..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty20/11/2024, 22:49 من طرف Admin

» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 23:30 من طرف Admin

» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 23:25 من طرف Admin

» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 23:20 من طرف Admin

» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 23:08 من طرف Admin

» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 23:03 من طرف Admin

» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 23:01 من طرف Admin

» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 22:57 من طرف Admin

» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 22:55 من طرف Admin

» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 22:41 من طرف Admin

» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 22:34 من طرف Admin

» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 22:23 من طرف Admin

» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 22:21 من طرف Admin

» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 21:50 من طرف Admin

» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty18/11/2024, 21:38 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:06

    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء الأول
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
    [ مقدمة التحقيق ]
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
    ترجمة
    [ 1 ]نسبه
    هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه الحاتمي من ولد عبد اللّه بن حاتم أخي عديّ بن حاتم من قبيلة طيّ مهد النبوغ والتفوق العقلي في جاهليّتها وإسلامها . يكنى أبا بكر ويلقب بمحيي الدين ، ويعرف بالحاتمي وبابن العربي لدى أهل المشرق تفريقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي .مولده ونشأته :
    ولد في يوم الاثنين السابع عشر من رمضان عام خمسمائة وستين هجرية الموافق 28 يولية سنة ألف ومائة وخمس وستين ميلادية في مدينة “ مرسية “ بالأندلس ، وهي مدينة أنشأها المسلمون في عهد بني أمية . وكان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث ، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف . وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها ، فنشأ نشأة تقيّة ورعة نقيّة من جميع الشوائب الشائبة . وهكذا درج محيي الدين في جو عامر بنور التقوى ، فيه سباق حر مشرق نحو الشرفات العليا للإيمان ، وفيه عزمات لرجال أقوياء ينشدون نصرا وفوزا في محاريب الهدى والطاعة .

    وانتقل والده إلى إشبيلية ، وحاكمها إذ ذاك السلطان محمد بن سعد ، وهي عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس ، وفيها شب محيي الدين ودرج . وما كاد لسانه يبين حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء ، فقرأ عليه القرآن الكريم بالسبع في كتاب “ الكافي “ ، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان مبرزا في القراءات ملهما في المعاني والإشارات . ثم أسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه ، يذكرهم لنا الإمام شمس الدين بن مسدي في روايته عن محيي الدين فيقول واصفا متحدثا عن أساتذته الأول : “ كان جميل الجملة والتفصيل ، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل ، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق ، والتقدم الذي لا يسبق ، سمع في بلاده في شبابه الباكر من ابن زرقون ، والحافظ ابن الجد ، وأبي الوليد الحضرمي ، والشيخ أبي الحسن بن نصر “ .
    .................................................
    [ 1 ] . مقتبسة من بحث للدكتور محمد غلاب بعنوان “ المعرفة عند محيي الدين بن عربي “ ضمن “ الكتاب التذكاري لمحيي الدين بن عربي في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده “ الصادر عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1969 م .

    “ 4 “

    ثم لا يذكر لنا التاريخ بعد ذلك شيئا ذا بال عن شباب محيي الدين ، ولا عن شيوخه ، ومقدار ما حصل من العلوم والفنون ؛ وإنما هو يحدثنا أنه مرض في شبابه مرضا شديدا .

    وفي أثناء شدة الحمى رأى في المنام أنه محوط بعدد ضخم من قوى الشر ، مسلحين يريدون الفتك به . وبغتة رأى شخصا جميلا قويا مشرق الوجه ، حمل على هذه الأرواح الشريرة ففرّقها شذر مذر ، ولم يبق منها أي أثر ، فيسأله محيي الدين من أنت ؟ فقال له أنا سورة يس .

    وعلى أثر هذا استيقظ فرأى والده جالسا إلى وسادته يتلو عند رأسه سورة يس . ثم لم يلبث أن برئ من مرضه ، وألقي في روعه أنه معدّ للحياة الروحية ، وآمن بوجوب سيره فيها إلى نهايتها ففعل .

    وفي طليعة هذا الشباب المزهر بفضل ثروة أسرته تزوج بفتاة تعتبر مثالا في الكمال الروحي والجمال الظاهري وحسن الخلق ، فساهمت معه في تصفية حياته الروحية ، بل كانت أحد دوافعه إلى الإمعان فيها .

    وفي هذه الأثناء كان يتردد على إحدى مدارس الأندلس التي تعلم سرا مذهب الأمبيذوقلية المحدثة المفعمة بالرموز والتأويلات الموروثة عن الفيثاغورية والأورفيوسية والفطرية الهندية . وكانت هذه المدرسة هي الوحيدة التي تدرس لتلاميذها المبادئ الخفية والتعاليم الرمزية منذ عهد ابن مسرة المتوفى بقرطبة في سنة 319 هـ - 931 م والذي لم يعرف المستشرقون مؤلفاته إلّا عن طريق محيي الدين . وكان أشهر أساتذة تلك المدرسة في ذلك القرن ابن العريف المتوفى في سنة 1141 م فلم يره محيي الدين ، ولكنه تتلمذ على منتجاته وعلى رواية تلميذه المباشر وصديق محيي الدين الوفي أبي عبد اللّه الغزال .

    ومما لا ريب فيه أن استعداده الفطري ونشأته في هذه البيئة التقية ، واختلافه إلى تلك المدرسة الرمزية ، كل ذلك قد تضافر على إبراز هذه الناحية الروحية عنده في سن مبكرة وعلى صورة ناصعة لا تتيسر للكثيرين ممن تشوب حياتهم الأولى شوائب الغرائز والنزوات . فلم يكد يختم الحلقة الثانية من عمره حتى كان قد انغمس في أنوار الكشف والإلهام ، ولم يشارف العشرين حتى أعلن أنه جعل يسير في الطريق الروحاني بخطوات واسعة ثابتة ، وأنه بدأ يطلع على أسرار الحياة الصوفية ، وأن عددا من الخفايا الكونية قد تكشف أمامه ، وأن حياته منذ ذلك العهد المبكر لم تعد سوى سلسلة من البحث المتواصل عما يحقق الكمال لتلك الاستعدادات الفطرية التي تنير أضواؤها جوانب عقله وقلبه . ولم يزل عاكفا على ذلك النشاط الروحاني حتى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار . ولم تكن آماله في التغلغل إلى تلك الأسرار وبحوثه عن وسائلها الضرورية تقف عند حد ، لأنه أيقن منذ نعومة أظفاره بأنه مؤمن بمبادئ عقيدة حقيقية أزلية مرت بجميع الأزمان الكونية ، وطافت بكل الأجناس البشرية متممة ما فيها من نقص وقصور ، وأنها جمعت كل الروحانيات في الوحدة الفطرية التي تتمثل من حين إلى آخر في صور تنسكية رفيعة تبدو

    “ 5 “
    على مسرح الإنسانية ردحا من الزمن ثم تختفي ، ولا يدرك حقيقتها إلا القليلون .

    وأكثر من ذلك أنه حين كان لا يزال في قرطبة قد تكشف له من أقطاب العصور البائدة عدد من حكماء الهند وفارس والإغريق كفيثاغورس ، وأمبيذوقليس ، وأفلاطون ومن إليهم ممن ألقيت على كواهلهم مسؤولية القطبية الروحية في عصورهم المتعاقبة قبل ظهور الإسلام . وهذا هو السبب في أنه قد شغف بأن يطلع على جميع الدرجات التنسكية في كل الأديان والمذاهب عن طريق أرواح رجالها الحقيقيين بهيئة مباشرة ، وبصورة مؤسسة على الشرف العلمي الذي يحمل الباحث النزيه على الاعتماد عليه دون أدنى تردد أو ارتياب .

    غير أن هذه السكينة الروحانية التي بدأت لدى هذا الشاب مبكرة والتي كانت ثمارها فيما بعد تتمثل في تلك المعرفة التي أشرنا إليها آنفا ، لم تدم طويلا على حالة واحدة ، إذ أنه لم يلبث أن تبين أول الأمر بالإلهام ، ثم عن طريق الكشف الجلي أنه لم يعد له بدّ - في تلك البيئة المغربية إذ ذاك - من أحد أمرين : إما أن يجاري التيار العام الذي كان يحدق به إحداق السوار بالمعصم ، وهو أن يتقيد في جميع أفكاره وتعقلاته وأحاسيسه ومشاعره وحركاته وسكناته بحرفية الدين التي لا روح فيها ولا حياة ولا سرّ ولا رمز ولا تأويل وبهذا تختفي شخصيته الحقيقية وتفشل رسالته الطبيعية ، وهذا شيء لا يستطيعه بأي حال ، وإما أن يسير على فطرته وحسب تكوين عقله وقلبه فيصطدم في كل خطوة من خطواته مع أهل الحل والعقد في البلاد . وقد حدث ذلك فعلا حيث احتدمت بينه وبين بعض الأمراء الموحدين مجادلات عنيفة ، وحيكت حوله دسائس قوية اتهمته بإحداث اضطراب في سياسة الدولة .

    وإذ ذاك رأى في حالة اليقظة أنه أمام العرش الإلهي المحمول على أعمدة من لهب متفجر ، ورأى طائرا جميلا بديع الصنع يحلق حول العرش ويصدر إليه الأمر بأن يرتحل إلى الشرق وينبئه بأنه سيكون هو مرشده السماوي ، وبأن رفيقا من البشر يدعى فلانا ينتظره في مدينة فاس ، وأن هذا الأخير قد أمر هو أيضا بهذه الرحلة إلى الشرق ، ولكنه يجب ألا يرتحل قبل أن يجيء إليه رفيق من الأندلس ، فيفعل ما أمر به ويرتحل بصحبة هذا الرفيق .

    وفيما بين سنتي 597 ، 620 هـ - 1200 ، 1223 م يبدأ رحلاته الطويلة المتعددة إلى بلاد الشرق فيتجه في سنة 1201 م إلى مكة فيستقبله فيها شيخ إيراني وقور جليل عريق المتحد ممتاز في العقل والعلم والخلق والصلاح . وفي هذه الأسرة التقية يلتقي بفتاة تدعى “ نظاما “ وهي ابنة ذلك الشيخ ، وقد حبتها السماء بنصيب موفور من المحاسن الجسميّة ، والميزات الروحانية الفائقة ، فاتخذ منها محيي الدين رمزا ظاهريا للحكمة الخالدة ، وأنشأ في تصوير هذه الرموز قصائد سجلها في ديوان ألفه في ذلك الحين .
    وفي هذه البيئة النقية المختارة له من قبل سطعت مواهبه العقلية والروحية ، وتركزت


    “ 6 “
    حياته الصوفية ، وجعلت تصعد في معارج القدس شيئا فشيئا حتى بلغت شأوا عظيما .
    ومن ذلك أنه في إحدى طوفاته التأملية والبدنيّة بالكعبة يلتقي من جديد بمرشده السماوي الذي أمره سالفا بالهجرة من الأندلس والمغرب إلى الأصقاع الشرقية ، فيتلقى منه الأمر أيضا بتأليف كتابه الجامع الخالد « الفتوحات المكية » الذي ضمنه أكثر وأهم آرائه الصوفية والعقلية ومبادئه الروحية ، والذي لا يتطاول إلى قمته في عصره أي كتاب آخر فيما نعلم من إنتاج هذا الصنف من المتنسكين .
    وفي سنة 1204 م يرتحل إلى الموصل حيث تجتذبه تعاليم الصوفي الكبير علي بن عبد اللّه بن جامع الذي تلقى لبس الخرقة عن الخضر مباشرة ، ثم ألبس محيي الدين إياها بدوره .

    وفي سنة 1206 م نلتقي به في القاهرة مع فريق من الصوفية الذين يطبقون حياة تنسكية قوية محافظة . وهنا يظهر له رائد سماوي يأمره بإدخال شيء من الكمال على مذهبه ، ولكنه لا يكاد يفعل حتى يتنمر له عدد من الفقهاء يحيكون حوله وحول أصحابه شباكا من الدسائس تهدّد اطمئنانهم بل حياتهم ، ولولا نفوذ أحد أصدقائه لوقع في ذلك الخطر ، ولكنه لحسن حظه يستطيع أن ينجو بنفسه ويفر إلى مكة في سنة 1207 م فيلتقي فيها بأصدقائه القدماء الأوفياء ، ويقيم بينهم في هدوء وسكينة نحو ثلاثة أعوام ، ثم يرتحل إلى قونية بتركيا حيث يتلقاه أميرها السلجوقي باحتفال بهيج .
    وهناك يتزوج بوالدة صدر الدين القونيوي ، وهو أحد تلاميذه المفضلين ثم لا يلبث أن يرتحل إلى أرمينيا ، ومنها إلى شاطئ الفرات .
    وفي سنة 1211 م نلتقي به في بغداد حيث يتصل بالصوفي المعروف شهاب الدين عمر السهروردي .
    وفي سنة 1214 م يعود إلى مكة ولا يكاد يستقر فيها حتى يجد أن عددا من فقهائها المنافقين الدساسين قد جعلوا يشوهون سمعته ويرمونه بأن قصائده التي نشرها في ديوانه الرمزي منذ ثلاثة عشر عاما كانت تصور غرامه المادي الواقعي بالفتاة « نظام » ابنة صديقه الشيخ الإيراني التي أشرنا آنفا إلى أنه اتخذ منها رمزا نقيا للحكمة الخالدة . وعندما تبيّن هذه التهمة الرخيصة وعرف مصادرها الحقيقية حمل عليها وعلى واضعيها حملة قوية كشفت زيفها للجميع بصورة جعلت القائمين بها يعترفون بأخطائهم ويعتذرون إليه عنها .
    وبعد ذلك يرتحل إلى حلب فيقيم بها ردحا من الزمن معززا مكرما من أميرها .
    وأخيرا يلقي عصا التسيار في دمشق في سنة 1223 م حيث كان أميرها أحد تلاميذه المؤمنين بعلمه ونقائه ويظل بها يؤلف ويعلم ، ويخرج التلاميذ والمريدين يحوطه الهدوء وتحف به السكينة حتى يتوفى بها في 28 ربيع الثاني من سنة 638 ه - الموافق 16 نوفمبر من سنة 1240 م .

    “ 7 “
    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *
    [ مقدمة المؤلف ]
    الحمد للّه الذي أطلع شمس الفوائد في محاضرة الأبرار ، وجعل نظام القلائد في مسامرة الأخيار ، وأودع الفرائد في مجاورة الأحرار ، وأوضح الحكم في مجارات الحكماء ، وأبان جوامع الكلم في مبارات العلماء ، وضمن الأسرار في مطارحة الأحبّاء ، وأرسل الأرواح في مخادنة الأودّاء ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم .

    أما بعد ، فإني أودعت في هذا الكتاب الذي سمّيته محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ، ضروبا من الآداب وفنونا من المواعظ والأمثال والحكايات النادرة ، والأخبار السائرة ، وسير الأولين من الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم والأمم ، وأخبار ملوك العرب والعجم ، ومكارم الأخلاق ، وعجائب الاتفاق ، وما رويناه من الأحاديث النبوية في ابتداء هذا الأمر وإنشاء العالم وترتيبه وما أودع اللّه من عجائب الصنع وبديع الحكمة ، وسردت فيه نبذا من الإنسان وفنونا من مكارم ذوي الأحساب ، وحكايات مضحكة مسلّية ما لم تكن للدّين مفسدة مما تستريح النفوس إليها عند إيرادها مما لا أجر فيه ولا وزر .

    ونزّهت كتابي هذا عن كل هجاء ومثلبة ، وضمّنته كل ثناء ومنقبة ، وإذا كانت الحكاية المضحكة في رجل معتبر مشهور من أهل الدين أو العلم لهفوة صدرت منه ضحك لها الحاضرون ، أو فعلة بدت منهم من غير قصد منه إليها فأذكرها لما فيها من الراحة للنفس ، ولا أسمّي الشخص الذي ظهر عليه ذلك حتى تتوفر حرمته ، ولا تزدري لقدره من بعد شهرته وتعظيمه .

    وكذلك سكتّ في كتابي هذا عما شجر بين الصحابة رضي اللّه عنهم ، لما يتطرق للنفوس من الترجيح والتجريح ، وغاية ما أذكر لضرورة ثناء ومنقبة ومحمدة ومثلبة ، يتخللها شيء من ذكر مثالب أقوال فيها فأسمعه ما يكره ، ولا أذكر ما قال حتى لا أذكر الغيبة ، ولا أفوه بما فيه ريبة .

    “ 8 “
    فمدار هذا الكتاب على هذا الفن وما شاكله ، وفيه أقول محاضرة الأبرار خير كتاب ، لبّ اللباب ، ونزهة الألباب ، جمعت فنون حقائق ودقائق ، ولطائف من نزهة الآداب ، وعوارف وخلائف ، ومكارم تعزى لقوم من ذوي الأحساب ، وعجائب ومواعظ فيها ، وقد ضمّنتها نبذا من الأنساب .

    شعر :
    عذراء قد كشف البيان قناعها * كالبدر أسفر من قناع سحاب

    فصل
    فيما ذكره الناس في شرف مجالسة الكتب دون الناس ، وما في ذلك من السلامة في الدين ، أنشد أبو الحسن بن جابر الزيّات :
    كتاب اللّه أصدق كل قيل * رواه المصطفى عن جبرائيل
    عن اللوح المحيط بكل شيء * عن القلم الرفيع عن الجليل
    قال بعضهم : الكتاب نعم الذخر والعقدة ، والجليس والعمدة ، ونعم النشرة والنزهة ، ونعم المشتغل والحرفة ، ونعم الأنيس بساعة الوحدة ، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ، ونعم القربة والدخيل ، ونعم الوزير والنزيل .

    شعر :

    احضر بنفسك في مجارات الهوى * واحضر بقلبك في مبارات النهى
    وانثر من العلم النفيس نفائسا * من لؤلؤ التوحيد من سلك النّها
    وأبرز لنا من خلف أردية الصّبا * رعبوبة من دون أخمصها السّها
    لو أنها برزت لأشمط راهب * فات العباد عبادة لو أنّها
    ودعته تطلب منه ما خلقت له * متذكرا نهي المسيح لما انتهى
    طوعا وكرها ما يجاب لأنها * تدعو فتسمع بالأسنّة والنّهى
    فاعكف على هذا الكتاب مقدسا * للّه جلّ ثناؤه ومنزّها
    وانظر بعقلك فيه نظرة ناصح * فطن تجده مذكّرا ومنبّها
    وانثر عليه لآلئا من عقده * يعصمه ذاك النثر أن يتألّها
    وإذا رأيت مشمّرا في سيره * حكم الوني في عزمه فتولّها
    قال بعضهم : الكتاب وعاء ملآن علما وظرفا حشي ظرفا ، وإناء حشي مزاحا ، إن

    “ 9 “

    شئت كان أعيا بأقل ، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل ، وإن شئت سردت نوادره ، وشجتك مواعظه .
    ومما حدّثني فيما يرجع في قول الشعر إليه شيخنا أبو عبد اللّه محمد بن سعيد عن شيخه أبي محمد بن عبد اللّه بن عبدون الكاتب قال : حملني أبي إلى الأستاذ لأنظر عليه شيئا من كتب الأدب ، وكنت قد بدأت قول الشعر قليلا قال : فأراد الأستاذ امتحاني في ذلك ، وتعرض لتقبيح الشعر ، فقال لي : يا ولدي ، بلغني أنك تكتب على صغرك ، فقلت :
    هو كما قيل لك ، فقال : أجز الشعر خطة خسف ، فقلت : لكل طالب عرف للشيخ عيبة عيب ، وللفتى طرف ظرف ، فاستحسنه الشيخ .
    حدّثني أبو جعفر بن يحيى بقرطبة قال عبد اللّه بن عبد العزيز بن عبد اللّه ابن سيدي عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، وقد سأله بعض أصحابه ، وكان لا يجالس الناس ولا يرى إلا وفي يده كتاب ، فقال في ذلك : لم أر آنس من كتاب ، ولا أسلم من الوحدة .
    وقال بعضهم : ما رأيت بستانا يحمل في ردن ، وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ، ويترجم عن الأحياء ، من الكتاب لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ، ولا ينطق إلا بما تهوى ، آمن من الأرض ، وأكتم للسر من صاحب السر ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة ، ولا أعلم جارا أبرّ ، ولا خليطا أنصف ، ولا رفيقا أطوع ، ولا معلّم أخضع ، ولا صاحب أظهر كفاية وعناية ، ولا أقل إبراما وإملالا ، ولا أبعد من مرا ، ولا أترك لشعب ، ولا أزهد في جدال ولا أكفّ عن قتال من كتاب .
    ودخلت على بعض من مشايخي وقد جلس في حضيره من كتبه وقال : إذا أردت محادثة الحق أحدّث المصحف ، فلا أزال أناجيه ويناجيني ، وإذا أردت محادثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أخذت كتاب حديث وكذلك كل من أردت مناجاته من الأولين والآخرين ، ثم إني أجالس من لا ينم بمجلسي ولا ينقل حديثي ، ثم أنشدني لبعضهم :
    لنا جلساء لا نملّ حديثهم * ألبّاء مأمومون غيبا ومشهدا
    إذا ما خلونا كان خير حديثهم * معينا على نفي الهموم مؤيّدا
    يفيدوننا من عندهم علم من مضى * وعقلا وتأديبا ورأيا مسدّدا
    فلا ريبة تخشى ولا سوء عشرة * ولا تتقي منهم لسانا ولا يدا
    فإن قلت أمواتا فلست بكاذب * وإن قلت أحياء فلست مقيدا
    وقال لي بعض الأدباء : قال مصعب بن الزبير : إن الناس يتحرفون بأحسن ما يحفظون ، ويحفظون أحسن ما يكتبون ، ويكتبون أحسن ما يسمعون ، فإذا أخذت الأدب

    “ 10 “
    فخذه من أفواه الرجال فإنك لا تسمع إلا مختارا ، ولؤلؤا منثورا .
    ولنا فيه شعر :
    سميري لا ينام ولا ينمّ * حفيظ للذي يلقى كتوم
    وأهدى بعض الكتّاب إلى صديق له دفترا وكتب إليه : هديتي هذه أعزك اللّه ، تزكو على الإنفاق ، وتربو على الكد ، لا يفسدها العوا ، ولا يخلقها كثرة التقليب ، وهي أنس في الليل والنهار ، والسفر والحضر ، تصلح للدنيا والآخرة ، وتؤنس في الخلوة ، وتمنع في الوحدة ، مسامر مساعد ، ومحدّث مطاوع ، ونديم صديق .

    قال الجاحظ : لا أعلم ما جاء في حداثة سنّه ، ولا قرب ميلاده ، ورخص ثمنه ، وإمكان وجوده يجمع بين السّير العجيبة ، والعلوم الغريبة ، ومن آثار العقول الصحيحة ، ومحمود الأذهان اللطيفة ، ومن الحكم الرفيعة ، والمذاهب القديمة ، والتجارب الحكيمة ، والأخبار عن القرون الماضية ، والبلاد النازحة ، والأمثال السائرة ، والأمم البائدة ما تجمعه كتاب ، ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غبّا ، وورده جما ، وإن شئت لزمك لزوم الظل ، وكان منك كمكان بعضك .

    شعر :
    أما لو أعي كلما أسمع * وأحفظ من ذاك ما أجمع
    ولم أستفد غير ما قد جمع * ت لقيل هو العالم المصقع
    ولكنّ نفسي إلى كلّ عالم * من العلم تسمعه فتنزع
    فلا أنا أحفظ ما قد جمع * ت ولا أنا من جمعه أشبع
    ومن يك في علمه هكذا * يكن دهره القهقرى يرجع
    يضيع من المال ما قد جمع * ت وعلمك في الكتب مستودع
    إذا لم تكن حافظا واعيا * فجمعك للكتب لا ينفع
    قال الزهري : إذا سمعت أدبا فاكتبه ولو في حائط . وقال لقمان لابنه : يا بنيّ ، نافس في طلب العلم ، فإنه ميراث غير مسلوب ، وقرين غير مغلوب .
    ورأيت شيخنا أبا عبد اللّه بن القسوم المالكيّ الصالح العالم ، وهو على كبر سنه يشتري ورقا ، فسألته عن ذلك مع شغله بالعبادة ؟ فقال لي : أوصاني شيخي أبو عبد اللّه بن المجاهد فقال لي : إن استطعت أن لا تموت إلا وأنت طالب تكتب العلم والأدب فافعل .
    وروينا مثل ذلك عن المأمون قال له منصور بن المهدي : أيحسن بنا طلب العلم


    “ 11 “
    والأدب ؟ قال : واللّه لأن أموت طالبا للعلم أخيرا من أن أعيش قانعا بالجهل . قال : وإلى متى يحسن بي ذلك ؟ قال : ما حسنت الحياة بك . وأنشدني أبو عبد اللّه بن عبد الرحمن في ذلك :
    كتابي فيه بستاني وراحي * ومنه سمير نفسي والنديم
    يسالمني وكلّ الناس حرب * ويسلّيني إذا عرت الهموم
    ويحيي لي تصفح صفحتيه * كرام الناس إذ فقد الكريم
    إذا عوج عليّ طريق أمري * فلي فيه طريق مستقيم

    وكلّما سطّرته في كتابي هذا فمنه ما شاهدته ، أو حدثني من شاهده ، ومنه ما نقلته من كتب مشهورة رويتها سماعا أو قراءة ، أو مداولة ، أو كتابة ، مثل كتاب : الامتناع والمؤانسة ، للفاضل الأديب النحرير أبي حيان التوحيدي رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب المجالسة ، لأحمد بن مروان المالكي الدينوري رحمه اللّه تعالى . وكتاب بهجة الأسرار ، للإمام ابن جهضم رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب مناقب الأبرار ، للإمام تاج الإسلام أبي عبد اللّه الحسين بن نصر بن محمد بن خميس رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب المبتدأ ، لإسحاق بن بشر القرشي رحمه اللّه تعالى . وكتاب حلية الأولياء ، لأبي نعيم أحمد بن عبد اللّه الحافظ رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب دلائل النبوة ، لأبي بكر أحمد بن عبد اللّه رحمه اللّه تعالى . وكتاب السيرة ، للشيخ الإمام الحافظ محمد بن إسحاق المطّلبي رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب السيرة ، للإمام أبي عبد اللّه محمد بن عبد الملك بن هشام رحمه اللّه تعالى .

    وكتاب صفوة الصفوة ، للإمام الحافظ الواعظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزيّ رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب مسند الشهاب ، للإمام الفاضل محمد بن سلامة القضاعيّ رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب مقامات الأولياء ، للإمام أبي عبد الرحمن السلميّ الصوفي رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب الرسالة الصوفية ، للإمام الصوفي المذكور عبد الكريم ، من هوازن القشيريّ رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب مثير الغرام الساكن ، لأبي الفرح عبد الرحمن بن عليّ بن محمد الجوزي رحمه اللّه تعالى .


    “ 12 “

    وكتاب المسند ، للأزرقي في مكة ، لأبي الوليد محمد بن عبد اللّه بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو القضاعي الأزرقي رحمه اللّه تعالى . وكتاب المسند الكبير ، للإمام الحافظ أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه .
    وكتاب السنن ، للإمام أبي داود سليمان بن أشعب السجستاني . وكتاب الترمذي ، لأبي عيسى محمد بن عيسى الحافظ . وكتاب الصحيح ، للإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيريّ . وكتاب للإمام أبي عبد اللّه محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب العزلة ، لأبي سليمان أحمد بن إبراهيم بن الخطّاب الخطابي . وكتاب طبقات الصوفية ، للشيخ الإمام العارف أبي عبد الرحمن السلمي وكتاب شرح السنّة ، للإمام سيدي أبي محمد الحسين بن محمد البغوي رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب مسند الإمام عبد اللّه بن حميد محمد بن إسماعيل البخاري رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب ريحانة العاشق ، للأديب الجليل أبي القاسم المسور . وكتاب الأمالي ، لأبي المعالي البغدادي نزيل قرطبة .
    وكتاب روضة الأنس ، لشيخنا الضرير أبي زيد السهيلي المالكي الإمام رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب الكامل ، للأديب اللغوي أبي العباس المبرّد رحمه اللّه تعالى . وكتاب زهرة الأدب ، للحضري رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب المحاسن والأضداد ، لأبي عثمان عمرو بن عمر الجاحظ رحمه اللّه تعالى .
    وكتاب معاناة العقل ، للمهذب ثابت بن عنيني الحلوي قرأه علينا بالموصل . وكتاب الحماسة ، لأبي تمام . والحماسة الحلوية ، وهي من مؤلفها وقرأه علينا .
    وكتاب النور ، للأديب الفاضل . وكتاب درجات التائبين ومقامات القاصدين ، للهرويّ . وكتاب الفردوس ، لأبي شجاع سبرويه بن شهرويه الهمداني الديلمي رحمه اللّه تعالى . وكتاب اللمعة لأبي عبد اللّه محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التهمي الفاسي ، سمعناه منه .
    إلى غير ذلك من الكتب المشهورة ، والكراريس ، والمفاريد ، والأجزاء الغريبة ، التي لا تحصى كثرة ، وجعلته مجالس .

    “ 13 “
    وقد قدّمت في صدر هذا الكتاب أسانيد إلى الذين أقول عنهم ، وروينا من حديث فلان متصلا وقد أسوق إسناد ذلك المذكور إلى الخبر وقد لا أسوقه على حسب ما يتفق ، وأودعته أيضا مما لنا من منظوم في فنون مختلفة من أدب ونسيب ، ومعرفة وحكمة ، ومفاخرة بحسب وحماسة ، وغير ذلك مما تقف عليه إن شاء اللّه تعالى ، واللّه أعلم وبه أستعين .ذكر الأسانيد المتصلة إلى الدين

    أقول فيهم : روينا عن فلان . فمن ذلك إذا قلت : روينا من حديث ابن إسحاق ، فهو ما حدثنا محمد بن موسى القرطي عن المبارك بن علي بن الحسين ، عن أبي القاسم هبة اللّه بن أحمد بن عمر ، عن محمد بن علي العشاريّ ، عن أحمد بن محمد بن أبي موسى بن إبراهيم العمد ، عن محمد بن عبد اللّه بن أحمد ، عن أحمد بن محمد بن الوليد ، عن سعد بن سالم ، عن عثمان بن ساج ، عن محمد بن إسحاق المطلبي .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن الأشعث ، فهو ما حدّثناه نصر بن أبي الفرج بن علي الحضري ، عن أبي جعفر محمد بن عليّ بن محمد بن أحمد التلمساني ، عن أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ، عن أبي عمرو القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي البصري ، عن أبي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي ، عن أبي داود بن الأشعث .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن هشام ، فهو ما حدّثنا به عبد الواحد بن إسماعيل ، عن أبي حفص عمر بن عبد الحميد بن عمر بن الحسين بن عمر بن أحمد القرشي الدارمي ، ثم الرياشي إجازة ، قال : حدثنا أبو محمد عبد المعطي بن المسافر بالإسكندرية قال : ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبّال ، ابنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر النحاس ، ابنا عبد اللّه بن جعفر بن الورديّ ، عن أبي محمد بن عبد الرحيم بن عبد اللّه البرقيّ ، عن ابن محمد عبد الملك بن هشام .

    وإذا قلت : روينا من حديث مروان فهو ما حدثنا به عبد الرحمن بن علي قال : ثنا عبد الوهاب بن جعفر بن أحمد بن عبد العزيز بن الحسين الضراب ، عن أبيه عن أحمد بن مروان .
    وإذا قلت : روينا من حديث المالكي ، فهو ما ثنا به أبو بكر بن أبي الفتح السجستاني ، عن محمد بن أحمد بن حمدان ، عن أبي الحسين عليّ بن الحسين بن عمر

    “ 14 “

    الموصلي الفرّا ، عن عبد العزيز بن الحسين بن إسماعيل بن محمد الضرّاب ، عن أبيه ، عن أحمد بن مروان المالكي .
    وإذا قلت : روينا من حديث عبد الملك ، فهو ما حدثنا به القاضي أبو عبد اللّه محمد بن زرقون ، عن سفيان بن العاص ، عن أبي الوليد بن سعيد الكتاني الوقسي أبي عمر بن أحمد بن محمد الطلمنكي ، عن ابن عون اللّه عن أبي الورد ، عن البرقي ، عن عبد الملك بن هشام .
    وإذا قلت : روينا من حديث الدينوري ، فهو ما ثنا به يونس بن يحيى ، عن أبي بكر محمد بن أبي منصور ، عن أبي ظاهر بن الصقر ، عن هبة اللّه بن إبراهيم الصرف ، عن الحسن بن إسماعيل الضراب ، عن أحمد بن مروان المالكي الدينوري .

    وإذا قلت : روينا من حديث إسحاق بن بشر ، فهو ما ثنا به عبد الواحد بن إسماعيل عن عمر بن عبد الحميد ، عن أبي الماضي عطية بن علي الفهري ، عن أبي عبد اللّه محمد بن أحمد الرازي ، عن أبي عبد اللّه الحسن بن يحيى بن عبد الرحمن التميميّ الحكّاك ، عن أبي القاسم عبيد اللّه بن محمد بن أحمد بن جعفر السقطي ، عن أبي بكر أحمد بن السندي بن الحسن الحداد ، عن أبي محمد الحسن بن علوية القطّان ، عن إسماعيل بن عيسى القطاطر ، عن إسحاق بن بشر القرشي .

    وإذا قلت : روينا عن أبي نعيم ، فهو ما ثنا به أحمد بن محمد بن أحمد ، عن القاشاني ، عن أبي نعيم .
    وإذا قلت : روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه ، فهو ما ثنا به محمد بن أبي الفتح السحري ، عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري ، عن سعد الخير محمد بن سهل ، عن أبي سعد بن محمد بن محمد بن محمد المطرز ، عن أحمد بن عبد اللّه .

    وإذا قلت : روينا من حديث القشيريّ ، فهو ما ثنا به محمد بن محمد بن محمد ، عن أبي سعد هبة اللّه بن عبد الواحد بن عبد الكريم ، عن جده عبد الكريم بن هوازن القشيري .
    وإذا قلت : روينا من حديث السلمي ، فهو ما ثنا به أحمد بن محمد ، عن محمد بن الفضل الثقفيّ ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، وممّا ثنا به أيضا أحمد بن أبي منصور ، عن أبي سعد محمد بن أبي بكر يعرف بخيّاط الصوفي ، عن أبي بكر علي بن خلف ، عن أبي عبد الرحمن السلمي .


    “ 15 “

    وإذا قلت : روينا من حديث مسلم ، فهو ما ثنا به جمال الدين الخراساني بمقصورة الخضر ، بغربي جامع دمشق ، عن محمد بن الفضل الغراوي ، عن عبد الغافر الفارسي ، عن محمد بن عيسى بن عمر بن الجلوديّ ، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان المروزيّ ، عن مسلم بن الحجاج القشيري .
    وإذا قلت : روينا من حديث أحمد بن الحسين ، فهو ما ثنا به أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف الطالقاني القزويني ، عن محمد بن الفضل الغراوي عن أحمد بن الحسين البيهقي .
    وإذا قلت : روينا من حديث أبي بكر أحمد بن الحسين ، فهو ما ثنا به ناصر بن عبد اللّه بن عبد الرحمن العطار بمكة ، عن مبارك بن علي بن الحسين الطبّاخ ، عن أبي عبد اللّه بن الحسين بن محمد بن الحسين ، عن جده أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن باكويه ، فهو ما حدثنا به عبد الرحمن عن أبي بكر الصوفي ، عن أبي سعيد الخدريّ ، عن ابن باكويه الشيرازي .
    وإذا قلت : روينا من حديث الترمذي ، فهو ما ثنا به المكين بن شجاع الزاهد بن رستم الأصفهاني البزار بمكة ، عن الكرخي ، عن العزرجي ، عن المحبوبي ، عن أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي .

    وإذا قلت : روينا من حديث البخاري ، فهو ما ثنا به عبد الجليل الشريحاني ويونس بن يحيى في آخرين ، عن أبي الوقت ، عن الداووي ، عن الحموي ، عن الغريري ، عن محمد بن إسماعيل البخاري .
    وإذا قلت : روينا من حديث القضاعي ، فهو ما ثناه كتابة ، أبو القاسم هبة اللّه بن علي بن مسعود الأنصاري سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ، عن أبي عبد اللّه محمد بن بركات بن هلال السعيدي القضاعي محمد بن سلام .
    وإذا قلت : روينا من حديث محمد بن سلامة ، فهو ما ثنا به محمد بن يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن أبي عبد اللّه الحميدي ، عن محمد بن سلامة ، وهو القضاعي .
    وإذا قلت : روينا من حديث الحميدي ، فهو ما ثنا به أبو الثناء محمود بن المظفّر ، عن محمد بن نصر بن خميس ، عن أبي عبد اللّه الحميدي .
    وإذا قلت : روينا من حديث أبي داود ، فهو ما ثنا به أحمد بن منصور عن ابن طالب محمد بن عبد الرحمن ، عن الحاكم بن الحسين أحمد بن عبد الرحيم ، عن الحسن بن


    “ 16 “

    عليّ السمرقندي ، عن ابن داسته ، عن أبي داود بن الأشعث السجستاني .
    وإذا قلت : روينا من حديث أحمد بن حنبل ، فهو ما ثنا به عبد الرحمن بن عليّ في آخرين ، عن هبة اللّه بن محمد ، عن الحسن بن عليّ بن أبي بكر بن مالك ، عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه حنبل .
    وإذا قلت : روينا من حديث الخطابي ، فهو ما ثناه البرهان إسماعيل بن يوسف الأنصاري ، ثم الأبري من بلاد الأندلس ، عن محمد بن أبي المعالي عبد اللّه بن موهوب بن جامع ، عن عبدون البغدادي الصوفي يعرف بابن نبا ، عن ياسر عبد الوهاب بن هبة اللّه بن أبي حية ، عن أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي ، عن القاسم إسماعيل بن مسعد الإسماعيلي الجرجاني ، عن أبي عمر محمد بن عبد اللّه الزنجاني ، عن أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي .

    وإذا قلت : روينا من حديث ابن جهظب ما كتب به الثناء عبد الرحمن بن علي بن محمد بن عمر بن ظفر ، عن جعفر بن أحمد عبد العزيز بن علي ، عن أبي الحسن بن جهظب الصوفي .
    وإذا قلت : روينا من حديث أبي الوليد ، فهو ما ثنا به ناصر بن عبد اللّه بن عبد الرحمن العطار ، عن محمد بن أبي بكر الطوسي ، عن عبد الرحمن بن ديلم النسائي ، وعبد الرحمن بن علي الطبري ، عن الحسن بن خلف الشامي ، عن أبيه عن الحسن بن أحمد أبي فراس ، عن محمد بن نافع الخزاعي ، وأبي بكر بن عبد المؤمن ، عن إسحاق بن محمد الخزاعي ، عن أبي الوليد محمد بن عبد اللّه بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو ، والغاني .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، فهو ما ثنا يونس بن يحيى ، عن يحيى بن إبراهيم الثلاماسي ، عن أبيه ، عن أبي نصر أحمد بن محمد القاري ، عن أبي بكر بن عبد اللّه البزار ، عن أبي جعفر بن عبد اللّه بن إسماعيل الهاشمي ، عن ابن أبي الدنيا .
    وإذا قلت : روينا من حديث أبي عبد اللّه ، فهو ما ثنا به محمد بن محمد بن محمد ، عن أبي الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد بن عبد الكريم بن هوازن ، عن عبد الرحمن السلمي .
    وإذا قلت : روينا من حديث محمد بن إسماعيل ، فهو ما ثناه عن بشاه بن محمد بن أبي المعالي كتابة ، عن محمد بن عمر الصيدلاني ، عن الغراوي ، عن الجباري ، والحفصي الكشمهيني ، عن محمد بن إسماعيل البخاري .


    “ 17 “

    وإذا قلت : روينا من حديث ابن الحجاج ، فهو ما ثناه بشاه بن محمد بن أبي المعالي كتابة ، عن محمد بن الحسن العباسي ، عن عمر بن سعدويه عبد الغافر الفارسي ، عن الجلودي ، عن مسلم بن الحجاج .
    وإذا قلت : روينا من حديث الجعفي ، فهو ما ثناه عن بشاه بن محمد بن محمد ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي المحاسن الترمذي ، عن العيار ، عن أبي علي بن الشوية ، عن الغريري ، عن محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري .
    وإذا قلت : روينا من حديث الأزرقي ، فهو ما ثناه محمد بن إسماعيل ، عن أبي الحسن علي بن الحسين بن علي التميمي الريحاني المالكي ، عن عبد الرحمن بن علي الشيباني الطبري ، عن الحسن بن خلف الشامي ، عن أبيه ، عن أبي فراس عن محمد بن نافع ، عن إسحاق بن محمد الخزاعي ، عن أبي الوليد محمود بن عبد اللّه الأزرقي .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن سورة ، فهو ما ثناه عبد الحميد بن محمد بن علي بن أبي الرشيد القزويني كتابة ، عن أبي الحسن علي بن حمزة ، وأبي محمد عبد الواسع بن الموفق ، وأبي مثا بن عبد الصبور بن عبد السلام التاجر ، ثلاثتهم عن أبي عامر محمود بن القسم الأزدي ، عن أبي محمد عبد الجبار بن محمد بن عبد اللّه بن عبد الجراح ، عن أبي العباس محمد بن أحمد بن محمود المحبوبي التاجر ، عن أبي عيسى الترمذي الحافظ .
    وإذا قلت : روينا من حديث الهاشمي ، فهو ما ثناه عبد الحميد بن محمد بن علي بن أبي الرشيد القزويني كتابة ، عن أبي ظاهر صاعد بن سعيد الطوسي أبي الفتيان عمر بن عبد الكريم بن علي أبي علي الحسن بن علي الرازي الهاشمي ، وهو أبو الحسن زيد بن عبد اللّه بن مسعود المعروف برفاعة .

    وإذا قلت : روينا من حديث ابن الخطابي ، فهو ما حدثنا أبو النجيب حيدر القزويني كتابة ، عن محمود بن عمر بن أحمد بن عبد اللّه الساري ، عن أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد ، عن أبي منصور محمد بن أحمد البلخي ، عن أبي خطاب الخطابي .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن ودعان ، فهو ما ثناه محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفارسي ، عن أبي الطاهر محمد بن أحمد السيقلي الأصفهاني ، عن أبي نصر محمد بن علي بن عبد اللّه بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان حاكم الموصل .


    “ 18 “

    وإذا قلت : روينا من حديث ابن ماجة ، فهو ما ثناه أبو الحسن علي بن عبيد بن الحسين الرازي ، عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أبي القسم ، علي بن منصور ، محمد بن الحسن ، علي بن طلحة ، القسم بن أبي المنذر ، عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة ، عن محمد بن زيد بن ماجة .
    وإذا قلت : روينا من حديث البغوي ، فهو ما حدثنا أحمد بن أبي منصور الخولي كتابة ، عن أبي الحسن علي بن الحسن بن علي الفاسي ، وعلي بن أبي عبد اللّه البامجي ، قالا : ثنا أبو محمد الحسن بن مسعود البغوي .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن أبي عرفة ، فهو ما ثناه أبو الفتوح نصر بن أبي الفرج بن علي الحضرمي ، عن أبي القسم يحيى بن ثابت بن بندار بن القاسم عبيد اللّه بن أحمد بن عثمان الصيرفي ، ويعرف بابن السوادي ، عن أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد الساداني بن حرب بن مهران البزار ، عن أبي عبد اللّه بن إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي النحوي .

    وإذا قلت : روينا من حديث مالك بن أنس ، فهو ما ثنا به محمد بن إسماعيل وغيره ، عن أبي عبد اللّه محمد بن أبي بكر الطوسي ، وعن أبي الحسن علي بن الحسن بن علي التميمي ، كلاهما عن عبد الرحمن بن علي الطبري ، عن الحسن بن خلف ، عن أبيه ، عن الحسن أحمد بن إبراهيم ، عن محمد بن نافع بن محمد بن الخزاعي ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن إسحاق المالكي ، عن أحمد بن مالك الحضرمي ، عن سعد بن سالم القداح ، عن مالك بن أنس .
    وإذا قلت : روينا من حديث الرملي ، فهو ما ثناه محمد بن القسم قراءة على الجاحظ السلفي ، وثناه السلفي إجازة ، عن أبي الحسين أحمد بن محمد المقري ، عن أبي إسحاق بن إبراهيم بن سعيد بن عبد اللّه الحبال ، على العباسي منير بن أحمد بن الحسن أحمد بن علي بن منير الخشاب ، عن أبي الحسن بن علي بن أحمد بن إسحاق البغدادي ، عن أبي العباس الوليد بن حماد الرملي .
    وإذا قلت : روينا من حديث ابن حبّان ، فهو ما ثناه أبو محمد إسحاق بن يوسف بن علي ، عن المطهر بن علي بن عبيد اللّه الفاسي ، عن أبي ذر محمد بن إبراهيم بن غازي الصالحاني الأصفهاني ، عن أبي محمد عبد اللّه بن محمد بن جعفر بن حبان المعروف ، كنّي بأبي الشيخ .
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:08

    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء الثاني
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    تابع المقدمة :-
    “ 19 “

    وإذا قلت : روينا من حديث الخرائطي ، فهو ما ثناه محمد بن يوسف بن علي الفرنوي كتابة ، عن أبي الفتح أحمد بن محمد بن سليمان ، عن أبي عبد اللّه محمد بن أبي نصر عبد اللّه الحميدي الحافظ ، عن أبي القسم الحسين بن محمد بن إبراهيم الحناني ، عن أبي بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي .
    وإذا قلت : روينا من حديث أبي عبد الحكم ، فهو ما ثناه الحافظ السلفي إجازة عن مرشد بن يحيى بن القسم المديني ، عن علي بن منير بن أحمد الحلّال ، عن أبي بكر محمد بن أحمد بن الفرج القماح ، عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عبد الحكم بن أعين القرشي .
    وإذا قلت : روينا من حديث الواحدي ، فهو ما ثناه أبو عبد اللّه بن عمر بن أحمد بن منصور الصفاري ، عن عبد الجبار بن محمد بن أحمد الحزازي ، عن علي الواحدي .
    وإذا قلت : روينا من حديث الأصمعي ، فهو ما ثناه ابن محمد بن قاسم علي ، عن أبي عبد اللّه محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحضرمي ، عن عبد اللّه الرازي ، عن أبي هاشم ، والحسين بن محمد بن الضراب ، عن أحمد بن مروان المالكي ، عن إبراهيم الحزمي ، عن أبي نصر ، عن الأصمعي ، واللّه أعلم .


    “ 21 “
    خطبة الشيخ

    بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
    وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .نسب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

    هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم ، واسم هاشم ، عمرو بن عبد مناف ، واسم عبد مناف ، المغيرة بن قصي ، واسم قصي ، زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ، واسم مدركة ، عامر بن إلياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان بن أدد بن المقدم بن ياخور بن مرخ بن يعرب بن يسحب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن ، ابن يارج ، هو آزر بن ياخور بن شاروخ بن راغو بن فالخ بن عبير بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن مالك بن متوشالخ بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام ، ابن يزد بن مهلييل بن قاين بن يأنس بن شيث عليه السلام ، ابن آدم أبو البشر عليه الصلاة والسلام ، وعلى الأول والآخر بينهما من النبيّين صلوات اللّه دائمة وسلاما إلى يوم الدين .

    ثنا بهذا النسب الزكي الشريف سردا من لفظه كما كتبته من محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم من بني تميم ، قال : ثنا أبو سعيد محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي ، أنبأ أبو عبد اللّه بن رفاعة بن عزيز السعدي ، ثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن الحسين الخلعي ، ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن عبد الرحيم ، ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن النحاس ، ثنا أبو محمد عبد اللّه بن جعفر بن الورد بن ريحويه البغدادي ، ثنا أبو عبد اللّه بن سعيد عبد الرحيم بن عبد اللّه بن عبد الرحيم ، ثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام ، عن جبير بن مطعم ، عن أبي بكر النحوي ، ثنا دياب بن عبد اللّه البكاري ، عن محمد بن إسحاق المطلبي .

    روينا من حديث مالك بن أنس عن الزهري ، عن عثمان بن سليمان بن أبي خيثمة العدوي ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارثة بن هشام ، عن جبير بن مطعم ، عن سيدي



    “ 22 “

    أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه ، في سرد النسب إلى عدنان . فقال : في حديث عدنان أدد ، وهو الهميسع بن يولخ بن سالف بن عامر بن مثير بن الصيّاح بن عوام بن مرام بن يشخب بن كعب بن ثابت ، وإسماعيل بن إبراهيم بن آذر بن ياخور بن شارونما بن أرغوا ، وهو هود بن شيث عليهم السلام ، ابن فالح بن عبير بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام ، ابن مالك بن المتوثلخ بن حويك ، وهو إدريس عليه السلام ، ابن يزيد بن ماليل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليهما السلام .أنساب العشرة متصلة بنسبه صلى اللّه عليه وسلم

    نسب سيدنا عليّ رضي اللّه عنه ، وهو أقربهم نسبا ، وهو عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب ، وأبعدهم سيدنا عثمان رضي اللّه عنه ، وهو سيدنا عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف . وأبعد منه الزبير ، وعبد الرحمن رضي اللّه عنهما ، فهو الزبير بن عوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ .

    وأما سيدنا عبد الرحمن بن عوف ، هو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن الحرث بن زهرة بن قصيّ . وأبعد منهما سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه ، وهو سعد بن مالك بن أهيب بن عبد مناف بن كعب بن زهرة بن كلاب ، وأبعد منه الصدّيق وطلحة رضي اللّه عنهما . أما سيدنا أبو بكر رضي اللّه عنه ، فهو عتيق بن عثمان ، يكنّى أبا قحافة بن عامر بن عمرو .

    وأما سيدنا طلحة رضي اللّه عنه ، فهو ابن عبيد اللّه بن عثمان بن عمرو ، اجتمعا في عمرو ، وهو كعب بن سعد بن تيم بن مرة ، وأبعد منهما سيدنا عمر وسيدنا سعيد رضي اللّه عنهما . أما سيدنا عمر رضي اللّه عنه ، فهو ابن الخطاب بن نفيل .

    وأما سيدنا سعيد فهو ابن زيد بن عمرو بن نفيل ، اجتمعا في نفيل ، وهو عبد العزّى بن رباح عبد اللّه بن قرط بن زراع بن عدي بن كعب . وأبعد منهما أبو عبيدة بن الجرّاح رضي اللّه عنه ، وهو سيدنا أبو عبيدة بن عبد اللّه بن الجرّاح بن كعب بن ضبة بن الحرب بن فهر .نسب أمه صلى اللّه عليه وسلم ورضي عنها

    وهي آمنة بنت عبد مناف بن زهرة بن كلاب . اجتمعت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كلاب بن مرة .




    “ 23 “

    نسب أمه التي أرضعته صلى اللّه عليه وسلم وهي : ضيرة ، وهي : حليمة بنت أبي ذويب عبد اللّه بن الحرث بن شيحة بن جابر بن رامة بن ناصرة بن سعيد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر ، اجتمع مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مضر .نسب والده من الرضاع

    هو الحرث بن عبد العزّى بن رقاعة بن فلان بن ناصرة بن سعيد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر . اجتمع مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مضر .إخوته من الرضاعة

    الحرث بن عبد اللّه ، وأنيسة بنت الحرث ، وحذافة بنت الحرث ، وهي : الشيحا ، غلب عليها ذلك فلا تعرف في قومها إلا به ، وكانت تحضنه مع أمه حليمة إذا كانت عندهم ، وكان عمه حمزة بن عبد المطلب أخاه أيضا من الرضاع ، فقال : أرضعته التي أرضعت حمزة .أولاده صلى اللّه عليه وسلم

    الذكور ، منهم : القاسم وبه كان يكنّى ، ثم الطيب ، ثم الطاهر ، وعبد اللّه ، وإبراهيم . وإناث منهن : أكبرهن رقية ، ثم زينب ، ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، وجميع أولاده عليهم السلام من خديجة رضي اللّه عنها ، غير سيدنا إبراهيم عليه السلام فأمه مارية القبطية سرّيته صلى اللّه عليه وسلم .أعمامه صلى اللّه عليه وسلم وعماته
    فمنهم العباس ، وضرار ، ابنا عبد المطلب ، وهما شقيقان لأم واحدة ، وهي : نبيلة بنت حباب بن كليب بن ربيعة بن نزار .
    فأما العباس فأعقب ، ولم يعقب ضرار ، وحمزة ، والمقوم ، وجحل ، وصفية أبناء عبد المطلب لأم واحدة وهي هالة بنت أهيب بن عبد مناف ، ولم يعقب حمزة ، والمقوم ولد بنتا ، وأعقب جحل ، وصفية ولدت الزبير ، وأبو طالب ، ووالد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم


    “ 24 “

    عبد اللّه ، وأم حكيم يقال لها : البيضاء ، وعاتكة ، وأروى ، وبرّة أبناء لعبد المطلب لأم واحدة وهي : فاطمة بنت عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم بن نقطة بن مرة بن كعب .

    فأما أبو طالب وعبد اللّه فأعقبا ، والزبير أدرج عقيبه ، وأما البنات فولدن كلهن .

    والحرث بن عبد المطلب ، وأمه سمراء بنت جندب بن حجير بن هوازن ، وأعقب الحرث ، وأبو لهب واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ، أمه لبنى بنت هاجر بن عبد مناف بن طاطل الخزاعية ، وأبو لهب أعقب .وأزواجه صلى اللّه عليه وسلم
    فمنهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ بن كلاب ، ماتت قبل الهجرة . وعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهما .
    ومنهن حفصة بنت سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما . ومنهن أم سلمة ، واسمها هند بنت أمية بن المغيرة بن عبد اللّه بن مخزوم ، وهي آخر من مات من أزواجه بعده .
    ومنهن سودة بنت زمعة بن عبد شمس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن جبير بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر .
    ومنهن أم حبيبة ، واسمها رميلة بنت أبي سفيان بن الحارث بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب .
    ومنهن زينب بنت جحش بن رباب بن أسد بن خزيمة ، وأمها آمنة عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنت عبد المطلب ، وهي أول من مات من أزواجه بعده ، وهي أول من حملت جنازتها على النعش . ومنهن : زينب بنت خزيمة ، وهي : أم المساكين ، وهي من عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة توفيت في حياته عليه السلام .
    ومنهن ميمونة بنت الحرث بن حرب بن بحر بن الحرص بن رومية بن عبد اللّه بن هلال بن عامر بن صعصعة ، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم .

    وقيل : الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلميّ . وقيل : أم شريك . وقيل : زينب بنت جحش .
    ومنهن جويرة بنت الحرث بن أبي ضرار بن الحرث بن عابد بن مالك بن


    “ 25 “
    المصطلق بن خزاعة ، سباها النبي صلى اللّه عليه وسلم في غزوة المريسع وتزوج بها . ومنهن صفية بنت جبير بن أحطب من بني النضير سباها يوم خيبر . فهؤلاء إحدى عشرة امرأة دخل بهنّ صلى اللّه عليه وسلم بلا خلاف .
    ومنهنّ الغالية بنت صبيان بن عمرو بن أبي بكر بن كلاب ، اختلف في الدخول بها ، ثم إنه طلّقها .
    ومنهن امرأة من بني عمرو بن كلاب أخو بكر بن كلاب ، فطلقها قبل الدخول لبياض كان بها .
    ومنهن أسماء بنت كعب الحرثية ، وقيل : اسمها أميمة بنت النعمان بن شرحبيل فاستعادت منه فطلقها ، ولم يدخل بها . وقيل : التي استعادت هي مليكة الليثية . وقيل :

    هي فاطمة بنت الضحّاك .
    ومنهن عمرة بنت يزيد إحدى نساء بني كلاب فطلقها ولم يدخل بها . قال بعض العلماء : هي التي اختارت نفسها فابتلاها اللّه عند ذلك بالجنون .
    ومنهن أم شريك الأزديّة الأنصارية من بني النجار طلقها ولم يدخل بها ، وهي التي قلنا : إنها قد روي أنها التي وهبت نفسها للنبي صلى اللّه عليه وسلم .
    ومنهن أسماء بنت الصلت من بني خزام من بني سليم لم يدخل بها . ومنهن قيلة بنت قيس أخت الأشعث لم يدخل بها ولا رآها . ومنهن فاطمة بنت شريح . فهؤلاء أقصى ما بلغن من عدد أزواجه .ومات صلى اللّه عليه وسلم عن تسع منهن
    ميمونة ، وسودة ، وصفيّة ، وجويرية ، وأم حبيبة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب بنت جحش .من مات في حياته منهن :
    خديجة بنت خويلد ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين . القرشيات : منهن عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة .
    اللاتي كان يساوي بينهن في القسمة أربع : عائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب .


    “ 26 “

    جواريه صلى اللّه عليه وسلم
    مارية بنت شمعون القبطية ، ولدت له سيدنا إبراهيم عليه السلام . وريحانة بنت زيد من بني قريظة ، من بني النضير .حجّاته صلى اللّه عليه وسلم
    حج صلى اللّه عليه وسلم ثلاث حجّات ، حجّتان من مكة ، وواحدة من المدينة ، وهي التي تسمى حجة الوداع .عمره صلى اللّه عليه وسلم
    وأما عمره : من الحديبية في ذي القعدة ، وأما عمرة القضاء من العام المقبل كانت أيضا في ذي القعدة ، وعمرة من الجعرّانة حيث قسم غنائم حنين في القعدة وعمرة مع حجته وإحرامه بها عليه السلام في ذي القعدة .ذكر غزواته صلى اللّه عليه وسلم التي خرج إليها بنفسه
    فأول ذلك غزوة الأبواء . خرج إليها في صفر سنة اثنين على رأس اثني عشر شهرا من هجرته حتى بلغ ردان . ثم غزوة في شهر ربيع الآخر ثالث الشهر من غزوة الأبواء يريد قريشا حتى بلغ بواط من ناحية رضوى . ثم غزا العشير في جمادى الأولى سنة اثنتين وهي من بطن ينبع . ثم غزا يطلب كرز بن جابر وهي غزوة بدر الأولى سنة اثنتين .

    ثم غزوة بدر سنة اثنتين في شهر رمضان الذي قتل فيه صناديد قريش . ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر في شوّال سنة اثنتين .

    ثم غزوة السويق في ذي الحجة سنة اثنتين بعد بدر بشهرين يطلب أبا سفيان بن حرب . ثم غزوة نجد يريد غطفان .
    ثم غزوة ذي أمر في صفر سنة ثلاث . ثم غزوة نجران في ربيع الأول سنة ثلاث ، يريد قريشا وبني سليم فيما بين ذلك أمر بني قينقاع من سنة ثلاث .
    ثم غزوة أحد في شوال سنة ثلاث . ثم غزوة حمر الأسد في شوال سنة ثلاث . ثم غزوة بني النضير وإجلائهم في ربيع الأول سنة أربع .




    “ 27 “

    ثم غزوة ذات الرقاع من جمادى الأولى سنة أربع . ثم غزا في شعبان أي بدر بميعاد أبي سفيان وهي بدر الآخرة سنة أربع .

    ثم غزا دومة الجندل فرجع قبل أن يصل إليها في ربيع الأول سنة خمس .
    ثم غزا بالخندق في شوال سنة خمس . ثم غزا بني قريظة في ذي القعدة أو في الحجة سنة خمس .
    ثم غزا الرجيع خرج في جمادى الأولى إلى بني لحيان يطلب أصحاب بني الرجيع في جمادى الأولى سنة ست .
    ثم غزا ذي قرد وهي التي أغار فيها عيينة بن حصن على لقاحة فخرج إليهم سنة ستّ بعد الرجيع بليال .
    ثم غزا بني المصطلق في شعبان سنة ستّ . ثم غزا الحديبية خرج في ذي القعدة معتمرا قصده المشركون سنة ستّ .
    ثم غزا خيبر خرج إليها في بقية المحرم سنة سبع . ثم خرج في القعدة يعني لعمرة القضاء سنة سبع .
    ثم أقام في المدينة بعد بعثه إلى موتة في جمادى الآخر ، ورجب . ثم غزا فتح مكة بعشر مضين من رمضان سنة ثمان .
    ثم غزا حنينا سار إليها من مكة في شوال سنة ثمان . ثم غزا الطائف سنة ثمان ، سار إليها من حنين ورجع إلى المدينة ، وأقام بها ما بين الحجة إلى رجب .
    ثم غزا تبوك وأمر الناس بالتهيّؤ لغزوة الروم فخرج إلى تبوك ولم يجاوزها سنة تسع .سراياه صلى اللّه عليه وسلم ، وبعوثه فيما بين أن قدم المدينة إلى أن قبضه اللّه عز وجل
    غزوة عبيدة بن الحرث إلى أحياء من أسفل ثنية المرة ، وهي ماء بالحجاز . وغزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية العيص ، وبعض الناس يقدمون غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة .
    ثم غزوة سعد بن أبي وقاص ، وبعث محمد بن مسلمة فيما بين أحد وبدر إلى كعب بن الأشرف وقتله .


    “ 28 “
    ثم غزوة عبد اللّه بن جحش إلى نخلة . ثم غزوة زيد بن حارثة القدرة . ثم غزوة مرشد بن أبي مرشد الغنوي الرجيع لقوا فيها .
    ثم غزوة منذر بن عمرو ببئر معاوية لقوا فيها . ثم غزوة أبي عبيدة بن الجراح رضي اللّه عنه ذا العصة من طريق العراق .
    ثم غزوة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه تربة من أرض بني عامر . ثم غزوة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه إلى بني عبد اللّه بن سعد من أهل فدك .
    ثم غزوة أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم لقوا فيها بعثه بعد رجوعه من عمرة القصة في الحجة سنة سبع ، وأصيبوا وجاء جريحا حتى قدم المدينة في صفر سنة ثمان .
    ثم غزوة عكاشة بن محصن العمدة . ثم غزوة أبي سلمة بن عبد الأسد ببطن قطنا ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد لقوا فيها فقتل فيها مسعود بن عروة .
    ثم غزوة محمد بن سلمة أخي بني الحارثة . أي مواضع من هوازن تسمى القرضا .
    ثم غزوة بشير بن سعد أيضا إلى جنان ناحية خيبر . ثم غزوة زيد بن حارثة الجموح من أرض بني سليم . ثم غزوة زيد بن حارثة أيضا حرام من أرض حسما لقوا فيها .
    ثم غزوة زيد بن حارثة أيضا الطرف من ناحية النخل أو من ناحية طريق العراق . ثم غزوة بني حارثة أيضا وادي القرى لقوا فيها بني فزارة .
    ثم غزوة عبد اللّه بن رواحة خيبر . ثم غزوة عبد اللّه بن رواحة أيضا خيبر أصاب فيها بشير بن رزام اليهودي .
    ثم غزوة عبد اللّه بن عتيك إلى خيبر وأصاب فيها أبا رافع بن الحقيق . وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث عبد اللّه بن أنيس خالد بن سفيان النهري فقتله .
    ثم غزوة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد اللّه بن رواحة إلى موتة فأصيبوا فيها .
    ثم غزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاع من أرض الشام فأصيب فيها . ثم غزوة عيينة بن حفص بن حذيفة بن زيد بن العبير من بني تميم لقوا فيها .
    ثم غزوة غالب بن عبد اللّه الكلبي كلب ليث أرض بني مرة لقوا فيها . ثم غزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بني عذرة .
    ثم غزوة أبي حدرد وأصحابه إلى بطن أضم قبل الفتح لقوا فيها ، كذا قال هنا ابن أبي حدرد ، وقال : فيما مضى أبي حدرد .


    “ 29 “
    ثم غزوة أبي عبيدة بن الجراح رضي اللّه عنه إلى سيف البحر ، ويسمى جيش الحيط .
    انتهى ما ذكر ابن إسحاق .
    وزاد ابن هشام : بعث عمرو بن أمية الضمري ، بعثه عليه السلام لقتل أبي سفيان بمكة وسرية بن حارثة إلى مدين . ثم غزوة سالم بن عمير أبا جعد حدثني به عمرو بن عوف .
    ثم غزوة عمير بن عدي الخطمي عصماء بنت مروان ، والسرية التي أسرت ثمامة بن إياك الخيفي .
    وبعث علقمة بن محدر في طلب القوم الذين قتلوا وقاص بن محرز بوادي قرد .
    وبعث كرز بن جابر في طلب الرعاء الذين قتلوا راعي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلي وذكوان .
    ثم غزوة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه إلى اليمن مرة أخرى . ثم غزوة أسامة بن زيد إلى الداروم فمات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل خروجه وولّى أبا بكر رضي اللّه عنه فأمضاه لوجهه ، فمضى حتى وطئ نخيلة أرض الداروم .
    بعث خالد بن الوليد إلى نخلة لهدم العزّى . بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة .
    بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس . بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك الكندي ملك دومة .
    بعث جرير بن عبد اللّه إلى ذي الخلصة ليهدمها ، بعثه على مائتين وخمسين فارسا .
    بعث خالد بن الوليد إلى بني الحرث .
    ثم غزوة أبي بكر رضي اللّه عنه إلى نجد ، قبل بني فزارة فأصاب منهم .
    سرية عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إلى عجز هوران وراء مكة بأربعة أميال .
    سرية عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي ، هو بعث علقمة بن محرز بولاية علقمة على طائفة من بني الحيس .عدد نقبائه صلى اللّه عليه وسلم اثنا عشر نقيبا
    ولم يكن لنبيّ قبله هذا القدر ، بل كان لكل نبي سبعة نقباء ، وهم رضي اللّه عنهم :
    أبو بكر الصدّيق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وجعفر بن أبي طالب ، ومصعب بن عمر ، وبلال بن رباح ، وعمّار بن ياسر ،

    “ 30 “

    والمقداد بن الأسود ، وعثمان بن مظعون ، وعبد اللّه بن مسعود .
    وأما نجباؤه ، فكلهم من الأنصار ، اثنا عشر نجيبا : سعد بن خيثمة من بني عمرو بن عوف ، وسعد بن الربيع من بني النجار ، وسعد بن عبادة من بني عبد الأسهل ، وعبيد اللّه بن رواحة ، وأبو الهيثم بن التيهان ، والبرّاء بن معروس ، ورافع بن مالك الأزرقي ، وعبد اللّه بن عمرو بن حزام وهو أبو جابر ، وعبادة بن الصامت من بني سلمة ، والمنذر بن عمرو من بني ساعدة .

    وأما حواريوه صلى اللّه عليه وسلم ، فكلهم من قريش ، وهم اثنا عشر رجلا : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وحمزة بن عبد المطلب ، وجعفر بن أبي طالب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعثمان بن مظعون .

    فالذي جمع بين النجابة والحوارية : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وجعفر بن مظعون . فهؤلاء الستة جمعوا بين الشرفين رضي اللّه عنهم .
    وأما مواليه صلى اللّه عليه وسلم : زيد بن حارثة ، وأسامة بن زيد ، وأبو رافع السلمي ، ويقال :
    إبراهيم ، ويقال : هرم ، ويقال : سنان ، كان قبطيا ، وسفينة ، واسمه مهران ، ويقال : رياح ، وبونان .
    وسار أبو بكر ، وهو الذي قتله العربيون ، وشقران ، اسمه صالح ، وأبو كبشة ، اسمه سليم ، وأبو ضميرة مدغم ، وهو الذي أصابه السهم فمات يوم حنين ، ورويقع ، وسلمان ، ورياح ، وعبيد ، وأحمر ، وكيبا ، وأبو أثيلة ، وشعبة .
    الإناث : سلمى ، ودرّة ، وميمونة .خلقه وشمائله وحالاته وحركاته وسكناته ومجالسه
    كان صلى اللّه عليه وسلم فخما مفخما ، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، أطول من المربوع ، وأعظم من المشذب ، عظيم الهامة ، رجل الشعران ، انفرقت عقيصته فرق ، وإلا خلا ، ولا يجاوز شعره شحمة أذنه ، إذ هو وفره ، أزهر اللون ، ليس بالأبيض الأمهق ، ولا بالأدم ، سهل الخدين ، صلتهما ليس بالطويل الوجه ، ولا المكلثم ، واسع الجبين ، أزجّ الحواجب ، سوابغ من غير قرن بينهما ، عرق يدرّه الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، يحسبه من لم يتأمله اسم ، كثاء اللحية ، أدعج ، سهل الخدين ، ضليع الفم ، أشنب ، مفلج


    “ 31 “

    الأسنان ، عنفقته بارزة ، فكّاه حول العنفقة كأنها بياض اللؤلؤ ، دقيق المرية ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخلق ، باديا متماسكا ، سواء البطن والصدر ، عريض الصدر ، بعيد المنكبين ، جليل الكتدين ، بين منكبيه خاتم النبوة وهو شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس ، ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبّة والسّرة بشعر يجري كخط ، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، سبط العصب ، شثن الكفين والقدمين ، سائل الأطراف ، خمصان الأخمصين ، مسبح القدمين ، ينبو عنهما الماء .

    إذا أزل زال تقلعا ، يخطو تكفأ ، ويمشي هونا ، ذريع المشية ، كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جلّ نظره الملاحظة ، يشوق أصحابه ، يبدأ من لقي بالسلام ، متواصل الأحزان ، دائم الفكر ، ليس له راحة ، لا ينطق في غير الحاجة ، طويل السكت ، يفتح الكلام ويختمه :

    ببسم اللّه ، ويتكلم بجوامع الكلم ، فضل لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثا ليس بالجاحف ولا المهين ، يعظّم النّعم ، وإن دقت لا يذم منها شيئا ، ولا يذم مذاقا ولا يمدحه ، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها ، وإذا تعرض للحق لا يعرفه أحد ، ولا يقوم لغضبه شيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ، وإذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها كلها ، وإذا تحدث اتصل بها ، فيضرب ببطن راحته اليمنى إبهام اليسرى ، وإذا غضب أعرض وأشاح ، وإذا فرح غضّ طرفه ، جلّ ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حبّ الغمام ، كان دخوله لنفسه ما دون له في ذلك .

    كان إذا آوى إلى منزله جزّأ نفسه ثلاثة أجزاء : جزء للّه تعالى ، وجزء لأهله ، وجزء لنفسه . ثم يجزّئ جزءه بينه وبين الناس ، فيردّ ذلك على العامة بالخاصة ، ولا يدّخر عنهم شيئا ، فكان في سيرته في جزء أهله الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه عليهم على قدر فضلهم في الدنيا ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم فيما أصلحهم ، والأمة عن مسألة عنهم ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : « ليبلّغ الشاهد الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع بلاغي ، فإن من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبّت اللّه قدمه يوم القيامة » . ولا يذكر عنده الأراذل ، ولا يقبل من أحد غيره عذره ، يدخلون زواد ، ولا يفترون إلا عن ذواق ، ويخرجون أذلة .

    وكان صلى اللّه عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ، ويؤلفهم ولا يفرقهم ولا ينفرهم ، ويكرم كريم


    “ 32 “

    كل قوم ، ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي على أحد بشره ولا خلقه ، يتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عمّا في الناس ، ويحسّن الحسن ويصوّبه ، ويقبّح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر ، غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا لكل حال عنده عياد ، لا يقصّر عن الحق ، ولا يجاوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمّهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة .

    وكان صلى اللّه عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا بذكر اللّه تعالى ، لا يوطن الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا جلس إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، يعطي كل جلسائه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ممن جالسه أو قاومه في حاجة صابرة ، ما تفارقه حتى يده يكون هو المنصرف ، ومن سأله في حاجة لم يردّه إلا بها أو ما يسره من القول .

    قد وسع الناس بينهم منه بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه حلم ، وحياء وصبر ، وأمانة ، لا ترفع عنده الأصوات ، ولا تؤبّن فيه الحرم ، ولا تثني فلتأته ، معادلين متفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعون يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذوي الحاجة ، ويحفظون الغريب .

    وكان صلى اللّه عليه وسلم دائم البشر ، سهل الخلق ، ليّن الجانب ، ليس بفظّ ، ولا غليظ ، ولا صخّاب ، ولا فحّاش ، ولا عيّاب ، ولا مزّاح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا ييأس ولا يخيب فيه مؤمّله ، قد تزكى من ثلاث : المراء ، والإكثار ، وما لا يعنيه ، وتزكي الناس نفسه من ثلاث .

    كان لا يذمّ أحدا ، ولا يعيّره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرتجى ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده ، إن تكلم أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أوليتهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون ، ويصبر على الغريب ، على الجفوة ، في مسألته ومنطقه ، حتى إن كان أصحابه يستجلبون بهم ، ويقول : “ إذا رأيتم طالب حاجة فأرشدوه “ ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه .
    وكان سكوته على أربع : الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكّر . فأما تقديره ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس ، وأما تفكّره ففي ما يفنى ويبقى ، وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء ، ولا يستفزّه . وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسن



    “ 33 “

    ليقتدي به ، وتركه القبيح لينتهي عنه ، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته ، والقيام فيما جمع له من خيري الدنيا والآخرة .
    خدمه أنس بن مالك عشر سنين إلى أن توفاه اللّه تعالى ، فما قال لشيء فعله ، لم فعلته ؟ ولا لشيء لم يفعله ، لم لم تفعله ؟ ما عاب طعاما ، كان إذا اشتهاه أكله ، وإن لم يشتهيه تركه ، كان يقول في السرّاء : “ الحمد للّه المنعم المتفضل “ . وكان يقول في الضرّاء :“ الحمد للّه على كل حال “ .
    كان يذكر اللّه على كل أحيانه . كان يسلّم على العبيد والإماء والصبيان .
    كان يمازح الصغير ، ويلاعب الوليد ، ويمازح العجوز ، ولا يقول إلا حقا .
    كان رؤوفا ، رحيما ، ليّنا ، هيّنا ، شفيقا ، رفيقا ، لطيفا ، سئوسا .
    كان صلى اللّه عليه وسلم أجلّ وأعظم من أن يحيط ناعت بوصفه ، ولكن ما وصفه من وصفه إلا بقدر ما ظهر له منه صلى اللّه عليه وسلم .تفسير ما وقع في هذا الفصل من الغريب
    المشذب : المفرط في الطول ، شعر رجل : الرجل الذي ليس بالسبط فإن السبط الذي لا تكسّر فيه ، والقطط : الشديد الجعودة ، والعقصة : الشعر المعقوص ، وهو نحو من المظفور ، وهي ظفيرتان تضم إحداهما إلى الأخرى ، يشبه التكتف ، الزجج في الحواجب : أن يكون بينهما تقوّس مع طول في أطرافها ، وهي التوسع فيها ، والقرن : التقاء الحاجبين حتى يتصلا ، والبلج : ضد القرن وهو أن لا يلتقي الحاجبان ويبقى بينهما بياض ، وهو محبوب ، والعرق : الذي يدرّه الغضب دروره غلظه وتنوه وامتلاؤه إذا غضب ، والعرنين : الأنف ، والقنا : أن يكون فيه دقة ارتفاع في قصبته ، يقال منه رجل أقنى ، وامرأة قنواء ، والأشم : أن يكون الأنف دقيقا لا قناء فيه ، وكتفاه من غير عرض ، ولا طول ، والظليع : الفم الواسع .

    قال أبو عبيد اللّه : وأحسبه بعين جود في الشفتين ، والأشنب : الذي في أسنانه تفرّق ، والمشربة : الشعر الذي بين اللبة والسرة كالخط . والجيد : العنق . والدمية : الصورة من الرخام ، وتجمع على دما . والكراديش : - العظام ، والزندان ، العظمان اللذان في الساعدين المتصلان بالكفين . والقصب : كل عظم ذي مخ مثل الساقين والذراعين والعضدين . وبسوطتهما : امتدادهما . والشئن في الكفين والقدمين : بعض غلط ،


    “ 34 “

    والأخمص من القدم في باطنها ما بين صدرها وعقبها ، وهو الذي يلصق بالأرض من القدمين في الوطء ، ومعنى قوله خمصان : يعني أن ذلك الموضع من قدميه فيه تجاف عن الأرض وارتفاع مأخوذ من خمصانة البطن وهو ضمره . والمسبح القدمين : يعني أنهم ملسان وأن ليس في ظهرهما تكبير ، قال : ينبو عنهما الماء ، يقول : لا ثبات للماء عليهما ، وقوله : إذا خطا تكفأ : يعني تمايل ، مأخوذ من تكفئ السفن . ذريع المشية : واسع الخطى ، كأنما ينحط من صبب . يريد أنه مقبل على ما بين يديه . غضّ الطرف : خافض الطرف . التفت جميعا : يريد أنه لا يلوي عنقه دون جيده ، فإن فيه بعض الخفة والطيش .
    والدمث : اللين السهل . والإشاحة : الحد والحذر . والافترار : أن تكثر الأسنان ضاحكا من غير قهقهة . وصبّ الغمام : البرد شبه بياض أسنانه . الرواد : الطالبون ، أحدهم رائد .

    والعثار : العدّة ، لا يوطن نفسه : لا يجعل له موضعا عرف ، إنما يجلس حيث ينتهي به المجلس . لا تؤبن له الحرم : أي لا توصف فيه النساء . لا تثني فلتأته : الفلتات السقطات .
    ويثني : يتحدث بها ، يقال : ثنوت أثنو ، والاسم منه الثناء ، ومنه قول امرئ القيس :
    ولو عن ثناء غيره جاءني * وجرح اللسان كجرح اليد

    والأمهق : الشديد البياض الذي يضرب بياضه إلى الشهبة . والأزهر : هو الأبيض الناصع البياض . والصلت : المستوى . والفتكان : مواضع العظام حول العنفقة . والكتد : موضع الكتفين .

    أسماؤه صلى اللّه عليه وسلم
    محمد ، وأحمد ، وقاسم ، والعاقب ، والحاشر ، والمقفى ، نبي الرحمة ، ونبي الملحمة ، والبشير ، والنذير ، والسراج المنير ، والعزيز ، والرؤوف ، والرحيم ، والخاتم ، والماحي ، ونبي التوبة ، ونبي الملاحة ، والفاتح ، والمتوكل ، والشاهد ، والحرز ، والراعي ، وطه ، ويس ، والمزمّل ، والمدّثر .

    خصائصه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى الأنبياء عليهم السلام
    بعث إلى الناس كافة ، وأحلّت له الغنائم ، ونصر بالرعب مسيرة أشهر ، وأوتي جوامع الكلم ، وجعلت له الأرض مسجدا ، وجعل التراب له طهورا ما لم يجد الماء ، وأعطي مفاتيح خزائن الأرض ، وأعطي فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة ، وأعطي افتتاح الشفاعة .


    “ 35 “

    بعوثه صلى اللّه عليه وسلم إلى كسر الأصنام إلى ذي الخلصة ليهدمها
    وبعث خالد بن عبد اللّه الوليد إلى العزّى ، وبعث إلى ذي الكفين الطفيل بن عمرو الدوسي ، فجعل يحرقه بالنار ، ويقول : “ يا ذا الكفين لست من عبّادك “ . وكان ذو الكفين صنما لعمر بن جمحة ، وبعث سعيد بن عمير الأسهل إلى مياه بالمشلل ، وبعث عمرو بن العاص إلى سواع هذيل .ركابه صلى اللّه عليه وسلم
    كان له ثلاث نياق : الجدعاء ، والعضباء ، والقصوى .أفراسه صلى اللّه عليه وسلم
    ستة : سكب ، والمرتجى ، وطرب ، واللحيف ، والورد ، واليعسوب .سيوفه صلى اللّه عليه وسلم
    ذو الفقار ، والمخدم ، والرسوب ، والعضب ، والبتار ، والحتف .دروعه صلى اللّه عليه وسلم
    ثلاث : الصغدية ، وقصية ، وذات الفصول .قسيه صلى اللّه عليه وسلم
    ثلاثة : الروحا ، والصفرا ، والبيضاء .رماحه صلى اللّه عليه وسلم
    ثلاثة : لم يسمّهم لنا أحد ممن روينا عنهم ، وكان له ترس واحد لم يسمّ لنا ، وكان اسم بغلته : دلدل . واسم حماره : اليعفور . واسم جبته : اللكناء . واسم عمامته : السحاب . واسم رايته : العقاب . واسم لوائه : الحمد . واسم قصعته : الغرّاء . وكان يحملها أربع رجال ، فيها أربع حلق حديد ، وقد نظمت أسماء ما ذكرته في أبيات لتضبط لحفّاظها ، فقلت :


    “ 36 “


    ذات الفصول وذو الفقار ودلدل * والحمد واليعفور واللكناء
    سكب ومرتجى وثم لحيفة * والورد واليعسوب والجدعاء
    طرب وقصية مثلها صعديّة * والعضب والبتار والبيضاء
    ثم الرسوب ومخدم والحتف لا * تنساه والروحاء والصفراء
    ثم السحاب مع العقاب يليهما * الناقة العضباء والقصواء
    وإذا أراد بأن يمدّ سماطه * قامت به وبصحبة الغرّاء
    فمتاعه وسلاحه وركابه * هذا الذي جاءت به الأنباء
    ومنه قول القائل :” لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى “والذي رويناه من مآكله ومشاربه سيأتي بعد إن شاء اللّه تعالى بطريق كما رويناه .أسماء الغزوات التي قاتل فيها عليه الصلاة والسلام

    وهي : بدر ، وأحد ، والخندق ، والمصطلق ، وخيبر ، والفتح ، وحنين ، والطائف .

    كذا قال ابن إسحاق : قدر ما بلغ صداق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الدراهم والدنانير وغير ذلك ، من أصدقها أربعمائة درهم : عائشة ، وسودة ، وزينب بنت جحش ، وحفصة ، وجويرية .

    وقيل : ممن قضى عنهما كتابهما ، وجعل ذلك صداقهما : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة . ومن أصدقهما أربعمائة دينار ، ومن أصدقها فراشا حشوة ليف ، وقدحا وصحفة وخشبة . وأما صفية فجعل عنقها صداقها . وما بلغني مقدار صداق بقية نسائه .ذكر من تولى غسله صلى اللّه عليه وسلم لمّا مات

    وهم : علي بن أبي طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وقثم بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وشقران مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأحضروا أوس بن خولي جدّ بني عوف بن الجراح ، فكان علي يسنده ويغسله ، وكان العباس ، والفضل ، وقثم ، يقلبونه معه ، وكان أسامة بن زيد وشقران يصبّان الماء عليه ، وأنزله في قبره عليه السلام علي بن أبي طالب ، والعباس ، والفضل وقثم ابنا العباس ، وأوس بن خولي .




    “ 37 “



    أكفانه صلى اللّه عليه وسلم
    كفّن عليه السلام في ثلاثة أثواب بيض سحولية ، ليس فيها قميص ولا عمامة . قال ابن إسحاق : ثوبان صحاريان ، وبرد حبرة ، وأدرج فيها إدراجا .نوابه صلى اللّه عليه وسلم الذين استعملهم على المدينة في وقت خروجه لغزو أو عمرة أو حج
    أبو لبابة ، وبشير بن عبد المنذر ، وعثمان بن عفان رضي اللّه عنهم ، وعبد اللّه ابن أم مكتوم الأعمى ، وأبو ذر الغفاري ، وعبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي سلول الأنصاري ، وسباع بن عرفطة ، ونميلة بن عبد اللّه الليثي ، وعريف بن أضبط الديلمي ، وأبو دهم كلثوم ، ومحمد بن مسلمة ، وزيد بن حارثة ، والسائب بن عثمان بن مظعون ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وسعد بن عبادة ، وأبو دجانة الساعدي .

    فأما لبابة وبشير بن المنذر استعملهما صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في وقت خروجه لغزوة السويق وبني قينقاع ، وهي غزوة بدر الكبرى ، بعد ما كان قد استعمل ابن أم مكتوم ، فردّ أبو لبابة من الروحاء .

    وأما عثمان بن عفان رضي اللّه عنه فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في وقت خروجه لغزوة ذي أمر ، وغزوة ذات الرقاع ، وقيل : إنما استعمل أبا ذر في ذات الرقاع .
    وأما عبد اللّه بن أم مكتوم الأعمى فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم في خروجه لغزوة نجران يريد قريشا ، وغزوة أحد ، وغزوة بني النضير ، قريظة ، وغزوة الرجيع وغزوة ذي قرد ، وغزوة بدر ، إلا أنه بعث صلى اللّه عليه وسلم من الروحاء أبا لبابة إلى المدينة في غزوة بدر ، استعمله عليها .
    وأما أبو ذر الغفاري فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم في خروجه لغزوة ذات الرقاع ، وغزوة بني المصطلق ، وقيل : إنما استعمل عليها نميلة بن عبد اللّه الليثي .
    وأما عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي سلول فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في خروجه لميعاد أبي سفيان بن حرب .
    وأما سباع بن عرفطة الغفاري فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في خروجه لغزوة دومة الجندل ، وفي استعماله عليها في غزوة تبوك وفي خروجه لحجة الوداع خلاف .



    “ 38 “



    وأما نميلة بن عبد اللّه الليثي فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في خروجه للحديبية وخيبر ، وفي استعماله في غزوة بني المصطلق خلاف .
    وأما عوف بن أضبط الديلمي فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم في خروجه لعمرة القضاء .
    وأما أبو دهم كلثوم بن حصين بن عينية بن خلف الغفاري فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم في خروجه لغزوة فتح مكة .
    وأما محمد بن سلمة الأنصاري فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في خروجه لغزوة تبوك ، وفيه خلاف ، فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي .
    وأما زيد بن حارثة فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في خروجه لغزوة كرز بن جابر ، وهي بدر الأولى .

    وأما السائب بن عثمان بن مظعون فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم في خروجه لغزوة بواط يريد قريش ، وهي ناحية رضوى . وأما أبو سلمة بن عبد الأسد فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم في خروجه لغزوة العشيرة من بطن ينبع . وأما سعد بن عبادة فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في خروجه لغزوة الأبواء . وأما أبو دجانة الساعدي فاستعمله صلى اللّه عليه وسلم على المدينة في خروجه لحجة الوداع .

    وأما نائبه بمكة فعتّاب بن أسيد .كتّابه صلى اللّه عليه وسلم
    وهم : عثمان ، وعلي ، وأبيّ بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأبّان بن سعيد ، والعلاء بن الحضرمي ، وحنظلة بن الربيع ، وعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان من الرضاع ، فهؤلاء كتّاب الوحي رضي اللّه عنهم أجمعين . وكان الزبير بن العوّام وجهم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات ، وكان حذيفة بن اليمان يكتب حوض النخل ، وكان المغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات ، وكان شرحبيل ابن حسنة يكتب التوقيعات إلى الملوك ، وقد كتب له أبو بكر رضي اللّه عنه حين هاجر في الطريق .أولاد هاشم بن عبد مناف بن قصيّ
    عبد المطلب ، وأسد ، وأبو صيفي ، ونضلة . وبناته : السقا ، وخالدة ، وصفية ،


    “ 39 “


    ورقيّة ، وحية . فعبد المطلب ورقية لأم واحدة وهي سلمة بنت عمرو ، وريحانة وأم أسد قبيلة بنت عامر الخزاعية ، وأبو صيفي وحية لأم واحدة وهي هند بنت عمرو الخزاعية ، ونضلة والسقا لأم واحدة وهي قضاعية ، وخالدة وصفية لأم واحدة وهي واقدة بنت أبي عديّ المازية .

    وأولاد عبد مناف : هاشم ، وعبد شمس ، والمطلب وهم لأم واحدة وهي عاتكة بنت مرة ، ونوفل بن عبد مناف أمه واقدة بنت عمر ، ومارية وأبو عمرو وريطة أمهما ، ثقيفة ، وتماضر ، وقلابة ، وحنّة ، وأم الأختم ، وأم سفيان كلهم لأم واحدة وهي عاتكة بنت مرة التي هي أم عبد شمس . والمطلب أولاد عبد مناف ، أولاد قصي ، واسمه زيد بن كلاب ، وعبد مناف ، وعبد الدار ، والعزى ، وبحير ، ونجم ، وأمهم حنّة بنت خليل الخزاعية .ذكر حجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التي تسمى حجة الوداع

    وفيها قال : “ خذوا عني مناسككم “ ، من حديث الحميدي ، قال : أنشدني أبو محمد عبد اللّه بن عثمان النحوي بالمغرب لبعض أهل بلاد المغرب في التشويق إلى مكة ، ولم يسمّ قائلها ، وقد كان أنشدنيها ابن هلال ، وذكر قائلها :يحن إلى أرض الحجاز فؤادي * ويحدو اشتياقي نحو مكة حادي

    ولي أمل ما زال يسمو بهمّتي * إلى البلدة الغرّاء خير بلاد
    بها كعبة اللّه التي طاف حولها * عباد هم للّه خير عباد
    لا قضى حقّ اللّه في حجّ بيته * بأصدق إيمان وأطيب زاد
    أطوف كما طاف النبيون حولها * طواف انقياد لا طواف عناد
    وأستلم الركن اليماني تابعا * لسنّة مهديّ وطاعة هادي
    وأركع تلقاء المقام مصلّيا * صلاة أرجّيها ليوم معادي
    وأسعى سبوعا بين مروة والصفا * أهلل ربي تارة وأنادي
    وآتي منى أقضي بها التفث الذي * يتم به حجّي وهدي رشادي
    فيا ليتني شارفت أجبل مكة * وبتّ بواد عند أكرم وادي
    ويا ليتني روّيت من ماء زمزم * صدى خلد بين الجوانح صادي
    ويا ليتني قد زرت قبر محمد * فأشفي بتسليم عليه فؤادي
    قال ابن هلال : أجبال مكة ، وقال : صدى كبدي ، والسياق للحميديّ .
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:09

    الجزء الثالث .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء الثالث
    “ 40 “

    ولما فتح اللّه مكة حج بالناس منه ثمان ، عتاب بن السويد ، وحج في سنة تسع أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه .
    ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حج بالناس سنة عشر على ما ثنا به عبد الحق الأزديّ الإشبيلي كتابة .
    وثنا أبو الوليد جابر بن أبي أيوب الحضرمي ، مشافهة بمسجد الوادي بإشبيلية ، قال : ثنا أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح قال :
    قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد : لما أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحج ، أعلم الناس أنه حاج ، ثم أمرنا بالخروج معه . فأصاب الناس بالمدينة جدري أو حصبة منعت من شاء اللّه أن يمنع من الحج ، فأعلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن عمرة في رمضان تعدل حجة ، وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامدا إلى مكة عام حجة الوداع التي لم يحج من المدينة منذ هاجر عليه السلام غيرها ، فأخذ على طريق الشجرة ، وذلك يوم الخميس لستّ بقين من ذي القعدة سنة عشر نهارا ، بعد أن ترجل ، وادّهن بعد أن صلى الظهر بالمدينة ، فصلى العصر من ذلك اليوم بذي الحليفة ، وبات ليلة الجمعة ، وطاف تلك الليلة على نسائه ، ثم اغتسل ، ثم صلى الصبح بها ، ثم طيّبته عائشة رضي اللّه عنها بيدها بدريرة وبطيب فيه مسك ، ثم أحرم ولم يغسل الطيب ، ثم لبّد رأسه ، وقلّد بدنته نعلين ، وأشعرها في جانبها الأيمن ، وسالت الدم عنها ، وكانت هدي تطوّع ، وكان عليه السلام ساق هدي نفسه ، ثم ركب راحلته ، وأهلّ حين انبعثت به راحلته من عند مسجد ذي الحليفة بالقران ، بالعمرة والحج معا ، وذلك قبل الظهر بيسير ، وقال للناس بذي الحليفة : “ من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليهلّ ، ومن أراد أن يهلّ بعمرة فليهلّ “ .

    وكان معه عليه السلام من الناس جموع لا يحصيها إلا خالقها ورازقها عز وجل ، ثم لبّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : “ لبيك اللهم لبيك لا شريك لك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك “ .

    وقد روي أنه عليه السلام زاد على ذلك فقال : “ لبيك إله الحمد “ ، وأتاه جبريل عليه السلام وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية .
    وولدت أسماء بنت عميس الخثعمية ، زوجة أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، محمد بن أبي بكر ، وأمرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تغتسل ، وتسفر بثوب ، وتحرم ، وتهلّ ، ثم نهض عليه السلام وصلى الظهر بالبيداء ، واستهل هلال الحجة ليلة الخميس اليوم الثامن


    “ 41 “



    من يوم الخروج من المدينة ، فلما كان بسرف حاضت عائشة رضي اللّه عنها ، وكانت قد أهلّت بعمرة ، فأمرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تغتسل ، وتنقض رأسها ، وتمتشط ، وتترك العمرة ، وتدعها وترفضها ، ويدخل منها ، وتدخل على العمرة حجا ، وتعمل جميع أعمال الحج ، حاشا الطواف بالبيت ما لم تطهر ، وقال عليه السلام وهو يشير للناس : “ من لم يكن معه هدي فلا يعتمر ، فمنهم من جعلها عمرة كما أبيح له ، ومنهم من تمادى على نية الحج ولم يجعلها عمرة أصلا “ .

    وأمر عليه السلام في بعض طريقه ذلك كل من كان معه هدي أن يهل بالقرآن ، بالحج والعمرة معا ، ثم نهض عليه السلام إلى أن نزل بذي طوى ، فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من الحجة ، وصلى الصبح ، ودخل مكة نهارا ، من أعلاها ، من كداء ، من الثنية العليا ، صبيحة يوم الأحد المذكور المؤرخ ، واستلم الحجر الأسود ، وطاف صلى اللّه عليه وسلم بالكعبة سبعا ، ورمل ثلاثا منها ، ومشى أربعا يستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كل طوافه ، ولا يمس الركنين الأخيرين اللذين في الحجر ، وقال بينهما : “رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ” .

    ثم صلى عند مقام إبراهيم عليه السلام ركعتين ، يقرأ فيهما مع أم القرآن :قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، والإخلاص ، وجعل المقام بينه وبين الكعبة ، وقرأ عليه السلام إذا أتى المقام قبل أن يركع :وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه ، ثم رجع إلى الصفا فقرأ :إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِابدأ بما بدأ اللّه به ، فطاف بين الصفا والمروة أيضا ، راكبا سبعا على بعيره ، يخبّ ثلاثا ، ويمشي أربعا ، إذا رقا على الصفا استقبل القبلة ، ونظر إلى البيت ووحّد اللّه وكبّره ، وقال : “ لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا اللّه وحده ، أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده “ ، ثم يدعو ، ثم يفعل على المروة مثل ذلك ، فلما كمّل الطواف والسعي عليه السلام أمر كل من لا هدي معه بالإحلال حتما ، ولا بد قارنا كان أو مفردا ، وأن يحلّوا الحل كله من وطء النساء والطيب والمخيط ، وأن يبقوا على ذلك إلى يوم التروية ، وهو يوم منى ، فيهلّوا حينئذ بالحج ، ويحرموا حين ذلك عند نهوضهم إلى منى ، وأمر من معه من الهدي بالبقاء على إحرامه .

    وقال لهم عليه السلام : “ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى اشتريته ، ولجعلتها عمرة ، ولأحللت كما حللتم ، ولكنني سقت الهدي فلا أحل حتى أنحر الهدي “ .


    “ 42 “


    وكان أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وطلحة ، والزبير رضي اللّه عنهم ، ورجال من أهل الوفر ، ساقوا الهدي ، فلم يحلّوا ، وبقوا محرمين ، كما بقي عليه السلام محرما ، لأنه كان ساق الهدي مع نفسه ، وكل أمهات المؤمنين لم يسقن هديا ، فأحللن ، وكنّ قارنات حجا وعمرة ، وكذلك السيدة فاطمة بنت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهما ، أحلّتا ، حاشا عائشة رضي اللّه عنها ، فإنها من أجل حيضها لم تحل كما ذكرنا ، وشكى علي فاطمة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا حلّت ، فصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أنه هو أمرها بذلك ، وحينئذ سأله سراقة بن مالك بن جعشم الكناني ، فقال : يا رسول اللّه ، متّعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ ولنا أم للأمة ؟ فشبك عليه السلام بين أصابعه ، وقال : “ بل للأبد وللأمة ، دخلت عمرة في الحج إلى يوم القيامة “ ، وأمر عليه السلام من جاء إلى الحج على غير الطريق الذي أتى عليها عليه السلام ، ممن أهلّ كاهلا عليه السلام ، بأن يثبتوا على أحوالهم ، فمن ساق منهم الهدي لم يحلّ ، فكان علي في أهل هذه الصفة ، ومن كان منهم لم يسق الهدي أن يحل ، فكان أبو موسى الأشعري من أهل هذه الصفة ، وقام عليه السلام بمكة محرما ، من أجل هديه يوم الأحد المذكور ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء وليلة الخميس .

    ثم نهض صلى اللّه عليه وسلم ضحوة يوم الخميس ، وهو يوم منى التروية مع الناس إلى منى ، وفي ذلك الوقت أحرم بالحج من الأبطح كل من كان من أصحابه رضي اللّه عنهم ، فأحرموا في نهوضهم إلى منى في اليوم المذكور ، فصلى صلى اللّه عليه وسلم بمنى الظهر من يوم الخميس ، وبات بها ليلة الجمعة ، وصلى بها ليلة الجمعة ، وصلى بها الصبح من يوم الجمعة .

    ثم نهض عليه السلام بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور إلى عرفة ، بعد أن أمر الناس عليه السلام أن تضرب له قبة من شعر بنمرة ، فأتى عليه السلام عرفة في قبته التي ذكرنا ، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصوى ، فرحلت له .

    ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس على راحلته خطبة ، ذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض ، ووضع فيها أمور الجاهلية ودماءها ، وأول دم وضع فيها دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان مسترضعا في بني سعد بن بكر بن هوازن ، فقتله هذيل ، وذكر النسّابون أنه كان صغيرا يحبو أمام البيوت ، وكان اسمه آدم ، فأصابه حجر عابر ، أو سهم من غرب ، من يد رجل من بني هذيل فمات .

    قال أبو محمد ، ثم نرجع إلى وصف علمه : ووضع أيضا عليه السلام في خطبة ربا الجاهلية ، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس ، وأوصى بالنساء خيرا ، وأباح ضربهن غير مبرّح إن عصين بما لا يحل لهن ، وقضى لهن بالرزق والكسوة ، بالمعروف على أزواجهن ،




    “ 43 “



    وأمر بالاعتصام بعده بكتاب اللّه عز وجل ، وأخبر أنه لا يضل من اعتصم باللّه ، وأشهد اللّه عز وجل على الناس ، أنه قد بلغهم ما يلزمهم ، فاعترف الناس بذلك ، وأمر عليه السلام أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب .

    وبعثت إليه أم الفضل بنت الحارث الهلالية ، وهي أم عبد اللّه بن العباس ، لبنا في قدح فشربه وهو أمام الناس ، وهو على بعيره ، فعلموا أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن صائما في يومه ذلك ، فلما أتم الخطبة المذكورة أمر بلالا فأذّن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصلّ بينهما شيئا ، لكن صلّاهما عليه السلام بالناس مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد لهما معا ، بإقامتين ، لكل صلاة منهما إقامة ، ثم ركب صلى اللّه عليه وسلم راحلته حتى أتى الموقف ، فاستقبل القبلة ، وجعل جبل المشاة بين يديه ، فلم يزل واقفا للدعاء هنالك حتى سقط رجل من المسلمين على راحلته ، وهو محرم في جملة الحجيج ، فمات ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يكفّن بثوبه ، ولا يمسّ بطيب ، ولا مخيط ، ولا يغطّى رأسه ولا وجهه ، وأخبر صلى اللّه عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة ملبيا ، وسأله قوم من أهل نجد هنالك عن الحج ، فأعلمهم عليه السلام بوجوب الوقوف بعرفة ، ووقت الوقوف بها ، وأرسل إلى الناس أن يقفوا على مشاعرهم ، فلم يزل واقفا للدعاء حتى غربت الشمس من يوم الجمعة المذكورة ، وذهبت الصفرة .

    أردف أسامة بن زيد خلفه ، ودفع عليه السلام ، وقد ضم بزمام القصوى حتى إن رأسها ليصيب طرف رجله ، ثم مضى يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص ، وكلاهما ضرب من السير ، والنص أكدهما ، والفجوة الفسحة من الناس ، كلما أتى ربوة من تلك الروابي أرخى للناقة زمامها قليلا حتى يصعدها ، وهو عليه السلام يأمر الناس بالسكينة بالسير ، فلما كان في الطريق عن الشعب الأيسر ، نزل عليه السلام فيه فبال ، وتوضأ وضوءا خفيفا ، وقال لأسامة : “ المصلى أمامك “ ، أو كلاما هذا معناه .

    ثم ركب حتى أتى المزدلفة ليلة السبت العاشرة من الحجة ، فتوضأ ثم صلى بها المغرب ، والعشاء الأخيرة ، مجموعتين في وقت العشاء الأخيرة دون خطبة ، لكن بآذان واحد لهما معا ، وبإقامتين ، لكل صلاة منهما إقامة ، ولم يصلّ بينهما شيئا . ثم اضطجع عليه السلام بها حتى طلع الفجر ، وأقام عليه السلام ، وصلى الفجر بالناس بالمزدلفة يوم السبت المذكور ، وهو يوم النحر ، يوم الأضحى ، يوم العيد ، يوم الحج الأكبر ، مغلسا أول انصداع الفجر ، وهنالك سأله عروة بن مضرس الطائي ، وقد ذكر له عليه السلام ، آله حج .

    فقال له عليه السلام : “ إن من أدرك الصلاة “ - يعني صلاة الصبح - “ بمزدلفة في ذلك اليوم مع الناس فقد أدرك الحج ، وإلا فلم يدرك “ ، فاستأذنته سودة وأم حبيبة في أن يدفعا




    “ 44 “



    من مزدلفة ليلا ، فأذن لهما ولأم سلمة في ذلك اليوم ، وللنساء والصغار في ذلك اليوم ، بعد وقوفهم جميعهم بمزدلفة ، وذكرهم اللّه تعالى بها . إلا أنه عليه السلام أذن للنساء في الرمي بليل ، ولم يأذن للرجال في ذلك ، لا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم ، وكان ذلك اليوم يوم كونه عند أم سلمة ، فلما صلى الصبح صلى اللّه عليه وسلم بمزدلفة أتى المشعر الحرام بها ، فاستقبل القبلة ، فدعا اللّه عز وجل ، وهلّل وكبّر ووحّد ، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، وقبل أن تطلع الشمس .

    فدفع عليه السلام حينئذ من مزدلفة ، وقد أردف الفضل بن العباس ، وانطلق أسامة على رجليه في سياق فريس ، وهنالك سألت الخثعمية النبي صلى اللّه عليه وسلم الحج عن أبيها الذي لا يطيق الحج ، فأمرها بأن تحج عنه .

    وجعل عليه السلام يصرف بيده وجه الفضل بن العباس عن النظر إليها وإلى النساء ، وكان الفضل أبيض وسيما . وسأله أيضا رجل عن مثل ما سألته عنه الخثعمية ، فأمره عليه السلام بذلك ، ونهض عليه السلام يريد منى ، فلما أتى بطن محسّرة حرك ما فيه ، وسلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى منى ، فأتى الجمرة التي عند الشجرة ، وهي جمرة العقبة ، فرماها عليه السلام من أسفلها بعد طلوع الشمس من اليوم المؤرخ ، بحصى التقطها له عبد اللّه بن عباس عن موقفه الذي رمى فيه ، مثل حصى الخزف ، وأمره بمثلها ، ونهى عن أكبر ، وعن الغلوّ في الدين . فرماها عليه السلام وهو على راحلته بسبع حصيات كما ذكرنا ، يكبّر مع كل حصاة منها .

    وحينئذ قطع عليه السلام التلبية ، وبلال وأسامة أحدهما يمسك خطام ناقته عليه السلام ، والآخر يظله بثوبه من الحر .

    وخطب الناس عليه السلام في اليوم المذكور ، وهو يوم النحر بمنى خطبة ، كرر فيها أيضا تحريم الدماء والأموال والأعراض والإيثار .

    وأعلمهم عليه السلام فيها بحرمة يوم النحر ، وحرمة مكة على جميع البلاد ، وأمر بالسمع والطاعة لمن قاد ، فلعله لا يحج بعد عامه ذلك . وأعلمهم بتمسكهم بكتاب اللّه عز وجل ، وأمر الناس بأخذ مناسكهم .
    وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم ، وأمر أن لا يرجعوا بعده كفارا ، وأن لا يرجعوا بعده ضلالا ، يضرب بعضهم رقاب بعض . وأمر بالتبليغ عنه ، وأخبر أن ربّ مبلّغ أوعى من سامع .



    “ 45 “

    ثم انصرف عليه السلام إلى المنحر بمنى ، فنحر ثلاثة وستين بدنة . ثم أمر عليا فنحر ما بقي منها مما كان عليّ أتى به من اليمن معه ، وما كان أتى به عليه السلام من المدينة ، وكانت تمام المائة .

    ثم حلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأسه المقدّس ، وقسم شعره ، فأعطى من نصفه الناس الشعرة والشعرتين ، وأعطى نصفه الثاني كله أبا طلحة الأنصاري ، وضحّى عن نسائه بالبقر ، وأهدى عن من كان اعتمر منهن بقرة .

    وضحّى هو عليه السلام في ذلك اليوم بكبشين أملحين . وحلق بعض أصحابه ، وقصّر بعضهم .
    فدعا عليه السلام للمحلّقين ثلاثا ، وللمقصرين مرة . وأمر عليه السلام أن يؤخذ من البدن الذي ذكرنا ، من كل بدنة بعضه ، فجعلت في قدر ، وطبخت .
    فأكل عليه السلام هو وعليّ رضي اللّه عنه من لحمها ، وشربا من مرقها ، وكان عليه السلام قد أشرك عليّا فيها ، فأمر عليّا بقسمة لحمها كلها وجلودها وجلالها ، وأن لا يعطى الجازر على جزارتها شيئا منها ، وأعطاه عليه السلام الأجرة على ذلك من عند نفسه .

    وأخبر الناس أن عرفة كلها موقف ، حاشا بطن عرفة ، وأن مزدلفة كلها موقف ، حاشا بطن محسّر ، وأن منى كلها منحر ، وأن فجاج مكة كلها منحر ، ثم تطيّب عليه السلام قبل أن يطوف طواف الإفاضة ، ولإحلاله قبل أن يحل في يوم النحر ، وهو يوم السبت المذكور ، فطيّبته عائشة رضي اللّه عنها بطيب فيه مسك بيدها ، ثم نهض عليه السلام راكبا إلى مكة في يوم السبت المذكور بعينه ، فطاف في يومه ذلك طواف الإفاضة ، وهو طواف الصدر ، قبل الظهر ، وشرب من ماء زمزم بالدلو ، ومن سد بالسقاية ، ثم رجع من يومه ذلك إلى منى ، فصلى بها الظهر .

    وهذا قول ابن عمر رضي اللّه عنهما . قالت عائشة رضي اللّه عنها وجابر : صلى ظهر ذلك اليوم بمكة ، هذا هو الفصل الذي أشكل علينا ، الفصل فيه لصحة الطريق في كل ذلك ، ولا شك أن في أحد الخبرين وهما ، والثاني صحيح ، قال أبو محمد : لا يدري أيهما هو ، وطافت أم سلمة في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس وهي شاكية ، واستأذنت النبي صلى اللّه عليه وسلم في ذلك فأذن لها ، وطافت عائشة رضي اللّه عنها في ذلك اليوم ، وفيه طهرت ، وكانت رضي اللّه عنها حائضة في يوم عرفة ، وطافت أيضا صفية في ذلك اليوم ، وحاضت بعد ذلك ليلة النفر ، ثم رجع عليه السلام إلى منى .


    “ 46 “


    وسئل عليه السلام حينئذ عما تقدم بعضه على بعض في الرمي والحلق والنحر والإفاضة ، فقال في كل ذلك : “ لا حرج “ ، وكذلك أيضا فقال : “ في تقدم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالكعبة “ ، وأخبر عليه السلام بأن اللّه تعالى أنزل الداء والدواء إلا الهرم ، وعظم إثم من افترض عرض مسلم ظلما ، فأقام هنالك باقي يوم السبت ، وليلة الأحد ، ويوم الأحد ، وليلة الاثنين ويومه ، وليلة الثلاثاء ويومه ، وهذه هي أيام منى ، وهي أيام التشريق ، برمي الجمار الثلاثة كل يوم من هذه الأيام الثلاثة بعد الزوال ، بسبع حصيات كل يوم لكل جمرة ، يبدأ بالكبرى ، وهي تلي مسجد منى ، ويقف عندها للدعاء طويلا ، ثم التي تليها ، وهي الوسطى ، ويقف عندها للدعاء كذلك ، ثم جمرة العقبة ، ولا يقف عندها ، وكبّر عليه السلام مع كل حصاة ، وخطب الناس أيضا يوم الأحد الثاني من النحر ، وهو يوم الروس .

    وقد روي أنه عليه السلام خطبهم أيضا يوم الاثنين ، فأوصى بالأرحام خيرا . وأخبر عليه السلام أنه لا تجني نفس على أخرى . فاستأذنه عمه العباس في المبيت بمكة ليالي منى المذكورة من أجل سقايته ، وأذن له عليه السلام وأذن للدعاء أيضا في مثل ذلك .

    ثم نهض عليه السلام بعد زوال الشمس من يوم الثلاث المؤرخ ، وهو آخر أيام التشريق ، وهو الثالث عشر من ذي الحجة ، وهو يوم النفر إلى المحصّب ، وهو الأبطح ، فضرب بها قبّة ، ضربها أبو رافع مولاه ، وكان على ثقله عليه الصلاة والسلام ، وقد كان عليه الصلاة والسلام قال لأسامة إنه ينزل غدا بالمحصّب خيف بني كنانة ، وهو المكان الذي ضرب فيه أبو رافع القبّة ، وفاقا من اللّه عز وجل ، دون أن يأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، وحاضت صفية ليلة النحر بعد أن أفاضت ، فأخبر بذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم عليّ ، فسأل : “ أفاضت يوم النحر ؟ “ ، فقيل له : نعم . فأمرها أن تنفر ، وحكم فيمن كانت حالته كذلك أن تنفر أيضا ، وصلى عليه الصلاة والسلام بالمحصب بالظهر والعصر والمغرب والعشاء الأخيرة من ليلة الأربعاء المذكورة ، ورقد رقدة .
    ولما كان يوم النحر والنفر رغبت إليه عائشة رضي اللّه عنها بعد أن طهرت أن يعمرها عمرة مفردة ، فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها قد حلّت من عمرتها وحجتها ، فإن طوافها يكفيها ، ويجزئها لحجتها وعمرتها ، فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة ، فقال لها : “ ألم تكوني طفت ليالي قدمت ؟ “ ، قالت : لا . فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهما بأن يردفها ويعمرها من التنعيم ، ففعلا ذلك .
    وتطهر النبي صلى اللّه عليه وسلم بأعلى مكة حتى انصرفت من عمرتها تلك ، فقال لها : “ هذا مكان


    “ 47 “


    عمرتك “ ، وأمر الناس أن لا ينصرفوا حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت ، ورخص في ترك ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضتها ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة في ليلة الأربعاء المذكورة ، فطاف بالبيت طواف الوداع لم يرمل في شيء منه سحرا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكورة ، ثم خرج من كدا أسفل مكة من الثنية السفلى ، والتقى صلى اللّه عليه وسلم بعائشة رضي اللّه عنها وهي ناهضة إلى الطواف المذكور ، وهي راجعة من تلك العمرة التي ذكرنا ، ثم رجع عليه الصلاة والسلام وأمر بالرحيل ، ومضى عليه الصلاة والسلام من فوره ذلك راجعا إلى المدينة ، وخرج من مكة من الثنية السفلى ، فكانت مدة إقامته عليه الصلاة والسلام بمكة منذ دخلها إلى أن خرج إلى منى ، إلى عرفات ، إلى مزدلفة ، إلى منى ، إلى المحصّب ، إلى أن وجّه راجعا ، عشرة أيام ، فلما أتى ذا الحليفة ، بات بها ، ثم لما رأى المدينة كبّر ثلاثا ، وقال : “ لا إله إلا اللّه وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . أنيبوا تائبون عابدون ساجدون لربنا ، حامدون ، صدق اللّه وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده “ ، ثم دخل عليه الصلاة والسلام المدينة نهارا من طريق المعرس . والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا . ( انتهى حديث محمد ) .

    وروينا من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما في هذه الحجة ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذ بحلقة باب الكعبة ، ثم أقبل بوجهه على الناس ، فقال : “ يا معشر المسلمين ، إن من أشراط القيامة إماتة الصلاة ، واتباع الشهوات ، وتكون أمراء خونة ، ووزراء فسقة “ ، فوثب سلمان الفارسي رضي اللّه عنه ، فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، إن هذا ليكون ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، وعندها يكون المنكر معروفا ، والمعروف منكرا “ . قال : أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، وعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء ، مما يرى ولا يستطيع أن يغيّره “ . قال : أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، ويؤتمن الخائن ، ويخوّن الأمين ، ويصدّق الكاذب ، ويكذّب الصادق “ . قال : أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، إن أولي الناس قوم المؤمن بينهم يمشي بالمخافة ، إن تكلم أكلوه ، وإن سكت مات بغيظه .

    يا سلمان ، ما قدّست أمة لا تنتقم من قويّها لضعيفها “ . قال : أفيكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، وعندها يكون المطر قيظا ، والولد غيظا ، وتفيض اللئام فيضا ، وتغيظ الكرام غيظا “ . قال : أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، عندها يعظم رب المال ، ويباع الدين بالدنيا ، وتلتمس الدنيا بعمل الآخرة ، ويكتفي الرجال بالرجال ، والنساء بالنساء ، وتركب ذوات الفروج السروج ، فعليهم من أمتي لعنة اللّه . يا سلمان ، عندها يلي أمتي قوم جثتهم جثة الناس ، وقلوبهم قلوب الشياطين ، إن تكلموا قتلوهم ، وإن سكتوا استباحوهم ، لا




    “ 48 “



    يرحمون صغيرا ، ولا يوقّرون كبيرا ، لساء ما يزرون ، وتوطأ حرمتهم ، ويحار في حكمهم ، عند ذلك تكون إمارة النساء ، ومشاورة الإماء ، ونفوذ الصبيان على الناس ، وتكثر الشرط ، وتتحلى ذكور أمتي بالذهب ، ويتهاون بالزنا ، وتظهر القينات ، ويتغنى بكتاب اللّه ، وتتكلم الرويبضة “ . قلت : بأبي أنت يا رسول اللّه وأمي ، وما الرويبضة ؟ قال : “ يتكلم في أمر العامة من لم يتكلم قبل “ . قال : أو يكون ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، عندها تزخرف المساجد كما تزخرف الكنائس والبيع ، وتحلّى المصاحف بالذهب ، وتطوّل المنابر ، وتكثر الصفوف ، والقلوب متباغضة ، والألسن مختلفة ، ونوالهم لعفة من أعطي على لسان من أعطى شكر ، ومن منع كفر “ . قال : أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، عند ذلك يأتي سبايا من المشرق والمغرب ، تكون من أمتي ، فويل للضعفاء منهم ، وويل لهم من اللّه ، إن تكلموا قتلوا ، وإن سكتوا قتلوا ، موت على طاعة اللّه خير من حياة على معصية اللّه “ . قال :

    أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، عندها تشارك المرأة زوجها في أمره ، ويعق الرجل والده ، ويبر صديقه ، يلبّسون جلود الضأن على قلوب الذئاب ، علماؤهم شر من الجيفة “ .

    قال : أو يكون ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، عندها تكون عبادتهم فيها فيما بينهم ، التلاوة لها فيها ، ولا بد يسمّون في ملكوت السماوات والأرض الأنجاس والأرجاس “ . قال : أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان ، عند ذلك يتخذ كتاب اللّه مزامير ، وينبذ كتاب اللّه وراء ظهورهم ، يعطلون الحدود ، ويميتون سنّتي ، ويحبّون البدعة ، ولا يقام يومئذ بنصر اللّه ، لا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، عندها يغار على الغلام كما يغار على الجارية ، ويخطب كما تخطب النساء ، ويهيّئ كما تهيّئ المرأة ، عندها تقارب الأسواق “ . قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه ، وما تقارب الأسواق ؟ قال : “ كل يقول لا أبيع ولا أشتري ، ولا رازق غير اللّه . يا سلمان ، عندها تليهم الجبابرة ، ويمنعون حقوقهم ، ويملئون قلوبهم رعبا ، فلا ترى إلا خائفا مرعوبا ، عند ذلك يرفع الحج ، فلا حج ، يحج كبار الناس للهوى ، وأوساط الناس للتجارة ، وفقراء الناس للرياء والسمعة “ . قال : أو يكون ذلك ؟ قال : “ نعم يا سلمان “ ( الحديث ) ، وسيأتي معناه في هذا الكتاب مستوفى من حديث الكنانيّ ، وقد انتهى المجلس من محاضرة الأبرار .




    “ 49 “



    ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم )
    ذكر الخلفاء وتاريخ مدتهم خاصة
    فأولهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه ، وكان اسمه قبل الإسلام عبد رب الكعبة فسمّاه عليه الصلاة والسلام عبد اللّه ، وقال له عليه السلام : “ أنت عتيق من النار “ ، فكان يدعى عتيقا ، وقيل : سمّي عتيقا لجماله ، كان يملك أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه يوم أسلم أربعين ألف درهم ، وأسلم على يده من العشرة سيدنا عثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي اللّه عنهم .
    ولما تولى الخلافة أصبح غاديا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها ، فلقيه عمر وأبو عبيدة ، فقالا : أين تريد ؟ قال : السوق ، قالا : ما تصنع وقد ولّيت أمر المسلمين ؟
    قال : فمن أين أطعم عيالي ؟ قال : ففرضوا له كل يوم شطر شاة ، وكسوة في الرأس والبطن ، وكان أبو بكر يحلب للحي أغنامهم ، فلما بويع قالت جارية من الحي : الآن لا يحلب لنا ، فقال : بلى ، لأحلبنها لكم ، وأرجو أن لا يغيّرني ما دخلت فيه عن خلق كنت فيه .

    ولما ولي خطب الناس ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، قد ولّيت أمركم ولست بخير منكم ، وإن أقواكم عندي الضعيف ، حتى آخذ له بحقه ، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه . أيها الناس ، إنما أنا متّبع ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن زغت فقوّموني .

    وقد ذكرنا نسبه ، وأمه أمّ الخير سلمى بنت صخر بن عامر ، تجتمع مع زوجها في عامر ، وهو ابن أبي قحافة ، بويع في اليوم الذي قبض فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة ، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما ، ومات ليلة الثلاثاء ، وقيل : يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ،


    “ 50 “

    وهو ابن ثلاث وستين سنة ، وبويع في سقيفة بني ساعدة بن الخزرج ، وكان أول من بايعه بشير بن سعد الأنصاري ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم أبو عبيدة بن الجراح ، ثم سعد بن عبادة ، ثم المهاجرون والأنصار ، ولم نودع في كتابنا هذا ما شجر بين الصحابة رضي اللّه عنهم خوفا على النفوس الضعيفة ، ولا مثلبة من مثالب أحد ، والحمد للّه على ذلك .
    وخاتمه خاتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكاتبه عثمان بن عفان ، وحاجبه مولاه شديد ، وقاضيه عمر بن الخطاب .خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
    ذكرنا نسبه ، وأمه هي خيثمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم ، ولّي سنة ثلاث عشرة يوم مات أبو بكر ، وقبض سنة أربع وعشرين من الهجرة ، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر إلا يوم ، ومات وهو ابن ست ، وقيل : خمس ، وقيل : ثلاث وستين سنة ، مقتولا ، طعنه أبو لؤلؤة الفارسي فيروز غلام المغيرة بن شعبة ، يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ، وبقي ثلاثة أيام ، وتوفي لأربع بقين من ذي الحجة ، وقيل : توفي يوم الاثنين ، وصلى عليه صهيب بن سنان الرومي ، ودفن في حجرة عائشة .

    خاتمه خاتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وكاتبه عبد اللّه بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات ، وزيد بن ثابت الأنصاري ، وحاجبه مولاه برقى ، وقيل : اسمه بشر ، قاضيه يزيد ابن أخت الهمزة ، وبالكوفة أبو أمية شريح بن الحارث الكندي .خلافة عثمان بن عفان رضي اللّه عنه

    ذكرنا نسبه ، وأمه وهي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف . بويع بعد قتل عمر بثلاثة أيام سنة أربع وعشرين ، وقيل : في سنة خمس وثلاثين ، في ذي الحجة يوم الجمعة لثمان بقين منه ، وقيل : يوم الأربعاء ، وقيل : يوم الأضحى .
    وصلى عليه جبير بن مطعم .
    كانت خلافته اثني عشر سنة إلا يوم . وكان عنده خاتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلما سقط منه في البئر اتخذ خاتما من فضة ، نقش عليه : لتصبرنّ أو لتندمنّ .
    وقيل : نقش عليه : آمنت بالذي خلق فسوّى . وكاتبه مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ، وحاجبه مولاه حمران بن أبّان .


    “ 51 “



    مات وهو ابن سبع وثمانين سنة . قاضية كعب بن سور ، صاحب شرطته عبد اللّه بن قنفد التميمي .خلافة علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وكرّم اللّه وجهه

    ذكرنا نسبه الكريم ، وأمه فاطمة بنت أسد بن هشام . بويع يوم قتل عثمان في الثاني عشر من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، وقتل سنة أربعين في شهر رمضان لسبع عشرة ليلة خلت منه سنة أربعين ، وقد بلغ سبعة وخمسين سنة . وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ، وقيل : خمس سنين وثلاثة أشهر وأربعة وعشرين يوما . نقش خاتمه : ربي اللّه مخلصا . كاتبه سعيد بن نجران الهمذاني وعبد اللّه بن أبي رافع ، وقاضيه شريح بن الحارث ، وحاجبه قنبر بن زيد مولاه . وصلى عليه ابنه الحسن رضي اللّه عنهما .خلافة الحسن بن علي رضي اللّه عنهما
    وأمه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . كانت مدة خلافته خمسة أشهر وخمسة عشر يوما ، نزل رضي اللّه عنه عن الخلافة اختيارا منه ، رغبة في أن يصلح اللّه بذلك بين الفئتين من المسلمين ، كما أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . كان نقش خاتمه : العزة للّه عز وجل وحده . وكاتبه عبد اللّه بن أبي رافع .
    ولد الحسن بن علي يوم الأحد سنة ثلاث من الهجرة ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم في القتال ، ومات الحسن رضي اللّه عنه يوم الأحد لعشر خلون من المحرم سنة خمس وأربعين من الهجرة .خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عنه
    ابن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، هناك يلتقي برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
    وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف . بويع له في الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين بعد صلح الحسن بن علي رضي اللّه عنه .
    نقش خاتمه : رب اغفر لي . كاتبه عبد اللّه بن أوس الغساني ، حاجبه مولاه زياد بن نوف ، قاضيه فضالة بن عبد اللّه الأنصاري .
    مات وصلى عليه ابنه يزيد ، وقيل : ضحّاك بن قيس ، ودفن بدمشق بين باب الجابية

    “ 52 “

    وباب الصغير في رجب سنة ستين من الهجرة ، وقد بلغ ثمانية وسبعين سنة وتسعة أشهر إلا يوما واحدا . وكان قبل ذلك أمير الشام أكثر من عشرين سنة .خلافة يزيد بن معاوية
    ابن أبي سفيان . وأمه ميسور بنت نجيد بن أفو ، من بني حباب بن كليب بن وبرة ، من حمير . بويع يوم مات أبوه باستخلافه له . خاتمه من فضة ، نقشه : ربنا اللّه .
    كاتبه عمرو بن سعد الأشرف ، حاجبه مولاه صفوان ، وقيل : خالد مولاه . مات بذات الجنب بحوران ، وحمل إلى دمشق ، وصلى عليه أخوه خالد ، ودفن في مقبرة باب الصغير ، وقد بلغ سبعا وثلاثين سنة .
    وكانت خلافته ثلاث سنين واثني عشر يوما ، فولّي سنة ستين ، ومات سنة أربع وستين ، وصلى عليه ابنه معاوية . قاضيه أبو إدريس الخولاني .خلافة أبي ليلى معاوية بن يزيد
    ابن معاوية بن أبي سفيان . وأمه أم خالد بنت أبي هشام بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف . بويع يوم مات أبوه يزيد باستخلافه . نقش خاتمه : الدنيا غرور . كاتبه الريّان بن مسلم ، حاجبه مولاه مسلم بن عتّاب . كان زاهدا في الدنيا ، راغبا في الآخرة .
    نظر في الأمر فإذا ليس يصلحه إلا السيف ، فجمع الناس وخطبهم ، فقال : معاشر الناس ، إني قد نظرت في أمركم ، وإني قد ضعفت عن القيام بأمركم وخلعت نفسي من الخلافة ، فاختاروا لأنفسكم . ونزل ودخل بيته . فاجتمعت إليه بنو أمية ، وقالوا له : أعهد إلي من تريد .

    فقال : لا أزدرد مرارتها ، ويكون لبني أمية حلاوتها . فأغلق بابه ، ومات بعد أيام ، وقد بلغ إحدى وعشرين سنة ، وصلى عليه أخوه عبد الرحمن ، ودفن خارج باب الجابية .
    وقيل : صلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، فلما كبّر تكبيرتين مات قبل أن يقضي صلاته ، فصلى عليه مروان بن الحكم . ودفن الوليد بجنب معاوية بن يزيد .
    وكانت خلافته ثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوما . وتمثل مروان بن الحكم على قبره ببيت :إني أرى فتنة تغلي مراجلها * والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا


    “ 53 “


    وظهر أبو أنيس الضحاك بن قيس الفهريّ ، ودعا الناس إلى بيعته ، فخرج عليه مروان بن الحكم في بني أمية ، فقتله بمرج راهط .خلافة مروان بن الحكم
    ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف . وأمه أمينة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرف الكناني .
    بويع له بالخلافة في رجب سنة أربع وستين ، واجتمعت عليه الأمة إلا عبد اللّه بن الزبير ، فإنه كان بمكة يدعي له بالخلافة .
    نقش خاتمه : ثقتي ورجائي باللّه . حاجبه أبو سهل الأسود ، كاتبه سفيان الأحول ، صاحب شرطته يحيى بن بشر الغساني ، قاضيه أبو إدريس الخولاني .
    مات مطعونا ، وصلى عليه ابنه عبد الملك ، ودفن بدمشق خارج باب الجابية ، وقد بلغ ثلاثا وستين سنة . كانت خلافته عشرة أشهر إلا يوما .خلافة أبي الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم
    وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية ، وتعرف بالبيضاء . بويع يوم مات أبوه مروان باستخلافه له . نقش خاتمه : آمنت باللّه مخلصا .
    قاضيه أبو إدريس الخولاني ، كاتبه روح بن زنباع ثم قبيضة بن ذؤيب الخزاعي ، حاجبه مولاه أبو يوسف يعقوب ، وصاحب شرطته كعب بن خويلد القيسي .
    ومات بدمشق وقد بلغ إحدى وستين سنة ، وقيل : سبعا وخمسين ، وصلى عليه ابنه الوليد ، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير .
    وكانت خلافته إلى قتل عبد اللّه بن الزبير سبع سنين وثمانية أشهر وتسعة عشر يوما ، وبعد قتل عبد اللّه بن الزبير ثلاثة عشر سنة وثلاثة أشهر وثمانية وعشرين يوما ، يكون جميعها إحدى وعشرين سنة وسبعة عشر يوما . وولي سنة أربع وستين ، ومات سنة خمس وثمانين .
    وأما عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما فبويع بمكة في رجب سنة أربع وستين ، وقتل للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ، فكانت مدته من وقت بويع إلى أن قتله الحجاج ثمان سنين وأحد عشر شهرا وسبعة أيام .


    “ 54 “



    خلافة أبي العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان
    وأمه ولّادة بنت العباس بن حزن العبسي ، بويع يوم مات أبوه . نقش خاتمه : ربي اللّه لا أشرك به شيئا . وقيل : يا وليد أنت ميت ومحاسب . حاجبه مولاه سعيد والقعقاع بن خويلد العبسي . مات بدير حران وحمل على أعناق الرجال إلى دمشق ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ، ودفن بباب الصغير ، وكان موته سنة ست وسبعين ، فكانت مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر ونصف ، وبلغ تسعة وأربعين عاما .
    كاتبه أبو شريك ، ثم قبيصة ، ثم ابن ذؤيب ، ثم الضحّاك بن دير ، ثم يزيد بن أبي كبشة ، ثم عبيد بن بلال .

    خلافة أبي أيوب سليمان بن عبد الملك بن مروان
    وأمه ولّادة بنت العباس بن حزن العبسي أم الوليد ، بويع له بالرملة بعد موت أخيه الوليد بثلاثة أيام . نقش خاتمه : آمنت باللّه وحده .
    حاجبه أبو عبيدة ، كاتبه أبو سليمان بن نعيم بن سلامة ، ويزيد بن المهلب ، والفضل بن المهلب ، وعبد العزيز بن الحارث بن الحكم . صاحب شرطته كعب بن خويلد العبسي .
    مات بدابق بذات الجنب ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ، وقد بلغ خمسة وأربعين سنة .
    كانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام ، وولّي سنة ست وتسعين ، ومات سنة تسع وتسعين . قاضيه محمد بن حزم .

    خلافة أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم
    وأمه أم عاصم قريبة بنت عاصم بن الخطاب . بويع يوم مات سليمان بن عبد الملك بغير عهد . كان له من عمه عبد الملك ولا من سليمان ، وإنما كان العهد ليزيد بن عبد الملك بعد سليمان . وكان يزيد غائبا في الوقت الذي توفي فيه أخوه سليمان ، فتقدم سليمان قبل وفاته إلى محمد بن شهاب الزهري ، ومكحول ، ورجاء بن حيوة ، وجميع من حضره من أهل الشام ، وقال : اختاروا لكم رجلا يقوم بالأمر إلى أن يقدم أخي يزيد .


    “ 55 “

    فاختاروا عمر بن عبد العزيز ، وقدم يزيد فأقره على الأمر ورضي به ، وبايعه على أن يكون الخليفة من بعده . نقش خاتمه : عمر يؤمن باللّه مخلصا .
    حاجبه مولاه حيي وقيس ومزاحم ، كاتبه الليث بن أبي رقية ورجاء بن حيوة الكندي ، صاحب شرطته يزيد بن قيس السكسكي .
    مات بدير سمعان من أرض حمص ، وقبره معروف من بين قبور خلفاء بني أمية .
    هكذا قال الذهبي في تاريخه . وأما أنا فزرت قبره بدير البقيرة على فرسخ من المقبرة ، وهو مشهور بذلك الموضع .
    كانت خلافته سنتين وخمسة أشهر ، وبلغ من العمر تسعا وثلاثين سنة وشهرا .
    وكانت ولايته سنة ثمان وتسعين .
    ومات سنة مائة من الهجرة ، وقيل : إحدى ومائة في رجب . قاضيه عبد اللّه بن سعد الأربلي .خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان
    وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية . نقش خاتمه : قني السيئات يا عزيز . حاجبه مولاه خالد وسعد ، كاتبه مسلمة بن زياد .
    مات بأذرعان وهو خارج إلى بيت المقدس ، ودفن فيها . وقد بلغ أربعين سنة ، وكانت خلافته أربع سنين وشهرا وخمسة أيام .
    وولي سنة إحدى ومائة . ومات سنة خمس ومائة ، لخمس بقين من شعبان .خلافة أبي الوليد هشام بن عبد الملك بن مروان
    وأمه أم إسماعيل بنت هشام بن إسماعيل المخزومي . بويع بمدينة الرصافة على الفرات بعد موت أخيه بأربعة أيام . نقش خاتمه : الحكم للّه .
    كاتبه مولاه سالم ، وحاجبه مولاه خالد ، وصاحب شرطته يزيد بن يعلى بن الجهم العبسي . بويع سنة خمس ومائة .
    ومات سنة خمس وعشرين ومائة بالرصافة ، ودفن بها . وقد بلغ إحدى وستين سنة ، فكانت خلافته تسعة عشر سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام . قاضيه عمر بن صفوان الجمحي .


    “ 56 “


    خلافة أبي العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان
    وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي . بويع يوم مات عمه هشام بن عبد الملك . نقش خاتمه : يا وليد احذر الموت . حاجبه قطريّ ، كاتبه يوسف بن مهرويه ، صاحب شرطته عبد الرحمن بن جميل الكلبي .
    قتله ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، ودفن خارج باب الفراديس ، وقد بلغ تسعا وثلاثين سنة .
    وكانت خلافته سنة وشهرين واثنين وعشرين يوما . ولّي في ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة ، وقتل في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة .خلافة أبي خالد يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
    ولد يزيد بن الوليد في الكعبة ، ولم يولد في الكعبة خليفة غيره . وأمه أم ولد ، يقال لها : ظريفة ، من بنات يزدجرد بن كسرى .
    بويع قبل قتل الوليد بن يزيد ، نقش خاتمه : يا يزيد قم بالحق تنصر . حاجبه مولاه سلامة ، كاتبه بكر بن الشماخ وهو صاحب شرطته ، وكاتبه أيضا ثابت بن سليمان ، قاضيه عثمان بن عمر بن موسى بن معمر التميمي .
    كانت خلافته ستة أشهر . ولّي سنة ست وعشرين ومائة ، ومات سنة سبع وعشرين ومائة ، وقد بلغ ستا وأربعين سنة .خلافة أبي إسحاق بن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
    وأمه أم ولد يقال لها : نعمة . بويع يوم مات أخوه يزيد بن الوليد في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة .
    نقش خاتمه : توكلت على الحي القيوم . كاتبه إبراهيم بن أبي جمعة وغيره ، حاجبه : مولاه وردان .
    قاضيه عثمان بن عمر التميمي . خلع نفسه من الخلافة بعد أن أقام شهرين وأربعة وعشرين يوما ، سلم الأمر إلى مروان بن محمد بن مروان بن الحكم . وهو آخر خلفاء بني أمية .



    “ 57 “

    خلافة أبي عبد الملك مروان بن محمد بن مروان بن الحكم
    وأمه لبابة الكردية . نقش خاتمه : ادكر الموت يا غافل . حاجبه مولاه سفيان ، كاتبه عبد الحميد بن يحيى ، صاحب شرطته كوثر بن الأسود المغيري .
    بويع يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من صفر سنة ست وعشرين ومائة . وهو الذي يقال له : مروان الجعدي ، ويقال له : مروان الحمار لأنه كان يثبت في الحرب ولا ينثني لشجاعته .
    قتل في الحرب يوم الجمعة لثلاث عشرة من ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين ومائة ، وقد بلغ تسعا وستين سنة . وكانت خلافته خمس سنين وعشرة أشهر وسبعة أيام .

    قتله عامر بن إسماعيل المزني الذي كان على مقدمة صالح بن علي . وهو آخر خلفاء بني أمية بهذه البلاد ، أعني بلاد الشرق .
    قاضيه عثمان بن عمر التميمي . ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس هرب عبد الرحمن الداخل بن معاوية إلى الأندلس ، وسمي الداخل لدخوله الأندلس .
    وهرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ، فبايعه أهل الأندلس سنة تسع وثلاثين ومائة . وأقام واليا ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر .
    وتوفي في غرة جمادى الأولى سنة اثنين وسبعين ومائة . وولي ابنه هشام سبع سنين وتسعة أشهر .
    ثم ولّي الحكم بن هشام ، سبعا وعشرين سنة وشهرا وخمسة عشر يوما . ثم ولّي محمد بن عبد الرحمن بن الحكم أربعا وثلاثين سنة وأحد عشر شهرا .
    ثم ولي المنذر بن محمد سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما . ثم ولي أخوه عبد اللّه خمسا وعشرين سنة ونصف شهر .

    ثم ولي عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللّه بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم وسمي أمير المؤمنين .
    وكان من قبله يسمون : بنو الخلائف . ولم يزل واليا خمسين سنة . ثم ولي بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن خمسة عشر سنة وأشهرا . ثم ولي بعده ابنه هشام تسعا وثلاثين سنة ، إلى أن قتله ابن عمه سليمان في سنة ثلاث وأربعمائة .
    ثم ولي سليمان ثلاث سنين . ثم مات في سنة ست وأربعمائة ، وانحلّ نظام بني
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:10

    الجزء الرابع .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء الرابع
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 58 “

    أمية ، وغلب على كل ناحية من الأندلس أميرها ، وصار بعضها لرجل من بني الحسن رضي اللّه عنه يلقب بالمأمون .خلافة أبي العباس السفاح
    واسمه عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب . وأمه ريطة بنت عبيد اللّه بن عبد المدان الحارثي .
    بويع بالكوفة يوم الخميس بيعة الخاصة ، ومن غد يوم الجمعة بيعة العامة ، لثلاث ليال خلت من ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين ومائة . نقش خاتمه : اللّه ثقة عبد اللّه وبه يؤمن .
    حاجبه مولاه أبو غسان ، وزيره وكاتبه أبو الجهم ، صاحب شرطته عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي ، أصحاب مشورته أخوه أبو جعفر المنصور ، وأبو مسلم ، وقحطبة بن شبيب ، والحسن وحميد ابنا قحطبة ، على الحرب .
    مات بالجدري بالأنبار من مدينته التي بناها وسمّاها الهاشمية ، وكانت وفاته يوم الأحد لثلاث عشر خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة ، وقد بلغ ثلاثا وثلاثين سنة .
    وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر . عهد إلى أخيه أبي جعفر المنصور . وكان قاضيه ابن أبي ليلى .خلافة أبي جعفر المنصور
    واسمه عبد اللّه بن محمد بن عليّ بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب . وأمه سلامة بنت بشير البربرية . قدم من مكة إلى بغداد ، وقد أخذت له البيعة . نقش خاتمه : اتق اللّه فإنك ترد فتعلم .
    حاجبه عيسى بن نجيح ، وزيره سليمان بن مخلد الأهوازي . مات ببئر ميمون خارج مكة محرما من وجع البطن ، ودفن على باب الشغب بالحجون ، وقد بلغ أربعا وستين سنة ، وكنت خلافته اثنين وعشرين سنة إلا سبعة أيام .
    وكانت بيعته سنة ست وثلاثين ومائة ، ومات سنة ثمان وخمسين ومائة . وعهد إلى ابنه المهدي في السادس من ذي الحجة . وكانت ولايته في ذي الحجة .



    “ 59 “

    خلافة المهدي محمد بن جعفر المنصور
    وأمه أم موسى بنت منصور بن يزيد الحميريّ . بويع بعهد من أبيه له سنة ثمان وخمسين ومائة .
    ومات سنة تسع وستين ومائة من المحرّم ، وصلى عليه ولده الرشيد . وقد بلغ ثلاثا وأربعين سنة ، فكانت ولايته عشر سنين وشهرا ونصفا .
    نقش خاتمه : حسبي اللّه ، حاجبه الربيع بن يونس ، قاضيه عبد اللّه بن علاقة وعاقبة بن يزيد ، كاتبه أبو الجهم والفضل بن الربيع وسلامة الأبرش .خلافة أبي موسى الهادي بن محمد المهدي
    وأمه الخيزران مولدة جرش ، وهي بنت عطاء مولى أبيه ، وهي أم الخلفاء . بويع بعهد من أبيه سنة تسع وستين ومائة ، ومات سنة سبعين ومائة .
    وقد بلغ خمسة وعشرين سنة ونصف ، وصلى عليه أخوه هارون ، فكانت خلافته سنة وشهرا وثلاثة وعشرين يوما .
    نقش خاتمه : موسى يؤمن باللّه . قاضيه بالجانب الغربي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، وبالجانب الشرقي سعيد بن عبد الرحمن الجمحي .
    حاجبه الفضل بن الربيع ، كاتبه ووزيره إبراهيم بن المهدي والربيع بن يونس ثم عمر بن الربيع .خلافة أبي جعفر هارون الرشيد بن محمد المهدي
    وأمه الخيزران . نقش خاتمه : العظمة والقدرة للّه عز وجل . وزيره جعفر بن يحيى بن برمك ، حاجبه قيس بن ميمون ، ثم حاجبه محمد بن خالد بن برمك .
    بلغ عمره أربعا وأربعين سنة وخمسة أشهر ، وولي سنة سبعين ومائة ، وذلك ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من ربيع الأول . وفي هذه الليلة ولد المأمون ، وكان خليفة .
    وتوفي موسى الهادي ومات سنة ثلاث وتسعين ومائة ، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة ، وصلى عليه ابن صالح .
    وكانت خلافته بعد أخيه ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وثمانية أيام .



    “ 60 “

    قضاته : نوح بن دراج ، وحفص بن غياث ، والحسين بن الحسن العوفي ، وعون بن عبد اللّه المسعودي ، ومحمد بن سماعة ، وشريك بن عبد اللّه ، وعلي بن حرملة .خلافة أبي عبد اللّه محمد الأمين بن هارون الرشيد
    وأمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور . نقش خاتمه : لكل عمل ثواب .
    حاجبه الفضل بن الربيع ، وزيره إبراهيم بن المهدي .
    قتله طاهر بن الحسين في قصة طويلة ببغداد ، ودفن بها في سنة ثمان وتسعين ومائة ، وقد بلغ سبعا وعشرين سنة .
    وكانت بيعته سنة ثلاث وتسعين ومائة ، فكانت خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة وعشرين يوما . قاضيه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ، وأبو البحتري وهب بن وهب ، ومحمد بن سماعة .
    ولم يكن في الخلفاء من أمّه هاشمية سوى علي بن أبي طالب والحسن والحسين والأمين هذا .خلافة أبي العباس عبد اللّه المأمون بن هارون الرشيد
    وأمه من أهل البادية . نقش خاتمه : الموت حق . كاتبه أحمد بن أبي خالد الأحول وأحمد بن يوسف ، وزيره الحسن بن سهل والفضل بن سهل ذو الرئاستين ، حاجبه مولاه رشيد .
    مات بطرطوس سنة ثمان عشرة ومائتين ، وبويع سنة ثمان وتسعين ومائة . بلغ عمره ثمانية وأربعين سنة .
    كانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وأحد وعشرين يوما . قاضيه محمد بن عمر الواقدي ، ثم محمد بن عبد الرحمن المخزومي ، ثم بشر بن الوليد ، ثم يحيى بن أكثم .خلافة أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد
    أمه مارية بنت شبيب . نقش خاتمه : سل اللّه يعطيك ، وقيل : اللّه ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن .



    “ 61 “

    حاجبه مولاه وصيف التركي ، وزيره الفضل بن مروان ، وأحمد بن عمارة ، ومحمد بن عبد الملك الزيات .
    بويع سنة ثمان وعشرة ومائتين بسرّ من رأى . مات بقصره الخاقاني ، ودفن بها سنة سبع وعشرين ومائتين ، وقد بلغ ثمانية وأربعين سنة . وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أشهر ويومين .
    قاضيه شعيب بن سهل بن محمد بن سماعة ، وعبد اللّه بن غالب ، وأحمد بن داود الأباري ، وقاضي القضاة جعفر بن عيسى من ولد الحسن البصري .خلافة أبي جعفر هارون الواثق بن محمد المعتصم
    أمه مولدة ، يقال لها : قراطيس . نقش خاتمه : لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه . حاجبه إيتاخ التركي ثم وصيف ، مولاه أحمد بن عمارة . قاضيه أحمد بن داود ، وزيره محمد بن عبد الملك الزيات .
    بويع يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين ، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وستة أيام بسرّ من رأى ، وقد بلغ عمره ستا وثلاثين سنة .
    وكان موته سنة ثلاث وثلاثين ومائتين لست بقين من ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين .خلافة أبي الفضل جعفر المتوكل بن محمد المعتصم
    وأمه خوارزمية ، يقال لها : شجاع . نقش خاتمه : المتوكل على اللّه . وزيره عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان ومحمد بن عبد الملك الزيات ومحمد بن الفضل الجرجاني ، قاضيه يحيى بن أكثم وجعفر بن محمد البرجي وجعفر بن عبد اللّه بن جعفر بن سليمان العباسي ، حاجبه زرافة ووصيف وغيرهما . قتل بسرّ من رأى ودفن بها ، وقد بلغ ثلاثا وأربعين سنة . كانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسعة أيام . بويع لست بقين من ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين ومائتين .
    وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين .خلافة أبي جعفر محمد المنتصر بن جعفر المتوكل
    وأمه رومية ، يقال لها : حبشية . نقش خاتمه : محمد بن جعفر . مات بسرّ من رأى



    “ 62 “

    بوجع ذات الجنب ، وقد بلغ عمره أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا وخمسة أيام . كانت خلافته ستة أشهر ويومين . بويع يوم الأربعاء لست خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين ، وتوفي ليلة السبت لعشر خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين ، وصلى عليه المستعين . وقيل : نقش خاتمه : يؤتى الحذر من مأمنه .
    وقيل : أنا من آل محمد ، اللّه وليّي ومحمد . حاجبه وصيف ومرزبان وغيرهما ، قاضيه جعفر الهاشمي .خلافة أبي العباس المستعين أحمد بن المعتصم
    وأمه سقلابية ، يقال لها : محارفة . نقش خاتمه : أحمد بن محمد . حاجبه قامس ، كاتبه أحمد بن الخصيب ، بلغ عمره سبعا وأربعين سنة . كانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أيام . بويع له يوم الاثنين لأربع خلون من ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين . خلع نفسه لأربع خلون من المحرم سنة اثنين وخمسين ومائتين . وفي هذه السنة قتل قاضيه أحمد بن أبي الشوارب ، وقيل : محمد بن وزير الواسطي .خلافة أبي عبد اللّه المعتز الزبير بن جعفر المتوكل
    أمه فتيحة . نقش خاتمه : الزبير بن جعفر . حاجبه صالح بن وصيف ، وزيره أحمد بن إسرائيل ، قتله حاجبه صالح بسرّ من رأى وطرحه في دجلة ، وقد بلغ سبعا وأربعين سنة . خلافته أربع سنين وستة أشهر ونصف . بويع له ببغداد سنة اثنين وخمسين ومائتين . قال بعضهم : ثم خلع نفسه مكرها لثلاث بقين من رجب سنة خمس ومائتين ، واختلف في كيفية موته . قاضيه الحسن بن أبي الشوارب .خلافة أبي جعفر المهتدي بن هارون الواثق
    أمه أم ولد ، يقال لها : قرب . نقش خاتمه : المهتدي باللّه يثق . حاجبه صالح بن داود . قتله خير بك التركي وشرب دمه ، ودفن بسرّ من رأى وقد بلغ اثنين وأربعين سنة .
    وكانت خلافته سنة واحدة إلا ثلاثة عشر يوما . بويع لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين . وحبس في رجب سنة خمس ، وقيل : سنة ست وخمسين .



    “ 63 “

    وأمه رومية ، يقال لها : فينان . وكان القائم بأمر المملكة أخوه أبو أحمد طلحة الموفق . ووزيره إسماعيل بن بلال ، حاجبه خفيف السمرقندي . سقي شربة فمات ، ودفن ببغداد ، وقد بلغ اثنين وخمسين سنة . كانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة ويومين . بويع لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين ، وتوفي ببغداد ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وتسعين ومائتين . قاضيه الحسن بن أبي الشوارب ، ثم أخوه علي بن محمد .

    خلافة أبي العباس أحمد المعتضد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل
    وأمه رومية ، يقال لها : ضرار ، ثم سمّاها الموفق : الخفير . وزيره عبيد اللّه بن سليمان ، حاجبه صالح الأمين . نقش خاتمه : توكل تكف . صاحب شرطته مؤنس الفحل .
    بلغ عمره إحدى وأربعين سنة . كانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام . ولّي سنة ثمانين ومائتين ، ومات سنة تسع وثمانين ومائتين .

    خلافة أبي محمد علي المقتفي بن أحمد المعتضد
    وأمه رومية ، يقال لها : نشيج . كان أمير الرقة . أخذ له البيعة ببغداد القاسم بن عبد اللّه ، وكتب إليه بذلك ، فانحدر من الرقة . نقش خاتمه : علي بن المعتضد . حاجبه مولاه سوسن ، وزيره القاسم بن عبد اللّه ، قاضيه أبو حازم ، ثم يوسف ، ثم يعقوب ، ثم أبو عمر ، ثم علي بن أبي الشوارب . وقد بلغ عمره ثلاثا وستين سنة وعشرين يوما . كانت بيعته لسبع بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين ، ومات سنة خمس وتسعين ومائتين لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة . كانت خلافته ست سنين وستة أشهر وعشرين يوما .

    خلافة أبي الفضل جعفر المقتدر بن أحمد المعتضد
    وأمه رومية ، يقال لها : شعب . نقش خاتمه : جعفر يثق باللّه . وزيره العباس بن الحسن ، واستوزر جماعة منهم الفضل بن جعفر بن المهدي بن الفرات المعروف بابن الخيزرانة ، حاجبه نصر القسوري . قتله يونس الخادم مولاه خارج بغداد ، ودفن ببغداد ،



    “ 64 “

    وقد بلغ عمره سبعا وثلاثين سنة إلا سبعة أيام ، وكانت خلافته خمسا وعشرين سنة إلا سبعة عشر يوما . كانت بيعته في ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين ، وقتل في شوال سنة عشرين وثلاثمائة . عمره يوم بويع له ثلاثة عشر سنة . قضاته جماعة منهم : يوسف بن يعقوب ، وابنه عمر محمد بن يوسف ، وعبد اللّه بن أبي الشوارب وغيرهم .

    خلافة أبي منصور محمد القاهر بن أحمد المعتضد
    أمه مولدة ، يقال لها : فنون . وزيره أحمد بن عبيد اللّه الحصيني . حاجبه مولاه .
    نقش خاتمه : يا أملي اختم بخير عملي . قبض عليه ، وكحل حتى عمي ، وخلع من الخلافة ، وقد بلغ عمره خمسا وثلاثين سنة . وكانت خلافته سنة ونصف وثمانية أيام . بويع له يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة . قاضيه عمر بن محمد بن يوسف . وكان من وزرائه أبو علي بن مقلة .

    خلافة أبي العباس محمد الراضي بن جعفر المقتدر
    أمه رومية ، يقال لها : ظلوم . نقش خاتمه : منّ بالرضا . وزيره أبو علي محمد بن علي بن مقلة وجماعة غيره .
    حاجبه مولاه ذكي الرومي ، صاحب شرطته لؤلؤ . مات ودفن ببغداد ، وقد بلغ عمره ثلاثا وثلاثين سنة وعشرة أشهر وتسعة أيام . بويع له يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة ، وتوفي ليلة السبت لستة عشر ليلة خلت من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة . قاضيه عمر بن محمد بن يوسف ، وأبوه يوسف بن عمر . وفي أيام الراضي مات مجاهدا في شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ، ومولده سنة خمس وأربعين ومائتين ، رحمه اللّه .

    خلافة أبي إسحاق إبراهيم المتقي بن جعفر المقتدر
    أمه رومية ، يقال لها : حلوب . بويع بعد أخيه الراضي بسبعة أيام . نقش خاتمه :
    كفى باللّه معينا . وزيره محمد بن أحمد بن ميمون ، والقائم بأمره سعيد بن شكلي ، حاجبه سلامة أخو نجح . قبض عليه بودون التركي ، وكحل عينيه حتى عميا ، وخلعه من الخلافة ، وقد بلغ أربعا وثلاثين سنة ، وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر يوما أو يومين . وكان



    “ 65 “

    بويع يوم الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، وخلع يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ، وتوفي في خلافة المطيع في شعبان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة ، وعمره إذ ذاك ستون سنة . قاضيه أبو نصر يوسف بن عمر وغيره .

    خلافة أبي القاسم عبد اللّه المستكفي بن علي المكتفي
    أمه رومية ، يقال لها : غصن . وزيره أبو الفرج محمد بن علي السامري ، حاجبه أحمد بن خاقان . نقش خاتمه : عبد اللّه بن المكتفي . قبض عليه ، وكحل حتى عمي ، وخلع من الخلافة ، وقد بلغ ستا وأربعين سنة ، وكانت خلافته سنة واحدة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما . بويع له لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ، ومات في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة .

    خلافة أبي القاسم الفضل المطيع للّه بن جعفر المقتدر
    بويع يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة . وأمه سقلابية ، يقال لها : مشقلة . نقش خاتمه : باللّه المطيع للّه . وزيره محمد بن يحيى بن شيراز ، أخو القائم بأمر مملكته أبو الحسين أحمد بن بويه الديلمي معز الدولة الأقطع ، ثم وزر له المهلّبي . حاجبه عبد الواحد بن عمرو الشرابي . ولّي تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأحد عشر يوما ، ثم فلج ، فخلع نفسه غير مستكره ، وولّى ابنه المطيع للّه ، ومات لثمان بقين من المحرم سنة أربع وستين وثلاثمائة ، وله ثلاث وستون سنة . قاضيه محمد بن أبي الشوارب وغيره .

    خلافة المطيع للّه واسمه عبد الكريم ويكنى أبا بكر
    بايعه أبوه المطيع بعد أن خلع نفسه غير مستكره يوم الأربعاء ، ثالث عشر من ذي القعدة ، سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ، وقبض عليه بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة يوم السبت لاثني عشر ليلة خلت من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، وخلع نفسه بعد أن بويع للقادر . وكانت خلافته تسعة عشر سنة وتسعة عشر شهرا وتسعة أيام . ومات يوم الثلاثاء سلخ رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، ودفن بالرصافة .



    “ 66 “

    خلافة القادر باللّه أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدر ويكنّى أبا العباس
    وهو ابن عم المطيع ، بويع له يوم السبت لاثني عشرة ليلة خلت من رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة ، ومات في الحادي عشر من ذي الحجة ، سنة اثنين وعشرين وأربعمائة ، وله ستة وثمانون سنة .
    وكانت خلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر .

    خلافة القائم بأمر اللّه
    وهو ابن القادر ، واسمه عبد اللّه بن أحمد بن إسحاق بن جعفر المقتدر . أمه بدر الدّجى . ولد عبد اللّه القائم هذا يوم الخميس ، ثامن عشر ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة .
    بويع له بالخلافة في ذي الحجة سنة اثنين وعشرين وأربعمائة ، وكان سنّه يومئذ إحدى وثلاثون سنة ، وكان والده قد عهد له في حياته .
    وتوفي القائم يوم الخميس ثاني عشر ، وقيل : ثالث عشر من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة . وكانت خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر .

    خلافة المقتدي بن القائم باللّه
    واسمه المقتدي بأمر اللّه عبد اللّه بن محمد القائم بأمر اللّه ، ويكنى أبا القاسم . بويع له بالخلافة يوم الخميس ثالث عشر شعبان من سنة سبع وستين وأربعمائة ، وله يومئذ تسع سنين ، وكان والده أبو العباس بن القائم عهد إليه . توفي المقتدي ببغداد في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة ليلة السبت ، فكانت خلافته عشرين سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوما .

    خلافة المستظهر بن المقتدي ، واسم المستظهر أحمد بن عبد اللّه
    ويكنى أبا العباس . بويع له بالخلافة يوم الثلاثاء من المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة بين الظهر والعصر ، وصلى بالناس الظهر ، ثم صلى عليه ابنه المقتدي . وكان سن المستظهر يوم بويع له ودفن أبوه ست عشر سنة وشهرين وتسعة عشر يوما ، لأن مولده كان يوم السبت لعشرين من شوال سنة سبعين وأربعمائة .



    “ 67 “

    خلافة المسترشد باللّه واسمه الفضل بن أحمد ويكنى أبا المنصور
    بويع له بالخلافة يوم الخميس رابع عشر من ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ، وكان له سبع وعشرون سنة ، لأن مولده كان ليلة الأربعاء رابع ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة ، ثم ولي بعده ابنه الراشد باللّه .

    خلافة الراشد باللّه بن المسترشد
    واسمه منصور بن الفضل بن أحمد ، ويكنى أبا العباس . بويع له في ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة . ثم ولي بعده عمه المقتفي لأمر اللّه .

    خلافة المقتفي لأمر اللّه
    واسمه محمد ، ويكنى أبا عبد اللّه ، وهم عم الراشد . بويع له بالخلافة يوم الأربعاء الثامن عشر من ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة .

    خلافة المستنجد باللّه بن المقتفي
    واسمه يوسف ، ويكنى أبا المظفر . بويع له يوم الاثنين ثالث ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة . حدثنا عبد الرحمن بن علي كتابة قال : حدثني أبو المظفر الوزير قال : حدثني أمير المؤمنين المستغني باللّه قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام منذ خمس عشر سنة ، فقال لي : « يبقى أبوك في الخلافة خمس عشر سنة » . فكان كما قال . قلت : وفي زمان هذا الخليفة ولدت أنا بمرسية ، في دولة السلطان أبي عبد اللّه محمد بن سعد بن مرديس بالأندلس ، فكنت أسمع الخطيب يوم الجمعة يخطب بالمسجد باسم المستنجد باللّه .
    ثم ولي بعده ولده المستغني باللّه .

    خلافة المستغني باللّه
    واسمه الحسن بن يوسف بن محمد . بويع له البيعة العامة في يوم الأحد تاسع ربيع الأول سنة ستة وستين وخمسمائة ، وخطب له السلطان بمرسية بالأندلس .



    “ 68 “

    خلافة سيدنا ومولانا الناصر لدين اللّه
    أمير المؤمنين أبي العباس أحمد ابن الإمام الحسن ابن الإمام يوسف ابن الإمام محمد . بويع له في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة .
    ونحن اليوم في شوال سنة إحدى عشر وستمائة ، أبقى اللّه عمر سيدنا ومولانا أمير المؤمنين ، وكان قد عقد لولده أبي نصر محمد ، ثم إنه استقال منه ، فأقاله أمير المؤمنين وأشهد على نفسه بالخلع من ولاية العهد لعجزه عنها ، ونزع اسمه من الخطبة وذلك سنة إحدى وستمائة . أخبرني بذلك الثقات وأنا بالموصل ، ولم يبق له اسم في الخطبة بعد الخلع في جميع البلاد إلا بلاد يونان ، فإنه بقي ذكره بعد الخلع قريبا من سنة ، لأنه أبى السلطان كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود أن يزيل اسمه بالاستفاضة من غير أمر من الديوان ، فلما أتى الأمر إليه أزال ذكره . يبقي اللّه عمر سيدنا أمير المؤمنين ويؤيده ويرشده لمصالح نفسه ومصالح المؤمنين ورعيته ، آمنين بعزّته . وتوفي آخر شهر رمضان سنة اثنين وعشرين وستمائة ، وولى ابنه محمد الظاهر في أمر اللّه الذي كان قد خلع نفسه ، وتوفي في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة ، وكانت خلافته تسعة أشهر ، وولى بعده ابنه المستنصر أبو جعفر المنصور ، ويعرف بالقاضي ، أدام اللّه بقاه ، وهو الخليفة الآن حين تقييدي هذا .
    روينا عن الحميدي ، عن محمد بن سلامة القضاعي ، عن منصور بن النعمان ، عن أبي مسلم الكاتب ، عن محمد بن الحسين ، عن ابن دريد ، عن الحسن بن الخضر ، عن رجل من أهل بغداد ، عن المذكر أبي هشام ، قال : أردت البصرة فجئت إلى سفينة أكتريها وفيها رجل ومعه جارية . فقال الرجل : ليس هنا موضع . فسألته الجارية أن يحملني ، فحملني . فلما سرنا دعا الرجل بالغداء ، ثم قال : انزلوا ذلك الفقير ليتغدى . فأنزلت على أنني مسكين ، فلما تغدينا قال : يا جارية ، هاتي شرابك ، فشرب وأمرها أن تسقيني ، فقلت : رحمك اللّه ، إن للضيف حقا ، فتركني . فلما دبّ فيه النبيذ ، قال : يا جارية ، هاتي العود ، وهاتي ما عندك .
    فأخذت العود ثم غنّت تقول :
    وكنا كغصني بانة ليس واحد * يزول من الخلّان عن رأي واحد
    تبدّل بي خلا فخاللت غيره * وخالفته لما أراد تباعدي
    فلو أن كفّي لم تردني أبيتها * ولم يصطحبها بعد ذلك ساعدي
    ألا قبّح الرحمن كل مماذق * يكون أخا في الخفض لا في الشدائد
    ثم التفت إلي وقال : أتحسن مثل هذا ؟
    فقلت : أحسن خيرا منه ،
    فقرأت : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ، فجعل يبكي ، فلما انتهيت إلى



    “ 69 “

    قوله تعالى : وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، قال : يا جارية ، اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه تعالى ، وألقى ما معه من الشراب في الماء ، وكسر العود ، ثم دنا إلي واعتنقني ، وقال : أترى اللّه يقبل توبتي ؟ فقلت : إن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين ، قال : فآخيته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات قبلي ، فرأيته في المنام فقلت : إلام صرت بعدي ؟ فقال : إلى الجنة ، فقلت : يا أخي ، بم صرت إلى الجنة ؟ قال : بقراءتك عليّ : وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ .
    وذكر صاحب كتاب « أخبار الزمان » أن أبا بكر رضي اللّه عنه ، لما توفي غسّلته زوجته أسماء بنت عميس ، وصلى عليه عمر رضي اللّه عنهما ، وحمل على سرير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو سرير عائشة رضي اللّه عنها ، وكان من خشبتين ساجا منسوجا بالليف ، وبيع في ميراث عائشة رضي اللّه عنها بأربعة آلاف درهم ، فاشتراه مولى لمعاوية وجعله للمسلمين ، ويقال :
    إنه بالمدينة . ودفن أبو بكر رضي اللّه عنه في حجرة عائشة ، ورأسه قبالة كتفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وفي خلافته فتحت بصرى صلحا ، وهي أول مدينة فتحت بالشام . ومات أبو قحافة بعد موت ابنه أبي بكر بسنة ، وقيل : سبعة أشهر ، وذلك في سنة أربع عشرة سنة ، ولم يولّ الخلافة من أبيه حيّ غير أبي بكر ومن ذكرنا من خلفاء بني العباس ممن خلع نفسه لعذر وولى ابنه كالمطيع للّه .
    ومن أولاد أبي بكر الصدّيق : عبد اللّه وأسماء لأم واحدة ، وهي من بني عامر ابن لؤي . ومن أولاده أيضا : عبد الرحمن وعائشة لأم واحدة ، وهي أم رومان . ومن أولاده أيضا : محمد وأميمة من أسماء بنت عميس .
    ذكر أهل التاريخ أن شريحا القاضي أقام خمسا وسبعين سنة في القضاء إلى أيام الحجاج ، تعطل منها ثلاث سنين ، امتنع من الحكم زمن فتنته .
    ولما ولّي الحجاج الكوفة استعفاه فأعفاه . ومات سنة سبع وثمانين وله مائة سنة ، وقيل : مائة وعشرون سنة ، وقيل : مات سنة تسع وسبعين . ومات في خلافة عثمان العباس بن عبد المطلب في سنة اثنين وثلاثين وله ثمانون سنة . ويقال : إنه لم ير بنو أب أبعد قبورا من بنيه : عبد اللّه بن عباس بالطائف ، والفضل بالشام ، وعبيد اللّه بالمدينة ، وقثم بسمرقند ، وسعد بإفريقية . ومات عبد الرحمن بن عوف في سنة واحدة مع العباس ، وكان سنّ عبد الرحمن خمسا وخمسين سنة ، وأوصى من ماله لكل رجل بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار ، فكانوا يومئذ مائة رجل ، فقسمت تركته على ستة عشر سهما ، فكان كل سهم ثمانين ألف دينار .
    وكان لعلي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أربعة عشر ولدا ذكورا وثمانية إناث ، أعقب



    “ 70 “

    من أولاده : الحسن ، والحسين ، ومحمد ابن الحنفية ، وعمر ، والعباس .
    وكان لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه من الأولاد : عبد اللّه ، وحفصة ، وعبيد اللّه ، وعاصم ، وفاطمة ، وزيد ، وأبو شحمة واسمه عبد الرحمن وهو الذي حدّ في الشراب فمات .
    والذي حفظت من أولاد عثمان بن عفان رضي اللّه عنه : عبد اللّه الأكبر وعبد اللّه الأصغر من رقية ، وعمر ، وأبان ، وخالد ، وعمر ، وسعيد ، ومغيرة ، وأم سعيد ، وأم أبان ، وعائشة ، وأم عمر ، وغيرهم .
    والمحفوظ لي من أولاد الحسين رضي اللّه عنه : زيد ، والحسن ، وعلي زين العابدين ، وعمر ، والحسين الأشرم ، والقاسم ، وأبو بكر ، وطلحة ، وعبد اللّه ، وعبد الرحمن ، وغيرهم . وأولاد معاوية بن أبي سفيان : عبد الرحمن ، يزيد ، عبد اللّه ، هند ، رملة ، صفية ، عائشة .
    وأولاد يزيد بن معاوية : معاوية ، عبد اللّه الأكبر ، عبد الرحمن الأصغر ، عمير ، عبد الرحمن ، عتبة الأعور ، يزيد ، محمد ، أبو بكر ، حرب ، عبد اللّه أصغر الأصاغر ، وغيرهم . ولم يكن لمعاوية بن يزيد عقب .
    وأولاد عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهم : حمزة ، وعبد اللّه ، وحبيب ، وثابت ، وعبّاد ، وقيس ، وموسى ، وغيرهم .
    وأولاد مروان بن الحكم : عبد الملك ، معاوية ، أم عمرو ، عبيد اللّه ، عبد اللّه ، أبان ، داود ، عبد العزيز ، عبد الرحمن ، أم عثمان عمرة ، أم عمرو ، بشر ، محمد .
    وأولاد عبد الملك بن مروان : الوليد ، سليمان ، مروان الأكبر ، يزيد ، مروان ، معاوية ، هشام ، بكار ، الحكم ، عبد اللّه ، مسلمة ، المنذر ، عتبة ، محمد ، سعيد ، الحجاج ، قبيصة .
    وأولاد الوليد بن عبد الملك : يزيد ، إبراهيم ، العباس ، عمر ، فخذ بني مروان ، وعمر ، وعبد العزيز ، وبشر ، وغيرهم .موعظة أبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه
    حدثني يونس بن يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن حفص بن أحمد ، عن الحسن بن علي بن أبي بكر بن مالك ، عن عبد اللّه بن أحمد . حدثني أبي ، عن الوليد بن



    “ 71 “

    مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، أن أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، كان يقول في خطبته : أين القضاة الحسنة وجوههم ، المعجبون بشأنهم ؟ أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصّنوها بالحيطان ؟ أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب ؟ قد تضعضع بهم الدهر ، فأصبحوا في ظلمات القبور ، الوحا الوحا ، النجا النجا .

    وروينا من حديث ابن أبي الدنيا ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن جعفر بن برقان ، عن ثابت بن الحجاج ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه :
    حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، فإنه أهون عليكم من الحساب غدا ، قبل أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
    وحدثنا يونس بن علي ، عن أبي الحسن بن بشر ، أنه قال : حدثنا الحسين بن صفوان ، ثنا أبو بكر القرشي ، عن أبي نصر التمار ، عن بقية بن الوليد ، عن إبراهيم بن أدهم ، عن عبد اللّه الخراساني ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : من اتقى اللّه لم يشف غيظه ، ومن خاف اللّه لم يفعل ما يريد ، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون .

    حدثنا يونس ، ثنا عبد الوهاب ، أن المبارك بن عبد الجبار ، قال : أخبرنا أحمد بن علي النويري ، قال : أنا عمر بن ثابت ، قال : أنا علي بن محمد بن أبي قيس ، ثنا أبو بكر القرشي ، عن عبد الرحمن بن صالح العتكي ، عن يونس بن بكير ، عن عتبة بن أبي الأزهر ، عن يحيى بن عقيل ، قال : قال علي بن أبي طالب لعمر رضي اللّه عنهما : إن أردت أن تلحق بصاحبيك فاقصر الأمل ، وكل دون الشبع ، وارقع القميص ، والبس الإزار ، واخصف النعل ، تلحق بهما .
    وروينا من حديث أبي زهير نعيم قال : ثنا سليمان بن أحمد ، قال : ثنا أبو يزيد القراطيسي ، ثنا حجاج بن إبراهيم ، عن مروان ، عن معاوية ، عن محمد بن سوقة ،
    قال :
    أتيت نعيم بن أبي هند ، فأخرج لي صحيفة ، فإذا فيها : من أبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، إلى عمر بن الخطاب : سلام عليك ، أما بعد ، فإنا عهدناك ، وشأن نفسك لك مهم ، فأصبحت وقد ولّيت أمر هذه الأمة ، أحمرها ، وأسودها ،
    يجلس يين يديك :
    الشريف ، والوضيع ، والصديق ، والعدو ، ولكلّ حصة من العدل ، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر ، وإنا نحذرك يوما تصفرّ فيه الوجوه ، وتجب له القلوب ، وتنقطع فيه الحجج بحجة ملك ، قهرهم بجبروته ، والخلق داخرون له ، يرجون رحمته ، ويخافون عقابه ، وإنا كنا نحدّث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها ، أن نكون أخوان العلانية أعداء



    “ 72 “

    السريرة ، وإنا نعوذ باللّه أن ننزل كتابنا منك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا ، وإنما كتبنا به نصيحة لك والسلام .
    وكتب إليهما عمر رضي اللّه عنهما : من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، سلام اللّه عليكما . أما بعد ، فإنكما كتبتما إليّ تذكّراني أنكما عهدتماني وأمر نفسي إلي مهم ، وإني أصبحت وقد ولّيت أمر هذه الأمة ، وذكر كلاما . ثم قال : فإنه لا حول ولا قوة عند ذلك لعمر إلا باللّه ، وذكرتما أنكما كتبتما نصيحة لي وقد صدقتما ، فلا تدعا الكتاب إلي فإنه لا غنى لي عنكما ، والسلام عليكما .
    وروينا من حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، قال : خرجت مع عمر إلى السوق فلحقته امرأة شابة ، فقالت : يا أمير المؤمنين ، هلك زوجي ، وترك صبية صغارا ، واللّه ما ينضجون كراعا ، ولا لهم زرع ، ولا درع ، وخشيت عليهم الطمع ، فأنا ابنة خفاف بن أغام الغفاري ، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . فوقف معها عمر ، ولم يمض ، وقال : مرحبا بنسب قريب . ثم انصرف إلى بعير كان مربوطا إلى الدار ، فحمل عليه غرارتين ، ملأهما طعاما ، وجعل بينهما نفقة وثيابا ، ثم ناولها خطامه ، وقال : اقتاديه ، فلن يفنى هذا حتى يأتيكم اللّه بخير .
    وروينا من حديث أبي نعيم محمد بن معمر ، ثنا أبو شعيب الحرّاني ، ثنا يحيى بن عبد اللّه ، ثنا الأوزاعي ، أن عمر بن الخطاب خرج في سواد الليل ، فرآه طلحة ، فذهب عمر ، فدخل بيتا ، ثم دخل بيتا آخر ، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت ، فإذا عجوز عمياء مقعدة ، فقال لها : ما بال هذا الرجل يأتيك ؟ قالت : إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا ، يأتيني بما يصلحني ، ويخرج عني الأذى . فقال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ، لعثرات عمر تتبع ؟
    ومن مواعظ عثمان بن عفان رضي اللّه عنه
    ما روينا من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا ، قال : كتب إليّ أبو عبد اللّه محمد بن خلف التيمي ، قال : حدثنا شعيب بن إبراهيم ، عن سيف بن عمر ، عن يزيد بن عثمان ،
    قال : آخر خطبة خطبها عثمان :
    « أيها الناس ، إن اللّه إنما أعطاكم الدنيا ، لتطلبوا بها الآخرة ، فلم يعطكموها لتركنوا إليها . إن الدنيا تفنى ، والآخرة تبقى . لا تبطرنكم الفانية ، ولا تشغلنكم عن الباقية . آثروا ما يبقى على ما يفنى ، فإن الدنيا منقطعة ، وإن المصير إلى اللّه . اتقوا اللّه ، فإن تقواه جنة من



    “ 73 “

    بأسه ، ووسيلة عنده ، واحذروا من اللّه الغيرة ، والزموا جماعتكم ، لا تصيروا أخدانا ، واذكروا نعمة اللّه عليكم ، إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا “ .موعظة سهل بن عمر الحارث بن هشام وزياد بن حنظلة لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
    حدثنا يوسف بن علي ، ثنا محمد بن الحسين ، أنا أبو الحسن بن النقود ، أنا أبو ظاهر المخلص ، انا أحمد بن عبد اللّه بن يوسف ، انا السّري بن يحيى ، انا شعيب بن إبراهيم التيمي ، أنا سيف بن عمرو ، عن زهرة ، عن أبي سلمة ، وعن عبد اللّه بن سعيد ، قالا : وعظ سهل بن عمرو عمر بن الخطاب ، فقال : يا عمر ، إنه من ابتلي بالسلطان فقد ابتلي ببلاء عظيم ، وأي بلاء يا عمر أشد من بلاء سلط فيه لسان الوالي وفعله ، فإن هو ذكر لم يذكر ، وإن هو غفل أخذ بغفلته ، فإن أذنب أسلمته ذنوبه إلى الموت الذي ليس منه فوت ، وليس منه مردّ ، ولا بعده مستعتب .موعظة الحارث بن هشام
    قال : إن حقا على كل مسلم النصيحة لك يا عمر ، والاجتهاد في أداء حقك ، ولهم عليك بمثل الذي لك عليهم ، لما أفضى اللّه عز وجل إليك من هذا الأمر العظيم الذي توليته من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، أسودها وأحمرها .
    عليك بتقوى اللّه عز وجل في سريرتك وعلانيتك ، والاعتصام بما شرع اللّه ، واعلم أن كل راع مسؤول عن رعيته ، وكل مؤتمن مسؤول عن أمانته ، والمحسن إن أخطأ بالإحسان ممن أحسن إليه ، فاعتصم بما تعرف من أمر اللّه ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه .
    فأجزاهما عمر ، وقال : هداكما اللّه عز وجل ، وأعانكما ، وصحبكما ، عليكما بتقوى اللّه في أمركما كله ، فإن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
    قال : ووعظ زياد بن حنظلة عمر رضي اللّه عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، احذر ممن إن أكرمته أهانك ، وإن أهنته أكرمك .
    قال عمر : من هذا ؟ قال : جسدك ، إن أنت تابعت بطنك وبشرك فيما يريدان منك فضحاك وأهاناك في الدنيا والآخرة ، وإن أنت أهنتهما وعصيتهما وقويت عليهما وأتياك في الدنيا وأنجياك في الآخرة .


    “ 74 “

    موعظة عتبة بن غزوان
    وكان من أهل بدر . قال خالد بن عمير : خطب ابن غزوان ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن الدنيا قد أذنت بصرم ، وولّت جدا ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يقضي بها صاحبها ، وأنتم منقلبون منها إلى دار لا زوال لها ، فانتقلوا بخير ما يحضركم ، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ، ما يدرك لها قعرا . واللّه لتملأن فتعجبتم ، واللّه لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتينّ عليها كغطيط الزحام . ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى فرحت أشداقنا . وإني التقطت بردة ، فشققتها بيني وبين سعد ، فاتزر بنصفها ، واتزرت بنصفها ، فما أصبح منا اليوم أحد حيا إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار . وإني أعوذ باللّه أن أكون في نفسي عظيما ، وعند اللّه صغيرا ، فإنها لم تكن قطّ نبوّة ، إلا تناسخت حتى يكون عاقبتها ملكا ، وستبلون أو ستجربون الأمراء بعدنا .
    روينا من حديث أحمد بن حنبل ، عن شهر بن أسد ، عن سليمان بن المغيرة ، ثنا حميد يعني ابن هلال ، عن خالد بن عمير . وهذا الحديث انفرد بإخراجه مسلم .
    وروينا من حديث الحميدي ، أنا أبو محمد بن علي بن أحمد بن سعيد ، أخبرنا أبو عبد اللّه بن ربيع ، حدثنا أبو علي إسماعيل بن القاسم ، عن أبي بكر بن دريد ، عن الحسن بن خضر ، عن حماد بن إسحاق الموصلي ، قال : سمعت أبي يقول : قال رجل من العجم لملك كان في دهره : أوصيك بأربع خلال ترضي بهن ربك ، وتصلح بهن رعيتك : لا يغرّنك المرتقى السهل إذا كان المنحدر وعرا ، ولا تعدنّ عدة ليس في نيتك وفاؤها ، واعلم أن للّه نقمات ، فكن على حذر ، واعلم أن للأعمال جزاء ، فاتّق العواقب .
    روينا أن بعض الملوك اتخذ كاتبا مجوسيا ، ووزيرا نصرانيا ، وحاجبا يهوديا ، فأذلوا المسلمين ، فوقفت لهم امرأة حسيبة في نازلة فما رفعوها عنها ، وأهانوها ، فتعرضت للملك يوم ركوبه ، فقالت له : أيها الملك ، سألتك بالذي أعز المجوسية بكتابك ، والنصرانية بوزارتك ، واليهودية بحجابتك ، وأذل الإسلام بك ، إلا ما نظرت في أمري .

    فتنبّه الملك ، وسأل عن شأنها ، وقضى حاجتها ، وتاب إلى اللّه من فعله ذلك ، واستعمل في تلك المناصب قوما من المسلمين ، وأخرج هؤلائك عنها . فجزاها اللّه من امرأة عن المسلمين خيرا .
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:11

    الجزء الخامس .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء الخامس
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 75 “

    وأخبرنا ناصر الدين بن عبد اللّه بن عبد الرحمن العطار المصري خبر قدوم هامة الجنيّ على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال : حدثنا أبو محمد بن المبارك بن علي بن الحسين بن الطباخ ، قال : ثنا السيد بن أبي الحسن عبيد اللّه بن محمد بن أحمد البيهقي ، قال : حدثني جدي أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، قال : ثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي ، أنا أبو ناصر محمد بن حمدويه بن سهل الغازي المروزي قال : حدثنا عبد اللّه بن حماد الآملي ، قال : ثنا محمد بن أبي معشر ، تكلم في ابن أبي معشر ، وهو المزني ، وقد روى عنه الكبار ، قال : أخبرني أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر رضي اللّه عنه ، قال :

    بينما نحن قعود مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على جبل من جبال تهامة إذ أقبل شيخ بيده عصى ، فسلم على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فرد عليه السلام ، ثم قال : “ نعمت جنّ رعيتهم ، من أنت ؟ “ ، قال : أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس . قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ فما بينك وبين إبليس إلا أبوان ، فكم أتى لك من الدهور ؟ “ ، قال : قد أفنيت من الدنيا عمرها إلا قليلا ، ليالي قتل قابيل هابيل كنت ابن أعوام ، من الثلاثة إلى عشرة لا غير ، أفهم الكلام ، وآمر بإفساد الطعام ، وقطيعة الأرحام ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : “ بئس عمل الشيخ المتوسم ، والشاب المتلوّم “ ، قال : زدني من الترداد ، إني تائب إلى اللّه عز وجل ، إني كنت مع نوح في مسجده مع من آمن به من قومه ، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكاني ، وقال : لا جرم ، إني على ذلك من النادمين ، وأعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين ، قال : قلت : يا نوح ، إنني ممن اشترك في دم السعيد الشهيد هابيل بن آدم ، فهل تجد لي عند ربك توبة ؟ قال : “ يا هام ، همّ بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة ، إني قرأت فيما أنزل اللّه عز وجل على أنه ما من عبد تاب إلى اللّه عز وجل بالغ أمره ما بلغ إلا تاب اللّه عليه ، قم وتوضأ واسجد للّه سجدتين “ ، قال : ففعلت من ساعتي ما أمرني به ، فناداني : “ ارفع رأسك ، فقد نزلت توبتك من السماء “ ، قال : فخررت للّه ساجدا جذلا .

    وكنت مع هود في مسجده مع من آمن به من قومه ، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم وأبكاني .
    فقال : لا جرم ، إني على ذلك من النادمين ، وأعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين ، وكنت مع آزر ويعقوب ، وكنت مع يوسف بالمكان الأمين ، وكنت ألاقي الياس في الأودية ، وأنا ألقاه الآن ، وإني لقيت موسى بن عمران ، فعلّمني من التوراة ، وقال : إن لقيت عيسى ابن مريم فأقرئه مني السلام ، وقال : إني لقيت عيسى ، وقال عيسى : إن لقيت محمدا عليه الصلاة والسلام فأقرئه مني السلام ، قال : فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عينيه فبكى ، ثم قال : “ وعلى عيسى السلام ما دامت الدنيا ، وعليك السلام يا هام بأدائك الأمانة “ ، قال :


    “ 76 “



    يا رسول اللّه ، افعل بي ما فعل موسى ، إنه علّمني من التوراة ، فعلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سورة الواقعة ، والمرسلات ، وعمّ ، والتكوير ، والمعوذتين ، والإخلاص ، وقال : “ ارفع إلينا حاجتك ، ولا تدع زيارتنا “ ، قال : فقال عمر : فقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يعد إلينا ، فلسنا ندري أحي هو أم ميت ؟ قلنا : إذا ثبت إسلام هذا الشيطان فليس يريد قتادة بقوله : إن الشيطان لا يسلم إلا الشيطان الذي هو القرين .

    حدثنا أبو بكر بن أبي الفتح الحنفي بمكة ، ثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن يحيى الأنصاري الدمشقي سبط الإمام أبي الفرج الحنبلي ، قال : ثنا سعد الخير أبو الحسن محمد بن سهل الأنصاري ، حدثنا أبو سعيد محمد بن محمد بن محمد بن مطرز ، ثنا أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن إسحاق ، ثنا عبد اللّه بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الرحمن بن الحسن ، ثنا مسعود بن يزيد القطان ، ثنا أبو داود ، ثنا عبّاد بن يزيد عن موسى بن عقبة القرشي ، أن هشام بن العاص ، ونعيم بن عبد اللّه ، ورجلا آخر قد سمّاه ، بعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر ، وفي حديث شرحبيل بن مسلم الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص ، قال : بعثني أبو بكر الصدّيق ورجلا آخر إلى هرقل صاحب الروم أدعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة ، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني .

    قال في حديث موسى بن عقبة : فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة ، فإذا عليه ثياب سود ، وإذا كل شيء حوله أسود ، فقال : يا هشام كلّمه . فكلّمه ودعاه إلى اللّه عز وجل ، وقال : ما هذه الثياب السود ؟ فقال : لبسته نذرا ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها ، قال : فقلنا : فانبذها ، أو كلمة تشبهها ، فو اللّه لنأخذها منك حتى نمنعك مجلسك هذا ، فو اللّه لنأخذه منك ، ونملك الملك الأعظم إن شاء اللّه ، أخبرنا بذلك نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، قال :
    فأنتم إذا السّمراء ؟ قلنا : نحن السعداء ، قال : لستم هم ، قلنا : ومن هم ؟

    قال : هم الذين يصومون النهار ويقومون الليل ، قلنا : نحن هم واللّه ، قال : فكيف صلاتكم ؟ فوصفنا له صلاتنا ، قال : فاللّه يعلم لقد غشيه سواد حتى صار وجهه كأنه قطعة طابق ، ثم قال : قوموا ، فأمر بنا إلى الملك ، فانطلقنا ، فلقينا الرسول بباب المدينة ، فقال : إن شئتم أتيتكم ببغال ، وإن شئتم أتيتكم ببراذين ، فقلنا : لا واللّه ، لا ندخل عليه إلا كما نحن ، فأرسل إليه أنهم يأبون ، فأرسل أن خلوا سبيلهم ، قال : فدخلنا معتمين متقلدي السيوف على الرواحل ، فلما كنا بباب الملك إذا هو في غرفة له عالية ، فنظر إلينا ، قال : فرفعنا رؤوسنا ، فقلنا : لا إله إلا اللّه ، قال : فاللّه يعلم لانتفضت الغرفة كلها حتى كأنها عزق نفضته الريح ، فأرسل إلينا




    “ 77 “

    أن هذا ليس لكم أن تجهروا بدينكم عليّ ، قال : فأرسل إلينا أن ادخلوا فدخلنا ، فإذا هو على فراشه إلى السقف ، وإذا عليه ثياب حمر ، وإذا كل شيء عنده أحمر ، وإذا عنده بطاركة الروم .
    قال : وإذا هو يريد أن يكلمنا برسول ، فقلنا : لا واللّه لا نكلمه برسول ، وإنما بعثنا إلى الملك ، فإن كنت تحب أن نكلمك فأذن لنا أن نكلمك . فلما دخلنا عليه ضحك ، فإذا هو رجل فصيح بكثير العربية ، فقلنا : لا إله إلا اللّه ، فاللّه يعلم لقد نقض السقف حتى رفع رأسه هو وأصحابه ، فقال : ما أعظم هذه الكلمة عندكم ، فقلنا : هذه كلمة التوحيد ،
    قال :التي قلتموها ؟ قلنا : نعم ، قال : فإذا قلتموها في بلاد عدوكم نقضت سقوفكم ؟
    قلنا : لا ، قال : فإذا قلتموها في بلادكم نقضت سقوفكم ؟ قلنا : لا ، وما رأيناها فعلت هذا ، وما هو إلا لشيء عزّت به . فقال : ما أحسن الصدق ، فما تقولون إذا فتحتم المدائن ؟ قلنا : نقول :
    لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، قال : تقولون لا إله إلا اللّه ليس معه شيء ، واللّه أكبر من كل شيء ؟

    قلنا : نعم . قال : فما منعكم أن تحيوني تحية لنبيكم ؟ قلنا : إن تحية نبينا لا تحلّ لك ، وتحيتك لا تحل لنا فنحيّيك بها . قال : وما تحيتكم ؟ قلنا : تحية أهل الجنة . قال : وبها كنتم تحيّون نبيكم ؟ قلنا : نعم ، قال : وبها كان يحييكم ؟ قلنا : نعم . قال : فمن كان يورث منكم ؟ قلنا : من كان أقرب قرابة . قال : وكذلك ملوككم ؟ قلنا : نعم .

    قال : فأمر لنا بنزل كثير ، ومنزل حسن ، فمكثنا ثلاثا ، ثم أرسل إلينا ليلا ، فدخلنا عليه وليس عنده أحد ، فاستعاد كلامنا ، فأعدنا عليه فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة ، وإذا فيها أبواب صغار ، ففتح منها بابا ، فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل طويل أكثر الناس شعرا ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا آدم .

    ثم أعادها وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم ، له شعر كشعر القط ، أعظم الناس إليتين ، أحمر العينين ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا نوح .
    ثم أعادها وفتح بابا آخر واستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة بيضاء ، وإذا رجل أبيض الرأس واللحية كأنه حيّ يبتسم ، قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إبراهيم .

    ثم أعادها وفتح بابا آخر استخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء ، قال : أتعرفون من هذا ؟ قلنا : هذا النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال : هذا واللّه محمد رسول اللّه ، قال : فاللّه يعلم أنه قام ، ثم قعد ، وقال : واللّه إنه لهو . ثم قال : اللّه بدينكم إنه نبيكم ؟ قلنا : اللّه بديننا إنه نبيّنا كأننا ننظر إليه حيا . قال : أما إنه كان آخر البيوت ، ولكنني عجّلته لكم لأنظر ما عندكم .


    “ 78 “

    ثم أعادها وفتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فإذا صورة أدماء سحماء ، وإذا رجل جعد ، قطط ، غائر العينين ، حديد النظر ، متراكب الأسنان ، مقلص الشفة ، كث اللحية ، كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا موسى . فإذا إلى جانبه صورة تشبهه ، إلا أنه مدهان الرأس ، عريض الجبين ، في عينيه قبل ، فقال : هل تعرفون هذا : قلنا : لا ، قال : هذا هارون بن عمران .
    ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء ، فإذا صورة رجل أدم ، سبط ، ربعة ، كأنه غضبان ، حسن الوجه ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا لوط .
    ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أبيض ، مشرّب بحمرة ، أقنى الأنف ، خفيف العارضين ، حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسحاق .
    ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل تشبه صورة إسحاق ، إلا أنه على شفته السفلى خال ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يعقوب .

    ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة رجل أبيض ، حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه النور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا إسماعيل جدّ نبيكم .
    ثم فتح بابا آخر واستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنها صورة آدم ، كأن وجهه الشمس ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا يوسف .
    ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة بيضاء ، فيها صورة رجل أحمر ، خميص الساقين ، أخفش العينين ، ضخم البطن ، ربعة ، أشبه الخلق بامرأة عجوز ، متقلدا سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا داود .
    ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها رجل ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكب على فرس طويل الرجلين ، قصير الظهر ، كل شيء منه جناح تحت الريح ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا سليمان بن داود .

    ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة أو خرقة سوداء فيها صورة بيضاء ، وإذا رجل شاب شديد سواد اللحية ، يعلوه صفرة ، صلت الجبين ، حسن اللحية ، كثير الشعر ، حسن الوجه ، حسن العينين يشبهه كل شيء منه ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا ، قال : هذا عيسى ابن مريم .

    “ 79 “

    ثم أعادها ، وأمر بالربعة فرفعت ، قلنا : من أين لك هذه الصور ؟ لأنّا نعلم أنها على ما صوّرت عليه الأنبياء عليهم السلام ، لأنّا رأينا صورة نبينا عليه الصلاة والسلام مثله ؟

    فقال : إن آدم سأل ربه عز وجل أن يريه الأنبياء من أولاده فأخرج له صورهم في خرق حرير من الجنة ، وكانت في خزانة آدم عند غروب الشمس ، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس ، فلما كان دانيال صوّرها هذه الصور فهي بأعيانها ، فو اللّه لو تطيب نفسي الخروج عن ملكي ما باليت أن أكون عبدا لأسدكم بمكة ، ولكني عسى أن تطيب نفسي.

    ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرّحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، حدّثناه بما رأيناه ، وما قال لنا ، وما أدنانا ، فبكى أبو بكر ، وقال : مسكين ، لو أراد اللّه به خيرا لفعل .

    ثم قال : أخبرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم عندهم في التوراة والإنجيل ، وقد جمعت في سياق الحديث بين الروايتين ، وإن رواية شرحبيل حدثنا بها عبد الوهاب بن علي ببغداد ، عن محمد بن ضياعة ، عن أحمد بن الحسين ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ، كتب إليه أن أبا محمد عبد اللّه إسحاق البغوي أخبرهم ، قال : حدثنا إبراهيم بن هيثم البلدي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن الوليد بن مسلم بن إدريس ، قال : ثنا عبد اللّه بن إدريس بن شرحبيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص الأموي ، ثنا أبو الخير أحمد بن إسماعيل بن يوسف بن محمد بن الفضل الفزاري ، عن أبي بكر أحمد بن الحسين ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ، قال : حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد البغدادي ببخارى ، قال : ثنا عبد اللّه بن محمود ، قال : أنبأنا عبدان بن سنان ،

    قال :حدثني العباس القزويني الطالقاني كتابة ، عن أبي عبد اللّه الحافظ ،
    قال : حدثني أحمد بن عبد اللّه البرقي ، قال : ثنا يزيد بن يزيد اللؤلؤي ،
    قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن مكحول ، عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، قال : كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلنا منزلا فإذا رجل في واد يقول : اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة المغفور المثاب لها ، قال : فأشرفت على الوادي ، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي : من أنت ؟ قلت : أنا أنس بن مالك خادم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قال : فأين هو ؟ قلت : هو يسمع كلامك ،
    قال : فائته فأقرئه السلام وقل له أخوك الياس يقرئك السلام ، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته ، فجاءه حتى لقيه وعانقه وسلم عليه ، ثم قعدا يتحدثان ،
    فقال له : يا رسول اللّه ، إني ما آكل في السنة إلا يومان ، وهذا يوم فطري ، فآكل أنا وأنت ، فنزلت عليهما مائدة من السماء ، خبزا وحوتا وكرفس ، فأكلا وأطعماني ، فصلينا العصر ، ثم ودّعه ، ثم رأيته مرّ في السحاب نحو السماء .


    “ 80 “


    تصاف ومعرفة ووصية وتنبيه وتصرف وتنزيه وموعظة وغيرها
    حدثنا أبو بكر بن أبي الفتح ، قال : حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن حامد الأرياحي ، قال : أجازني أبو الحسن علي بن الحسن بن عمر الموصلي القرّاء الحديث عنه بجميع ما يرويه ، قال : ثنا أبو القاسم عبد العزيز بن أبي محمد الحسن بن إسماعيل بن محمد الضراب ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري المالكي ، قال :

    أنشدنا المبرّد بن قتيبة لأبي العتاهية رحمه اللّه شعرا :
    ما أنا إلا لمن يعاني * أرى خليلي كما يراني
    لست أرى ما ملكت طرفي * مكان من لا يرى مكاني
    فلي إلى أن أموت رزق * لو جهد الخلق ما عداني
    فاستغن باللّه عن فلان * وعن فلان وعن فلان
    والمال من حله قوام * للعرض والوجه واللسان
    والفقر ذلّ عليه باب * مفتاحه العجز والتواني
    ورزق ربي له وجوه * هنّ من اللّه في ضمان
    سبحان من لم يزل عليّا * ليس له في العلوّ ثاني
    قضى على خلقه المنايا * فكلّ حيّ سواه فاني
    يا ربّ لم نبك من زمان * إلا بكينا على زمانحكمة
    حضرت عتابا بين شخصين في أمر ما ، فلم يظهر على ذلك العتاب ثمرة ، فتذكرت قول بعضهم :وليس عتاب المرء للمرء نافعا * إذا لم يكن للمرء لبّ يعاتبهموعظة
    قال مقاتل بن صالح : أنبأنا إسحاق بن منصور بن دينار ، قال : نظر بعض ملوك الأعاجم إلى شيب في رأسه ، فجمع نساءه ، وقال : تعالين فاندبنني إذ مات بعضي ، لأنظر كيف تندبنني إذا مات كلي ، وأنشد :إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت * ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
    وساقت إليه الإثم والعار للذي * دعته إليه من حلاوة عاجل


    “ 81 “

    نصيحة

    قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : من أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه ، فإنما أظهر نفاقا على نفاق .خبر نبوي بعمل غبطة
    حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم التميمي الفاسي بمدينة فاس ، قال : أنبأنا أبو القاسم هبة اللّه بن علي بن مسعود الأنصاري البوصيري ، قال : أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن بركات بن هلال السعدي النحوي ، قال : أنبأنا أبو عبد اللّه محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي ، قال : أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي ، حدثنا عبيد بن شريك البزاز ، حدثنا داود بن أبي أياد ، حدثنا إسماعيل بن عباس ، عن المطعم بن مقداد ، وعنبسة بن سعيد بن غيثم الكلاعي ، عن فصيح العبسي ، عن ركب المصري ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “ طوبى لمن تواضع في غير منقصة ، وذلّ في نفسه من غير مسكنة ، وأنفق من مال جمعه في غير معصية ، وخالط أهل الفقه والحكمة ، ورحم أهل الذلّ والمسكنة .

    طوبى لمن طاب كسبه ، وصلحت سريرته ، وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شره . طوبى لمن عمل بعلمه ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله “ .
    بلغنا أن أبا العباس السفاح لما ولي الخلافة ، وصل عبد اللّه بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم بألفي ألف دينار ، وهو أول خليفة وصل بهذه الجملة .
    ولما أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور ، قتل أبا مسلم الخراساني الذي أقام لهم الدعوة ، قتله في شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة ، وأمر بتوسعة المسجد الحرام سنة تسع وثلاثين ، وحجّ سنة أربع وأربعين ، وزار ومضى إلى بيت المقدس ، وعاد إلى الهاشمية ، وحجّ أيضا سنة أربع وأربعين ، وسنة تسع وأربعين .
    وخرج عليه الحسن بن الحسن فوجّه إليه عيسى بن موسى ، فقتله في رمضان سنة خمس وأربعين . وخرج إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن إلى الكوفة ، فلقيه عيسى بن موسى فقتله في تلك السنة أيضا .
    وفي أيامه توفي جعفر بن محمد الصادق سنة ثمان وأربعين . ومات الإمام أبو حنيفة

    “ 82 “


    سنة خمسين ومائة وله سبعون سنة ، وكان مولده سنة ثمانين . وقيل : عاش تسعين سنة ، وكان مولده سنة ستين .
    وأما المهدي فقال : إنه لما حجّ سنة ستين ، دخل الكعبة ومعه منصور الحجبي ، وهو من حجبة البيت ، فقال له المهدي : اذكر حاجتك . فقال : إني أستحي من اللّه أن أسأل في بيته غيره . فلما خرج أرسل إليه بعشرة آلاف دينار .

    وأما هارون الرشيد ، فحجّ في خلافته ثمان أو تسع حجج ، وغزا ثمان غزوات .

    روينا أنه وصل إلى مكة في شهر رمضان سنة تسع وتسعين ، واعتمر ، ومضى إلى المدينة ، ثم رجع فحجّ تلك السنة ماشيا ، ولم يحجّ خليفة بعده إلى زماننا . غير أني سمعت مستفاضا أن خليفتنا الإمام الناصر لدين اللّه تعالى حجّ متنكرا لا يعلم به أحد ، فاللّه يعلم .
    ومات في خلافته مالك بن أنس سنة تسع وسبعين ومائة ، وله ست وثمانون سنة ، وقيل :
    سبعون سنة ، وصلى عليه ابن أبي ذؤيب . وماتت أم الرشيد سنة ثلاث وسبعين ومائة .
    وكان من بنات هارون الرشيد من تعدّ لنفسها عشرة خلفاء كلهم لها محارم : هارون الرشيد أبوها ، الهادي عمها ، المهدي جدّها ، المنصور جدّ أبيها ، السفاح عم جدّها ، الأمين والمأمون والمعتصم إخوتها ، الواثق والمتوكل ابنا أخيها .
    ونكب جعفر بن برمك سنة سبع وثمانين ومائة ، وقيل : ثمان وثمانين ، وقتل .
    وحبس يحيى وابنه الفضل إلى أن ماتا ، فمات يحيى سنة تسعين ، ومات الفضل سنة ثلاث وتسعين ومائة .
    ولما ولّي الأمين وأقام المأمون بخراسان سنتين وأشهرا ، أغرى الفضل بن الربيع ، على ما ذكر بينهما ، فنصب الأمين ابنه موسى لولاية العهد بعده ، وأخذ له البيعة ، ولقبه الناطق بالحق ، وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة ، وجعله في حجر علي بن عيسى . ووجّه علي بن عيسى إلى خراسان ، ووجّه المأمون هرثمة بن مرّة على مقدمة طاهر بن الحسين ، فقتل علي بن عيسى . ولم تزل الحرب بين الأمين والمأمون سنتين وشهورا ، إلى أن نزل طاهر بالأنبار ، وهرثمة بالنهروان . ونجا الأمين إلى مدينة أبي جعفر ، وخرج ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة ، فوقع في أيدي أصحاب طاهر ، فأتوا به طاهرا ، فقتله ونصب رأسه على الباب الحديد ، ثم أنزله وبعث رأسه إلى خراسان ، ودفن جثته في بستان مؤنسة . ويقال : إن المأمون لما رأى رأسه بكى واستعبر ، وذكر له أياما محمودة وجميلا أسداه إليه في أيام الرشيد .
    وأما المأمون فبايع لعلي الرضا بن موسى بن جعفر بولاية عهده ، في شهر رمضان


    “ 83 “

    سنة إحدى ومائتين ، ولبس الخضرة . فمات علي الرضا سنة ثلاث ومائتين ، وادعى إبراهيم بن المهدي لنفسه بالخلافة ، وهو عم المأمون ، ولقب نفسه المبارك ، وبويع له ببغداد ، سنة اثنين ومائتين ، وأقام أحد عشر شهرا وأياما ، ثم كان من أمره ما ذكرناه في هذا الكتاب .
    وفي سنة أربع ومائتين ، دعا المأمون إلى لباس السواد . وفي هذه السنة مات الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي اللّه عنه بمصر . وفي سنة اثنتي عشرة أظهر المأمون القول بخلق القرآن .
    وأما المتوكل ، فحظيّ في دولته أهل الأدب ، وظهر علي بن محمد صاحب الزنج في شوال سنة خمس وخمسين ومائتين ، وقتل في صفر سنة سبعين ومائتين في خلافة المعتمد .

    وكان المعتمد صاحب لذّات ، فجعل أخاه طلحة ولي عهده ، ولقبه الموفق ، وجعل إليه المشرق . وجعل ابنه جعفر ولي عهد ابنه ، ولقبه المفوض إلى اللّه عز وجل ، وجعل إليه المغرب . فغلب الموفق على الأمر ، وقام به أحسن قيام ، ومال الناس إليه ، واشتغل بقتال علي بن محمد ، صاحب الزنج . وكان المعتمد قد صار يريد مصر في جمادى الآخرة سنة تسع وستين ومائتين ، لمكاتبة جرت بينه وبين أحمد بن طولون ، فلما بلغ الموفق ذلك وهو في قتال علي بن محمد ، أنفذ إسحاق بن كنداج ، فردّه المعتمد ، وسلمه إلى صاعد بن مخلد ، فأنزله دار ابن الخطيب بسرّ من رأى ، وحجر عليه . ولقب الموفق إسحاق ذا السيفين ، وولاه أعمال ابن طولون . ولقب صاعد بن مخلد ذا الوزارتين . وجمع القضاة والفقهاء بدمشق ، فكلهم أفتوا بخلعه ، إلا بكار بن قتيبة فحبسه . وأمر الموفق بلعنة ابن طولون على المنابر . ثم مات أحمد بن طولون لعشر خلون من ذي القعدة سنة سبعين ومائتين . ومات ابنه العباس بعده باثنتي عشرة ليلة . وبلغنا أنه أحصي من قتله ابن طولون ، ومات بحبسه ، فكان مبلغه ثمانية عشر ألفا .

    ثم مات الموفق في صفر سنة ثمان وسبعين ومائتين ، فردّ المعتمد ولاية العهد إلى ابن الموفق ، وهو أحمد المعتمد ، وخلع ابنه جعفر . والمعتضد هو الذي أسقط المكوس التي كانت تؤخذ بالحرمين ، وتزوج قطر الندى بنت أحمد بن طولون سنة إحدى وثمانين ، وأصدقها ألف ألف . وأنفذ الحسين بن عبد اللّه الجوهري ، المعروف بابن الخصاص ، فحملها إليه في آخر هذه السنة .
    وفي أيام المقتدر باللّه بطل الحج سنة سبع عشرة وثلاثمائة ، وأخذ الحجر الأسود ،

    “ 84 “

    وذلك أن أبا طاهر سليمان بن الحسن القرمطي دخل مكة يوم التروية ، فقتل الحجاج قتلا ذريعا ، ورمى القتلى في زمزم ، وأخذ الحجر الأسود ، وعرّى الكعبة ، وقلع بابها . وبقي الحجر الأسود عندهم اثنين وعشرين سنة إلا شهرا ، ثم ردّوه لخمس خلون من ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، وكان قد بذل لهم في رده خمسون ألف دينار ، فما فعلوا ، وقالوا : أخذناه بأمر ، فلا نرده إلا بأمر . وفي أيامه أيضا استولى عبيد اللّه المهدي على المغرب ، وبنى المهدية بإفريقية في سنة اثنين وثلاثمائة ، بعد أن ادعى له بأرض القيروان في شهر ربيع الآخر سنة تسع وتسعين ومائتين ، وكان ظهوره لسبع خلون من ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائتين ، وفيها أخذ الحسين بن منصور الحلاج فقطعت يداه ورجلاه وجز رأسه وأحرق في ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة .
    حدثنا يونس ، حدثنا عبد الوهاب ، انا المبارك عبد الجبار ، انا أحمد بن علي الثوري ، انا عمر بن ثابت ، انا علي بن قيس ، عن أبي بكر القرشي ، عن محمد بن يحيى ، سمعت أبا عمر الخطاب يقول : دخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة في يوم حار ، وبلال في حشمه ، وعنده الثلج ، فقال بلال : يا أبا عبد اللّه ، كيف ترى بيتنا هذا ؟
    قال : إن بيتك لطيّب ، والجنة أطيب منه ، وذكر النار يلهي عنه ، قال : ما تقول في القدر ؟
    قال : جيرانك من أهل القبور ، ففكر فيهم ، فإن فيهم شغلا عن القدر

    قال : ادع لي ، قال : وما تصنع بدعائي وعلى بابك كذا وكذا ، كلّ يقول : إنك ظلمتهم ، يرتفع دعاؤهم قبل دعائي ، لا تظلم ، ولا تحتاج إلى دعائي .
    ومن كلام الحسن البصري : عجبا لقوم أمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحبس أولهم عن آخرهم ، وهم قعود يلعبون . يا ابن آدم ، السكين تحدّ ، والتنور يسحر ، والكبش يعتلف ، كفى بالتجاريب تأديبا ، وبتقلب الأيام عظة ، وبذكر الموت زاجرا عن المعصية ، ذهبت الدنيا بحال أولها ، وبقيت الأيام قلائد في الأعناق ، إنكم تسوقون الناس ، والساعة تسوقكم ، وقد أسرع بخياركم ، فما ذا تنتظرون المعاينة .

    وكان قد حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو الفرح بن علي بن محمد ، انا المبارك بن علي الصيرفي ، انا علي بن محمد العلاف ، انا عبد الملك بن بشران ، انا أحمد بن إبراهيم الكندي ، أنا أبو بكر محمد بن جعفر ، حدثنا أبو الفضل الربعي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، عن الهيثم بن عدي ، قال : كانت لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز جارية حسناء ، كان عمر يهواها ، فطلبها منها لنفسه ، وحرص في ذلك ، فأبت عليه ، وغارت من ذلك ، ولم يزل عمر مشغوفا بها . فلما أفضت الخلافة إليه ،


    “ 85 “



    طلبت فاطمة زوجته الحظوة عنده بتقريب الجارية إليه ، فأمرت بإصلاح شأنها ، وأدخلتها عليه في أحسن صورة ، وقالت له : يا أمير المؤمنين ، إنك كنت بفلانة جاريتي معجبا ، وسألتنيها فأبيت ذلك عليك ، وأنا اليوم قد طبت نفسا بذلك ، فدونكها .
    فسرّ عمر بقولها ، وظهر الفرح في وجهه ، وازداد بها عجبا ، وفيها صبابة ، فقال لها : ألق ثوبك أيتها الجارية .
    فلما همت ، قال لها : على رسلك ، أخبريني لمن كنت ومن أين أنت لفاطمة ؟ قالت : كان الحجاج بن يوسف أغرم عاملا كان له من أهل الكوفة مالا ، وكنت في رق ذلك العامل ، فأخذني وبعثني إلى عبد الملك بن مروان ، وأنا يومئذ صبية ، فوهبني عبد الملك لابنته فاطمة . فقال : وما فعل ذلك العامل ؟ قالت : هلك . قال : وما ترك ولدا ؟
    قالت : بلى .
    قال : وما حالهم ؟ قالت : سيّئ . قال : شدي عليك ثوبك . ثم كتب إلى عبد الحميد عامله أن سرّح إلي فلان ابن فلان على البريد . فلما قدم عليه قال : ارفع إلي جميع ما أغرم الحجاج أباك ، فما رفع إليه شيئا إلا دفعه ، ثم أمر بالجارية فدفعت إليه ، فلما أخذها بيدها ، قال : إياك وإياها ، فإنك حديث السن ، ولعل أباك أن يكون قد وطئها . فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ، هي لك .

    قال : لا حاجة لي فيها . قال : فابتعها مني .
    قال : لست إذا ممن ينهى النفس عن الهوى .
    فمضى بها الفتى . فقالت له الجارية : فأين وجدك بي يا أمير المؤمنين ؟ ف
    قال : على حالها ، ولقد ازدادت . فقيل : إنها ما زالت في نفس عمر حتى مات ، رحمه اللّه
    روينا من حديث ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن الحسن ، عن يوسف بن الحكم ، عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك ، قال : بكى عمر بن عبد العزيز يوما ، فبكت لبكائه زوجته فاطمة ، فبكى أهل الدار ، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء ، فلما انجلت عنهم عبراتهم ، قالت له فاطمة : يا أمير المؤمنين ، ممّ بكيت ؟ قال : ذكرت منصرف القوم من بين يدي اللّه عز وجل ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير . ثم صرخ وغشي عليه .
    بلغني عن عطاء أنه قال : كان عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته يجمع الفقهاء كل ليلة ، فيتذاكرون الموت والقيامة ، وما أعد اللّه في الآخرة ، ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة .

    وحدثنا يوسف في آخرين ، قالوا : حدثنا ابن بطيء ، عن حميد بن أحمد ، عن أبي نعيم ، عن أبي محمد بن حبان ، عن ابن محمد بن عمر ، عن أبي بكر بن عبيد ، حدثني حاتم بن عبد اللّه الأزدي ، عن الحسن بن محمد الخزاعي ، عن رجل من ولد عثمان ، أن عمر بن عبد العزيز قال في بعض خطبه : إن لكل سفر زادا لا محالة ، فتزوّدوا لسفركم من


    “ 86 “


    الدنيا إلى الآخرة التقوى ، وكونوا كمن عاين ما أعد اللّه من ثوابه وعقابه ، ترغبوا وترهبوا ، ولا يطولن عليكم الأمد ، فتقسى قلوبكم ، فو اللّه ما بسط أمل من لا يدري ، لعله لا يصبح بعد مسائه ، ولا يمسي بعد صباحه ، ولربما كانت بين ذلك خطفات المنايا ، فكم رأيتم ورأيت من كان في الدنيا مغرورا ؟

    وإنما تقرّ عين من وثق بالنجاة من عذاب اللّه ، وإنما يفرح من آمن من أهوال يوم القيامة ، فأما من لا يداوى كلما إلا أصابه جرح من ناحية أخرى ، نعوذ باللّه أن آمركم بما أنهي عنه نفسي ، فتخسر صفقتي ، لقد عنيتم بأمر ، لو عنت به النجوم لانكدرت ، ولو عنت به الجبال لذابت ، ولو عنت به الأرض لانشقّت ، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة ؟ وإنكم صائرون إلى إحداهما .

    قال أبو سليم الهذليّ : خطب عمر بن عبد العزيز ، فقال : أما بعد ، فإن اللّه عز وجل لم يخلقكم عبثا ، ولم يدع شيئا من أمركم سدى ، فإن لكم معادا ينزل اللّه فيه الحكم بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة اللّه ، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ، واشترى قليلا بكثير ، وفانيا بباق ، وخوفا بأمن ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين ؟

    وسيخلفها لكم الباقون ، كذلك حتى نردّ إلى خير الوارثين ، في كل يوم وليلة تشيعون غاديا ورائحا إلى اللّه عز وجل ، قضى نحبه ، وانقضى أجله ، حتى تغيّبوه في صدع من الأرض ، في بطن صدع ، ثم تدعوه غير ممهد ولا موسّد ، قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، مرتهنا بعمله ، فقير إلى ما قدم ، غنيا عما ترك ، فاتقوا اللّه قبل نزول الموت ، وأيم اللّه ، إني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب ما عندي ، وما يبلغني عن أحد منكم حاجة إلا أحببت أن أسدّ من حاجته ما قدرت عليه ، وما يبلغني أن أحدا منكم لا يسعه ما عندي إلا وددت أن يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه ، وأيم اللّه ، لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش ، لكان اللسان مني به ذلولا عالما بأسبابه ، ولكن سبق من اللّه عز وجل كتاب ناطق ، وسنّة عادلة ، دل فيها على طاعته ، ونهى فيها عن معصيته . ثم وضع طرف ردائه على وجهه ، وبكى وشهق ، وبكى الناس ، فكانت آخر خطبة خطبها .
    حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن ، عن علي بن محمد بن أبي عمر ، عن محمد بن الحسن ، عن عبد الملك بن بشران ، عن أبي بكر الآجري ، عن الغرياني ، عن عمرو بن علي ، عن سفيان بن خليد الضبي ، عن سالم بن نوح العطار ، عن بشر بن البشري ، قال عمرو بن علي : حججت ، فقيل : إن بمكة بشر بن البشري ، فأتيته ، فسألته ، فحدثني عن بشر بن البشري ، عن أبي سليم الهذلي ، وذكره .



    “ 87 “

    وحدثنا يونس بن يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن رزق اللّه ، وطراد هو الزبير ، وكلاهما عن علي بن محمد المعدل ، عن الحسن بن صفوان ، عن عبد اللّه بن محمد بن عبيد ، عن أبي محمد العبدي ، عن عبيد اللّه بن محمد القرشي ، عن ابن أبي شميلة ،
    قال : دخل رجل على عبد الملك بن مروان ممن كان يوصف بالعقل والأدب ،
    فقال له عبد الملك بن مروان : تكلم ، فقال : بما أتكلم وقد علمت أن كل كلام يتكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان للّه . فبكى عبد الملك ، ثم قال : يرحمك اللّه ، لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون .
    فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، إن للناس في القيامة جولة لا ينجو من غصص مرارتها ، ومعاينة الردى ، إلا من أرضى اللّه بسخط نفسه .
    قال : فبكى عبد الملك ، ثم قال : لا جرم ، لأجعلن هذه الكلمات مثالا نصب عيني ما عشت أبدا .

    وروينا من حديث أبي نعيم ، عن أبي بكر بن مالك ، عن عبيد اللّه بن أحمد بن حنبل ، قال : أخبرت ، عن يسار ، عن جعفر ، عن مالك بن دينار ، قال : كنت عند بلال بن أبي بردة ، وهو في قبة له ، فقلت : قد أصبت هذا خاليا ، فأي قصص أقص عليه ؟ فقلت في نفسي : ما له خير من أن أقص عليه ما لقي نظراؤه من الناس ،
    فقلت له : أتدري من بنى هذا الذي أنت فيه ؟ قال : بناها عبيد اللّه بن زياد ، فقلت : وبنى البيضاء ، وبنى المسجد ، فولّي ما ولّي ، ثم قتل ، ثم ولّي بشر بن مروان ، فقتله أخوة أمير المؤمنين ، فدفنوه . وذهب بالزنجي ، فمات بالبصرة ، فحملوه . ومات زنجي ، فحمله الزنج . فذهب بأخي أمير المؤمنين ، فدفنوه . ثم جعلت أقص عليه أميرا أميرا ، حتى انتهيت إليه ، فأثّر ذلك فيه ، وبكى بكاء شديدا .

    قصة الشعبي والحسن البصري مع عمرو بن هبيرة والي العراق
    حدثنا يونس بن يحيى في آخرين ، قال : انا محمد بن ناصر ، انا عبد القادر بن محمد ، ثنا إبراهيم بن عمر البرمكي ، انا علي بن عبد العزيز ، ثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، ثنا أبو حميد الحمصي ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن يزيد بن عطاء ، عن علقمة بن مرّة ، قال : لما قدم عمرو بن هبيرة العراق ، أرسل إلى الحسن والشعبي ، وأمر لهما ببيت ، فكانا فيه شهرا أو نحوه . ثم إن الخصي غدا عليهما ذات يوم ، فقال : إن الأمير داخل عليكما .

    فجاء عمرو متوكئا على عصا له ، فسلّم ، ثم جلس معظما لهما ، فقال : إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك كتب إليّ كتبا أعرف أن في إنفاذها الهلك ، فإن أطعته عصيت اللّه ، وإن عصيته أطعت اللّه ، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجا ؟ فقال الحسن للشعبي : يا أبا عمرو ،



    “ 88 “


    أجب الأمير . فتكلم الشعبي بكلام يريد به إبقاء وجه عنده . فقال ابن هبيرة : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال : أيها الأمير ، قد قال الشعبي ما قد سمعت به ،
    قال : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ قال : أقول : يا عمرو بن هبيرة ، أوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة اللّه ، فظّ ، غليظ ، لا يعصي اللّه ما أمره ، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك .
    يا عمرو بن هبيرة ، لا تأمن أن ينظر اللّه إليك على قبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك ، فيغلق به باب المغفرة دونك . يا عمرو بن هبيرة ، لقد أدركت ناسا من صدر هذه الأمة ، كانوا عند هذه الدنيا ، وهي مقبلة ، أشد إدبارا من إقبالكم عليها ، وهي مدبرة .
    يا عمرو بن هبيرة ، إني أخوّفك مقاما خوّفكه اللّه عز وجل ، فقال :ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ. يا عمرو بن هبيرة ، إن تكن مع اللّه في طاعته ، كفاك يزيد بن عبد الملك ، وإن تكن مع يزيد على معاصي اللّه ، وكّلك اللّه إليه . فبكى عمرو بن هبيرة ، وقام بعبرته .

    فلما كان من الغد ، أرسل إليهما ، فأدناهما وأجازهما ، فأكثر جائزة الحسن ، وأنقص جائزة الشعبي . فخرج الشعبي إلى المسجد ، فقال : أيها الناس ، من استطاع منكم أن يؤثر اللّه على خلقه فليفعل ، فوالذي نفسي بيده ، ما علم الحسن شيئا منه فجهلته ، ولكني أردت ابن هبيرة ، فأقصاني اللّه منه .
    وبلغني أن عمر بن عبد العزيز لما ولّي الخلافة ، أخذ إقطاع أمير كبير كان أقطعه إياها سليمان بن عبد الملك ، والوليد بن عبد الملك ، فلما مات عمر بن عبد العزيز وولّي يزيد بن عبد الملك ، جاء الأمير إليه ،

    فقال له : إن أخاك سليمان أمير المؤمنين والوليد أقطعاني شيئا قطعه عني أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه ، فأريد منك أن تردّه عليّ . قال يزيد : لا أفعل . قال : ولم ؟ قال : لأن الحق فيما فعل عمر بن عبد العزيز .
    قال : وبم ذلك ؟ قال : لأن أخواي أحسنا إليك وذكرتهما ، وما دعوت لهما ، وعمر بن عبد العزيز أساء إليك وذكرته فترضّيت عنه ، فعلمت أن عمر آثر اللّه على هواه ، وأما سليمان والوليد آثرا هواهما على حق اللّه . فو اللّه لا رأيته مني أبدا . وهذا من أحسن ما يحكى عن الثقات أولات الأمر ا ه . والحمد للّه حق حمده .
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:12

    الجزء السادس .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء السادس
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
    “ 89 “

    ذكر ما أرّخ به الناس من آدم إلى الهجرة النبوية
    فأول تاريخ كان بهبوط آدم عليه السلام ، ثم ببعث نوح ، ثم بالطوفان ، ثم بنار إبراهيم عليه السلام ، وقد أرّخ بموت آدم وببعث إدريس عليهما السلام .
    ثم إن بني إسحاق بن إبراهيم عليه السلام أرّخوا بنار إبراهيم إلى يوسف ، ومن يوسف أرّخوا إلى بعث موسى عليهما السلام .
    وأرّخوا من موسى إلى ملك داود وسليمان عليهما السلام ، ثم أرّخوا بما كان من الكوائن .
    وكان منهم من أرّخ بوفاة يعقوب ، ثم بخروج موسى من مصر ببني إسرائيل ، ثم بخراب بيت المقدس .
    وأما بنو إسماعيل ، فقد أرّخوا ببناء الكعبة ، ثم أرّخوا بكل يوم أخرجوا من تهامة ، ثم أرّخوا بعام الفيل ، وبيوم الفجار .
    وقد كانت بنو معدّ بن عدنان تؤرّخ بغلبة جرّهم العماليق ، وإخراجهم إياهم من الحرم ، ثم أرّخوا بأيام الحروب ، كحرب أبناء وائل ، وهي حرب البسوس ، وكحرب داحس .
    وكانت حمير وكهلان تؤرّخ بملوكها السابقة ، وأرّخوا بنار ضرار ، خربت بعض اليمن ، وأرّخوا بسيل العرم .
    وأرّخوا بظهور الحبشة على اليمن . وقد أرّخت الأمم الماضية ، قبل إبراهيم ، بهلاك عاد بالريح .
    وأما الروم واليونان فتؤرّخ بظهور الإسكندر ، وأرّخت القبط بملك بخت‌نصّر ، ثم أرّخت بملك زقلط يانوس القبطي ، وقالوا : إنه تاريخهم إلى الآن .



    “ 90 “

    وأرّخت المجوس بآدم ، ثم أرّخوا بقتل دارا ، وظهور الإسكندر ، ثم بظهور أزدشير ، ثم بملك يزدجرد .
    وما زال التاريخ في العرب ، من عام الفيل إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه .
    فتقرر الأمر على أن يؤرّخ بهجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة ، وجعلوا التاريخ في المحرم أول عام الهجرة .



    “ 91 “

    ذكر اختلاف الأمم فيما مضى من الزمان من آدم إلى هجرة نبينا عليه الصلاة والسلامتاريخ العرب في ذلك
    روينا من حديث ابن عباس رضي اللّه عنهما ، أن ما بين مدة آدم إلى نبينا خمسة آلاف سنة ، وخمسمائة وخمس وسبعون سنة ، ثم فصّل على ما رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عنه ، من آدم إلى نوح ألف ومائتا سنة ، ومن نوح إلى إبراهيم ألف ومائة سنة ، ومن إبراهيم إلى موسى خمسمائة وخمس وسبعون سنة ، ومن موسى إلى داود ألف ومائة وتسع وسبعون سنة ، ومن داود إلى عيسى ألف وثلاثمائة وخمس وستون سنة ، ومن عيسى إلى محمد ستمائة سنة ، وقد روي عنه غير ذلك .
    وفي قول الواقدي : من هبوط آدم إلى مولد نبينا عليه السلام أربعة آلاف وستمائة سنة . وفي قول محمد بن إسحاق خمسة آلاف سنة وأربعمائة سنة وست وعشرون سنة ،
    قال : كان بين آدم ونوح ألف ومائتا سنة ، ومن نوح إلى إبراهيم ألف ومائة واثنان وأربعون سنة ، ومن إبراهيم إلى موسى خمسمائة وخمس وسبعون سنة ، ومن موسى إلى داود خمسمائة وتسع وستون سنة ، ومن داود إلى عيسى ألف وثلاثمائة وخمس وستون سنة ، ومن عيسى إلى محمد صلوات اللّه عليهم أجمعين ستمائة سنة .
    وفي قول وهب بن منبّه : خمسة آلاف وستمائة سنة .
    تاريخ مجوس الفرس في ذلك : أربعة آلاف ومائة واثنان وثمانون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما .

    تاريخ أصحاب الريحان في ذلك : والتاريخ عندهم الذي يصح في دعواهم بالبرهان : من الطوفان ، فإنهم غير مؤمنين بما وردت به الأنبياء عليهم السلام ، من حديث آدم ،
    فقالوا : إن من أول الطوفان إلى أول يوم الهجرة ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة وخمس وعشرون سنة فارسية وثلاثمائة وتسعة وأربعون يوما .



    “ 92 “

    تاريخ اليهود في ذلك : أربعة آلاف سنة وستمائة واثنان وأربعون سنة . تاريخ اليونان من النصارى في ذلك : خمسة آلاف سنة وسبعمائة واثنان وسبعون سنة وأشهر .
    ذكر المؤرخون : أن عمر آدم ألف سنة ، وقيل : ألف إلا سبعين عاما ، وقيل :
    ثمانمائة سنة .
    وعمر ولده شيث ، وتفسيره : هبة اللّه ، وهو ابن آدم ، سبعمائة سنة واثنا عشر سنة ، وعاش أنوش بن شيث بن آدم سبعمائة سنة وخمسا وستين سنة . وعاش فينان بن أنوش سبعمائة وعشرين سنة ، وعاش مهلاييل بن فينان بن أنوش بن شيث بن آدم ثمانمائة سنة وخمسا وتسعين سنة ، وعاش برد بن مهلاييل تسعة واثنين وستين سنة ، وفي زمنه عملت الأصنام . وولد كل هؤلاء في حياة آدم . وعاش إدريس بن برد ، إلى أن رفع إلى السماء ، ثلاثمائة وخمسين سنة في حياة أبيه برد ، وعاش أبوه بعد رفعه أربعمائة وخمسا وثلاثين سنة ،
    وقيل : رفع وهو ابن أربعمائة وخمسا وستين سنة . وعاش متوشلخ بن إدريس تسعمائة واثنتين وثمانين سنة ، وولد متوشلخ وابنه لامك في حياة آدم أيضا ، وولد للامك نوح ، وعمر لامك إذ ذاك مائة وسبع وثمانون سنة ، وكان مولد نوح بعد وفاة آدم بثمانمائة سنة وستة وعشرين سنة ، وذلك في سنة ست وخمسين سنة لهبوط آدم وبعث نوح ، وله أربعمائة وثمانون سنة ، وركب الفلك وله ستمائة سنة ، وأقام بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة ، وقيل : بعث وله خمسون سنة ، ومات وله ألف سنة ، وقيل غير ذلك ، قيل : واستقلت السفينة لعشر خلت من رجب ، وبقيت على الماء مائة وخمسين سنة ، ثم استقرت على الجودي في جبل بالجزيرة شهرا ، وخرج إلى الأرض في المحرم في اليوم العاشر منه ، وابتنى قرية بالجزيرة تسمى سوق ثمانين ، فإنهم كانوا في السفينة ثمانين رجلا .

    وعاش سام بعد نوح ستمائة سنة ، وكان سام أوسط ولد نوح ، وكان يافث أسنّ منه ، وقدموا ساما بالذكر لأنه أبو الأنبياء عليهم السلام ، وكان له من الولد : آدم ، وأرسيمون ، وأرفخشذ ، وعويلم ، ولاود ، وكان يسكن هو وولده الحرم وما حوله إلى اليمن وإلى غسان العرب .
    والأنبياء كلهم ، عربيّهم وعجميّهم ، من ولده . واليمن كلها وعاد وثمود من ولده .
    وأما حام بن نوح ، فزعم وهب أنه كان أبيض حسن الصورة ، فغيّر اللّه لونه وألوان ذريته لدعوة أبيه عليه ،
    قيل : نام نوح فانكشفت عورته فلم يسترها حام ، فسترها سام ويافث ، فدعا لهما ، فالسودان كلهم على اختلاف أجناسهم من أولاد حام ، وكان له من غربي النيل إلى ما وراءه من بحر الديور .



    “ 93 “

    وأما يافث بن نوح وولده ، فكانت منازلهم أرض الروم ، والروم من ولده ، والترك والخزر ، ويأجوج ومأجوج .نسب هود عليه السلام
    يقال : إنه عاير بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، وأنه ولد بعد ما مضى من عمر نوح ستمائة وسبع وستون سنة . وقال بعضهم : هو هود بن عبيد اللّه بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام ، بعثه اللّه عز وجل إلى حي من ولد أرم بن سام ، وهم عاد بن عوص بن أرم ، وهم عاد الأولى ، فكذبوه ، فأهلكهم اللّه . وقصتهم مذكورة في هذا الكتاب .

    ولما أهلكهم ، بعث عليهم طيرا أسود ، فنقلهم إلى البحر ، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ، وكانت مساكنهم الشحر ، بين عمان وحضرموت . ويقال : كان هود أشبه ولد آدم بآدم ، وكذا قيل في يوسف . ومات هود بمكة بعد هلاك قومه ، وله مائة وخمسون سنة ، وقيل غير ذلك .

    قال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : قبر هود بحضرموت .نسب صالح عليه السلام
    هو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود بن جابر بن أرم بن سام ، بعثه اللّه إلى حيّه ، وهم ثمود ، وكانت مساكنهم الحجر ، من وادي القرى والشام ، وقصته ستجيء إن شاء اللّه تعالى .

    زعم وهب أن اللّه بعثه حين راهق الحلم ، وكان يمشي حافيا لا يتخذ نعلا ، وكانت آيته ناقة أخرجها اللّه من هضبة من الأرض ، يتبعها فصيل لها فيحلبون منها ربّهم ، وتشرب في ذلك اليوم جميع مياههم ، ويشربون هم اليوم الثاني الماء ، ولا تأتيهم ، فلما طال ذلك عليهم ملّوها ، فاجتمعوا تسعة من شرار قومه على عقرها ، وخرجوا إليها ، فعقرها رجل يعرف بقدار ، أحمر ، أزرق ، فوعدهم للّه بالعذاب بعد ثلاث ، فأصابهم في اليوم الأول ، وكان يوم الخميس ، صفرة ، فأصبحوا مصفرّين ، وأصبحوا في اليوم الثاني وجوههم محمرّة ، وأصبحوا في اليوم الثالث وجوههم مسودّة ، وصبحهم العذاب يوم الأحد ، فأتتهم صيحة من السماء ، فماتوا كلهم ، ولحق صالح ومن آمن معه من قومه بمكة ، ومات وله ثمان وخمسون سنة . وروي أن قبورهم بين دار الندوة والحجر . وذكر ريئمة أن صالحا



    “ 94 “

    عاش ثلاثمائة سنة إلا عشرين سنة . وزعم أهل التوراة إن صدقوا أنه لا ذكر لعاد وثمود في كتابهم .نسب إبراهيم عليه السلام
    وقصته ستجيء ، ونسبه مذكور في سرد نسب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهن إبراهيم بن تارخ ، وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن رغو بن قالع بن عابر ، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، ولد ببابل ، وقيل : بحرّان ، ونقله أبوه إلى بابل ، وولد في زمن نمرود بن كوش ، وقيل : نمرود بن كنعان بن كوش . وكان النمرود ملك المشارق والمغارب .

    ولما بلغ إبراهيم عليه السلام ثلاثين سنة ، ألقاه نمرود في النار ، وكان قد حبسه قبل أن يلقيه في النار ثلاث عشرة سنة ، وقيل : ألقي في النار وله ست عشرة سنة ، ولما بلغ عمره سبعين سنة خرج إبراهيم ومعه ابن أخيه لوط بن هاران ، وابنة عمه سارة زوجته ، إلى حرّان . وقيل : إن أباه كان معه ، فأقاموا بها خمسين سنة .
    ومات بها آزر ، بعد أن خرج ابنه منها بسنتين . ثم سار إبراهيم ولوط وسارة من حران إلى الشام ، فوجدوا في الشام جوعا عظيما ، فساروا إلى مصر ، وفرعونها إذ ذاك سنان بن علوان ، وأقاموا بها ثلاثة أشهر ، ورجعوا إلى الشام ، وقد أهدى سنان فرعون مصر إلى سارة هاجر ، فنزلوا المسبع من أرض فلسطين ، وفارقه لوط وسكن في سدوم .
    ثم تحول إبراهيم ونزل بين الرملة وإيلياء ، فلما بلغ إبراهيم خمسا وثمانين سنة وهبت له سارة جاريتها هاجر ، فولدت هاجر إسماعيل ، وله ست وثمانون سنة ، واختتن وله تسع وتسعون سنة ، ثم اختتن ابنه إسماعيل ، ثم ولدت سارة إسحاق وله مائة سنة ، وأنزل اللّه عليه عشر صحائف . وولد لإسحاق يعقوب والعيص بعد ما مضى مائة وستون سنة لإبراهيم . ومات إبراهيم وله مائة وخمس وسبعون سنة .

    وماتت سارة ولها مائة وتسع وعشرون سنة ، وكان موتها قبل وفاة إبراهيم بعد مضي سبع وثلاثين سنة من عمر ابنها . ودفنا في مزرعة حبرون من أرض الشام .
    وزعم محمد بن جرير الطبري أن من هبوط آدم إلى أن ولد إبراهيم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وسبعا وثلاثين سنة ، فيكون إلى موته ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنا عشر سنة .نسب لوط عليه السلام
    هو لوط بن هاران بن آزر ، أرسل إلى أهل سدوم ، وقصته مع قومه ستجيء . وإن جبريل اقتلع أرضهم من سبع أرضين ، فحملها حتى بلغ بها إلى سماء الدنيا ، حتى سمع



    “ 95 “

    أهل السماء نباح كلابهم ، وأصوات ديكتهم ، ثم قلبها ، وهو قوله تعالى :وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى. وأرسل على الشرار منهم حجارة من سجّيل ، وكان ذلك بعد مضي تسع وتسعين من عمر إبراهيم . وكانت فيما روي خمس قرى : ضيعة ، وضعوة ، ودوما ، وعمره ، وسدوم ، وهي العظمى .
    وذكر أن جميع ما عمرت سدوم إحدى وخمسون سنة .


    نسب إسماعيل عليه السلام
    هو إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام ، وقد ذكرنا أولاده ، وحديثه بمكة . لما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق ، وزوّج ابنته من العيص بن إسحاق ، وكان عمره مائة وسبعة وثلاثون سنة ، ودفن في الحجر إلى قبر أمه هاجر .
    وماتت هاجر في حياة أبيه .نسب إسحاق عليه السلام
    فأصحّ الروايات أنه الذبيح ، ولما عرضه أبوه للذبح كان ابن سبع سنين ، وكان مذبحه في بيت إيلياء . ولما علمت سارة بما أراد إبراهيم بإسحاق من الذبح ، أخذها البطن من الجزع يومين ، وماتت في الثالث . وقيل : كان ابن ست وعشرين سنة .
    ولما بلغ عمر إسحاق ستين سنة ولد له العيص ويعقوب ، وكانا توأمين ، فولد للعيص الروم ، وكل بني الأصفر من ولده . وقيل : إنما سمّوا بني الأصفر لأن العيص كان أصفر اللون .

    وولد ليعقوب الأسباط . وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، وكان ضريرا ، وكانت وفاته في السنة التي استوزر يوسف فيها بمصر ، ودفن عند قبر أبيه إبراهيم .وأما يعقوب عليه السلام
    فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عاش مائة وسبع وأربعين سنة .
    توفي بمصر ، وحمله ابنه يوسف ودفنه عند قبر أبيه ، ثم عاد وكانت النبوّة والملك متصلين بالشام ونواحيها لولد إسرائيل الذي هو يعقوب بن إسحاق ، إلى أن زال عنهم ذلك بالفرس والروم ، بعد يحيى بن زكريا ، وبعد عيسى عليه السلام . وكان ليعقوب اثنا عشر ولدا ذكورا ، وهم الأسباط .
    وذكر بعض أهل التاريخ أن الأنبياء كلهم من ولد يعقوب ، إلا أحد عشر نبيا ، وهم :
    نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وأيوب ، وشعيب ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، وعيسى ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين .



    “ 96 “

    وأما يوسف عليه السلام
    فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، وستجيء قصته
    قيل : كان سنّه في الوقت الذي رأى فيه الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا سبع عشرة سنة .
    واسم العزيز الذي استوزره الريان بن الوليد ، وذكر أنه آمن واتّبع يوسف ، ومات في حياة يوسف ، وولّي بعده قابوس بن مصعب ، وكان كافرا .
    ومات يوسف وله مائة وعشر سنين . وباعه إخوته وله سبع عشرة سنة . وأقام في الرق ثلاث عشرة سنة . واستوزر وله ثلاثون سنة ، وأقام وزيرا وله تسع سنين .
    واجتمع بأبيه ، فكانت مدة الفراق : اثنتين وعشرين سنة . وأقام مع أبيه سبع عشرة سنة .
    وقال سلمان الفارسي : مدة فراقه من أبيه أربعون سنة . وقال الحسن : ثمانون سنة .
    وقال ابن إسحاق : ثماني عشرة سنة . وكان يعقوب وأهل بيته يوم دخولهم مصر سبعين نفسا . وبين دخول يعقوب وأهله مصر وبين خروج موسى ببني إسرائيل منها أربعمائة وست وثلاثون سنة .
    وكان عدد من خرج مع موسى من بني إسرائيل من مصر ستمائة ألف مقاتل . وحمل موسى تابوت يوسف معه حين خرج . وإنه دفن عند آبائه .وأما أيوب عليه السلام
    فهو أيوب بن مصوع بن راح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، قاله وهب بن منبّه . وقيل : هو أيوب بن عوص بن رعويل بن عيص بن إبراهيم الخليل .

    وقال أهل التوراة : إنه من ولد عوص بن ناحور ، أخي إبراهيم الخليل ، فعلى هذا القول ليس هو من الروم . وقيل : إنه من ولد العيص ، لكونه روميا . واختلف في زوجته التي ضربها بالضغث ، فقيل : هي إلياء بنت يعقوب بن إسحاق عليهما السلام .
    وقيل : هي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ، وكانت أم أيوب بنت لوط .
    وزعم الحسن البصري أنه ابتلي وله ثمانون سنة من عمره . قال وهب : وابتلي ثلاث سنين . وقيل : عاش مائتي سنة وعشر سنين . وقيل : نبّئ في عهد يعقوب .
    وذكر الطبري أن اللّه بعث بعده ابنه ذا الكفل ، واسمه بشر بن أيوب ، وله خمس وسبعون سنة . ثم بعث اللّه بعد ذي الكفل شعيبا ، عليهم السلام .



    “ 97 “

    نسب شعيب عليه السلام
    قيل : اسمه ترون بن صفوان بن الغابر ثابت بن مدين بن إبراهيم .
    روينا عن ابن إسحاق أنه شعيب بن ميكائيل من ولد مدين ، وقيل : لم يكن من ولد إبراهيم ، وإنما هو من ولد بعض من آمن بإبراهيم ، وهاجر معه
    قالوا : وأم أبيه هي بنت لوط ، وقصته ستجيء . وبعثه اللّه إلى أمتين : مدين ، وأصحاب الأيكة . وهو خطيب الأنبياء ، قيل : وكان أعمى ، ومات بمكة ، وما بلغني كم عاش.


    وأما الخضر عليه السلام
    فقيل : إن اسمه الخضر ، هذا قول الطبري . وقيل : اسمه بلياء بن لمكان بن قالع بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام ، وكان أبوه لمكان اختلف في نبوّته ، وقصته مذكورة في هذا الكتاب .
    قال ابن إسحاق : وكان الخضر نبيا ، بعثه اللّه إلى بني إسرائيل بعد شعيب .
    قال وهب : اسم الخضر أورياء بن حلقيا ، وكان من سبط هارون ، وهو الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها . وقال عبد اللّه بن شوذب : الخضر من فارس ، والياس من بني إسرائيل .

    وقال بعض أهل الكتاب من اليهود : إن موسى الذي لقي الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف ، وكان نبيا قبل موسى بن عمران .
    والصحيح : أن موسى بن عمران هو صاحب الخضر . وقيل : إن هذا الخضر كان على مقدمة عسكر ذي القرنين الأكبر ، الذي كان في أيام إبراهيم الخليل ، وبلغ معه نهر الحياة ، فشرب من مائه ، وهو لا يعلم به ، فخلّد ، وهو حيّ إلى الآن ،
    وهذا قول الطبري ، حكاه عنه صاحب كتاب أخبار الزمان .نسب موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام
    وهما أخوان لأب وأم ، وأبوهم عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام .
    واسم أمهما : لوخا بنت هاند بن لاوي بن يعقوب . وقيل : يوحانذ . وقال ابن إسحاق : يخبيب . وقصته ستجيء .
    وكان قابوس بن مصعب ، صاحب يوسف الثاني ، قد مات ، وأقام مكانه أخوه :
    الوليد بن مصعب ، وهو فرعون موسى .



    “ 98 “

    ولما بلغ فرعون بولادة مولود يكون هلاك فرعون على يده ، صار يقتل الولدان سنة ، ويحييهم سنة ، فولد هارون في السنة التي لا قتل فيها ، ثم ولد موسى بعده بثلاث سنين ، في السنة التي يقتل فيها ، فجعلته أمه في التابوت كما ذكر .
    ولما وجد التابوت في الماء عند الشجر ، سماه فرعون : موسى مركب من ماء وشجر ، فإن الماء بلغتهم : المو ، والسا : الشجر . فسمّي بصفة المكان الذي وجد فيه .
    ذكر ذلك شيخنا أبو زيد السهيلي في المعارف والأعلام .
    وقتل القبطي وسنّه إحدى وأربعون سنة ، وأقام بمدين تسعا وثلاثين سنة ، ثم رجع إلى مصر بزوجته صفورا بنت شعيب ، ثم بعثه اللّه إلى فرعون ، فأقام يدعوه أحد عشر شهرا ، ثم سار ببني إسرائيل ، وأتبعه فرعون ، فأغرقه اللّه .
    وأقاموا في التيه أربعين سنة ، وخسف اللّه بقارون في التيه ، ومات هارون في التيه وله مائة وسبعة عشر سنة ، ومات موسى في التيه وله مائة وعشرون سنة ، بعد أن استخلف يوشع بن نون . قال ابن إسحاق : إنها حوّلت النبوة إلى يوشع بن نون في حياة موسى عليه السلام .نسب يوشع بن نون عليه السلام
    وهو فتى موسى ، هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، بعثه للّه نبيا بعد موسى إلى أريحا لحرب من فيها من الجبابرة ، فقاتلهم حتى أمسى ، فدعا اللّه أن يمسك عليه الشمس عن الغروب حتى يظفر عليهم .

    فقيل : رجعت الشمس قدر نصف ساعة .
    وقيل : رجعت اثني عشر برجا ، ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل المدينة من الجبارين مع موسى إلا مات ، ولم يشهد الفتح . قاله السدي .
    وقال ابن عباس : كل من دخل التيه ممن جاوز العشرين مات ، ولم يدخل المدينة غير يوشع ، وقيل : إنه فتحها في حياة موسى ، وعاش يوشع مائة وعشر سنين ، وأقام يدبّر أمر بني إسرائيل ثمانية وعشرين سنة ، ثم استخلف يوشع رجلا صالحا اسمه غالب بن يوقنا .نسب حزقيل عليه السلام
    ذكر الطبري : أنه لا خلاف بين أهل العلم بأخبار الماضين . إن القائم بأمور بني إسرائيل بعد يوشع كان غالب بن يوقنا ، ثم حزقيل بن يوقنا ، ويقال : ابن العجوز ، لأن أمه



    “ 99 “

    ولدته وهي عجوز عقيم ، وهو النبي الذي أصاب قومه الطاعون ، فخرجوا من ديارهم ، وهم ألوف ، حذر الموت ، فقال لهم اللّه : موتوا ، ثم أحياهم ، وقصتهم ستجيء .نسب الياس عليه السلام
    قيل : هو إدريس عليه السلام ، وقصته ستجيء . ذكر المحب الطبري ،
    قال : لما مات حزقيل ، كثرت الأحاديث في بني إسرائيل ، وتركوا عهد اللّه ، وعبدوا الأوثان ، فبعث اللّه إليهم الياس ، وهو الياس بن العيزار بن هارون بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، هكذا ذكر نسبه الطبري .
    وذكر غيره : أنه بعث إلى أهل بعلبك .
    وبعل : اسم صنم كانوا يعبدونه ، فتمادوا في طغيانهم يعمهون ، فدعا عليهم الياس ، فأمسك اللّه الغيث عنهم ثلاث سنين ، حتى هلكت مواشيهم ودوابهم ، فسألوه أن يدعو لهم ، فدعا لهم ، فجاءهم الخير ، فلم يتوبوا ، فدعا الياس أن يقبض اللّه روحه ، فكساه اللّه الريش ، فجعل يطير مع الملائكة ، وكان أنسيا ملكيا سماويا أرضيا ، ويجتمع في كل موسم بالخضر . وقد روي أنه اجتمع برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأكل معه من طعامه ، ويذكر أن الأبدال يجتمعون به .وأما اليسع عليه السلام
    فهو اليسع بن يخطوب ، كان تلميذ الياس ، فدعا له فنبئ بعده ، وهو يعرف بابن العجوز ، ثم هلك ، ولم يزل الأمر في إدبار لكثرة التخليط ، وسلّط اللّه عليهم ملكا أخذ منهم التابوت . وقصتهم ستجيء . فأقاموا في ذلك من أول وفاة يوشع أربعمائة وستين سنة ، إلى أن عادت النبوة والملك إليهم بشمويل .


