفضل ، العدل أم الشجاعة ؟
قالوا : إذا استعمل العدل استغني عن الشجاعة .
“ 289 “
بزرجمهر
العدل هو ميزان الباري سبحانه ، ولذلك هو متبرئ من كل زيغ وميل .
أنوشروان
قيل له : أي الخير أوفى ؟ قال : الدّين . قيل : فأي العدد أقوى ؟ قال : العدل .
أزدشير
قيل له : من الذي لا يخاف أحدا ؟ قال : الذي لا يخافه أحد . فمن عدل في حكمه ، وكفّ عن ظلمه ، نصره الحق وأطاعه ، وصفت له النعمة ، وأقبلت عليه الدنيا ، فتهنّى بالعيش ، واستغنى عن الجيش ، وملك القلوب ، وآمن الحروب ، وصارت طاعته فرضا ، وظلت رعيته جندا .
وإن أول العدل أن يبدأ الرجل بنفسه ، فيلزمها كل خلّة زكية ، وخصلة رضية ، في مذهب سديد ، ومكسب حميد ، ليسلم عاجلا ، ويسعد آجلا . وأول الجور أن يعمد إليها فيجنبها الخير ، ويعوّدها الشر ، ويلبسها الآثام ، ويغبقها المدام ، ليعظم وزرها ، ويقبح ذكرها .
أفلاطون
من بدأ بنفسه فساسها أدرك سياسة الناس . أصلحوا أنفسكم تصلح لكم آخرتكم .
أرسطو
أصلح نفسك لنفسك تكون الناس تبعا لك .
فيثاغورس
أحسن العظات ما بدأت به نفسك ، وأجريت عليك أمرك .
سقراط
من رضي عن نفسه سخط اللّه عليه الناس .
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin