الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء الخامس
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 75 “
وأخبرنا ناصر الدين بن عبد اللّه بن عبد الرحمن العطار المصري خبر قدوم هامة الجنيّ على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال : حدثنا أبو محمد بن المبارك بن علي بن الحسين بن الطباخ ، قال : ثنا السيد بن أبي الحسن عبيد اللّه بن محمد بن أحمد البيهقي ، قال : حدثني جدي أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، قال : ثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي ، أنا أبو ناصر محمد بن حمدويه بن سهل الغازي المروزي قال : حدثنا عبد اللّه بن حماد الآملي ، قال : ثنا محمد بن أبي معشر ، تكلم في ابن أبي معشر ، وهو المزني ، وقد روى عنه الكبار ، قال : أخبرني أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر رضي اللّه عنه ، قال :
بينما نحن قعود مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على جبل من جبال تهامة إذ أقبل شيخ بيده عصى ، فسلم على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فرد عليه السلام ، ثم قال : “ نعمت جنّ رعيتهم ، من أنت ؟ “ ، قال : أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس . قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ فما بينك وبين إبليس إلا أبوان ، فكم أتى لك من الدهور ؟ “ ، قال : قد أفنيت من الدنيا عمرها إلا قليلا ، ليالي قتل قابيل هابيل كنت ابن أعوام ، من الثلاثة إلى عشرة لا غير ، أفهم الكلام ، وآمر بإفساد الطعام ، وقطيعة الأرحام ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ بئس عمل الشيخ المتوسم ، والشاب المتلوّم “ ، قال : زدني من الترداد ، إني تائب إلى اللّه عز وجل ، إني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه ، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني ، وقال : لا جرم ، إني على ذلك من النادمين ، وأعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين ، قال : قلت : يا نوح ، إنني ممن اشترك في دم السعيد الشهيد هابيل بن آدم ، فهل تجد لي عند ربك توبة ؟ قال : “ يا هام ، همّ بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة ، إني قرأت فيما أنزل اللّه عز وجل على أنه ما من عبد تاب إلى اللّه عز وجل بالغ أمره ما بلغ إلا تاب اللّه عليه ، قم وتوضأ واسجد للّه سجدتين “ ، قال : ففعلت من ساعتي ما أمرني به ، فناداني : “ ارفع رأسك ، فقد نزلت توبتك من السماء “ ، قال : فخررت للّه ساجدا جذلا .
وكنت مع هود في مسجده مع من آمن به من قومه ، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم وأبكاني .
فقال : لا جرم ، إني على ذلك من النادمين ، وأعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين ، وكنت مع آزر ويعقوب ، وكنت مع يوسف بالمكان الأمين ، وكنت ألاقي الياس في الأودية ، وأنا ألقاه الآن ، وإني لقيت موسى بن عمران ، فعلّمني من التوراة ، وقال : إن لقيت عيسى ابن مريم فأقرئه مني السلام ، وقال : إني لقيت عيسى ، وقال عيسى : إن لقيت محمدا عليه الصلاة والسلام فأقرئه مني السلام ، قال : فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عينيه فبكى ، ثم قال : “ وعلى عيسى السلام ما دامت الدنيا ، وعليك السلام يا هام بأدائك الأمانة “ ، قال :
“ 76 “
يا رسول اللّه ، افعل بي ما فعل موسى ، إنه علّمني من التوراة ، فعلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سورة الواقعة ، والمرسلات ، وعمّ ، والتكوير ، والمعوذتين ، والإخلاص ، وقال : “ ارفع إلينا حاجتك ، ولا تدع زيارتنا “ ، قال : فقال عمر : فقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يعد إلينا ، فلسنا ندري أحي هو أم ميت ؟ قلنا : إذا ثبت إسلام هذا الشيطان فليس يريد قتادة بقوله : إن الشيطان لا يسلم إلا الشيطان الذي هو القرين .
حدثنا أبو بكر بن أبي الفتح الحنفي بمكة ، ثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن يحيى الأنصاري الدمشقي سبط الإمام أبي الفرج الحنبلي ، قال : ثنا سعد الخير أبو الحسن محمد بن سهل الأنصاري ، حدثنا أبو سعيد محمد بن محمد بن محمد بن مطرز ، ثنا أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن إسحاق ، ثنا عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الرحمن بن الحسن ، ثنا مسعود بن يزيد القطان ، ثنا أبو داود ، ثنا عبّاد بن يزيد عن موسى بن عقبة القرشي ، أن هشام بن العاص ، ونعيم بن عبد اللّه ، ورجلا آخر قد سمّاه ، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر ، وفي حديث شرحبيل بن مسلم الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص ، قال : بعثني أبو بكر الصدّيق ورجلا آخر إلى هرقل صاحب الروم أدعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة ، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني .
قال في حديث موسى بن عقبة : فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة ، فإذا عليه ثياب سود ، وإذا كل شيء حوله أسود ، فقال : يا هشام كلّمه . فكلّمه ودعاه إلى اللّه عز وجل ، وقال : ما هذه الثياب السود ؟ فقال : لبسته نذرا ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها ، قال : فقلنا : فانبذها ، أو كلمة تشبهها ، فو اللّه لنأخذها منك حتى نمنعك مجلسك هذا ، فو اللّه لنأخذه منك ، ونملك الملك الأعظم إن شاء اللّه ، أخبرنا بذلك نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، قال :
فأنتم إذا السّمراء ؟ قلنا : نحن السعداء ، قال : لستم هم ، قلنا : ومن هم ؟
قال : هم الذين يصومون النهار ويقومون الليل ، قلنا : نحن هم واللّه ، قال : فكيف صلاتكم ؟ فوصفنا له صلاتنا ، قال : فاللّه يعلم لقد غشيه سواد حتى صار وجهه كأنه قطعة طابق ، ثم قال : قوموا ، فأمر بنا إلى الملك ، فانطلقنا ، فلقينا الرسول بباب المدينة ، فقال : إن شئتم أتيتكم ببغال ، وإن شئتم أتيتكم ببراذين ، فقلنا : لا واللّه ، لا ندخل عليه إلا كما نحن ، فأرسل إليه أنهم يأبون ، فأرسل أن خلوا سبيلهم ، قال : فدخلنا معتمين متقلدي السيوف على الرواحل ، فلما كنا بباب الملك إذا هو في غرفة له عالية ، فنظر إلينا ، قال : فرفعنا رؤوسنا ، فقلنا : لا إله إلا اللّه ، قال : فاللّه يعلم لانتفضت الغرفة كلها حتى كأنها عزق نفضته الريح ، فأرسل إلينا
“ 77 “
أن هذا ليس لكم أن تجهروا بدينكم عليّ ، قال : فأرسل إلينا أن ادخلوا فدخلنا ، فإذا هو على فراشه إلى السقف ، وإذا عليه ثياب حمر ، وإذا كل شيء عنده أحمر ، وإذا عنده بطاركة الروم .
قال : وإذا هو يريد أن يكلمنا برسول ، فقلنا : لا واللّه لا نكلمه برسول ، وإنما بعثنا إلى الملك ، فإن كنت تحب أن نكلمك فأذن لنا أن نكلمك . فلما دخلنا عليه ضحك ، فإذا هو رجل فصيح بكثير العربية ، فقلنا : لا إله إلا اللّه ، فاللّه يعلم لقد نقض السقف حتى رفع رأسه هو وأصحابه ، فقال : ما أعظم هذه الكلمة عندكم ، فقلنا : هذه كلمة التوحيد ،
قال :التي قلتموها ؟ قلنا : نعم ، قال : فإذا قلتموها في بلاد عدوكم نقضت سقوفكم ؟
قلنا : لا ، قال : فإذا قلتموها في بلادكم نقضت سقوفكم ؟ قلنا : لا ، وما رأيناها فعلت هذا ، وما هو إلا لشيء عزّت به . فقال : ما أحسن الصدق ، فما تقولون إذا فتحتم المدائن ؟ قلنا : نقول :
لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، قال : تقولون لا إله إلا اللّه ليس معه شيء ، واللّه أكبر من كل شيء ؟
قلنا : نعم . قال : فما منعكم أن تحيوني تحية لنبيكم ؟ قلنا : إن تحية نبينا لا تحلّ لك ، وتحيتك لا تحل لنا فنحيّيك بها . قال : وما تحيتكم ؟ قلنا : تحية أهل الجنة . قال : وبها كنتم تحيّون نبيكم ؟ قلنا : نعم ، قال : وبها كان يحييكم ؟ قلنا : نعم . قال : فمن كان يورث منكم ؟ قلنا : من كان أقرب قرابة . قال : وكذلك ملوككم ؟ قلنا : نعم .
قال : فأمر لنا بنزل كثير ، ومنزل حسن ، فمكثنا ثلاثا ، ثم أرسل إلينا ليلا ، فدخلنا عليه وليس عنده أحد ، فاستعاد كلامنا ، فأعدنا عليه فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة ، وإذا فيها أبواب صغار ، ففتح منها بابا ، فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل طويل أكثر الناس شعرا ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا آدم .
ثم أعادها وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم ، له شعر كشعر القط ، أعظم الناس إليتين ، أحمر العينين ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا نوح .
ثم أعادها وفتح بابا آخر واستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة بيضاء ، وإذا رجل أبيض الرأس واللحية كأنه حيّ يبتسم ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إبراهيم .
ثم أعادها وفتح بابا آخر استخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، قال : أتعرفون من هذا ؟ قلنا : هذا النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال : هذا واللّه محمد رسول اللّه ، قال : فاللّه يعلم أنه قام ، ثم قعد ، وقال : واللّه إنه لهو . ثم قال : اللّه بدينكم إنه نبيكم ؟ قلنا : اللّه بديننا إنه نبيّنا كأننا ننظر إليه حيا . قال : أما إنه كان آخر البيوت ، ولكنني عجّلته لكم لأنظر ما عندكم .
“ 78 “
ثم أعادها وفتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فإذا صورة أدماء سحماء ، وإذا رجل جعد ، قطط ، غائر العينين ، حديد النظر ، متراكب الأسنان ، مقلص الشفة ، كث اللحية ، كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا موسى . فإذا إلى جانبه صورة تشبهه ، إلا أنه مدهان الرأس ، عريض الجبين ، في عينيه قبل ، فقال : هل تعرفون هذا : قلنا : لا ، قال : هذا هارون بن عمران .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء ، فإذا صورة رجل أدم ، سبط ، ربعة ، كأنه غضبان ، حسن الوجه ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا لوط .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أبيض ، مشرّب بحمرة ، أقنى الأنف ، خفيف العارضين ، حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسحاق .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل تشبه صورة إسحاق ، إلا أنه على شفته السفلى خال ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يعقوب .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة رجل أبيض ، حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه النور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسماعيل جدّ نبيكم .
ثم فتح بابا آخر واستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنها صورة آدم ، كأن وجهه الشمس ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يوسف .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة رجل أحمر ، خميص الساقين ، أخفش العينين ، ضخم البطن ، ربعة ، أشبه الخلق بامرأة عجوز ، متقلدا سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا داود .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها رجل ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكب على فرس طويل الرجلين ، قصير الظهر ، كل شيء منه جناح تحت الريح ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا سليمان بن داود .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة أو خرقة سوداء فيها صورة بيضاء ، وإذا رجل شاب شديد سواد اللحية ، يعلوه صفرة ، صلت الجبين ، حسن اللحية ، كثير الشعر ، حسن الوجه ، حسن العينين يشبهه كل شيء منه ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا عيسى ابن مريم .
“ 79 “
ثم أعادها ، وأمر بالربعة فرفعت ، قلنا : من أين لك هذه الصور ؟ لأنّا نعلم أنها على ما صوّرت عليه الأنبياء عليهم السلام ، لأنّا رأينا صورة نبينا عليه الصلاة والسلام مثله ؟
فقال : إن آدم سأل ربه عز وجل أن يريه الأنبياء من أولاده فأخرج له صورهم في خرق حرير من الجنة ، وكانت في خزانة آدم عند غروب الشمس ، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس ، فلما كان دانيال صوّرها هذه الصور فهي بأعيانها ، فو اللّه لو تطيب نفسي الخروج عن ملكي ما باليت أن أكون عبدا لأسدكم بمكة ، ولكني عسى أن تطيب نفسي.
ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرّحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، حدّثناه بما رأيناه ، وما قال لنا ، وما أدنانا ، فبكى أبو بكر ، وقال : مسكين ، لو أراد اللّه به خيرا لفعل .
ثم قال : أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد جمعت في سياق الحديث بين الروايتين ، وإن رواية شرحبيل حدثنا بها عبد الوهاب بن علي ببغداد ، عن محمد بن ضياعة ، عن أحمد بن الحسين ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ، كتب إليه أن أبا محمد عبد اللّه إسحاق البغوي أخبرهم ، قال : حدثنا إبراهيم بن هيثم البلدي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن الوليد بن مسلم بن إدريس ، قال : ثنا عبد اللّه بن إدريس بن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص الأموي ، ثنا أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن الفضل الفزاري ، عن أبي بكر أحمد بن الحسين ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ، قال : حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد البغدادي ببخارى ، قال : ثنا عبد اللّه بن محمود ، قال : أنبأنا عبدان بن سنان ،
قال :حدثني العباس القزويني الطالقاني كتابة ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ،
قال : حدثني أحمد بن عبد اللّه البرقي ، قال : ثنا يزيد بن يزيد اللؤلؤي ،
قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، قال : كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلنا منزلا فإذا رجل في واد يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور المثاب لها ، قال : فأشرفت على الوادي ، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي : من أنت ؟ قلت : أنا أنس بن مالك خادم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فأين هو ؟ قلت : هو يسمع كلامك ،
قال : فائته فأقرئه السلام وقل له أخوك الياس يقرئك السلام ، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته ، فجاءه حتى لقيه وعانقه وسلم عليه ، ثم قعدا يتحدثان ،
فقال له : يا رسول اللّه ، إني ما آكل في السنة إلا يومان ، وهذا يوم فطري ، فآكل أنا وأنت ، فنزلت عليهما مائدة من السماء ، خبزا وحوتا وكرفس ، فأكلا وأطعماني ، فصلينا العصر ، ثم ودّعه ، ثم رأيته مرّ في السحاب نحو السماء .
“ 80 “
تصاف ومعرفة ووصية وتنبيه وتصرف وتنزيه وموعظة وغيرها
حدثنا أبو بكر بن أبي الفتح ، قال : حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن حامد الأرياحي ، قال : أجازني أبو الحسن علي بن الحسن بن عمر الموصلي القرّاء الحديث عنه بجميع ما يرويه ، قال : ثنا أبو القاسم عبد العزيز بن أبي محمد الحسن بن إسماعيل بن محمد الضراب ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي ، قال :
أنشدنا المبرّد بن قتيبة لأبي العتاهية رحمه اللّه شعرا :
ما أنا إلا لمن يعاني * أرى خليلي كما يراني
لست أرى ما ملكت طرفي * مكان من لا يرى مكاني
فلي إلى أن أموت رزق * لو جهد الخلق ما عداني
فاستغن باللّه عن فلان * وعن فلان وعن فلان
والمال من حله قوام * للعرض والوجه واللسان
والفقر ذلّ عليه باب * مفتاحه العجز والتواني
ورزق ربي له وجوه * هنّ من اللّه في ضمان
سبحان من لم يزل عليّا * ليس له في العلوّ ثاني
قضى على خلقه المنايا * فكلّ حيّ سواه فاني
يا ربّ لم نبك من زمان * إلا بكينا على زمانحكمة
حضرت عتابا بين شخصين في أمر ما ، فلم يظهر على ذلك العتاب ثمرة ، فتذكرت قول بعضهم :وليس عتاب المرء للمرء نافعا * إذا لم يكن للمرء لبّ يعاتبهموعظة
قال مقاتل بن صالح : أنبأنا إسحاق بن منصور بن دينار ، قال : نظر بعض ملوك الأعاجم إلى شيب في رأسه ، فجمع نساءه ، وقال : تعالين فاندبنني إذ مات بعضي ، لأنظر كيف تندبنني إذا مات كلي ، وأنشد :إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت * ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار للذي * دعته إليه من حلاوة عاجل
“ 81 “
نصيحة
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : من أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه ، فإنما أظهر نفاقا على نفاق .خبر نبوي بعمل غبطة
حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفاسي بمدينة فاس ، قال : أنبأنا أبو القاسم هبة اللّه بن علي بن مسعود الأنصاري البوصيري ، قال : أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن بركات بن هلال السعدي النحوي ، قال : أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي ، قال : أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي ، حدثنا عبيد بن شريك البزاز ، حدثنا داود بن أبي أياد ، حدثنا إسماعيل بن عباس ، عن المطعم بن مقداد ، وعنبسة بن سعيد بن غيثم الكلاعي ، عن فصيح العبسي ، عن ركب المصري ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “ طوبى لمن تواضع في غير منقصة ، وذلّ في نفسه من غير مسكنة ، وأنفق من مال جمعه في غير معصية ، وخالط أهل الفقه والحكمة ، ورحم أهل الذلّ والمسكنة .
طوبى لمن طاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شره . طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله “ .
بلغنا أن أبا العباس السفاح لما ولي الخلافة ، وصل عبد اللّه بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم بألفي ألف دينار ، وهو أول خليفة وصل بهذه الجملة .
ولما أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور ، قتل أبا مسلم الخراساني الذي أقام لهم الدعوة ، قتله في شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة ، وأمر بتوسعة المسجد الحرام سنة تسع وثلاثين ، وحجّ سنة أربع وأربعين ، وزار ومضى إلى بيت المقدس ، وعاد إلى الهاشمية ، وحجّ أيضا سنة أربع وأربعين ، وسنة تسع وأربعين .
وخرج عليه الحسن بن الحسن فوجّه إليه عيسى بن موسى ، فقتله في رمضان سنة خمس وأربعين . وخرج إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن إلى الكوفة ، فلقيه عيسى بن موسى فقتله في تلك السنة أيضا .
وفي أيامه توفي جعفر بن محمد الصادق سنة ثمان وأربعين . ومات الإمام أبو حنيفة
“ 82 “
سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة ، وكان مولده سنة ثمانين . وقيل : عاش تسعين سنة ، وكان مولده سنة ستين .
وأما المهدي فقال : إنه لما حجّ سنة ستين ، دخل الكعبة ومعه منصور الحجبي ، وهو من حجبة البيت ، فقال له المهدي : اذكر حاجتك . فقال : إني أستحي من اللّه أن أسأل في بيته غيره . فلما خرج أرسل إليه بعشرة آلاف دينار .
وأما هارون الرشيد ، فحجّ في خلافته ثمان أو تسع حجج ، وغزا ثمان غزوات .
روينا أنه وصل إلى مكة في شهر رمضان سنة تسع وتسعين ، واعتمر ، ومضى إلى المدينة ، ثم رجع فحجّ تلك السنة ماشيا ، ولم يحجّ خليفة بعده إلى زماننا . غير أني سمعت مستفاضا أن خليفتنا الإمام الناصر لدين اللّه تعالى حجّ متنكرا لا يعلم به أحد ، فاللّه يعلم .
ومات في خلافته مالك بن أنس سنة تسع وسبعين ومائة ، وله ست وثمانون سنة ، وقيل :
سبعون سنة ، وصلى عليه ابن أبي ذؤيب . وماتت أم الرشيد سنة ثلاث وسبعين ومائة .
وكان من بنات هارون الرشيد من تعدّ لنفسها عشرة خلفاء كلهم لها محارم : هارون الرشيد أبوها ، الهادي عمها ، المهدي جدّها ، المنصور جدّ أبيها ، السفاح عم جدّها ، الأمين والمأمون والمعتصم إخوتها ، الواثق والمتوكل ابنا أخيها .
ونكب جعفر بن برمك سنة سبع وثمانين ومائة ، وقيل : ثمان وثمانين ، وقتل .
وحبس يحيى وابنه الفضل إلى أن ماتا ، فمات يحيى سنة تسعين ، ومات الفضل سنة ثلاث وتسعين ومائة .
ولما ولّي الأمين وأقام المأمون بخراسان سنتين وأشهرا ، أغرى الفضل بن الربيع ، على ما ذكر بينهما ، فنصب الأمين ابنه موسى لولاية العهد بعده ، وأخذ له البيعة ، ولقبه الناطق بالحق ، وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة ، وجعله في حجر علي بن عيسى . ووجّه علي بن عيسى إلى خراسان ، ووجّه المأمون هرثمة بن مرّة على مقدمة طاهر بن الحسين ، فقتل علي بن عيسى . ولم تزل الحرب بين الأمين والمأمون سنتين وشهورا ، إلى أن نزل طاهر بالأنبار ، وهرثمة بالنهروان . ونجا الأمين إلى مدينة أبي جعفر ، وخرج ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ، فوقع في أيدي أصحاب طاهر ، فأتوا به طاهرا ، فقتله ونصب رأسه على الباب الحديد ، ثم أنزله وبعث رأسه إلى خراسان ، ودفن جثته في بستان مؤنسة . ويقال : إن المأمون لما رأى رأسه بكى واستعبر ، وذكر له أياما محمودة وجميلا أسداه إليه في أيام الرشيد .
وأما المأمون فبايع لعلي الرضا بن موسى بن جعفر بولاية عهده ، في شهر رمضان
“ 83 “
سنة إحدى ومائتين ، ولبس الخضرة . فمات علي الرضا سنة ثلاث ومائتين ، وادعى إبراهيم بن المهدي لنفسه بالخلافة ، وهو عم المأمون ، ولقب نفسه المبارك ، وبويع له ببغداد ، سنة اثنين ومائتين ، وأقام أحد عشر شهرا وأياما ، ثم كان من أمره ما ذكرناه في هذا الكتاب .
وفي سنة أربع ومائتين ، دعا المأمون إلى لباس السواد . وفي هذه السنة مات الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي اللّه عنه بمصر . وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن .
وأما المتوكل ، فحظيّ في دولته أهل الأدب ، وظهر علي بن محمد صاحب الزنج في شوال سنة خمس وخمسين ومائتين ، وقتل في صفر سنة سبعين ومائتين في خلافة المعتمد .
وكان المعتمد صاحب لذّات ، فجعل أخاه طلحة ولي عهده ، ولقبه الموفق ، وجعل إليه المشرق . وجعل ابنه جعفر ولي عهد ابنه ، ولقبه المفوض إلى اللّه عز وجل ، وجعل إليه المغرب . فغلب الموفق على الأمر ، وقام به أحسن قيام ، ومال الناس إليه ، واشتغل بقتال علي بن محمد ، صاحب الزنج . وكان المعتمد قد صار يريد مصر في جمادى الآخرة سنة تسع وستين ومائتين ، لمكاتبة جرت بينه وبين أحمد بن طولون ، فلما بلغ الموفق ذلك وهو في قتال علي بن محمد ، أنفذ إسحاق بن كنداج ، فردّه المعتمد ، وسلمه إلى صاعد بن مخلد ، فأنزله دار ابن الخطيب بسرّ من رأى ، وحجر عليه . ولقب الموفق إسحاق ذا السيفين ، وولاه أعمال ابن طولون . ولقب صاعد بن مخلد ذا الوزارتين . وجمع القضاة والفقهاء بدمشق ، فكلهم أفتوا بخلعه ، إلا بكار بن قتيبة فحبسه . وأمر الموفق بلعنة ابن طولون على المنابر . ثم مات أحمد بن طولون لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين . ومات ابنه العباس بعده باثنتي عشرة ليلة . وبلغنا أنه أحصي من قتله ابن طولون ، ومات بحبسه ، فكان مبلغه ثمانية عشر ألفا .
ثم مات الموفق في صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين ، فردّ المعتمد ولاية العهد إلى ابن الموفق ، وهو أحمد المعتمد ، وخلع ابنه جعفر . والمعتضد هو الذي أسقط المكوس التي كانت تؤخذ بالحرمين ، وتزوج قطر الندى بنت أحمد بن طولون سنة إحدى وثمانين ، وأصدقها ألف ألف . وأنفذ الحسين بن عبد اللّه الجوهري ، المعروف بابن الخصاص ، فحملها إليه في آخر هذه السنة .
وفي أيام المقتدر باللّه بطل الحج سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، وأخذ الحجر الأسود ،
“ 84 “
وذلك أن أبا طاهر سليمان بن الحسن القرمطي دخل مكة يوم التروية ، فقتل الحجاج قتلا ذريعا ، ورمى القتلى في زمزم ، وأخذ الحجر الأسود ، وعرّى الكعبة ، وقلع بابها . وبقي الحجر الأسود عندهم اثنين وعشرين سنة إلا شهرا ، ثم ردّوه لخمس خلون من ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، وكان قد بذل لهم في رده خمسون ألف دينار ، فما فعلوا ، وقالوا : أخذناه بأمر ، فلا نرده إلا بأمر . وفي أيامه أيضا استولى عبيد اللّه المهدي على المغرب ، وبنى المهدية بإفريقية في سنة اثنين وثلاثمائة ، بعد أن ادعى له بأرض القيروان في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين ومائتين ، وكان ظهوره لسبع خلون من ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائتين ، وفيها أخذ الحسين بن منصور الحلاج فقطعت يداه ورجلاه وجز رأسه وأحرق في ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة .
حدثنا يونس ، حدثنا عبد الوهاب ، انا المبارك عبد الجبار ، انا أحمد بن علي الثوري ، انا عمر بن ثابت ، انا علي بن قيس ، عن أبي بكر القرشي ، عن محمد بن يحيى ، سمعت أبا عمر الخطاب يقول : دخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة في يوم حار ، وبلال في حشمه ، وعنده الثلج ، فقال بلال : يا أبا عبد اللّه ، كيف ترى بيتنا هذا ؟
قال : إن بيتك لطيّب ، والجنة أطيب منه ، وذكر النار يلهي عنه ، قال : ما تقول في القدر ؟
قال : جيرانك من أهل القبور ، ففكر فيهم ، فإن فيهم شغلا عن القدر
قال : ادع لي ، قال : وما تصنع بدعائي وعلى بابك كذا وكذا ، كلّ يقول : إنك ظلمتهم ، يرتفع دعاؤهم قبل دعائي ، لا تظلم ، ولا تحتاج إلى دعائي .
ومن كلام الحسن البصري : عجبا لقوم أمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحبس أولهم عن آخرهم ، وهم قعود يلعبون . يا ابن آدم ، السكين تحدّ ، والتنور يسحر ، والكبش يعتلف ، كفى بالتجاريب تأديبا ، وبتقلب الأيام عظة ، وبذكر الموت زاجرا عن المعصية ، ذهبت الدنيا بحال أولها ، وبقيت الأيام قلائد في الأعناق ، إنكم تسوقون الناس ، والساعة تسوقكم ، وقد أسرع بخياركم ، فما ذا تنتظرون المعاينة .
وكان قد حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو الفرح بن علي بن محمد ، انا المبارك بن علي الصيرفي ، انا علي بن محمد العلاف ، انا عبد الملك بن بشران ، انا أحمد بن إبراهيم الكندي ، أنا أبو بكر محمد بن جعفر ، حدثنا أبو الفضل الربعي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن الهيثم بن عدي ، قال : كانت لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز جارية حسناء ، كان عمر يهواها ، فطلبها منها لنفسه ، وحرص في ذلك ، فأبت عليه ، وغارت من ذلك ، ولم يزل عمر مشغوفا بها . فلما أفضت الخلافة إليه ،
“ 85 “
طلبت فاطمة زوجته الحظوة عنده بتقريب الجارية إليه ، فأمرت بإصلاح شأنها ، وأدخلتها عليه في أحسن صورة ، وقالت له : يا أمير المؤمنين ، إنك كنت بفلانة جاريتي معجبا ، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك ، وأنا اليوم قد طبت نفسا بذلك ، فدونكها .
فسرّ عمر بقولها ، وظهر الفرح في وجهه ، وازداد بها عجبا ، وفيها صبابة ، فقال لها : ألق ثوبك أيتها الجارية .
فلما همت ، قال لها : على رسلك ، أخبريني لمن كنت ومن أين أنت لفاطمة ؟ قالت : كان الحجاج بن يوسف أغرم عاملا كان له من أهل الكوفة مالا ، وكنت في رق ذلك العامل ، فأخذني وبعثني إلى عبد الملك بن مروان ، وأنا يومئذ صبية ، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة . فقال : وما فعل ذلك العامل ؟ قالت : هلك . قال : وما ترك ولدا ؟
قالت : بلى .
قال : وما حالهم ؟ قالت : سيّئ . قال : شدي عليك ثوبك . ثم كتب إلى عبد الحميد عامله أن سرّح إلي فلان ابن فلان على البريد . فلما قدم عليه قال : ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك ، فما رفع إليه شيئا إلا دفعه ، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ، فلما أخذها بيدها ، قال : إياك وإياها ، فإنك حديث السن ، ولعل أباك أن يكون قد وطئها . فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ، هي لك .
قال : لا حاجة لي فيها . قال : فابتعها مني .
قال : لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى .
فمضى بها الفتى . فقالت له الجارية : فأين وجدك بي يا أمير المؤمنين ؟ ف
قال : على حالها ، ولقد ازدادت . فقيل : إنها ما زالت في نفس عمر حتى مات ، رحمه اللّه
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن الحسن ، عن يوسف بن الحكم ، عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك ، قال : بكى عمر بن عبد العزيز يوما ، فبكت لبكائه زوجته فاطمة ، فبكى أهل الدار ، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء ، فلما انجلت عنهم عبراتهم ، قالت له فاطمة : يا أمير المؤمنين ، ممّ بكيت ؟ قال : ذكرت منصرف القوم من بين يدي اللّه عز وجل ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير . ثم صرخ وغشي عليه .
بلغني عن عطاء أنه قال : كان عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته يجمع الفقهاء كل ليلة ، فيتذاكرون الموت والقيامة ، وما أعد اللّه في الآخرة ، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .
وحدثنا يوسف في آخرين ، قالوا : حدثنا ابن بطيء ، عن حميد بن أحمد ، عن أبي نعيم ، عن أبي محمد بن حبان ، عن ابن محمد بن عمر ، عن أبي بكر بن عبيد ، حدثني حاتم بن عبد اللّه الأزدي ، عن الحسن بن محمد الخزاعي ، عن رجل من ولد عثمان ، أن عمر بن عبد العزيز قال في بعض خطبه : إن لكل سفر زادا لا محالة ، فتزوّدوا لسفركم من
“ 86 “
الدنيا إلى الآخرة التقوى ، وكونوا كمن عاين ما أعد اللّه من ثوابه وعقابه ، ترغبوا وترهبوا ، ولا يطولن عليكم الأمد ، فتقسى قلوبكم ، فو اللّه ما بسط أمل من لا يدري ، لعله لا يصبح بعد مسائه ، ولا يمسي بعد صباحه ، ولربما كانت بين ذلك خطفات المنايا ، فكم رأيتم ورأيت من كان في الدنيا مغرورا ؟
وإنما تقرّ عين من وثق بالنجاة من عذاب اللّه ، وإنما يفرح من آمن من أهوال يوم القيامة ، فأما من لا يداوى كلما إلا أصابه جرح من ناحية أخرى ، نعوذ باللّه أن آمركم بما أنهي عنه نفسي ، فتخسر صفقتي ، لقد عنيتم بأمر ، لو عنت به النجوم لانكدرت ، ولو عنت به الجبال لذابت ، ولو عنت به الأرض لانشقّت ، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة ؟ وإنكم صائرون إلى إحداهما .
قال أبو سليم الهذليّ : خطب عمر بن عبد العزيز ، فقال : أما بعد ، فإن اللّه عز وجل لم يخلقكم عبثا ، ولم يدع شيئا من أمركم سدى ، فإن لكم معادا ينزل اللّه فيه الحكم بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة اللّه ، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ، واشترى قليلا بكثير ، وفانيا بباق ، وخوفا بأمن ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ؟
وسيخلفها لكم الباقون ، كذلك حتى نردّ إلى خير الوارثين ، في كل يوم وليلة تشيعون غاديا ورائحا إلى اللّه عز وجل ، قضى نحبه ، وانقضى أجله ، حتى تغيّبوه في صدع من الأرض ، في بطن صدع ، ثم تدعوه غير ممهد ولا موسّد ، قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، مرتهنا بعمله ، فقير إلى ما قدم ، غنيا عما ترك ، فاتقوا اللّه قبل نزول الموت ، وأيم اللّه ، إني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب ما عندي ، وما يبلغني عن أحد منكم حاجة إلا أحببت أن أسدّ من حاجته ما قدرت عليه ، وما يبلغني أن أحدا منكم لا يسعه ما عندي إلا وددت أن يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه ، وأيم اللّه ، لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش ، لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه ، ولكن سبق من اللّه عز وجل كتاب ناطق ، وسنّة عادلة ، دل فيها على طاعته ، ونهى فيها عن معصيته . ثم وضع طرف ردائه على وجهه ، وبكى وشهق ، وبكى الناس ، فكانت آخر خطبة خطبها .
حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن ، عن علي بن محمد بن أبي عمر ، عن محمد بن الحسن ، عن عبد الملك بن بشران ، عن أبي بكر الآجري ، عن الغرياني ، عن عمرو بن علي ، عن سفيان بن خليد الضبي ، عن سالم بن نوح العطار ، عن بشر بن البشري ، قال عمرو بن علي : حججت ، فقيل : إن بمكة بشر بن البشري ، فأتيته ، فسألته ، فحدثني عن بشر بن البشري ، عن أبي سليم الهذلي ، وذكره .
“ 87 “
وحدثنا يونس بن يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن رزق اللّه ، وطراد هو الزبير ، وكلاهما عن علي بن محمد المعدل ، عن الحسن بن صفوان ، عن عبد اللّه بن محمد بن عبيد ، عن أبي محمد العبدي ، عن عبيد اللّه بن محمد القرشي ، عن ابن أبي شميلة ،
قال : دخل رجل على عبد الملك بن مروان ممن كان يوصف بالعقل والأدب ،
فقال له عبد الملك بن مروان : تكلم ، فقال : بما أتكلم وقد علمت أن كل كلام يتكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان للّه . فبكى عبد الملك ، ثم قال : يرحمك اللّه ، لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون .
فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، إن للناس في القيامة جولة لا ينجو من غصص مرارتها ، ومعاينة الردى ، إلا من أرضى اللّه بسخط نفسه .
قال : فبكى عبد الملك ، ثم قال : لا جرم ، لأجعلن هذه الكلمات مثالا نصب عيني ما عشت أبدا .
وروينا من حديث أبي نعيم ، عن أبي بكر بن مالك ، عن عبيد اللّه بن أحمد بن حنبل ، قال : أخبرت ، عن يسار ، عن جعفر ، عن مالك بن دينار ، قال : كنت عند بلال بن أبي بردة ، وهو في قبة له ، فقلت : قد أصبت هذا خاليا ، فأي قصص أقص عليه ؟ فقلت في نفسي : ما له خير من أن أقص عليه ما لقي نظراؤه من الناس ،
فقلت له : أتدري من بنى هذا الذي أنت فيه ؟ قال : بناها عبيد اللّه بن زياد ، فقلت : وبنى البيضاء ، وبنى المسجد ، فولّي ما ولّي ، ثم قتل ، ثم ولّي بشر بن مروان ، فقتله أخوة أمير المؤمنين ، فدفنوه . وذهب بالزنجي ، فمات بالبصرة ، فحملوه . ومات زنجي ، فحمله الزنج . فذهب بأخي أمير المؤمنين ، فدفنوه . ثم جعلت أقص عليه أميرا أميرا ، حتى انتهيت إليه ، فأثّر ذلك فيه ، وبكى بكاء شديدا .
قصة الشعبي والحسن البصري مع عمرو بن هبيرة والي العراق
حدثنا يونس بن يحيى في آخرين ، قال : انا محمد بن ناصر ، انا عبد القادر بن محمد ، ثنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، انا علي بن عبد العزيز ، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ثنا أبو حميد الحمصي ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن عطاء ، عن علقمة بن مرّة ، قال : لما قدم عمرو بن هبيرة العراق ، أرسل إلى الحسن والشعبي ، وأمر لهما ببيت ، فكانا فيه شهرا أو نحوه . ثم إن الخصي غدا عليهما ذات يوم ، فقال : إن الأمير داخل عليكما .
فجاء عمرو متوكئا على عصا له ، فسلّم ، ثم جلس معظما لهما ، فقال : إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك كتب إليّ كتبا أعرف أن في إنفاذها الهلك ، فإن أطعته عصيت اللّه ، وإن عصيته أطعت اللّه ، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجا ؟ فقال الحسن للشعبي : يا أبا عمرو ،
“ 88 “
أجب الأمير . فتكلم الشعبي بكلام يريد به إبقاء وجه عنده . فقال ابن هبيرة : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال : أيها الأمير ، قد قال الشعبي ما قد سمعت به ،
قال : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ قال : أقول : يا عمرو بن هبيرة ، أوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة اللّه ، فظّ ، غليظ ، لا يعصي اللّه ما أمره ، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك .
يا عمرو بن هبيرة ، لا تأمن أن ينظر اللّه إليك على قبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك ، فيغلق به باب المغفرة دونك . يا عمرو بن هبيرة ، لقد أدركت ناسا من صدر هذه الأمة ، كانوا عند هذه الدنيا ، وهي مقبلة ، أشد إدبارا من إقبالكم عليها ، وهي مدبرة .
يا عمرو بن هبيرة ، إني أخوّفك مقاما خوّفكه اللّه عز وجل ، فقال :ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ. يا عمرو بن هبيرة ، إن تكن مع اللّه في طاعته ، كفاك يزيد بن عبد الملك ، وإن تكن مع يزيد على معاصي اللّه ، وكّلك اللّه إليه . فبكى عمرو بن هبيرة ، وقام بعبرته .
فلما كان من الغد ، أرسل إليهما ، فأدناهما وأجازهما ، فأكثر جائزة الحسن ، وأنقص جائزة الشعبي . فخرج الشعبي إلى المسجد ، فقال : أيها الناس ، من استطاع منكم أن يؤثر اللّه على خلقه فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ، ما علم الحسن شيئا منه فجهلته ، ولكني أردت ابن هبيرة ، فأقصاني اللّه منه .
وبلغني أن عمر بن عبد العزيز لما ولّي الخلافة ، أخذ إقطاع أمير كبير كان أقطعه إياها سليمان بن عبد الملك ، والوليد بن عبد الملك ، فلما مات عمر بن عبد العزيز وولّي يزيد بن عبد الملك ، جاء الأمير إليه ،
فقال له : إن أخاك سليمان أمير المؤمنين والوليد أقطعاني شيئا قطعه عني أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه ، فأريد منك أن تردّه عليّ . قال يزيد : لا أفعل . قال : ولم ؟ قال : لأن الحق فيما فعل عمر بن عبد العزيز .
قال : وبم ذلك ؟ قال : لأن أخواي أحسنا إليك وذكرتهما ، وما دعوت لهما ، وعمر بن عبد العزيز أساء إليك وذكرته فترضّيت عنه ، فعلمت أن عمر آثر اللّه على هواه ، وأما سليمان والوليد آثرا هواهما على حق اللّه . فو اللّه لا رأيته مني أبدا . وهذا من أحسن ما يحكى عن الثقات أولات الأمر ا ه . والحمد للّه حق حمده .
الجزء الخامس
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 75 “
وأخبرنا ناصر الدين بن عبد اللّه بن عبد الرحمن العطار المصري خبر قدوم هامة الجنيّ على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال : حدثنا أبو محمد بن المبارك بن علي بن الحسين بن الطباخ ، قال : ثنا السيد بن أبي الحسن عبيد اللّه بن محمد بن أحمد البيهقي ، قال : حدثني جدي أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، قال : ثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي ، أنا أبو ناصر محمد بن حمدويه بن سهل الغازي المروزي قال : حدثنا عبد اللّه بن حماد الآملي ، قال : ثنا محمد بن أبي معشر ، تكلم في ابن أبي معشر ، وهو المزني ، وقد روى عنه الكبار ، قال : أخبرني أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر رضي اللّه عنه ، قال :
بينما نحن قعود مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على جبل من جبال تهامة إذ أقبل شيخ بيده عصى ، فسلم على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فرد عليه السلام ، ثم قال : “ نعمت جنّ رعيتهم ، من أنت ؟ “ ، قال : أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس . قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ فما بينك وبين إبليس إلا أبوان ، فكم أتى لك من الدهور ؟ “ ، قال : قد أفنيت من الدنيا عمرها إلا قليلا ، ليالي قتل قابيل هابيل كنت ابن أعوام ، من الثلاثة إلى عشرة لا غير ، أفهم الكلام ، وآمر بإفساد الطعام ، وقطيعة الأرحام ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ بئس عمل الشيخ المتوسم ، والشاب المتلوّم “ ، قال : زدني من الترداد ، إني تائب إلى اللّه عز وجل ، إني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه ، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني ، وقال : لا جرم ، إني على ذلك من النادمين ، وأعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين ، قال : قلت : يا نوح ، إنني ممن اشترك في دم السعيد الشهيد هابيل بن آدم ، فهل تجد لي عند ربك توبة ؟ قال : “ يا هام ، همّ بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة ، إني قرأت فيما أنزل اللّه عز وجل على أنه ما من عبد تاب إلى اللّه عز وجل بالغ أمره ما بلغ إلا تاب اللّه عليه ، قم وتوضأ واسجد للّه سجدتين “ ، قال : ففعلت من ساعتي ما أمرني به ، فناداني : “ ارفع رأسك ، فقد نزلت توبتك من السماء “ ، قال : فخررت للّه ساجدا جذلا .
وكنت مع هود في مسجده مع من آمن به من قومه ، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم وأبكاني .
فقال : لا جرم ، إني على ذلك من النادمين ، وأعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين ، وكنت مع آزر ويعقوب ، وكنت مع يوسف بالمكان الأمين ، وكنت ألاقي الياس في الأودية ، وأنا ألقاه الآن ، وإني لقيت موسى بن عمران ، فعلّمني من التوراة ، وقال : إن لقيت عيسى ابن مريم فأقرئه مني السلام ، وقال : إني لقيت عيسى ، وقال عيسى : إن لقيت محمدا عليه الصلاة والسلام فأقرئه مني السلام ، قال : فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عينيه فبكى ، ثم قال : “ وعلى عيسى السلام ما دامت الدنيا ، وعليك السلام يا هام بأدائك الأمانة “ ، قال :
“ 76 “
يا رسول اللّه ، افعل بي ما فعل موسى ، إنه علّمني من التوراة ، فعلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سورة الواقعة ، والمرسلات ، وعمّ ، والتكوير ، والمعوذتين ، والإخلاص ، وقال : “ ارفع إلينا حاجتك ، ولا تدع زيارتنا “ ، قال : فقال عمر : فقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يعد إلينا ، فلسنا ندري أحي هو أم ميت ؟ قلنا : إذا ثبت إسلام هذا الشيطان فليس يريد قتادة بقوله : إن الشيطان لا يسلم إلا الشيطان الذي هو القرين .
حدثنا أبو بكر بن أبي الفتح الحنفي بمكة ، ثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن يحيى الأنصاري الدمشقي سبط الإمام أبي الفرج الحنبلي ، قال : ثنا سعد الخير أبو الحسن محمد بن سهل الأنصاري ، حدثنا أبو سعيد محمد بن محمد بن محمد بن مطرز ، ثنا أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن إسحاق ، ثنا عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الرحمن بن الحسن ، ثنا مسعود بن يزيد القطان ، ثنا أبو داود ، ثنا عبّاد بن يزيد عن موسى بن عقبة القرشي ، أن هشام بن العاص ، ونعيم بن عبد اللّه ، ورجلا آخر قد سمّاه ، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر ، وفي حديث شرحبيل بن مسلم الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص ، قال : بعثني أبو بكر الصدّيق ورجلا آخر إلى هرقل صاحب الروم أدعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة ، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني .
قال في حديث موسى بن عقبة : فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة ، فإذا عليه ثياب سود ، وإذا كل شيء حوله أسود ، فقال : يا هشام كلّمه . فكلّمه ودعاه إلى اللّه عز وجل ، وقال : ما هذه الثياب السود ؟ فقال : لبسته نذرا ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها ، قال : فقلنا : فانبذها ، أو كلمة تشبهها ، فو اللّه لنأخذها منك حتى نمنعك مجلسك هذا ، فو اللّه لنأخذه منك ، ونملك الملك الأعظم إن شاء اللّه ، أخبرنا بذلك نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، قال :
فأنتم إذا السّمراء ؟ قلنا : نحن السعداء ، قال : لستم هم ، قلنا : ومن هم ؟
قال : هم الذين يصومون النهار ويقومون الليل ، قلنا : نحن هم واللّه ، قال : فكيف صلاتكم ؟ فوصفنا له صلاتنا ، قال : فاللّه يعلم لقد غشيه سواد حتى صار وجهه كأنه قطعة طابق ، ثم قال : قوموا ، فأمر بنا إلى الملك ، فانطلقنا ، فلقينا الرسول بباب المدينة ، فقال : إن شئتم أتيتكم ببغال ، وإن شئتم أتيتكم ببراذين ، فقلنا : لا واللّه ، لا ندخل عليه إلا كما نحن ، فأرسل إليه أنهم يأبون ، فأرسل أن خلوا سبيلهم ، قال : فدخلنا معتمين متقلدي السيوف على الرواحل ، فلما كنا بباب الملك إذا هو في غرفة له عالية ، فنظر إلينا ، قال : فرفعنا رؤوسنا ، فقلنا : لا إله إلا اللّه ، قال : فاللّه يعلم لانتفضت الغرفة كلها حتى كأنها عزق نفضته الريح ، فأرسل إلينا
“ 77 “
أن هذا ليس لكم أن تجهروا بدينكم عليّ ، قال : فأرسل إلينا أن ادخلوا فدخلنا ، فإذا هو على فراشه إلى السقف ، وإذا عليه ثياب حمر ، وإذا كل شيء عنده أحمر ، وإذا عنده بطاركة الروم .
قال : وإذا هو يريد أن يكلمنا برسول ، فقلنا : لا واللّه لا نكلمه برسول ، وإنما بعثنا إلى الملك ، فإن كنت تحب أن نكلمك فأذن لنا أن نكلمك . فلما دخلنا عليه ضحك ، فإذا هو رجل فصيح بكثير العربية ، فقلنا : لا إله إلا اللّه ، فاللّه يعلم لقد نقض السقف حتى رفع رأسه هو وأصحابه ، فقال : ما أعظم هذه الكلمة عندكم ، فقلنا : هذه كلمة التوحيد ،
قال :التي قلتموها ؟ قلنا : نعم ، قال : فإذا قلتموها في بلاد عدوكم نقضت سقوفكم ؟
قلنا : لا ، قال : فإذا قلتموها في بلادكم نقضت سقوفكم ؟ قلنا : لا ، وما رأيناها فعلت هذا ، وما هو إلا لشيء عزّت به . فقال : ما أحسن الصدق ، فما تقولون إذا فتحتم المدائن ؟ قلنا : نقول :
لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، قال : تقولون لا إله إلا اللّه ليس معه شيء ، واللّه أكبر من كل شيء ؟
قلنا : نعم . قال : فما منعكم أن تحيوني تحية لنبيكم ؟ قلنا : إن تحية نبينا لا تحلّ لك ، وتحيتك لا تحل لنا فنحيّيك بها . قال : وما تحيتكم ؟ قلنا : تحية أهل الجنة . قال : وبها كنتم تحيّون نبيكم ؟ قلنا : نعم ، قال : وبها كان يحييكم ؟ قلنا : نعم . قال : فمن كان يورث منكم ؟ قلنا : من كان أقرب قرابة . قال : وكذلك ملوككم ؟ قلنا : نعم .
قال : فأمر لنا بنزل كثير ، ومنزل حسن ، فمكثنا ثلاثا ، ثم أرسل إلينا ليلا ، فدخلنا عليه وليس عنده أحد ، فاستعاد كلامنا ، فأعدنا عليه فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة ، وإذا فيها أبواب صغار ، ففتح منها بابا ، فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل طويل أكثر الناس شعرا ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا آدم .
ثم أعادها وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم ، له شعر كشعر القط ، أعظم الناس إليتين ، أحمر العينين ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا نوح .
ثم أعادها وفتح بابا آخر واستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة بيضاء ، وإذا رجل أبيض الرأس واللحية كأنه حيّ يبتسم ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إبراهيم .
ثم أعادها وفتح بابا آخر استخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، قال : أتعرفون من هذا ؟ قلنا : هذا النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال : هذا واللّه محمد رسول اللّه ، قال : فاللّه يعلم أنه قام ، ثم قعد ، وقال : واللّه إنه لهو . ثم قال : اللّه بدينكم إنه نبيكم ؟ قلنا : اللّه بديننا إنه نبيّنا كأننا ننظر إليه حيا . قال : أما إنه كان آخر البيوت ، ولكنني عجّلته لكم لأنظر ما عندكم .