    وأما شمويل عليه السلام
    فقد زرته على أميال من بيت المقدس ، وهو شمويل بن يالا ، ويقال : ابن هلقيا ، وهو بالعربية اسم إسماعيل .
    فكان بنو إسرائيل ، لما طال عليهم البلاء ، وملكتهم العمالقة ، وضربت عليهم الجزية ، وكان ملكهم طالوت ، وكانوا يسألون اللّه تعالى أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه ، ولم يكن بقي من سبط النبوة إلا امرأة حبلى ، اسمها حنا ، وكانت تدعو أن يرزقها اللّه



    “ 100 “

    النبوة ، على ما قيل ، وكانت عاقرا ، فسألت اللّه تعالى أن يرزقها ولدا ، فولدت شمويل ، فسمته سمعون ، وهو فعلون ، من سمع اللّه دعائي ، والسين في لغتهم شين ، وهو من ولد فاهث بن لاوي بن لاوي بن يعقوب ، فلما بلغ عشرين سنة ولّاه داود النبي عليه السلام .
    فلما أكمل شمويل أربعين سنة ، بعثه اللّه نبيا ، وبعث لهم طالوت ملكا ، ولم يكن من سبط الملك ، فأبوه ، وكانت آيته أن أتاهم التابوت الذي انتزع منهم ، تحمله الملائكة نهارا ، حتى وضع بين أيديهم عند طالوت . هذا مرويّ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما . فآمنوا حينئذ بنبوة شمويل ، وبملك طالوت .
    وكان في التابوت ، على ما زعم السديّ ، طست من ذهب ، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، ورضراض الألواح ، وعصا موسى عليه السلام .
    وخرج طالوت لقتال جالوت ، كما ذكرناه في هذا الكتاب . ولما قتل داود جالوت ، زوّجه طالوت ابنته ، ثم بعد ذلك حبسه ، وأراد أن يقتله ، فهرب منه داود ، فندم طالوت على ما همّ به من قتل داود ، وتاب إلى اللّه تعالى .
    وقال طالوت : من توبتي أن أنخلع من ملكي ، وأقاتل في سبيل اللّه ، أنا وبنيّ حتى أموت . فخرج عن ملكه ، وأخرج معه بنيه ، وهم ثلاثة عشر ، فقاتلوا في سبيل اللّه حتى قتلوا كلهم . وورّث اللّه داود ملك طالوت ونبوة شمويل ، وهو قوله تعالى :وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، يعني ملك طالوت ،وَالْحِكْمَةَ: نبوة شمويل .
    وتاريخ مدة ملك طالوت ، فيما حكى ابن جرير الطبري ، على زعم أهل التوراة :
    أربعون سنة .
    وأما شمويل ، فعاش اثنين وخمسين سنة ، دبّر أمر بني إسرائيل منها إحدى عشرة سنة .وأما داود عليه السلام
    فهو داود بن بائس بن عويال من ولد يهوذا ، وقصته ستجيء . أطاعه بنو إسرائيل ، وفتح لهم الفتوحات الكثيرة . كان يقيم الزبور على اثنين وسبعين صوتا ، وكان له تسع وتسعون زوجة . ولما بلغ ثمانين سنة ، ابتلي بقصة أوريا ، وتزوج زوجته .
    فولدت له سليمان ، وعاش داود مائة سنة ، وقيل : شرع في بناء بيت المقدس ، فمات قبل أن يتمه .
    وكانت مدة ملكه أربعين سنة ، وتبع جنازته أربعون ألف راهب .



    “ 101 “

    وأما سليمان بن داود عليهما السلام
    ولّي ملك أبيه وله اثنتا عشرة سنة . وسخّر له الجن والإنس والريح . وقصته ستجيء .
    ولما مضى من ملكه أربع سنين ، بدأ ببناء بيت المقدس ، وفرغ منه في سبع سنين .
    ولما مضى من ملكه خمس وعشرون سنة ، جاءته ملكة سبأ ، وهي بلقيس . واختلف في تزويجه إياها ، وقد ذكرناه .
    وروينا من حديث ابن عباس ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قال : “ بينما سليمان يصلي ذات يوم ، رأى شجرة ، فقال : ما اسمك ؟ قالت : الخروب .
    فقال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت . فقال سليمان : اللهم عمّ على الجنّ موتي ، حتى تعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب . ونحت من الخروب عصا ، وتوكأ عليها حولا ، وهو ميت حتى أكلتها الأرضة ، فسقط عن كرسيه ، فعلمت الجن عند ذلك بموته “ .
    وعاش سليمان اثنين وخمسين سنة ، وملك بعده ابنه راحيم سبع عشرة سنة . وملك بعد ابنه أبناء بني إسرائيل ثلاث سنين .
    ولم يزل الملك في ولده إلى صاحبه شعياء .ثم بعث اللّه شعياء عليه السلام
    قال ابن إسحاق : اسم صاحبه صديقة . وقال غيره : صديقا ، وهو الذي بشّر بعيسى ومحمد عليهما السلام . وقصد ملك بابل قتال صديقة ، فكفاه اللّه . وأوحى اللّه إلى شعياء أني قد أخّرت أجل صديقة خمس عشرة سنة .
    قال ابن إسحاق : وذكروا أن بني إسرائيل قتلوا شعياء بعد موت صديقة ، وسلط اللّه عليهم عدوهم فأفناهم . وأقام الملك في داود وبنيه أربعمائة وثلاثا وخمسين سنة ، وكان آخرهم صديقا ، وكان في زمنه أرمياء . وأقام الشام خرابا ما فيه غير السمرة سبعين سنة ، والملك لأهل بابل .

    وبعث اللّه أرمياء عليه السلام
    فأخبرهم بغضب اللّه عليهم ، فضربوه وقيّدوه ، فبعث اللّه عليهم بخت نصّر ، فقتل منهم ، وصلب ، وحرق ، والقصة ستجيء . وخرّب بيت المقدس ، وخرج أرمياء إلى مصر ، فأقام بها ، فأمره اللّه بالعود ، فسار حتى أشرف على خراب بيت المقدس ، فقال :



    “ 102 “

    أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها ؟ فأماته اللّه مائة عام ، ثم أحياه بعد أن عمرت بيت المقدس .
    قيل : أقامت خرابا سبعين سنة .
    وزعم ابن إسحاق أن أرمياء هو الخضر . وقال قتادة : هو الذي مرّ على قرية عزير .وأما دانيال وعزير
    فكانا من جملة من سباهم بخت نصّر ، فسار بهما إلى بابل ، وأقاما في يده ، ثم رأى رؤيا هالته ، فعبّرها له دانيال ، فأكرمه .
    وجاء دانيال وعزير ومن كان تحت يد بخت نصّر بعد موته إلى بيت المقدس .
    وذكر أن أبا موسى الأشعري وجد قبر دانيال بالسويس ، فأخرجه وكفّنه وقبره ، وهو الذي كان يستمطر به أهل فارس في زمن كسرى .
    وأما العزير
    فلما عاد إلى بيت المقدس ، أقام لبني إسرائيل التوراة ، بعد ما احترقت ، وكان من علمائهم ، ولم يكن نبيا .
    وقال العتبي : وأخبرني أيضا بذلك أبو الفتوح نصر بن أبي الفرج الحنبلي بمكة ، وأنا أسمع عليه كتاب السنن لأبي داود ، فمر ذكره ، فقال : كان عزير قد أكثر المناجاة في القدر ، فمحا اللّه اسمه من الأنبياء ، فلا يذكر فيهم .
    وزعم أهل التوراة أن عزرة وهو العزير دبّر أمر بني إسرائيل ، ومكث معه أربعين سنة . وذكر أهل التاريخ أنه من ولادة داود إلى موت العزير خمسمائة وأربع وستون سنة .
    وفي آخر أيام العزير زال ملك الفرس من الشام ، وصارت لليونانيين والروم .وأما يونس عليه السلام
    وهو يونس بن متى ، بعث إلى أهل نينوى ، وقصته ستجيء .
    واختلف في زمان مبعثه ، فقيل : بعث بعد سليمان ، وقيل : بعد الياس ، وقيل : بعد شعيب .وأما زكريا عليه السلام
    فهو زكريا بن برخيا من ولد سليمان بن داود ، وقيل : زكريا بن آذن ، وكان زكريا



    “ 103 “

    وعمران أبو مريم متزوجين بأختين : الواحدة عند زكريا والأخرى عند عمران ، وهي أم مريم ، ولهذا كفل زكريا مريم ، فإن أباها كان قد مات ، وقيل : إنه ضعف عن كفالتها لأزمة أصابتهم ، فكفلها جريج النجار .
    فلما بلغ زكريا الكبر ، رزقه للّه يحيى من زوجته تلك ، فيحيى ابن خالة مريم . وولد عيسى بعد ولادة يحيى بثلاث سنين .
    وقيل : ستة أشهر ، فاتهم بنو إسرائيل زكريا بمريم ، فهرب منهم ، والقصة ستجيء .

    وأما يحيى بن زكريا عليهما السلام
    فولد في ملك سابور ، وذلك بعد قيام الإسكندر بثلاثمائة وثلاث سنين ، ويحيى وضع عيسى في نهر الأردن .
    وذكر أن ملكا من ملوك بني إسرائيل شاور يحيى في تزويج امرأة ، فقال : إنها بغيّ ، فاحتالت المرأة عليه حتى قتله الملك ، وبقي دمه يغلي إلى أن رفع عيسى . غزاهم ملك بابل ، وكان يقال له خروش ، وظهر عليهم ، ورأى دم يحيى يغلي ، فقتل عليه خلقا من الناس ، وخرّب بيت المقدس .

    وأما عيسى ابن مريم عليه السلام
    فولد بعد قيام الإسكندر بثلاثمائة وثلاث سنين ، وقيل : بثلاثمائة وتسعة عشر سنة .
    ذكر الحسن أن مريم حملت بعيسى ساعات ، ووضعته من يومها . وقيل : حملت به على العادة ، ومولده ببيت لحم ، وهربت به إلى مصر ، فأقامت بها اثني عشرة سنة ، ثم رجعت به إلى الشام ، وجاءه الوحي وهو ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوّته ثلاث سنين .
    وقيل : تكلم في المهد ثلاث مرات ، ثم لم يتكلم حتى بلغ حد الكلام المعتاد . وهذا قول أبي هريرة ، وقصته ستجيء . وكان رفعه من بيت المقدس ليلة القدر .
    قال وهب : توفاه اللّه ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه ، وعاشت أمه بعده ست سنين .
    وكان بيت المقدس حين رفع عيسى للروم . ولما بلغ ملك الروم ما فعل بالمسيح ، وجّه ، فأنزل المصلوب المشبّه بعيسى ، وأخذ خشبته فأكرمها ، وقتل من بني إسرائيل خلقا كثيرا ، وأجلاهم عن فلسطين ، ومن هناك أصل النصرانية في الروم ، واسم هذا الملك قسطنطين ، وهو الذي بنى قسطنطينية .



    “ 104 “

    وأما الثلاثة أصحاب القرية
    وحكايتهم مذكورة ، واختلف الناس فيهم ، فقال وهب : كانوا ثلاثة أنبياء : صادق ، وصدوق ، وسلوم . وبعثوا إلى أهل أنطاكية ، وملكهم طيخشر . وقال قتادة : كانوا من الحواريين ، بعثهم عيسى بأمر اللّه إلى أنطاكية .
    وأما الذي جاء من أقصى المدينة فآمن بهم ، واسمه حبيب ، فكان نجارا بأنطاكية ، فلما آمن وطئوه بأرجلهم حتى مات ، فأحياه اللّه وأدخله الجنة ، وأهلك قريته بصيحة من السماء فخمدوا .
    وأما ذو الكفل عليه السلام
    فإنما سمي ذا الكفل ، قيل : لأنه بعث إلى ملك من بني إسرائيل ، يقال له : كنعان ، فدعاه إلى الإيمان ، وكفل له بالجنة ، فآمن به ، فسمي ذا الكفل ، قاله العتبي . قال مجاهد :
    تكفل لليسع بأمته ، فوفى له ، ولم يكن نبيا . وقيل : تكفل بعمل رجل صالح . وكان يصلي كل يوم مائة صلاة . وقيل : تكفل بتملك أحد ملوك بني إسرائيل .
    وقال الطبري : ذو الكفل هو بشر بن أيوب ، بعثه اللّه بعد أبيه أيوب .

    وأما لقمان الحكيم
    فكان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل ، فأعتقه ، وكان في زمن داود عليه السلام ، وكان اسم أبيه : باران ، واختلف في نبوّته ، وكان خياطا . وقيل : كان في زمن عاد ، وكان من جملة وفد عاد الذين أنفذهم إلى مكة ، يستسقون له ، فدعا اللّه أن يطيل عمره ، وكان له حينئذ مائتا سنة ، وقيل : عاش ألفا وثلاثمائة سنة .

    وأما خالد بن سنان العبسي عليه السلام
    قيل : هو من ولد إسماعيل ، أدركت ابنته النبي صلى اللّه عليه وسلم . قال ابن عباس رضي اللّه عنهما :
    ظهرت نار بالبادية بين مكة والمدينة في الفترة ، فسمّتها العرب : بدا ، وكادت طائفة منهم أن تعبدها مضاهاة للمجوس ، فقام خالد هذا ، فأخذ عصاه ، واقتحم النار يضربها بعصاه حتى أطفأها اللّه تعالى . ثم قال : إني ميت ، فإذا متّ ، وحال الحول ، فأرصدوا قبري ، فإذا رأيتم حمارا عند قبري ، فارموه واقتلوه ، وانبشوا قبري ، فإني أحدثكم بكل ما هو كائن .



    “ 105 “

    فمات ، فلما حال الحول ، رأوا الحمار فقتلوه ، وأرادوا نبشه ، فمنعهم أولاده ، وقالوا : لا نسمّى بني المنبوش .
    وقص النبي صلى اللّه عليه وسلم قصته على أصحابه ، حين جاءته ابنته ، فانتسبت له ، فقال لها :
    « مرحبا بابنة نبي أضاعه قومه » . ثم قال عليه الصلاة والسلام : « لو نبشوه لأخبرهم بشأني ، وشأن هذه الأمة ، وما يكون منها » .

    تاريخ نزول الكتب من عند اللّه عز وجل
    روي أن صحف إبراهيم نزلت في أول ليلة من شهر رمضان ، وأنزلت التوراة لست ليال خلت من شهر رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة سنة ، وأنزل الزبور لاثني عشر ليلة خلت من شهر رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام ، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بستمائة سنة وعشرين عاما ، وأنزل القرآن لسبع وعشرين ليلة من شهر رمضان بعد الإنجيل بستمائة وعشرين عاما .

    تاريخ قتل المختار
    قتله مصعب بن الزبير سنة سبع وستين . وأقام ابن الزبير الحج للناس من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين .
    وقتل ابن الزبير وصلب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين .
    وقيل : من جمادى الأخيرة سنة اثنتين وسبعين ، وماتت أمه بعده بخمسة أيام ولها مائة سنة .
    وكان ملك ابن الزبير بالحجاز والعراق ، منذ مات معاوية بن يزيد ، إلى أن قتل ، تسع سنين .
    وكان إسلام الحكم ، طريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يوم فتح مكة ، ومات في خلافة عثمان .
    وولّي الحجاج العراق سنة خمس وسبعين . ونقشت الدنانير والدراهم بالعربية سنة ست وسبعين .

    وقيل : سنة خمس وسبعين ، نقشها عبد الملك بن مروان ، وكان نقشها قبل ذلك بالرومية .
    .
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:13

    الجزء السابع .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء السابع
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 106 “


    وأما الوليد بن عبد الملك

    فهو الذي بنى جامع دمشق ، وزاد فيه كنيسة النصارى ، وولّي عمر بن عبد العزيز المدينة ، وأقام بها سبع سنين وخمسة أشهر ، وشيّد مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم . وفي أيامه فتحت بلاد الأندلس ، وحملت إليه منها مائدة سليمان ، وهي من خليطين : ذهب وفضة ، وعليها ثلاثة أطواق من لؤلؤ ، وحمل إليه كل ما أخذ منها من لؤلؤ وياقوت وزمرد ، سوى ما أخفي : مائة وثلاثة عشر عجلة . وفي أيامه كان الطاعون الجارف . مات في ثلاث أيام ثلاثمائة ألف . وفيها مات الحجاج بواسط في رمضان سنة خمس وتسعين ، وله ثلاث وخمسون سنة . وولّي الحجاج العراق عشرين سنة . وعدد من قتله الحجاج صبرا مائة وعشرون ألفا ، ومات في حبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف امرأة ، وحج بالناس سنة ثمان وثمانين ، وإحدى وتسعين ، وأربع وتسعين .



    وأما سليمان بن عبد الملك

    فكان نكاحا ، شرها في الأكل ، يأكل في كل يوم نحوا من مائة رطل . وبنى ميناء الرملة سنة ثمان وتسعين ، وحج بالناس سنة سبع وتسعين .

    وأما عمر بن عبد العزيز

    فهو الذي بنى الجحفة ، واشترى ملطية من الروم بمائة ألف ، وحج بالناس سنة تسع وتسعين ، وكان له ولد ناسك اسمه عبد الملك ، مات في حياته وله تسع وثمانون سنة .

    وأما يزيد بن عبد الملك

    فإنه كان صاحب لذّات قد تعشق بجاريتين : اسم واحدة حبابة والأخرى سلامة ، فماتت حبابة فحزن عليها وتركها ولم يدفنها ، فعوتب فدفنها ثم نبشها وأخرجها ، ومات بعدها بيسير حزنا عليها . وفي أيامه خرج يزيد بن المهلب بالبصرة ، ووجّه إليه أخاه مسلمة وقتله ، ولم يحجّ في خلافته .

    وأما هشام بن عبد الملك
    فخرج في خلافته زيد بن علي بالكوفة ، ودعا لنفسه ، فقتله يوسف بن عمر وصلبه ،



    “ 107 “



    وذلك في سنة إحدى وعشرين ومائة . وفي أيامه بنى سعيد أخوه قبة بيت المقدس . وحج بالناس سنة ست وعشرين ومائة .


    وأما الوليد بن يزيد
    فهو الذي دفع خالد بن عبد اللّه القسري إلى يوسف بن عمر فقتله . وصار إليه ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك فقتله في يوم الخميس لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة . وحبس ولديه : عثمان والحكم . وكان الوليد قد عهد إليهما ولم يزالا في الحبس إلى أن ولّي مروان الحمار فقتلا . قال صالح بن الوجيه : لما قتل الوليد بن يزيد حمل رأسه إلى دمشق ، ونصب في مسجدها ، ولم يزل أثر دمه بالجدار إلى أن ولّي المأمون ، فأمر بحكّه .
    وأما يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي قتله الوليد بن يزيد
    لما ولّي بعده فنقص الجند عطاياهم ، فسمّوه الناقص .


    وأما مروان بن محمد الذي يلقّب بالحمار
    يقال له الجعدي لأن خاله الجعد بن درهم ، فلم يزل مروان ظاهرا إلى أن ظهر أبو مسلم الخراساني ، وبويع للسفاح بالكوفة في شهر ربيع الأول سنة اثنين وثلاثين ومائة ، وسار عبد اللّه بن علي بن عبد اللّه بن العباس إلى مروان الحمار ، بأمر السفاح ، فانهزم مروان ، فاتبعه عبد اللّه حتى نزل نهر قلان بفلسطين ، وقتل جماعة من بني أمية ، فهرب مروان إلى مصر ، ولقيه صالح بن علي أخو عبد اللّه بن علي ببوصير قرية من صعيد مصر ، فقتله ليلة الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين ومائة ، تم المجلس .


    موعظة عبد اللّه العمري للرشيد بمكة
    روينا من حديث ابن إسحاق ، وهو محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن البغوي ، قال : سمعت سعيد بن سليمان ، قال : كنت بمكة في زقاق الشطويّ وإلى جنبي عبد اللّه بن عبد العزيز العمري ، وقد حج هارون الرشيد ، فقال له إنسان : يا أبا عبد اللّه ، هو ذا أمير المؤمنين يسعى وقد أخلي له المسعى ، قال العمري للرجل : لا جزاك اللّه خيرا ، كلفتني


    “ 108 “


    أمرا كنت عنه غنيا . ثم قام ، فتبعته ، فأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا ، فصاح به : يا هارون . فلما نظر إليه قال : لبيك يا عمري ، قال : ارق الصفا ، فلما رقيه ، قال : ارم بطرفك إلى البيت ، قال : قد فعلت . قال : كم هم ؟ قال : من يحصيهم ؟ قال : فكم من الناس مثلهم ؟ قال : خلق لا يحصيهم إلا اللّه . قال : اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه ، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم ، فانظر كيف تكون ؟ قال : فبكى هارون وجلس ، وجعلوا يعطونه منديلا منديلا للدموع .

    قال العمري : وأخرى أقولها ، قال : قل يا عم . قال : واللّه إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه ، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين ؟ ثم مضى وهارون يبكي .
    قال سعيد بن سليمان البغوي : فبلغني أن هارون الرشيد كان يقول : إني لأحب أن أحج في كل سنة ، ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر ، ثم يسمعني ما أكره . حدثني بهذه الحكاية يونس بن يحيى بمكة ، قال : ثنا أبو بكر بن منصور ، عن أبي إسحاق ، عن إبراهيم بن سعيد الحبّاك ، ثنا الحافظ ، عن أبي العباس أحمد بن محمد بن الجراح ، عن محمد بن جعفر بن زاذان ، عن هارون بن عبد العزيز العباسي ، ثنا محمد بن خلف بن حبان ، عن محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن البغوي .

    وروينا من حديث ابن ودعان ، عن أبي الموفق محمد بن محمد بن الحسن النيسابوري ، عن سلمة بن خلف ، عن إبراهيم بن محمد ، عن أحمد بن عبد الجبار العطار ، عن وكيع بن الجراح ، عن سليمان بن إبراهيم ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : قال عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يقول اللّه تعالى : يا ابن آدم ، تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن ، وينقص كل يوم من عمرك وأنت تفرح ، أنت فيما يكفيك ، وأنت تطلب ما يطغيك ، لا بقليل تقنع ، ولا بكثير تشبع » .
    وسمعنا على قول الشريف الرضي في التوديع بالنفس :
    أراك ستحدث للقلب وجدا * إذا ما الركائب ودّعن نجدا
    بواكر يطلعن وقت الغوير * شؤون النواظر نايا وبعدا
    كانا بنجد غداة الوداع * نداوي عيونا من الدمع رمدا
    وأيسر ما نال منا العليل * أن لا يحس من الماء بردا
    أثاروا زفيرا يلف الضلوع * لفّ الرياح أنابيب ملدا
    فكل حرارات أنفاسه * تدل على أن في القلب وقدا
    وأنى للشوق من بعدهم * أراعي الجنوب مراحا ومغدا


    “ 109 “


    وأفرح من نحو أوطانهم * بغيث يجلل برقا ورعدا
    إذا طلع الركب يممتهم * أحيي الوجوه كهلا ومردا
    وأسألهم عن عقيق الحمى * وعن أرض نجد ومن حلّ نجدا
    نشدتكم اللّه فلتخبرون * بمن كان أقرب للرمل عهدا
    هل الدار بالجزع مأهولة * آثار الربيع عليها وأسدى
    وهل جلّل الغيث أخلافه * على مخضر من زرود وبندا
    وهل أهله عن تنائي الديار * يراعون عهدا ويرعون ودّا

    وسمعنا على قول مهيار في التوديع بالنفس :
    لو كنت تتلو غداة البين أخباري * علمت أن ليس ما عيّرت بالعار
    شوقي إلى وطن المحبوب جاذب أض * لاعي ودمعي جرى من فرقة الجار
    ووقفة لم أكن فيها بأول من * بان الخليط فداوى الوجد بالدار
    ونمّ في البرق زفراتي فلو علمت * عيناك من أين ذاك البارق الساري
    طارت شراراته في جو كاظمة * تحت الدجى بلباناتي وأوطاري
    هل بالديار على لومي ومعذرتي * دعوى تقام على وجدي وتذكاري
    أم أنت تعدل فيما لا تريد به * إلا مداواة حرّ النار بالنار


    وسماعنا على قوله أيضا في ذلك بالنفس :
    من بمنى وأين جيران منى * كانت ثلاثا لا تكون أربعا
    سلبتموني كبدا صحيحة * أمس فردّوها عليّ قطعا
    عدمت صبري فجزعت بعدكم * ثم ذهلت فعدمت الجزعا
    فأرجعا لي ليلة بحاجر * إن تمّ في الغائب أن يرتجعا
    وغفلة سرقتها من زمن * بلعلع سقى الغمام لعلعا

    ومن وقائع بعض الفقراء ما حدثنا عبد اللّه المروزي بمروز ، قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في الواقعة أبا مدين وخلقا كثيرا من أهل التصوّف لم أعرف منهم إلا أبا حامد الغزالي ، وأبا طالب المكي ، وأبا يزيد البسطامي ، فقالوا لأبي مدين : زدنا من الغذاء الباقي .


    فقال : التوحيد هو الأصل وإليه الطريق ، وهو القطب وعليه التخليق ، وهو تاج العارفين وبه سادوا وبأخلاقه تخلّقوا وله انقادوا ، هو بهم برّ وصول ، منه البداية وإليه الوصول ، نور قلوبهم بالحكمة والإيمان ، وشرح صدورهم فتخلّقوا بالقرآن ، ففهموا



    “ 110 “



    معانيه وبان لهم المراد . فدامت فكرتهم فيه فمنعهم السهاد ، وما عرّجوا على أهل ولا أولاد . ولم يشركوا بعبادة ربهم أحدا .
    هو الضياء بمشكاة قلب العارف عنه ينطق وبه يكاشف ، ولم يلتفت إلى ما سواه ، ولم يدّخر سوى مولاه ، وهو حياته ونشوره ، وبه أشرقت شمسه ونوره ، يمدّه بدقائق المعاني ، فيميز بين الباقي منه والفاني ، فيعبر عنه بمعاني روحانية ، تقصر عن إدراكها الصفات البشرية ، ويعيها من هو بالتوحيد حي ذو عيان 7 ويعجز عنها من رضي بنعيم الجنان . فالعارف لذّته ذكره مولاه ، وهو كليته ، والظاهر بعبادته ، ومفصحه بالعلم ، وهاديه لبيانه ، أمدّ سره من سره ، فأنطق لسانه بالحكمة ، فجذب الخلق إليه ، وهدى به الأمة ، فكشف له الغطاء عن أسرار التوحيد ، وتجلى لقلبه من هو أقرب إليه من حبل الوريد . فتألفت متفرقاته ، ففني عن رسومه ، وكاشفه به ، وشرفه بعلومه ، فاهتزت أرضه ، ونبع ماؤه ، فوسعه قلبه ، وما وسعته أرضه ، ولا سماؤه .

    هكذا جاء في الخبر ، عن سيد البشر ، هو مأوى العارف ، وهو الأمل . وقد صحّت له محبته في الأزل ، فألبسه التقوى ، وزيّنه بالتجريد ، وأقامه للعيان ، وأفناه في التوحيد .
    سقاه شرابا رويّا ، وغذّاه بلبان اللب ، واتصل بالمحل الخالص من اللقاء والقرب .

    ومن باب من يتوكل على اللّه فهو حسبه
    ما أخبرنا به أحمد بن عبد الوهاب بن علي بن عبيد اللّه ببغداد ، قال : أخبرني والدي ، قال : انا الخطيب أبو محمد عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه الصريفيني ، أنا أبو القاسم عبد اللّه بن محمد بن إسحاق بن سليمان بن حبابة . أخبرنا أبو القاسم عبد اللّه بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، ثنا شعبة ، عن أبي حمزة ، قال :

    سمعت هلال بن حصن قال : أتيت المدينة فنزلت دار أبي سعيد الخدري فضمّني وإياه المجلس ، فحدّث أنه أصبح ذات يوم وليس عندهم طعام ، وأصبح وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع ، فقالت لي امرأتي : ائت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقد أتاه فلان فأعطاه ، وفلان فأعطاه .

    قال : فأتيته فقلت : ألتمس شيئا فأطلب ، فانتهيت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يخطب ويقول :
    « من يستعفف يعفه اللّه ، ومن يستغن يغنه اللّه ، ومن سألنا شيئا أعطيناه وواسيناه ، ومعن استعفّ عنا واستغنى فهو أحبّ إلينا ممن سألنا » . قال : فرجعت وما سألته ، فرزقني اللّه تعالى حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا .


    “ 111 “


    قصة ما جرى لأمير المؤمنين المنصور بمكة مع بعض الفقراء
    روينا عن غير واحد أن أبا جعفر المنصور بينما هو طائف بالبيت ليلا إذ سمع قائلا يقول : اللهم إنّا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع .

    فخرج المنصور ، فجلس في ناحية من المسجد ، ثم أرسل إلى الرجل فصلّى ركعتين ، ثم استلم الركن ، وأقبل مع الرسول ، فسلم عليه بالخلافة ، فقال له المنصور : ما الذي سمعتك تذكر ؟ قال : إن أمّنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور كلها من أصولها ، وإلا اقتصرت على نفسي ، ففيها لي شغل شاغل . قال : فأنت آمن على نفسك .

    فقال : يا أمير المؤمنين ، إن اللّه قد استرعاك أمر عباده وأموالهم ، فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجصّ والآجر ، وأبوابا من الحديد ، وحراسا معهم السلاح ، ثم سجنت نفسك منهم ، وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها ، وأمرت أن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان ، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف إليك ، ولا أحد إلا وله في هذه الأموال حق . فلما رآك النفر الذين استخلصتهم لنفسك ، وآثرتهم على رعيتك ، وأمرت أن لا يحجبوا دونك ، تحب الأموال وتجمعها ، قالوا : هذا قد خان اللّه ، فما لنا لا نخونه ؟

    فأتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أحبّوه ، ولا يخرج لك عامل إلا خوّنوه عندك وعابوه حتى تسقط منزلته عندك .
    فلما انتشر ذلك عنك وعنهم ، أعظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم .

    وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ، ليستعينوا بذلك على ظلم رعيتك . ثم فعل ذلك ذوو المقدرة والأموال من رعيّتك ، ليتوصلوا إلى ظلم من دونهم . فامتلأت بلاد اللّه ظلما وبغيا وفسادا ، وصار هؤلاء القوم شركاءك وأنت غافل . فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه ، وإن أراد رفع قصته إليك وجدك قد نهيت عن ذلك ، ووقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم ، فإن جاءك ذلك المتظلم وبلغ بطانتك خبره ، سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك . فلا يزال المظلوم يختلف إليه ، ويلوذ به ، ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ، فإذا جهد وخرج ، وظهر إليك وصرخ بين يديك ، ضرب ضربا مبرحا يكون نكالا لغيره ، وأنت تنظر ولا تنكر . فما بقاء الإسلام على هذا ؟
    قال : فبكى المنصور بكاء شديدا ، وقال : ويحك ، كيف أحتال لنفسي ؟
    قال : يا أمير المؤمنين ، إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ، ويرضون بهم في دنياهم ، وهم :



    “ 112 “



    العلماء وأهل الديانة . فاجعلهم بطانتك يرشدوك ، وشاورهم يسدّدوك . فقال : قد بعثت إليهم فهربوا مني . فقال : خافوا أن تحملهم على طريقتك ، ولكن : افتح بابك ، وسهّل حجّابك ، وانصر المظلوم ، واقمع الظالم ، وخذ الفيء والصدقات على وجوهها ، وأنا ضامن عنهم أنهم يأتونك فيساعدونك على صلاح الأمة . ثم أذن بالصلاة ، فقام يصلي وعاد إلى مجلسه ، ثم طلب الرجل فلم يجده .

    وأنشدنا محمد بن عبد الواحد ، عقب ما سمعته يقول هذه الحكاية :
    فاعمل لنفسك واجتهد * إن كنت ترغب في السلامة
    من قبل أن يأتي الحمام * وقبل أن تأتي القيامة
    يوما تعضّ ندامة * كفّا وما تغني الندامة

    وأنشد بعضهم في الزهد ومعناه :
    طلّق الدنيا ثلاثا * والتمس زوجا سواها
    إنها زوجة سوء * لا تبالي من أتاها
    تب إلى ربك منها * واحترس قبل أذاها
    وانه للنفس عن ال * غيّ وجنّبها هواها
    فبهذا تدخل ال * جنة فاحذر وتناها

    حدثنا محمد بن قاسم بن عبد الرحمن بن عبد الكريم ، قال : قرأت على عمر بن عبد الحميد بمكة ، أن عبد اللّه بن العباس قال في قوله تعالى : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ، قال : مرض الحسن والحسين عليهما السلام وهما صبيان ، فعدهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ، فقال عمر لعلي : يا أبا الحسن ، لو نذرت عن ابنيك نذرا إن اللّه عافاهما ، قال : أصوم ثلاثة أيام شكرا للّه . قالت فاطمة : وأنا أيضا أصوم ثلاثة أيام شكرا للّه . وقال الصبيان : ونحن نصوم ثلاثة أيام . وقالت جاريتهما فضة : وأنا أصوم ثلاثة أيام . فألبسهما اللّه العافية ، فأصبحوا صياما وليس عندهم طعام . فانطلق علي إلى جار له من اليهود يقال له شمعون ، يعالج الصوف ، فقال له : هل لك أن تعطيني جزّة من صوف تغزلها لك بنت محمد بثلاثة آصع من شعير ؟ قال : نعم . فأعطاه ، فجاء بالصوف والشعير ، فأخبر فاطمة فقبلت وأطاعت ، ثم غزلت ثلث الصوف ، وأخذت صاعا من الشعير ، فطحنته وعجنته ، وخبزته خمسة أقراص لكل واحد قرصا .

    وصلى عليّ رضي اللّه عنه مع النبي صلى اللّه عليه وسلم المغرب ، ثم أتى إلى منزله فوضع الخوان فجلسوا ، فأول لقمة كسرها علي رضي اللّه عنه ، إذا مسكين واقف على الباب ، فقال :


    “ 113 “


    السلام عليكم يا أهل بيت محمد ، أنا مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني مما تأكلون أطعمكم اللّه من موائد الجنة . فوضع عليّ اللقمة من يده ، ثم قال :

    أفاطمة المجد واليقين * يا بنت خير الناس أجمعين
    أما تري ذا البائس المسكين * جاء إلى الباب له حنين

    كل امرئ بكسبه رهين
    فقالت فاطمة رضي اللّه عنها من حينها :
    أمرك سمع يا ابن عم وطاعة * ما لي من لوم ولا ضراعه

    غديت باللب وبالبراعة * أرجو إذا أنفقت من مجاعة
    أن ألحق الأبرار والجماعة * وأدخل الجنة في الشفاعة

    قال : فعمدت إلى ما في الخوان ، فدفعته إلى المسكين ، وباتوا جياعا ، وأصبحوا صياما ، لم يذوقوا إلا الماء القراح . ثم عمدت إلى الثلث الثاني من الصوف فغزلته ، ثم أخذت صاعا فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة أقراص لكل واحد قرصا .

    وصلى عليّ المغرب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أتى إلى منزله ، فلما وضعت الخوان وجلس ، فأول لقمة كسرها علي رضي اللّه عنه ، إذا بيتيم من يتامى المسلمين قد وقف على الباب وقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد ، أنا يتيم من يتامى المسلمين ، أطعموني مما تأكلون أطعمكم اللّه من موائد الجنة .

    فوضع علي اللقمة من يده وقال :
    أفاطم بنت السيد الكريم * قد جاءنا اللّه بذا اليتيم
    من يطلب اليوم رضى الرحيم * موعده في جنة النعيم

    فأقبلت السيدة فاطمة رضي اللّه عنها وقالت :
    فسوف أعطيه ولا أبالي * وأوثر اللّه على عيالي
    أمسوا جياعا وهم أمثالي * أصغرهم يقتل في القتال

    ثم عمدت إلى جميع ما كان في الخوان فأعطته اليتيم ، وباتوا جياعا لم يذوقوا إلا الماء القراح ، وأصبحوا صياما . وعمدت فاطمة إلى باقي الصوف فغزلته ، وطحنت الصاع الباقي وعجنته وخبزته خمسة أقراص لكل واحد قرصا .
    وصلى عليّ المغرب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أتى إلى منزله فقرّبت إليه الخوان ، ثم جلس ، فأول لقمة كسرها ، إذا أسير من أسارى المسلمين بالباب فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد ، إن الكفار أسرونا وقيّدونا وشدّونا فلم يطعمونا . فوضع علي اللقمة من يده ، وقال :




    “ 114 “


    يا فاطمة بنت النبي أحمد * بنت نبي سيد مسوّد
    هذا أسير جاء ليس يهتدي * مكبّل في قيده المقيّد
    يشكو إلينا الجوع والتشدد * من يطعم اليوم يجده في غد
    عند العليّ الواحد الموحّد * ما يزرع الزراع يوما يحصد


    فأقبلت فاطمة رضي اللّه عنها تقول :
    لم يبق مما جاء غير صاع * قد دبرت كفي مع الذراع
    وابناي واللّه لد أجاعا * يا رب لا تهلكهما ضياعا


    ثم عمدت إلى ما كان في الخوان ، فأعطته إياه ، فأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء .
    وأقبل عليّ والحسن والحسين نحو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهما يرتعشان كالفرخين من شدة الجوع ، فلما أبصرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « يا أبا الحسن ، أشد ما يسوؤني ما أدرككم ، انطلقوا بنا إلى ابنتي فاطمة » ، فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع ، وغارت عيناها . فلما رآها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضمها إليه وقال : « وا غوثاه » . فهبط جبريل عليه السلام وقال : يا محمد ، خذ هنيئا في أهل بيتك ، قال : « وما آخذ يا جبريل ؟ » ، قال : وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ، إلى قوله : وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً .


    ومن محاسن الكلام ما قاله الفضل بن سهل للمأمون ، وقد سأله حاجة لبعض أهل بنو بات دهاقين سمرقند ، وكان وعده تعجيل إنفاذها فتأخر ذلك ، قال : يا أمير المؤمنين ، هب لوعدك مذكرا من نفسك ، وهب لسائلك حلاوة نعمتك ، واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم حتى تشهد لك القلوب بحقائق الكرم ، والألسن بنهاية الجود . فقال له أمير المؤمنين : قد جعلت لك إجابة سؤالي عني بما ترى فيهم ، وأخذك بما يلزم لهم من غير استثمار ومعاودة في إخراج الصكاك من حصر الأموال متناولا . وقال له يوما : يا أمير المؤمنين ، اجعل نعمتك صيانة لوجوه خدمك عن إراقة مائها في غضاضة السؤال .
    فقال : واللّه لا كان ذلك إلا كذلك .

    ومن هذا الباب ما حكاه أبو وجرة الأسلمي لما قدم على المهلب بن أبي صفرة ، فقال : أصلح اللّه الأمير ، إني قطعت إليك أرض الدهناء ، وضربت إليك آباط الإبل من يثرب ، فقال : هل أتيتنا بوسيلة أو عشيرة أو قرابة ؟ قال : لا ، ولكني رأيتك لحاجتي أهلا فإن قمت بها فأهل لذلك أنت ، وإن يحل دونها حائل لم أذمم يومك ، ولم أيأس من غدك .
    قال المهلب : يعطى ما في بيت المال فوجد فيه مائة ألف درهم فدفعت إليه ، فأخذها ، وقال :




    “ 115 “


    يا من على الجود صاغ اللّه راحته * فليس يحسن غير البذل والجود
    عمّت عطاياك من بالشرق قاطبة * فأنت والجود منحوتان من عود

    خبر الحطيئة الشاعر مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
    لما رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن الحطيئة آذى الناس بهجائه ، فاستحضره وأنّبه وأوهمه أنه يقطع لسانه ، فقال له الحطيئة : باللّه يا أمير المؤمنين إلا ما أقلتني فقد هجوت واللّه أمي وأبي وامرأتي ونفسي . فقال له عمر : ما الذي قلت في أمك ؟
    قال : قلت فيها ، والجواب للأب :
    ولقد رأيتك في النساء فسؤتني * وأبا بنيك فساءني في المجلس

    وقلت فيها أيضا :
    تنحّي فاجلسي مني بعيدا * أراح اللّه منك العالمينا
    أغربالا إذا استودعت سرا * وكانونا على المتحدثينا

    ثم قلت في امرأتي :
    أطوّف ما أطوّف ثم آوي * إلى بيت قعيدته لكاع

    ثم نظرت في بئر فرأيت وجهي فاستقبحته فقلت :
    أبت شفتاي اليوم إلا تكلما * بشرّ فما أدري لمن أنا قائله
    أرى لي وجها قبّح اللّه خلقه * فقبح من وجه وقبح حامله

    فأمر به فسجن في قعب ، فكتب إليه بعد أيام يقول :
    ما ذا تقول لأفراخ بذي مرح * حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
    ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة * فاغفر عليك سلام اللّه يا عمر
    أنت الإمام الذي من بعد صاحبه * ألقت إليك مقاليد النهي البشر
    ما آثروك بها إذ قدّموك لها * لا بل لأنفسهم قد كان الأثر

    فأمر به فأحضره فاستتوبه وخلى سبيله . ا ه .




    “ 116 “


    ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )
    *من محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار
    روينا من حديث الهاشمي يبلغ به النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « يا أيها الناس ، أقبلوا على ما كلفتموه من إصلاح آخرتكم ، وأعرضوا عما ضمن لكم من أمر دنياكم ، ولا تستعملوا جوارحا غذيت بنعم اللّه في التعرض لسخطه بمعصيته ، واجعلوا شغلكم بالتماس مغفرته ، واصرفوا هممكم إلى التقرب إليه بطاعته ، فإنه من بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبه من الآخرة ، ولا يدرك منها ما يريد ، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا ، وأدرك من الآخرة ما يريد » .

    ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى : ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي بمروزة ، قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في الواقعة أبا مدين ، وأبا حامد ، وأبا طالب ، وأبا يزيد ، وجملة من الصوفية ، فقال أبو يزيد للشيخ ، يعني أبا مدين : زدنا من التوحيد شيئا . فقال : التوحيد هو النور الذي منه مادة كل نور ، وما عداه فأغشية وستور .

    هو الساتر المستور ، وهو الأصل في كل الأمور ، مادّته لكل ناقص وزائد ، وما تفرّق في الوجود فهو عنده واحد . أودع بعض العارفين من الأسرار ما ميّزه بها عن الأغيار ، وأجرى ينابيع الحكمة في قلبه فأنبتت أرضه ثمار الإيمان ، وأزهرت بأنوار الإحسان ، فأعبقت بنسيم الذكر ، وجال فكره في ميدان الفكر ، فرئي في حضرة الملكوت شاخصا .

    واختطفه معنى الوحدانية مقافصا ، فأفنته عن وجوده وعن الإحساس ، وغيّبته عن مشاهدة الأنواع والأجناس ، فكشفت له الغطاء عن سر الأسرار ، فتلاشت الآثار والأخبار ، فعاين من عظمة الجلال ما يليق به ، وكشف السر الإلهي لعينه من غيبه ، فامتزج نوره بنور النور ، وتجلّى لقلبه الملك الغفور .

    فصفات العارف أبدا تسمو وترقى ، وأسراره لمالكه تزداد شوقا . قلبه له أبدا سليم ، وسرّه في الحضرة معه مقيم ، ليس منه في الوجود إلا ظاهره ، ينتظر ما ترد به أوامره ، لا



    “ 117 “


    يشغله أبدا عنه شاغل . هو معه كالميت بين يدي الغاسل ، يقلبه في أي الجهات كيف شاء ، ويكشف عن قلبه كل غشاء ، فينظره بعين التحقيق ، فيرد إليه الخلق من كل طريق . فالعارف من آفات الغير محفوظ ، وكل ما سوى الحق عنه مرفوض . ركن إلى الحصن المنيع فأواه ، ودق نظره في معرفته فتمعنى بمعناه ، فنودي من حضرة مولاه : وحّدني فإني أنا اللّه .
    حكي عن النعمان بن المنذر أنه خرج لصيد ومعه عديّ بن زيد العبّادي ، فمرّ بآرام ، وهي القبور ، فقال عدي : أبيت اللعن ، أتدري ما تقول هذه الآرام ؟ قال : لا . قال : إنها تقول :

    أيها الركب المخبّون * على الأرض تمرّون
    لكما كنتم كنّا * وكما نحن تكونون

    فقال : أعدها ، فأعادها . فرجع كئيبا ، وترك صيده .
    وخرج معه مرة أخرى ، فوقف على القبور بظاهر الحيرة فقال : أبيت اللعن ، أتدري ما تقول هذه الآرام ؟ فقال : لا . فقال : إنها تقول :
    ربّ ركب قد أناخوا عندنا * يشربون الخمر بالماء الزلال
    ثم أضحوا ضعف الدهر بهم * وكذاك الدهر حالا بعد حال

    فانصرف أيضا وترك صيده .
    ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروينا من حديث أحمد بن عبد اللّه بن عباس . حدّثه عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز شيّع جنازة ، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة ، فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ، جنازة أنت وليّها تأخرت عنها وتركتها ! فقال : نعم ، ناداني القبر من خلفي : يا عمر بن عبد العزيز ، ألا تسألني ما صنعت بالأحباب ؟ قلت : بلى .

    قال : خرقت الأكفان ، ومزّقت الأبدان ، ومصصت الدم ، وأكلت اللحم . قال : ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟ قلت : بلى . قال : نزعت الكتفين من الذراعين ، والذراعين من العضدين ، والعضدين من الوركين ، والوركين من الفخذين ، والفخذين من الركبتين ، والركبتين من الساقين ، والساقين من القدمين .

    ثم بكى عمر ، ثم قال : ألا إن الدنيا بقاؤها قليل ، وغرورها كثير ، وعزيزها ذليل ، وغنيّها فقير ، وشابّها يهرم ، وحبّها يموت . ولا يغرّنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها ، والمغرور من اغترّ بها .
    أين سكانها الذين بنوا مدائنها ، وشقّوا أنهارها ، وغرسوا أشجارها ، وأقاموا فيها


    “ 118 “

    قليلا ؟ غرّتهم بصحّتهم فاغترّوا بنشاطهم ، فركبوا المعاصي ، وغفلوا العاصي . إنهم كانوا واللّه في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع إليه ، محسودين على جمعه مع كثرة التعب عليه . فانظر ما صنع التراب بأبدانهم ، والرمل بأجسامهم ، والديدان بعظامهم وأوصالهم .

    كانوا في الدنيا على أسرّة ممهّدة ، وفرش منضّدة ، بين خدم يخدمون ، وأهل يكرمون ، وجيران يعضدون . فإذا مررت فنادهم إن كنت مناديا ، ومرّ بعسكرهم ، وانظر إلى تقارب منازلهم ، وسل غنيّهم ما لقي من غناه ، وسل فقيرهم ما لقي من فقره ، وسل عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون ، وسلهم عن الجلود الرقيقة ، والوجوه الحسنة ، والأجساد الناعمة ، ما صنعت بها الديدان : محت الألوان ، وأكلت اللحوم ، وعفرت الوجوه ، وقبّحت المحاسن ، وكسّرت الفقار ، وأبانت الأعضاء ، ومزّقت الأشلاء . وأين حجابهم وقبابهم ؟ وأين خدمهم وعبيدهم ، وجمعهم وكنوزهم ؟

    واللّه ما زوّدهم فراشا ، ولا وضعوا هناك متكأ ، ولا غرسوا لهم شجرا ، ولا أنزلوهم من اللحد قرارا ، أليسوا في منازل الخلوات والغلوات ؟ أليس النهار والليل عليهم سواء ؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين الأحباء .

    فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوههم بالية ، وأجسامهم من أعناقهم بائنة ، وأوصالهم متمزّقة ، وقد سالت الحدقات على الوجنات ، وامتلأت الأفواه ماء وصديدا ، ودبّت دوابّ الأرض في أجسادهم وفرّقت أعضاءهم ، ثم لم يلبثوا واللّه إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما . قد فارقوا الحدائق ، وساروا بعد السعة إلى المضايق ، قد تزوجت نساؤهم ، وترددت في الطرق أبناؤهم ، وتوزعت الورثة ديارهم وتراثهم . فمنهم واللّه الموسّع له في قبره الغضّ الناظر فيه المتنعم فيه بلذّته .

    يا ساكن القبر غدا ، ما الذي غرّك من الدنيا ؟ هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك ؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطّرد ؟ وأين ثمرتك الحاضرة ينعها ؟ وأين رفيق ثيابك ؟ وأين طيبك ؟

    وأين بخورك ؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك ؟ أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه دخلا ، وهو يرشح عرقا ، ويتلمظ عطشا ، يتقلب في سكرات الموت وغمراته . جاء الأمر من السماء ، وجاء غالب القدر والقضاء ، وجاء من الأمر الأجل ما لا يمنع منه .

    هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله ، يا مكفن الميت وحامله ، ويا مخلّيه في القبر وراجعا عنه . ليت شعري كيف أنت على خشونة الثرى ؟ يا ليت شعري بأي خدّيك بدا البلا ؟ يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى . ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك



    “ 119 “

    الموت عند خروجي من الدنيا ؟ وما يأتيني به من رسالة ربي . ثم تمثل فقال :
    تسرّ بما تفنى وتشغل بالمنى * فما اغتر باللّذات في النوم حالم
    نهارك يا مغرور سهو وغفلة * وليلك نوم والردى لك لازم
    وتعمل شيئا سوف تكره غبّه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم

    ثم انصرف ، فما بقي بعد ذلك إلا جمعة ومات رحمه اللّه . ولنا من هذا الباب :
    شاب فؤديّ وشبّ الأمل * ومضى العمر وجاء الأجل
    عسكر الموت لنا منتظر * فإذا سرنا إليهم رحلوا
    ليت شعري ليت شعري هل دروا * أنني بعدهم منتقل
    في فنون اللهو أفنى طربا * غافلا عما إليه أنتقل

    ولنا في المحاسبة وإضافة الأعمال إلى اللّه تعالى ، إذ لا فاعل إلا هو :
    تحاسبهم بما فعلوا * وما فعلوا الذي فعلوا
    وتطلبهم بما عملوا * وأنت خلقت ما عملوا
    فهل تنجيهم حجج * وهل يزكو لهم عمل
    لئن أخذوا بما عملوا * فأعظم منه ما جهلوا

    ولنا أيضا ، وقد تذكرت الأحبة في القبور :
    ضمّت لنا آرامنا الآراما * فكأن ذاك العيش كان مناما
    يا واقفين على القبور تعجبوا * من قائمين كيف صاروا نياما
    تحت التراب موسدين أكفهم * قد عاينوا الحسنات والآثاما
    لا يوقظون فيخبرون بما رأوا * لا بد من يوم يكون قياما

    ولما سجن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال في ذلك :
    خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
    إذا دخل السجّان يوما لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
    ونفرح بالرؤيا وجلّ حديثنا * إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
    فإن حسنت كانت بطيئا مجيئها * وإن قبحت لم ننتظر وأتت سعيا

    موعظة
    ومما قيل في المحبين :
    ألا أحد يدعو لأهل محلة * مقيمين في الدنيا وقد فارقوا الدنيا



    “ 120 “


    كأنهم لم يعرفوا غير دارهم * ولم يعرفوا غير الشدائد والبلوى

    ولما سجن ابن المعتز قال :
    تعلمت في السجن نسيج الفتك * وكنت أمري قبل حبسي ملك
    وقيدت بعد ركوب الجياد * وما ذاك إلا بدور الفلك
    ألم تبصر الطير في جوّه * يكاد يلابس ذات الحبك
    إذا أبصرته خطوب الزمان * أوقعنه في حبال الشرك
    فهذاك من حالق قد يصاد * ومن قعر بحر يصاد السمك

    ولما قتل رحمه اللّه ، وجد في البيت الذي قتل فيه على الأرض مكتوب بخطه :
    يا نفس صبرا لعل الخير عقباك * خانتك بعد طويل الأمن دنياك
    مرّت بنا سحرا طير فقلت لها * طوباك يا ليتني إياك طوباك


    مثل في الوفاء
    يقال : أوفى من فكيهة . وهي امرأة من بني قيس بن ثعلبة كان من وفائها أن السّليك بن السلكة غزا بكر بن وائل ، وخرج جماعة من بكر فوجدوا أثر قدم على الماء فقالوا : إن هذا الأثر قدم قد ورد الماء ، فقعدوا له ، فلما وافى حملوا عليه فعدا ، وكان من العدّائين ففاتهم حتى ولج قبة فكيهة ، فاستجار بها ، فأدخلته تحت درعها ، فانتزعوا خمارها فنادت إخوتها فجاءوا عشرة فمنعوهم منها .
    قال : وكان سليك يقول : كأني أجد خشونة ذلك الموضع على ظهري ، ولم تكن حين أدخلتني تحت درعها .

    وقال :
    لعمر أبيك والأخبار تنمي * لنعم الجار أخت بني عوارا
    من الخفرات لم تفضح أخاها * ولم ترفع لوالدها ستارا
    فما ظلمت فكيهة حين قامت * بنصل السيف وانتزعوا خمارا



    وكتب صاحب بريد همدان إلى المأمون وهو بخراسان يعلمه أن كاتب صاحب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطئا على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها بينهم ، فوقّع المأمون : إنا نرى قبول السعاية شرا من السعاية ، لأن السعاية دلالة ، والقبول إجازة ، وليس من دل على شيء كمن قبله وأجازه ، فأنف الساعي عنك ، فإن كان في سعايته صادقا لقد كان في صدقه لئيما ، إذ لم يحفظ الحرمة ، ولم يف لصاحبه .




    حاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ، ج 1

    “ 121 “


    وروينا من حديث نافع ، قال : لقي يحيى بن زكريا عليهما السلام إبليس فقال :
    أخبرني من أحب الناس إليك ، وأبغضهم إليك ؟ قال : أحب الناس إليّ كل مؤمن بخيل ، وأبغض الناس إليّ كل منافق سخي ، قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن السخاء خلق اللّه الأعظم ، فأخشى أن يطّلع اللّه عليه في بعض سخائه فيغفر له .



    مثل سائر
    هو أبخل من مادر . وهو رجل من بني هلال بن عمرو ، بلغ من بخله أنه سقى إبله ، فبقي في أسفل الحوض ماء قليل ، فسلح فيه ، ومدر الحوض به ، فسمّي مادرا .

    حكاية
    ذكر أهل الأدب أن بني فزارة وبني هلال تنافروا إلى أنس بن مدركة ، وتراضوا به يحكم بينهم ، فقالت بنو هلال : يا بني فزارة ، أكلتم أير الحمار . فقالت بنو فزارة : ولم نعرفه . وسبب هذا القول أن ثلاثة اصطحبوا فزاري وثعلبي وكلبي ، فصادوا حمار وحش .

    ومضى الفزاري في بعض حوائجه ، فطبخا وأكلا ، وخبئا للفزاري ذكر الحمار . فلما رجع قالا له : خبأنا لك حقك فكل . فأقبل يأكل ولا يسيغه ، فجعلا يضحكان ، ففطن وأخذ السيف وقام إليهما ، وقال : لتأكلا منه ، أو لأقتلنكما . فامتنعا ، فضرب أحدهما فقتله ، وتناوله الآخر فأكل منه .

    فقال فيهم الشاعر :
    نشدتك يا فزار وأنت شيخ * إذا خيرت تحظى في الخيار
    أصيحانية أدمت بسمن * أحبّ إليك أم أير الحمار
    بلى أير الحمار وخصيتاه * أحبّ إلى فزارة من فزار

    فقالت بنو فزارة : يا بني هلال ، منكم من سقى إبله ، فلما رويت سلح في الحوض ومدره بخلا به . فنصرهم أنس بن مدركة على الهلاليين ، فأخذ منهم الفزاريون مائة بعير ، وكانوا تراهنوا عليها . وفي بني هلال يقول الشاعر :
    لقد جللت خزيا هلال بن عامر * بني عامر طرّا لسلحة مادر

    ومن باب الحماسة : كان جحدر بن مالك لسنا شاعرا فاتكا شجاعا ، وكان قد آثر على أهل هجر ناحيتها . وبلغ ذلك الحجاج بن يوسف ، فكتب إلى عامل اليمامة يوبّخه بتلاعب جحدر به ، ويأمره بالتجرد عليه حتى يظفر به . فبعث العامل إلى فتية من بني


    “ 122 “


    يربوع بن حنظلة ، فجعل لهم جعلا عظيما إن هم قتلوا جحدر ، أو أتوا به أسيرا ، ووعدهم أن يوفدهم إلى الحجاج .
    فخرج الفتية في طلبه ، حتى إذا كانوا قريبا منه ، بعثوا إليه رجلا منهم يريه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحزّب به ، فوثق بهم واطمأن إليهم ، فبينما هم على ذلك إذ شدّوه وثاقا وقدموا به إلى العامل ، فبعث به معهم إلى الحجاج ، وكتب يثني على الفتية . فلما قدموا به على الحجاج ، قال له : أنت جحدر ؟ قال : نعم . قال : ما حملك على ما بلغني عنك ؟ قال : جراءة الجنان ، وجفوة السلطان ، وكلب الزمان . قال : وما الذي بلغ من أمرك ، فيجتري جنانك ، ويصلك سلطانك ، ولا يكلبك زمانك ؟
    قال : لو بلاني الأمير لوجدني من صالح الأعوان ، وأهم الفرسان ، ومن أوفى أهل الزمان . فقال الحجاج : أنا قاذفك في قبة فيها أسد ، فإن قتلك كفانا مئونتك ، وإن قتلته خلّينا سبيلك ووصلناك .


    قال :لقد أعطيت أصلحك اللّه الأمنية ، وعظمت المنّة ، وقرّبت المحنة . فأمر به فاستوثق منه بالحديد وألقي في السجن ، وكتب إلى عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسدا ضاريا ، فلم يلبث العامل أن بعث له بأسد ضاريات قد أثرت على أهل تلك الناحية ، ومنعت عامة مراعيهم ومسارح دوابهم ، فجعل واحدا منها وهو عظيمها في تابوت يجرّ على عجلة . فلما قدموا به ألقي في حيز وأجيع ثلاثا . ثم بعث إلى جحدر ، فأخرج وأعطي سيفا ، ودلّي عليه ، فمشى إلى الأسد

    وأنشأ يقول :
    ليث وليث في مجال ضنك * كلاهما ذو أنف ومحك
    وصولة في بطشة وفتك * أن يكشف اللّه قناع الشكّ
    وأظفرن بجؤجر وبرك * فهو أحقّ منزلا بترك
    الذئب يعوي والغراب يبكي * وقدرة اللّه مزال الشكّ

    حتى إذا كان منه على قدر رمح تمطّى الأسد وزأر وحمل عليه ، فتلقّاه جحدر بالسيف فضرب هامته ضربة فلقها ، وسقط الأسد كأنه خيمة قوّضتها الريح ، فانثنى جحدر وقد تلطخ بدمه لشدة حملة الأسد عليه ، فكبّر الناس .
    فقال الحجاج : يا جحدر ، إن أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن صحبتك وجائزتك فعلت ذلك بك ، وإن أحببت أن تقيم عندنا أقمت فأسنينا فريضتك . قال : أختار صحبة الأمير . ففرض له ولجماعة أهل بيته .



    وأنشد جحدر يقول :
    يا جمل إنك لو رأيت سيالتي * في يوم هيج مردف وعجاج
    وتقدمي لليث أرسف نحوه * عني أكابره عن الإخراج
    جهم كان جبينه لما بدا * طبق الرحا متفجر الأثباج
    يرتو بناظرتين يحسب فيهما * من ظنّ خالهما شعاع سراج


    “ 123 “


    شثن براثنه كان نيوبه * زرق المعاول ، أو سداة زجاج
    وكأنما خبطت عليه عباءة * برقاء أو خلق من الديباج
    قرنان محتضران قد ربتهما * أم المنيّة غير ذات نتاج
    وعلمت أني إن أبيت نزاله * إني من الحجاج لست بناج
    فمشيت أرفل في الحديد مكبّلا * بالموت نفسي عند ذاك أناجي
    والناس منهم شامت وعصابة * عبراتهم لي بالحلوق شواجي
    ففلقت هامته فخرّ كأنه * أطم تقوّض مائل الأبراج
    ثم انثنيت وفي قميصي شاهد * مما جرى من شاخب الأوداج
    أيقنت أني ذو حفاظ ماجد * من نسل أملاك ذوي أتواج
    فلئن قذفت إلى المنيّة عامدا * إني لخيرك بعد ذلك راجي
    علّم النساء بأنني لا أنثني * إذ لا يتقن بغيرة الأزواج

    حدثنا محمد بن قاسم ، قال : سئل بعض السادة عن أول توبته ، قال : لما تمادت بي المخالفة ، وأسرفت على نفسي إسرافا أدى بي إلى القنوط ، فوقع في قلبي أن اللّه لا يرحمني لما عظم في قلبي إجرامي ، فأقمت ثلاثا لا أذوق طعاما ، ولا أسيغ شرابا ، وقد جعلت ذنوبي بين عينيّ ، فلما كانت الليلة الرابعة رأيت في النوم جارية وبيدها جام من الذهب مكتوب عليه بالنور : ( يا هذا اشتد بك الكرب فأين اللجا ؟ وإذا عظم عليك الخوف فأين الرجا ؟ ) وعلى جبينها مكتوب : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فوضعت الجام بين يديّ ، فأكلت منه طعاما لا يشبه طعام الدنيا ، فوجدت حلاوة الرجا في قلبي ، واستقمت من تلك الليلة على طاعة ربي .

    قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : ( لولا حب الوطن لخرب البلد السوء ، فبحب الأوطان عمرت البلدان ) .
    قال بقراط : ( يداوي كل عليل بعقاقير أرضه ، فإن الطبيعة تترع إلى غذائها ) .
    وقال بعض الحكماء : ( اطلبوا الرزق في البعد عن الأوطان ، فإنكم إن لم تكسبوا مالا غنمتم عقلا كثيرا ) .
    وقال بعضهم : ( لا يألف الوطن إلا ضيق العطن ) .
    روينا من حديث الهيثم بن الحسن بن عمارة قال : قدم شيخ من خزاعة أيام المختار ، فنزل على عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي ، فلما رأى ما تصنع سوقة المختار بالمختار من الإعظام والإجلال ، جعل يقول : ( يا عباد اللّه ، بالمختار يصنع هذا ؟ واللّه لقد
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:14

    الجزء الثامن .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء الثامن
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 124 “


    رأيته مع الإماء في الحجاز ) ، فبلغ ذلك المختار فدعا به ، فقال : ما هذا الذي بلغنا عنك ؟

    قال : أباطيل . فأمر بضرب عنقه ، فقال : لا ، واللّه لا تقدر على ذلك ، قال : ولم ؟ قال : أما دون أن أنظر إليك وقد هدمت مدينة دمشق حجرا حجرا ، وقتلت المقاتلة ، وسبيت الذرية ، ثم تصلبني على شجرة على نهر ، واللّه إني لأعرف الشجرة الساعة ، وأعرف شاطئ ذلك النهر .
    فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم : أما إن الرجل قد عرف الشجرة ، وربما يقول حقا .
    فأمر به فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال : يا أخا خزاعة ، أو مزاح عند القتل ؟
    قال : أنشدك اللّه أن أقتل ضياعا ، قال : وما تطلب هاهنا ؟ قال : أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني ، قال : ادفعوها إليه ، وإياك أن تصبح بالكوفة ، فقبضها وخرج .


    مثل
    هو أحمق من عجل . وهو عجل بن لخيم . وذلك أنه قيل له : ما سمّيت فرسك ؟ ففقأ عينه ، وقال : سمّيته الأعور .

    قال الشاعر :
    رمتني بنو عجل بداء أبيهم * وأي امرئ في الحمق أحمق من عجل
    أليس أبوهم غار عين جواده * فصارت به الأمثال تضرب في الجهل


    ومن سماعنا في نسيب مهيار حيث يقول :
    هبّت بأشواقك نجدية * مطبعة أنت لها واجب
    ما أنت يا قلبي وأهل الحمى * وإنما هم أمسك الذاهب
    فاردد على الريح أحاديثها * ففي صباها ناقل كاذب
    ودون نجد وظباء الحمى * أن تقرح السّنام والغارب

    السماع في ذلك يقول : يا أيها المحبّ العارف ، هبّت بأشواقك أنفاس متصاعدة تطمع في أمر هي دونه ، ألا تراه ؟ قال : ما أنت يا قلبي ؟

    يقول : أنت في مقام التقليب والتلوين ، وأهل الحمى في مقام الثبوت ، وهما ضدّان فلا يجتمعان كما لا يرجع أمس أبدا . وقد نبّه على كذب الأحوال بما ذكر عن الريح بسبب الباعث لهبوبها . ثم قال : ودون



    “ 125 “


    نجد الذي هو النظر الأعلى ، وظباء الحمى : الأرواح العلوية ، تقرح : أي تدمي الخف والسنام من طول السير ، وحمل الأثقال ، شبّهها بالإبل ، ثم لا وصول ، يقول : إنها موهوبة لا مكسوبة ، فلا تعمل لها .


    موعظة عطاء بن أبي رباح لعبد الملك بمكة

    حدثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد الرحمن بن علي ، انا عبد الوهاب ، انا جعفر بن أحمد ، انا عبد العزيز الضرّاب ، أخبرني أبي ، ثنا أحمد بن مروان ، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، ثنا الرياشي ، قال : سمعت الأصمعي يقول : دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن ، وذلك بمكة في وقت حجّه في خلافته ، فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير ، وقعد بين يديه ، وقال له : يا أبا محمد ، ما حاجتك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، اتق اللّه في حرم اللّه ورسوله فتعاهده بالعمارة .

    واتق اللّه في أولاد المهاجرين والأنصار ، فإنك بهم جلست هذا المجلس . واتق اللّه في أهل الثغور فإنهم حصن للمسلمين . وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم . واتق اللّه فيمن على بابك ، ولا تغفل عنهم ، ولا تغلق دونهم بابك . فقال له : أفعل . ثم نهض فقبض عليه عبد الملك فقال : يا أبا محمد ، سألتنا حوائج غيرك فقد قضيناها ، فما حاجتك ؟ فقال : ما لي إلى مخلوق من حاجة ، ثم خرج . فقال عبد الملك : هذا وأبيك الشرف ، هذا وأبيك السؤدد .

    ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ما حدثناه عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، قال : قال بعض المريدين : رأيت أبا مدين ، وأبا حامد ، وأبا طالب ، وأبا يزيد ، وجماعة من الصوفية ، فقال أبو يزيد لأبي مدين : تكلم لنا في شيء من التوحيد .

    فقال : التوحيد هو الحق ، وإليه الملجأ لأهله ، وبه النجاة . هو السر الخفي ، به ظهرت الأسرار ، وهو الشمس المشرقة ، ومنه ينابيع الأنوار . وهو قطب العارفين ، وهو الدليل ، ومبرئ الأسقام ، وشفاء كل عليل . هو الظاهر ، فما سواه حجابه ، فمن كان ذا بصر جاوز أبوابه ، كشف له عن ملكه ، فعاين سلطانه ، وغيّبه به عنه ، فعظّم شأنه . فبين العارف وبين ربه سر وقر في صدره ، وحكم بمدّه بها من غيبه ، فهي غذاؤه وشرابه ، مظهر له حقيقة التوحيد ولبابه ، امتاز بها عن سائر الخلق ، فواصلته وأجلسته في حضرة الحق ، اختصه بالعلوم الأزلية العجيبة . فحقيقته من الحق دانية قريبة ، بلا حركة من معنى إلى معنى ، ولا انتقال ، ولا ماض ، ولا مستقبل ، ولا حال . هو بسر العارف مكشوف ، أمدّه به من خفيّ سرّه ، فسرّه



    “ 126 “


    من سره معروف . فجملة المحسوسات عدم وهبا . فحقّق ببصيرتك تنظر عجبا ، تجد القائم في كل الخطرات واللحظات مشاهد ، إذ هي أغطية يستر بها إذ هو في الوجود واحد .
    فالمعرفة في حق كل مصنوع وضعه ، فكل مفترق هو أصله وجمعه . بذلك شهدت الظواهر على غيبها ، فهو المبدئ لكل شيء والمعيد ، والفعّال في ملكه يفعل ما يريد . فجملة هذه العلوم عرفها العارفون ، وجهلها الأكثرون ، وعلم تأويلها الراسخون ، وما يعقلها إلا العالمون .
    وروينا من حديث الهاشمي ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيها الناس ، بسط الأمل مقدّم على حلول الأجل ، والمعاد مضمار العمل ، فمغتبط بما احتقب ، غانم ، ومبتئس بما فاته من العمل ، نادم . أيها الناس ، إن الطمع فقر ، واليأس غنى ، والقناعة راحة ، والعزلة عبادة ، والعمل كنز ، والدنيا معدن . واللّه ما يسرّني ما مضى من دنياكم هذه بأهداب بردي هذا ، ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء . وكل إلى نفاد وشيك ، وزوال قريب ، فبادروا وأنتم في مهل الأنفاس ، وجدّة الأحلاس ، قبل أن يؤخذ بالكظم ، ولا يغني الندم » .

    عمرة أبي بكر الصدّيق في خلافته رضي اللّه عنه
    حدثنا محمد بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن علي ، عن محمد بن عبد الباقي ، عن أبي محمد الجوهري ، عن ابن حبوة ، عن أبي الحسن بن معروف ، عن الحسين بن الفهم ، عن محمد بن سعد ، عن الواقدي ، عن أشياخه ، قالوا : اعتمر أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه في خلافته ، في رجب سنة اثنتي عشرة ، فدخل مكة ضحوة ، فأتى منزله وأبوه أبو قحافة جالس على باب داره ، فقيل له : هذا ابنك ، فنهض قائما ، وعجل أبو بكر أن ينيخ راحلته ، فنزل عنها وهي قائمة ، فجعل أبو بكر يقول : يا أبت لا تقم ، ثم التزمه ، فقبّل أبو بكر بين عيني أبيه . فأخذ الشيخ يبكي فرحا بقدومه ، وجاء ممن سمع به ممن هناك من الصحابة ، مثل عتاب بن أسيد ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن هشام ، فسلموا عليه : سلام عليك يا خليفة رسول اللّه ، فجعل أبو بكر عندما سمع ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يبكي ، وأبكى القوم ، وتجدد عليه الحزن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو قحافة :

    يا عتيق ، هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم ، فقال أبو بكر : يا أبت ، لا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ، لقد طوقني اللّه أمرا عظيما لا قوة لي به ولا يد إلا باللّه . ثم دخل فاغتسل وخرج وتبعه أصحابه فنحاهم ، ولقيه الناس يعزّونه برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يبكي حتى انتهى إلى البيت ، فاضطبع واستلم ، وطاف سبعا ، وركع ركعتين ، ثم رجع إلى منزله . فلما كانت


    “ 127 “


    صلاة الظهر ، خرج فطاف بالبيت ، ثم جلس قريبا من دار الندوة ، فقال : هل من أحد يشتكي من ظلامة ، أو يطلب حقا ؟ فما أتاه أحد ، وأثنى الناس على وإليهم خيرا . ثم صلى العصر وجلس ، فردفه الناس ثم خرج راجعا إلى المدينة .

    وبالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، دخل في بعض حججه على نافع بن الحارث يعوده ، فوجده قريب عهد بعرس وفي بيته ستر من آدم مزيّن بسيور ، فأخذه عمر فشقه ، وقال : لم لا تستروا بيوتكم بهذه المسوح ؟ فهي أوفى وألين وأحمل للغبار .

    وأذن له أبو محذورة بصوت شديد ، فقال : يا أبا محذورة ، أما خشيت أن تنشقّ مريطاؤك ؟ قال : إني أحببت أن أسمعك صوتي . ثم مرّ عمر بأبي سفيان بن حرب ، فرأى أحجارا قد بناها أبو سفيان كالدكان في وجه داره يجلس عليها بالغداة ، فقال عمر : لا ، أرجعنّ من وجهي هذا حتى تقلعه وترفعه . فلما رجع عمر وجده على حاله ، فقال : ألم أقل لك اقلعه ؟ قال : انتظرت أن يأتينا بعض أهل مهنتنا ، فقال : عزمت عليك لتقلعه بيدك ، وتنقله على عاتقك ، فلم يراجعه وفعل ذلك .

    فقال عمر : الحمد للّه الذي أعزّ الإسلام رجل من عديّ يأمر أبا سفيان سيد بني عبد مناف بمكة فيطيعه .
    وبالإسناد قال محمد بن سعد : حدثنا يزيد بن هارون ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيّب ، أن عمر لما أفاض من منى أناخ بالأبطح فكوّم كومة من بطحاء فطرح عليها طرف ثوبه ، ثم استلقى عليها ، ورفع يده إلى السماء وقال : اللهمّ كبرت سني ، وضعفت قوّتي ، وانتشرت رعيّتي ، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط . فلما قدم المدينة خطب الناس . قال سعيد : فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن رضي اللّه عنه وأرضاه .



    ذكر حجج الخلفاء الأربع في زمان خلافتهم
    أما أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه ، فاستعمل على الناس في الحج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة ، واعتمر في رجب ، وحجّ بالناس سنة اثنتي عشرة ، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان .
    وأما عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ، فاستعمل أول سنة وليّ على الحج عبد الرحمن بن عوف ، فحجّ بالناس ، ثم لم يزل عمر يحج بالناس في خلافته كلها ، فحجّ بهم عشر سنين ، وحجّ بأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم في آخر حجة حجّها .
    قال ابن عباس : حججت مع عمر إحدى عشرة حجة ، واعتمر في خلافته ثلاث مرات . وقالت عائشة رضي اللّه عنها :
    لما كانت آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين مررت بالمحصّب ، فسمعت رجلا على


    “ 128 “


    راحلته يقول : أين كان عمر أمير المؤمنين ؟ وسمعت رجلا آخر يقول : هاهنا قد كان ، فأناخ راحلته ورفع عقيرته ، وقال :
    عليك سلام من إمام وباركت * يد اللّه في ذاك الأديم الممزّق
    فمن يسع أو يركب جناحيّ نعامة * ليدرك ما قدّم بالأمس يسبق

    قضيت أمورا ثم غادرت بعدها * بوائق في أكمامها لم تفتق

    قالت عائشة : فلم ندر ذاك الراكب من هو ؟
    فكنا نتحدث أنه من الجن ، قالت : فقدم عمر من تلك الحجة ، فطعن فمات .
    وقد ذكرنا هذا الشعر في هذا الكتاب أكمل من هذا من حديث أحمد بن عبد اللّه .


    وأما عثمان بن عفان رضي اللّه عنه
    فإنه لما ولّي أمّر عبد الرحمن بن عوف على الحج سنة أربع وعشرين ، وحجّ عثمان سنة خمس وعشرين ، ثم لم يزل يحج إلى سنة أربع وثلاثين ، ثم حصر في داره ، وحجّ بالناس عبد اللّه بن عباس . قال ابن سيرين : وكان عثمان أعلم الناس بالمناسك ، وبعده ابن عمر .


    وأما علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه
    فحج كثيرا قبل ولايته الخلافة . وأما ولايته ، فإنه ولّي الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر وأياما ، وكانت ولايته بعد انقضاء الحج في سنة خمس وثلاثين ، لأن عثمان قتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة من هذه السنة . وكانت وقعة الجمل سنة ست وثلاثين ، وحج بالناس أيضا عبد اللّه بن عباس . واشتغل علي رضي اللّه عنه بتلك الأمور ، فحج بالناس سنة ثمان وثمانين قثم بن عباس . ثم اصطلح الناس في سنة تسع وثلاثين على شيبة بن عثمان ، فأقام لهم الحج .

    ثم قتل علي رضي اللّه عنه سنة أربعين .
    ولنا في المحلات ، وهي ست آلات ، وإنما سمّيت محلات لأن من كانت معه حلّ حيث شاء :
    إن المحلات ستّ فاسمعنّ لها * الزند والدلو والسكين والفأس
    والقدر والزق لا تبغي بها عوضا * فحيث ما كنّ كان الناس والبأس
    ولنا في أصناف المياه ونعوتها ، وأصناف الشرب :


    “ 129 “


    ماء فرات نقاخ سلسل شبم * سلاسل وزلال نشره عطر
    تسري الحياة به في كل ذي شبح * النبت والحيوان الكلّ والبشر
    وما سواه من الأمواه ليس له * هذي النعوت فما في نعته نكر
    مثل الأجاج وماج مالح لغة * فريدة وشريب طعمه خصر
    كذا الشروب وملح والزعاق له * على القعاع مقام ليس يستتر
    أما النمير فنعت لا يخصّ به * صنف فذاك الذي ينمى به الشجر
    فهذه خمسة من بعد عاشرة * من اللغات لها في نفسها سور
    والنشج والنضج ثم النقع والبغر * ونغبة بعدها لفظ هو النجر

    تفسيره : فالنشج والنضج هو الشرب دون الريّ . والنقع : الريّ . والبغر والنجر : أن يكثر الشرب فلا يروى . والنغبة : الجرعة من الماء . وكل ما تضمنه البيت الأول هو العذب الطيب ، والشبم : البارد . والسلسل والسلاسل : السهل الدخول في الحلق . والشريب :
    الذي فيه شيء من العذوبة . والشروب : دونه ، وهو الذي يشرب عند الضرورة . والأجاج :
    الماء المالح ، وهو أيضا : الماج ، والقعاع ، والزعاق : فيه مرارة .
    ولنا في أسماء العطش :
    الصدا والأوام ثم غليل * وو غيم ولوحة العطش
    وكذاك الجواد مهلكة * فإذا ما ارتويت تنتعش

    ولنا في أسماء الخيل في السباق :
    قالوا المجلّى أول ثم المصلّى بعده * ثم المسلى والنال طرف رابع
    والخامس المرتاح ثم عاطف سادسهم * ثم الخطى بعده وهو الجواد السابع
    والثامن المؤمّل ثم اللطيم تاسع * سكبتهم عاشرهم أهلّة طوالع
    فثكلهم آخرهم فلا يعدّ فيهم * أن المجلّى أوّل فتسعة توابع
    المحفوظ عن العرب : السابق ، ثم المصلى ، والسكيب الذي هو العاشر ، والسابق هو الأول ، وهو المجلى والمبرز أيضا . وسائر ما ذكر من الأسماء ، فإن بعض الحفّاظ من أهل اللغة قال : أراها محدثة ، واللّه أعلم .

    وروينا من حديث عمرو بن بحر الجاحظ قال : ثنا سنان بن الحسن التستري ، عن إسماعيل بن فهران العسكري ، عن أبان بن عثمان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ، قال : لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يعرض نفسه على القبائل ، خرج وأنا معه ، وأبو بكر ، وكان أبو بكر عالما بأنساب العرب ، فوقفنا على

    “ 130 “

    مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة ، فتقدم أبو بكر ، فسلّم عليهم ، فردّوا عليه السلام ، فقال : ممن القوم ؟ فقالوا : من ربيعة . قال : أمن هاماتها أم من لهازمها ؟
    قالوا : بل من هاماتها العظمى . قال : وأيّ هاماتها ؟ قالوا : ذهل . قال : أذهل الأكبر أم ذهل الأصغر ؟ قالوا : بل الأكبر . قال : أفمنكم عوف الذي كان يقال : لا حرّ بوادي عوف ؟
    قالوا : لا . قال : أفمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتمي الأخيّاء ؟ قالوا : لا . قال :
    أفمنكم جساس بن مرّة حامي الزمار ومانع الجار ؟ قالوا : لا . قال : أفمنكم المزدلف صاحب الغمام ؟ قالوا : لا . قال : أفأنتم أخوال الملوك من كندة ؟
    قالوا : لا . قال : أفأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا . قال : فلستم من ذهل الأكبر ، إذ أنتم من ذهل الأصغر .

    فقام إليه أعرابي غلام حين بقل وجهه ، فأخذ بزمام ناقته ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقف على ناقته يسمع مخاطبته ، فقال لنا : على من سألنا أن نسأله ، والعبء لا تعرفه أو تحمله . يا هذا ، إنك سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك ، فأخبرنا من أنت ؟ قال أبو بكر : من قريش .
    قال : بخ بخ ، أهل الشرف والرئاسة ، فأخبرني من أي قريش أنت ؟
    قال : من بني تميم بن مرّة . قال : أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر ، فكان يقال له مجمعا ؟ قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم هاشم الذي يقول فيه الشاعر :
    عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
    قال أبو بكر : لا . قال : أفمنكم شيبة الحمد ، الذي كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء الداجية مطعم الطير ؟ قال : لا . قال : أفمن المفيضين بالبأس أنت ؟ قال : لا . قال :

    أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا . قال : أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال : لا . قال : أما واللّه لو شئت لأخبرتك أنك لست من أشراف قريش .
    فاجتذب أبو بكر زمام ناقته منه كهيئة المغضب ،
    فقال الأعرابي :
    صادف درء السيل درء يدفعه * يرفعه طورا وطورا يضعه
    فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . قال علي : فقلت : يا أبا بكر ، لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة . قال : أجل يا أبا الحسن ، ما من طامّة إلا وفوقها طامّة ، وإن البلاء موكل بالمنطق .
    سأل عليّ بن أبي طالب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أفضل الصلاة ؟ قال : « ما حضرت فيها القلوب ، وذرفت فيها العيون ، وخلصت فيها النيّات ، وفاضت فيها العبرات » .
    وبكى الحسن البشري يوما في حلقته ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : لأني أرى قوما قد أمروا بالزاد ، ونودي فيهم بالرحيل ، وحبس أولهم على آخرهم وهم قعود يلعبون .


    “ 131 “


    وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
    قالوا تقدّم فقلت الخوف أخّرني * وقبح فعلي وزلّاتي ومجترمي
    بأيّ وجه إذا ما جئت أرفعه * وقد تمرّنت بالتوبيخ والندم
    وكيف أنقل أقداما عصيت بها * إلى محل العلا في القدس والعظم
    إلى الذي جاد بالإحسان مبتدئا * ومنّ بالفضل والآلاء والنّعم
    وكلّ جارحة لي غير طاهرة * لا ماء وجهي ولا جسمي ولا قدمي
    قالوا فدونك من أبواب رحمته * ومنتهى العفو والإحسان والكرم
    فقلت وجهي من الزلّات محتشم * ولست أملك وجها غير محتشم

    وقال بعض الأولياء :
    الفكرة نور ، والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسعيد من وعظ بغيره .

    شعر

    إني لأذكر مولاي وأشكره * في كل وقت وفي داج من الظلم
    فكم له نعمة في كل جارحة * ضاقت لكثرتها عن شكرها هممي
    فرض على كل عبد شكر خالقه * فيما أفاض من الأنعام والكرم

    أوحى اللّه إلى داود عليه السلام : يا داود ، اعرفني واعرف قدر نفسك .

    ففكّر ساعة ، ثم قال : إلهي عرفتك بالأحدية ، والقدرة ، والبقاء ، وعرفت نفسي بالعجز ، والضعف ، والفناء .
    قال السريّ : اطلب حياة قلبك بمجالسة أهل الذكر ، واستجلب نور القلب بدوام الحزن ، والتمس تعجيل الانتقال ، وإياك والتسويف ، ونافس الأبرار في إقامة الفرض ، ونافس المقربين في إخلاص النوافل ، واترك فضول الحلال ، واطلب حلاوة المناجاة بفراغ القلب ، واستجلب زيادة النّعم بعظيم الشكر ، وأكثر من الحسنات الحديثات للسيئات القديمات ، واستبق الحسنات بترك التبعات ، وسارع في الخيرات ، واحذر ما يوجب العقوبات .

    وروينا من حديث ابن ودعان ، قال : أخبرنا أبو نصر أحمد بن الخليل ، عن علي بن أبي القاسم ، عن عبد اللّه بن جعفر ، عن محمد بن الحسن العبدي ، عن أبيه ، قال : حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد وثابت جميعا ، عن أنس بن


    “ 132 “

    مالك ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط اللّه ، وأن تحمدهم على رزق اللّه ، وأن تذمّهم على ما لم يؤتك اللّه إن رزق اللّه لا يحدّه حرص حريص ، ولا يرده كراهة كاره ، وإن اللّه تبارك وتعالى بحكمته جعل الروح والفرح في الرضا واليقين ، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط ، إنك لن تدع شيئا تقرّبا إلى اللّه إلا أجزل لك الثواب عليه . فاجعل همّتك وسعيك لآخرة لا ينفذ فيها ثواب المرضي عنه ، ولا ينقطع فيها عقاب المسخوط عليه » .
    وروينا من حديث الخطابي ، قال : حدثنا ابن داسة ، حدثنا أبو داود ، ثنا عمرو بن مروان ، قال : أخبرنا شعبة ، عن الأشعث بن سليمان ، عن أبي بردة ، عن ثعلبة بن ضبيعة ، قال : دخلنا على حذيفة قال : إني لا أعرف رجلا لا تضرّه الفتن شيئا . قال : فخرجنا فإذا فسطاط مضروب ، فدخلنا فإذا فيه محمد بن مسلمة ، فسألناه عن ذلك فقال : ما أريد أن أستمل على شيء من أمصارهم حتى تنجلي عما انجلت .



    روينا من حديث ابن الخطاب ، قال : حدثنا ابن الأعرابي ، عن أبي سعيد ، عن يحيى بن سعيد القطّان ، عن محمد بن مهران بن مسلم بن المثنى ، قال : أخبرني مسلم ، قال : كنا مع عبد اللّه بن الزبير ، والحجاج محاصره ، فكان ابن عمر يصلي مع ابن الزبير ، فإذا فاتته الصلاة معه ، وسمع مؤذن الحجاج ، انطلق فصلى معه ، فقيل له : تصلي مع ابن الزبير ومع الحجاج ؟ قال : إذا دعونا إلى اللّه أجبناهم ، وإذا دعونا إلى السلطان تركناهم .
    وكان ينهى ابن الزبير عن طلب الخلافة والتعرض لها . ا هـ
    المجلس .
    خبر الضبّ الذي آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
    روينا من حديث أبي نعيم ، عن سليمان بن أحمد إملاء وقراءة ، عن محمد بن علي بن الوليد السلمي البصري من كتابه ، عن محمد بن الأعلى الصنعاني ، عن معتمر بن سليمان ، عن كهمس بن الحسن ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر الشعبي ، عن عبد اللّه بن عمر ، عن أبيه رضي اللّه عنه ، قال : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في محفل من أصحابه ، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد أصاب ضبّا ، وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله ليأكله ،
    فقال : علي من هذه الجماعة ؟

    فقالوا : على هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي . فشقّ الناس ، ثم أقبل على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك ، ولا أبغض لك مني ، ولولا أن يسمّوني قومي عجولا ، لعجلت عليك فقتلتك ، فسررت بقتلك الناس جميعا . قال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه ، دعني أقتله .
    فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا عمر ،


    “ 133 “


    أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا ؟ » ، ثم أقبل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : واللات والعزّى لا آمنت بك . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا أعرابي ، ما حملك على الذي قلت ، وما قلت وقلت غير الحق ، ولم تكرم مجلسي ؟ » ، فقال : وتكلمني أيضا ، استخفافا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واللات والعزّى لا آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضبّ ، فأخرج الضب من كمّه وطرحه بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : إن آمن بك هذا الضب آمنت بك . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا ضبّ ، تكلم بإذن اللّه » ، فتكلم الضب بلسان عربي مبين ، يفهمه القوم جميعا :

    لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « يا ضب ، من تعبد ؟ » ، قال :

    الذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، وفي البحر سبيله ، وفي الجنة رحمته ، وفي النار عذابه . قال : « فمن أنا يا ضب ؟ » ، قال : أنت رسول رب العالمين ، وخاتم النبيين ، قد أفلح من صدّقك ، وقد خاب من كذّبك . فقال الأعرابي : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأشهد أنك رسول اللّه حقا . واللّه لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد أبغض إليّ منك ، واللّه لأنت الساعة أحبّ إليّ من نفسي ، ومن ولدي ، وقد آمنت بك بشعري ، وبشري ، وداخلي ، وخارجي ، وسرّي ، وعلانيتي . فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : « الحمد للّه الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه ، لا يقبله اللّه إلا بصلاة ، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن » . فعلّمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفاتحة والإخلاص . وقال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن هذا كلام رب العالمين ، وليس بشعر ، فإذا قرأت : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فكأنما قرأت ثلث القرآن ، وإذا قرأتها مرتين ، فكأنما قرأت ثلثي القرآن ، وإذا قرأتها ثلاث مرات ، فكأنما قرأت القرآن كله » . فقال الأعرابي : نعم الإله إلهنا ، يقبل اليسير ، ويعطي الجزيل . ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أعطوا الأعرابي » ، فأعطوه حتى أبطروه . فقام عبد الرحمن بن عوف ، فقال : يا رسول اللّه ، إني أريد أن أعطيه ناقة أقرّب بها إلى اللّه دون البختي وفوق العرابي ، وهي عشراء تلحق ولا تلحق ، أهديت إليّ يوم تبوك . فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " قد وصفت ما تعطي ، فأصف لك ما يعطيك اللّه جزاء " .

    قال : نعم . قال : « لك ناقة من درّة جوفاء ، قوائمها من زبرجد أخضر ، وعنقها من زبرجد أصفر ، عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق، تمرّ بك إلى الصراط كالبرق الخاطف ".
    فخرج الأعرابي من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلقيه ألف أعرابي على ألف دابة وألف رمح وألف سيف ، فقال لهم : أين تريدون ؟ فقالوا : نقاتل هذا الذي يكذب ويزعم أنه نبي . فقال الأعرابي : إني أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه . فقالوا له : صبوت . فقال :
    صبوت ، وحدّثهم الحديث . فقالوا بأجمعهم : نشهد أن لا إله إلا اللّه ، ونشهد أن محمدا



    “ 134 “

    رسول اللّه . فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فتلقّاهم بلا رداء ، فنزلوا على ركبهم يقبّلون يديه ، وما ولّوا منه إلا وهم يقولون : لا إله إلا اللّه ، محمد رسول اللّه .
    فقالوا : مرنا بأمر تحبه يا رسول اللّه . قال : « تكونون تحت راية خالد بن الوليد » .
    قال : فليس أحد من العرب آمن منهم ألف رجل إلا هؤلاء من بني سليم .



    دلالات التائبين
    روينا من حديث ابن مروان ، عن عبد الرحمن بن مرزوق ، عن عبد اللّه بن أبي بكر السهميّ ، قال : قال بعض العبّاد : علامة التوبة الخروج من الجهل ، والندم على الذنب ، والتجافي عن الشهوات ، واعتقاد مقت نفسك المسئولة ، وإخراج المظلمة ، وإصلاح الكسرة والشهوة ، وترك الكذب ، وقطع الغيبة ، والانتهاء عن أخدان السوء ، والاشتغال لما عليك ، والاستعداد بما تنقلب إليه ، والبكاء على ما سلف من عمرك ، وترك ما لا يعنيك ، والخوف من ساعة تأتيك فيها رسل ربك لقبض روحك ، والتفجّع والحزن من ليلة تبيت في قبرك وحدك بين أطباق الثرى إلى يوم المعاد .


    ومما قيل في الحنين إلى الأوطان للشريف الرضيّ :
    لا يذكر الرمل إلا حنّ مغترب * له بذي الرمل أوطار وأوطان
    تهفو إلى البان من قلبي نوازعه * وما بي البان بل من داره البان
    أسدّ سمعي إذا غنّى الحمام به * أن لا يهيج سرّ الوجد إعلان
    وربّ دار أولّيها مجانبة * ولي إلى الدار أطراب وأشجان
    إذا تلفت في أطلالها ابتدرت * للعين والقلب أمواه ونيران


    ومن قول الشريف الرضيّ في الاشتياق :
    خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى * فلاقي بها ليلا نسيم ربا نجد
    فإنّ بذاك الحيّ حيّا عهدته * وبالرغم مني أن يطول به عهدي
    ولولا تداوي القلب من ألم الهوى * بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
    ويا صاحبيّ اليوم عوجا لتسألا * ركيبا من الغورين أينقهم تحدي
    عن الحيّ بالجرعاء جرعاء مالك * هل ارتبعوا واخضرّ واديهم بعدي
    شممت بنجد شيمة حاجريّة * فأمطرتها دمعي وأفرشتها خدّي
    ذكرت بهاويّا الحبيب على النوى * وهيهات ذا يا بعد بينهما عندي
    وإني لمجلوب لي الشوق كلما * تنفس شاك ، أو تألم ذو وجد


    “ 135 “


    تعرّض رسل الشوق والركب جاهد * فأيقظني من بين نوّامهم وحدي
    فما شرب العشاق إلا بقيّتي * ولا وردوا في الحبّ إلا على وردي
    قال بعض العارفين : إن كانت الحاجة إلى الناس فالكسب أولى ، ومن لم ير غير اللّه ، ولم يخطر له الناس ببال ، ففي أي مقام أقيم فهو ذاك وهو حال عزيز .
    قال بعض الحكماء : بذل الحيلة في طلب الحلال . وقلة الحوائج إلى الناس أفضل العبادة .
    رويناه من حديث ابن مروان عن عباس بن محمد بن الجمحي ، عن محمد بن سلام .
    ومن الأمثال في السعي على العيال ما رويناه من حديث المالكي ، عن علي بن الحسن ، عن أبيه ، قال : قال لي البناجي : قال بعض العبّاد : إن مثل الرجل لولده ولعياله مثل الدخنة الطيبة تحترق ويلتذ بطيب رائحتها آخرون .
    ومن أحوال الدنيا ما رويناه من حديث الدينوري ، عن أحمد بن الحسن ، عن سعيد الجرمي ، قال : قال ابن السماك لجعفر بن يحيى : إن اللّه عز وجل ملأ الدنيا باللّذات ، وحشاها بالآفات ، فمزج حلالها بالموبقات ، وحرامها بالتبعات .



    حكمة علوية
    أحسن الدنيا ، أقبحها عند من يبصرها ، يعني بعين عقله ، وذلك أنها تشغل عما هو أحسن منها ، يعني الآخرة ، واكتساب الخلق الفاضلة . رويناه من حديث أحمد بن مروان بن إبراهيم ، عن نصر ، عن محمد بن سلام ، عن بعض الحكماء .
    ومن باب حنين الإبل وسيرها ، قول أبي منصور بن الفضل المؤدب :
    تزاورن من أذرعات يمينا * نواشز ليس يطعن البرينا
    كلفن بنجد كأن الرياض * أخذن لنجد عليها يمينا
    وأقسمن يحملن إلا بخيلا * إليه ويبلغن الآخرينا
    ولما استمعن زفير المشوق * ونوح الحمام تركن الحنينا
    إذا جئتما بآنة الواديين * فأرخوا النسوع وخلّوا الوضينا


    وقال أيضا في هذا الباب :
    لأي مرمى تزجر الأيانقا * إن جاوزت نجدا فلست عاشقا


    “ 136 “


    وإنما كان بكائي حاديا * ركب الغرام وزفيري سائقا
    ومن هذا الباب لأبي جعفر البياضي :
    نوق تراها كالسّفين * إذا رأيت الآل بحرا
    كتب النحر بدمائها * في مهرق البيداء سطرا
    فكأن أرجلهن تطلب * عند أيديهنّ وترا
    يحملن من أهل الهوى * شعثا على الأكوار غبرا
    لاح الهجير وجوههم * فأحال منها البيض سمرا


    ولابن الخفاجي من هذا الباب :
    امتيحها فضل الأزمة شمّر * فمع النسيم تحية من عرعر
    يا بانتي أضم ومن دين الهوى * بثّ السؤال لكل من لم يخبر
    أعلمتما قلبي أقام مكانه * أم سار في طلب الصباح المسفر


    وله أيضا :
    دعوها نناضل بالأذرع * فأين العواصم من لعلع
    وقودوا أزمتها بالحنين * فلولا الصبابة لم تتبع

    وروينا عن الإمام أبي الفرج بن الجوزيّ الحافظ كتابة لنفسه في هذا الباب :
    وحرمة شعث على كل نضر * براهنّ من ألم ما براني
    إذا ذكرتها حداة الهوى * قطعن البر أقطع وجدي عنان
    تطايرن والشوق يدني مني * وكل المنى عند ذاك المكان
    فلما علون فويق الكثيب * تراءين ذاك البريق اليماني


    وله أيضا من قصيدة في هذا الباب :
    لا وشعث فارقوا أوطانهم * يستلينون الطريق الأوعرا
    كلما غنّى بهم حاديهم * أخذت عيسهم تغري البرا
    أعسفت في سيرها إذ طربت * أمنى ذكّرها والأجفرا
    وافقت من حملت في شوفهم * فتناست بالهوى طول السّرى

    خبر فيميون وعبادته وما جرى له
    روينا من حديث ابن إسحاق ، عن المغيرة بن أبي لبيد مولى الأحنف ، عن وهب بن


    “ 137 “



    منبّه اليماني أنه حدّثهم ، أن موقع دين النصرانية بنجران ، أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام ، يقال له فيميون ، وكان صالحا زاهدا مجتهدا ورعا ، مجاب الدعوة ، سائحا نائحا ينزل القرى ، لا يعرف بقرية إلا خرج منها إلى قرية ، لا يعرف بها .
    وكان لا يأكل إلا من كسب يده ، وكان بنّاء يعمل الطين ، وكان يعظّم الأحد إذا كان يوم الأحد ، لا يعمل فيه شيئا ، وخرج إلى فلاة من الأرض فصلّى فيها حتى يمسي .
    قال : وكان في قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا ، ففطن بشأنه رجل من أهلها يقال له صالح ، فأحبّه صالح حبا لم يحبه شيئا كان قبله ، فكان يتبعه حيث ذهب ، ولا يفطن له فيميون ، حتى خرج مرة يوم الأحد إلى فلاة في الأرض ، كما كان يصنع ، وقد تبعه صالح ، وفيميون لا يدري به ، فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه .

    وقام فيميون يصلي ، فبينا هو يصلي إذ أقبل نحوه التنين : الحية ذات الرؤوس السبعة ، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخافها عليه ، فعيل عوله ، فصرخ : يا فيميون ، التنين قد أقبل نحوك ، فلم يلتفت إليه ، وأقبل على صلاته حتى فرغ منها وأمسى ، فانصرف وعرف أنه قد عرف ، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه ، فقال له : يا فيميون ، تعلم واللّه أني ما أحببت شيئا قط حبك ، وقد أردت صحبتك ، والكينونة معك حيث كنت .
    قال : ما شئت أمري كما ترى ، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم ، فلزمه صالح . وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه ، وكان إذا ناجاه العبد به الضرّ دعا له فشفي ، وإذا دعا لأحد به ضرّ لم يأته .

    وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير ، فسأل عن شأن فيميون ، فقيل له : إنه لا يأتي أحدا دعاه ، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجرة .
    فعمد الرجل إلى ابنه ذلك ، فوضعه في حجرته ، وألقى عليه ثوبا ، ثم جاءه فقال : يا فيميون ، إني قد أردت أن أعمل في بيتي عملا ، فانطلق معي حتى تنظر إليه فأشارطك عليه . فانطلق معه حتى دخل حجرته ، ثم قال له : ما تريد أن تعمل في بيتك هذا ؟ قال : كذا وكذا ، ثم كشط الثوب عن الصبي ، وقال : يا فيميون ، عبد من عباد اللّه أصابه ما ترى ، فادع اللّه له ، فدعا له فيميون ، فقام الصبي ليس به بأس ، وعرف فيميون أنه قد عرف . فخرج من القرية ، واتبعه صالح ، فبينما هو يمشي في بعض أرض الشام ، إذ مرّ بشجرة عظيمة ، فناداه منها رجل ، فقال : أفيميون ؟ قال : نعم .
    قال : ما زلت أنظر وأقول متى هو جاء ؟ حتى سمعت صوتك ، فعرفت أنك هو ، لا




    “ 138 “


    تبرح حتى تقوم عليّ ، فإني ميت الآن . فمات وقام عليه حتى واراه .
    ثم انصرف وتبعه صالح حتى وطئا بعض أرض العرب ، فعدّوا عليها ، فاختطفتهما سيارة من بعض لعرب ، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران . وأهل نجران يومئذ على دين العرب ، يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم ، لها عيد كل سنة ، إذا كان ذلك العيد ، علّقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه ، وحلّي النساء ، ثم خرجوا إليها ، فعكفوا عليها يوما . فابتاع فيميون رجل من أشرافهم . وابتاع صالحا آخر .

    فكان فيميون إذا قام من الليل في بيته يصلي ، أسرج له البيت نورا حتى يصبح من غير مصباح ، فرأى ذلك سيده ، فأعجبه ما رأى منه ، فسأله عن دينه فأخبره ، وقال له فيميون : إنما أنتم في باطل ، إن هذه النخلة لا تضرّ ولا تنفع ، فلو دعوت عليها إلهي الذي أعبد أهلكها ، وهو اللّه وحده لا شريك له . فقال له سيده : فافعل ، فإنك إن فعلت دخلنا في دينك ، وتركنا ما نحن عليه . قال : فقام فيميون ، فتطهّر وصلى ركعتين ،
    ثم دعا اللّه عز وجل عليها ، فأرسل ريحا ، فجعفتها من أصلها فألقتها . فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه ، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام . قوله : فجعفتها قلعتها ، وقوله : عيل عوله ، يقال : عال الأمر إذا أثقل .

    وعليه قول الفرزدق :
    ترى الغرّ الجحاجح من قريش * إذا ما الأمر في الحدثان عالا

    فمعنى عيل عوله أي غلب غلبة ، وقهرت شدته وجلده .
    ومن وقائع بعض أصحاب شيخنا أبي مدين شعيب بن الحسن رضي اللّه عنه ما حدثنا به أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ صاحبنا ، وهو من سادات القوم ، قال بعض المريدين :

    رأيت في واقعتي الشيخ أبا مدين ، والشيوخ قد أحدقوا به يسألونه عن المعرفة ، فقال لهم :

    إذا تلاشت المعرفة بالمعروف صحّت المعرفة ، ثم قالوا له : صف لنا سرّك ،

    فقال لهم :اسمعوا ولنفسي أسمع :
    يا سرّ سرّي وجهر جهري * يا نور نوري وحياة أمري
    يا قلب قلبي وبحر فكري * ومن به الفلك في البحر يجري
    فأنت تكسو * وأنت تعري
    قال عبد اللّه صاحب الواقعة : ثم أصابتني في واقعتي شبه السنّة ، فرأيت أبا مدين والأشياخ كما كانوا ، فقالوا له : زدنا ، فقال لهم : إنكم تحسبون أني أغيبه ، ثم سكت ، فإذا جملة من الديكة مجتمعون فتطاول واحد منهم وهو يبكي بحنين وتطويل ، فقال له أبو مدين : قل ، فنطق بلسان فصيح : إنكم تحسبون أني أغيبه ، المطبوع في البيت هو فيه ،
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:15

    الجزء التاسع .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء التاسع
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 139 “

    فقال له الشيخ : أين هو ؟ فقال : هو فيه ، فأخذته حالة وهو يقول : هو فيه ، فبهت الحاضرون وتحيروا .
    أنشدنا ابن الأعرابي :
    سقى اللّه حيا بين صارة والحمى * حمى فيه صوب المدجنات الواطر

    أمين وادّ اللّه ركبا إليهم * بخير ووقاهم صروف المقادر


    ولمهيار الديلمي في الشيب :
    أسفت لحلم كان لي يوم بارق * فأخرجه جهل الصبابة عن بعدي
    وما زلت أبكي منذ حلّت بحاجر * قوى جلدي حتى تداعى تجلدي
    تحرّس بأحقاف اللوا عمر ساعة * ولولا مكان الريب قلت له ازدد
    وقل صاحب لي ضلّ بألبان قلبه * لعلك أن يلقاك هاد فيهتدي
    فسلم على ماء به برد غلتي * وظل أراك كان للوصل موعدي
    وقل لحمام البانتين مهنئا * تغني خليّا من غرام وغرّد
    فيا أهل نجد كيف بالغور بعدكم * بقاء تهاميّ يهيم بمنجد
    ملكتم عزيزا رقه فتعطّفوا * على منكر للذل لم يتعود



    وله أيضا من هذا الباب :
    يا ليلتي بحاجر * إن عاد ماض فارجعي
    أرضى بأخبار الريا * ح والبروق اللمع
    وأين من برق الحمى * شائمة بلعلع


    وله أيضا من هذا الباب :
    أودع فؤادي حرقا أودع * ذاتك تؤذي أنت في أضلعي
    وارم سهام الطرف ، أو كفها * أنت بما ترمي مصاب معي
    موقعها القلب وأنت الذي * مسكنه بذاك الموضع

    ومن ثمرات المحبة عند أهلها ما حدثني به عبد الرحمن ، عن أبي بكر ، عن الجيري ، عن ابن باكويه ، عن إبراهيم بن محمد المالكي ، عن يوسف بن أحمد البغدادي ، عن ابن أبي الحواري ، قال : حججت أنا وأبو سليمان الداراني ، فبينما نحن نسير إذ سقطت السطيحة مني ، وكان برد عظيم ، فأخبرت أبا سليمان ، فقال : سلّم وصلّ على محمد ، وقل : يا رادّ الضالة ، ويا هاديا من الضلالة ، ردّ الضالة ، فإذا بواحد ينادي : من ذهبت له سطيحة ، فأخذتها منه ، فقال لي أبو سليمان : لا تتركنا بلا ماء . فبينما نحن نسير إذا برجل


    “ 140 “


    عليه طمران ، أي ثوبان خلقان رثان ، ونحن قد تدرعنا بالفراء من شدة البرد ، وهو يرشح عرقا ، فقال له أبو سليمان : ألا نؤثرك ببعض ما معنا ؟ فقال الرجل : يا داراني الحر والبرد خلقان للّه عز وجل ، إن أمرهما أن يغشياني أصاباني ، وإن أمرهما أن يتركاني تركاني ، يا داراني ، تصف الزهد ، وتخاف من البرد ، أنا شيخ أسيح في هذه البريّة منذ ثلاثين سنة ما انتقضت ولا ارتعدت . يلبسني في البرد فيحا من محبته ، ويلبسني في الصيف برد محبته .

    ثم ولّى ، وهو يقول : يا داراني ، تبكي وتصيح وتستريح على الترويح . فكان أبو سليمان يقول : لم يعرفني غيره .
    قلت : كنت أطلب بيت المقدس ، فدخل عليّ شاب كالعود ، عليه أثر السياحة ، وأنا بمسجد بظاهر بيسان ، وكان صاحبي عبد الرحمن بن علي اللواتي يعمل لي شغلا بين يديّ ، فدنا منا ، وأخذ السكين من يد عبد الرحمن ، فأصلح به نعلا كان له ، ثم قال لي :
    تكون فقيرا وتمشي بعدة ، فقلت له : يا فقير ، تراك قد احتجت إليها ، فلو كانت ما يضرك ؟
    فقال لي : لما احتجت وجدتك ، فأصلحت شأني ، وأراحني اللّه من حملها ، فكن مثلي واتركها ، فإذا احتجت إليها وجدت حاجتك عند مثلك ، وتكون بينها سالم الحال مع اللّه .
    ثم خرج مسرعا ، فطلبته فلم أره حتى الآن . سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، أستغفرك وأتوب إليك .

    موعظة الفضيل بن عياض لأمير المؤمنين هارون الرشيد بمكة زادها اللّه شرفا
    روينا من حديث أبي نعيم ، عن سليمان بن أحمد ، عن محمد بن زكريا العلائي ، عن أبي عمر النحوي ، عن الفضل بن الربيع ، قال : حج هارون الرشيد ، فأتاني ، فخرجت مسرعا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إليّ لأتيتك ، فقال : ويحك قد حاك في نفسي شيء ، فانظر لي رجلا أسأله . فقلت : هاهنا سفيان بن عيينة . قال : امض بنا إليه ، فأتيناه ، فقرعت الباب ، فقال : من ذا ؟ فقلت : أجب أمير المؤمنين ، فخرج مسرعا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسل إليّ لأتيتك ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك اللّه ، فحدثه ساعة ، ثم قال : عليك دين ؟ قال : نعم ، قال : اقض دينه . فلما خرجنا قال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . فقلت له : هاهنا عبد الرزاق ، فذكر مثل ما جرى له مع سفيان .

    وقال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . فقلت : هاهنا الفضيل بن عياض ، قال : امض بنا إليه ، فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها ، قال : اقرع الباب ،


    “ 141 “

    فقرعت ، فقال : من ؟ قلت : أجب أمير المؤمنين ، قال : وما لي ولأمير المؤمنين ؟ فقلت :
    سبحان اللّه ، أما عليك طاعته ؟ فنزل ففتح الباب ، ثم ارتقى إلى الغرفة ، ثم أطفأ السراج ، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت ، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا ، فسبقت كف هارون الرشيد قبلي إليه ، فقال : يا لها من كف ما ألينها ، إن نجت غدا من عذاب اللّه عز وجل .

    فقلت في نفسي : ليكلمنا الليلة كلاما من قلب نقي ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك اللّه ، فقال له : إن عمر بن عبد العزيز لما ولّي الخلافة دعا سالم بن عبد اللّه ، ومحمد بن كعب القرظيّ ، ورجاء بن حيوة ، فقال لهم : إني قد ابتليت بهذا البلاء ، فأشيروا عليّ ، فعدّ الخلافة بلاء ، وعددتها أنت وأصحابك نعمة . فقال له سالم بن عبد اللّه : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فصم عن الدنيا ، وليكن إفطارك منها الموت .

    وقال محمد بن كعبان : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فليكن كبير المؤمنين عندك أبا ، وأوسطهم عندك أخا ، وأصغرهم عندك ولدا ، فوقّر أباك ، وأكرم أخاك ، وتحنن على ولدك .

    وقال رجاء بن حيوة : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكره لنفسك ، ثم متّ إن شئت . فإني أقول لك : يا هارون الرشيد ، إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزلّ فيه الأقدام ، فهل معك رحمك اللّه من يشير عليك بمثل هذا ؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه ، فقلت له : أرفق بأمير المؤمنين ، فقال : تقتله أنت وأصحابك ، وأرفق به أنا ، ثم أفاق فقال له : زدني رحمك اللّه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكى إليه ، فكتب إليه : يا أخي أذكّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد ، وإياك أن ينصرف بك من عند اللّه عز وجل ، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء . فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له : ما أقدمك ؟ قال : خلعت قلبي بكتابك ، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى اللّه ، قال : فبكى هارون بكاء شديدا ، ثم قال : زدني رحمك اللّه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن العباس عم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، أمّرني على إمارة ،
    فقال له : « إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة ، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل » ، فبكى هارون ، وقال : زدني رحمك اللّه ،
    قال : يا حسن الوجه ، أنت الذي يسألك اللّه تعالى عن هذا الخلق يوم القيامة ، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل ، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك ،
    فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من أصبح عنده غش لم يرح رائحة الجنة » ، فبكى هارون ، وقال له : عليك دين ؟ قال : نعم ، لربي ، لم يحاسبني عليه ،



    “ 142 “

    والويل لي إن سألني ، والويل لي إن ناقشني ، والويل لي إن لم ألهم حجتي ، قال : إنما أعني من دين العباد ، قال : إن ربي لم يأمرني بهذا ، وقد قال اللّه عز وجل : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ، فقال له : هذه ألف دينار ، خذها وأنفقها على عيالك ، وتقوّى بها على عبادتك ، فقال : سبحان اللّه ، أنا أدلّك على طريق النجاة ، وأنت تكافئني بمثل هذا ، سلّمك اللّه ووفقك . ثم صمت فلم يكلمنا ، فخرجنا من عنده ، فلما صرنا على الباب قال لي هارون :
    إذ أدللتني على رجل فدلّني على مثل هذا ، هذا سيد المسلمين . فدخلت عليه امرأة من نسائه ، فقالت : يا هذا ، ما ترى ما نحن فيه من ضيق الحال ؟ فلو قبلت هذا المال لفرّجت به عنّا ،
    فقال لها : مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه ، فلما كبر نحروه ، فأكلوا لحمه .
    فلما سمع هارون هذا الكلام قال : ندخل فعسى أن يأخذ المال ، فلما علم الفضيل بنا خرج فجلس في السطح على باب الغرفة ، فجاء هارون فجلس إلى جانبه ، فجعل يكلمه ولا يجيبه . فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء ،
    فقالت : يا هذا ، قد آذيت الشيخ هذه الليلة فانصرف رحمك اللّه .

    وروينا من حديث ابن ودعان ، عن ظاهر بن محمد بن يوسف بن علي بن وسيم ، عن جعفر بن إبراهيم ، عن عبد الكريم بن الهيثم ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن أبي زياد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إنما يوقى الناس من إحدى ثلاث : إما من شبهة في الدين ارتكبوها ، أو شهوة لذة آثروها ، أو غضبة لحمية أعملوها ، فإذا لاحت لكم شبهة فأجلوها باليقين ، وإذا عرضت لكم شهوة فأقمعوها بالزهد ، وإذا عرضت لكم غضبة فأردؤها بالعفو إنه ينادي مناد يوم القيامة : من له أجر على اللّه فليقم ، فيقومون العافون عن الناس . ألم تر إلى قوله تعالى : فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَ اللَّهِ » .
    ومن سماعنا على قول الرضيّ بالنفس :
    أما علم الغادون والقلب خلفهم * بضمّ زفير يصدع القلب ضمّه
    بأن وميض البرق ما لا أشيمه * وإن نسيم الروض ما لا أشمّه


    ومن سماعنا على قوله أيضا بالنفس :
    ولما أبى الإظعان إلا فراقنا * وللبين وعد ليس فيه كذاب
    رجعت ودمعي جازع من تجلدي * يروم نزولا للجوى فيهاب
    وأثقل محمول على العين ماؤها * إذا بان أحباب وعزّ إياب

    وعلى قوله في التوديع أيضا بالنفس :


    “ 143 “

    وإني إذا اصطكت ركاب مطيّكم * وثوّر حاد بالرفاق عجول
    أخالف بين الراحتين على الحشى * وأنظر إني ملتم فأميل
    ومن وقائع بعض الفقراء ، ما حدثنا به أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ المروزيّ بإشبيلية ، قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في الواقعة أبا مدين ، وأبا حامد ، وأبا طالب ، وأبا يزيد ، وخلقا كثيرا من الصوفية ،
    فقال أبو يزيد لأبي مدين : زدنا من كلامك في التوحيد ، فقال : التوحيد هو الحق ، ومنوّر القلب ، ومحرّك الظواهر ، وعلّام الغيوب ، نظر العارفون فتاهوا إذ لم يعمّر قلوبهم إلا هو ، فهم به والهون ، قلوبهم تسرح في رضاه في الحضرة العليّة ، وأسرارهم مما سواه فارغة خليّة ، جالت أسرارهم في الملكوت فلاحظوا عظمته ، وتجلى لقلوبهم فأنطقهم حكمته ، فهو للعارف ضياء ونور ، وقد أشغله به عن الجنة والقصور ، آنسه به فهو جليسه ، وأفناه عنه فتلاشى كثيفة ، فامتزج المعني بالمعنى ، فكان هو .


    ذهبت الرسوم ، وفنيت العلوم ، ولم يبق إذ ذاك إلا الحي القيوم ، وهو معنى المعاني ، والحي الباقي ، وكشف سرّ العارف ما ذا يلاقي من البر والإحسان ، ولذة النظر ، وغيبته عن الأغيار وعن جملة البشر ، تنزّه عن تنزيهه فنزّهه به ، وفني عن الأكوان بمشاهدة ربه ، فعدا عن الأسماء ، وسما عن الصفات ، واضمحلت كليته في مشاهدة الذات .
    هذه علوم ، وهذه أسرار يكاشف بها من هو لها مختار ، فينبتها في الوجود ، فيظهر ما عنده ويحيي بها القلوب ، وينجز له وعده ، فيرويها الحق بالماء الصافي ، ويعالج علّتها بالعلم الشافي ، فيبري بها من الأسقام ، ومن جملة العلل ، ويصلحها ويعلّمها من الأسرار ما لم تكن تعلم ، فعلم العارف موصول المعرفة ، فيظهر له الحق فيألف لمألوفه . فاستمع لهذه العلوم ، واصغ إليها بقلبك ، فكلّ من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .

    ومن باب البلاغة
    يحكى عن يحيى بن خالد ، أنه وصف الفضل بن سهل وهو غلام على دين المجوسية للرشيد ، وذكر أدبه وحسن معرفته ، فعمل على ضمّه إلى المأمون ، فقال ليحيى يوما : أدخل إليّ هذا الغلام المجوسي حتى أنظر إليه .
    فأوصله ، فلما مثل بين يديه ووقف ، تحيّر ، فأراد الكلام فارتجّ عليه ، فأدركته كبوة . فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة ، لما كان يقدّم من إفراط ثنائه عليه ، فانبعث الفضل بن سهل ،
    فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من أيمن الدلالة على فراهة المملوك شدّة إفراط هيبته لسيده ، فقال له الرشيد : أحسنت ، واللّه إن كان سكوتك لتقول هذا ، إنه لحسن ، وإن كان شيء أدركك عند انقطاعك ، إنه لأحسن ،




    “ 144 “

    أو حسن . ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه فيه مقدّما ، فضمّه إلى المأمون .
    حدثني أبو عبد اللّه بن عبد الجليل ، قال : مرّ الحجاج بن يوسف بشخص من عمّاله كان قد صلبه ، فوجد عند خشبته صبيا صغيرا ، فاستنطقه الحجاج فقال له : يا صبي ، ما تقول في هذا الراكب ؟ فقال : أيها الأمير ، هو زرع نعمتك ، وحصيد نقمتك . فسأل عن الغلام ، فوجده ابن ذلك المصلوب ، فقرّبه وأقعده مقعد أبيه .

    وحدثنا أيضا عن الأصمعي ، قال : لقيت بالبادية صبيا لم يدرك الحلم ، فاستنطقته فوجدته بليغا فصيحا ، فاستخبرته هل عنده شيء من عرض الدنيا ، فقال : يا عم ، واللّه ما أملك اليوم درهما واحدا . قال : فقلت له : تودّ أن تكون لك مائة ألف وتكون أحمق ؟ فقال له : لا واللّه يا عم . قلت : ولم ؟ قال : أخاف أن يجني عليّ حمقي جناية تذهب بمالي ، ويبقى عليّ حمقي .

    وحدثنا أيضا من هذا الباب ، قال : كان الرشيد يميل لعبد اللّه المأمون أكثر من ميله إلى محمد الأمين ، فقالت زبيدة ، وهي أمّ الأمين : يا أمير المؤمنين ، إنك تميل إلى المأمون أكثر من ميلك إلى ولدي الأمين . فقال لها : ما أنا حيث ظننت ، ولكني تفرّست في النجابة أكثر من الأمين . قالت : فأحبّ من أمير المؤمنين أن يختبرهما بحضرتي .

    قال : فبعث خلف الأمين أولا ، فقال له : يا محمد ، إني جلست هذا المقام ، وآليت على نفسي لا يسألني منكم أحد شيئا إلا أعطيته ما سأل ، فقال : أسألك كلب بني فلان ، وبازي بني فلان ، فكلب مشهور ، وبازي مشهور . فقال له : لك ذلك ، ثم انصرف .
    فاستدعى المأمون ، فوقف بباب الستر ، فأذن له ، فدخل وسلّم ، فقال له : ادن فدنا ، وخدم ووقف ، فما زال يقول : ادن وهو يدنو ويخدم ، إلى أن وقف بين يديه ، فأمره بزيادة الدنوّ ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، هذا مقام العبد من مولاه . فقال : يا بنيّ ، إني جلست هذا المقام ، وآليت على نفسي لا يسألني أحد منكم على شيء إلا أعطيته ما سأل . قال : فأطرق واغرورقت عيناه بالدموع ، وقال له : يا أمير المؤمنين ، أسألك في الخلافة بعدك ، وأرجو اللّه أن لا يذيقني فقدك . فقال : انصرف .
    وحدثنا أيضا ، قال : مرّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بغلمان يلعبون وفيهم عبد اللّه بن الزبير ، ففرّ الصبيان خوفا من عمر إلا عبد اللّه بن الزبير . فقال له عمر : يا عبد اللّه ، لم لم تفرّ كما فرّ أصحابك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لم أكن على ريبة فأخافك ، ولم أكن في الطريق الضيّق فأوسّع لك .




    “ 145 “


    موعظة
    حدّثنا صاحبنا أيضا أبو عبد اللّه بن عبد الجليل بمكة قال : يحكى أن ملكا من ملوك اليونانيين انتبه من منامه في بعض الغدوات فأتته قيّمة ملبسه بثيابه فلبسها ، وناولته المرآة فرأى شيبة في لحيته فقال : المقراض يا جارية ، فأتته به ، فقصّ الشيبة وناولها إياها ، فتناولتها ووضعتها في كفها وأصغت إليها بأذنها ساعة والملك ينظر إليها ، فقال لها : ما الذي تصغين إليه يا جارية ؟ قالت : أستمع إلى ما تقول هذه الشعرة التي عظم مصابها بمفارقة الكرامة العظمى حين سخطها الملك وأقصاها . فقال لها : فما الذي سمعت من قولها ؟
    قالت : زعم قلبي أنه سمعه تقول كلاما لا يجترئ لساني على النطق به لاتقائي سطوة الملك .
    فقال لها : قولي على حال آمنة وعدم توقّ ما لزمت أسلوب الحكمة .
    قالت : إنها تقول : أيها الملك المسلّط على أمر قصير ، إني ظننت بك البطش والاعتداء عليّ ، فلم أظهر على سطح جسدك حتى بضت وحضنت بيضي ، فأفرخت وأعهدت لبناتي بالأخذ بثأري عهدا إذ كأنهنّ خرجن فجعلن للأخذ بثأري باستئصالك أو تنغيص لذتك وتنحيف قوّتك حتى تعدّ الهلك راحة . فقال : اكتبي كلامك هذا ، فكتبته في صحيفة فناولته إياها .

    فتأملها مرارا ، ثم قام ودخل بيت النسّاك ولبس زيّ النسك ، وترك الملك حتى لحق بربه .
    وأنشدني في هذا المعنى صاحبنا علي بن محمد القفصيّ :
    وناذرة بالشيب حلّت بعارضي * فبادرتها بالنتف خوفا من الحتف
    فقالت على ضعفي استطلت ووحدتي * رويدك للجيش الذي جاء من خلفي

    ومن هذا الباب ما حدثنا أيضا به صاحبنا أبو عبد اللّه قال : دخلت حرقة بنت أبي قابوس النعمان بن المنذر ابن ماء السماء على سعد بن أبي وقاص ، وهو بالقادسية إذ ذاك مع جملة من جواريها وعليهن المسوح السود والصلبان صلت البنود ، فسلمن عليه ، فلم يميز حرقة من بين جواريها لمشاركتها إياهن في الزيّ وكنّ رواهب ، فقال سعد : أفيكنّ حرقة ؟

    فقال : ها أنا ذه ، فقال : أنت حرقة ، فقالت : فما تكرارك استفهامي ، اعلم أيها الأمير أن الدنيا دار قلعة وزوال ، فما تدوم على حال ، تنتقل بأهلها انتقال ، وتعقبهم حالا بعد حال ، وإنا كنا ملوك هذه الأرض ، يجبى إلينا خراجها ، ويطيعنا أهلها ، فدنا مدى المدة ، وزوال الدولة ، فلما أدبر الأمر ، وصاح بنا صائح الدهر ، فصدع عصانا ، وشتت ملانا ، وكذا الدهر يا سعد ، إنه ليس من قوم أتحفهم بفرحة إلا أعقبهم بقرحة ،
    وأنشدت :
    بينا نسوس الناس والأمر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف
    فأفّ لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلّب تارات بنا وتصرّف


    “ 146 “

    قال : فبينما هي تخاطب سعدا رضي اللّه عنه إذ دخل عمرو بن معدي كرب ، فقال :
    أنت حرقة التي كانت تفرش لك الأرض من قصرك إلى بيعتك بالديباج المبطن بالوشي ؟
    قالت : نعم ، قال لها : ما الذي دهمك ، وأذهب محمود شيمك ، وغوّر ينابيع نعمك ، وقطع سطوات نقمك ؟ قالت : يا عمرو ، إن للدهر عثرات تلحق السيد من الملوك بالعبد المملوك ، وتخفض ذا الرفعة ، وتذلّ ذا النعمة .
    وإن هذا أمر كنا ننتظره ، فلما حل بنا لم ننكره ، فسألها سعد ، فيما ذا قصدت له ؟ فاستوصلته ، فوصلها وقضى حوائجها ، فلما انفصلت عنه سئلت ما ذا لقيت منه ؟

    فأنشدت تقول :
    صان لي ذمّتي وأكرم وجهي * إنما يكرم الكريم الكريم

    وحدثنا أيضا قال : قال الأصمعيّ : بينما أطوف بالبيت إذ بجارية متعلقة بأستار الكعبة
    وهي تنشد وتقول :
    يا ربّ إنك ذو أمن ومغفرة * دارك بعفوك أرواح المحبّينا
    الذاكرين الهوى ليلا إذا هجعوا * والنائمين على الأيدي مكبّينا
    يا ربّ كن لهم عونا إذا ظلموا * واعطف بقلب الذي يهوون آمينا

    قال : فقلت : يا جارية ، أفي هذا المقام ، وحول هذا البيت الحرام تذكرين الهوى ؟
    قالت : أو تعرف الهوى ؟ قلت : وأنت تعرفينه ؟ قالت : بليت به صغيرة ، وأحطت به خبرا كبيرة . قلت : صفيه لي . قالت : جلّ أن يخفى ، ودق أن يرى ، فهو كامن ككمون النار في الحجر ، إن قدحته أورى ، وإن تركته توارى . قال الأصمعي : فما سمعت من وصفه بمثل ما وصفته .

    وحدثنا محمد بن سعيد رحمه اللّه ، قال : قال وهب بن ناجية الرصافي : كنت أحد من وقعت عليه التهمة في مال مصر أيام الواثق ، فطلبني السلطان طلبا شديدا حتى ضاقت عليّ الرصافة وغيرها ، فخرجت إلى البادية مرتادا رجلا عزيز الدار ، منيع الجار ، أعوذ به ، وأنزل عليه ، فبينما أنا أسير إذ رأيت خياما ، فعدلت إليها ، فملت إلى بيت منها مضروب وبفنائه رمح مركوز ، وفرس مربوط ، فدنوت فسلّمت ، فردّ عليّ نساء من رواء السجف ، وقالت لي إحداهن : اطمئن يا حضريّ ، فنعم مناخ الضيفان بواك القدر ومهدك السفر .

    قلت : وأنّى يطمئن المطلوب ، أو يأمن المرغوب ، من دون أن يأوي إلى جبل يعصمه ، أو مأمن ، أو مفزع يمنعه ، وقليلا ما يهجع من السلطان طالبه والخوف غالبه .
    قالت : لقد ترجم لسانك عن ذنب عظيم ، وقلب صغير ، وإيم اللّه لقد حللت بفناء رجل لا يضام بفنائه أحد ، ولا يجوع بساحته كبد ، هذا الأسود بن قتان ، أخواله كعب ، وأعمامه شيبان ،



    “ 147 “


    صعلوك الحي في ماله ، وسيدهم في حاله ، وسندهم في فعاله ، صدوق الجوار ، وقود النار ، وبهذا وصفته إمامة بنت خزرج حيث تقول :
    إذا شئت أن تلقى فتى لو وزنته * بكل معديّ وكل يماني
    وفا بهما فضلا وجودا وسؤددا * وربّا فذاك الأسود بن قتان
    فتى لا يرى في ساحة الأرض مثله * ليوم ضراب أو ليوم طعان
    قال : فقلت : يا جارية ، وأنّى لي به ؟ فقالت : يا خادم ، مولاك ، فلم تلبث أن جاءت وهو معها في جماعة من قومه ، وقال : أي المنعمين علينا أنت ؟ فسبقتني المرأة وقالت : يا أبا المرهف ، هذا رجل بنت به أوطانه ، وأزعجه زمانه ، وأوحشه سلطانه ، وقد ضمنّا له ما يضمن لمثله على مثلك . قال : بل اللّه قاك ، أشهدكم يا بني عمي ، أن هذا الرجل في جواري وفي ذمتي ، فمن آذاه فقد آذاني ، ومن كاده فقد كادني ، وأمر ببيت فضرب إلى جانبه .


    وقال : هذا بيتك وأنا جارك وهؤلاء رجالك . فلم أزل بينهم في خفض عيش حتى سرت عنهم .
    أنشدني يونس بن يحيى ، قال : أنشدني أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي بن محمد الطائي ، قال : أنشدني أبو حفص عمر بن محمد الشيرازي ، قال : أنشدني القاضي أبو علي الحسن بن علي بن محمد الوحشي ،
    قال : أنشدنا الفضل بن أحمد الحصيني لبعضهم :
    أتلعب بالدعاء وتزدريه * وما يدريك ما فعل الدّعاء
    سهام الليل لا تخطي ولكن * لها أمد وللأمد انقضاء
    وحدثني يونس بن يحيى ، قال : أنبأنا محمد بن محمد ، قال : أنا أبو بكر محمد بن منصور السمعاني ، قال : أخبرنا أبو منصور أحمد بن الحسين بن علي العموري ، حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن حمدان البصري ، انا بشر بن أحمد المهرجاني ، أنا أبو جعفر أحمد بن الحسن الحذّا ، انا بعض أصحابنا ، عن عبد الأعلى بن حماد البوسيّ ، قال :
    دخلت على المتوكل فقال : يا أبا يحيى ، قد هممنا أن نصلك بخير فقد أفعت الأيام ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، سمعت مسلم بن خالد المكي يقول : من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة ، ثم قلت : أفلا أنشدك بيتين قالهما بعض الشعراء ؟ قال : ما هما ؟

    فأنشدته :
    لأشكرنك معروفا هممت به * إن اهتمامك بالمعروف معروف
    ولا ألومك إن لم يمضه قدر * فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
    قال : فاستحسنهما وكتبهما بيده من إعجابه لهما ، وأمر لي بجائزة .



    “ 148 “



    روينا من حديث الهاشمي بسنده إلى ابن عباس رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أكثر واذكر هازم اللذات ، فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأجرتم ، وإن ذكرتموه في غنى بغّضه إليكم فجدتم به فأثبتم أن ذكر الموت قاطع الآمال ، والليالي مدنيات الآجال ، وإن المرء بين يومين : يوم قد مضى أحصى فيه عمله فختم عليه ، ويوم قد بقي لا يدري لعله لا يصل إليه ، وإن العبد عند خروج نفسه ، وحلول رمسه ، يرى جزاء ما أسلف ، وقلة غناء ما أخلف ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه » .

    لما قرأنا هذا الحديث على شيخنا الإمام اللغوي الأديب أبي ذرّ مصعب بن محمد بن مسعود الخشني ، ثم الحياني ، قال لنا : هازم اللذات بالمعجمة ،
    وقال : معناه قاطع ، هكذا رواه لنا .

    موعظة بعض الصالحين لعبد الملك
    روينا من حديث ابن مروان ، عن إبراهيم الحربي ، عن الرياشي ، عن الأصمعي ، قال : خطب عبد الملك بن مروان بمكة ، لما حجّ يوما ، فلما صار إلى موضع العظة ، قام إليه رجل فقال : مهلا ، إنكم تأمرون ولا تؤمرون ، وتنهون ولا تنهون ، أفنفتدي بسيرتكم في أنفسكم ، أم نطيع أمركم بألسنتكم ؟ فإن قلتم اقتدوا بسيرتنا ، فأين وكيف وما الحجة ؟

    وكيف الاقتداء بسيرة الظلمة ؟ وإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا ، فكيف ينصح غيره من يغشّ نفسه ؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، فعلام قلّدناكم أزمّة أمورنا ؟ أما علمتم أن فينا من هو أفصح منكم بفنون العظات ، وأعرف بوجوه اللغات ؟ فتلجلجوا عنها ، وإلا فأطلقوا عقالها يبتدر إليها الذين شردتموهم في البلدان . إن لكل قائم يوما لا يعدوه ، وكتابا بعده يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .

    روينا من حديث ابن الخطاب ، قال : قال محمد بن أحمد بن عمر الزيبقي ، ثنا محمد بن سليمان الفرار ، عن أبي بكر الحنفي ، عن بكر بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد بن أبي وقاص في إبل وغنم ، فأتاه ابنه عمر ، فلما رآه قال : أعوذ باللّه من شر هذا الراكب . فلما انتهى إليه قال : يا أبت ، أرضيت أن تكون أعرابيا في إبلك وغنمك ، والناس يتنازعون الملك ؟ قال : فضرب سعد صدر عمر بيده
    وقال :اسكت يا بني ، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إن اللّه يحب العبد التقي الغني الخفي » .
    وحدثنا بعض شيوخنا من أهل الأدب والتاريخ ، رحمه اللّه ، في بعض مجالسه ،



    “ 149 “
    وكان حسن المناظرة ، قال : لما كان من أمر عبد الرحمن بن الأشعث الكندي ما كان ، قال الحجاج : اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي ، في الأسرى أو في القتلى ، فطلبوه فوجدوه في الأسرى . فلما دخل على الحجاج ، قال له : من أنت ؟ قال : أنا شهاب بن حرقة . قال :
    واللّه لأقتلنك . قال : لم يكن الأمير بالذي يقتلني . قال : ولم ويلك ؟ قال : لأن فيّ خصالا لا يرغب فيهنّ إلا أمير . قال : وما هنّ ؟ قال : ضروب الصحفة ، هزوم للكثيبة ، أحمي الجار ، وأذبّ عن الدمار ، وأجود في العسر واليسر ، غير بطيء عن النصر . قال الحجاج :
    ما أحسن هذه الخصال . فأخبرني بأشد شيء مرّ عليك . قال : نعم ، أصلح اللّه الأمير .

    شعر
    بينا أنا أسير * ومركبي يسير
    في عصبة من قومي * في ليلتي ويومي
    يمضون كالأجادل * في الحرب كالبواسل
    أنا المطاع فيهم * في كل ما يليهم
    فسرت خمسا عوما * وبعد خمس يوما
    حتى وردت أرضا * ما قد ترام عرضا
    من بلد البحرين * عند طلوع العين
    فجئتهم نهارا * ألتمس المغارا
    حتى إذا كان السحر * من بعد ما غاب القمر
    إذا أنا بعير * بقوها حقير
    موفورة متاعا * مقبلة سراعا
    فصلت بالسّنان * مع سادة فتيان
    فسقتها جميعا * أحثّها سريعا
    أريد رمل عالج * أنعج بالعناعج
    أسير في الليالي * خرقا بعيدا خالي
    وقد لقينا تعبا * وبعد ذاك نصبا
    حتى إذا هبطنا * من بعد ما علونا
    عنت لنا سدانه * قد كان فيها عانه
    فرمتها بقوسي * في مهمه كالترس



    “ 150 “


    حتى إذا ما أمعنت * في القفر ثم درمت
    وردت قصرا منهلا * في جوفه طام خلا
    وعنده خيمة * في جوفها نعيمة
    غريرة كالشمس * فاقت جميع الإنس
    نعجت مهري عندها * حتى وقفت معها
    حيّيت ثم ردّت * في لطف وحيّت
    فقلت يا لعوب * والطفلة العروب
    هل عندكم قراء * إذ نحن بالعراء
    قالت نعم برحب * في لطف وقرب
    اربع هنا عتيدا * ولا تكن بعيدا
    حتى يجيك عامر * مثل الهلال الزاهر
    فعجت عن قريب * في باطن الكثيب
    حتى رأيت عامرا * يحمل ليثا حادرا

    على عتيق سابح * كمثل طرف اللامحقال : وكان الحجاج متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : ويحك دعني من السجع والرجز وخذ في الحديث ، قال : نعم أيها الأمير ، ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة ، وأوقد عليها نارا ، وشقّ عن بطن الأسد ، وألقى مراقه في النار ، وجعلت أصلح اللّه الأمير أسمع للحم الأسد تشديدا ، فقالت له نعيمة : قد جاءنا ضيف وأنت في الصيد ، قال : فما فعل ؟ فقالت :

    ها هو ذاك بظهر الخيمة ، فأومت إليّ فأتيتها ، فإذا أنا بغلام أمرد كأن وجهه دائرة القمر ، فربط فرسي إلى جنب فرسه ، ودعاني إلى طعامه فلم أمتنع من أكل لحم الأسد لشدة الجوع ، فأكلت أنا ونعيمة منه بعضه ، وأتى الغلام على آخره ، ثم مال إلى زقّ فيه خمر فشرب وسقاني ، فشربت ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره . فبينما نحن كذلك إذ سمعنا وقع حوافر خيل أصحابي ، فقمت وركبت فرسي ، وتناولت رمحي ، وسرت معهم ، ثم قلت : يا غلام ، خلّ عن الجارية ولك ما سواها ، فقال : ويحك احفظ الممالحة . قلت : لا بد من الجارية . فالتفت إليها وقال لها : قفي وانظري فعلي في هؤلاء اللئام . ثم قال : يا فتيان ، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟ فبرز إليه رجل من أصحابي ، فقال له الغلام : من أنت ؟ فلست أقاتل إلا كفؤا . قال : أنا عاصم بن كلبة السعديّ ، فشدّ عليه وأنشأ يقول :إنك يا عاصم بي لجاهل * إذ رمت أمرا أنت عنه نأكل



    “ 151 “


    إني كميّ في الحروب بازل * ليث إذا اصطك الليوث باسل
    ضرّاب هامات العدا منازل * قتال أقران الوغى مقاتل
    قال : ثم طعنه طعنة فقتله ، ثم قال : يا فتيان ، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟
    فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام : من أنت ؟
    قال : أنا صابر بن حرقة السعدي ، فشدّ عليه ،

    وأنشأ يقول :
    إنك والإله لست صابرا * على سنان يجذب المقادرا
    ومنصل مثل الشهاب باترا * في كفّ قرن يمنع الحرائرا
    إني إذا ما رمت أن أقاسرا * يكون قرني في الحروب باترا

    ثم طعنه طعنة فقتله ، ثم قال : هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟ فلما رأيت ذلك هالني أمره ، وأشفقت على أصحابي ، فقلت : احملوا عليه حملة رجل واحد ،

    فلما رأى ذلك أنشأ يقول :
    الآن طاب الموت ثم طابا * إذ تطلبون رخصه كعابا
    ولا نريد بعدها عتابا * فدونها الطعن مع الضرابا
    فركبت نعيمة فرسها ، وأخذت رمحها ووقفت ، فما زال يجادلنا ونعيمة حتى قتل منا عشرين رجلا ، فأشفقت على أصحابي ، فقلت : يا عامر ، بحق الممالحة يا غلام قد قبلنا العافية ، ثم قال : ما كان أحسن هذا لو كان أولا ، وتركنا وسالمنا . ثم قلت : يا عامر ، بحق الممالحة من أنت ؟ قال : عامر بن حرقة الطائي وهذه ابنة عمي ، ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ، ما مرّ بنا أنسي غيركم ، فقلت : من أين طعامكم ؟ قال : من حشرات الطير والوحش والسباع ، قلت : من أين شرابكم ؟ قال : الخمر ، أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين ، قلت : إن معي مائة من الإبل موفورة متاعا ، فخذ منها حاجتك ، قال : لا حاجة لي فيها ، ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه ، فارتحلنا عنهم منصرفين .

    قال الحجاج :
    الآن طاب قتلك يا عدو اللّه لغدرك بالفتى ، قال : قد كان خروجي على الأمير أصلحه اللّه أعظم من ذلك ، فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني بغيره ، فأطلقه ووصله إلى بلاده . قلت : وهذا عامر بن حرقة الطائي منا ،

    وربما قد ذكرته في بعض قصائدي مع المشاهير من أجدادي في المفاخرة .

    ولنا في هذا الباب شعر :
    أشدّ على قاسي اللجام سناني * فيكرع من حوض الدماء سناني
    فأروي به من حوض كل غشمشم * يحمي قرونته ليوم طعان


    “ 152 “
    فيرجع ريّانا وقد كان يانعا * كما عاد مبيضّا لأحمر قاني
    حتى إذا ضاق المجال على فتى * ضربت على رأس الحسام بناني
    وجرّدته من غمده وكسوته * غمدا من الهامات والأبدان

    وحدثني بعض الأدباء ، عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قال : قعد الحجاج يوما في سكرة له فيها جماعة من الناس من جملتهم حميد الأرقط ، وكان شاعرا ، فقام وأنشد قصيدة يصف فيها الحرب ، فقال له الحجاج : أما القول فقد أجدته ، وإني سائلك يا حميد عمّا ذا يسأل الأمير ؟ قال : هل قاتلت قط ؟ قال : لا أيها الأمير إلا في النوم ، فقال له : فكيف كانت وقعتك ؟

    قال : انتبهت وأنا منهزم وقلت :
    يقول لي الأمير بغير جرم * تقدّم حين جدّ بنا المراسي
    وما لي أن أطعتك من حياة * وما لي غير هذا الرأس رأسي
    قيل لبعضهم : ما لك لا تغزو ؟ قال : واللّه إني لأبغض الموت على فراشي ، فكيف أذهب إليه ركضا ؟



    مثل
    احذر من غراب ، وأجبن من صرصار . ويقال : من صافر . ويقال : أجبن من المنزوف ضرطا .
    قال أبو ذرّ : كان من حديثه أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل ، فتزوجت واحدة منهن رجلا كان ينام إلى الضحى ، فإذا انتبه ضربنه ، وقلن له : قم فاصطبح ، فيقول : العادية نبهتني . فلما رأين ذلك يكثر منه سررن به ، وقلن : إن صاحبنا واللّه شجاع جريء ، ألا ترين إلى ما يقول كلما نبّهناه ؟ فقالت إحداهن : تعالين نجربه ، فأتينه وأيقظنه ، فقال : أو لعادية نبهتني ؟ فقلن له : نواصي الخيل معك ،
    فجعل يقول :الخيل الخيل ، ويضرّط حتى مات ، فضرب به المثل .

    يقول الغرّارة :
    ما كان ينفعني مقال نسائهم * وقتلت خلف رجالهم لا يبعد

    وقال الآخر عن فراره يعتذر :
    وما جبنت خيلي ولكن تذكرت * مرابطها من بر بعيص وميسرا
    وقيل لبعض الجبناء : انهزمت فغضب الأمير عليك ، قال : لغضب الأمير وأنا حي أحب إليّ من أن يرضى عليّ وأنا ميت .
    حدثنا بعض الأدباء ، قال : في أخبار عمرو بن معدي كرب الزبيدي صاحب
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:16

    الجزء العاشر .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء العاشر
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 153 “

    الصمصامة ، وكان صاحب غارات ، مذكورا بالشجاعة ، مشهورا في العرب ، فذكر أنه هجم في بعض غاراته على شابة جميلة منفردة ، فأخذها ، فلما أمعن بها بكت ، فقال : ما يبكيك ؟

    قالت : أبكي لفراق بنات عمي ، هن مثلي في الجمال ، وأفضل مني ، خرجت معهن فانقطعنا من الحي . قال : وأين هنّ ؟ قالت : خلف ذلك الجبل ، وددت إذا أخذتني أنك تأخذهن معي ، وهن يودّن ذلك ، فأعد إلى الموضع الذي وصفته لك . فمضى عمرو إلى هناك ، فما شعر حتى هجم عليه فارس شاكي السلاح ، فعرض عليه المصارعة فصرعه الفارس ، ثم عرض عليه ضروبا من المناوشة فغلبه الفارس في جميع ذلك كله ، فسأله عمرو عن اسمه ، فإذا هو ربيعة بن مكرم الكنانيّ ، فاستنقذ الجارية منه .



    حدثنا محمد بن قاسم ، ثنا عمر بن عبد الحميد ، قال : قال لي بعض الرجال : جلس رجل من المسرفين على نفسه في مجلس راحته مع ندمائه ، ثم دعا بغلامه فدفع إليه أربعة دراهم وأمره أن يشتري بها من المشمومات ما يليق بمجلس راحته ، فمرّ الغلام بمجلس منصور بن عمار وهو يسأل لفقير بين يديه ، فسمعه يقول : بقيت لهذا الفقير أربعة دراهم فمن دفعها له دعوت له أربع دعوات ، فدفع الغلام له الدراهم ، فقال له منصور : ما الذي تريد أن أدعو لك به ؟ فقال : سيدي ، أريد أن أتخلص منه ، فدعا له بذلك . فقال : وما الذي تريد أن أدعو لك به ثانية ؟ فقال : أريد أن تخلف هذه الدراهم ، فدعا له . قال : فما الدعوة الثالثة ؟ قال : أحب أن يتوب اللّه على سيدي ، فدعا له بذلك ، وسأله عن الرابعة فقال :

    أحب أن يغفر اللّه لي ولسيدي ولك وللقوم الحضور ، فدعا منصور بذلك ، وانصرف الغلام راجعا إلى سيده وقد أبطأ عليه ، فقال له سيده : لم أبطأت عليّ ؟ وأين الحاجة التي أمرتك بشرائها ؟ فقص عليه الغلام القصة ، فقال له : أخبرني ما الذي دعا لك به ؟ فقال : سألته أن يدعو اللّه لي بالعتق ، فقال له : اذهب فأنت حر لوجه اللّه تعالى . فما الثانية ؟ قال : إن تخلف عليّ الدراهم . فقال له : لك من مالي أربعمائة درهم ، فما الثالثة ؟ قال : أن يتوب اللّه عليك . قال : فإني أشهد اللّه أني تائب . فما الرابعة ؟ قال : أن يغفر اللّه لي ولك ، وللمذكور ولأهل مجلسه . قال : ذلك للّه عز وجل . فلما كان الليل وقف للرجل هاتف في منامه ، فقال له : يقول اللّه لك : أنت فعلت ما إليك وأنت عبد ضعيف ، أتراني ما أفعل ما كان إليّ ، وأنا المولى الكريم ، قد غفرت لك ، وللغلام ، وللمذكور ، ولأهل مجلسه .



    ذكر نبذ من الأنساب
    وانتهاء بكل نسب إلى الجد الذي مجتمع فيه صاحب ذلك النسب برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .



    “ 154 “


    فمن ذلك : قحطان ، وهو أبو اليمن كلها ، وإليه مجتمع نسبها ، وهو ابن غابر ، هنا يجتمع .
    ومن ذلك : جرهم ، وهو ابن قحطان بن عامر ، وقيل : هو جرهم بن يقطن بن عابر ، هنا يجتمع .
    عاد : وهو ابن عوص بن إرم بن سام ، هنا يجتمع .
    ثمود ، وجديس : ابنا غابر بن إرم بن سام ، هنا .
    طسم ، وعملاق ، أميم ، وأميم ، بضم الهمزة وفتح الميم ، وقيل : بكسر الهمزة والميم وتشديدهما على وزن سكين ، وهؤلاء الثلاثة أبناء لأولاد ابن سام هنا ، وهم عرب كلهم .
    عك : هو ابن عدنان هنا .
    أشعر : هو ابن بنت ابن أدد بن يزيد بن مهسع بن عمرو بن غريب بن يشخب بن يزيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا . ويقال : إنما هو أشعر بن سبا بن يشخب .
    مدحج : قال بعض النسّابين : ليس مدحج أبا ولا أما ، وإنما هو اسم أكمة ولدت عليها دلة بنت منشجان فسمّيت مدحج ، فلما ولدت طيبا ، وهو جلمة بن مالك ، فقيل :
    طيّ ، وهو الذي سمّي مدحج . وقد قيل : إن هذا مالك هو أبو شعر ، فأشعر على هذا هو أشعر بن مالك ، ومالك هو مدحج فطيّ ، ومالك ، ابنا أزد ابنا زيد بن يشخب . وقيل : إنما هو زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا . وقد قيل : طيّ بن أزد بن مالك بن أزد بن زيد بن كهلان . فهذا نسب طي قد ذكرناه .

    سليم : هو ابن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيسان بن غيلان بن مضر هنا .
    غسان : هو اسم ماء بسدّ مأرب باليمن ، وقيل : هو ماء بالمشلّل ، فسمّوا به قبائل شربوا منه ، من ولد مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، وسمّي سبا لأنه أول من سبى العرب ، ابن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر ، وإليه ترجع الأزد ، والأوس ، والخزرج ، وغيرهم .

    فأما الأوس ، والخزرج ، فهما ولدان لحارثة بن ثعلبة بن عمر بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر هنا .



    “ 155 “



    وأما الأزد ، فهو ابن الغوث ، وقد تقدم سياق النسب .
    أنشدني ابن إسحاق :
    أما سألت فإنا معشر نجب * الأزد نسبتنا والماء غسان
    بالسين والتاء معا .
    قضاعة ، وضباعة ، وإياد : أولاد معدّ هنا .
    وأم قضاعة الآخر ، فهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا الأكبر بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
    جهينة : هو ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الجان بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
    لخم : هو ابن عديّ بن حارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن مهسع ، وقد تقدم سياق النسب في الشعر . وقيل : إنما هو لخم بن عدي بن عمرو بن سبا ، ونسب سبا قد ذكر ، والاجتماع بالأصل في غابر .
    ربيعة : يجتمع أيضا في غابر ، وربيعة هو نضر بن أبي حارثة بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد بن الغوث ، وقد ذكر نسب الأزد بن الغوث .
    بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن قصيّ بن جليدة بن أزد بن ربيعة بن نزار هنا .
    ويقال : أقصى بن دعما بن جليدة .

    ثقيف : اسمه قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر هنا . وقيل : هو قيس بن الثبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أقصى بن دعما بن إياد بن معدّ هنا .



    قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :
    قومي إياد لو أنهم أمم * ولو أقاموا فتهزل النعم
    قوم لهم ساحة العراق إذا * ساروا جميعا والقطّ والقلم


    وقال أيضا :
    فإن ما تسألي عني لبيبا * وعن نسبي أخبّرك اليقينا
    فإنا للبيب أبي قيس * لمنصور بن يقدم الأقدمينا
    قيس ، هو ابن غيلان بن مضر هنا .



    “ 156 “

    جعدة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن غيلان بن مضر هنا .
    هذيل بن مدركة هنا .
    خولان ، هو ابن عمرو بن الحارث بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبا بن يعرب بن يشخب بن قحطان بن غابر هنا .
    وقيل : بل هو خولان بن عمرو بن سعد العشيرة بن مدحج .
    وقيل : بل هو خلاون بن عمرو بن مرة بن أدد بن مهيع بن عمرو بن عريب بن سعد بن كهلان بن سبا .
    والعمالقة منسوبون إلى عملق ، ويقال : عمليق ، لفتان ، وقد نسبناه .
    جشم ، هو ابن وائل بن زيد بن قيس بن عامرة بن مرة بن مالك بن الأوس ، وقد ذكرنا نسب أوس .
    كلب ، هو ابن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمرو بن الجاف بن قضاعة ، وقد ذكرنا نسب قضاعة .
    همدان ، واسم همدان حلوان بن عمرو بن زيد بن ربيعة بن أوسلة بن الحيان بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، ويقال له : أوسلة بن زيد بن أوسلة الخا بن زيد بن أوسلة بن حيان بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا ، وقد تقدم اتصال سبا بغابر وهناك يجتمع .
    خثعمة ، هو الأسد بن الغوث يشكر بن بشير بن صعب بن دهمان بن نضر بن زهران بن الحارث بن كعب بن عبيد اللّه بن مالك بن الأسد بن الغوث ، وقد قيل :
    خثعمة بن ميسر بن يشكر بن صعب بن نضر بن زهران بن الأسد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشخب بن يعرب بن قحطان بن غابر ، وهناك يجتمع وغابر وغبيران ، لغتان ، هو ابن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام .
    وقد قيل في سياق نسب خثعمة بدل صعب كعب ، انتهى المجلس .
    موعظة شيبان الراعي لهارون الرشيد بمكة
    حدثنا يونس بن سبا ، عن أبي بكر بن أبي منصور ، عن محمد بن عبد الملك


    “ 157 “

    الأسدي ، عن الحسن بن جعفر السلماسي ، ثنا المعافى بن زكريا ، عن محمد بن مخلد ، عن حمّاد بن مؤمل ، ثنا زيد بن العباس قال : لما حجّ هارون الرشيد فقيل له : يا أمير المؤمنين ، قد حجّ شيبان الراعي ، قال : اطلبوه لي ، فطلبوه ، فأتوا به ، فقال له : يا شيبان عظني ، قال : يا أمير المؤمنين ، أنا رجل ألكن لا أفصح بالعربية ، فجئني بمن يفهم كلامي حتى أكلمه ، فأتى برجل يفهم كلامه ، فقال له بالقبطية : قل له : يا أمير المؤمنين ، إن الذي يخوّفك قبل أن تبلغ المأمن أنصح لك من الذي يؤمّنك قبل أن تبلغ الخوف ، فقال له : أي شيء تفسير هذا ؟ قال : قل له : يا أمير المؤمنين ، الذي يقول لك اتق اللّه فإنك رجل مسؤول عن هذه الأمة ، استرعاك اللّه عليها ، وقلّدك أمورها ، وأنت مسؤول عنها ، فاعدل في الرعية ، واقسم بالسويّة ، وانفر في السرية ، واتق اللّه في نفسك ، هذا هو الذي يخوّفك ، فإذا بلغت المأمن أمنت ، هو أنصح لك ممن يقول لك أنت من أهل بيت مغفور لهم ، وأنت قرابة من قرابة نبيكم ، وفي شفاعته ، فلا يزال يؤمّنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت .

    قال :

    فبكى هارون حتى رحمه من حوله ، قال : زدني ، قال : حسبك إن وقفت .
    روينا من حديث ابن ودعان ، قال : حدثنا علي بن عبد الواحد ، عن أبي الفتح العكبري ، عن العباس بن محمد ، عن محمد بن زكريا ، عن عبد اللّه بن مسلمة القعنبي ، عن مالك بن أنس ، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من أولياء اللّه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون » ؟ فقال : « الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، واهتموا بأجل الدنيا حين اهتم الناس بعاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم ، فما عرض لهم من نائلها عارض إلا رفضوه ، ولا خدعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فما يجدّدونها ، وخربت بينهم فما يعمرونها ، وماتت في صدورهم فما يحيونها ، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، ونظروا إلى أهلها صرعى ، وقد حلّت بهم المثلات ، فما يرون أمانا دون ما يرجون ، ولا خوفا دون ما يحذرون » .

    روينا من حديث محمد بن إسحاق ، عن محمد بن شهاب ، عن عبد اللّه بن عتبة ، عن ابن مسعود ، عن عبد اللّه بن عباس ، أنه قال : كان بين آدم ونوح عشرة آباء ، وذلك ألف ومائتا سنة . وبين نوح وإبراهيم عليهما السلام عشرة آباء ، وذلك ألف ومائة واثنان وأربعون سنة . وبين إبراهيم وموسى سبعة آباء ، وذلك خمسمائة وخمس وستون سنة .
    وبين داود وعيسى ألف وثلاثمائة وخمسون سنة ، وهي الفترة .



    “ 158 “

    وعدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف نبي ، وأربعة وعشرون ألف نبي ، الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر ، منهم خمسة عبرانيون : آدم ، وشيث ، وإدريس ، ونوح ، وإبراهيم .
    وخمسة من العرب : هود ، وصالح ، وإسماعيل ، وشعيب ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم .
    وأرسل بين موسى وعيسى ألف نبي من بني إسرائيل ، سوى من أرسل من غيرهم ، يريد بقوله أرسل مؤيدين لشريعة موسى لا ناسخين . وكان بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام أربعة من الرسل ، وهو قوله تعالى : إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ، وأما الرابع فهو خالد بن سنان ، واللّه أعلم فيما أحسبه ، وهو خالد بن سنان بن غيث العبسي . وعاشت مريم بعد رفع عيسى خمسين سنة ، وكان عمرها ثلاثا وخمسين سنة . وصلّى شيث على أبيه آدم بأمر جبريل ، وكبّر عليه أربعا وتسعين تكبيرة .


    وأما أصحاب الأحلام ، والآداب ، والعلم ، أربعة : العرب ، والفرس ، والروم ، والهند ، والباقون همج .
    وأولو العزم من الرسل ثلاثة : نوح ، وإبراهيم ، ومحمد ، عليهم الصلاة والسلام .
    وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى .
    والكتب التي أنزلت على الأنبياء ، مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل منها على شيث خمسون صحيفة ، وعلى موسى التوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين القرآن .

    ذكر نسب تنصّر النعمان بن المنذر ، ورفعه يوم بؤسه ، ووفاء الطائي ، وفضل شريك بن عمير
    أخبرنا بعض الأدباء من إخواننا من سيس ، أن النعمان بن المنذر ركب في يوم بؤسه ، وكان له يومان : يوم بؤس ، ويوم نعيم ، لم يلقه أحد في بؤسه إلا قتله ، ولا في يوم نعيمه أحد إلا حباه وأعطاه ، فاستقبله يوم بؤسه أعرابي من طيّ ، فأراد قتله ، فقال : حيّا اللّه الملك ، إن لي صبية صغارا لم أوص بهم إلى أحد ، فإن رأى الملك في أن يأذن لي في إتيانهم ، وأعطيه عهد اللّه أن أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي في يده . فرقّ له النعمان وقال له : لا ، إلا أن يضمنك رجل ممن معنا ، فإن لم تأت قتلناه . وكان مع النعمان شريك بن عمرو بن شراحيل ، فنظر إليه الطائي وقال :
    يا شريك بن عمير * هل من الموت محاله


    “ 159 “



    يا أخا كل مصاف * يا أخا من لا أخا له
    يا أخا النعمان فيك ال * يوم عن شيخ علاله
    ابن شيبان قتيل * أحسن للّه فعاله
    فقال شريك : هو عليّ ، أصلح اللّه الملك . فمضى الطائي وأجّل له أجلا يأتي فيه .

    فلما كان ذلك اليوم ، أحضر النعمان شريكا ، وجعل يقول له : إن صدر هذا اليوم قد ولّى ، وشريك يقول له : ليس لك عليّ سبيل حتى يمسي . فلما أمسى أقبل شخص والنعمان ينظر إليه وإلى شريك ، فقال له : ليس لك عليّ سبيل حتى يدنو الشخص ، فلعله صاحبي ، فبينما هم كذلك إذ أقبل الطائي ، فقال النعمان : واللّه ما رأيت أكرم منكما ، وما أدري أيكما أكرم ، أهذا الذي ضمنك في الموت أم أنت إذ رجعت إلى القتل ؟ ثم قال للوزير الذي هو شريك : ما حملك على ضمانه مع علمك أنه هو الموت ؟ قال : لئلا يقال : ذهب الكرم من الوزراء . وقال للطائي : ما حملك على الرجوع إلى القتل ؟ قال : لئلا يقال : ذهب الوفاء من الناس ، ويكون عارا في عقبي وفي قبيلتي . قال النعمان : فو اللّه لا أكون ألأم الثلاثة ، فيقال : ذهب العفو من الملوك . فعفا عنه ، وأمر برفع يوم بؤسه .



    وأنشد الطائي يقول :
    ولقد دعتني للخلاف جماعة * فأبيت عند تجهّم الأقوال
    إني امرؤ مني الوفاء خليقة * وفعال كل مهذب مبذال
    فقال النعمان : ومع ما ذكرت ، ما حملك على الوفاء ، قال : أيها الملك ، ديني .
    قال : وما دينك ؟ قال : النصرانية . قال : اعرضها عليّ ، فأعرضها عليه ، فتنصّر النعمان .
    وحدثني أبو جعفر بن يحيى قال : دخل رجل على أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، عندي نصيحة . قال : وما نصيحتك ؟ قال : فلان كان عاملا ليزيد بن معاوية ، وعبد الملك ، والوليد ، فخانهم فيما تولاه في أيامهم ، واقتطع أموالا جليلة ، فمر باستخراجها منه . قال : أنت شر منه وأخون حيث اطلعت على أمره وأظهرته ، ولولا أني أنفر النصّاح لعاقبتك ، ولكن اختر مني خصلة من ثلاث ، قال :
    اعرضهنّ يا أمير المؤمنين . قال : إن شئت فتشنا على ما ذكرت ، فإن كنت صادقا مقتناك ، وإن كنت كاذبا عاقبناك ، وإن شئت أقلناك . قال : بل يقيلني أمير المؤمنين . قال : قد فعلت ، فلا تعودنّ بعد هذا إلى قلة الوفاء ، وإن ظهر لك من ذي جرمة أمر فاكتمه .
    وحدثنا مصعب الخشني الخطيب أن مخارف بن عفان ، ومعن بن زائدة ، تلقيا رجلا ببلاد الشرك ومعه جارية لم يريا مثلها شبابا وجمالا وفصاحة ، فصاحا به ليخلّي عنها ،


    “ 160 “
    ومعه قوص فرمى بها ، وهابا الإقدام عليه ، ثم عاود ليرمي فانقطع وتره ، وسلّم الجارية ، واشتدّ يعدو في جبل كان قريبا منه ، فابتدرا الجارية وفي أذنها قرط فيه درّة ، فانتزعاها من أذنها ، فقالت : وما قدر هذه ؟ لو رأيتما درّتين معه في قلنسوته ، وفي قلنسوته وتر قد أعدّه ونسيه من الدهشة . فلما سمعا قول الجارية تبعاه وصاحا به : ارم القلنسوة ، وانج بنفسك .
    فلما سمع قولهما ذكر الوتر ، فأخذه وعقده في قوسه ، فولّيا ليست لهما همة إلا النجاء ، وخلّيا عن الجارية .
    وحدثنا أيضا قال : قال سليمان بن عبد الملك : أنشدوني أحسن ما سمعتم من شعر النساء . فقال بعضهم : يا أمير المؤمنين ، بينما رجل من الظرفاء في بعض طرقاته إذ أخذته السماء ، فوقف تحت مظلة ليسكن من المطر وجارية مشرفة عليه ، فلما رأته حذفته بحجر ، فرفع رأسه وقال :
    لو بتفاحة رميت رجونا * ومن الرمي بالحصاة جفاء

    فأجابته :
    ما جهلنا الذي ذكرت من الشكل * ولا بالذي ذكرته خفاء

    وداية معها فقالت :

    قد بدا التيه بالذي ذكرته * ليت شعري فهل لهذا وفاء

    وسائلة بالباب :
    ولعمري دعوتها فأجابت * هي داء وأنت منها دواء
    قال سليمان : قاتلها اللّه ، وهي واللّه أشعرهم .

    وقرأت في كتاب ( المحاسن والأضداد ) للجاحظ : عن عنان جارية الناطفي ، قال عمرو بن بحر الجاحظ في باب المماجنات من الكتاب ، قال السلولي : دخلت يوما على عنان وعندها رجل أعرابي ، فقالت : يا عم ، لقد أتى اللّه بك . قلت : وما ذاك ؟ قالت : هذا الأعرابي دخل عليّ فقال : بلغني أنك تقولين الشعر ، فقولي بيتا . قال السلولي : فقلت لها :
    قولي ، فقالت : قد ارتجّ عليّ ، فقل أنت . فقلت :
    لقد جلّ الفراق وعيل صبري * عشية عيرهم للبين ذمت

    فقال الأعرابي :
    نظرت إلى أواخرها مخبّا * وقد بانت وأرض الشام أمّت

    فقالت عنان :



    “ 161 “


    كتمت هواهم في الصدر مني * على أن الدموع عليّ نمّت
    فقال الأعرابي : أنت واللّه أشعرنا ، ولولا أنك بحرمة رجل لقبّلتك ، ولكن أقبّل البساط .
    وقرأت في الكتاب المذكور : قال عمرو وقال بعضهم : دخلت على عنان فإذا عليها قميص يكاد يقطر صبغه ، وقد تناولها مولاها بضرب شديد وهي تبكي ، فقلت :
    إن عنانا أرسلت دمعها * كالدرّ إذ ينسل من خيطه

    فقالت :
    فليت من يضربها ظالما * تجفّ يمناه على سوطه
    فقال مولاها : هي حرّة لوجه اللّه ، إن ضربتها ظالما أو غير ظالم .
    أنشدنا أبو عبد اللّه بن عبد الجليل ، قال : أنشدني أبو الحسن علي المسفر بنسبته لنفسه :

    يا أيها المبتلي بذمّي * قد علم اللّه ما تقول
    فالقول إن خفّ في لساني * أخانني وزنه الثقيل
    وحافظ كاتب شهيد * يكتب عني الذي أقول
    من حاسب النفس كلّ حين * لم يتهاون بما يقول

    كان هذا الشيخ المسفر جليل القدر ، حكيما ، عارفا ، غامضا في الناس محمود الذكر ، رأيته بسبته له تصانيف ، منها منهاج العابدين الذي يعزى لأبي حامد الغزالي وليس له ، وإنما هو من مصنفات هذا الشيخ ، وكذلك كتاب النفخ والتسوية الذي يعزى إلى أبي حامد أيضا ، وتسميه الناس : المصون الصغير .

    ولهذا الشيخ أيضا القصيدة المشهورة ، وهي هذه :
    قل لإخوان رأوني ميتا * فبكوني إذ رأوني حزنا
    أتظنون بأني ميتكم * لست ذاك الميت واللّه أنا
    أنا عصفور وهذا قفصي * كان سجني وقميصي زمنا
    أنا في الصور وهذا جسدي * كان جسمي إذ ألفت السجنا
    أنا كنز وحجابي طلسم * من تراب قد تخلى للفنا
    فاهدموا البيت ورضّوا قفصي * وذروا الكل دفينا بيننا
    وقميصي مزّقوه رمما * وذروا الطلسم بعدي وثنا



    “ 162 “



    لا ترعكم هجمة الموت فما * هو إلا نقلة من هاهنا
    فحياتي وسن في مقلتي * خيبة الموت تطير الوسنا
    لا تظنوا الموت موتا إنه * لحياة هي غايات المنا
    فاخلعوا الأجساد عن أنفسكم * تبصروا الحق جهارا بيّنا
    حسّنوا الظنّ بربّ راحم * تشكروا السعي وتأتوا أمنا
    ما أرى نفسي إلا أنتم * واعتقادي أنكم أنتم أنا
    عنصر الأنفس شيء واحد * وكذا الجسم جميعا عمّنا
    فمتى ما كان خيرا فلنا * ومتى ما كان شرّا فبنا
    أشكر اللّه الذي خلّصني * وبنى لي في المعالي ركنا
    فأنا اليوم أناجي ملأ * وأرى الحق جهارا علنا
    عاكف في اللوح أقرأ وأرى * كل ما كان ويأتي ودنا
    وطامي وشرابي واحد * وهو رمز فافهموه حسنا
    ليس خمرا سائغا أو عسلا * لا ولا ماء ولكن لبنا
    هو مشروب رسول اللّه إذ * كان يسري فطره مع فطرنا
    فافهموا السرّ ففيه نبأ * أي معنى تحت لفظ كمنا
    قد ترحّلت وخلّفتكم * لست أرضى داركم لي وطنا
    فخذوا في الزاد جهدا لا تنوا * ليس بالعاقل منّا من ونا
    أسأل اللّه لنفسي رحمة * رحم اللّه صديقا أمّنا
    وعليكم من سلامي صيب * وسلام اللّه بدءا وثنا


    وكتبت عنان إلى الفضل بن الربيع :
    كن لي هديت إلى الخليفة شافعا * بوركت يا ابن وزيره من مسلم
    حثّ الإمام على شراي وقل له * ريحانة دخرت لأنفك فاشمم

    وفيها يقول أبو نواس :
    عنان يا من تشبه العينا * أنت على الحبّ تلومينا
    حسنك حسن لا يرى مثله * قد صيّر الناس مجانينا

    وقالت غريبة جارية المأمون :
    وأنتم أناس فيكم الغدر شيمة * لكم أوجه شتى والسنة عشر
    عجبت لقلبي كيف يصبو إليكم * على عظم ما يلقى وليس له صبر



    “ 163 “


    ويقال : إن هذه الجارية هي التي يقول فيها أمير المؤمنين المأمون يخاطبها :
    أنا المأمون والملك الهمام * على أني بحبك مستهام
    أترضى أن أموت عليك وجدا * ويبقى الناس ليس لهم إمام
    فقالت له : يا أمير المؤمنين ، أبوك الرشيد أعشق منك ، حيث يقول :
    ملك الثلاث الآنسات عناني * وحللن من قلبي بكل مكان
    ما لي تطاوعني البرية كلها * وأطيعهنّ وهنّ في عصياني
    ما ذاك إلا أن سلطان الهوى * وبه قوين أعزّ من سلطاني

    فقدم ذكرهن على ذكر نفسه ، وأنت قدمت نفسك على من تزعم أنك تهواها . قال لها المأمون : غير أني منفرد لك ، والرشيد قسم بين ثلاث ، . قالت : أعرفهن : الواحدة المقصودة وهي فلانة ، والثنتان محبوبتان لها ، فأحبهما لحبّها إذ ذاك مما يسرّها ، كما قال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة :
    أحب بني العوّام طرّا لأجلها * ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا

    وقال الآخر :
    أحبّ لأجلها السودان حتى * أحبّ لأجلها سود الكلاب
    فهؤلاء أحبوا القبيلة من أجلها فأحرى من أحبت هذا المخرج لأمير المؤمنين الرشيد ، فأين المخرج لأمير المؤمنين ؟ فسكت وعظم وجد .

    ولنا في هذا المعنى في صاحب حبشي أخلص لي في محبته واسمه بدر :
    أحب لحبّك الحبشان طرّا * وأعشق لاسمك البدر المنيرا

    حدثنا مصعب بن محمد الخشنيّ القاضي الخطيب الجناني ، في مجلس كان بيني وبينه في الأدب ، في حق شخص كان وسيم الوجه ، وقد أصاب عينيه رمد فاحمرت عيناه ، فقلت له : يا سيدي ، ما أحسن قول القائل في مثل هذا ، فقال : وما قال ؟

    قلت :
    قالوا اشتكت عينه فقلت لهم * من كثرة الفتك نالها وصب
    حمرتها من دماء من قتلت * والدم في السيف شاهد عجب
    فقال رحمه اللّه لنا في هذا المعنى في زمان الصبا شيء ،

    قلت : فأنشدني :
    أكر صحبي إذ رأوا طرفه * ذا حمرة يشفي بها المغرم
    لا تنكروا الحمرة في طرفه * فالسيف لا ينكر فيه الدم


    “ 164 “


    ولنا في هذا المعنى :
    لا تنكروا الحمرة في طرف من * يسفك بالطرف دماء البشر
    وإنما الإنكار من أنفس * أرضية سالت بعين القمر

    والنفوس هنا الدماء ، كما قال القائل :
    تسيل على حد السيوف نفوسنا * وليس على غير السيوف تسيل
    ثم تذاكرنا فيما قال الأدباء في فنون شتى ، إلى أن وقع ذكر النساء المتقدمات فقال :
    ما نرى في زماننا من مثل أولئك أحدا ، فقلت له : يا سيدي ، هنا عندنا بالبلد أمّ النساء بنت عبد المؤمن التاجر الفاسيّ ، وهي تجيد الشعر ، وقد أنشدت للسيد أبي علي صاحبك عندما ولّي علينا قصيدتها ، وكنت أحفظها فأنشدته إياها ، فاستحسنها ، ولا أذكر الآن منها إلا أول بيت ، وهو


    قولها :
    جاء البشير بوعد كان ينتظر * فأصبح الحقّ ما في صفوه كدر
    من خير هاد غدا بالهدى يأمرنا * وفي أوامره التسديد والنظر

    وفيها تصفه بالحرب :
    ليث إذا اقتحم الأبطال حومتها * يفني الكتائب لا يبقي ولا يذر

    فجرينا في هذا الميدان ساعة ، فأمتعني منه ما ملأ القلب أنسا وطبت به نفسا ، إلى أن جرى في أثناء ذلك المجلس الزاهر ، النمام بأعراف هذه الأزاهر . وذكر فضل الشاعرة وآدابها ، وأنها ممن جمعت بين الشعر والصوت ، فكانت تقول الشعر وتلحنه ، ثم تغني به على العود . فقلت له : هل تحفظ من شعرها الذي لها فيه صوت ؟ فقال : كثير ، فقلت : فإن رأي سيدي في ذلك ، فقال : روينا من حديث قاسم بن عبد اللّه أنه قال : كنت عند سعيد بن حميد الكاتب وقد افتصد ، فأتته هدايا فضل الشاعرة ألف جدي ، وألف دجاجة ، وألف طبق رياحين وطيب ، فلما وصل ذلك كتب إليها : إن هذا يوم لا يتم السرور فيه إلا بك وبحضورك . قال القاسم يصفها : وكانت من أجود الناس شعرا ، وأملحهم صوتا ، وأحسن الناس ضربا بالعود . فأتته فضرب بينها وبينه حجابا ، وأحضر ندماه ، فلما استوى المجلس بالقوم وسرى السرور أخذت العود وغنّت ،

    والشعر لها :
    يا من أطلت تفرّسي * في وجهه وتنفسي
    أفديك من متدلل * يزهو بقتل الأنفس
    هبني أسأت وما أسأ * ت بلى أقول أنا المسئ
    أحلفتني أن لا أسا * رق نظرة في مجلس



    “ 165 “


    فنظرت نظرة عاشق * أتبعتها بتنفّس
    ونسيت أني قد حلف * ت فما يقال لمن نسي



    وضربت أيضا وغنّت :
    عاد الحبيب إلى الرضا * فصفحت عما قد مضى
    من بعد ما بصدوده * شمت الحسود وحرّضا
    تعس البغيض فلم يزل * لصدودنا متعرّضا
    هبني أسأت وما أسأ * ت وإن أسأت لك الرضا
    قال : فما أتى عليّ يوم أسرّ من ذلك اليوم .
    حكومة : جرت للمنصور عند محمد بن عمران ، ثنا يحيى ، عن محمد بن أبي منصور ، عن ثابت بن شداد ، عن عبد الوهاب المليحيّ ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن مزيد ، وحدّثنا عبد الرحمن بن علي ، عن أبي منصور ، عن محمد بن علي بن ميمون ، عن محمد بن علي العلوي ومحمد بن أحمد بن علّان قالا : حدثنا محمد بن عبد اللّه النهرواني ، عن الحسن بن محمد السكواني ، عن أحمد بن سعيد الدمشقي ،

    قالا :

    حدثنا الزبير بن بكار والسياق لأبي يحيى ، حدثني عمر بن أبي بكر ، عن نمير المدني قال :

    قدم علينا أمير المؤمنين المنصور المدينة ، ومحمد بن عمران الطلحي على قضائه ، وأنا كاتبه ، فاستعد الحمالون على أمير المؤمنين في شيء ذكروه ، فأمرني أن أكتب إليه كتابا بالحضور معهم وإنصافهم ، فقلت : تعفيني من هذا ، فإنه يعرف خطي ، فقال : اكتب ، فكتبت ، ثم ختمته ، وقال : لا يمضي به غيرك ، فمضيت به إلى الربيع ، وجعلت أعتذر إليه ، فقال : لا عليك ، فدخل عليه بالكتاب ، ثم خرج الربيع فقال للناس ،

    وقد حضر وجوه أهل المدينة والأشراف وغيرهم : إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ، ويقول لكم : إني قد دعيت إلى مجلس الحكم فلا أعلم أحدا قام إليّ إذا خرجت ، أو بدأني بالسلام ، ثم خرج المسيّب بين يديه ، والربيع ، وأنا خلفه ، وهو في إزار ورداء ، فسلّم على الناس فما قام إليه أحد ، ثم مضى حتى بدأ بالقبر ، فسلّم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعلى أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما ،

    ثم التفت إلى الربيع فقال : ويحك يا ربيع أخشى أن يراني ابن عمران فتدخل قلبه هيبة فيتحول عن مجلسه ، وتاللّه لئن فعل ذلك لأولي لي ولاية أبدا ، قال : فلما رآه ابن عمران وكان متكئا أطلق رداءه على عاتقه ثم احتبى به ، ودعا بالخصوم والحمالين ، ثم دعا بأمير المؤمنين ، ثم ادعى عليه القوم ، فقضى لهم عليه ، فلما دخل الدار

    قال للربيع :
    اذهب ، فإذا خرج من عنده الخصوم فادعه ، فقال : واللّه يا أمير المؤمنين ما دعا بك إلا بعد



    “ 166 “


    أن فرغ من أمور الناس جميعا ، فدعاه ، فلما دخل عليه سلّم عليه ، فرد عليه السلام وقال :
    جزاك اللّه عن دينك وعن نبيك ، وعن حسبك ، وعن خليفتك ، أحسن الجزاء ، قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار فاقبضها ، فكانت عامة أموال محمد بن عمران من تلك الصلة .
    وروينا من حديث ابن ودعان ، عن أبي الحسن بن السماك الواعظ ، عن أبيه ، عن ابن عرفة ، عن العباس بن محمد بن كثير ، عن حمّاد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة قال : بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس إذ رأيته ضحك حتى بدت ثناياه ، فقيل له : ممّ تضحك يا رسول اللّه ؟

    قال : « رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز وجل ، فقال أحدهما :
    يا رب خذ لي بظلامتي من أخي ، فقال اللّه تعالى : أعط أخاك مظلمته ، فقال : يا رب ما بقي من حسناتي شيء ، قال : يا رب فليحمل من أوزاري » ، وفاضت عينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم قال : « إن ذلك ليوم يحتاج الناس إلى أن يحمل من أوزارهم ، ثم قال اللّه تعالى للمطالب بحقه : ارفع رأسك فانظره إلى الجنان ، فرفع رأسه ، فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة ، فقال : لمن هذا يا رب ؟
    فقال : لمن أعطاني ثمنه ، قال : ومن يملك ذلك يا رب ؟ قال :
    أنت ، قال : بما ذا ؟ قال : بعفوك عن أخيك ، قال : يا رب قد عفوت عنه ، قال : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة » ، ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم ، فإن اللّه عز وجل يصلح بين خلقه المؤمنين يوم القيامة » .


    ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ، ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي بإشبيلية غير مرة من لفظه قال : قال لي بعض المريدين : رأيت في أبي حامد الغزالي ، وأشياخ الصوفية ، ومعهم الشيخ أبو مدين ، فقال له بعضهم : أعد علينا كلامك في التوحيد ، فقال لهم : التوحيد أصل في الوجود ، وعليه أخذت المواثيق والعهود ، وهو دليل على كل مفقود ، فمن بقي على أصله فقد وفى ، ومن عدل عن رسمه فقد أخطأ الطريق وجفا ، ومن أتاه بقلب سليم تلذذ بالنظر إلى وجهه الكريم ، به يسيرون ، وبه يتلذذون ، وبه يهتدون ، وأكثر الخلق للجزاء يعملون ، ولعليين قوم آخرون ، هو قلب الوجود به قام ، وهو المحرّك والمسكّن لسائر الأجرام ، سره في مخلوقاته قد انتشر ، وحكمه في مصنوعاته كما قدّر وأمر ، فما من شيء قلّ أو جلّ إلا هو معه ، ولا ظاهر ، ولا باطن إلا وقد أتقنه وصنعه ، إن قلت فقوله سبق الأقوال ، وإن علمت فهو خالق الأعمال ، هو الممدّ للحركات والسكون ، وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، فسرّ هذا التوحيد مستور بالغيرة ، وإذا صحّت الوحدة بطلب الكثرة ، فمن انتهت همته إلى هذا المقام ، كان شفعه بالخالق العلّام ، لا يلتفت إلى غيره ، يتخلق بأخلاقه ويسير بسيره وهو الأول والغاية ، وهو الآخر وإليه
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:17

    الجزء 11 .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء 11
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 167 “



    النهاية ، به حي كل حي ، وله نشأ كل شيء ، ونحن الفقراء وهو الغني ، فسبحانه هو الواحد العلي ، فمن كانت هذه رتبته ، فقد علت همته ، بنوره أشرف كل نور وسطع ، وعما سواه انقطع ، تعزز به كل عارف وتاه ، وتنزه عن ملاحظة ما سواه ولم يقنع من مولاه إلا بمولاه .

    وسماعنا على قول الشريف الرضيّ :
    يا طربا لنفحة نجدية * أعدل حر القلب باستبرادها
    وما الصبا ريحيّ لولا أنها * إذا جرت مرت على بلادها


    السماع في ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « إن للّه نفحات ، ألا فتعرّضوا لنفحات ربكم العلوية التي تحصل للإنسان عند سجوده في مقام القرب عند مناجاته » ، قال : اجعلوها في سجودكم ، يقول : وما أتقيد بريح مخصوصة ، إلا أن الصبا لما كانت تهب من أفق الشروق ، ومطلبنا الشهود والروية ، لذلك أريدها ، وأسمع حديثها ، وعلى قوله أيضا بالنفس :

    حلفت بالمقصرين * ركبوا فأوجفوا
    لانوا على العيس وخا * فوا فوتها فعنفوا
    رجوا لأثقال الذنو * ب ساعة تخفّفوا
    فاستنقذوا بجهدهم * سارين حتى وقفوا
    فلثموا ومسحوا * وجمّروا وطرفوا


    وصية خطاب بن المعلّى المخزومي لابنه
    حدثنا يونس بن يحيى ، قال : ثنا الحاجب أبو الفتح محمد بن الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطي ، قال : حدثنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن حبرون ، قال :
    حدثنا أبو علي الحسين بن أحمد بن إبراهيم بن شادان ، قال : حدثنا أبو الحسن أحمد بن إسحاق الطيبي ، قال : أخبرنا أبو عبد اللّه أحمد بن شاكر الريحاني ، قال : أنا أبو حاتم ، قال : ثنا محمد بن عطية ، قال : قال خطاب بن المعلى المخزومي القرشي لابنه : يا بني ، عليك بتقوى اللّه عز وجل وطاعته ، وتجنب محارمه باتباعك سنّته ومعاملته ، حتى يصحّ عيشك ، وتقرّ عينك ، فإنه لا يخفى على اللّه خافية ، وإني قد رسمت لك رسما ، وسمت لك وسما ، إن أنت حفظته ووعيته وعملت به ملئت بك أعين الملوك .
    فأطع أباك واقتصر على وصيته ، وفرّغ لذلك ذهنك ، واشغل به قلبك ولبّك ، وإياك وهدر الكلام ، وكثرة الضحك والمزاح ، ومماراة الإخوان ، فإن ذلك يذهب البهاء ، ويوقع الشحناء ، وعليك بالرزانة



    “ 168 “

    والوقار ، من غير كبر يوصف منك ، ولا خيلاء تحكى عنك ، والق صديقك وعدوّك بوجه الرضا وكفّ الأذى ، من غير ذلة لهم ، ولا مهابة منهم ، وكن في جميع أمورك أوسطها ، فإن خير الأمور أوسطها ، وأقلل الكلام ، وافش السلام ، وامش متمكنا ، ولا تخطّ برجليك ، ولا تسحب ذيلك ، ولا تلق رداءك ، ولا تنظر في عطفيك ، ولا تكثر الالتفات وراءك ، ولا تقف على الجماعات ، ولا تتخذ السوق مجلسا ، ولا الحوانيت متحدثا ، ولا تكثر المراء ، ولا تنازع السفهاء ، وإن قضيت فاختصر ، وإن مدحت فاقتصر ، وإن جلست فتربّع ، وتحفّظ من تشبيك أصابعك وتفقيعها ، والعبث بلحيتك وخاتمك ، وذؤابة سيفك ، وتخليل أسنانك ، وإدخال يدك في أنفك ، وطرد الذباب عن وجهك ، وكثرة التثاؤب والتمطي ، وأشباه ذلك مما يستخفه الناس منك ، ويغتمزون به فيك .

    وليكن مجلسك هاديا ، وحديثك مقسوما ، واصغ إلى الكلام الحسن ممن يحدثك من غير إظهار عجب منك ، ولا تسأله إعادة ، وغضّ عن الفكاهات من المضاحك والحكايات ، ولا تحدّث عن إعجابك بولدك ، ولا خادمك ، ولا عن فرسك وسيفك .
    وإياك وأحاديث الرؤيا ، فإنك إن أظهرت الفرح بها والتعجب منها طمع فيك السفهاء ، فولدوا لك الأحلام ، واغتمزوا في عقلك .

    ولا تتصنع تصنّع المرأة ، ولا تبذل ببذل العبد ، وغب بامتشاط لحيتك ، وتوقّ نتف الشيب ، وكثرة الكحل ، والإسراف في الدهن ، وليكن كحلك غبّا . ولا تلحّ في الحاجات ، ولا تخضع في الطلبات ، ولا تعلم أهلك وولدك فضلا عن غيرهم عدّة مالك ، فإنهم إذا رأوه قليلا هنت عليهم ، وإن كان كثيرا لم يبلغ به مرضاتهم ، واجفهم من غير عنف ، ولن لهم من غير ضعف ، ولا تهازل في حاجتك أمتك ولا عبدك ، فيسقط وقارك من قلوبهم .

    وإذا خاصمت فتوقّر ، وتحفّظ من جهلك ، وتجنب عجلتك ، وتفكّر في حجتك ، وأر الحاكم بينكما حلمك ، ولا تكثر الإشارة بيدك ، ولا تحفر على رتبتك ، وتوقّ حمرة الوجه ، وعرق الجبين .
    وإن سفه عليك فاحلم ، وإذا هدأ غضبك فتكلم ، وأكرم عرضك ، وألق الفضول عنك . وإن قرّبك السلطان فكن منه على حدّ السنان ، وإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك ، وارفق به كل رفقك ، وكلّمه بما يشتهي ما لم يصنع في ذلك حقا من حقوق اللّه ، ولا يحملنك ما ترى من ألطافه ، إياك وخاصته بك أن تدخل بينه وبين أحد من أهله وولده ، وحشمه ، إلا بخير ، وإن كان لذلك منك مستمعا ، وللقول منك فيه مطيعا ، فإن سقطة الداخل بين الملك وأهله صرعة .
    وإذا وعدت فحقق ، وإذا حدّثت فاصدق ، ولا تجهر بمنطقك كمنازع الأصمّ ، ولا


    “ 169 “

    تخافت به كمخافتة الأخرس ، وتخيّر محاسن القول بالحديث المقبول ، وإذا حدّثت بسماع فانسبه إلى أهله ، وإياك والأحاديث الغريبة المستبشعة التي تنكرها القلوب ، وتقف لها الجلود ، وإياك ومضاعف الكلام ، نعم نعم ، ولا ولا ، وأجل وأجل ، وما أشبه ذلك . وإذا توضأت فأجد عرك كفيك ، ولا تتنخع في الطست ، وليكن طرحك الماء من فيك مسترسلا ، ولا تمجّه فينضح على أقرب جلسائك ، ولا تعضّ بعض اللقمة ثم تعيد ما بقي منها في متصبّع ، فإن ذلك مكروه .

    ولا تكثر الاستسقاء على مائدة الملوك ، ولا تعبث بالمشاش ، ولا تعبّ طعاما ولا شيئا مما يقرّب على المائدة ، من بقل أو خلّ أو تابل أو عسل ، فإن أصحابه صيّرت لنفسها المهابة . ولا تمسك إمساك المسكين المثبور ، ولا تبذّر تبذير السفيه المغرور ، واعرف في مالك واجب الحقوق ، وحرمة الصديق ، واستغن عن الناس يحتاجون إليك .

    واعلم أن الجشع ( يعني الطمع ) يدعو إلى الطبع والرغبة ، كما قيل تدقّ الرقبة ، والأكلة تمنع الأكلات ، والتعفف مال جسيم ، وخلق كريم ، ومعرفة الرجل قدره تشرّف ذكره ، ومن تعدّى القدر هوى في بعيد القفر ، والصدق زين ، والكذب شين ، ولصدق يسرع عطب صاحبه أحسن عاقبة من كذب يسلم عليه قائله ، ومعاداة الحليم خير من مصادقة الأحمق ، والزوجة السوء الدمن الداء العضال ، ونكاح العجوز يذهب ماء الوجه ، وطاعة النساء تزري بالعقلاء .


    تشبّه بأهل الفضل تكن منهم ، واتّضع للشرف تدركه ، واعلم أن كل امرئ حيث وضع نفسه ، وإنما ينسب الصارم إلى صانعه ، والمرء يعرف بقرينه ، وإياك وإخوان السوء فإنهم يخونون من رافقهم ، ويخونون من صادقهم ، وقربهم أعدى من الجرب ، ورفضهم من استكمال الأرب ، وجفوة المستجير لؤم ، والعجلة شؤم ، وسوء التدبير وهم .

    والإخوان اثنان : فمحافظ عليك عند البلاء ، وصديق لك في الرخاء ، فاحفظ صديق البلية ، وتجنّب صديق العافية ، فإنه أعدى الأعداء . ومن اتّبع الهوى مال به إلى الردى . ولا يعجبنك الظريف من الرجال ، ولا تحقر ضئيلا كالخلال ، وإنما المرء بأصغريه : قلبه ولسانه ، ولا ينتفع منه إلا بأصغريه . وتوقّ الفساد ، وإن كنت في بلاد الأعادي . ولا تفرش عرضك لمن دونك ، ولا تجعل مالك أكرم عليك من عرضك . ولا تكثر الكلام ، فتثقل على الأقوام ، وامنح البشر جليسك ، والقبول . وإياك وكثرة التبزيق ، والتلويق ، والتنويق ، فإن ظاهر ذلك ينسب إلى التأنيث ، والتصنع ، لمغازلة النساء .


    وكن منتهزا في فرصتك ، رفيقا في حاجتك ، مثبّتا في عجلتك ، والبس لكل دهر ثيابه ، وكن مع كل قوم في سلكهم ، واحذر ما يكون بك اللائمة في آخرتك ، ولا تعجل في


    “ 170 “

    أمر حتى تنظر في عاقبته ، وعليك بالتنوّر في كل شهر ، وإياك وحلق الإبط بالنورة ، وليكن السواك من طبعك ، وإذا استكت فعرضا ، وعليك بالعمارة فإنها أنفع من التجارة ، وعلاج الزرع خير من اقتناء الضرع ، ومنازعتك اللئيم يطمع فيك ، ومن أكرم عرضه أكرمه الناس ، ومعرفة الحق من إخلاص الصدق ، والرفيق الصالح ابن عم . من أيسر عظم ، ومن افتقر احتقر .

    قصّر في المقالة مخافة الإجابة ، والساعي عاتب عليك .

    طول السفر ملالة ، وكثرة المنى ضلالة ، وليس للمعاتب صديق ، ولا على الميت شفيق ، والأدب للشيخ عياء ، والأدب للغلام شفاء ، والدين أزين الأمور ، والشماتة سفاهة ، والسكران شيطان ، وكلامه هذيان ، والعادة طبيعة لازمة ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . ومن حلّ عقدا احتمل حقدا ، والفرار عار ، والتقدم مخاطرة ، وكثرة العلل مع الوجود من البخل ، وشر الرجال الكثير الاعتلال ( يعني في القول ) ، وحسن اللقاء يذهب بالشحناء ، ولين الكلام من أخلاق الكرام .



    يا بني ، إن زوجة الرجل سكنه ، ولا عيش له مع خلافها . وإذا هممت بنكاح امرأة فاسأل عن أهلها ، فإن العروق الطيبة تنبت الثمار الحلوة .



    اعلم أن النساء أشد اختلافا من أصابع الكف ، فتوقّ منهن كل ذات يد مجبولة على الأذى ، فمنهم المعجبة بنفسها ، المزرية ببعلها ، إن أكرمها رأت فضلها عليه ، ولا تشكره على جميل ، ولا ترضى منه بقليل ، لسانها عليه سفيه صقيل ، قد كشفت اللقحة ستر الحياء عن وجهها ، ولا تستحي من عوارها ولا من جارها ، هدّارة ، ظنّانة ، مهارشة عقاره ، وجه زوجها مكلوم ، وعرضه مشتوم ، لا ترعاه لدنيا ولا دين ، ولا تحفظه لصحبة ، ولا لكبر سنّ ، حجابه مهتوك ، وسرّه منشور ، وخيره مدفون ، يصبح كئيبا ، ويمسي غائبا ، شرابه شر ، وطعامه غيظ ، وولده صائم ، وبيته مستهلك ، وثوبه وسخ ، ورأسه شعث ، إن ضحك فراهب ، وإن تكلم فمتكاره ، نهاره ليل ، وليله نهار ، تلدغه مثل الحية ، وتكرشه مثل العقرب ، صهصلق ختاره ، دفلس لخناء تهبّ مع الرياح ، وتطير مع كل ذي جناح ، إن قال لا قالت : نعم ، وإن قال : نعم ، قالت : لا ، محتقرة لما في يديه ، تضرب له الأمثال ، وتقصر به دون الرجال ، وتنقله من حال إلى حال ، حتى قلى بيته ، وملّ ولده ، وغبّ عيشه ، وهانت عليه نفسه ، حتى أنكره إخوانه ، ورحمه جيرانه .
    ومنهن الحمقاء ذات الدلال في غير موضعه ، الماضغة للسانها ، الآخذة في شأنها ، قد قنعت بحبه ، ورضيت بكسبه ، تأكل كالحمار الراتع ، وترتفع الشمس ولم تسمع لها


    “ 171 “


    صوتا ، ولم تكنس لها بيتا ، طعامها بائت ، وإناؤها وضر ، وعجينها وماؤها فاتر ، وما عونها ممنوع ، وخادمها مضروب .
    ومنهن العطوف الودود ، المباركة الولود ، المأمونة على غيبتها ، المحبوبة في جيرانها ، الحافظة لسرها وعلنها ، الكريمة التبعّل ، الكثيرة التفضّل ، الخافضة صوتا ، النظيفة بيتا ، خادمها مسمّن ، وابنها مزين ، وخيرها دائم ، وزوجها ناعم ، مصونة الوفة ، بالخير والعفاف موصوفة . جعلك اللّه يا بني ممن يقتدي بالخير ، ويأتمّ بالتّقى ، ويتجنب السخط ، ويحب الرضى ، واللّه خليفتي عليك ، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم .

    ومن الشمائل الأريحية ما ذكره الأصمعي ، قال : دخل إسحاق النديم على أمير المؤمنين الرشيد فقال : ما بالك ؟

    فقال إسحاق :
    سوامي سوام الأكثرين تجملا * ومالي كما قد تعلمين قليل
    وآمرة بالبخل قلت لها اقصري * فذلك شيء ما إليه سبيل
    وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى * ورأي أمير المؤمنين جميل
    أرى الناس خلّان الجواد ولا أرى * بخيلا له في العالمين خليل


    فقال الرشيد : هذا واللّه الشعر الذي صحّت معانيه ، وقويت أركانه ومبانيه ، ولذّ على أفواه القائلين ، وسماع السامعين . يا غلام ، احمل إليه خمسين ألف درهم .
    قال إسحاق : يا أمير المؤمنين ، كيف أقبل صلتك وقد مدحت شعري بأكثر ما مدحتك به ؟ قال الأصمعي : فعلمت أنه أصيد للدراهم مني .
    ومن هذا الباب ما حكاه الأصمعي قال : دخل المأمون ذات يوم الديوان ، فنظر إلى غلام جميل على أذنه قلم ، فقال : من أنت ؟ قال : أنا الناشئ في دولتك ، المتقلب في نعمتك ، المؤمّل لخدمتك ، الحسن بن رجاء ، فقال المأمون : بالإحسان بالبديهة تتفاضل العقول ، يرفع من الديوان إلى مرتبة الخاصة ، ويعطى مائة ألف درهم تقوية له .

    ومن صفات العارفين ما ذكره إبراهيم بن أدهم قال : من علامات العارف أن يكون أكثر صمته التفكير والعبرة ، وأكثر كلامه الثناء والمدحة ، وأكثر علمه الطاعة والخدمة ، وأكثر نظره إلى الطائف صنع رب العزة .

    وسئل بعض المحققين من أهل اللّه : ما علامة العازف والعابد والمحب والخائف ؟
    فقال : الخائف ذو هرب ، والعابد ذو نصب ، والمحب ذو شغف ، والعازف ذو طرب .
    وقال بعضهم : سمعت بعض المنقطعين وهو يتأوه ويقول : آه على أعمار في


    “ 172 “

    المعصية ضاعت ، آه على أسرار بسوء المعاملة ذاعت ، آه على أوقات في المخالفة انقرضت ، آه على ساعات اكتساب المعصية ما حفظت ، آه على توبة أبرمت ثم نقضت ، آه على عهود أكدت ثم لفظت ، آه على نفوس تكفّل الخالق بأرزاقها فاعترضت ، آه على شباب ولّي بعد إقباله ، آه على شيب مؤذن للجسد بارتحاله ، فأين الاستعداد والاهتمام ؟
    وأين التزوّد والاعتزام ؟ وأين المبادرة والاغتنام ؟ إن كنت ممن يبيع معالم الشريعة بالحطام ، فاعلم أنه ليس في خسارتك كلام .


    وأنشدنا محمد بن عبد الواحد لبعضهم :
    إذا وافى بصولته المشيب * فلا عيش يلذّ ولا يطيب
    أتطمع في الخلود على الليالي * وشيب الرأس يتبعه شعوب
    إذا نزل المشيب بأرض عبد * فمنهل موته منه قريب

    وأنشدني أبو بكر بن صاف اللخمي لبعضهم :
    الحمد للّه ثم الحمد للّه * فما على الأرض من ساه ولا لاه
    ما ذا يعاين ذو عينين من عجب * يوم الخروج من الدنيا إلى اللّه
    وروينا من حديث الهاشمي بسنده إلى أنس بن مالك قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « أما رأيت المأخوذين على العزة ، والمزعجين بعد الطمأنينة ، الذين أقاموا على الشّبهات ، وجنحوا إلى الشهوات ، حتى أتتهم رسل ربهم ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم رجعوا ، قدموا على ما عملوا ، وندموا على ما خلّفوا ، أو لم يغن الندم ، وقد جفّ القلم ، فرحم اللّه امرأ قدّم خيرا ، وأنفق قصدا ، وقال صدقا ، وملك دواعي شهواته ولم تملكه ، وعصى إمرة نفسه فلم تهلكه » .



    موعظة سفيان الثوري للمنصور بمكة
    حدثنا محمد بن إسماعيل التميمي ، ثنا عبد اللّه بن علي بن محمد ، ثنا محمد بن أبي منصور ، عن المبارك بن عبد الجبّار ، ثنا أبو إسحاق البرمكي ، عن أحمد بن جعفر بن سالم ، ثنا أبو بكر بن عبد الخالق ، عن يعقوب بن يوسف النسبي ، عن أبي نشيط محمد بن هارون الغرباني قال : سمعت سفيان الثوري يقول : دخلت على أبي جعفر المنصور بمنى ، فقلت له : اتق اللّه ، فإنما أنزلت هذه المنزلة ، وصرت إلى هذا الموضع ، بسيوف المهاجرين والأنصار ، وأبناؤهم يموتون جوعا . حج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسة عشر دينارا ، وكان ينزل تحت الشجر ، فقال لي : إنما أريد أن أكون مثلك ،



    “ 173 “

    فقلت : لا تكن مثلي ، ولكن كن دون ما أنت فيه ، وفوق ما أنا فيه ، فقال : اخرج . قال الثوري : فقلت له : إني لأعلم مكان رجل واحد لو صلح صلحت الأمة كلها ، قال : من هو ؟ قلت : أنت يا أمير المؤمنين .

    ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في واقعتي أبا حامد ، وأبا يزيد ، وأبا طالب ، وأشياخ الصوفية ، وأبا مدين ، فقال أحدهم للشيخ أبي مدين : قل لنا شيئا في المعرفة ، فقال :
    المعرفة هي الحجة لبلوغ العافية وثمرتها التوحيد ، وإليه النهاية .

    فالتوحيد هو غاية الأمل ، وما افترق في الوجود عنده اشتمل ، هو المبدأ ، وله البيان وإليه المرجع ، وبه يحصل الأمان ، سره في مخلوقاته خفي وحكمه في مصنوعاته ظاهر جلي ، أمره قد انتشر في الورى ، وقضاؤه وقدره في كل شيء قد جرى ، وهو الأول قبل كل شيء ، وهو الآخر ، وإليه يرجع الأمر كله ، وهو الآمر ، فالمحسوسات كلها هباء ، وهي حجابه سبحانه وبه خفي ، فقلب العارف طاهر مما سواه ، فإذا أعين عليه بادره برحمته فقواه بحياته امتدت حياته ، وبصفاته امتدت صفاته ، فمخلوقاته بأسرها إليه مضطرة ، إذ لم يخل شيء من الأشياء من سره حتى الذرة ، قد شهدت بأسرها إليه ، ونطقت بأنه الواحد ، وأنه ليس له شريك في ملكه ، ولا ولد ، ولا والد ، شهادة قد أحكمتها الفطرة ، يشهدها العارف في كل خطرة ونظرة ، فالعارفون به ظهرت لهم الغيوب ، وبذكره اطمأنت منهم القلوب ، فلم يعرجوا على شيء مما سواه ، وما منهم من قنع بشيء عوضا عن مولاه ، فأسرار العارفين عن الخلق محجوبة ، وعند من عرفهم ظاهرة بالحسب مطلوبة ، وقلوب الغير بالأسباب في شعب هي من المعرفة خالية ، ومن الحكمة مسلوبة . لاحظوا أنفسهم فهم منها على غرور ، من أسرار العارفين خلوا ، وبظواهرهم تشبهوا ، والناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا .



    روينا من حديث الخطابي قال : كان سعد ممن اعتزل أيام الفتنة ، ولم يكن مع واحد من الفريقين ، فراودوه على الخروج فأبى ، وضرب لهم مثلا :
    قال الخطابي : أنا ابن الأعرابي ، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام ، حدثنا أبي ، ثنا كثير بن مروان الفلسطيني ، ثنا جعفر بن برقان ، عن ميمون بن مهران ،
    قال سعد : لما دعوه إلى الخروج معهم أتى عليهم وقال : لا ، إلا أن تعطوني سيفا له عينان بصيرتان ، ولسانا ينطق بالكافر فأقتله ، وبالمؤمن فأكف عنه ، وضرب لهم مثلا ،
    وقال : مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجّة بيضاء ، فبينما هم كذلك إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق ، والتبس عليهم ،
    وقال بعضهم : الطريق ذات اليمين ، فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا ، فقال آخرون : الطريق ذات



    “ 174 “

    الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا ، وقال آخرون : كنا على الطريق حيث هاجت الريح فننيخ ، فأناخوا وأصبحوا فذهب الريح ، فتبين الطريق ، فهؤلاء الجماعة قالوا نلزم ما فارقنا عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى نلقاه ، ولا ندخل في شيء من الفتن . قال ميمون بن مهران : فصار الجماعة والفئة التي يدعى فيها الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن ، حتى أذهب اللّه عز وجل الفرقة ، وجمع الألفة ، فدخلوا الجماعة ، ولزموا الطاعة ، وانقادوا ، فمن فعل ذلك ولزمه نجا ، ومن لم يلزمه وقع في المهالك .

    وحدثنا يونس بن يحيى الهاشمي ، عن أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان المعروف بابن البطن ، عن أبي الفضل أحمد بن خيرون ، عن أبي علي الحسن بن إبراهيم بن شادان ، عن الحسن أحمد بن إسحاق ، عن أبي عبد اللّه أحمد بن محمد ، عن عمّار بن عبد اللّه المصيصي ، عن مخلد بن الحسين ، عن واصل ، ذكر أنه أسر غلام من بطاركة الروم ، وكان غلاما جميلا ، فلما صار إلى دار الإسلام ، وقع إلى الخليفة ، وذلك في خلافة بني أمية ، فسمّاه بشيرا ، وأمر به إلى الكتّاب ، فكتب ، وقرأ القرآن ، وطلب الأحاديث ، وروى الشعر ، فلما بلغ أتاه الشيطان فوسوس له ، وذكّره النصرانية دين آبائه ، فهرب مرتدا من دار الإسلام إلى أرض الروم الذي سبق له في أم الكتاب به ، فأتى به إلى الطاغية ، فسأله عن حاله ، وما الذي دعاه إلى الدخول في دين النصرانية ؟ فأخبره برغبته فيه ، فعظم في عين الملك ورأسه ، وصيّره بطريركا من بطاركته ، وأقطعه قرى كثيرة ، فهي اليوم تعرف به ، يقال لها : قرى بشير .



    وكان من قضاء اللّه وقدره أنه أسر ثلاثين أسيرا من المسلمين ، فأدخلوا على بشير ، فسألهم رجلا رجلا عن دينهم ، وكان فيهم شيخ من أهل دمشق يقال له واصل ، فسأله بشير ، فأبى الشيخ أن يرد عليه شيئا ، فقال له بشير : ما لك لا تجيبني ؟ قال : لست أجيبك اليوم بشيء ، فقال بشير للشيخ : إني سائلك غدا ، فأعدّ لي جوابا ، وأمره بالانصراف . فلما كان الغد بعث إليه بشير ، فأدخل عليه الشيخ ،

    فقال بشير : الحمد للّه الذي كان قبل أن يكون شيء من خلقه ، وخلق سبع سماوات طباقا بلا عون كان معه من خلقه ، ودحى سبع أرضين بلا عون كان معه من خلقه ، فعجب لكم يا معاشر العرب حين تقولون : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .



    فسكت الشيخ ، فقال : ما لك لا تجيبني ؟ قال : كيف أجيبك وأنا أسير في يديك ؟ فإن أجبتك بما تهوى أسخطت عليّ ربي ، وأهلكت عليّ ديني ، وإن أجبتك بما لا تهوى أهلكت نفسي ، فأعطني عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه عز وجل على النبيين ، وما أخذ



    “ 175 “

    النبيون على الأمم ، أن لا تغدر بي ، ولا تمحلني ، ولا تبغ لي باغية سوء ، وأنك إذا سمعت الحق تنقاد له . قال بشير : فلك عليّ عهد اللّه وميثاقه ، وما أخذ اللّه على النبيين ، وما أخذ النبيون على الأمم ، أن لا أغدر بك ، ولا أمحل بك ، ولا أبغي لك باغية سوء ، وأني إذا سمعت الحق أنقاد له .
    فقال الشيخ : أما ما وصفت من صفة اللّه عز وجل ، فقد أحسنت الصفة ، ولم يبلغ علمك ، ولم يستحكم عليه رأيك أكثر من هذا ، واللّه عز وجل أعظم وأكبر مما وصفت ، ولا يصف الواصفون صفته ، وأما ما ذكرت من هذين الرجلين ، فقد أسأت الصفة ، ألم يكونا يأكلان الطعام ، ويشربان الشراب ، ويبوّلان ، ويتغوطان ، وينامان ، ويستيقظان ، ويفرحان ، ويحزنان ؟ قال بشير : بلى . قال : فلم فرّقت بينهما ؟

    قال بشير : لأن عيسى كان له روحان اثنان : فروح يبرئ بها الأكمه والأبرص ، وروح يعلم بها الغيب ، ويعلم ما في قعر البحار ، وما يتحات من ورق الشجر ،

    قال واصل : روحان اثنان في جسد واحد ؟ قال بشير : نعم . قال الشيخ : فهل كانت القوية تعرف موضع الضعيفة منها أم لا ؟ قال بشير :

    قاتلك اللّه ما ذا تريد أن تقول إن قلت إنها لا تعلم ؟ قال الشيخ : إن قلت إنها تعلم ، فما لهذه القوية لا تطرد عنه هذه الآفات ، وإن قلت إنها لا تعلم قلت كيف تعلم الغيوب ؟ ولا نعلم روحا في محل واحد في جسد واحد .

    قال : فسكت بشير ، فقال الشيخ : باللّه هل عبدتم الصليب مثالا لعيسى ابن مريم أنه صلب ؟ قال بشير : نعم .

    قال الشيخ : فبرضى منه أم بسخط ؟ قال بشير : هذه أخت تلك ، ما ذا تريد أن تقول إن قلت برضى منه ؟ قال الشيخ : إن قلت برضى منه قلت فما أنتم من قوم أعطوا ما سألوا وأرادوا ، وإن قلت بسخط قلت فلم تعبدون ما لا يمنع عن نفسه ؟

    قال بشير :

    والضارّ والنافع ، ما ينبغي لمثلك أن يعيش إلا في النصرانية ، أراك رجلا قد تعلمت الكلام ، وأنا رجل صاحب سيف ، ولكن آتيك غدا بمن يخزيك اللّه على يديه ، ثم أمره بالانصراف .

    فلما كان الغد بعث بشير إلى الشيخ ، فلما دخل عليه إذا عنده قس عظيم اللحية ، فقال له بشير : إن هذا رجل من العرب له حكم وعقل ، وأصل في العرب ، وقد أحب أن يدخل في ديننا فكلّمه حتى تنصّره ، فسجد القس لبشير ، وقال : قديما ما أتيت إلا بالخير ، وهذا أفضل ما أتيت به إليّ .

    ثم أقبل على الشيخ وقال له : أيها الشيخ ، ما أنت بالكبير الذي ذهب عنه عقله وتفرق عنه حكمه ، ولا أنت بالصغير الذي لم يستكمل عقله ولم يبلغ حلمه ، غدا أغطسك في المعمودية غطسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك . قال الشيخ : فما هذه المعمودية ؟ قال القس : ماء مقدس . قال الشيخ : من قدّسه ؟ قال القس : أنا قدّسته ،






    “ 176 “



    والأساقفة من قبلي . قال الشيخ : فهلّا كانت لك ذنوب وخطايا وللأساقفة من قبلك ، أم أنتم مبرءون من النقص ؟ قال القس : نعم ، إنها لأكثر من ذلك ، ولا يسلم من الذنب والعيب إلا اللّه تعالى ، قال الشيخ : هل يقدّس الماء من لم يقدّس نفسه ؟

    قال : فسكت القس ، ثم قال : إني لم أقدسه أنا . قال الشيخ : فكيف كانت القصة إذا ؟ قال القس : إنها سنّة من عيسى ابن مريم ، قال الشيخ : فكيف كان الأمر إذا ؟ قال القس : إن يحيى بن زكريا أغطس عيسى ابن مريم بالأردن غطسة ، ومسح له رأسه ، ودعا له بالبركة . قال الشيخ : واحتاج عيسى إلى يحيى بن زكريا أن يمسح له رأسه ويدعو له بالبركة ؟ فاعبدوا يحيى ، فيحيى خير لكم من عيسى . فسكت القس ، واستلقى بشير على فراشه ، وأدخل فاه في كمه وجعل يضحك ، وقال للقس : قم أخزاك اللّه ، دعوتك لتنصّره ، فإذا أنت قد أسلمت .

    ثم إن الشيخ بلغ أمره إلى الملك ، فبعث إليه الملك فقال : ما هذا الذي بلغني عنك من تنقيصك لديني ، ووقيعتك فيه ؟ قال الشيخ : إن لي دينا كنت ساكتا عنه ، فلما سئلت عنه لم أجد بدّا من الذبّ عنه . قال الملك : وهل في يدك حجة ؟ قال : ادع لي من شئت حتى يحاورني ، فإن كان الحق في يدي فلم تلومني على الذبّ عن الحق ، وإن كان الحق في يده رجعت إلى الحق . فدعا الملك بعظيم النصرانية ، فلما دخل عليه سجد له الملك ومن عنده أجمعون . فقال الشيخ : أيها الملك من هذا ؟ قال : رأس النصرانية الذي تأخذ النصرانية عنه دينها . قال الشيخ : فهل له من امرأة ؟ أم هل له من ولد ؟ أم هل له من عقب ؟ فقال له الملك : هذا أزكى وأطهر من أن يدنّس بالنساء ، هذا أزكى وأطهر من أن ينسب إليه الولد ويدنّس بالحيض ، هذا أزكى وأطهر من هذا كله . قال الشيخ : فأنتم تكرهون الآدمي ، يكون منه ما يكون من بني آدم من الغائط والبول والنوم والسهر ، وتأخذكم غيرة من ذكر نسبة النساء إليه ، وتزعمون أن رب العالمين سكن ظلمة البطن ، وضيق الرحم ، ودنس الحيض . قال القس : هذا شيطان من شياطين البحر ، رمى به البحر إليكم فأخرجوه من حيث جاء .

    فأقبل الشيخ على القس وقال : عبدتم عيسى ابن مريم لأنه لا أب له ، فضمّوا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهان اثنان ، وإن كنتم عبدتموه لأنه أحيا الموتى ، فهذا حزقيل مرّ بميت تجدونه في الإنجيل لا تنكرونه ، فدعا اللّه عز وجل فأحياه له حتى كلّمه ، فضمّوا حزقيل مع عيسى وآدم حتى يكون لكم ثلاثة ، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أراكم المعجزات ، فهذا يوشع بن نون قاتل قومه حتى غربت الشمس ، فقال لها : ارجعي بإذن اللّه






    “ 177 “



    فرجعت اثني عشر برجا ، فضمّوا يوشع أيضا إلى عيسى يكون رابع أربعة ، وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه عرج به إلى السماء ، فمن ملائكة اللّه عز وجل مع كل نفس ، اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، يعرجون إلى السماء ، ما لو ذهبنا نعدّهم لالتبس علينا عقولنا ، واختلط علينا ديننا ، وما زاد في ديننا إلا تحيرا . ثم قال : أيها القس ، أخبرني عن رجل يحل به الموت ، الموت أهون عليه أم القتل ؟

    قال القس : بل القتل . قال : فلم لم يقتل عيسى ابن مريم أمه ، بل عذبها بنزع الروح ؟ إن قلت إنه قتلها فما برّ أمه في قتلها ، وإن قلت إنه لم يقتلها فما برّ أمه في تعذيبها بنزع النفس .

    فقال القس : اذهبوا به إلى الكنيسة العظمى ، فإنه لا يدخلها أحد إلا تنصّر . قال الملك : اذهبوا به إلى الكنيسة .

    قال الشيخ : لما ذا يذهب بي إلى الكنيسة ولا حجة عليّ دحضت حجتي ؟ قال الملك : لا يضرّك شيء إنما هو بيت من بيوت اللّه تعالى تذكر فيه ربك . قال الشيخ : أما إذا كان هكذا فلا بأس .



    فذهبوا به إلى الكنيسة ، فلما دخل إلى الكنيسة وضع إصبعيه في أذنيه ورفع صوته بالآذان ، فجزعوا لذلك جزعا شديدا ، وصرخوا لذلك ، وكتفوه ، وجاءوا به إلى الملك ، فقالوا : أيها الملك ، أحل بنفسه القتل . قال الشيخ : أيها الملك ، أين ذهبوا بي ؟

    قال :

    ذهبوا بك موضعا تذكر ربك فيه . قال : فقد دخلته وذكرت ربي فيه بلساني ، وعظمته بقلبي ، فإن كان كلما ذكر اللّه في كنائسكم صغر إليكم دينكم فزادكم اللّه صغارا .

    قال الملك : صدق ، وما لكم عليه سبيل . قالوا : أيها الملك ، لا نرضى حتى نقتله .

    قال الشيخ : إنكم متى قتلتموني فبلغ ذلك ملكنا وضع يده في قتل القسيسين والأساقفة ، ويخرّب الكنائس ، وكسر الصلبان ، ومنع النواقيس . قالوا : وإنه ليفعل ؟

    قال : فلا تشكّوا في ذلك . قال : فتفكروا في ذلك فتركوه .

    قال الشيخ : أيها الملك ، بم علا أهل الكتاب على أهل الأوثان ؟

    قال : لأنهم عبدوا ما عملوا بأيديهم . قال : فهذا أنتم عبدتم ما عملتم بأيديكم هذه الأصنام التي في كنائسكم ، فإن كان في الإنجيل فلا كلام لنا فيه ، وإن لم يكن في الإنجيل فما أشبه دينكم بدين الأوثان . قال : صدق ، هل تجدونه في الإنجيل ؟

    قال القس : لا . قال : فلم تشبهوا ديني بدين أهل الأوثان ؟

    قال : فأمرهم بتبييض الكنائس ، فجعلوا يبيضونها ويبكون .

    قال القس : هذا شيطان من شياطين العرب رمى به البحر إليكم ، فأخرجوه من حيث جاء ، ولا يقطر من دمه قطرة في بلادكم فيفسد عليكم دينكم ، فوكلوا به رجالا ، فأخرجوه من حيث جاء من بلاد دمشق . ووضع الملك يده في قتل القسيسين والبطاركة والأساقفة ، حتى هربوا إلى الشام ، لما لم يجد واحدا يحاجّه . انتهى .

    أخبرني عبد الوحد بن إسماعيل العسقلاني قال : سمعت جدّي لأميّ عمر بن عبد




    “ 178 “



    الحميد يقول : اعلم أن الناس في الدنيا على أبواب ملوكهم طبقات ، فمنهم الخواص المقرّبون ، والخدم المنتخبون ، والأمناء الثقات ، والكبراء السادات ، والتجار الطالبون للأرباح ، والفقراء أصحاب الصدقات .

    فأحسن أحوالك أن تنزل نفسك منزلة الفقراء والسؤال لا مقام ذي الصلة والنوال ، كم يدعون فلا يجيبون ، ويرغبون فلا يرغبون ؟ فما لكم لا تكونون

    كما قال اللّه تعالى :فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وأشرف الذكر ذكر القلب ، لأنه موضع نظر اللّه عز وجل من العبد .

    وقال بعضهم يوبخ نفسه : أما تستحي من اللّه ، كم يكون منك الخطا ومنه العطا ، كم يكون منك الجفا ومنه الوفا ؟ هلّا كان منك التوبة فيكون منه القبول ؟

    يا نفس ، كم تعصيه ويستر عليك وتتمادى في الذنب ويمهلك ؟ أما تخشي عقابه ؟ أما تستحي من عتابه ؟ أخاف عليك إن لم تنته عن قبيح فعلك ليصبنّ عليك سخطه ، وليحرقنك بنار غضبه ، هذا قلبك في فلوات المعاصي ضائع ، وسرك في الأعمال القبيحة رائع ، فبادري بالتوبة والإقلاع ، والندم والاسترجاع ، فكأنك وقد كشف القناع ، ولا تغترّي بالحياة الدنيا فما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع .

    وأنشدني محمد بن عبد الواحد لبعضهم :

    أنت سترى كيف أهتكه * ذا طريق لست أسلكه

    أملك الدنيا بأجمعها * وفؤادي لست أملكه

    قال بعض العارفين : للعارفين أربع علامات : ذكر المنة ، وصدق الهمة ، وعرفان الحرمة ، وخوف الفرقة .

    وقال بعض الصالحين : من علامات العارف أن ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار ، وإلى الآخرة بعين الانتظار ، وإلى النفس بعين الاحتقار ، وإلى الطاعة بعين الاعتذار لا بعين الاستكبار ، وإلى المغفرة بعين الاستبشار ، وإلى المعروف سبحانه وتعالى بعين الافتخار .

    حدثنا يونس بن يحيى ، ثنا ابن البطيء ، عن ابن شادان ، عن أحمد بن إسحاق ، عن أحمد بن محمود ، عن الحسن بن عبد العزيز المخزومي ، أنا أبو حفص القيسي ، عن أبي معبد ،

    قال : سمعت بلال بن سعيد يقول : كان أخوان في بني إسرائيل خرجا يتعبدان ، فلما أرادت الطريق تفرق بينهما قال أحدهما لصاحبه : خذ أنت في هذه الطريق ، وأنا في هذه الطريق ، فإذا كان رأس السنة اجتمعنا في ذلك الموضع ،

    فلما اجتمعا قال أحدهما لصاحبه : أي ذنب فيما عملت أعظم ؟ قال : بينما أنا أمشي على الطريق إذا بسنبلة فأخذتها







    “ 179 “



    فألقيتها في إحدى الأرضين ، أرض عن يميني ، وأرض عن شمالي ، ولا أدري أهي للأرض التي ألقيتها فيها أم للأخرى ؟

    ثم قال المسؤول للسائل : أي ذنب فيما عملت أعظم ؟ قال : لا أعلم غير إني كنت أقوم إلى الصلاة ، فأميل مرة على هذه الرّجل ، ومرة على هذه الرّجل ، فلا أدري أكنت أعدل فيما بينهما أم لا ؟ فسمعهما أبوهما من داخل الباب ، فقال : اللهمّ إن كان صادقين فأمتهما ، فخرج فإذا بهما قد ماتا .

    وروينا من حديث ابن ودعان ، عن الحسن بن شهاب ، عن أبي الهادي ، عن محمد بن منصور ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حمّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ليس شيء يباعدكم من النار إلا وقد ذكرته لكم ، ولا شيء يقرّبكم من الجنة إلا وقد دللتكم عليه ، إن روح القدس نفث في روعي أنه لن يموت عبد حتى يستكمل رزقه ، فاجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوا شيئا من فضل اللّه بمعصيته ، فإنه لا ينال ما عند اللّه إلا بطاعته ، ألا وإن لكل امرئ رزقا هو آتيه لا محالة ، فمن رضي به بورك له فيه فوسعه ، ومن لم يرض به لم يبارك له فيه ولم يسعه ، إن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله » .
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:18

    الجزء 12 .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء 12
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    خبر الكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء إلى جنب غمدان

    روينا من حديث ابن إسحاق ، أن أبرهة الأشرم ، لما كان من أمره ما كان مع أرباط وقتله ، وملك اليمن ، وأقره النجاشي على اليمن ، بنى كنيسة بصنعاء إلى جنب غمدان ، وسماها القليس ، وحرق غمدان هو وأرباط ، وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك بصنعاء بيتا لم تبن العرب والعجم مثله ، ولن أنتهي حتى أصرف حاجّ العرب إليه ، ويتركوا الحج إلى بيتهم ، فبنى القليس بحجارة قصر بلقيس التي عمرته صاحبة الصرح المذكور في القرآن ، وكان سليمان في رواية من قال : إنه تزوج بها ، فكان إذا جاءها ينزل عليها فيه .

    قال ابن إسحاق : فوضع أبرهة الرجال نسقا يناول بعضهم بعضا الحجارة والآلة ، حتى نقل ما كان في قصر بلقيس مما احتاج من الحجارة والرخام والآلة ، وجدّ في بنائه ، وبناه مربعا ، مستوي التربيع ، طوله في السماء ستون ذراعا ، وكبسه من داخله في السماء عشرة أذرع ، وكان يصعد إليه بدرج الرخام ، وبنى حوله سورا بينه وبين القليس مائتا ذراع مطيف به من كل جانب ، وبنى ذلك كله بحجارة يسموها أهل اليمن الجورب ، منقوشة مطابقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة مطيفة به ، وجعل طول ما بنى به من الجورب عشرين ذراعا في



    “ 180 “



    السماء ، ثم فصل ما بين حجارة الجوارب بحجارة مثلثة تشبه الشرف متداخلة بعضها ببعض ، حجر أخضر ، وحجر أسود ، وحجر أحمر ، وحجر أبيض ، وحجر أصفر ، فيما بين كل ساقين خشب ساسم مدوّر الرأس ، غلظ الخشبة حضن الرجل ، ثابتة على البناء ، وكان مفصلا بهذا البناء على هذه الصفة ، ثم فصل بإفريز من رخام منقوش ، طوله في السماء ذراعان ، وكان الرخام ثابتا على البناء ذراعا ،

    ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق ، ثم وضع فوقها حجارة بيضا لها بريق ، فكان هذا ظاهر حائط القليس ، وكان عرض حائط القليس ستة أذرع ، وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولا في أربعة أذرع عرضا ، وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعا في أربعين ذراعا ، معلق العمل بالساج المنقوش ، ومساميره الفضة والذهب ، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعا ، عن يمينه وعن يساره عقد مضروبة بالفسيفساء مشجرة ، بينهما كواكب الذهب ظاهرة ،

    ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعا في مثلها بالقصير ، فيها صلب منقوشة بالذهب والفضة ، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من اليلق مربعة عشرة أذرع في مثلها ، تغشي عين من نظر إليها من بطن القبة ، يؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة ، وكانت تحت الرخامة منبر من خشب اللبخ وهو الآبنوس مفصّل بالعاج الأبيض ، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبا وفضة ، وفي القبة سلاسل فضة ، وكان في القبة وفي البيت خشبة من ساج منقوشة طولها ستون ذراعا يقال لها كعيب ، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها امرأة كعيب ، كانوا يتبركون بها في الجاهلية ، وكان يقال الكعيب الأحوريّ ، وهو في لسانهم الحرّ ، وكان أبرهة عند بناء القليس قد أخذ العمال بالعمل أخذا شديدا ، وقد كان آلى أن لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في العمل إلا قطع يده .

    قال : فتخلّف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس ، وكانت له أم عجوز ، فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة ، فأتته به وهو بارز للناس ، فذكرت له علّة ابنها واستوهبته منه ، فقال : لا أكذّب نفسي ، ولا أفسد على عمالي ، فأمر بقطع يده ،

    فقالت له :

    اضرب بمعولك ساعي بهر اليوم لك * وغدا لغيرك ليس كل الدهر لك

    فقال : ادنوها ، وقال لها : إن الملك ليكون لغيري ؟ قالت : نعم . وكان أبرهة قد أجمع أن يبنى القليس حتى يظهر على ظهره ، فيرى منه بحر عدن ، فقال : لا أبني حجرا على حجر بعد يومي هذا ، فأعفي الناس من العمل .

    قال أبو الوليد : تفسير قولها : ساعي بهر ، تقول : اضرب بمعولك ما كان حديدا .

    قال ابن إسحاق : وانتشر خبر بناء هذا البيت في العرب ، وسمع به رجل من النّسأة




    “ 181 “



    أحد بني فقيم ، ثم بني مالك بن كنانة ، فغضب وخرج حتى أتى القليس فدخله ، فأحدث فيه ، فبلغ ذلك أبرهة ، فغضب وقال : لا أنتهي حتى أهدم بيت العرب الذي يحجّون إليه ، يعني الكعبة ، فتجهّز ، وساق الفيل إلى البيت الحرام ليهدمه ، فكان من شأنه ما ذكرناه في هذا الكتاب .



    قال ابن إسحاق : ولم يزل القليس على ما كان عليه حتى ولّي أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور العباس بن الربيع بن عبيد اللّه الحارثي اليمن ، فذكر للعباس ما في القليس من الذهب والفضة ، وعظم ذلك عنده ،

    وقيل له : إنك مصيب فيه مالا كثيرا وكنزا ، فتاقت نفسه إلى هدمه وأخذ ما فيه ، فبعث إلى ابن وهب بن منبّه فاستشاره في هدمه وقال : غير أن واحدا من أهل اليمن قد أشار عليّ أن لا أهدمه ، وعظم إليّ أمر كعيب ، وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يتبركون به ، وأنه كان يكلمهم ويخبرهم بأشياء مما يحبون ويكرهون .



    قال ابن وهب : كل ما بلغك ، وإنما كعيب صنم من أصنام الجاهلية ، فتنوا به ، فمر بالذهل وهو الطبل ، وبمزمار ، فليكونا قرينا ، ثم أعله الهدّامين ، ثم مرهم بالهدم ، فإن الذهل والمزمار أنشط لهم وأطيب لنفوسهم ، وأنت مصيب مالا ، مع أنك تأخذ بثأر من الفسقة الذين حرقوا غمدان ، وتكون قد محوت عن قومك اسم بناء الحبش ، وقطعت ذكرهم .



    وكان يهودي بصنعاء عالما ، فجاء قبل ذلك إلى العباس بن الربيع يتقرب إليه ،

    فقال له : إن يهدم القليس يلي اليمن أربعين سنة ، فلما اجتمع له مشورة ابن وهب ، وقول اليهودي ، أجمع على هدمه ، فقال من شهد هدمه : أصاب منه العباس مالا عظيما ، ثم رأيته دعا بالسلاسل فعلّقها في كعيب ، والخشبة التي معه ، فاحتملها الرجال فلم يقربها أحد مخافة مما كان أهل اليمن يقولون فيها ، فدعا بالوردين وهو العجل ، وعلّق فيها السلاسل ، ثم جذبها الثيران حتى أبرزها من السور .

    فلما لم ير الناس شيئا مما كانوا يخافون من مضرّاتها ، اشترى رجل عراقي الخشبة ، وقطعها لدار له ، واتفق أن العراقي تجذّم فقال : من كان في قلبه تعظيم الخشبة من جهّالهم ، إنما أصابه ما أصابه من أجل شرائه كعيبا ، وكان الناس إذا فتشوا في هدم القليس وجدوا قطع الذهب والفضة ، وهذا ما كان من هدم القليس .



    ومن الإلحاد في الحرم المكي ، ما حدثنا به محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد الرحمن ، ثنا أحمد بن علي ، ثنا أبو بكر الخطيب ، انا ابن بشيران ، ثنا ابن صفوان ، ثنا عبد اللّه بن محمد القرشي ، ثنا إبراهيم بن سعيد ، ثنا أبو سامة مسعر ، عن علقمة بن مرشد ، قال :




    “ 182 “



    بينما رجل يطوف بالبيت إذ برق له ساعد امرأة فوضع ساعده على ساعدها يتلذّذ به ، فلصقت ساعداهما ، فخرجا من الحرم ملتصقين حياء لما حلّ بهما ، فقال لهما بعض العلماء :

    ارجعا إلى الموضع الذي أصابكما هذا فيه ، فتوبا إلى اللّه ، واعزما أن لا تعودا ، فرجعا فعاهدا اللّه ، فخلّى عنهما .

    ومن باب تعجيل العقوبة ، ما كان يحدثنا به عبد اللّه بن العاص الباجي المالكي في مناقب مالك وفضله في العلم ، أن امرأة غسلت امرأة ماتت ، فلما غسلت فرجها ضربت الغاسلة بيدها على فرج الميتة ، وقالت : ما كان أزناك من فرج ، فلصقت يدها بالفرج ، فسئل علماء المدينة في ذلك ، ومالك صغير طالب للعلم ، فاختلف علماء المدينة بين تغليب حرمة الميت على الحي ، وحرمة الحي على الميت ، فمن قائل تقطع يدها ، ومن قائل يقطع الفرج ، ومالك حاضر ، فقال : أرى إن سمعتم أن تجلد حدّ القذف ، فإنه يخلى عنها ، قال : فجلدت ثمانين جلدة ، فانطلقت يدها ، فمن هنالك علم فضل مالك في العلم .



    روينا من حديث ابن باكويه ، عن أبي الفضل القطان ، عن جعفر الخلدي قال :

    سمعت الجنيد يقول : حججت على الوحدة فجاورت بمكة ،

    فكنت إذا جن الليل دخلت أطوف فإذا بجارية تطوف وهي تقول :

    أبى الحبّ أن يخفى وكم قد كتمته * فأصبح عندي قد أناخ وطنّبا

    إذا اشتدّ شوقي هام قلبي بذكره * وإن رمت قربا من حبيبي تقرّبا

    ويبدو فأفتى ثم أحيا بذكره * ويسعدني حتى ألذّ وأطربا

    قال : فقلت لها : يا جارية ، أما تتقين اللّه في هذا المكان ؟ تتكلمين بهذا الكلام ، فالتفتت إليّ



    وقالت : يا جنيد :

    لولا التقى لم ترني * أهجر طيب الوسن

    إن التقى شرّدني * كما ترى عن وطني

    أفرّ من وجدي به * فحبّه هيّمني

    ثم قالت : يا جنيد ، تطوف بالبيت أم برب البيت ؟ قلت : أطوف بالبيت ، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت : سبحانك ما أعظم شأنك في خلقك ، خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار ،



    ثم أنشأت تقول :

    يطوفون بالأحجار يبغون قربه * إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر

    وتاهوا ولم يدروا من النيّة من هم * وحلّوا محل القرب في باطن الفكر

    فلو صدقوا في الودّ غابت صفاتهم * وقامت صفات الودّ للحق في الذكر



    “ 183 “



    قال الجنيد : فغشي عليّ من قولها ، فلما أفقت لم أرها . قلت : كنت ليلة في الطواف ، فطلبت قلبي فلم أجده ، فهدت أن أجده ، فصعب عليّ الطواف بجسمي بقلب غير حاضر ، وداخلني خوف ، فنزلت أطوف في الرمل وحدي ، وأقول وأبكي :

    جسم يطوف وقلب ليس بالطائف * ذات تصدو ذات ما لها صارف

    هيهات هيهات ما اسم الزور يعجبني * قلبي له من خفايا فكره خائف

    ثم وجدت لمحة برقت ، فدنوت من البيت وأنا أقول : أطوف على طوافي بالمعاني .

    فهتف لي هاتف خلف الستر فقال :

    فغايتك الوصول إلى الغواني . فقلت : فكم من طائف ما نال إلا ؟

    فقال : ملاحظة من الجور الحسان . فقلت : فكم من طائف ما نال إلا ؟

    فقال : عيانا في عيان من عيان . فقلت : فأنبئني بحظي منه وأصدق .

    فقال : كيانا في كيان من كيان ، فقلت :

    فقد أودعته التوحيد عقدا * وكان يمينه بدل الجنان

    فقال :

    وربّ الراقصات بقاع سلع * وربّ مثالث تتلو المثاني

    لقد عاينته كالسلك فيه * فأبشر بالقبول وبالأماني

    ولأبي عبد اللّه أحمد بن محمد بن أحمد الشيرازي :

    إليك قصدي لا للبيت والأثر * ولا طوافي بأركان ولا حجر

    صفاء دمعي الصّفا لي حين عبره * وزمزمي دمعة تجري من النظر

    وفيك سعيي وتعميري ومزدلفي * والهدي جسمي الذي يغني عن الجزر

    عرفانه عرفاني إذ منى منن * ووقفتي وقفة في الخوف والحذر

    وجمر قلبي جمار تبدها شرري * والحرم تحريمي الدنيا عن الفكر

    ومسجد الخيف خوفي من تباعدكم * ومشعري ومقامي دونكم خطري

    زادي رجائي له والشوق راحلتي * والماء من عبراتي والهوى سفري

    واقعة لبعض الفقراء

    حدثنا عبد اللّه ابن الأستاذ المروزيّ ، قال : رأى بعض الفقراء من أصحابنا في واقعة كان الشيخ أبا مدين جالس وعلى رأسه ألوية مركوزة ، وإذا بشخص عليه مسح من شعر ،





    “ 184 “



    فسلم عليه ، ثم قال : يا سيدي ، جئت أسألك عن الروح وما سرّه ؟ فقال له الشيخ : السرّ هو الحقيقة لا تجلى عليه خليقة ، ولا دقيقة ، هو مادة اللّه في الوجود ، يأتي من عين اللطف والجود ، محرّك الحركات ، ومجمّد الجمادات ، ومنتشر في النباتات ، عنصره النور الإلهي ، ومنبعها النور الخفيّ ، به أقام إمداد الوجود إلى أمد ، وبه رفع السماوات بغير عمد ، فهو العمد الذي هم عنه عمون ، وإنما يراه المبصرون الذين له ينظرون ، وبه يسمعون ، وبه يعقلون .



    ثم قال الشيخ : يا من خلق الخلق أطوارا ، وأنطقهم سرا وجهارا ، وبصّرهم في نفوسهم فكرة واعتبارا ، قوم نبّهوا فانتبهوا ، وقوم أغلقوا فبقوا حيارى . ثم قال : إذا عرفك به أمدّ سرّك من سرّه ، فكنت قريبا بقربه ، ومنعما في قدسه ، وكشف لك عن وجهه ، فنظرت جماله به ، فالفروع راجعة إلى الأصول ، منها ظهرت ، وفيها أثرت ، فكل فرع هو أصله ، وكل مفترق هو جمعه .

    وروينا من حديث محمد بن سلامة ، عن الحسن بن ميمون بن علي بن عمر الدارقطنيّ ، عن أبي بكر محمد بن أحمد بن أسد ، عن محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، عن عمر بن طارق ، عن يحيى بن أيوب ، عن عيسى بن موسى بن اياس بن بكير ، أن صفوان بن سلام حدّثه ، عن أنس بن مالك ، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أنه قال : « اطلبوا الخير دهركم ، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم ، فإن للّه عز وجل نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوا اللّه أن يستر عوراتكم ، ويؤمن روعاتكم » .



    خبر ذي الأكتاف كسرى مع ساطرون

    روينا من حديث ابن هاشم ، عن خلّاد قرّة بن خلّاد السدوسيّ ، عن جنادة ،

    قال :كان كسرى سابور ذو الأكتاف ، غزا ساطرون ملك الحضر حصن بشاطئ الفرات ، فحصره سنتين ، فأشرفت بنت ساطرون يوما ، فنظرت إلى سابور ، وعليه ثياب ديباج ، وعلى رأسه تاج من ذهب مكلّل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ ، وكان جميلا ،

    فدست إليه : أتتزوجني إن فتحت لك باب الحصن ؟ قال : نعم .



    فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر ، وكان لا يبيت إلا سكران ، فأخذت مفاتيح باب الحصن من تحت رأسه ، فبعثت بها مع مولى لها ، ففتح الباب ، فدخل سابور وقتل ساطرون واستباح الحصن وخرّبه ، وسار بها معه فتزوجها ، فبينما هي نائمة على فراشها ليلا ، إذ جعلت تتململ لا تنام ، فدعا لها بالشمع ، ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس ،

    فقال لها سابور : هذا الذي أسهرك ؟ قالت : نعم . قال : ما




    “ 185 “



    كان أبوك يصنع بك ؟ قالت : كان يفرش لي الدّيباج ، ويلبسني الحرير ، ويطعمني المخّ ، ويسقيني الخمر . قال : أفكان جزاء أبيك ما صنعت به أنت إليّ بذلك أسرع ؟

    ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس ، ثم ركض الفرس حتى قتلها .

    وفي ذلك يقول عديّ بن زيد :

    والحصن صارت عليه داهية * من فوقه أيّد مناكبها

    مريبة لم تبق والدها * لحينه إذا ضاع راقبها

    إذا غبقته صهباء صافية * والخمر وهل يهيم شاربها

    وأسلمت أهله بليلتها * تظنّ أنّ الرئيس خاطبها

    فكان حظّ العروس إذ جشر * الصبح دما يجري سباسبها

    وخرب الحصن واستبيح وقد * أحرق في خدرها مشاجبها



    ومن قبله في الحضر موعظة ، والحضر بلد عظيم بين الموصل والفرات ونهر الشرتار . وهي :

    وتأمّل دبّ الخورنق إذا فك * ر يوما وللهدى تفكير

    وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج * لة تجبى إليه والخابور

    شاده مرمرا وجلّله كل * سا فللطّير في ذراه وكور

    لم يهبه الزمان فباد ال * ملك عنه فبابه مهجور

    ثمّ أضحوا كأنهم ورق جفّ * فالقرب به الصّبا والدّبور

    وقرأت على باب المدينة الزهراء التي صورتها فيه بعد خرابها ، فهي اليوم مأوى الطير والوحوش ، وبناء بنيانها عجيب في بلاد الأندلس ، قريب من قرطبة ،

    أبياتا تذكر العاقل ، وتنبّه الغافل ، وهي :

    ديار بأكناف المغيب تلمع * وما إن بها من ساكن وهي بلقع

    ينوح عليها الطير من كل جانب * فيصمت أحيانا وحينا يرجّع

    فخاطبت منها طائرا متفردا * له شجن في القلب وهو مروّع

    فقلت على ما ذا تنوح وتشتكي * فقال على دهر مضى ليس يرجع



    أخبرني بعض مشيخة قرطبة عن سبب بنيان المدينة الزهراء ، فقال : إنّ عبد الرحمن أحد خلفاء بني أمية بقرطبة ماتت سرّيّة له ، فتركت مالا كثيرا ، فأمر الخليفة أن يفك بذلك المال أسرى من المسلمين ، وطلب في بلد الإفرنج أسيرا فلم يجد ، فشكر اللّه على ذلك ،

    فقالت له الزهراء : اشتهيت لو بنيت لي مدينة سمّيتها باسمي ، تكون خاصة لي ، فبناها



    “ 186 “



    تحت جبل العروس من قبلة الجبل وشمال قرطبة ، وبينها وبين قرطبة اليوم قدر ثلاثة أميال أو دون ذلك ، وأتقن بناءها وأحكمه ، وأحكم الصنعة فيه . وقد ذكر تاريخها ابن حيّان ، وجعلها منتزها ومسكنا للزهراء ، وحاشية أرباب دولته ، ونقش صورتها على الباب ، فلمّا قعدت الزهراء في مجلسها على الجبل الأسود ، علتها فنظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر ذلك الجبل الأسود ،

    قالت : يا سيدي ، ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر هدا الزنجيّ ؟ فأمر بزوال الجبل ، فقال بعض جلسائه : أعيذ أمير المؤمنين من أن يخطر له ما يشين العقل بسماعه ، لو اجتمع الخلق وعمر الدنيا معهم ما أزالوه حفرا ولا قطعا ، ولا يزيله إلا من أنشأه ، فأمر بقطع شجرة وغرسه تينا ولوزا ، ولم يكن منظرا أحسن منها ، ولا سيما في زمن الإزهار ، وتفتّح الأشجار ، وهي بين الجبل والسهل .



    تذكرت أحبابي ورسم ديارهم فقلت :

    درست ربوعهم وإنّ هواهم * أبدا جديدا بالحشا لا يدرس

    هذي طلولهم وهذي الأربع * ولذكرها أبدا تذوب الأنفس

    ناديت خلف ركابهم من حبهم * يا من غناه الحسن ها أنا مفلس

    مرّغت خدّي رقة وصبابة * فبحقّ حق هواكم لا تؤيسوا

    من ظلّ في عبراته عرقا وفي * نار الأسى حرقا ولا متنفّس

    يا موقد النار الرويدا هذه * نار الصّبابة شأنكم فلتقبسوا



    ولنا من اللّطائف العرفانية في الإشارات :

    ألا يا ترى نجد تباركت من نجد * سقتك سحاب المزن جودا على جود

    وحيّاك من حيّاك خمسين حجّة * بعود على بدء وبدء على عود

    قطعت إليها كلّ قفر ومهمه * على الناقة الكوماء والجمل العود

    إلى أن تراءى البرق من جانب الغضا * وقد زادني مسراه وجدا على وجد



    أردت ترى نجد ، مركّب العقل وسحاب المعارف ، تسقيه علما على علم ، وخمسين حجة عمر الركب في هذا الوقت ، والتحية سلام الحق مرددا بلطائف التحف ، والإشارة بإلبها للحضرة والقفر ، والمهمة الرياضة النفسية والمجاهدة البدنية ، والناقة الكوماء الشريعة ، والجمل العود العقل المجرّد والبرق المطلوب ، والغضى الإشراق النوراني الذي لحجاب العزة الأحمى ، ومسراه لمعانه من جانب الكون ، فإن السر لا يكون إلا ليلا ، والكون الليل .

    حدثنا محمد بن قاسم ، ثنا أبو الطاهر أحمد بن الحسن ، عن أبيه محمد بن الحسن ،



    “ 187 “



    عن السادكوي ، عن النعمان بن عبد السلام ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تسبّوا الدنيا ، فنعمت مطية المؤمن ، عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ، إذ قال العبد : لعن اللّه الدنيا ، قالت الدنيا : لعن اللّه أعصانا لربه » .



    بناء ابن الزبير الكعبة وسببه

    روينا من حديث الأزرقي ، قال : حدثني جدي أحمد بن محمد ، عن سليم بن مسلم ، عن أبي جريج ، قال : سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها ، قالوا : لما أبطأ عبد اللّه بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية ، وتخلّف وخشي منه ، لحق بمكة ليمتنع بالحرم ، وجمع مواليه ، وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ، ويذكر أنه لا يصلح للخلافة لما هو عليه من الفسوق ، ويثبّط الناس عنه ، ويجمع الناس إليه ، فيقوم فيهم بين الأنام ، فيذكر مساوئ بني أمية ، وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكر فيهم ما رويناه أنهم من أشرّ الملوك . فبلغ يزيد بن معاوية ، فأقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولا ، وأرسل إليه رجلا من أهل الشام في خيل ، فعظم على ابن الزبير الفتنة ،

    وقال له الرجل : لا تستحل الحرم بسببك ، فإنه غير تاركك ، ولا تقوى عليه ، وقد لجّ في أمرك ، وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا ، وقد عمل لك غلا من فضة ، وتلبس فوقه ثيابك ، وتبرّ قسم أمير المؤمنين ، فالصلح خير عاقبة ، وأجمل بك وبه .

    فقال : دعوني أياما حتى أنظر في أمري ، فشاور أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق في ذلك ، فأبت عليه أن يذهب مغلولا ، وقالت : يا بنيّ ، عش كريما ، ومت كريما ، ولا تمكّن بني أمية من نفسك ، فتلعب بك ، فالموت أحسن بك من هذا ، فأبى أن يذهب إليه في غلّ ، وامتنع في مواليه ومن يألف إليه من أهل مكة وغيرهم ، فكان يقال لهم الزبيرية .



    فبينما يزيد على بعثه الجيوش إليه ، إذ أتى يزيد خبر المدينة بما فعل أهلها بعماله ، ومن كان بالمدينة من بني أمية ، وإخراجهم إياهم منها إلا ما كان من ولد عثمان بن عفان رضي اللّه عنه ، فجهّز إليهم مسلم بن عقبة المزني في أهل الشام ، وأمره بقتال أهل المدينة ، فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة ، وكان مسلم مريضا ، في بطنه الماء الأصفر ،

    فقال له يزيد : إن حدث بك حدث الموت ، فولّ الحصين بن نمير الكندي على جيشك ، فسار حتى قدم المدينة ، فقاتلوه ، فظفر بهم ودخلها ، وقتل من قتل منهم ، وأسرف في القتل ، فسمي بذلك مسرفا ، وانتهب المدينة ثلاثة أيام ، ثم سار إلى مكة ، فلما كان في



    “ 188 “



    بعض الطريق حضرته الوفاة ، فدعا الحصين بن نمير فقال : يا برذعة الحمار ، لولا أني أكره أن أتزوّد عند الموت معصية أمير المؤمنين ما ولّيتك ، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشا من أذنك فتبول فيها ، لا يكون إلا الوقاف ، ثم التفاف ، ثم انصراف ، فتوفي مسلم ، ومضى الحصين بن نمير إلى مكة ، فقاتل بها الزبير أياما ، وجمع ابن الزبير مواليه ، فتحصن بهم في المسجد الحرام حول الكعبة ، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد الحرام خياما زقاقا يكتنون فيها من حجارة المنجنيق ، ويستظلون فيها من الشمس ، وكان الحصين بن نمير قد نصب لهم المنجنيق على أبي قبيس ، وعلى الأحمر ، وهما أخشبا مكة ، فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة حتى تخرقت كسوتها عليها ، فصارت كأنها جيوب النساء .



    فوهن الرمي بالمنجنيق الكعبة ، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير ليوقد نارا في بعض تلك الخيام ، مما يلي الصفا بين الركن اليماني ، والمسجد الحرام يومئذ ضيّق صغير ، فطارت شرارة في الخيمة فاحترقت . وكانت في ذلك اليوم ريح شديدة ، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش : مدماك من ساج ومدماك من حجارة من أسفلها إلى أعلاها ، فأطارت الريح لهب تلك النار فأحرقت كسوة الكعبة ، فاحترق الساج الذي بين البناء . وكان احتراقها يوم السبت ثالث شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بسبعة وعشرين يوما ، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين . وكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر .



    فلما احترقت الكعبة ، واحترق الركن الأسود وتصدّع ، كان ابن الزبير بعد ربطه بالفضة ضعفت جدران الكعبة ، حتى إنه ليقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها ، ففزع لذلك أهل مكة والشام جميعا . والحصين بن نمير مقيم يحاصر ابن الزبير ، فأرسل ابن الزبير رجالا من قريش وغيرهم ، فيهم عبد اللّه بن خالد ، ورجالا من بني أمية إلى الحصين ، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة ، وقالوا : إن ذلك كان منكم ، رميتموها بالنفط .

    فأنكروا ذلك ، وقالوا : قد توفي يزيد ، فعلى ما ذا تقاتل ؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر ما ذا يجمع عليه أمر صاحبك ، يعنون معاوية بن يزيد ، وهل يجتمع الناس عليه ؟
    فلم يزالوا به حتى لان لهم . وقال له خالد بن عبد اللّه بن أسد : تراك تتهمني في يزيد حتى رجع إلى الشام .
    فلما أدبر جيش الحصين بن نمير ، وكان خروجه من مكة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم ، فشاورهم في هدم




    “ 189 “



    الكعبة ، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها . وقال عبد اللّه بن عباس : دعها على ما أقرّها عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها ، فلا تزال تهدم وتبنى ، ويتهاون بحرمتها ، ولكن ارقعها . فقال ابن الزبير : ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه ، فكيف أرقع بيت اللّه وأنا أنظر إليه على ما ترون من الوهن ؟ وكان ممن أشار بهدمها : جابر بن عبد اللّه ، وعبيد اللّه بن عمير ، وعبد اللّه بن صفوان بن أمية .

    ثم أجمع ابن الزبير رأيه على هدمها ، وكان يحب أن يكون هو الذي يردّها على ما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على قواعد إبراهيم ، وعلى ما وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعائشة . وأراد أن يبنيها بالورس ، ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى له ، فقيل له : إن الورس يذهب ، لكن ابنها بالفضة . فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار ليشترى له فضة ويكترى عليها . ثم سأل رجلا من أهل مكة : من أين أخذت قريش حجارتها ؟ فأخبروه ، فنقل من الحجارة قدر ما يحتاج إليه .

    فلما أراد هدمها خرج أهل مكة إلى منى ، فأقاموا بها ثلاثا فرقا ، من أن ينزل عليهم عذاب لهدمها ، فأمر ابن الزبير بهدمها ، فما اجترأ على ذلك أحد . فلما رأى ذلك علاها هو بنفسه ، وأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها . فلما رأوا أنه لم يصبه شيء ، اجترءوا فصعدوا وهدموها . وأرقى ابن الزبير فوقها عبيدا من الحبش يهدمونها ، رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي الذي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنه يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبش .

    وقال مجاهد : سمعت عبد اللّه بن عمرو بن العاص يقول : كأني به أصيلع أفيدع قام عليها يهدمها بمسحاته . قال مجاهد : فلما هدم ابن الزبير الكعبة ، جئت أنظر الصفة التي قال عبد اللّه بن عمرو ، فلم أرها . فهدموا وأعانهم الناس حتى ألصقها كلها بالأرض من جوانبها . وكان هدمها يوم السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين .

    ولم يقرب ابن عباس مكة حتى هدمت الكعبة حتى فرغ منها . وأرسل إلى ابن الزبير :

    لا تدع الناس بلا قبلة ، انصب لهم حول الكعبة الخشب ، واجعل عليها السور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلّوا إليها ، ففعل ذلك ابن الزبير ، وقال ابن الزبير : أشهد لسمعت عائشة تقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن قومك استقصروا في بناء البيت ، وعجزت بهم النفقة فتركوا في الحجر منها أذرعا ، ولو حداثة قومك بالكفر لهدمت الكعبة ، وأعدت ما تركوا منها ، وجعلت لها بابين موضوعين : بابا شرقيا يدخل فيها منه الناس ، وبابا غربيا يخرج منه الناس ، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها ؟ » ، قالت : قلت : لا . قال : « تعزّزا لئلا




    “ 190 “



    يدخلها إلا من أرادوا ، فكان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخلها دفعوه فسقط ، فإن بدا لقومك هدمها فهلمي أريك ما تركوا في الحجر منها » ، فأراها قريبا من سبعة أذرع .
    فلما هدّم ابن الزبير الكعبة وساواها في الأرض ، كشف عن أساس إبراهيم ، فوجده داخلا في الحجر نحوا من ستة أذرع وشبر ، كأنها أعناق الإبل ، أخذ بعضها ببعض ، تحرّك الحجر من القواعد ، فتحرّك الأركان كلها .
    فدعا ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم ، فأشهدهم على ذلك الأساس ، فأدخل رجل من القوم كان يقال له عبد اللّه بن قطيع عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت ، فتزعزعت الأركان كلها جميعا .



    ويقال إن مكة رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس ، وخاف الناس خوفا شديدا حتى ندم كل من أشار على ابن الزبير بهدمها ، وأعظموا ذلك إعظاما شديدا ، وسقط في أيديهم .



    فقال لهم ابن الزبير : اشهدوا ، ثم وضع البناء على ذلك الأساس ، ووضع حذاء الباب ، باب الكعبة ، على مدماك على الشاذروان اللاصق بالأرض ، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله ، وجعل عتبته على الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريبا من الركن اليماني ، وكان البنّاءون يبنون من وراء الستر ، والناس يطوفون من خارج .

    فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن ، وكان ابن الزبير حين هدم الكعبة جعل الركن في ديباج ، وأدخله في تابوت ، وأقفل عليه ، ووضعه عنده في دار الندوة ، وعمد إلى ما كان في الكعبة من جليل ، ووضعه في خزانة الكعبة في دار شيبة بن عثمان ، فلما بلغ البنيان موضع الركن اليماني ، أمر ابن الزبير بموضعه ، فنقر في حجرين : حجر من المدماك الذي تحته ، وحجر من المدماك الذي فوقه ، بقدر الركن ، وطوّق فوقه بينهما ، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عبّاد بن عبد اللّه بن الزبير ، وجبير بن شيبة بن عثمان ، أن يجعلوا الركن في ثوب ، وقال لهم ابن الزبير : إذا دخلت في صلاة الظهر فحملوه واجعلوه في موضعه ، فأنا أطوّل الصلاة ، فإذا فرغتم فكبّروا حتى أخفف صلاتي ، وكان ذلك في جرّ الشمس .



    فلما أقيمت الصلاة كبّر ابن الزبير وصلى بهم ركعتين ، فخرج عبّاد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن شيبة بن عثمان ، ودار الندوة يومئذ قريب من الكعبة ، فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء ، فكان الذي وضعه في موضعه



    “ 191 “

    هذا عبّاد بن عبد اللّه ، وأعانه عليه جبير بن شيبة ، فلما أقروه في موضعه ، وطوّق عليه الحجر ، كبّروا ، فأخف بهم ابن الزبير صلاته ، وتسامع الناس بذلك ، وغضب فيه رجال من قرش ، حيث لم يحضرهم ابن الزبير في ذلك ، وقالوا : واللّه لقد رفع في الجاهلية حين بنته قريش ، فحكموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد ، فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فجعله في ردائه .



    ودعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كل قبيلة من قريش رجلا ، فأخذوا بأركان الثوب ، ثم وضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في موضعه ، وكان الركن قد تصدع من الحريق ثلاث فرق ، وانشظّت منه شظية كانت عند بعض آل بني شيبة بعد ذلك بدهر طويل ، فشدّه ابن الزبير بالفضة إلى تلك الشظية من أعلاه ، موضعها بأعلى الركن ، ولما بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعا قصرت بحال الزيادة التي زاد من الحجر فيها ، واستمسح ذلك ، وصارت عريضة لا طول لها ،

    فقال : قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش تسعة أذرع أخرى طولا في السماء ، فأنا أزيد فيها تسعة أذرع أخرى ، فبناها سبعا وعشرين ذراعا ، فيها ثلاث دعائم ، فأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى من رخام بها يقال إنها الأبلق ، فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء ، وجعل الباب مصراعين .



    وكان في بناء قريش مصراعا واحدا وجعل ميزابها في الحجر ، فلما فرغ منها خلّقها من داخلها وخارجها ، من أعلاها إلى أسفلها ، وكساها القباطيّ ، وقال : من كانت عليه طاعة فليخرج فليعتمر من النعيم ، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل ، ومن لم يقدر فليذبح شاة ، فمن لم يقدر فليتصدّق بقدر طوله ، وخرج ماشيا ، وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمر من التنعيم شكرا للّه .

    ولم ير يوما كان أكثر عتيقا ولا أكثر بدنة منحورة ، ولا شاة مذبوحة ، ولا صدقة من ذلك اليوم . ونحر ابن الزبير مائة بدنة ، فهذه هي العمرة التي يعتمرها الناس اليوم في السابع والعشرين من رجب التي يسمونها عمرة الأكمه .



    وما زال البيت على حاله إلى أن قتل الحجّاج ابن الزبير ، فاستأذن الحجاج عبد الملك فيما أحدثه ابن الزبير في البيت ، فكتب إليه عبد الملك أن يهدم الجانب الذي يلي الحجر خاصة ، ويكبس البيت به ، ويغلق الباب الغربي ، ويرفع الباب الشرقي إلى حده الأول . ففعل الحجاج ذلك ، فبلغ بعد ذلك عبد الملك أن الذي فعله ابن الزبير على حديث عائشة صحيح ، حدث به الحارث بن عبد اللّه بن ربيعة المخزومي أنه سمع هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم . فقال عبد الملك : وددت واللّه أني كنت تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك .



    “ 192 “

    سماع العارف على قول القائل :
    هيّجتني إلى الحجون شجون * ليلة قد بدا لعيني الحجون
    حلّ في القلب ساكنوه محلا * من فؤادي يحلّ فيه المكين
    كلّ داء له دواء وداء ال * حبّ يا صاح داء دفين
    ليت شعري عمّن أحبّ يميني * عند ذكري كما أكون يكون

    الحجون العطف الإلهي على القلوب المتعلقة به المواصلة الأحزان له ، قوله : حلّ في القلب ، بين به . قوله تعالى : وسعني قلب عبدي المؤمن يطلع على تلك السّعة ، ليت إلى قوله كما أكون يكون قوله تعالى : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي .



    وهذا باب واسع في الشريعة .

    وسماعنا على قول قيس المجنون أيضا :
    ألا حبذا نجد وطيب ترابه * وأرواحه إن كان نجد على العهد
    ألا ليت شعري عن عوارضتي قبا * بطول الليالي هل تغيّرتا بعدي
    وعن جارتينا بالأثيل إلى الحمى * على عهدنا أم لم يدوما على عهد
    وعن أقحوان الرمل ما هو صانع * إذا ما تراءى ليلة بثرى نجد

    يقول : ألا حبّذا المراتب العليا ورفارفها وأرواحها إن كان يناسبها مني ممّن أخذ عليها العهد ، فليس نجد الأول هو نجد الثاني وعوارضتي قبا موضع القدمين من الكرسيّ ، والقدمين من النفس ، هل تغيّرتا بعدي لتغييري ؟

    فإنها بصفتي تقابلان إلا أن يمن فضلا بغير ذلك والجارتان ، القوتان بلا شك ، والأثيل الأصل الذي مرجعها إليه ، والحمى مقام العزة والمنع على عهدنا أم لم يدوما على العهد . إنما هي أعمالكم ترد عليكم ، وشغل أقحوان الرمل ما بينه من المعرفة في الشجرة الإنسانية .



    وسماعنا على قول الشريف الرضيّ :
    يا قلب ما أنت من نجد وساكنه * خلّقت نجدا وراء المذبح الساري
    أهفو إلى الركب تحدو لي ركائبهم * من الحمى في أسيحاق وأطمار
    تفوح أرواح نجد من ثيابهم * عند النزول لقرب العهد بالدار
    يا راكبان قفا لي فاقضيا وطري * وخبراني عن نجد بأخبار
    هل روّضت قاعة الوعساء أم مطرت * خميلة الطلح ذات البان والغار
    أم هل أبيت ودار عند كاظمة * داري وسمّار ذاك الحيّ سمّاري
    فلم يزالا إلى أن لم بي نفسي * وحدّث الدمع عني دمعي الجاري
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:20

    الجزء 13 .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء 13
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 193 “

    السماع في ذلك ، يقول لنفسه : أنت من عالم الخليقة ونزلت إلى عالم الشهوة والطبع ، لكني أهفو إلى العلا بما فيّ من أصالته فيما بقي عليّ من أطمار ما كان كساني ذلك المجد عند الإشهار . قال : تفوح أرواح العلا في أخلاقهم عند التنزّلات لقرب مشاهدة المنزل الذي يجمعهم . والراكبان خاطران علويان مرّا به على حاله ، فسألهما الخبر عن المقام العالي الأنزه : هل روّضت قاعة الطبيعة ؟ وهل نزلت غيوث الحياة لساحتها ؟ فأنبتت ما يؤدي إلى البينونة من الكون والغيرة من ظهور الغير هنالك ، فأثبت له الحق الخاطر ، أن يكرمه على ما أخبر ، إلى أن نزل عليه روحه الخاص به الذي كني عنه بالنفس ، فعقل عنهما ما جاء به وأودعهما حديثه بلسان الحال من جري الدموع على مفارقة الأوطان والربوع .

    قوله : أم هل أبيت ، أي سترى عن ظلام الغيب ، ودار عند كل كاظمة من كظم غيظه خلقا جميلا ، وسمّار ذاك الحي سماري ، بالترداد بيني وبينهم بما يكون فيه علو مقامي وارتفاع شأني .



    ومن باب الفخر

    سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا ينشد :
    إني امرؤ حميريّ حين تنسبني * لا من ربيعة آبائي ولا مضر
    فقال : « ذلك الأمر لك أبعد من اللّه ورسوله » .

    ومرّ العباس بن عبد المطلب بنفر من قريش يقولون : إنما مثل محمد في أهله مثل نخلة نبتت في كناسة ، فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فوجد منه ، فخرج حتى قام فيهم خطيبا ، ثم قال : « أيها الناس من أنا ؟ » ، قالوا : أنت رسول اللّه ، قال : « فأنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب بن هاشم ، إن اللّه تعالى خلق خلقه فجعلني من خير الفريقين ، ثم جعلهم شعوبا فجعلني من خيرهم شعبا ، ثم جعلهم بيوتا فجعلني من خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا ، وخيركم والدا ، وإني لمباه لكم . قم يا عباس » ، فقام عن يمينه ، ثم قال : « قم يا سعد » ، فقام عن يساره ، فقال : « فربّ لامرئ منكم عمّا مثل هذا وخالا مثل هذا » .



    ولبعضهم يفتخر :
    إذا مضر الحمراء كانت أرومتي * وقام بنصري حازم وابن حازم
    عطست بأنف شامخ وتناولت * يداي الثريا قاعدا غير قائم

    قلت : ولقد فخرت بأحسن من هذا فقلت :



    “ 194 “



    لنا همّة أن الثريا لدونها * نعم ولنا فوق السماكين منزل
    تقدمت سبقا في المكارم والعلا * وفي كل ما ينكي العدا أنا أول
    ولم ألف صمصاما بقدر عزيمتي * ولو جمعوا الأسياف عزمي أفضل
    كذلك جودي لا يفي الغيث والثرى * إذا كان أموالا به حين أبذل
    إذا التحم الجمعان في حومة الوغى * وكانت نزالا ما عليه معوّل
    نضيت حساما للردى في فرنده * شعاع له بين الفريقين فيصل
    له عزمة لا تبتغي غير كبشهم * فليس له عن قمة الهام معدل
    حملت به لا أرهب الموت والردى * ولا أبتغي حمدا له النفس تعمد
    ولكن ليعلو الدين عزّا وشرعة * إلى موضع عنه الطواغيت تسفل
    أنا العربي الحاتمي أخو الندى * لنا في العلا المجد القديم المؤثل
    فكلّا فعزمي ليس يسمو إلى العلا * ألا كيف يسمو والعلا منه أسفل

    ولنا أيضا من قصيدة أفتخر فيها :
    أنا ابن الرابعين إذا انتسبنا * وعندي صار خمس المسلمينا
    بشرى سيف بن ذي يزن لعبد المطلب برسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وخلافة بني العباس حين وفد عليه في وفد قريش

    روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : ثنا سليمان إملاء ، ثنا أحمد بن يحيى بن خالد الراقي ، نبأ عمرو بن بكر بن بكّار القصيّ ، عن أحمد بن قاسم الطائي ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما ظهر سيف بن ذي يزن على اليمن فظفر بالحبشة ونفاهم عنها ، وذلك بعد مولد النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنتين ، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنّئه وتمدحه ، وتذكر ما كان من بلائه في طلب ثأر قومه ، فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد اللّه بن جدعان ، وخويلد بن أسد بن عبد العزّى ، ووهب بن عبد مناف بن زهرة ، في أناس من وجوه قريش ، فقدموا عليه بصنعاء ، وهو في رأس قصر له يقال له غمدان ، وهو الذي قال فيه أمية بن أبي الصلت :

    لا تطلب الثأر إلا كابن ذي يزن * يتمّم البحر للأعداء أخوالا
    أتى هرقل وقد شالت نعامته * لم يجد عنده النصر الذي شالا
    ثم انتهى عنه كسرى بعد تاسعة * من السنين يهين النفس والمالا
    حتى أتى ببني الأحزان يحملهم * تخالهم فوق متن الأرض أجبالا



    “ 195 “

    من مثل كسرى شهنشاه الملوك لهم * ميل وهدي يؤم الجيش أرسالا
    للّه درهم من فتية صبروا * ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا
    بيض مرازبة غلب حجا حجة * أسد يربين في الغيضات أشبالا
    يرمون عن شدف كأنها غيظ * بزمخر تعجل المرمى إعجالا
    لا يضجرون وإن كلّت نوائلهم * ولا ترى منهم في الطعن ميّالا
    أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد * أضحى شديدهم في الناس إقلالا
    فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دار منك محلالا
    واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم * واسبل اليوم في برديك إسبالا
    تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا


    قال : فاستأذنوا عليه ، فأذن لهم ، فإذا الملك متضمّخ بالعنبر ينطف ، وبيض المسك من مفرقه ، وعن يمينه وعن شماله الملوك وأبناء الملوك والمقاول ، فلما دخلوا عليه دنا منه عبد المطلب فاستأذن في الكلام ، قال له سيف بن ذي يزن : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنّا لك .

    فقال عبد المطلب : أيها الملك ، إن اللّه قد أحلّك محلا رفيعا شامخا منيعا ، وأنبتك منبتا طابت أروبته ، وعذبت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه ، في أطيب موطن ، وأكرم معدن ، فأنت أبيت اللعن رأس العرب ، وربيعها الذي تخصب به ، وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد ، وعمودها الذي عليه العماد ، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد ، سلفك لنا خير سلف ، وأنت لنا منهم خير خلف ، فلم يهلك من أنت خلفه ، ولم يخمد ذكر من أنت سلفه ، نحن أيها الملك أهل حرم اللّه ورسوله ونبيّه ، أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشف الكرب الذي فدحنا ، ونحن وفد التهنية لا وفد المرزية .
    فقال سيف بن ذي يزن : وأيهم أنت أيها المتكلم ؟ قال : أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف . قال : ابن أختنا . قال : نعم . فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم .
    قال : مرحبا وأهلا ، وناقة ورحلا ، ومناخا سهلا ، وملكا رعلا ، يعطي عطاء جزلا . قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم ، وأنتم أهل الليل والنهار ، لكم الكرامة إذا أقمتم ، والحباء إذا أظعنتم ، انهضوا إلى دار الضيافة والوفود . وأمرهم بالإنزال ، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ، ولا يؤذن لهم في الانصراف .

    ثم انتبه لهم انتباهة ، فأرسل إلى عبد المطلب دونهم ، فلما دخل عليه أدناه وقرّب مجلسه واستحباه ، ثم قال له : يا عبد المطلب ، إني مفوّض إليك من سرّ علمي ما لو غيرك يكون لم أبح به ، ولكن وجدتك معدنه ، فأطلعتك طلعه ، فليكن عندك مطويا حتى يأذن اللّه فيه ، فإن اللّه تعالى بالغ أمره ،


    “ 196 “

    إني أجد في الكتاب المكنون ، والعلم المخزون ، الذي اخترناه لأنفسنا ، واحتقبناه دون غيرنا ، خبرا عظيما ، وخطرا جسيما ، فيه شرف الحياة ، وفضيلة الوفاة ، للناس كافة ، ولرهطك عامة ، ولك خاصة .


    فقال عبد المطلب : مثلك أيها الملك من سرّك وبرّ ، فما هو ؟ فذاك أهل الوبر زمرا بعد زمر . قال : إذا ولد بتهامة غلام به علامة ، بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة . قال عبد المطلب : أبيت اللعن ، لقد أبت بخير ما آب به وافد قومك ، ولولا هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لسألته من سأراه إياي ما ازداد به سرورا .

    قال سيف بن ذي يزن : هذا حين يولد فيه أو قد ولد ، اسمه محمد ، بين كتفيه شامة ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ، قد وجدناه مرارا ، واللّه باعثه جهارا ، وجاعل له منا أنصارا ، يعزّ بهم أولياءه ، ويذل بهم أعداءه ، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم الأرض ، يعبد الرحمن ، ويزجر الشيطان ، ويخمد النيران ، ويكسر الأوثان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله .



    قال عبد المطلب : أيها الملك ، عز جارك ، وسعد جدك ، وعلا كعبك ، ونما أمرك ، وطال عمرك ، ودام ملكك ، فهل الملك سارّي بإفصاح ، فقد أوضح بعض الإيضاح . قال سيف بن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات ذي النقب ، إنك يا عبد المطلب لجده بلا كذب .

    قال : فخرّ عبد المطلب ساجدا . فقال سيف : ارفع رأسك ، فقد ثلج صدرك ، وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك ؟ قال عبد المطلب : نعم أيها الملك ، إنه كان لي ابن ، وكنت به معجبا ، وعليه رفيقا ، فزوّجته كريمة من كرائم قومي : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة ، فجاءت بغلام وسمّيته محمدا ، ومات أبوه وكفلته أنا وعمه ، بين كتفيه شامة ، وفيه كلما ذكرت من علامة .



    فقال سيف : إن الذي ذكرت لكما ذكرت ، فاحتفظ به ، واحذر عليه اليهود ، فإنهم له أعداء ، ولن يجعل اللّه لهم عليه سبيلا ، واطو ما ذكرت لك دون هذا الرهط الذي معك ، فإني لست آمن أن يدخلهم التحاسد من أن يكون لك الرئاسة فيبغون لك الغوائل ، وينصبون له الحبائل ، وهم فاعلون أو أبناؤهم ، ولولا أني أعلم أن الموت محتاجي قبل مبعثه ، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار ملكه ، فإني أجد في الكتاب الناطق ، والعلم السابق ، أن بيثرب استحكام أمره ، وموضع قبره ، وأهل نصرته ، ولولا أني أقيه من الآفات ، وأحذر عليه من العاهات ، لأوطأت أسنان العرب كعبه ، ولأعلنت على حداثة من سنّه ذكره ، ولكني صارف إليك من غير تقصير بمن معك .



    “ 197 “



    ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل ، وعشرة أعبد ، وعشرة إماء ، وعشرة أرطال فضة ، وخمسة أرطال من الذهب ، وكرش مملوء عنبرا ، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك ، وقال له : إذا كان رأس الحول فائتني بخبره ، وما يكون من أمره .



    فهلك سيف بن ذي يزن قبل رأس الحول ، وكان عبد المطلب يقول : لا يغبطني يا معشر قريش رجل منكم لجزيل عطاء الملك وإن كثر ، فإنه إلى نفاد ، ولكن يغبطني بما يبقي له شرفه وذكره ، ولعقبي من بعدي . فكان إذا قيل له : وما ذاك ؟ قال : سيعلن ولو بعد حين .


    وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصّلت :
    جلبنا النصح معقبة المطايا * على أكوار جمال ونوق
    مغلغلة مرافقها تعالى * إلى صنعاء من فجّ عميق
    نؤمّ بها ابن ذي يزن وتفري * بطون خفافها أمّ الطريق
    ونلمح من مخايله بروقا * مواصلة الوميض إلى بروق
    فلما واقعت صنعاء صارت * بدار الملك والحسب العتيق
    وفي الحديث المشهور عن ابن عباس أن الحبر قال لعبد المطلب : أشهد أن في إحدى يديك ملكا ، وفي الأخرى نبوءة ، وذلك قبل تزويج عبد اللّه في بني زهرة ، فكان كما قال : النبوّة والخلافة العباسية .


    شرح

    شدف المعوجّ من كل شيء : وارد به القسي . والزّجر : النشاب . والإرسال :
    الجماعات . والنوانك : جمع نانك ، وهي الناقة الحسناء ذات الشحم ، يقال لها : نانك الناقة ، تنوك ، نوكا إذا سمنت . والمرزية بفتح الميم ، والرزية : المصيبة . الريحل والسبحل : الضخم . احتجناه : أي اخترناه . والزعامة : السيادة والتقدم .

    احتقبت البعير :
    إذا شددت رجله بالحقب ، وهو الحبل الذي يشدّ به .

    ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه « مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن » قال : قال شاه بن شجاع الكرماني : دخلت البادية فرأيت غلاما أمرد كأنه موسوس لا يألف أهل القافلة ، فساعة يشير إلى السماء ، وساعة يصيح ، فقمت لأنظر في شأنه ومن أين معاشه ، ولم يكن معه زاد ، ولا غطاء ، ولا وطاء . فراقبته يوما فدخل وسط أشجار أم


    “ 198 “



    غيلان ، فتبعته فإذا هو يجني من شجره شيئا يأكله ، فلما بصر بي أنشأ يقول :
    باعتزالي عنكم في الخلوات * صار طعمي التمر وسط الفلوات


    من استنصر ببسم اللّه الرحمن الرحيم
    روينا من حديث الدنهوري قال : حدثنا إبراهيم بن سهلويه ، عن عبد اللّه بن عبد الوهاب ، عن نافع عن ابن عمر قال : بينما عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، في جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، يتذكرون فضائل القرآن . فقائل منهم خاتمة سورة البقرة ، وقائل خاتمة بني إسرائيل ، وقائل كهيعص ، وطه .

    وأكثروا في القول ، وفي القوم عمرو بن معدي كرب الزبيدي في ناحية إذ قال : يا أمير المؤمنين ، فأين أنتم من عجيبة بسم اللّه الرحمن الرحيم ؟
    فو اللّه إنّ في بسم اللّه الرحمن الرحيم لعجيبة من العجب .
    فاستوى عمر جالسا وكان متكئا ، وكان يعجبه حديث عمرو فقال له : يا أبا ثور ، حدّثنا بعجيبة بسم اللّه الرحمن الرحيم .
    فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه أصابنا في الجاهلية مجاعة شديدة ، فاقتحمت بفرسي البرية أطلب شيئا ، فو اللّه ما أصبت إلا بيض النعام ، وإن فرسي لتلتئم من فناء البرية .
    فبينما أنا كذلك ، إذ رفعت لي خيمة وماشية ، فأتيت الخيمة فإذا بجارية كأحسن البشر ، وإذا بفناء الخيمة شيخ متكئ ، فقلت لما داخلني من هول الجارية ومن ألم الجوع : استأسر ، ثكلتك أمك .

    فقال : يا هذا ، إن أردت القرى فانزل ، وإن أردت معونة أعنّاك .
    فقلت : استأثر ثكلتك أمك . فقال لي مثل قوله الأول ، ونهض نهوض شيخ لا يقدر على القيام ، فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ثم جذبني إليه فإذا أنا تحته وهو فوقي ، فقال : أقتلك أم أخلّي عنك ؟ فقلت : بل خلّ عني .
    فنهض عني وهو يقول :
    عرضنا عليك النزل منا تكرّما * فلا ترعوي جهلا كفعل الأشائم
    وجئت بعدوان وظلم ودون ما * تمنيته في البيض حرّ الغلاصم

    فقلت في نفسي : يا عمرو ، أنت فارس العرب للموت أهون من الهرب من هذا الشيخ الضعيف ، فدعتني نفسي إلى معاودته ثانية ، وأنشأت أقول :
    رويدك لا تعجل بليت بصارم * سليل المعالي هزبريّ قماقم
    لئن ذلّ عمرو ثم ذلّ عجيبة * ولم يك يوما للبراز بحاجم
    طمعت لما منّتك نفسك تسلمن * سقتك المنايا كأسها بالصرائم
    فما لك بدل دون نفسك تسلمن * هنالك أو تصبر لحزّ الغلاصم


    “ 199 “
    فما دون ما تقواه للنفس مطمع * سوى أن أجزّ الرأس منك بصارم

    ثم قلت له : استأسر ثكلتك أمك ، فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، ثم جذبني جذبة مثلت تحته ، فاستوى على صدري وقال : أقتلك أم أخلّي عنك ؟ فقلت : بل خلّ عني . فنهض وهو يقول :
    ببسم اللّه والرحمن فزنا * قديما والرحيم به قهرنا
    وهل تغني جلادة ذي حفاظ * إذا يوما لمعركة نزلنا
    وهل شيء يقوم لذكر ربي * وقدما بالمسيح هناك عذنا
    سأقصم كل ذي جنّ وإنس * إذا يوما لمعضلة حللنا

    فعاودتني نفسي ، فقلت : استأسر ثكلتك أمك . فدنا مني وهو يقول : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، فملئت منه رعبا يا أمير المؤمنين ، وكنا لا نعرف مع اللات والعزّى شيئا .

    ثم دنا مني وجذبني جذبة فصرت تحته ، فقلت : خلّ عني . فقال : هيهات ! بعد ثلاث مرات ما أنا بفاعل ، ثم قال : يا جارية ، ائتني بشفرة ، فأتت بها ، فجزّ ناصيتي ، ثم نهض وهو يقول :
    مننّا على عمرو فعاد لحينه * وثنّى فثنينا فساء وما فعل
    وفي اسم ذي الآلاء عزّ ورفعة * ومحترز لو كان سامعه عقل

    وكنا يا أمير المؤمنين إذا جزّت نواصينا استحينا أن نرجع إلى أهلنا حتى تنبت ، فرضيت أن أخدمه حولا . فلما حال الحول قال : يا عمرو ، إني أريد أن تنطلق معي إلى البرّية وما بي من وجل ، وإني لواثق ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، فانطلقت معه حتى أتى واديا فهتف بأهله ببسم اللّه الرحمن الرحيم فلم يبق طائر في وكره إلا طار ، ثم هتف الثانية فلم يبق سبع في مربضه إلا نهض ، ثم هتف الثالثة فإذا هو بأسود كالنخلة السحوق ، وإذا هو لابس شعرا فرعبت ، فقال الشيخ : لا ترع يا عمرو إذا نحن اصطرعنا ،

    فتلا عليه صاحبي :
    بسم اللّه الرحمن الرحيم ، قال : فاصطرعا . فقلت : عليه باللّات والعزّى ، فلطمني لطمة كاد يقلع رأسي ، فقلت له : لست بعائد ، فاصطرعا ، فقلت : عليه ببسم اللّه الرحمن الرحيم ، قال : فعلاه الشيخ فبعجه كما تبعج الفرس ، وشق بطنه واستخرج منه كهيئة القنديل الأسود .
    فقال لي : يا عمرو هذا غشه وكفره ، فقلت له : فداك أبي وأمي ما لك ولهذا القوم ؟
    فقال : يا عمرو ، إن الجارية التي رأيتها في الخباء هي الفارعة بنت المسور ، وكان رجلا من الجنّ ، وكان مؤاخيا لي ، وكان على دين المسيح عليه السلام ، وهؤلاء قومها يغزوني كل سنة منهم رجل فينصرني اللّه عليه ببسم اللّه الرحمن الرحيم . فانطلقنا


    “ 200 “

    حتى أمعنّا في البرية ، قال : يا عمرو ، قد رأيت ما كان مني وأنا جائع فالتمس لي شيئا آكله ، فالتمست فما وجدت له إلا بيض النعام ، فأتيته وهو نائم ، وقد توسد إحدى يديه ، وتحته سيفه وهو سيف طوله سبعة أشبار ، وعرضه أقلّ من شبرين ، وهو الصمصامة ، فاستخرجت سيفه من تحته فضربته ضربة قطعت منه الساقين ،
    فقال : يا غدّار ما أغدرك . فلم أزل أضربه حتى قطعته إربا إربا .
    فغضب عمرو رضي اللّه عنه وقال : وأنا أقول كما قال العبد : ظفر بك رجل من المسلمين ، فأنعم عليك ثلاث مرات ووجدته نائما فقتلته .
    واللّه لو كنت مؤاخذك في الإسلام بما فعلت في الجاهلية لقتلتك به .

    ثم أنشأ عمر يقول :
    إذا قتلت أخا في السلم تظلمه * أفّ لما جئته في سالف الحقب
    الحرّ يأنف مما أنت تفعله * تبّا لما جئته في العجم والعرب
    لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلت * في الجاهلية أهل الشرك والصلب
    إذا لنالتك من عدلي مشطبة * يدعى لذائقها بالويل والحرب
    ثم قال : ما كان من حديثه يا عمرو ، قال : فأتيت الخيمة فاستقبلتني الجارية فقالت :
    يا عمرو ، ما فعل الشيخ ؟ قلت : قتله الحبشيّ ، قالت : كذبت ، قتلته أنت يا غدّار ،
    ثم دخلت الخيمة فجعلت تبكي وتقول :
    عين جودي لفارس مغوار * فاندبيه بواكفات غزار
    سبع وهو ذو وفاء وعهد * ورئيس الفخار يوم الفخار
    لهف نفسي على بقائك يا عم * رو وأسلمته والحماة للأقدار
    بعد ما جزّ ما به كنت تسمو * في زبيد ومعشر الكفّار
    ولعمري لو رمته أنت حقا * رمت منه كصارم بتّار
    فجزاك المليك سوءا وهونا * عشت منه بذلّة وصغا
    قال : فدخلت الخيمة أريد قتلها فلم أر أحدا كأنّ الأرض قد ابتلعتها ، فاقتلعت الخيمة ، وسقت الماشية حتى أتيت بها قومي بني زبيد .


    دعاء مأثور لذنب مغفور
    حدثنا ببغداد سنة ثمان وستمائة صاحبنا الإمام سراج الدين عمر بن مكي بن علي بن محمد بن عبد اللّه الجوزي قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المنام ، فقال : « من أراد أن يغفر اللّه له فليدع بهذا الدعاء وهو : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفّة والغنى ، فائتنا سؤلنا ،


    “ 201 “


    وارزقنا أمنيتنا » . أو قال : « فائتني في الدنيا والآخرة حسنة برحمتك يا أرحم الراحمين » .
    الشك من الراوي ولا يدري أيهما ؟
    قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : " فينبغي أن يجمع بينهما " .

    وحدثنا ببغداد في التاريخ أبو عبد اللّه محمد بن سعيد بن يحيى بن علي بن الرئيس لفظا قال : حدثنا أبو نصر يحيى بن هبة اللّه بن محمد البزار بواسط قراءة مني عليه ، قال : سمعت أبا المكرم خميس بن علي الحافظ يقول : سمعت أبا محمد طلحة بن علي الرازي الصوفي يقول : رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ببغداد في مسجد عتّاب ، والمسجد غاص بأهله ، وهو عليه الصلاة والسلام في المحضر ، وعليه بردة كحلاء ، وهو متقلد سيفا ، وفي الجماعة أبو محمد التميمي وهو يقول له : يا رسول اللّه ، ادع اللّه لنا ، فبسط كفيه وقال ، وأنا أقول معه : « اللهم إني أسألك حسن الاختيار في جميع الأقدار " .



    ومما قلته وأنا منفرد بفلاة يتما :
    وليّ اللّه ليس له أنيس * سوى الرحمن فهو له جليس
    يذكّره فيذكره فيبكي * وحيد الدهر جوهره نفيس


    ولنا في المعارف من باب التشبيب :
    طلع البدر في دجى الشعر * وسقى الورد نرجس الخفر
    غادة تاهت الحسان بها * وزها نورها على القمر
    هي أسنى من المهاة سنا * صورة لا تقاس بالصور
    فلك النور دون أخمصها * تاجها خارج عن الأكر
    إن سرت في الضمير يجرحها * ذلك الوهيم كيف بالبصر
    لعبة ذكرنا يذوّبها * لطغت من مسارح النظر
    طلب النعت أن يبيّنها * فتعالت فعاد ذا حصر
    وإذا رام أن يكيّفها * لم يزل ناكصا على الأثر
    إن أراح المطيّ طالبها * ما أراحوا مطيّة الفكر
    روحنت كل من أشبّ بها * نقله عن مراتب البشر
    غيرة أن يشاب رائقها * بالذي في الحياض من كدر

    تمّ المجلس .
    روينا من حديث ابن إسحاق عن الكلبيّ عن أبي صالح مولى أم هانئ عن ابن عباس ، قال : كانت العرب على دينين : حلة وحمس .
    فالحمس قريش وكل من ولدت العرب :
    كنانة ، وخزاعة ، وأوس ، وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وأزد شنوءة ، وحوم ، وزبيد ،



    “ 202 “


    وبنو ذكوان من سليم ، وعمرو اللّات ، وثقيف ، وغطفان ، وعوف ، وعدوان ، وعلاق ، وقضاعة .
    وكانت قريش إذا أنكحوا غريبا امرأة منهم اشترطوا عليه أن كل من ولدت فهو أحمس على دينهم . وزوّج الأردم تميم بن غالب بن فهر بن مالك ابنة محمد بن تيم بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، على أن ولدها منه أحمس على سنّة قريش . وفيها يقول لبيد بن ربيعة الكلبيّ :
    سقى قومي بني مجد وأسقى * نميرا والقبائل من هلال
    وتزوج منصور بن عكرمة بن حفصة بنت سلمى بنت ضبيعة بن علي بن يعصر بن قيس بن غيلان ، فولدت له هوازن ، فمرض مرضا شديدا ، فنذرت سلمى لئن برئ لتحمسنه ، فلما برئ أحمسته . فلم تكن نساؤهم ينسجن ولا يغزلن الشعر ولا يسلين السمن إذا أحرموا .

    وكانت الحمس إذا أحرموا لا يأقطون الأقط ، ولا يأكلون السمن ، ولا يسلونه ، ولا يمخضون اللبن ، ولا يأكلون الزبد ، ولا يلبسون الوبر ، ولا يلبسون الشعر ولا الوبر ، ولا ينسجونه ، وإنما يستظلون بالأدم ، ولا يأكلون شيئا من نبات الحرم ، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ، ولا يحفزون فيها بدنة ، ويطوفون بالبيت وعليهم ثيابهم . وكانوا إذا أحرم الرجل منهم في الجاهلية وأول الإسلام ، فإن كان من أهل المدر يعني من أهل البيوت والقرى ، نقب نقبا في ظهر بيته ، فمنه يدخل ، ومنه يخرج ، ولا يدخل من بابه .

    وكانت الحمس تقول : لا تعظّموا شيئا من الحل ، ولا تجاوروا الحرم في الحج ، فلا يهاب الناس حرمكم ، فقصّروا عن مناسك الحج والمواقف من عرفة ، وهو من الحلّ ، فلم يكونوا يقفون به ، ولا يفيضون منه ، وجعلوا موقفهم في الحرم ، ومن نمرة ، وكانوا يدفعون في غروب الشمس .
    وكانت الحمس إذا أحرمت وأرادت دخول بيتها تسوّرت من ظهور البيوت وأدبارها .

    ويحرّمون الدخول من أبوابها حتى بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم فأحرم عام الحديبية ، ودخل بيته ، وكان معه رجل من الأنصار ، فوقف الأنصاري بالباب فقال له : « ألا تدخل ؟ » ، فقال الأنصاري ؛ أنا أحمس يا رسول اللّه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « وأنا أحمس ، ديني ودينك سواء » . فدخل الأنصاري مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رآه دخل من بابه ، فأنزل اللّه تعالى : وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها .
    وكانت الحلة تطوف بالبيت ، أول ما يطوف الرجل والمرأة في أول حجة يحجّها


    “ 203 “

    عراة ، فكانت المرأة تضع إحدى يديها على قبلها ، والأخرى على دبرها ، ثم تقول : اليوم يبدو بعضه ، أو كله ، وما بدا منه ، فما أحلّه إلا أن يستعيروا من الحمس ثيابا يطوفون بها .
    حتى إنهم كانوا يقفون عند باب المسجد فيقولون للحمس : من يعير معوزا ، من يعير مصونا ؟ فإن أعاره أحمسي ثوبه طاف به ، ولا يرون أنهم يطوفون بالثياب التي قارفوا فيها الذنوب .
    وحدثنا محمد بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد ، ثنا ابن علي ، ثنا محمد بن أحمد ، ثنا ابن الجارحي ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا عبد اللّه بن المغيرة ، ثنا عقارة بن مسلم ، ثنا حمّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا يكمل إيمان عبد حتى تكون فيه خمس خصال : التوكل على اللّه ، والتفويض إلى اللّه ، والتسليم لأمر اللّه ، والرضا بقضاء اللّه ، والصبر على بلاء اللّه . إنه من أحبّ للّه ، وأبغض للّه ، وأعطى للّه ، ومنع للّه ، فقد استكمل الإيمان " .

    وحدثنا عبد الواحد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، ثنا عمر بن عبد المجيد ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا أبو نصر بن علي ، ثنا أحمد بن عبد اللّه ، حدثنا نصر بن أحمد ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أحمد بن كامل ، ثنا أبو قلابة ، نبأ الحسين بن حفص ، نبأ سفيان ، عن أحمد ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :

    « إن العبد لا يكتب في المسلمين حتى يسلم الناس من يده ولسانه ، ولا ينال درجة المؤمنين حتى يأمن جاره بوائقه ، ولا يعد من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ، إنه من خاف البيان أدلج ، ومن أدلج في المسير وصل ، وإنما تعرفون عواقب أعمالكم ، لو قد طويت صحائف آجالكم . أيها الناس ، إن نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاسق شرّ من عمله » .



    وسماعنا على قول كثيّر عزّة
    لقد حلفت جهدا بما حلفت له * قريش غداة المأزمين وصلّت
    وكانت لقطع الحبل بيني وبينها * كناذرة نذرا فأوفت وحلّت
    فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة * إذا وطنت يوما لها النفس ذلّت

    السماع في ذلك : المأزمين ، المضيق الذي بين عالم الغيب والشهادة ، هنالك تنحر النفوس عن أغراضها ، تنحرها حال الجمعية التي كنى عنها بقريش . التقريش : التضييق .
    وصلت : دعت إلى مقامها . وذاني : هي الخالفة . وقطع الحبل بيننا : انفصالها عن ظلمة


    “ 204 “

    هذا الهيكل لما تقاسي فيه من ذلّ الحجاب . ولولا قوتها على الذلّ فيما يصيبها من المقام الأعز الأحمى لهلكت رأسا واحدا ، ولكن الشيء لا يهلك عن حقيقته فالذلّ لها ذاتي ، فإن الإمكان افتقار وعجز محض ، فالذلّ وصف ولازم ، وهو في غير ذلك المقام بالعرض .

    وسماعنا على قول ابن الدمينة :
    ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد * لقد زادني مسراك وجدا على وجد
    لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى * على فنن غضّ النبات من الرند
    بكيت كما يبكي الوليد ولم يكن * جليدا وأبديت الذي لم يكن يبدي
    وقد زعموا أن المحب إذا دنا * يمل وأن النأي يشفى من الوجد
    بكل تداوينا فلم يشف ما بنا * على أن قرب الدار خير من البعد
    على أن قرب الدار ليس بنافع * إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ

    السماع في ذلك : النفس طالع من المقام الأعلى كني عنه بالصّبا . والسؤال بالزمان لإحساسه به في عالم التركيب أثرا لا عينا لعلوّها عن ذلك . وكلما توالى السرى زادت المعارف ، فيمكن الشوق ، ويضاعف الوجد والبلوى . ثم قال : لئن هتفت النفس الأبية العلوية في زمان قوة النور الأجلي صارخة على فنن الاعتدال الأكمل ، الذي نشأ الكامل عليه في أول أمره ، وجعله زندا للدهن الذي به مادة بقاء الأنوار ، وما فيه من المنافع ، يكتب يقول : للنفس الحرية كما يبكي الوليد من الولادة ، لأنها منها . فجاء بما يشير به من الألفاظ إليها ، وكيف يكون جليدا فرع دعاه أصله إليه فأبدى ما لديه .

    وقد زعموا وهو حق أن المحبّ إذا دنا من عالم الملك يمل وأن النأي البعيد عنه يريح من الألم صحيح ، فهذا أنبأ عن أمر محقق ، فالتجلي هناك لا يتكرر ، والنعيم له مثله فلا ملل ، وقد تداوى المجنون بهما ، وقرب دار كل محب حيث كان حبيبه خير له من بعدها ، وكنى عن النفس بالورقاء ، كما كنّت الحكماء عنه بهذا الاسم ، وفيها يقول بعضهم القصيدة التي شهرت بين العلماء :
    هبطت إليك من المحل الأرفع * ورقاء ذات تعزّز وتمنّع
    محجوبة عن كل مقلة ناظر * وهي التي سفرت ولم تتبرقع
    وصلت على كره إليك وربما * كرهت فراقك وهي ذات تفجّع
    أنفت وما سكنت فلما واصلت * ألفت مجاورة الخراب البلقع
    وأظنها نسيت عهودا في الحمى * ومنازلا لفراقها لم تقنع
    حتى إذا نزلت بهاء هبوطها * عن ميم مركزها بذات الأجرع


    “ 205 “


    علقت بها تاء الثقيل فأصبحت * بين المنازل والطلول الخضّع
    تبكي إذا ذكرت ديارا بالحمى * بمدامع تهمي ولم تتقطّع
    وتظل ساجمة على الدّمن التي * درست بتكرار الرياح الأربع
    حتى إذا قرب المسير من الحمى * ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
    إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها * نقص عن الأوج الفسيح المربع
    هجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت * ما ليس يدرك بالعيون الهجّع
    وغدت مفارقة لكل مخالف * عنها حليف الترب غير مشيّع
    فلأي شيء أهبطت من شاهق * سام إلى قعر الحضيض الأوضع
    فهبوطها إن كان ضربة لازب * فتكون سامعة لما لم يسمع
    فتصير عارفة بكل حقيقة * في العالمين فخرقها لم يرقع
    إن كان أرسلها الإله لحكمة * خفيت عن الفطن اللبيب الأروع
    فهي التي قطع الزمان طريقها * حتى لقد غربت بعين المطلع
    وغدت تغرّد فوق ذروة شاهق * والعلم يرفع كل من لم يرفع
    فكأنها برق تألق بالحمى * ثم انطوى فكأنه لم يلمع

    وكتبت إلى صاحب لي ببلاد الروم اسمه إسحاق بن محمد من أصحاب السلطان ممن تخدمه الدولة وتظهر به السنّة :

    إسحاق فاسمع لوعظ من أخي ثقة * ولا يغرّنك تقريب السلاطين
    إن الملوك قد استغنوا بملكهم * عنّا وعمّا بأيديهم من الدين
    فاستغن باللّه عن ملك الملوك وعن * سؤال من هو مسكين ابن مسكين
    فاللّه يكفيك يا عيني ويا ولدي * شرّ الملوك وأشرار الشياطين
    بالبيت بالحجر بالأركان أسأله * باللوح بالقلم الأعلى وبالنون
    إن قلت صدقني أو بتّ سامرني * ولا يزال يناديني ويسليني

    ولنا من الرموز العلوية ومن الإشارات الغزلية :
    أيا روضة الوادي أجب ربة الحمى * وذات الثنايا الغرّ يا روضة الوادي
    وظلّ عليها من ظلالك ساعة * قليلا إلى أن يستقر بها النادي
    وتنصب بالأجواز منك خيامها * فما شئت من ظلّ غداء لميّاد
    وما شئت من ظل ظليل ومن جنى * شهي لدى الجاني يميس بميّاد
    ومن ناشد فيها زرود ورملها * ومن منشد حاد ومن مرشد هاد



    “ 206 “



    ولنا من هذا الباب :
    وأحربا من كبدي وأحربا * وأطربا من خلدي وأحربا
    في كبدي نار جوى محرقة * في خلدي بدر دجى قد غربا
    يا مسك يا بدر ويا غصن نقي * ما أورق ما أنور ما أطيبا
    يا مبسما أحببت منه الحببا * ويا رضابا ذقت منه الضربا
    يا قمرا في شفق من خفر * نجده لاح لنا منتقبا
    لو أنه يسفر عن برقعه * كان عذابا فلهذا احتجبا
    شمس ضحى في فلك طالعه * غصن نقي في روضة قد نصبا
    ظللت لها من حذر مرتقبا * والغصن أسقيه سماء صيّبا
    إن طلعت كانت لعيني عجبا * أو غربت كانت لحيتي سببا
    مذ عقد الحسن على مفرقها * تاجا من التبر عشقت الذهبا
    لو أن إبليس رأى من آدم * نور محياها عليه ما أبا
    لو أن إدريس رأى ما رقم ال * حسن بخدّيها إذا ما كتبا
    لو أن بلقيس رأت رفرفها * ما خطر العرش ولا الصرح ببا
    يا سرحة الوادي ويا بان النقا * أهدي لنا من نشركم مع الصّبا
    ممسكا يفوح ريّاه لنا * من زهر أهضابك أو زهر الربا
    يا بانة الوادي أرينا فننا * في لين أعطاف لها أو قضبنا
    ريح صبا تخبر عن عصر صبا * بحاجر أو بمنى أو بقبا
    أو بالنقا فالمنحنى عند الحمى * أو لعلع حيث مراتع الظبا
    لا عجب لا عجب لا عجبا * من عربيّ يتهادى العربا
    يغني إذا ما صدحت قمرية * بذكر من يهواه فيها طربا


    ولنا من هذا الباب ، وفيه تنبيه على قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، وكون الحق تعالى ما ذكر في القرآن من الأسماء التي هي أمهات إلا ثلاثة : اللّه ، والرحمن ، والرب . وما عداها في نعوت للّه ، وقد يقع الرحمن نعتا .

    أيضا قولنا :
    بذي سلم والدير من حاضر الحمى * ظباء تريك الشمس في صور الدّما
    فارقب أفلاكا وأخدم بيعة * واحرس روضا بالربيع منمنما
    فوقتا أسمّي راعي الظبي بالفلا * ووقتا أسمّي راهبا ومنجّما



    “ 207 “


    تثلث محبوبي وقد كان واحدا * كما صيّروا الأقنام بالذات أقنما
    فلا تنكرن يا صاح قول غزالة * تضيء لغزلان يطفن على الدّما
    فللظبي أجيادا وللشمس أوجها * وللدّمية البيضاء صدرا ومعصما
    كما قد أعرنا للغصون ملابسا * وللروض أخلاقا وللبرق مبسما


    طفت ليلة بالبيت فأدركني التعب ، فقلت : أعتب نفسي على البديهة من غير رويّة :
    يا أيها البيت العتيق تعالى * نور لكم بقلوبنا يتلألأ
    أشكو إليك مفاوزا قد جئتها * أرسلت فيها أدمعي إرسالا
    أمسي وأصبح لا ألذّ براحة * أصل البكور ، وأقطع الآصالا
    هذي الركاب إليكم سارت بنا * شوقا وما ترجو بذاك وصالا
    إن النياق وإن أضرّ بها الوجا * تسري وترفل في السّرى أرفالا
    قطعت إليك سباسبا ورمالا * وجدا وما تشكو لذاك كلالا
    ما تشتكي ألم الوجا وأنا الذي * أشكو الكلال لقد أتيت محالا


    ولنا في باب الأرواح واللطائف :
    ناحت مطوّقة فحنّ حزين * وشجاه ترجيع لها وحنين
    جرت الدموع من العيون تفجّعا * لحنينها فكأنهن عيون
    طارحتها ثكلى بفقد وحيدها * والثكل من فقد الوحيد يكون
    طارحتها والشجو يمشي بيننا * ما إن تبين وإنني لأبين
    بي عالج من حبّ رملة عالج * حيث الخيام بها وحيث العين
    من كل فاتكة اللحاظ مريضة * أجفانها لظبي اللحاظ جفون
    ما زلت أجرع دمعتي من غلبتي * أخفي الهوى عن عاذلي وأصون
    حتى إذا صاح الغراب بينهم * فصاح الفراق صبابة المحزون
    وصلوا السرى قطعوا البرى فلعيسهم * تحت المحامل رنّة وأنين
    عاينت أسباب المنية عندما * أرخوا أزمّتها وشدّ وضين
    إن الفراق مع الغرام لقاتل * صعب الفراق مع اللقاء يهون
    ما لي عذول في هواها إنها * معشوقة حسناء حيث تكون


    ولنا أيضا في هذا الباب :
    بين النقا ولعلع * ظباء ذات الأجرع
    ترعى بها في خمري * خمائلا وترتع
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:21

    الجزء 14 .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء 14
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
    “ 208 “

    ما طلعت أهلة * بأفق ذاك المطلع
    ألا وددت أنها * من حدر لم تطلع
    ولا بدت لامعة * من برق ذاك البرقع
    ألا اشتهيت أنها * لما بنا لم تلمع
    يا دمعتي وانسكبي * يا مقلتي لا تقلعي
    يا زفرتي خذ صعدا * يا كبدي تصدّع
    وأنت يا حادي اتئد * فالنار بين أضلعي
    قد فنيت مما جرى * خوف الفراق أدمعي
    حتى إذا حلّ النوى * لم تلف عينا تدمع
    فارحل إلى وادي اللّوى * مربعهم ومصرع
    إنّ به أحبّتي * عند مياه الأجرع
    ونادهم من لفتى * ذي لوعة مودّع
    رمت به أشجانه * وسط خراب بلقع
    يا قمرا تحت دجى * خذ منه شيئا ودع
    وزوّديه نظرة * من خلف ذاك البرقع
    فإنه يضعف عن * درك الجمال الأروع
    أو علّليه بالمنى * عساه يحيى ويعي
    ما هو إلا ميت * بين النقا ولعلع
    فمت أياسا وأسى * كما أنا في موضعي
    ما صدقت ريح الصّبا * حين أتت بالجزع
    قد تكذب الريح إذا * تقول ما لم تسمع

    ولنا أيضا في هذا الباب :
    أنجد الشوق وأتهم الغرام * فأنا ما بين نجد وتهام
    وهما ضدّان لن يجتمعا * فشتاتي ما له الدّهر نظام
    ما صنيعي ما احتيالي دلّني * يا عذولي لا ترعني بالملام
    زفرات قد تعالت صعدا * ودموع فوق خدّي سجام
    حنّت العيس إلى أوطانها * من وجا السير حنين المستهام
    ما حياتي بعدهم إلّا الفنا * فعليها وعلى الصبر السلام

    “ 209 “

    ولنا أيضا في هذا الباب :
    لمعت لنا بالأبرقين بروق * فصفت لها بين الضلوع رعود
    وهمت سحائبها بكل خميلة * وبكل ميّاد عليك يميد
    فجرت مدامتها وفاح نسيمها * وهفت مطوقة وأورق عود
    نصبوا القباب الحمر بين جداول * مثل الأساود بينهن قعود
    بيض أو أنس كالشموس طوالع * عين كريمات عقائل غيد

    ولنا أيضا من هذا الباب :
    عند الكئيب من جبال زرود * صيد وأسد من لحاظ الغيد
    صرعى وهم أبناء ملحمة الوغى * ابن الأسود من العيون السود
    فتكت بهم لحظاتهن وحبذا * تلك الملاحظ من بنات الصيد
    ذكر أبو الفرج بن الجوزي رحمه اللّه في كتاب « مثير الغرام الساكن » ، أخبرنا به كتابة ، قال : حكي عن بعض السلف أنه نوى الحج ومعه ثمانمائة درهم ، وعرضت له ذات يوم حاجة ، فبعث ولده إلى بعض جيرانه ، فرجع الولد يبكي ، فقال : ما لك ؟
    قال : دخلت على جارنا وعندهم طبيخ فاشتهيته فلم يطعموني . فذهب الرجل إلى جاره فعاتبه على ما فعل ، فبكى الجار وقال : ألجأتني إلى كشف حالي ، إنّا منذ خمسة أيام لم نطعم ، فطبخنا ميتة فأكلناها ، وعلمت أن ولدك يجد ما يحل له أكله ، ولا يحل له معنا أكله ، فتعجب الرجل ، وقال لنفسه : كيف النجاة وفي جوارك مثل هذا وأنت تتأهب للحج ؟ فرجع إلى بيته وأعطاه الثمانمائة درهم . فلما كانت عشية عرفة رأى ذو النون المصري في منامه وهو بعرفات كأنّ قائلا يقول له : يا ذا النون ، ترى هذا الزّحام على هذا الموقف ؟ قال : نعم .
    قال : ما حج منهم إلّا رجل تخلف عن الموقف فحج بهمّته ، فوهب اللّه عز وجل أهل الموقف له . فقال ذو النون : من هو ؟ قيل له : رجل يسكن دمشق . فذهب ذو النون إلى دمشق ، وبحث عنه حتى عرفه وسلّم عليه . ا ه المجلس .

    ولمهيار الديلمي في حنين الإبل ، وقيل بل هو للمتنبي :
    أركائب الأحباب أن الأدمعا * تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
    فاعرفن من حملت عليكن النوى * وامشين هونا في الأزمة خضعا

    وله أيضا في هذا الباب :
    أراك حبستها تشكو المضيقا * اثرها ربما وجدت طريقا
    اجزها تطلب القصوى ودعها * سدّى ترمي الغروب بها الشروقا


    “ 210 “

    وله أيضا في هذا الباب :
    يا سائق البكرات استبق فضلتها * على الرويدا فظهر العود معقور
    حبسا ولو ساعة تروي بها مقل * هيم عليها الدهر منه مشكور
    فالعيس طائعة والأرض واسعة * وإنما هو تقديم وتأخير
    تغلوا من زرود وجه يومهم * وحظهم بظلال البان تهجير

    وله أيضا في هذا الباب :
    مرت بنعمان على طول المدى * دعها فليس كل ماء موردا
    لحاجة أمس ما حاجاتها * تخطات أرزاقها تعمدا
    ترعى وفي مشروبها ضراعة * حرارة على الكبود أبردا
    لا حملت ظهورها إن حملت * رحلا على الضم تفرا وبدا

    استجلاب وصية حكيم
    روينا من حديث الدينوري قال : حدثنا ابن أبي الدنيا قال : سمعت محمد بن الحسين يقول : قال حكيم لحكيم : أوصني . قال : اجعل اللّه همّك ، واجعل الحزن على قدر ذنبك ، فكم من حزين به حزنه على سرور الأبد ، وكم من فرح نقله فرحه إلى طول الشقاء .

    ومن كلام إبراهيم بن أدهم في الكمد
    روينا من حديث المالكي ، عن إبراهيم بن سهلويه ، عن ابن حنيف ، قال : قال إبراهيم بن أدهم : ما من العمل شيء أشد على أهله من طول الكمد ، والكمد جرح لا يندمل دون الموت .
    تقلّب الأحوال ، وتنوّع الأشكال
    فيوم علينا ويوم لنا * ويوم نساء ويوم نسرّ

    وروينا من حديث الدينوري ، عن إبراهيم الحربي ، عن أبي نصر ، عن يعقوب بن داود ، عن السائب بن الأقرع أنه قال : هكذا الدنيا تصبح لك مسرّة ، وتمسي عليك مكرّة ، ثم أنشأ يقول :
    ألا قد أرى أن لا خلود وأنه * سينعق في داري غراب ويحجل


    “ 211 “

    ويقسم ميراثي رجال أعزّة * وتذهل عني الوالدات وتشغل
    ومن خبر أسعد تبّع الذي كسا الكعبة ، وتوجه إلى مكة ، وما اتفق له في نار اليمن
    روينا من حديث ابن إسحاق ، قال : كان تبّع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها ، فوجّه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان وألح ، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر ، فقالوا : أيها الملك ، ألا ندلّك على بيت المال وأثر غفلته الملوك قبلك ، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال : بلى . قالوا : بيت مكة يعبده أهله ، ويصلّون عنده ، وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك ، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك ، وبغى عنده ، فلما أجمع رأيه ، قالوا : أرسل إلى حبرين كانا عنده ، فسألهما عن ذلك ، فقالا : ما أراد القوم إلا هلاكك ، وهلاك جندك ، ما نعلم بيتا للّه اتخذه في الأرض لنفسه غيره . ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن ، ويهلكن من معك جميعا .
    قال : فما ذا تأمراني أن أصنع ؟ قالا : إذا قدمت عليه تصنع عنده ما يصنع أهله ، تطوف به ، وتكرمه ، وتعظمه ، وتحلق رأسك عنده ، وتذلل حتى تخرج من عنده . قال :
    فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قالا : أما واللّه إنه لبيت أبينا إبراهيم ، وإنه لكما أخبرناك ، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله ، بالدماء التي يهرقون عنده وهم نجس أهل شرك .
    فعرف نصحهما ، وصدق حديثهما ، وقرّب النفر من هذيل ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، ثم مضى حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت ، ونحر عنده ، وحلق رأسه ، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ، ويطعم أهلها ، ويسقيهم العسل .
    ورأى في المنام أن يكسو البيت ، فكساه الخصف ، وهي ثياب غلاظ جدا . ثم رأى أن يكسوه أحسن من ذلك ، فكساه المغافر . ثم رأى أنه يكسوه أحسن من ذلك ، فكساه الملا والوصائل . وأوصى بالبيت ولاته من جرهم ، وأمرهم بتطهيره ، وأن لا يقربوا إليه دماء ولا ميتة ، ولا ميلغا ، وهي المحائض . وجعل له بابا ومفتاحا ، فكان تبّع فيما يروى أنه أول من كسا البيت ، وقال تبّع في ذلك وفي مسيره :
    وكسونا البيت الذي حرّم * اللّه ملاء معصبا وبرودا
    وأقمنا به من الشهر عشرا * وجعلنا لنا به أقليدا
    وخرجنا منه نؤم سهيلا * قد رفعنا لواءنا معقودا




    “ 211 “

    ويقسم ميراثي رجال أعزّة * وتذهل عني الوالدات وتشغل
    ومن خبر أسعد تبّع الذي كسا الكعبة ، وتوجه إلى مكة ، وما اتفق له في نار اليمن
    روينا من حديث ابن إسحاق ، قال : كان تبّع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها ، فوجّه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان وألح ، أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر ، فقالوا : أيها الملك ، ألا ندلّك على بيت المال وأثر غفلته الملوك قبلك ، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة ؟ قال : بلى . قالوا : بيت مكة يعبده أهله ، ويصلّون عنده ، وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك ، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك ، وبغى عنده ، فلما أجمع رأيه ، قالوا : أرسل إلى حبرين كانا عنده ، فسألهما عن ذلك ، فقالا : ما أراد القوم إلا هلاكك ، وهلاك جندك ، ما نعلم بيتا للّه اتخذه في الأرض لنفسه غيره . ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن ، ويهلكن من معك جميعا .
    قال : فما ذا تأمراني أن أصنع ؟ قالا : إذا قدمت عليه تصنع عنده ما يصنع أهله ، تطوف به ، وتكرمه ، وتعظمه ، وتحلق رأسك عنده ، وتذلل حتى تخرج من عنده . قال :
    فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قالا : أما واللّه إنه لبيت أبينا إبراهيم ، وإنه لكما أخبرناك ، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله ، بالدماء التي يهرقون عنده وهم نجس أهل شرك .
    فعرف نصحهما ، وصدق حديثهما ، وقرّب النفر من هذيل ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، ثم مضى حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت ، ونحر عنده ، وحلق رأسه ، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ، ويطعم أهلها ، ويسقيهم العسل .
    ورأى في المنام أن يكسو البيت ، فكساه الخصف ، وهي ثياب غلاظ جدا . ثم رأى أن يكسوه أحسن من ذلك ، فكساه المغافر . ثم رأى أنه يكسوه أحسن من ذلك ، فكساه الملا والوصائل . وأوصى بالبيت ولاته من جرهم ، وأمرهم بتطهيره ، وأن لا يقربوا إليه دماء ولا ميتة ، ولا ميلغا ، وهي المحائض . وجعل له بابا ومفتاحا ، فكان تبّع فيما يروى أنه أول من كسا البيت ، وقال تبّع في ذلك وفي مسيره :
    وكسونا البيت الذي حرّم * اللّه ملاء معصبا وبرودا
    وأقمنا به من الشهر عشرا * وجعلنا لنا به أقليدا
    وخرجنا منه نؤم سهيلا * قد رفعنا لواءنا معقودا

    “ 212 “

    وفي ذلك تقول سبيعة بنت الأجبّ بن ربيبة بن حذيمة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن لابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤيّ ، تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغي فيها ، فذكرت تبّعا وما كان منه في تعظيم الكعبة
    حيث يقول :
    ابني لا تظلم بمكة * لا الصغير ولا الكبير
    واحفظ محارمها ولا * يغررك باللّه الغرور
    ابني من يظلم بمكة * يلق أطراف الشرور
    ابني يضرب وجهه * ويلح بخديه السعير
    ابني قد جرّبتها * فوجدت ظالمها يبور
    اللّه آمنها وما * بنيت بعرصتها قصور
    واللّه آمن طيرها * والعصم تأمن في ثبير
    ولقد غزاها تبّع * وكسا لبنيتها الحرير
    وأذلّ ربي ملكه * فيها فأوفى بالنذور
    يمشي إليها حافيا * بفنائها ألفا بعير
    ويظل يطعم أهلها * لحم المهاري والجزور
    يسقيهم العسل المصفّى * والرخيص من الشعير
    والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور
    والملك في أقصى البلاد * وفي الأعاجم والجزير
    فاسمع إذا حدّثت واف * هم كل عاقبة الأمور

    قال ابن إسحاق : ثم خرج تبّع متوجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين ، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه ، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن .
    وقيل : لما جاء يدخل اليمن حالت حمير بينه وبين الدخول ، قالوا : لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا ، فقال لهم تبّع : إنه خير من دينكم ، قالوا : فحاكمنا إلى النار ،

    قال تبّع :
    نعم . وكان في اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأكل الظالم ولا تضر بالمظلوم ، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم ، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديهما حتى قعدوا للنار عبد مخرجها الذي تخرج منه ، فخرجت النار إليهم ، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها ، فزأرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها ،

    “ 213 “

    فصبروا حتى غشيتهم ، فأكلت الأوثان وما قرّبوا معها وما حمل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما لم تضرّهما ، فأصقعت حمير عند ذلك على دينه . فعند ذلك كان أصل اليهودية باليمن .

    فتنة إلهية أضل بها من شاء
    أخبرني بمكة رجل ثقة من التجار ، يقال له ابن صوّاف من أهل الإسكندرية ، وكان عدلا صالحا ، ثبت الحديث فطنا ، ولا أزكى على اللّه أحدا .
    قال لي : أخبرني بعض التجار أنه أتجر ببعض بلاد الهند ، فعامل رجلا من أهل ذلك البلد إلى أجل معلوم ، فتوفي التاجر الهندي قبل حلول الأجل بغتة ، فأسف التاجر الغريب على تلاف ماله ، فقصد دار الهندي ليشهد جنازته ، باكيا على ما كان له قبله ، فقال له بعض أهل الميت : ما شأنك تكثر البكاء ؟ فذكر ما له قبل الميت ، فقال له : لا بأس عليك تأخذ مالك موفّى ، فقال : وكيف ذلك ؟
    فقال له : إن الميت عندنا يحييه اللّه بعد ثلاثة أيام من دفنه ، فيفتح دكانه إن كان صاحب دكان ، ويذكر ما له وما عليه في جريدته ، ويعطي للناس ما لهم في قبله من الحقوق ، فإذا لم يبق عليه تبعة قام وأغلق دكانه ، وسلم المفاتيح للورثة ، وانصرف من حيث جاء لا يتبعه أحد ، فلا نراه بعد ذلك . قال التاجر : فتعجب لخبره وهان عليّ تلف المال بمشاهدة هذه الأعجوبة .
    قال : ثم إنّا تبعنا الجنازة حتى دفناه ، وبقيت أترقب ، فلما كان بعد ثلاث نادى مناد في البلد : معشر الناس ، من كان له عند فلان الذي مات حق فليأت إلى دكانه ، فقد قعد يعطي الناس حقوقهم .

    قال : فأسرعت إلى الدكان فوجدت صاحبي بعينه لا أنكر منه شيئا وجريدته في يده ، ومن له عنده شيء قد حضر ، فما زال ينظر في الجريدة ويقول : أين فلان ؟ فيجيبه ، فيقول :
    كم تسألني ؟ فيقول له : كذا وكذا ، فيعطيه ، إلى أن دعاني باسمي فقال : كم تسألني ؟
    فقلت : كذا وكذا ، فنظر في الجريدة ، فقال : صدقت ، فوافاني حقي وشكرني ، واعتزلت أنظر آخر أمره وإلام يؤول ، فلما جاء وقت العصر وتمكن ، فرغ من شغله ، وقفل الحانوت ، وانصرف الناس ، وأخذ المفاتيح وأسلمها للورثة ، وسلّم عليهم ، وانصرف ، فلم يتبعه أحد ، فانصرفت خلفه أسأله عن شأنه ، فإني رأيت عجبا ، فما دخل زقاقا إلا وأنا خلفه أجهد نفسي في أثره ، فلما ألححت عليه وقف وقال : يا هذا ألم تأخذ حقك ؟ قلت :


    “ 214 “



    بلى . قال : فانصرف . قلت له : أريد أن أعرف شأنك ، فإني ما شككت في موتك ودفنك فكيف قضيتك ؟ وأقسمت عليه أن يخبرني . فقال : نعم أخبرك ، أما صاحبك التاجر الهندي فقد انتقل إلى لعنة اللّه ، وأما أنا فملك على صورته أرسلني اللّه تعالى ، ففعلت ما رأيت ليفتنهم اللّه تعالى ، وقد أجرى اللّه لهم العادة في ذلك ، فلست صاحبك ، فانصرف عافاك اللّه حتى أنصرف .

    قال التاجر : ثم التفتّ فلم أره ، وقد عرفت خبره ، وكتمته في نفسي ، وجبر اللّه عليّ مالي .

    واقعة



    حدثنا صاحبنا عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، قال : رأى بعض المريدين من أصحابنا في واقعته الشيخ أبا مدين وقد استوى في الهواء ، ومعه أبو حامد الغزالي ، فقال الشيخ : يا أبا حامد ، السرّ باللّه ناظر ، والروح يتلقف منه الأوامر ، والقلب للسكينة والساكن ، والعقل حكم هاكم ، والنفس تحت قهر القاهر ، والحق به ظهر الوجود ، وهو الواحد المعبود .



    ثم قال : يا أبا حامد ، إذا تلاشت المعاني فاقرأ السبع المثاني ، فإنك تراه كما لم يزل ، وأنت كما لم تكن ، فرأيت عند هذا الكلام قد خصّ الشيخ بالتجلي الإلهي ، وأبو حامد معه مشارك ، فقال أبو حامد للشيخ : كيف مادة اللّه للسرّ ؟ فقال له الشيخ : اسمع إن نظرت به وجدتهما معا لم يفترقا ولم يجتمعا .



    ثم قال له : فالسرّ ما هو ؟ فقال : هو خزانة النظر . قال له : والروح ؟ قال : هو خزانة النظر ، قال له : والقلب ؟ قال : هو خزانة الفكر ، قال : والعقل ؟ قال : هو خزانة العدل والعلم ، قال : والنفس ؟ فقال : خزانة الأرض . ثم قال الشيخ : يا أبا حامد ، على هذا صنعه وكل متفرق جمعه .



    تذكرة

    حدثنا محمد بن قاسم ، قال : سمعت عمر بن عبد المجيد يقول : تقدّم في العمل الصالح دهرك ، واغتنم زمانك وعمرك ، واعلم أن الآخرة مرآة الدنيا ، فما عملت في هذه رأيت في تلك ، فأنت اليوم تعمل ، وغدا ترى ، فإن كنت عاقلا فابك على ما جرى ، واذكر ما قدمت ، فكأنك قد وصلت .

    ثم أنشد :



    “ 215 “



    ذكرت إساءتي فازددت حزنا * ومثلي من تذكّر ثم ناحا

    قطعت العمر عصيانا وجهلا * وجانبت المسرّة والصلاحا

    سيبدي العرض مني يوم حشر * لأهل الجمع أحوالا قباحا

    وأنشدني أيضا :

    معاصيك العظام عليك دين * ويوم الحشر تبديها جميعا

    فكن متجافيا عن كل ذنب * فخير الناس من أمسى مطيعا

    اجتماع سليمان بن عبد الملك مع أبي حازم

    روينا من حديث المالكي ، عن أبي غسان عبد اللّه بن محمد ، عن أبي سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي ، عن عبد الجبار بن عبد العزيز ، عن جده أبي حازم ، قال :

    دخل سليمان بن عبد الملك المدينة فأقام بها ثلاثا ، فقال : ما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم يحدثنا ؟ فقيل له : بلى ، هاهنا رجل يقال له أبو حازم . فبعث إليه ، فجاءه .

    فقال له سليمان بن عبد الملك : يا أبا حازم ما هذا الجفاء ؟ فقال له أبو حازم : وأي جفاء رأيت مني ؟ قال له سليمان : أتاني وجوه أهل المدينة كلهم ولم تأتني ، فقال له :

    أعيذك باللّه أن تقول ما لم يكن ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك هكذا ، فقال سليمان :

    صدق الشيخ ، ثم قال سليمان : يا أبا حازم ، ما لنا نكره الموت ؟ فقال أبو حازم : لأنكم أخربتم آخرتكم ، وعمرتم دنياكم ، فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب . قال :

    صدقت يا أبا حازم ، كيف القدم على اللّه ؟ فقال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله ، وأما المسئ فكالآبق يقدم على مولاه .

    قال : فبكى سليمان وقال : يا ليت شعري ما لنا عند اللّه يا أبا حازم ؟ فقال أبو حازم :

    اعرض نفسك على كتاب اللّه عز وجل تعلم ما لك عند اللّه . فقال : يا أبا حازم ، أين نصيب تلك المعرفة في كتاب اللّه عز وجل ؟ قال أبو حازم : عند قوله عز وجل : إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ .

    فقال سليمان : يا أبا حازم ، فأين رحمة اللّه ؟ قال أبو حازم : قريب من المحسنين ، قال سليمان : يا أبا حازم ، من أعقل الناس ؟ قال أبو حازم : من تعلّم الحكمة وعلّمها الناس ، قال سليمان : يا أبا حازم ، من أحمق الناس ؟ قال أبو حازم : من باع آخرته بدنيا غيره ، فقال سليمان : ما أسمع الدعاء ؟ قال أبو حازم : دعاء المخبتين إليه . قال سليمان :


    “ 216 “


    ما أزكى الصدقة ؟ فقال أبو حازم : جهد المقل . فقال سليمان : يا أبا حازم ، ما تقول فيما نحن فيه ؟ فقال أبو حازم : اعفنا من هذا .

    فقال سليمان : نصيحة بلغتها . قال أبو حازم : إن أناسا أخذوا هذا الأمر من غير مشورة من المؤمنين ، ولا إجماع من رأيهم ، فسفكوا فيها الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها ، فليت شعري ما قالوا وما قيل لهم .
    فقال بعض جلسائه : بئس ما قلت يا شيخ ، فقال أبو حازم : كذبت ، إن اللّه تبارك وتعالى أخذ على العلماء ليبيننه للناس ، ولا يكتمونه .
    فقال سليمان : يا أبا حازم ، كيف لنا بصلح ؟
    قال : تدعوا التكلّف وتمسكوا بالمروءة . قال سليمان : يا أبا حازم ، كيف الأخذ بذلك ؟
    قال أبو حازم : تأخذه من حقه ، وتضعه في أهله .
    فقال له سليمان : اصحبنا يا أبا حازم ، وتصيب منا ونصيب منك . فقال : أعيذك من ذلك . قال سليمان : ولم ؟ قال : أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلا فيذيقني اللّه منها ضعف الحياة وضعف الممات .

    قال سليمان : يا أبا حازم ، فأشر عليّ ، فقال أبو حازم : اتق اللّه أن يراك حيث نهاك وأن يفقدك حيث أمرك . قال سليمان : يا أبا حازم ، ادع لنا بخير . فقال أبو حازم : اللهم إن كان سليمان وليّك فبشّره بخير الدنيا والآخرة ، وإن كان عدوك فخذ إلى الخير بناصيته .
    فقال سليمان : عظني يا أبا حازم ، قال : فقد أوجزت إن كنت وليّه ، وإن كنت عدوه ، فما ينفعك إذ أرمي بقوس بغير وتر .

    فقال سليمان : يا غلام ، ائت بمائة دينار ، ثم قال : خذها يا أبا حازم ، فقال أبو حازم : لا حاجة لي بها ، إني أخاف أن تكون لما سمعت من كلامي أن موسى عليه السلام لما هرب من فرعون وورد ماء مدين وجد عليه الجاريتين تذودان ، قال : ما خطبكما ؟

    قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير ، فسقى لهما ، ثم تولى إلى الظل فقال :

    رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ، ولم يسأل على عون اللّه أجرا على دينه فلما أعجل بالجاريتين الانصراف ، أنكر ذلك أبوهما وقال : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا فسقى لنا ، قال : فما سمعتماه يقول ؟

    قالتا : سمعناه يقول : رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ، قال : ينبغي أن يكون هذا جائعا ، تنطلق إحداكما فتقول له : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا .

    قال : فجزع من ذلك موسى عليه السلام ، وكان طريدا في فيافي الصحراء ، فأقبل والجارية أمامه ، فهبت الريح فوصفتها له ، وكانت ذا خلق ، فلما بلغ الباب دخل وإذا طعام


    “ 217 “


    موضوع ، قال شعيب : أصب يا فتى من هذا الطعام ، قال موسى عليه السلام : أعوذ باللّه ، قال شعيب : ولم ؟ قال موسى : لأننا من بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا . قال شعيب عليه السلام : لا واللّه ، لكنها عادتي وعادة آبائي ، نطعم الطعام ، ونقري الضعيف . فجلس موسى فأكل . فإن كانت هذه الدنانير هي عوضا لما سمعت من كلامي ، فالآن أرى أكل الميتة والدم في حال الضرورة أحب إليّ من أخذها .
    فكان سليمان أعجب بأبي حازم ، فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، أيسرّك أن يكون الناس كلهم مثله ؟
    قال الزهري : إنه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلّمته بكلمة قط . قال له أبو حازم :
    صدقت إنك نسيت اللّه فنسيتني ، ولو أحببت اللّه لأحببتني . قال الزهري : صدقت أتشتمني ؟
    قال سليمان : بل أنت شتمت نفسك ، أما علمت أن للجار على جاره حقا . قال أبو حازم :

    إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب ، وكانت الأمراء تحتاج إلى العلماء ، وكانت العلماء تضنّ بدينها عن الأمراء ، فاستغنت الأمراء عن العلماء ، واجتمع القوم على المعصية ، فشغلوا وانتكسوا ، ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم ، لكانوا لم تزل الأمراء تهابهم .

    قال الزهري : كأنك لي تريد وبي تعرّض ، قال : هو ما تسمع .
    وبالإسناد

    قال : وفد هشام إلى المدينة ، فأرسل إلى أبي حازم ، فقال له : يا أبا حازم عظني وأوجز ، قال أبو حازم : اتق اللّه ، وازهد في الدنيا ، فإن حلالها حساب ، وحرامها عذاب ، قال : لقد أوجزت يا أبا حازم ، ارفع حوائجك إلى أمير المؤمنين ، فقال أبو حازم : هيهات هيهات قد رفعت حوائجي إلى من تنجز الحوائج دونه ، فما أعطاني منها قنعت ، وما منعني منها رضيت ، وقد نظرت في هذا الأمر فإذا هو نصفين : أحدهما لي والآخر لغيري ، فأما ما كان لي فلو احتلت بكل حيلة ما وصلت إليه قبل أوانه الذي قدّر لي فيه ، وأما الذي لغيري فذاك الذي لا أطمع نفسي فيما مضى ولا أطمعها فيما بقي ، وكما منع غيري رزقي كذلك منعت رزق غيري ، فعلام أقتل نفسي ؟

    حدثنا محمد بن الفضل ، ثنا محمد بن أبي منصور ، انا عبد القادر بن يوسف ، أنا أبو الحسن بن الأبنوسي ، انا ابن شاهين ، نبأ إسماعيل بن علي ، حدثني القاسم بن الخطابي ، نبأ عبيد اللّه بن محمد العبسي ، ثنا جعفر بن سليمان الصفي ،

    قال : سمعت أبا يحيى مالك بن دينار يقول شعرا :
    أتيت القبور فناديتها * فأين المعظّم والمحتقر




    “ 218 “



    وأين المذلّ بسلطانه * وأين العزيز إذا ما قدر
    وأين الملبّي إذا ما دعا * وأين العزيز إذا ما افتخر



    قال : فهتف بي هاتف يقول :
    تفادوا هناك فما مخبر * وبادوا جميعا وباد الخبر
    تروح وتغدي بنات الثرى * فتمحو محاسن تلك الصور
    فيا سائلي عن أناس مضوا * أما لك فيما مضى معتبر



    أخبرني أحمد بن مسعود قال : وقع بعض الخلفاء لبعض الأدباء بشيء ، فتردد إلى الديوان زمانا ، فلم ينفّذ له صاحب الديوان ما وقع له به ، فكتب إلى الخليفة يقول :

    خليفة اللّه وقد وقّعت لي كرما * بذلك الرسم لكن من يتممه
    وكل من جئته بالطرس ينبذه * نبذ الحصاة كأن الطرس يؤلمه
    فآه إن كان هذا قد علمت به * وآه إن كان هذا لست تعلمه
    قال : فغضب الخليفة على صاحب ديوانه وعزله ، ونفذ توقيعه ، وضاعف له .

    روينا من حديث الهاشمي بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أيها الناس ، لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، ولا تعاقبوا ظالما فيبطل فضلكم ، ولا تراءوا الناس فتحبط أعمالكم ، ولا تمنعوا الموجود فيقلّ خيركم . أيها الناس ، إن الأشياء ثلاثة : أمر استبان رشده فاتبعوه ، وأمر استبان غيّه فاجتنبوه ، وأمر اختلف عليكم فردّوه إلى اللّه ورسوله . أيها الناس ، ألا أنبئكم بأمرين خفيف مئونتهما ، عظيم أجرهما ، لم يلق اللّه بمثلهما : الصمت وحسن الخلق »



    ذكر من حج من خلفاء بني أمية
    حجّ معاوية بن أبي سفيان بالناس سنة خمسين ، وحجّ عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين ، وحج الوليد بن عبد الملك سنة إحدى وتسعين .
    ومن وقائع بعض الفقراء ما حدثني به عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي ، قال :
    قال لي بعض الصالحين : رأيت في الواقعة أبا طالب ، وأبا حامد ، وأبا يزيد ، وجمعا من الصوفية ، وقد اجتمعوا على أبي مدين ،
    وقال بعضهم لأبي مدين : قل لنا في التوحيد ، فقال : التوحيد أصل وهو مع كل دقيقة ، والوجود سر وهو ظل الحقيقة ، والتوحيد أحصى كل شيء عددا ، وهو الباقي أزلا وأبدا ، الكافي لمن هو حسبه ، فمن وفقه عمر به قلبه ، هو المظهر للأشياء ،



    “ 219 “



    وبحياته كانت الحياة ، فالتوحيد ثمرة المعرفة ، ولا ينال إلا بقلب الأخلاق والصفة ، فمن انقلبت صفته كان المحمود ، ومن وقفت همته على ما سواه نال المقصود ، فالعارف به له تظهر أسراره ، وإلى حضرة سيّده تمتد أفكاره ، يلاحظ الجمال العليّ ، وينزّه ذات المالك الوفيّ ، فالتوحيد حياة القلوب ، ومظهر الأشياء ، وساتر العيوب ، ستر به مخلوقاته فبطن ، وأظهر به قدرته فيهم سبحانه فظهر للعارف أسرار بها يقتدي ، وأنوار بها يهتدي ، وأنواره من نور سيّده ملأت وجوده ، وأشرقت أسراره فكاشفت معبوده ، صفت همته فباشرت المعاني ، وتنزهت صفاته فظل فانيا ، فبالتوحيد العارفون يقولون ويسمعون ، فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون .

    روينا من حديث الخطابي قال : انا ابن الأعرابي ، قال : حدثنا بكر بن فرقد ، ثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن طلحة بن عبد اللّه ، أن أقل : لعيب الرجل أن يجلس في داره .

    حدثنا محمد بن قاسم ، قال : قيل لحاتم الأصمّ : كيف أصبحت ؟ قال : كيف يصبح من أجله قريب ، وأمله بعيد ، والموت أمامه والقبر مسكنه ، وهو مع ذلك مطالب بتسع خلال ، قلت : وما هنّ ؟ قال : أصبحت واللّه سبحانه يطالبني بالفرض ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم يطالبني بالسّنّة ، والعيال بالنفقة ، والنفس بالقوت ، والوالدان بالبرّ ، والملكان بصدق اللسان ، والقبر بالجسم ، والدود باللحم ، ومنكر ونكير بالحجة ، فهؤلاء غرمائي ، وهذه ديوني ، فكيف يجب أن يكون من يصبح كل يوم على هذه الصفة وقد غلب تقصيري عن الوفاء .

    شعر

    داويت قلبي بالهموم فما اشتفى * وعتبت طرفي بالدموع فما اكتفى

    ووقفت أندب في منازل وصلكم * حزنا على زمن المودة والصّفا


    مثل
    هو أحمق من هبنّقة ، وله حكايات في هذا الفن عجيبة ، فما بلغ من حمقه أنه ضلّ له بعير يوما ، فجعل ينادي : من وجد بعيري فهو له ، فقيل له : فلم تنشده ؟ قال : فأين حلاوة الوجدان ؟
    ومن أخباره : أنه اختصمت إليه في رجل بنو طفاوة ، وبنو راسب ، فادّعى هؤلاء


    “ 220 “



    فيه ، وادّعى هؤلاء فيه ، فقالوا : رضينا بأول طالع علينا حكما ، فطلع عليهم هبنّقة ، فلما رأوه قالوا : باللّه انظروا من طلع علينا ، فلما دنا قصّوا عليه قصتهم ، فقال هبنّقة : الحكم في هذا بيّن ، اذهبوا به إلى نهر البصرة ، فألقوه فيه ، فإن كان من بني راسب رسب ، وإن كان طفاويا طفا ، فقال الرجل : لا أريد أن أكون من هذين الجنسين ، ولا حاجة إلى الديوان .

    ومما يقرب من هذا الحكم ما اتفق في بلدنا بإشبيلية ، كان عندنا رجل من سفلة الناس يقال له جمعة ، يبيع الخبز ، وكان يتحاكم إليه أطراف الناس ، فجاء إليه رجلان يوما ، فقال أحدهما : يا جمعة ، إن هذا الرجل زنى بامرأتي ، فقال : ومن أين علمت ذلك ؟

    قال : زعم أنه رأى امرأتي في نومه فنكحها ، قال : كذلك كان ؟ فقال الخصم : نعم ، فقال جمعة : وجب الحدّ عليه ، اذهبوا به إلى الشمس ، فإذا امتد ظله في الأرض فاجلدوا ظلّه مائة جلدة ، فقال الرجل : وما عليّ في ذلك ؟ فقال له جمعة : وما على امرأة الرجل في ذلك إذا نكح خيالها في منامها ، ما لك عندي حكم غير ذلك .

    واختصم إليه مرة أخرى في إشبيلية هذا رجل طباخ يطلب حق أدامه من رجل آخر ، فقال : كيف ترتب لك ما تدّعيه على هذا الرجل ؟ فقال : إني رجل طباخ ، أبيع في الدكان ما أطبخه ، فجاء هذا الرجل وبيده قرصة من خبز ، فجعل يأخذ اللقمة ويعرضها على بخار القدر الصاعد ويأكل حتى فرغت ، فطلبت منه حق بخار القدر ، فقال جمعة : وجب عليك يا هذا أعندك قطعة فضة ؟ قال : نعم ، فأخرج المدّعى عليه قطعة فضة ، فقال جمعة للطباخ :

    اصغ بأذنك ، ورمى القطعة على الحجر ، فسمع لها طنين ، فقال : يا طباخ ، خذ هذا الطنين في حق بخارك ، وردّ القطعة الفضة لخصمك ، فقال الطباخ : ما نقصه شيء . فقال جمعة :

    ولا أخذ من قدرك شيئا .

    افتخر الحسين عليه السلام يوما في مجلس معاوية في كلام جرى ضربنا عن ذكره ، لأنّا قد عزمنا أن لا نذكر ما شجر بين الصحابة من قبيح القول والفعل ، لما يحصل في القلوب الضعيفة من ذلك . قال الحسين : أنا ابن ماء السماء ، وعروق الثرى ، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثاقب ، والشرف الفائق ، والقديم السابق ، أنا ابن من رضاه رضى الرحمن ، وسخطه سخط الرحمن ، ثم رد وجهه للخصم فقال له : هل لك أب كأبي أو قديم كقديمي ؟ فإن قلت لا تغلب ، وإن قلت نعم تكذب ، فقال الخصم : لا تصديقا لقولك . فقال الحسين عليه السلام : الحق أبلج لا يزيغ سبيله ، والحق يعرفه ذوو الألباب .

    وقال معاوية يوما وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم : أخبروني بأكرم الناس أبا وأما ، وعما وعمة ، وخالا وخالة ، وجدا وجدة . فقال مالك بن عجلان ، وأومأ إلى


    “ 221 “

    الحسن بن علي عليهما السلام فقال : ها هو ذا أبوه علي بن أبي طالب ، وأمه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجدته خديجة بنت خويلد ، وجده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وعمه جعفر الطيار في الجنة ، وعمته أم هانئ بنت أبي طالب . فسكت القوم ، ونهض الحسن ، فقام رجل من بني سهم ، وقال : أنت أمرت ابن عجلان على مقاتلته ، فقال ابن عجلان : ما قلت إلّا حقا ، وما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق ، إلا لم يعط أمنيته في دنياه ، وختم له بالشقاء في آخرته ، بنو هاشم أنضركم عودا ، وأوراكم زندا ، كذلك يا معاوية ؟ فقال معاوية : اللهم نعم .

    وروينا من حديث ابن عباس قال : قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع بنو أمية ووفود العرب عنده ، فدخلت وسلّمت وقعدت ، فقال : يا ابن عباس ، من الناس ؟

    قلت : نحن ، قال : فإذا غبتم ، قلت : فلا أحد ، قال : فكأنك ترى أني قعدت هذا المقعد بكم ، قلت : نعم ، فبمن قعدت ؟ قال : بمن كان مثل حرب بن أمية ، يعني جده ، قلت : من انكفأ عليه إناؤه ، وأجاره بردائه ، أراد بذلك ابن عباس ، ما اتفق لحرب بن أمية جد معاوية مع عبد المطلب لما استجار به حرب حين أراد قتله الزبير بن عبد المطلب من أجل التميمي ، وذلك أن حرب بن أمية لم يلق أحدا من رؤساء قريش في عقبة ، ولا مضيق إلا تقدمه حرب حتى يجوزه ، فلقيه يوما رجل من بني تميم في عقبة ، فتقدمه التميمي ، فقال حرب : أنا حرب بن أمية ، فلم يلتفت التميمي وجاوزه ، وقال : موعدك مكة ، فخاف التميمي .



    ثم أراد التميمي دخول مكة فقال : من يجيرني من حرب بن أمية ؟ فقيل له : عبد المطلب ، فقال : عبد المطلب أقل قدرا من أن يجيرني على حرب بن أمية ، فأتى ليلا دار الزبير بن عبد المطلب ، فدق بابه ، فقال الزبير لعبده : قد جاءنا رجل إما طالب حاجة ، وإما طالب قرى ، وإما مستجير ، وقد أجبناه إلى ما يريد ، ثم خرج الزبير إليه ،

    فقال التميمي :

    لاقيت حربا في الثنية مقبلا * والصبح أبلج ضوأه للساري
    فدعا بصوت واكتنى ليريعني * وسما عليّ سموّ ليث ضاري
    فتركته كالكلب ينبح ظله * وأتيت قوم معالم وفخار
    ليثا هزبرا يستجار بعزّه * رحب المياه ومكرما للجار
    ولقد حلفت بمكة وبزمزم * والبيت ذي الأحجار والأستار
    أن الزبير لما نعى من خوفه * ما كبّر الحجاج في الأمصار
    فقدّمه الزبير وأجاره ، ودخل به المسجد ، فرآه حرب ، فقام إليه ولطمه ، فحمل عليه
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:23

    لجزء 15 .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء 15
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 222 “

    الزبير بالسيف ، فولى حرب يعدو هاربا حتى دخل دار عبد المطلب ، فقال : أجرني من الزبير ، فألقى عليه عبد المطلب جفنة كان هاشم يطعم فيها الناس ، فبقي تحتها ، ثم قال له : اخرج ، فقال : وكيف أخرج وعلى بابك تسعة من ولدك قد اجتذبوا السيوف ؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف بن ذي يزن له طرّتان خضراوتان ، فخرج عليهم ، فعلموا أنه قد أجاره ، فتفرقوا عنه .
    روينا من حديث ابن عباس رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « لا تفخروا بآبائكم في الجاهلية ، فوالذي نفسي بيده لما يدحرج العجل برجله خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية » ، أخذها القطب المطهّر واعظ العجم ، وكان بليغا في اللسان الفارسي ، فوعظ الناس يوما ، فقام إليه بعض الناس فقال : أيها الواعظ ، أنت خير أم الكلب ؟ قال :
    فأطرق ساعة واستعبر ، وكان صالحا فقال : يا أخي ، أما إني إن فزت بالجنة ونجوت من النار فأنا خير من الكلب ، وإن كان غير ذلك فالكلب خير مني . أخبرني بهذه الحكاية تلميذه صاحبنا مجد الدين أبو إبراهيم إسحاق بن محمد بن يوسف القونوي .

    وكان الحسن بن أبي إسحاق البصري يقول : يا ابن آدم ، لم تفتخر وإنما خرجت من سبيل البول نطفة تنسحب بأقذار ؟ قال بعض الحكماء ، وكان من الصالحين لرجل آخر يفتخر : أيفتخر من أوّله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بينهما وعاء عذرة ؟
    وأنشدنا ابن البطين لعليّ بن أبي طالب القيرواني ، وقيل : لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه :
    الناس من جهة التمثل أكفاء * أبوهم آدم والأم حواء
    ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
    وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * والجاهلون لأهل العلم أعداء
    وكان أبي كثيرا ما ينشد :
    الحمد للّه ليس الرزق بالطلب * ولا العطايا على فهم ولا أدب
    إن قدّر اللّه شيئا كنت نائله * وليس ينفعني حرصي ولا نصيبي
    وخطب بعض الخلفاء وقد خطر له حسن الظن باللّه تعالى فقال : الحمد للّه الذي أنقذني من ناره بخلافته .
    ومن حسن كلام الحجاج أن كان ينفعه ذلك وقد أشاع موته بعض من يكرهه ، قال الناس يوم مات الحجاج : مات الحجاج ، فقال : مه ، ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت ، واللّه ما رضي البقاء إلا لأهون الخلق عليه إبليس ، إذ قال : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *



    “ 223 “

    قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * أطمع الحجاج في ربه حسن ظنه به واتساع عفوه وكرمه .

    شعر
    تعاظمني ذنبي فلما قرنته * بعفوك ربي كان عفوك أعظما
    وقال الآخر :
    ذنبي إليك عظيم * وأنت أعظم منه
    وحديث السجلّاتي ، وهو الرجل الذي ذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه ينشر له يوم القيامة تسعة وتسعون سجلا ، كل سجل مدّ البصر ليس فيها خير قط إلا كلمة التوحيد ، فألقاها اللّه له في كفة ، والسجلّات في كفة ، فثقلت كلمة التوحيد ، وطاشت السجلات ، فدخل الجنة ، وهذا بلا شك أعظم ذنوبا من الحجاج ، فكيف لا يطمح الحجاج وكان من الذين خلطوا ؟

    وروينا من حديث أنس بن مالك قال : دخلنا على قوم من الأنصار وفيهم فتى عليل ، فلم نخرج من عندهم حتى قضى نحبه ، فإذا عجوز عند رأسه ، فالتفت إليها بعض القوم فقال : استسلمي لأمر اللّه واحتسبي ، قالت : أمات ابني ؟ قال : نعم ، قالت : أحق ما يقوله ؟
    قلنا : نعم ، فمدت يدها إلى السماء وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى نبيك محمد صلى اللّه عليه وسلم رجاء أن تعينني عند كل شدة ، فلا تحملني هذه المصيبة اليوم ، قال :
    فكشف ابنها الذي سجيناه عن وجهه ، وما برحنا حتى طعم وشرب ، وطعمنا وشربنا معه .
    في الكتاب الأول يقول اللّه تعالى : يا ابن آدم ، أحدث لك سفرا ، أحدث لك رزقا .

    قال الكميت : ولن تريح هموم النفس إن حضرت حاجات مثلك إلا الرجل والجمل .
    وجد في بعض خزائن ملوك فارس لوح من حجارة مكتوب عليه : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإن موسى عليه السلام خرج يقتبس نارا فنودي بالنبوّة .

    روينا من حديث الأصمعي قال : حججت مرة فإذا أعرابي قد كوّر عمامته على رأسه ، وقد تنكّب قوسا ، فصعد المنبر ، فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما الدنيا دار ممر ، والآخرة دار مقر ، فخذوا من ممركم لمقركم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم .

    “ 224 “

    أما بعد ، فإنه لن يستقبل أحد يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله ، فاستعملوا لأنفسكم لما تقدمون عليه لا لم تظعنون عنه ، وراقبوا من ترجعون إليه ، فإنه لا قوي أقوى من خالق ، ولا ضعيف أضعف من مخلوق ، ولا مهرب من اللّه إلا إليه ، وكيف يهرب من يتقلّب في يدي طالبه ؟ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ * .
    وروينا من حديث ابن ودعان ، حدثنا الحسن بن محمد الصيرفي ، نبأ أبو بكر بن محمد بن قاسم ، نبأ إسماعيل بن إسحاق ، نبأ نصر بن علي ، عن الأصمعي ، عن أبي عمرو ، عن عيسى بن عمير ، عن معاوية أنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبة أحد العيدين : « الدنيا دار بلاء ومنزل قلعة وعناء ، نزعت عنها نفوس السعداء ، وانتزعت بالكره من أيدي الأشقياء ، وأسعد الناس بها أرغبهم عنها ، وأشقاهم بها أرغبهم فيها ، هي الغاشّة لمن استنصحها ، والمغوية لمن أطاعها ، والجائرة لمن انقادها ، والفائز من أعرض عنها ، والهالك من هوى فيها ، طوبى لعبد اتقى فيها ربه ، وناصح نفسه ، وقدّم توبته ، وأخّر شهوته ، من قبل أن تلفظه الدنيا إلى الآخرة فيصبح في بطن مقفرة موحشة غبراء مدلهمة ظلماء ، لا يستطيع أن يزيد في حسنة ، ولا ينقص من سيئة ، ثم ينشر فيحشر ، إما إلى جنة يدوم نعيمها ، أو نار لا ينفكّ عذابها » .
    لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أبوه جزعا شديدا ، فقال ذات يوم لمن حضر : هل من منشد شعر يعزّيني به أو واعط يخفّف عني فأتسلى به ؟ فقال رجل من أهل الشام : يا أمير المؤمنين ، كل خليل مفارق خليله بأن يموت أو بأن يذهب ، فتبسم عمر وقال : مصيبتي فيك زادتني مصيبة .
    وفي الكتاب الأول أن اللّه تعالى يقول : يا عبدي ، إن رضيت حكمي واليتك ، وإن اتقيتني قربتك ، وإن استحييت مني أكرمتك ، وإن توكلت عليّ صدقا كفيتك ، وإن ظلمت نفسك بمعصيتي عاقبتك . أنت بيدك جرحت فؤادك لما بلغت من المعصية مرادك ، أما علمت أنك لما نزعت لباس التقوى عرضت نفسك للمحن والبلوى ؟
    ومن كلام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه : الدنيا دار صدق ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، مسجد أنبياء اللّه ، ومهبط وحيه ، ومصلى ملائكته ، ومتجر أوليائه ، يكسبون فيها الرحمة ، ويرجون فيها الجنة ، فمن ذا يذمها وقد أذنت بنعيها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها ، وشوقت بسرورها إلى السرور ، وببلائها إلى البلاء ، تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا . فيا أيها الذامّ للدنيا ، والمفتتن بغرورها ، متى غرتك بمصارع



    “ 225 “

    آبائك من البلا ؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى ، كم تملكت بكفيك وكم مرضت بيديك ؟
    تبتغي لهم الدواء ، وتستوصف لهم الأطباء ، وتلتمس لهم الشفاء ، لم تنفعهم بطلبتك ، ولم تشفعهم بشفاعتك ، ولم تستشفعهم باستشفائك ، تظنك مثلت لهم الدنيا بمصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك ، ولا يغني أحباؤك . ثم التفت إلى قبور هناك وقال : يا أيها الثروة والعز ، الأزواج قد نكحت ، والأموال قد قسمت والدّور قد سكنت ، هذا خير ما عندنا ، فما خير ما عندكم ؟ ثم قال لمن حضر : واللّه لو أذن لهم لأجابوكم بأن خير الزاد التقوى .

    ثم أنشد :
    ما أحسن الدنيا وإقبالها * إذا أطاع للّه من نالها
    من لم يواس الناس من فضلها * عرّض للإدبار إقبالها
    وروينا من حديث الخطابي ، قال : حدثني الخلديّ موسى بن هارون ، عن هدية بن خالد ، عن حزام القطعيّ ، قال : سمعت الحسن يقول : المداراة نصف العقل ، وأنا أقول :
    هو العقل كله .
    وقال محمد ابن الحنفيّة : ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بدا حتى يجعل اللّه له فرجا ومخرجا .

    وروينا من حديث الخطابيّ ، قال : انا محمد بن هاشم ، عن الديريّ ، عن عبد الرزاق ، عن ثابت بن رافع قال : أخبرني شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبد اللّه ، قال :
    سمعت وهب بن منبّه يقول : إني وجدت من حكمة آل داود : حق على العالم أن لا يشتغل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفضي فيها إلى إخوانه الذين يصادقونه على عيوبه وينصحونه في نفسه ، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذّاتها فيما يحلّ ويحمد ، فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات ، والاستجمام للقلوب ، وفضل وبلغة ، وعلى العاقل أن يكون عارفا بزمانه ، ممسكا للسانه ، مقبلا على شأنه .

    وأنشدنا محمد الكتانيّ لبعضهم :
    عليك بالقصد لا تطلب مكاثرة * فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
    واقنع بمالك لا تحسد أخا نشب * فعن قليل يردّ المال واهبه
    فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها * ولا يفكر ما كانت عواقبه
    حتى إذا ذهبت عنه وفارقها * تبين الغبن فاشتدت مصائبه



    “ 226 “

    وصار يروي بأن لو كان ذا عدم * ولم يكن عظمت فيها مكاسبه
    وأنشدنا أيضا لبعضهم :
    يا من تخلّف عن محل نجاته * متشاغلا باللهو والعصيان
    كفّر بحزنك في مقامي ما مضى * واندب فهذا موقف الأحزان
    واذر الدموع على الخدود بحسرة * لتنال عفو الواحد المنّان
    وروينا من حديث محمد بن سلامة ، انا موسى الكاتب ، قال : أخبرنا ابن دريد ، انا عبد اللّه الرياشي ، وأبو حاتم ، عن الأصمعي ، قال : رأيت أعرابيا وقد وضع يده على الكعبة وهو يقول : يا رب سائلك عبد ببابك ، قد مضت أيامه ، وبقيت آثامه ، وانقطعت شهوته ، وبقيت تبعته ، فارض عني ، واعف عني ، فإنما يعفى عن الجاني ، ويثاب المحسن ، وأنت أفضل من عفوت ، وأكرم من رجوت .

    ولنا من اللطائف والإرشادات العلوية :
    غادروني بالأثيل والنقا * أسكب الدمع وأشكو الحرقا
    بابي من ذبت فيه كمدا * بابي من متّ منه فرقا
    حمرة الخجلة في وجنته * وضح الصبح يناغي الشفقا
    قوّض الصبر وطلب الأسى * وأما ما بين هذين لقا
    من لبثّي من لحزني دلّني * من لوجدي من لصبّ عشقا
    كلما صنت تباريح الهوى * فضح الدمع الجوى والأرقا
    فإذا قلت هبوا إليّ نظرة * قيل ما تمنع إلا شفقا
    ما عسى تغنيك منهم نظرة * هي إلا لمح برق برقا
    لست أنسى إذ حدا الحادي بهم * يطلب البين ويبغي إلا برقا
    نعقت أغربة البين بهم * لا رعى اللّه غرابا نعقا
    ما غراب البين إلا جمل * سار بالأحباب نصا عنقا
    وروينا من حديث أبي داود سليمان بن الأشعث قال : مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن مائة ألف صاحب كلهم روي عنهم حديث .

    روينا من حديث ابن باكويه ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن عيسى القرشي ، حدثنا أبو الأشهب السائح قال : بينما أنا أطوف إذا نحن بجويرية قد تعلقت بأستار الكعبة وهي تقول : يا وحشتي بعد الأنس ، ويا ذلتي بعد العز ، ويا فقري بعد الغنى ، فقلت لها : ما لك ؟ أذهب لك مال ؟ أو أصبت مصيبة ؟ قالت : لا ، ولكن كان لي قلب فقدته ، قلت :



    “ 227 “

    وهذه مصيبة ؟ قالت : وأي مصيبة أعظم من فقد القلوب وانقطاعها عن المحبوب ؟ فقلت لها : إن حسن صوتك قد عطّل على سامعيه الطواف ، قالت : يا شيخ ، البيت بيتك أم بيته ؟
    قلت : بل بيته ، قالت : فالحرم حرمك أم حرمه ؟ قلت : حرمه ، قالت : فدعنا نتدلل عليه على قدر ما استزادنا عليه ، ثم قالت : بحبك لي إلا ما رددت عليّ قلبي ، فقلت لها : من أين تعلمين أنه يحبك ؟ قالت : بالعناية القديمة جيّش من أجلي الجيوش ، وأنفق الأموال ، وأخرجني من بلاد الشرك فأدخلني في التوحيد ، وعرّفني نفسي بعد جهلي إياه ، فهل هذه إلا العناية ؟ قلت : كيف حبّك له ؟ قالت : أعظم شيء وأجلّه ، قلت : وتعرفين الحب ؟
    قالت : فإذا جهلت الحب فأي شيء أعرف ؟ قلت : فكيف هو ؟ قالت : هو أرقّ من السراب ، قلت : وأي شيء هو ؟ قالت : عجنت طينته بالحلاوة ، وخمرت في إناء الجلالة ، حلو المجتنى ، ما أقصر ، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلا ، وفسادا معضلا ، وهو شجرة غرسها كربة ، ومجتناها لذيذ ، ثم ولّت وأنشأت تقول :
    وذي قلق لا يعرف الصبر والعزا * له مقلة عبرا أضرّ بها البكا
    وجسم عليل من شجا لاعج الهوى * فمن ذا يداوي المستهام من الضنا
    ولا سيما والحب صعب مرامه * إذا عطفت منه عواطف بالفنا

    ولنا في باب الإشارات العلوية :
    ألا يا حمامات الأراكة والبان * ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني
    ترفقن لا تظهرن بالنوح والبكا * خفي صباباتي ومكنون أحزاني
    أطارحها عند الأصيل وبالضحى * بحنّة مشتاق وأنّة هيمان
    تناوحت الأرواح في غيضة الفضا * فمالت بأفنان عليّ فأفناني
    وجاءت من الشوق المبرّح والجوى * ومن طرق البلوى إليّ بأفنان
    ومن لي بجمع والمحصّب من منى * ومن لي بذات الأثل من لي بنعمان
    تطوف بقلبي ساعة بعد ساعة * بوجد وتبريح وتلثم أركاني
    وكم عهدت أن لا تخون وأقسمت * وليس لمخصوب وفاء بإيمان
    ومن أعجب الأشياء ظبي مبرقع * يشير بعنّاب ويومي بأجفان
    ومرعاه ما بين الترائب والحشا * ويا عجب من روضة وسط نيران
    لقد صار قلبي قابلا كل صورة * فمرعى لغزلان ودير لرهبان
    وبيت لأوثان وكعبة طائف * وألواح توراة ومصحف قرآن
    أدين بدين الحبّ أنّى توجهت * ركائبه فالدين ديني وإيماني
    لنا أسوة في بشر هند وأختها * وقيس وليلى ثم ميّ وغيلان

    “ 228 “

    ولنا أيضا في هذا الباب :
    أطارح كل هاتفة بأيك * على فنن بأفنان الشجون
    فتبكي إلفها من غير دمع * ودمع العين يهمل من جفوني
    أقول لها وقد سمحت جفوني * بأدمعها تخبر عن شئوني
    أعندك بالذي أهواه علم * وهل قالوا بأفياء الغصون

    وروينا من حديث ابن الأشعث ، قال : ثنا عبد اللّه بن سلمة ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن طلحة ، عن محصن بن عليّ ، عن عوف بن الحارث ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم راح فوجد الناس قد صلّوا أعطاه اللّه مثل أجر من صلّاها وحضرها ، لا ينقص ذلك شيئا من أجرهم » .
    ومن بال الترغيب في اتّباع السّنّة ، روينا من حديث أبي داود ، عن عبيد اللّه بن مسعود ، نبأ عمي عن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي اللّه عنها ، قالت : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى عثمان بن مظعون فجاءه ، فقال : « يا عثمان ، أرغبت عن سنّتي ؟ » ، قال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ولكن سنّتك أطلب ، قال : « فأنا أنام ، وأصلي ، وأصوم ، وأفطر ، وأنكح النساء . يا عثمان ، إن لعينك عليك حقا ، وإن لضيفك عليك حقا ، وإن لنفسك عليك حقا ، فصم ، وأفطر ، وصلّ ، ونم "
    .
    حديث بناء قريش الكعبة
    روينا من حديث الأزرقي ، قال : حدثني جدي ، نبأ مسلم بن خالد الزنجي ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، قال : جلس رجال من قريش في المسجد الحرام ، فيهم حويطب بن عبد العزيز ، ومخزمة بن نوفل ، فتذاكروا بنيان قريش الكعبة ، وما هاجهم عن ذلك ، وذكروا كيف كان بناؤها قبل ذلك ، قالوا : كانت الكعبة مبنية برضم يابس ليس بمدد ، وكان بابها بالأرض ، ولم يكن لها سقف ، والكسوة إنما تدلى على الجدر من خارج ، وتربط من أعلى الجدر من بطنها بصخور عظام .
    وكان في بطن الكعبة عن يمين من دخلها جبّ يكون فيه ما يهدى للكعبة من مال وغير ذلك ، وإن اللّه تعالى لما سرقت جرهم من ذلك المال مرارا بعث حيّة تحرسه ، فلم تزل حارسة لما في الكعبة ، وكان فيها قرنا كبش إسماعيل عليه السلام الذي فداه اللّه به من الذبح ، فاتفق أن امرأة ذهبت تجمّر الكعبة فطاردت من مجمرتها شرارة فأحرقت كسوتها ، فأضعفت النار حجارتها ، وجاء سيل عظيم ، فدخل البيت ، وصدع حيطانه ، ففزعت

    “ 229 “

    قريش ، وهابت هدمها ، وخشوا إن مسّوها أن ينزل اللّه عليهم عذابا من عنده ، ثم إنهم جمعوا رأيهم على هدمها ، والذي حرّضهم على ذلك وحثّهم عليه أن سفينة للروم انكسرت بالشعيبة ، ساحل مكة قبل جدة ، وكان في تلك السفينة روميّ يحسن البناء والتجارة ، يسمى ما قوم ، فأخذت قريش خشب تلك السفينة ، فكان وجود الصانع والآلات والخشب حثّهم على ذلك ، فأجمعوا وتعاونوا وتوافدوا وربعوا قبائل قريش أربعا ، ثم اقترعوا عند هبل في بطن الكعبة على جوانبها ، فطار قدح بني عبد مناف وبني زهرة على الوجه الذي فيه الباب وهو الشرقي ، وطار قدح بني عبد الدار وبني أسد بن عبد العزّى وبني عدي بن كعب على الشق الذي يلي الحجر وهو الشق الشامي ، وطار قدح بني سهم وبني جمح وبني عامر بن لؤي على ظهر الكعبة وهو الشق الغربي ، وطار قدح بني تميم وبني مخزوم وقبائل من قريش ضموا معهم على الشق اليماني الذي يلي الصفا وأجياد ، فنقلوا الحجارة ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غلام لم ينزل عليه وحي ينقل معهم الحجارة على رقبته ، فبينما هو ينقلها إذ انكشفت نمرة كانت عليه ، فنودي : يا محمد عورتك ، وذلك أول ما نودي واللّه أعلم ، فما رؤيت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عورة بعد ذلك ، وأدرك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفزع حين نودي ، فأخذه العباس بن عبد المطلب فضمه إليه ، وقال : لو جعلت نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة ، قال : ما أصابني هذا إلا من التعري ، فشدّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إزاره ، وجعل ينقل معهم ، وكانوا ينقلون بأنفسهم تبررا وتبركا بالكعبة .
    فلما اجتمع إليهم ما يريدون من الحجارة والخشب ما يحتاجون إليه ، وغدوا على هدمها ، فخرجت لهم الحية التي كانت في بطنها تحرسها ، سوداء الظهر ، بياء البطن ، رأسها مثل رأس الجدي ، تمنعهم كلما أرادوا هدمها ، فلما أرادوا ذلك اعتزلوا عند مقام إبراهيم عليه السلام ، وهو يومئذ في مكانه الذي هو فيه اليوم ، فقال لهم الوليد بن المغيرة :
    يا قوم ، ألستم تريدون بهدمها الإصلاح ؟ قالوا : بلى ، قال : فإن اللّه لا يهلك المصلحين .
    ولكن لا تدخلوا في عمارة بيت ربكم إلا من أطيب أموالكم ، لا تدخلوا فيه مالا من ربا ، ولا مالا من ميسر ، ولا مالا من مهر بغيّ ، وجنّبوه الخبيث من أموالكم ، فإن اللّه لا يقبل إلا طيبا . ففعلوا ، ثم وقفوا عند المقام ، فقاموا يدعون ربهم ، ويقولون : اللهم إن كان لك في هدمه رضا فأتمه ، واشغل عنا هدا الثعبان ، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ، ظهره أسود ، وبطنه أبيض ، ورجلاه صفراوان ، والحية على جدار البيت فاغرة فاها ، فأخذ برأسها ثم طار بها حتى أدخلها أجياد الصغراء .
    فقال الزبير بن عبد المطلب :

    “ 230 “

    عجبت لما تصورت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب
    وقد كانت يكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب
    إذا قمنا إلى التأسيس شدّت * تهيّبنا البناء ولا تهاب
    فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب بالسكات لها انصباب
    فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب
    فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
    غداة نرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب
    أعز به المليك بني لؤي * فليس لأصله منهم ذهاب
    وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب
    فبوّأنا المليك بذاك عزّا * وعند اللّه يلتمس الثواب
    فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون اللّه قد رضي عملكم ، وقبل نفقتكم ، فاهدموها ، فهابت قريش هدمه ، فقالوا : من يبدأ فيهدمه ؟ فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم فأهدمه ، فإني شيخ كبير ، فإن أصابني أمر كان قد دنا أجلي . فعلا البيت ، وفي يده عتلة يهدم بها ، فتزعزع تحت رجله حجر ، فقال : اللهم لم نرع ، إنما أردنا الإصلاح .

    ثم جعل يهدمها حجرا حجرا بالعتلة ، فهدم يومه ذلك ، فقالت قريش : نخاف أن ينزل به العذاب مساء ، فلما أمسى لم ير بأسا ، فأصبح الوليد على عمله ، فهدمت قريش معه حتى بلغوا الأساس الأول الذي وضعته الملائكة ، وهو الذي رفع عليه إبراهيم القواعد من البيت ، وهي حجارة كبار كالإبل الخلّف ، يحرك الحجر منها فترتج جوانبها ، وقد تشبكت بعضها ببعض ، فأدخل الوليد عتلة بين الحجرين ، فانفلقت منه فلقة ، فأخذها أبو وهب بن عمرو بن عمران بن مخزوم ، ففرت من يده حتى عادت في مكانها ، وطارت من تحتها برقة كادت تخطف أبصارهم ، ورجفت مكة بأسرها ، فلما رأوا ذلك أمسكوا عن أن ينظروا ما تحت ذلك ، فلما جمعوا ما أخرجوا من النفقة ، قلّت النفقة أن تبلغ عمارة البيت ، فتشاوروا في ذلك ، فأجمعوا رأيهم على أن يقتصروا على القواعد ، ويحجروا ما يقفون عليه من بناء البيت ، ويتركوا بقيته في الحجر عليه جدار مدار ، ويطوّفون الناس من ورائه ، ففعلوا ذلك ، وبنوا في بطن الكعبة أساسا يبنون عليه من شق الحجر ، وتركوا من البيت في الحجر سنة أذرع وشبرا ، فبنوا على ذلك .
    فلما وضعوا أيديهم في بنائها قالوا : ارفعوا بابها من الأرض ، واكسوها حتى لا يدخلها السيول ، ولا ترقى إلا بسلّم ، ولا يدخلها إلا من أردتم .

    “ 231 “

    ففعلوا ذلك ، وبنوها بساف من حجارة ، وساف من خشب بين الحجارة ، حتى انتهوا إلى موضع الركن ، فاختلفوا في وضعه ، وكثر الكلام فيه ، وتنافسوا في ذلك .
    فقالت بنو عبد مناف وزهرة : هو في الشق الذي وقع لنا ، وقالت تميم ومخزوم : هو في الشق الذي وقع لنا ، وقالت سائر القبائل : لم يكن الركن ممن استهمنا عليه ، فقال أبو أمية بن المغيرة : يا قوم ، إنما أردنا البرّ ، ولم نرد الشر ، ولا تحاسدوا ، ولا تنافسوا ، فإنكم إذا اختلفتم تشتت أمركم ، وطمع فيكم غيركم ، ولكن حكّموا بينكم أول من يطلع عليكم من هذا الفجّ
    .
    قالوا : رضينا وسلمنا . فطلع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : هذا الأمين وقد رضينا به ، فحكّموه ، فبسط رداءه ثم وضع فيه الركن ، فدعا من كل ربع رجلا ، فأخذوا أطراف الرداء ، وكان في الرّبع الأول عبد مناف بن عتبة بن ربيعة ، وكان في الرّبع الثاني أبو زمعة الأسود وكان أسنّ القوم ، وكان في الرّبع الثالث العاص بن وائل ، وفي الرّبع الرابع أبو حذيفة بن المغيرة ، فرفع القوم الركن ، وقام النبي صلى اللّه عليه وسلم على الجدار ، ثم وضعه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة ، وذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى اللّه عليه وسلم حجرا يشدّ به الركن ، فنحى النبي صلى اللّه عليه وسلم الرجل النجدي ، فغضب النجدي حيث نحي .
    فقال النجدي : وا عجبا لقوم أهل شرف وعقل وسن وأموال ، عمدوا إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم ، كأنهم خدم له ، أما واللّه ليفوتنهم سبقا ، وليقمن عليهم حظوظا وحدودا ، وإن ذلك النجدي كان إبليس لعنه اللّه ، ثم بنوا حتى بنوا أربعة أذرع ، ثم كسوها ، وبنوا حتى بلغ ارتفاع البيت ثمانية عشر ذراعا ، زادوا التسعة أذرع على بناء إبراهيم ، وجعلوا سقفها مسطحا ، وأقاموا سقفه على ستة دعائم في صفين ، وبنوا درجة من خشب في بطنها من الركن الشامي ، يصعد بها إلى سقف البيت ، وزوّقوا البيت ، وصوّروا الأنبياء والشجر والملائكة ، وجعلوا لها بابا واحدا وكسوها من الحبرات اليمانية .

    روينا من حديث الخطابي قال : أخبرني أبو الطيب طبطب الوراق ، عن محمد بن يوسف النحوي قال : حدثني بعض مشايخنا قال : ركبت في سفينة ومعنا شاب من العلوية ، فمكث معنا سبعا لم نسمع له كلاما ، فقلنا له : يا هذا ، قد جمعنا اللّه وإيّاك منذ سبع لا نراك تخالطنا ، ولا نراك تكلمنا ، فأنشأ يقول :
    قليل الهمّ لا ولد يموت * ولا أمر يحاذر أن يفوت
    قضى وطر الصّبا فأفاد علما * فغايته التفرّد والسكوت



    “ 232 “

    واقعة لبعض الفقراء
    أخبرني صاحبي أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ المروزي قال : رأى بعض الفقراء في واقعة أبا مدين وأبا حامد الغزالي ، فسأل أبو حامد الشيخ أبا مدين عن سرّ معرفته ومحبته ، فقال له أبو مدين : المحبة مركبي ، والمعرفة مذهبي ، والتوحيد وصولي ، للمحبة سرّ لا يكشف ، وإدراكات لا يعبّر عنها ، ولا يوصف سرّها ، ومنبعها وفيّ ، وأصلها الجود العليّ ، فهي للخواص سنّة مسنونة ، دلّ على ذلك قوله تعالى : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ . فالمعرفة يا أخي فخري ، وهي قاعدة سري وأمري ، ثمرتها التوحيد ، ومنها وفيها يكون المزيد ، فالتوحيد أصل ، وما سواه فرع ، وهو غاية المقامات ونهاية الأحوال ، وما ذا بعد الحق إلا الضلال ؟
    ثم سأله عن تنزيهه ، فقال : نزّهت الحق بما نزّه به نفسه ، وحمدته حمد من به قدسه ، ومجّدته تمجيد من كان معناه وحسّه ، فهو المحرّك للظواهر ، ومعلن العلانية ، ومسرّ السرائر ، فسرّه لسرّي لاح ، وتحفه تغمرني في المساء والصباح ، إن نظرته وجدته معي ، وإن تحققته كان بصري ومسمعي ، فهو الممدّ لوجودي ، ومقلّب قلبي ، وناصر وجودي ، فحياتي بحياته ظاهرة ، وصفاتي بصفاته مطهرة ، وخلقي بأخلاقه متخلّقة ، أمدّني بتوحيده ، وملأ ظاهري وباطني بجلاله وتمجيده .
    ثم قال : يا واحد يا أحد ، يا فرد يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، جمّل ناظري بالنظر إليك غدا .
    وحدثنا عبد الرحمن بن عليّ ، أنبأ أبو سعيد البغدادي ، عن أبي العباس الظهرانيّ ، وأبو عمرو بن منبّه ، قالا : حدثنا ابن بوه ، عن أبي الحسن اللبياني ، عن أبي بكر القرشي ، عن أبي حاتم الرازي ، عن أحمد بن عبد اللّه بن عياض ، عن عبد الرحمن بن كامل ، عن علوان بن داود ، عن علي بن زيد ، قال : قال طاوس : بينما أنا بمكة إذ بعث إليّ الحجاج بن يوسف فأجلسني إلى جنبه ، وأتكأني على وسادته ، إذ سمع ملبّيا يلبّي حول البيت رافعا يديه فقال : عليّ بالرجل ، فأتي به ، فقال : ممن الرجل ؟ قال : من المسلمين ، قال : ليس عن الإسلام سألت ، قال : فعمّ سألت ؟ قال : سألتك عن البلد ، قال : من أهل اليمن ، قال : كيف تركت محمد بن يوسف ؟ يريد أخاه ، قال : تركته عظيما جسيما لباسا ركّابا خرّاجا ولّاجا . قال : ليس عن هذا سألت . قال : فعمّ سألت ؟ قال : سألتك عن سيرته . قال : تركته ظلوما غشوما مطيعا للمخلوق عاصيا للخالق . فقال له الحجاج : ما حملك على هذا على أن تتكلم به وأنت تعلم مكانه مني ؟ قال الرجل : أتراه بمكانه منك أعز



    “ 233 “

    مني بمكانه من اللّه عز وجل ، وأنا وافد بيته ، ومصد نبيّه ، وقاضي دينه ؟ فسكت الحجاج ، وقام الرجل من غير أن يؤذن له . قال طاوس : فقمت في أثره وقلت : الرجل حكيم ، فأتى البيت وتعلّق بأستاره ثم قال : اللهم بك أعوذ ، وبك ألوذ ، اللهم اجعل لي في الكهف إلى وجودك ، والرضى لضمانك مندوحة ، عن منع الباخلين ، غنى عمّا في أيدي المستأثرين .
    اللهم فرجك القريب ، ومعروفك القديم ، وعادتك الحسنة . ثم ذهب في الناس ، فرأيته عشية عرفة وهو يقول : اللهم إن كنت لم تقبل حجي وتعبي ونصبي ، فلا تحرمني الأجر على مصيبتي بتركك القبول مني . ثم ذهب في الناس ، فرأيته غداة جمع يقول : وا سوأتاه منك ، واللّه وأن عفوت . يردّد ذلك مرارا .
    حدثنا أبو الحسن بن الصائغ بسبتة قال : سمعت أبا عبد اللّه محمد بن رزق ، وكان صاحب رواية وعلم ، يقول : مررت يوما في سياحتي بجبل فرأيت رجلا ساجدا يتضرّع ويبكي ، فقلت : هذا رجل سائح متبتل إلى اللّه عز وجل ، أدنو منه فأسمع ما يقول في سجوده . فدنوت منه بلطف ، فسمعته يقول : اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك ، صن يدي عن مدّها إلى غيرك . قال ابن رزق : فلزمت هذا الدعاء ، فرأيت له بركة عظيمة .
    وبالإسناد قال ابن رزق : مررت بمسجد بفلاة من الأرض في سياحتي ، فدخلت لأركع فيه ركعتين ، فوجدت فيه قلبي ، فأقمت فيه عامين أتعبد اللّه تعالى .

    خبر سلمان الفارسي وإسلامه
    روينا من حديث أحمد بن عبد اللّه قال : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، نبأ محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وحدثنا أيضا أبو عمرو بن عمران ، نبأ الحسن بن سفيان ، قالا : حدثنا مسروق بن المرزبان الكندي عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا عاصم بن عمرو بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس ، قال : حدثني سلمان فيه ، قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي ، وكان أبي دهقان في قريته ، وكنت من أحبّ الخلق إليه ، فما زال حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية ، وكنت قد اجتهدت مع المجوسية حتى كنت فطن النار أوقدها ، لا أتركها تخبو ساعة ، اجتهادا في ديني ، وكان لأبي ضيعة في عمله ، وكان يعالج بيتا له في داره ، فدعاني فقال : أي بني ، إنه قد شغلني بنياني كما ترى ، فانطلق إلى ضيعتي هذه ، ولا تحتبس عليّ فإنك إن احتبست عليّ كنت أهمّ إليّ من ضيعتي ومن كل شيء ، وشغلتني عن كل شيء من أمري . قال : فخرجت أريد الضيعة التي بعثني إليها ، فمررت بكنيسة من

    “ 234 “

    كنائس النصارى فسمعت أصواتهم وهم يصلّون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يفعلون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم ، فقلت : واللّه هذا خير من الدين الذي نحن عليه ، فو اللّه ما برحتهم حتى غابت الشمس ، وتركت ضيعة أبي فلم آتها ، ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام ، قال : ثم رجعت إلى أبي ، وقد بعث في طلبي ، فشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : يا بني أين كنت ؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قال : قلت : يا أبي ، مررت بناس يصلّون في كنيسة لهم ، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فو اللّه ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال : أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، بل دينك ودين آبائك خير ، قلت : كلا واللّه إنه لخير من ديننا . قال : فخافني ، وجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيتي .

    قال : وبعثت إلى النصارى فقلت : إن قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني . قال :
    فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى . قال : فأخبروني . قال : قلت : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أعلموني بهم . قال : فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام . قلت : من أفضل هذا الدين علما ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة . قال : فجئته فأعلمته أني قد رغبت في هذا الدين ، وأكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك . قال : فافعل وادخل ، فدخلت معه ، قال : فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ، ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا .
    قال : فما لبث أن مات فعرّفت النصارى بأمره ، قالوا : وما علمك ذلك ؟ قلت : أنا أدلكم على كنزه . قال : فأريتهم موضعه . قال : فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وفضة وورقا . فلما رأوها قالوا : واللّه لا ندفنه ، وصلبوه ، ثم رموه بالحجارة ، ثم جاءوا برجل آخر ، فجعلوه مكانه . قال : فما رأيت رجلا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه ، وأزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، والآداب ، ليلا ونهارا . قال : فأحببته حبا لم أحب شيئا كان مثله ، فأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة .

    قال : قلت له : يا فلان ، إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحب شيئا كان قبلك مثله ، وقد حضرك ما ترى من أمر اللّه تعالى ، من تأمرني ؟ قال : أي بني ، واللّه ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس ، وبدّلوا كثيرا مما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل وهو فلان ، وهو على ما كنت عليه ، فالحق به . قال : فلما غيب لحقت بصاحب الموصل فقلت : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره . فقال :
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68539
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1 Empty رد: كتاب: محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 ـ 1

    مُساهمة من طرف Admin 15/11/2021, 15:24

    الجزء 16 .محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1 الشيخ الأكبر ابن العربي
    الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
    الجزء 16
    محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1

    “ 235 “

    أقم عندي . قال : فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إليك ، وأمرني باللحوق لك ، وقد حضرك من أمر اللّه ما ترى ، فإلى من توصيني ؟ قال : واللّه إني ما أعلم رجلا على ما كنت عليه إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان ، فالحق به .

    فلما مات وغيّب لحقت بصاحب نصيبين ، فجئته وأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي ، فقال : أقم عندي ، فوجدته على أمر صاحبه ، فأقمت معه ، فكان خير رجل ، فو اللّه ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حضرته الوفاة قال : قلت : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إلى فلان ، وأوصاني فلان إليك ، فإلى من توصيني وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، ما أجد أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم ، فإنه على مثل أمرنا ، فإن أحببت فائته . فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبري . فقال : أقم عندي ، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم . قال : ثم اكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة .

    قال : ثم نزل به أمر اللّه ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان ، إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ، ثم أوصاني فلان إلى فلان ، ثم أوصاني فلان إليك ، فإلى من توصيني وتأمرني ؟ فقال : أي بني ، واللّه ما أعلم أصبح على ما كنّا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم ، يخرج بأرض العرب ، مهاجرة إلى أرض بين الحرنين بها نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدبة ولا يأكل الصدفة ، بين كتفيه خاتم النبوّة ، فإن استطعت أن تلحق به بتلك البلاد فافعل . قال : ثم مات وغيّب .


    ومكث بعمورية ما شاء اللّه أن أمكث .
    ثم مرّ بي نفر من كلب تجار ، فقلت : أتحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري هذا وغنمي هذه ؟ فأعطيتهم إياهها ، وحملوني معهم حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني وباعوني من رجل يهودي ، فكنت عنده ، ورأيت النخل ، فرجوت أن يكون البلد الذي وصفه لي صاحبي ، فبينما أنا كذلك إذ قدم ابن عم له من المدينة من بني قريضة ، فابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة ، فو اللّه ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر ، على ما أنا عليه من شغل الرقّ ، ثم هاجر إلى المدينة ، فباللّه أني لفي رأس عذق لسيدي ، أعمل فيها بعض عمله ، وسيدي جالس تحتي ، إذ أقبل عم له ، فوقف عليه فقال : يا فلان ، قاتل اللّه بني قيلة ، واللّه إنهم الآن مجتمعون بقبا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعم أنه نبيّ ، قال : فلما سمعتها أخذتني العراء حتى ظننت أني ساقط على سيدي ، قال : فنزلت عن


    “ 236 “


    النخلة ، وجعلت أقول لابن عم سيدي : ما تقول ؟ فغضب سيدي فلطمني لطمة شديدة ، ثم قال لي : ما لك ولهذا ؟ اقبل على عملك ، قال : قلت : لأي شيء أردت تستبين عما قال ؟ وكان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بقبا ، فدخلت المسجد عليه فقلت له : بلغني أنك رجل صالح ، معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، ثم قرّبته إليه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كلوا » ، وأمسك يده ولم يأكل ، قال :

    فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا ، ولما تحوّل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة فجئته ، فقلت له : إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، قال : فأكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأمر أصحابه فأكلوا معه ، قال : فقلت في نفسي :

    هاتان اثنتان ، قال : ثم جئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو ببقيع الفرقد ، تبع جنازة رجل من أصحابه ، عليه شملتان ، فسلمت عليه ، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره ، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ، فلما رآني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبّله وأبكي . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تحوّل » ، فتحولت ، فجلست بين يديه ، فقصصت حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يسمع أصحابه . ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كاتب يا سلمان » ، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة ، أجيبها بالفقر ، وبأربعين أوقية ذهب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أعينوا أخاكم » ، فأعانوني بالنخل : الرجل بثلاثين ، والرجل بخمسة عشر ، والرجل بقدر ما عنده ، حتى جمعوا ثلاثمائة ودية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « اذهب يا سلمان ففقّرها ، فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي » ، قال : ففقرت لها ، فأعانني أصحابه ، حتى إذا فرغت جئته ، فأخبرته ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معي إليها ، فجعلنا نقرب له الوادي ، ويضعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده الشريفة ، حتى فرغنا ، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة ، فأديت النخل ، وبقي عليّ المال ، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ما فعل الفارسي المكاتب ؟ » ، قال : فدعيت له ، قال : « خذ هذه ، فأدّها بما عليك يا سلمان » ، قال : قلت : ما تقع هذه يا رسول اللّه مما عليّ ؟ قال : « خذها فإن اللّه سيؤدي بها عنك » ، فأخذتها فوزنت لهم منها ، والذي نفسي بيده أربعين أوقية ، فأوفيتهم حقهم ، وعتق سلمان ، فشهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخندق وأحدا .
    ثم لما نعتني الفقر مخرج الماء من القناة ، فقرّت للودية تفقيرا ، وهو أن يحفر حفرة حول النخلة إذا غرست .



    “ 237 “


    وصية إلهية
    روينا من حديث ابن مروان ، عن عبيد بن شريك ، عن أبي صالح الفرّا ، عن سالم بن ميمون الخوّاص ، عن مكرم بن يوسف العابد ، قال : أوحى اللّه إلى نبي من الأنبياء أن قف على المدائن والحصون ، فأبلغهم عني حرفين ، وقل لهم : لا يأكلون إلا حلالا ، ولا يتكلمون إلا بالحق .

    وكان الحسن بن صالح كثيرا ما ينشد هذين البيتين :
    إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا * ندمت على التفريط في زمن البذر
    فما لك يوم الحشر شيء سوى الذي * تزودّته يوم الحساب إلى الحشر


    ولنا من قصيدة قريب من هذا :
    سيحصد عبد اللّه ما كان حارثا * فطوبى لعبد كان للّه يحرث
    روينا من حديث المالكي ، عن معاذ بن المثنى ، عن يحيى بن معين ، عن أبي معاوية ، عن هشام ، قال : قيل للحسن : لم لم تغسل قميصك ؟ قال : الأمر أسرع من ذلك .
    وقدم هند بن عوف من سفر ، فمهدت له امرأته فراشا ، فنام عليه ، فكانت له ساعة يصلي فيها من الليل ، فنام عنها ، فلما أصبح حلف أن لا ينام على فراش أبدا .

    روينا من حديث الدينوري ، عن عباس بن محمد الدوري ، عن يحيى بن معين ، عن جرير ، عن طلق بن معاوية وهو جد حفص بن غياث ، قال : الغفلة سنّة الكريم .
    سأل رجل عمران بن مسلم ، فأعطاه وبكى ، فقيل له : وما يبكيك وقد قضيت حاجته ؟ قال : بكيت حيث أحوجته إلى مسألتي .
    روينا هذا من حديث إبراهيم الحربي ، عن أبي الحسن الباهلي ، قال : حدثني بعض أهل المعرفة وذكره .



    كتاب طاوس إلى عمر بن عبد العزيز
    روينا من حديث ابن مروان ، عن أحمد بن عبّاد التميمي ، عن سليمان بن أبي شيخ ، عن محمد بن أحمد القرشي ، قال ابن عبد العزيز : ما وعظني أحد أحسن مما وعظني به طاوس ، كتب إلي : استعن بأهل الخير يكن عملك خيرا كله ، ولا تستعن بأهل الشر فيكون عملك شرا كله .


    “ 238 “


    وروينا من حديث ابن أبي الدنيا ، قال : حدثنا قاسم بن هشام ، نبأ عصمة بن سلمان ، نبّأ فضل بن جعفر ، قال : خرج الحسن من دار ابن هبيرة ، وإذا هو بالقراء على الباب ، قال : ما أجلسكم هنا ؟ تريدون الدخول على هؤلاء ، أما واللّه ما مخالطتكم مخالطة الأبرار ، تفرقوا ، فرق اللّه بين أرواحكم وأجسامكم ، خصفتم نعالكم ، وشمرتم ثيابكم ، وجززتم رءوسكم ، فضحتم القراء ، فضحكم اللّه ، أما واللّه لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم ، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم ، فأبعد اللّه من أبعد .



    خبر أساف ونائلة الأصنام
    روينا من حديث ابن إسحاق ، أن جرهم لما طغت في الحرم دخل رجل منهم بامرأة الكعبة ، ففجر بها ، ويقال : بل قبّلها ، فمسخا حجرين اسم الرجل : أساف بن بقاء ، واسم المرأة : نائلة بنت ذئب . فأخرجا من الكعبة ، فنصب أحدهما على الصفاء علما ، والآخر على المروة . وإنما نصبا هناك ليعتبر بهما الناس ، وينزجروا عن مثل ما ارتكبا ، لما يرون من الحال الذي صار إليه فلم يزل الأمر يدرس ويتقادم حتى صار يتمسح بهما من وقف على الصفا والمروة . فلما كان عمرو بن لحيّ أمر بعبادتهما وتعظيمهما والتمسح بهما :
    وقال : إنهما كانا معبودين لمن قبلكم . فلما كان قصيّ بن كلاب حوّلهما من الصفا والمروة ، فجعل أحدهما ملصقا بالكعبة ، وجعل الآخر في موضع زمزم . وكان يطرح بينهما ما يهدي للكعبة ، وكان يسمى ذلك الموضع الحطيم . وكان ينحر عندهما ويذبح ، ولم يكن يدنو منهما امرأة ظلمت .
    وفي ذلك يقول بشر بن أبي حزم الأسدي أسد خزيمة بيتا مفردا :
    عليه الطير ما يدنون منه * مقامات العوارك من أساف

    فكان الطائف إذا طاف بالبيت يبدأ بأساف ومستلمة ، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها . فكان كذلك حتى كسرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع الأصنام يوم فتح مكة ، دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الفتح فكان بها ثلاثمائة وستون صنما حول الكعبة قد شد بالرصاص منها ، فطاف على راحلته وهو يقول : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ، ويشير إليها بقضيب في يده الكريمة على بعد لا يمسّها فما منها صنم أشار إلى وجهه إلا وقع على دبره ، ولا أشار إلى دبره إلا وقع على وجهه ، حتى وقعت كلها ، فلما صلى العصر أمر بها فجمعت ، ثم أحرقت بالنار . وفي ذلك يقول فضلة بن عمير بن الملوّح الليثي في يوم الفتح شعرا :


    “ 239 “


    لما رأيت محمدا وجنوده * بالفتح يوم تكسّر الأصنام
    لرأيت نور اللّه أصبح بيّنا * والشرك يغشى وجهه الإظلاموقيل : بل كان الرجل أساف بن عمرو ، والمرأة نائلة بنت سهيل ، فلما كسرا يوم الفتح مع الأصنام ، خرج من أحدهما امرأة سوداء شمطاء تخمش وجهها ، عريانة ناشرة شعرها ، تدعو بالويل والثبور . فقيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك ، فقال : “ تلك نائلة أيست أن تعبد ببلادكم أبدا “ . ويقال : إن إبليس رنّ ثلاث رنّات ، رنّة حين لعن فتغيّرت صورته عن زيّ الملائكة ، ورنّة حين رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم قائما يصلي بمكة ، ورنّة حين افتتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة ، فاجتمعت إليه ذريته ، فقال إبليس : أيسوا أن تردوا أمة محمد الشرك بعد يومهم هذا أبدا ، ولكن افشوا فيهم النوح والشعر .ومن محاسن المكاتبة
    ما كتب به عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر إلى بعض إخوانه : أما بعد ، فقد عاقني الشك عن عزيمة الرأي ، ابتدأتني بلطف من غير خبرة ، ثم أعقبتني جفاء من غير ذنب ، فأطمعني أوّلك في إخائك ، وأيسني آخرك من وفائك ، فلا أنا في حين الرّجا مجمع لك إطراحا ، ولا أنا في غد بنصرة منك على ثقة ، فسبحان من لو شاء وكشف إيضاح الرأي فيك ، فأقمنا على ائتلاف ، أو افترقنا على اختلاف .

    وقيل : الولاية حلوة الرضاع مرّة الفطام .
    لما ولّي الحجاج المدينة ، وجاز فيها ، وقدم وفد المدينة وفيهم عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه على عبد الملك بن مروان ، فأثنى الوفد على الحجاج ، وعيسى ساكت ، فلما قاموا ثبت عيسى حتى خلا له وجه عبد الملك ، فقام فجلس بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين ، من أنا ؟ قال : عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه ، قال : فمن أنت ؟ قال عبد الملك بن مروان ، قال : فجهلتنا أم تغيرت بعدنا ؟ قال : وما ذاك ؟ قال : ولّيت علينا الحجاج بن يوسف يسير فينا بالباطل ، وتحملنا أن نثني عليه بغير الحق ، واللّه إن أعدته علينا لنعصينك ، وإن قاتلتنا وغلبتنا وأسأت إلينا قطعت أرحامنا ، ولئن قوينا عليك لنغصبنّك ملكك . فقال له عبد الملك : انصرف والزم بيتك ، ولا تذكرن من هذا شيئا .

    قال : وقام من منزله ، وأصبح الحجاج غاديا على عيسى بن طلحة ، فقال : جزاك اللّه خيرا عن خلوتك بأمير المؤمنين ، فقد أبدلني بكم خيرا ، وأبدلكم بي غيري ، وولّاني العراق .
    وحدثنا أبو الربيع الكتاني ، عن أبي محمد بن عبد اللّه بن عبد الرحمن ، عن


    “ 240 “


    عبد الرحمن بن محمد ، قال : حج الشبلي ، فلما وصل إلى مكة جعل يقول :
    أبطحاء مكة هذا الذي * أراه عيانا وهذا أنا
    ثم غشي عليه فأفاق وهو يقول :
    هذه دارهم وأنت محبّ * ما بقاء الدموع في الآماق

    وقال الآخر :
    إذا هزّنا الشوق اضطربنا لهزّه * على شعب الرحل اضطراب الأراقم
    فمن صبوات تستقيم بمائل * ومن أريحيّات تهب بنائم
    واستشرف الأعلام حين تدلّني * على طيبها مرّ الرياح النواسم
    وما أنسم الأرواح إلا لأنها * تمرّ على تلك الرّبا والمعالم


    ولنا من المعاني الغزلية :
    رأى البرق شرقيا فحنّ إلى الشرق * ولو لاح غربيا لحنّ إلى الغرب
    فإن غرامي بالبريق ولمعه * وليس غرامي بالأماكن والترب
    روت لي الصّبا عنهم حديثا معنعنا * عن البيت عن وجدي عن الحزن عن كرب
    عن السكر عن عقلي عن الشوق عن جوى * عن الدمع عن جفني عن النار عن قلبي
    بأن الذي تهواه بين ضلوعكم * تقلبه الأنفاس جنبا إلى جنب
    فقلت له بلّغ إليه بأنّه * هو الموقد النار التي داخل القلب
    فإن كان إطفاء فوصل مخلّد * وإن كان إحراق فلا ذنب للصّبّ

    ولنا في هذا المعنى مقطوع :
    قل للذي مسكنه أضلعي * ومن له في القلب إضمار
    ما خفت إذ أضرمت نار الأسى * في أضلعي تحرقك النار


    سلمنا الأمر إليه فقلنا :
    أيها العذب التجني والجنا * أيها البدر سناء وسنا
    نحن حكّمناك في أنفسنا * فاحكم إن شئت علينا ولنا
    ( ذكر المؤاخاة التي كان وأخاها النبي صلى اللّه عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار رضي اللّه عنهم ) .
    روينا من حديث محمد بن إسحاق المطلبيّ قال : واخى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار . قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « تواخوا في اللّه » ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب



    “ 241 “

    فقال : “ هذا أخي “ ، فكان عليّ ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخوين . وكان حمزة بن عبد المطلب عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخوين . وكان معاذ بن جبل وجعفر بن أبي طالب أخوين . وكان أبو بكر الصدّيق وخارجة بن أبي زهير أخوين . وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين .

    وكان أبو عبيدة بن الجراح ، واسمه عامر بن عبد اللّه ، وسعيد بن معاذ أخوين . وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين . وكان الزبير بن العوّام وسلمة بن سلامة بن وقس أخوين . ويقال : بل الزبير وعبد اللّه بن مسعود أخوين . وكان عثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين . وكان طلحة بن عبد اللّه وكعب بن عدن أخوين . وكان سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب أخوين .
    وكان مصعب بن عمير بن هشام وأبو أيوب خالد بن زيد أخوين . وكان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعبّاد بن بشر بن وقش أخوين . وكان عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين .
    ويقال : بل ثابت بن قيس بن شمّاس خطيب النبي صلى اللّه عليه وسلم وعمّار بن ياسر أخوين . وكان أبو ذرّ واسمه يزيد ، وقيل : كان اسمه جندب بن جنادة الغفاري ، والمنذر بن عمرو أخوين . وكان حاطب بن أبي بلتعة وعويمر بن ساعدة أخوين . وكان سلمان الفارسي وأبو الدرداء عويمر بن زيد ، والخلاف في أبيه ، أخوين . وكان بلال وأبو رويحة عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي .
    قال ابن إسحاق : فهؤلاء من سمّي لنا ممن كان عليه الصلاة والسلام آخى بينهم من أصحابه رضي اللّه عنهم .



    ذكر خراب البلاد الذي يكون في آخر الزمان
    روينا من حديث المياسي ، أسنده إلى حذيفة ، قال حذيفة : قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذكر الحديث بطوله ، وقد أوردناه في الكتاب في رقم 22 وفيه أن مصر آمنت من الخراب حتى تخر البصر . ثم ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن خراب البصرة من العراق ، وخراب مصر من جفاف النيل ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من السّيل ، وخراب اليمن من الجراد ، وخراب الأيلة من الحصار ، وخراب فارس من الصعاليك من الديلم ، وخراب الديلم من الأرمن ، وخراب الأرمن من الجزر ، وخراب الجزر من الترك ، وخراب الترك من الصواعق ، وخراب السّند من الهند ، وخراب الهند من الصين ، وخراب الصين من الرمل ، وخراب الحبشة من الرجفة ، وخراب الزوراء من السفياني ، وخراب الرّوحاء من الخسف ، وخراب العراق من القحط .
    وحدثني عبد الواحد بن إسماعيل بن إبراهيم العسقلاني الكتاني قال : حدثني أبي ،



    “ 242 “


    قال : قرأت في كتاب ابن عصمة في القران العاشر من المثلثة الترابية الموافقة لسنة خمسمائة وإحدى وستين من الهجرة النبوية ، تكون أمور هائلة في الأقاليم الثالث والرابع ، بتقدير العزيز العليم الذي أودع علم ذلك في جري الكواكب وحركات الأفلاك ، كما أودع السحاب والمطر والأرض والنبات . وسائر الأسباب الإلهية المصنوعات بسياقها .

    فمن ذلك ظهور ملك المشرق ، فيعظم أمره ، ويشتد في الآفاق خبره ، ويعلو شأنه ، إلى أن تصعد جناحاه إلى الغرب والقبلة ، ويكون مؤيدا منصورا في جميع أموره ، وذلك في أول القرآن ، وهو قران زحل والمشتري العلويين ، في برج الجدي في الثلث الأخير منه .
    ويستولي هذا الملك المذكور على مملكة مصر ويضعفها ، ويسقيها بكأس الحمام ، وينغصها ويهلك أعوانها ومن يقول بقولها ، وذلك من أول القرن إلى ربعه .
    ويهلك اللّه به السودان هلاكا لا يرجى جبرانه إلى أن يعودون ذمة تحت يديه ، ويقوى على بني الأصفر ، ويكسرهم ثلاث مرات ، ويفتح بنو الأصفر على أيامهم قرية بلبيس ، ويهلك بها خلق كثير . فإذا كان الربع الثاني من القرن ظهر منه غضب ، ويتفرق ملكه على ثلاث فرق ، فيجوز كل منهم مكانا يجوزه برجاله وعساكره ، ويكون أحد الثلث قويا ، والثلثان فيهم ضعف ، ويبقى الملك في عقبهم إلى نصف القرن ، ثم ينتقل الكوكبان إلى الديران ، وهو الثلث الثالث من القرن ، ففي ذلك الزمان يتحرك صاحب الغرب في جيوش كثيرة ، وعساكر غزيرة ، وينزلون شرقا وغربا ، ويعمر مدينة يقال لها شبرة أو صبرة ، ويملئون بنيان القيروان ، فيبلغ الروم ذلك ، فيتحركون في الأساطيل العظيمة ، فيفتحون سواحل البحر ، ويخاف على الجزيرتين والإسكندرية فإذا أنزل حركة كيوان وجسده في البرج الغربي .

    وحرك سبحانه عند ذلك جيوش المغرب ، فينزلون قريبا من الحجر الأبيض ، فيقسمون جيوشهم على ثلاث فرق فرقة تقصد الصعيد الأعلى ، وفرقة تأخذ الطريقة الوسطى ، وفرقة تأخذ على طريق البحر فيجتمعون بأسرهم على نيل مصر ، ويكون النيل سبعة من اثني عشر حتى تغور بحيرة طبرية ، وتجف العيون في جميع الأقاليم ، وتغور المياه في قرار الأرض ، ويعدم القوت ، وتسيب البلاد ، ويجوز كل واحد موضعه ، ويفيض اللسان الأعوج في جميع الأقاليم ، وتحرق في مصر ثالثة ، ويستباح ما فيها ، وتستباح دماء أهل الذمة وأموالهم ، ويملك أكثرهم ، ويخرب الصعيد والريفان ، ويكون أمر الخلق في ضلال من بعد أن تستباح أموالهم ، وتضعف أحوالهم ، ويموت كثير منهم ، والويل لمن يقيم في إقليم مصر ، إذا أنزل اللّه كيوان برج السرطان وذلك في الربع الأخير من القران ، فإذا نزل تحرّك



    “ 243 “


    بنو الأصفر بقوة عظيمة في الأساطيل ، ويفتحون مدينة الإسكندرية من بين البابين ، ويدخلون فيها إلى أن يبلغوا سوق الريحان ، فيقتلون خلقا كثيرا ، وينقلع بنو الأصفر من الشام جميعه حتى السواحل ، ويكون سبب خروجهم يظهر عليهم رجل من المشرق بغتة لا يعلمون بخروجه ، وينضاف إليهم عساكر من الترك ، يقتحمون بيت المقدس ، والشام جميعه ، ويقيمون بها دون الحول ، فعند ذلك يتحرّك ملك الجزر ، يقال له : ذو العرف ، يخرج بعساكره برا وبحرا ويقصد بعضهم إلى الدروف ، وبعضهم إلى الشام ، وبعضهم إلى الإسكندرية وجزائر البحر .

    ويقع بينه وبين الترك خمس وقعات إلى أن تجري دماؤهم كالنهر ، وفي عقب ذلك تنتصر جيوش الغرب بقوة عظيمة مائة ألف أو أكثر ، وتعود دفعة ثانية إلى مصر ، ويضربون خيامهم من الترك وعسقلان وطبرية ، ثم يخرج السفياني بعساكر عظيمة ، فيقتلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، ويوجه السفياني جيشين : جيشا إلى الكوفة فيقتل حتى لا يبقى منهم أحد أصلا ، وأما الجيش الآخر فيأتي إلى مدينة يثرب فيستبيحها ثلاثة أيام ، ثم يرحل يطلب مكة فيخسف به في البيداء فلا يسلم منهم أحد سوى رجلين ، أحدهما من جهينة فهو الذي يأتيه بالخبر ، ثم يخرج المهدي فيقتل السفياني ذبحا تحت شجرة بخارج دمشق ، ويبايع بين الركن والمقام ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا ، ثم يغزو القسطنطينية بعساكر في جملتهم سبعون ألفا من ولد إسحاق فيكبّرون عليها فينهدم ثلثها ، ثم يكبّرون ثانية فينهدم الثلث الثاني ، ثم يكبّرون ثالثة فينهدم سورها كله فيدخلونها فيكسبون فيها أموالا عظاما ، ثم يخرج الدجال فيلبث أربعين يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم ، فينزل عيسى عليه السلام بين مهرودتين عند المنارة البيضاء بشرقي دمشق ، فيصلي العصر بالناس ويطلب الدجال فيقتله بباب لدّ ويخرج يأجوج ومأجوج .

    وقد ذكرنا حديثهم في هذا الكتاب ، فينحصروا في جبل الطور ، في القلعة التي بناها الملك المعظم ابن الملك العادل ، بنيان عيس لعيسى ، وأرجو أن يدعو لبانيها ، فلا يزال محصورا بها داعيا في هلاك يأجوج ومأجوج ، فيموتون موت رجل واحد بداء النفف كما ذكرنا . ثم يخرج عيسى عليه السلام وتخرج الأرض خيرها وبركتها ، فيتزوج ويولد له ، ثم يموت فيدفن بالمدينة بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر ، ويرسل اللّه ريحا ليّنة تحت العرش تأخذ المؤمنين من تحت آباطهم فيموتون ، فيبقى شرار الخلق عليهم تقوم الساعة .
    ومن وقائع بعض الفقراء إلى اللّه تعالى ، ما حدثنا به عبد اللّه ابن الأستاذ قال : رأى بعض المريدين في الواقعة أبا مدين جالسا في روضة من نور ، وأشياخ الصوفية قد أحدقوا



    “ 244 “



    به ، وأحدقت بالجميع صور لم أر أحسن منها ولا أجمل ، وعليهم من نفائس الجواهر واللآلئ ما لا أستطيع وصفه ، ولا أحسن العبارة عن نقشه ، وعلى رأس أبي مدين ثلاثة ألوية من نور ، مركوز واحد عن يمينه مكتوب عليه : حسبي اللّه ، وواحد على رأسه وهو أعلاها مكتوب عليه : اللّه ، والآخر على يساره مكتوب عليه : لا حول ولا قوة إلا باللّه .
    فقال أبو حامد لأبي مدين : يا شيخ ، تكلم لنا على هذه الأسماء المكتوبة على هذه الألوية ، فقال الشيخ : أما هذا الاسم الذي هو اللّه ، فهو الاسم الأعظم الذي هو رأس الأسماء ، وإليه يرجع كل معنى ، وهو المنزّه المتبوع الذي به ظهرت المخلوقات ، وعليه أسست الأرضون والسماوات ، وعنه صدرت الأسماء والصفات ، فالمصنوعات بأسرها من العرش إلى الثرى تشهد بأنه موجدها ، وما من ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا رطب ولا يابس إلا وهو معها .

    فقال له أبو حامد : فما معنى حسبي اللّه ؟ فقال : هو أمن وأمان من أن تغدو عليه النيران ، فمن تخلّق به سلم وصفا ، وكان ممن وفا حين وفا . فقال : ما معنى لا حول ولا قوة إلا باللّه ؟ فقال : هو التبرّي من باطن الأحوال ، وردّها إلى ظاهر الأقوال والأفعال ، ثم ردّها إلى ذي الكلام والجلال . فهذه وما عداها راجعة إلى الاسم الأعظم الذي هو مبدأها ومنتهاها ، فهو الاسم الذي حنّ به بعض كل شيء إلى بعض ، وهو نور السماوات والأرض ، فإذا تجلى من نوره لمعه كان اللّه ولا شيء معه ، ثم قال له : قل لنا في التوحيد شيئا .

    فقال : التوحيد سرّي ، ووطني ، ومستقرّي ، وسكني ، وهو مبدأي ، ومنتهاي ، وهو الأساس لبناي ، خصّني اللّه منه بفضائل ، وأكرمني منه بدلائل ، إن نزعت إلى سبب من الأسباب نوديت : اذكر ربك لا تذكر الأسباب . فالتوحيد يجلي كل ظلمة ، وهو الرافع لكل ذي همة ، هو القطب الذي عليه المدار ، وبه أشرق الوجود واستنار .

    ثم قال أبو حامد : ما هي مادة اللّه في الوجود ؟ فقال : مادة اللّه في الوجود تسري ، وعلى ما سبقت به المقادير تجري ، قد سترها الغيب ، فهي منزّهة عن النقص والعيب ، فقد أخفاها اللّه سبحانه عن الكائن والبائن ، وجفّ القلم بما هو كائن فسترها عن خلقه من وجوه الرحمة والعطف ، وتغيّبها عنهم من كمال الجود واللطف .
    ولنا من باب الرموز والإشارات العلوية :قالت عجبت لصبّ من محاسنه * يختال ما بين أزهار ببستان
    فقلت لا تعجبي مما ترين فقد * أبصرت نفسك في مرآة إنسانولنا من باب اللطائف الربانية :



    “ 245 “

    بأثيلات النقا سرب قطا * ضرب الحسن عليه طنبا
    وبأجواز الفلا من أضم * نعم ترعى لديها وظبا
    