“ 78 “
ثم أعادها وفتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فإذا صورة أدماء سحماء ، وإذا رجل جعد ، قطط ، غائر العينين ، حديد النظر ، متراكب الأسنان ، مقلص الشفة ، كث اللحية ، كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا موسى . فإذا إلى جانبه صورة تشبهه ، إلا أنه مدهان الرأس ، عريض الجبين ، في عينيه قبل ، فقال : هل تعرفون هذا : قلنا : لا ، قال : هذا هارون بن عمران .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء ، فإذا صورة رجل أدم ، سبط ، ربعة ، كأنه غضبان ، حسن الوجه ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا لوط .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أبيض ، مشرّب بحمرة ، أقنى الأنف ، خفيف العارضين ، حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسحاق .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل تشبه صورة إسحاق ، إلا أنه على شفته السفلى خال ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يعقوب .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة رجل أبيض ، حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه النور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسماعيل جدّ نبيكم .
ثم فتح بابا آخر واستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنها صورة آدم ، كأن وجهه الشمس ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يوسف .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة رجل أحمر ، خميص الساقين ، أخفش العينين ، ضخم البطن ، ربعة ، أشبه الخلق بامرأة عجوز ، متقلدا سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا داود .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها رجل ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكب على فرس طويل الرجلين ، قصير الظهر ، كل شيء منه جناح تحت الريح ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا سليمان بن داود .
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة أو خرقة سوداء فيها صورة بيضاء ، وإذا رجل شاب شديد سواد اللحية ، يعلوه صفرة ، صلت الجبين ، حسن اللحية ، كثير الشعر ، حسن الوجه ، حسن العينين يشبهه كل شيء منه ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا عيسى ابن مريم .
“ 79 “
ثم أعادها ، وأمر بالربعة فرفعت ، قلنا : من أين لك هذه الصور ؟ لأنّا نعلم أنها على ما صوّرت عليه الأنبياء عليهم السلام ، لأنّا رأينا صورة نبينا عليه الصلاة والسلام مثله ؟
فقال : إن آدم سأل ربه عز وجل أن يريه الأنبياء من أولاده فأخرج له صورهم في خرق حرير من الجنة ، وكانت في خزانة آدم عند غروب الشمس ، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس ، فلما كان دانيال صوّرها هذه الصور فهي بأعيانها ، فو اللّه لو تطيب نفسي الخروج عن ملكي ما باليت أن أكون عبدا لأسدكم بمكة ، ولكني عسى أن تطيب نفسي.
ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرّحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، حدّثناه بما رأيناه ، وما قال لنا ، وما أدنانا ، فبكى أبو بكر ، وقال : مسكين ، لو أراد اللّه به خيرا لفعل .
ثم قال : أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد جمعت في سياق الحديث بين الروايتين ، وإن رواية شرحبيل حدثنا بها عبد الوهاب بن علي ببغداد ، عن محمد بن ضياعة ، عن أحمد بن الحسين ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ، كتب إليه أن أبا محمد عبد اللّه إسحاق البغوي أخبرهم ، قال : حدثنا إبراهيم بن هيثم البلدي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن الوليد بن مسلم بن إدريس ، قال : ثنا عبد اللّه بن إدريس بن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص الأموي ، ثنا أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن الفضل الفزاري ، عن أبي بكر أحمد بن الحسين ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ، قال : حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد البغدادي ببخارى ، قال : ثنا عبد اللّه بن محمود ، قال : أنبأنا عبدان بن سنان ،
قال :حدثني العباس القزويني الطالقاني كتابة ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ،
قال : حدثني أحمد بن عبد اللّه البرقي ، قال : ثنا يزيد بن يزيد اللؤلؤي ،
قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، قال : كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلنا منزلا فإذا رجل في واد يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور المثاب لها ، قال : فأشرفت على الوادي ، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي : من أنت ؟ قلت : أنا أنس بن مالك خادم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فأين هو ؟ قلت : هو يسمع كلامك ،
قال : فائته فأقرئه السلام وقل له أخوك الياس يقرئك السلام ، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته ، فجاءه حتى لقيه وعانقه وسلم عليه ، ثم قعدا يتحدثان ،
فقال له : يا رسول اللّه ، إني ما آكل في السنة إلا يومان ، وهذا يوم فطري ، فآكل أنا وأنت ، فنزلت عليهما مائدة من السماء ، خبزا وحوتا وكرفس ، فأكلا وأطعماني ، فصلينا العصر ، ثم ودّعه ، ثم رأيته مرّ في السحاب نحو السماء .
“ 80 “
تصاف ومعرفة ووصية وتنبيه وتصرف وتنزيه وموعظة وغيرها
حدثنا أبو بكر بن أبي الفتح ، قال : حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن حامد الأرياحي ، قال : أجازني أبو الحسن علي بن الحسن بن عمر الموصلي القرّاء الحديث عنه بجميع ما يرويه ، قال : ثنا أبو القاسم عبد العزيز بن أبي محمد الحسن بن إسماعيل بن محمد الضراب ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي ، قال :
أنشدنا المبرّد بن قتيبة لأبي العتاهية رحمه اللّه شعرا :
ما أنا إلا لمن يعاني * أرى خليلي كما يراني
لست أرى ما ملكت طرفي * مكان من لا يرى مكاني
فلي إلى أن أموت رزق * لو جهد الخلق ما عداني
فاستغن باللّه عن فلان * وعن فلان وعن فلان
والمال من حله قوام * للعرض والوجه واللسان
والفقر ذلّ عليه باب * مفتاحه العجز والتواني
ورزق ربي له وجوه * هنّ من اللّه في ضمان
سبحان من لم يزل عليّا * ليس له في العلوّ ثاني
قضى على خلقه المنايا * فكلّ حيّ سواه فاني
يا ربّ لم نبك من زمان * إلا بكينا على زمانحكمة
حضرت عتابا بين شخصين في أمر ما ، فلم يظهر على ذلك العتاب ثمرة ، فتذكرت قول بعضهم :وليس عتاب المرء للمرء نافعا * إذا لم يكن للمرء لبّ يعاتبهموعظة
قال مقاتل بن صالح : أنبأنا إسحاق بن منصور بن دينار ، قال : نظر بعض ملوك الأعاجم إلى شيب في رأسه ، فجمع نساءه ، وقال : تعالين فاندبنني إذ مات بعضي ، لأنظر كيف تندبنني إذا مات كلي ، وأنشد :إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت * ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
وساقت إليه الإثم والعار للذي * دعته إليه من حلاوة عاجل
“ 81 “
نصيحة
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : من أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه ، فإنما أظهر نفاقا على نفاق .خبر نبوي بعمل غبطة
حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفاسي بمدينة فاس ، قال : أنبأنا أبو القاسم هبة اللّه بن علي بن مسعود الأنصاري البوصيري ، قال : أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن بركات بن هلال السعدي النحوي ، قال : أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي ، قال : أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي ، حدثنا عبيد بن شريك البزاز ، حدثنا داود بن أبي أياد ، حدثنا إسماعيل بن عباس ، عن المطعم بن مقداد ، وعنبسة بن سعيد بن غيثم الكلاعي ، عن فصيح العبسي ، عن ركب المصري ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “ طوبى لمن تواضع في غير منقصة ، وذلّ في نفسه من غير مسكنة ، وأنفق من مال جمعه في غير معصية ، وخالط أهل الفقه والحكمة ، ورحم أهل الذلّ والمسكنة .
طوبى لمن طاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شره . طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله “ .
بلغنا أن أبا العباس السفاح لما ولي الخلافة ، وصل عبد اللّه بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم بألفي ألف دينار ، وهو أول خليفة وصل بهذه الجملة .
ولما أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور ، قتل أبا مسلم الخراساني الذي أقام لهم الدعوة ، قتله في شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة ، وأمر بتوسعة المسجد الحرام سنة تسع وثلاثين ، وحجّ سنة أربع وأربعين ، وزار ومضى إلى بيت المقدس ، وعاد إلى الهاشمية ، وحجّ أيضا سنة أربع وأربعين ، وسنة تسع وأربعين .
وخرج عليه الحسن بن الحسن فوجّه إليه عيسى بن موسى ، فقتله في رمضان سنة خمس وأربعين . وخرج إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن إلى الكوفة ، فلقيه عيسى بن موسى فقتله في تلك السنة أيضا .
وفي أيامه توفي جعفر بن محمد الصادق سنة ثمان وأربعين . ومات الإمام أبو حنيفة
“ 82 “
سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة ، وكان مولده سنة ثمانين . وقيل : عاش تسعين سنة ، وكان مولده سنة ستين .
وأما المهدي فقال : إنه لما حجّ سنة ستين ، دخل الكعبة ومعه منصور الحجبي ، وهو من حجبة البيت ، فقال له المهدي : اذكر حاجتك . فقال : إني أستحي من اللّه أن أسأل في بيته غيره . فلما خرج أرسل إليه بعشرة آلاف دينار .
وأما هارون الرشيد ، فحجّ في خلافته ثمان أو تسع حجج ، وغزا ثمان غزوات .
روينا أنه وصل إلى مكة في شهر رمضان سنة تسع وتسعين ، واعتمر ، ومضى إلى المدينة ، ثم رجع فحجّ تلك السنة ماشيا ، ولم يحجّ خليفة بعده إلى زماننا . غير أني سمعت مستفاضا أن خليفتنا الإمام الناصر لدين اللّه تعالى حجّ متنكرا لا يعلم به أحد ، فاللّه يعلم .
ومات في خلافته مالك بن أنس سنة تسع وسبعين ومائة ، وله ست وثمانون سنة ، وقيل :
سبعون سنة ، وصلى عليه ابن أبي ذؤيب . وماتت أم الرشيد سنة ثلاث وسبعين ومائة .
وكان من بنات هارون الرشيد من تعدّ لنفسها عشرة خلفاء كلهم لها محارم : هارون الرشيد أبوها ، الهادي عمها ، المهدي جدّها ، المنصور جدّ أبيها ، السفاح عم جدّها ، الأمين والمأمون والمعتصم إخوتها ، الواثق والمتوكل ابنا أخيها .
ونكب جعفر بن برمك سنة سبع وثمانين ومائة ، وقيل : ثمان وثمانين ، وقتل .
وحبس يحيى وابنه الفضل إلى أن ماتا ، فمات يحيى سنة تسعين ، ومات الفضل سنة ثلاث وتسعين ومائة .
ولما ولّي الأمين وأقام المأمون بخراسان سنتين وأشهرا ، أغرى الفضل بن الربيع ، على ما ذكر بينهما ، فنصب الأمين ابنه موسى لولاية العهد بعده ، وأخذ له البيعة ، ولقبه الناطق بالحق ، وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة ، وجعله في حجر علي بن عيسى . ووجّه علي بن عيسى إلى خراسان ، ووجّه المأمون هرثمة بن مرّة على مقدمة طاهر بن الحسين ، فقتل علي بن عيسى . ولم تزل الحرب بين الأمين والمأمون سنتين وشهورا ، إلى أن نزل طاهر بالأنبار ، وهرثمة بالنهروان . ونجا الأمين إلى مدينة أبي جعفر ، وخرج ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ، فوقع في أيدي أصحاب طاهر ، فأتوا به طاهرا ، فقتله ونصب رأسه على الباب الحديد ، ثم أنزله وبعث رأسه إلى خراسان ، ودفن جثته في بستان مؤنسة . ويقال : إن المأمون لما رأى رأسه بكى واستعبر ، وذكر له أياما محمودة وجميلا أسداه إليه في أيام الرشيد .
وأما المأمون فبايع لعلي الرضا بن موسى بن جعفر بولاية عهده ، في شهر رمضان
“ 83 “
سنة إحدى ومائتين ، ولبس الخضرة . فمات علي الرضا سنة ثلاث ومائتين ، وادعى إبراهيم بن المهدي لنفسه بالخلافة ، وهو عم المأمون ، ولقب نفسه المبارك ، وبويع له ببغداد ، سنة اثنين ومائتين ، وأقام أحد عشر شهرا وأياما ، ثم كان من أمره ما ذكرناه في هذا الكتاب .
وفي سنة أربع ومائتين ، دعا المأمون إلى لباس السواد . وفي هذه السنة مات الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي اللّه عنه بمصر . وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن .
وأما المتوكل ، فحظيّ في دولته أهل الأدب ، وظهر علي بن محمد صاحب الزنج في شوال سنة خمس وخمسين ومائتين ، وقتل في صفر سنة سبعين ومائتين في خلافة المعتمد .
وكان المعتمد صاحب لذّات ، فجعل أخاه طلحة ولي عهده ، ولقبه الموفق ، وجعل إليه المشرق . وجعل ابنه جعفر ولي عهد ابنه ، ولقبه المفوض إلى اللّه عز وجل ، وجعل إليه المغرب . فغلب الموفق على الأمر ، وقام به أحسن قيام ، ومال الناس إليه ، واشتغل بقتال علي بن محمد ، صاحب الزنج . وكان المعتمد قد صار يريد مصر في جمادى الآخرة سنة تسع وستين ومائتين ، لمكاتبة جرت بينه وبين أحمد بن طولون ، فلما بلغ الموفق ذلك وهو في قتال علي بن محمد ، أنفذ إسحاق بن كنداج ، فردّه المعتمد ، وسلمه إلى صاعد بن مخلد ، فأنزله دار ابن الخطيب بسرّ من رأى ، وحجر عليه . ولقب الموفق إسحاق ذا السيفين ، وولاه أعمال ابن طولون . ولقب صاعد بن مخلد ذا الوزارتين . وجمع القضاة والفقهاء بدمشق ، فكلهم أفتوا بخلعه ، إلا بكار بن قتيبة فحبسه . وأمر الموفق بلعنة ابن طولون على المنابر . ثم مات أحمد بن طولون لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين . ومات ابنه العباس بعده باثنتي عشرة ليلة . وبلغنا أنه أحصي من قتله ابن طولون ، ومات بحبسه ، فكان مبلغه ثمانية عشر ألفا .
ثم مات الموفق في صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين ، فردّ المعتمد ولاية العهد إلى ابن الموفق ، وهو أحمد المعتمد ، وخلع ابنه جعفر . والمعتضد هو الذي أسقط المكوس التي كانت تؤخذ بالحرمين ، وتزوج قطر الندى بنت أحمد بن طولون سنة إحدى وثمانين ، وأصدقها ألف ألف . وأنفذ الحسين بن عبد اللّه الجوهري ، المعروف بابن الخصاص ، فحملها إليه في آخر هذه السنة .
وفي أيام المقتدر باللّه بطل الحج سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، وأخذ الحجر الأسود ،
“ 84 “
وذلك أن أبا طاهر سليمان بن الحسن القرمطي دخل مكة يوم التروية ، فقتل الحجاج قتلا ذريعا ، ورمى القتلى في زمزم ، وأخذ الحجر الأسود ، وعرّى الكعبة ، وقلع بابها . وبقي الحجر الأسود عندهم اثنين وعشرين سنة إلا شهرا ، ثم ردّوه لخمس خلون من ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، وكان قد بذل لهم في رده خمسون ألف دينار ، فما فعلوا ، وقالوا : أخذناه بأمر ، فلا نرده إلا بأمر . وفي أيامه أيضا استولى عبيد اللّه المهدي على المغرب ، وبنى المهدية بإفريقية في سنة اثنين وثلاثمائة ، بعد أن ادعى له بأرض القيروان في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين ومائتين ، وكان ظهوره لسبع خلون من ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائتين ، وفيها أخذ الحسين بن منصور الحلاج فقطعت يداه ورجلاه وجز رأسه وأحرق في ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة .
حدثنا يونس ، حدثنا عبد الوهاب ، انا المبارك عبد الجبار ، انا أحمد بن علي الثوري ، انا عمر بن ثابت ، انا علي بن قيس ، عن أبي بكر القرشي ، عن محمد بن يحيى ، سمعت أبا عمر الخطاب يقول : دخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة في يوم حار ، وبلال في حشمه ، وعنده الثلج ، فقال بلال : يا أبا عبد اللّه ، كيف ترى بيتنا هذا ؟
قال : إن بيتك لطيّب ، والجنة أطيب منه ، وذكر النار يلهي عنه ، قال : ما تقول في القدر ؟
قال : جيرانك من أهل القبور ، ففكر فيهم ، فإن فيهم شغلا عن القدر
قال : ادع لي ، قال : وما تصنع بدعائي وعلى بابك كذا وكذا ، كلّ يقول : إنك ظلمتهم ، يرتفع دعاؤهم قبل دعائي ، لا تظلم ، ولا تحتاج إلى دعائي .
ومن كلام الحسن البصري : عجبا لقوم أمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحبس أولهم عن آخرهم ، وهم قعود يلعبون . يا ابن آدم ، السكين تحدّ ، والتنور يسحر ، والكبش يعتلف ، كفى بالتجاريب تأديبا ، وبتقلب الأيام عظة ، وبذكر الموت زاجرا عن المعصية ، ذهبت الدنيا بحال أولها ، وبقيت الأيام قلائد في الأعناق ، إنكم تسوقون الناس ، والساعة تسوقكم ، وقد أسرع بخياركم ، فما ذا تنتظرون المعاينة .
وكان قد حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو الفرح بن علي بن محمد ، انا المبارك بن علي الصيرفي ، انا علي بن محمد العلاف ، انا عبد الملك بن بشران ، انا أحمد بن إبراهيم الكندي ، أنا أبو بكر محمد بن جعفر ، حدثنا أبو الفضل الربعي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن الهيثم بن عدي ، قال : كانت لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز جارية حسناء ، كان عمر يهواها ، فطلبها منها لنفسه ، وحرص في ذلك ، فأبت عليه ، وغارت من ذلك ، ولم يزل عمر مشغوفا بها . فلما أفضت الخلافة إليه ،
“ 85 “
طلبت فاطمة زوجته الحظوة عنده بتقريب الجارية إليه ، فأمرت بإصلاح شأنها ، وأدخلتها عليه في أحسن صورة ، وقالت له : يا أمير المؤمنين ، إنك كنت بفلانة جاريتي معجبا ، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك ، وأنا اليوم قد طبت نفسا بذلك ، فدونكها .
فسرّ عمر بقولها ، وظهر الفرح في وجهه ، وازداد بها عجبا ، وفيها صبابة ، فقال لها : ألق ثوبك أيتها الجارية .
فلما همت ، قال لها : على رسلك ، أخبريني لمن كنت ومن أين أنت لفاطمة ؟ قالت : كان الحجاج بن يوسف أغرم عاملا كان له من أهل الكوفة مالا ، وكنت في رق ذلك العامل ، فأخذني وبعثني إلى عبد الملك بن مروان ، وأنا يومئذ صبية ، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة . فقال : وما فعل ذلك العامل ؟ قالت : هلك . قال : وما ترك ولدا ؟
قالت : بلى .
قال : وما حالهم ؟ قالت : سيّئ . قال : شدي عليك ثوبك . ثم كتب إلى عبد الحميد عامله أن سرّح إلي فلان ابن فلان على البريد . فلما قدم عليه قال : ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك ، فما رفع إليه شيئا إلا دفعه ، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ، فلما أخذها بيدها ، قال : إياك وإياها ، فإنك حديث السن ، ولعل أباك أن يكون قد وطئها . فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ، هي لك .
قال : لا حاجة لي فيها . قال : فابتعها مني .
قال : لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى .
فمضى بها الفتى . فقالت له الجارية : فأين وجدك بي يا أمير المؤمنين ؟ ف
قال : على حالها ، ولقد ازدادت . فقيل : إنها ما زالت في نفس عمر حتى مات ، رحمه اللّه
روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن الحسن ، عن يوسف بن الحكم ، عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك ، قال : بكى عمر بن عبد العزيز يوما ، فبكت لبكائه زوجته فاطمة ، فبكى أهل الدار ، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء ، فلما انجلت عنهم عبراتهم ، قالت له فاطمة : يا أمير المؤمنين ، ممّ بكيت ؟ قال : ذكرت منصرف القوم من بين يدي اللّه عز وجل ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير . ثم صرخ وغشي عليه .
بلغني عن عطاء أنه قال : كان عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته يجمع الفقهاء كل ليلة ، فيتذاكرون الموت والقيامة ، وما أعد اللّه في الآخرة ، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .
وحدثنا يوسف في آخرين ، قالوا : حدثنا ابن بطيء ، عن حميد بن أحمد ، عن أبي نعيم ، عن أبي محمد بن حبان ، عن ابن محمد بن عمر ، عن أبي بكر بن عبيد ، حدثني حاتم بن عبد اللّه الأزدي ، عن الحسن بن محمد الخزاعي ، عن رجل من ولد عثمان ، أن عمر بن عبد العزيز قال في بعض خطبه : إن لكل سفر زادا لا محالة ، فتزوّدوا لسفركم من
“ 86 “
الدنيا إلى الآخرة التقوى ، وكونوا كمن عاين ما أعد اللّه من ثوابه وعقابه ، ترغبوا وترهبوا ، ولا يطولن عليكم الأمد ، فتقسى قلوبكم ، فو اللّه ما بسط أمل من لا يدري ، لعله لا يصبح بعد مسائه ، ولا يمسي بعد صباحه ، ولربما كانت بين ذلك خطفات المنايا ، فكم رأيتم ورأيت من كان في الدنيا مغرورا ؟
وإنما تقرّ عين من وثق بالنجاة من عذاب اللّه ، وإنما يفرح من آمن من أهوال يوم القيامة ، فأما من لا يداوى كلما إلا أصابه جرح من ناحية أخرى ، نعوذ باللّه أن آمركم بما أنهي عنه نفسي ، فتخسر صفقتي ، لقد عنيتم بأمر ، لو عنت به النجوم لانكدرت ، ولو عنت به الجبال لذابت ، ولو عنت به الأرض لانشقّت ، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة ؟ وإنكم صائرون إلى إحداهما .
قال أبو سليم الهذليّ : خطب عمر بن عبد العزيز ، فقال : أما بعد ، فإن اللّه عز وجل لم يخلقكم عبثا ، ولم يدع شيئا من أمركم سدى ، فإن لكم معادا ينزل اللّه فيه الحكم بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة اللّه ، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ، واشترى قليلا بكثير ، وفانيا بباق ، وخوفا بأمن ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ؟
وسيخلفها لكم الباقون ، كذلك حتى نردّ إلى خير الوارثين ، في كل يوم وليلة تشيعون غاديا ورائحا إلى اللّه عز وجل ، قضى نحبه ، وانقضى أجله ، حتى تغيّبوه في صدع من الأرض ، في بطن صدع ، ثم تدعوه غير ممهد ولا موسّد ، قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، مرتهنا بعمله ، فقير إلى ما قدم ، غنيا عما ترك ، فاتقوا اللّه قبل نزول الموت ، وأيم اللّه ، إني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب ما عندي ، وما يبلغني عن أحد منكم حاجة إلا أحببت أن أسدّ من حاجته ما قدرت عليه ، وما يبلغني أن أحدا منكم لا يسعه ما عندي إلا وددت أن يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه ، وأيم اللّه ، لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش ، لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه ، ولكن سبق من اللّه عز وجل كتاب ناطق ، وسنّة عادلة ، دل فيها على طاعته ، ونهى فيها عن معصيته . ثم وضع طرف ردائه على وجهه ، وبكى وشهق ، وبكى الناس ، فكانت آخر خطبة خطبها .
حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن ، عن علي بن محمد بن أبي عمر ، عن محمد بن الحسن ، عن عبد الملك بن بشران ، عن أبي بكر الآجري ، عن الغرياني ، عن عمرو بن علي ، عن سفيان بن خليد الضبي ، عن سالم بن نوح العطار ، عن بشر بن البشري ، قال عمرو بن علي : حججت ، فقيل : إن بمكة بشر بن البشري ، فأتيته ، فسألته ، فحدثني عن بشر بن البشري ، عن أبي سليم الهذلي ، وذكره .
“ 87 “
وحدثنا يونس بن يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن رزق اللّه ، وطراد هو الزبير ، وكلاهما عن علي بن محمد المعدل ، عن الحسن بن صفوان ، عن عبد اللّه بن محمد بن عبيد ، عن أبي محمد العبدي ، عن عبيد اللّه بن محمد القرشي ، عن ابن أبي شميلة ،
قال : دخل رجل على عبد الملك بن مروان ممن كان يوصف بالعقل والأدب ،
فقال له عبد الملك بن مروان : تكلم ، فقال : بما أتكلم وقد علمت أن كل كلام يتكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان للّه . فبكى عبد الملك ، ثم قال : يرحمك اللّه ، لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون .
فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، إن للناس في القيامة جولة لا ينجو من غصص مرارتها ، ومعاينة الردى ، إلا من أرضى اللّه بسخط نفسه .
قال : فبكى عبد الملك ، ثم قال : لا جرم ، لأجعلن هذه الكلمات مثالا نصب عيني ما عشت أبدا .
وروينا من حديث أبي نعيم ، عن أبي بكر بن مالك ، عن عبيد اللّه بن أحمد بن حنبل ، قال : أخبرت ، عن يسار ، عن جعفر ، عن مالك بن دينار ، قال : كنت عند بلال بن أبي بردة ، وهو في قبة له ، فقلت : قد أصبت هذا خاليا ، فأي قصص أقص عليه ؟ فقلت في نفسي : ما له خير من أن أقص عليه ما لقي نظراؤه من الناس ،
فقلت له : أتدري من بنى هذا الذي أنت فيه ؟ قال : بناها عبيد اللّه بن زياد ، فقلت : وبنى البيضاء ، وبنى المسجد ، فولّي ما ولّي ، ثم قتل ، ثم ولّي بشر بن مروان ، فقتله أخوة أمير المؤمنين ، فدفنوه . وذهب بالزنجي ، فمات بالبصرة ، فحملوه . ومات زنجي ، فحمله الزنج . فذهب بأخي أمير المؤمنين ، فدفنوه . ثم جعلت أقص عليه أميرا أميرا ، حتى انتهيت إليه ، فأثّر ذلك فيه ، وبكى بكاء شديدا .
قصة الشعبي والحسن البصري مع عمرو بن هبيرة والي العراق
حدثنا يونس بن يحيى في آخرين ، قال : انا محمد بن ناصر ، انا عبد القادر بن محمد ، ثنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، انا علي بن عبد العزيز ، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ثنا أبو حميد الحمصي ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن عطاء ، عن علقمة بن مرّة ، قال : لما قدم عمرو بن هبيرة العراق ، أرسل إلى الحسن والشعبي ، وأمر لهما ببيت ، فكانا فيه شهرا أو نحوه . ثم إن الخصي غدا عليهما ذات يوم ، فقال : إن الأمير داخل عليكما .
فجاء عمرو متوكئا على عصا له ، فسلّم ، ثم جلس معظما لهما ، فقال : إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك كتب إليّ كتبا أعرف أن في إنفاذها الهلك ، فإن أطعته عصيت اللّه ، وإن عصيته أطعت اللّه ، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجا ؟ فقال الحسن للشعبي : يا أبا عمرو ،
“ 88 “
أجب الأمير . فتكلم الشعبي بكلام يريد به إبقاء وجه عنده . فقال ابن هبيرة : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال : أيها الأمير ، قد قال الشعبي ما قد سمعت به ،
قال : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ قال : أقول : يا عمرو بن هبيرة ، أوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة اللّه ، فظّ ، غليظ ، لا يعصي اللّه ما أمره ، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك .
يا عمرو بن هبيرة ، لا تأمن أن ينظر اللّه إليك على قبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك ، فيغلق به باب المغفرة دونك . يا عمرو بن هبيرة ، لقد أدركت ناسا من صدر هذه الأمة ، كانوا عند هذه الدنيا ، وهي مقبلة ، أشد إدبارا من إقبالكم عليها ، وهي مدبرة .
يا عمرو بن هبيرة ، إني أخوّفك مقاما خوّفكه اللّه عز وجل ، فقال :ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ. يا عمرو بن هبيرة ، إن تكن مع اللّه في طاعته ، كفاك يزيد بن عبد الملك ، وإن تكن مع يزيد على معاصي اللّه ، وكّلك اللّه إليه . فبكى عمرو بن هبيرة ، وقام بعبرته .
فلما كان من الغد ، أرسل إليهما ، فأدناهما وأجازهما ، فأكثر جائزة الحسن ، وأنقص جائزة الشعبي . فخرج الشعبي إلى المسجد ، فقال : أيها الناس ، من استطاع منكم أن يؤثر اللّه على خلقه فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ، ما علم الحسن شيئا منه فجهلته ، ولكني أردت ابن هبيرة ، فأقصاني اللّه منه .
وبلغني أن عمر بن عبد العزيز لما ولّي الخلافة ، أخذ إقطاع أمير كبير كان أقطعه إياها سليمان بن عبد الملك ، والوليد بن عبد الملك ، فلما مات عمر بن عبد العزيز وولّي يزيد بن عبد الملك ، جاء الأمير إليه ،
فقال له : إن أخاك سليمان أمير المؤمنين والوليد أقطعاني شيئا قطعه عني أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه ، فأريد منك أن تردّه عليّ . قال يزيد : لا أفعل . قال : ولم ؟ قال : لأن الحق فيما فعل عمر بن عبد العزيز .
قال : وبم ذلك ؟ قال : لأن أخواي أحسنا إليك وذكرتهما ، وما دعوت لهما ، وعمر بن عبد العزيز أساء إليك وذكرته فترضّيت عنه ، فعلمت أن عمر آثر اللّه على هواه ، وأما سليمان والوليد آثرا هواهما على حق اللّه . فو اللّه لا رأيته مني أبدا . وهذا من أحسن ما يحكى عن الثقات أولات الأمر ا ه . والحمد للّه حق حمده .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin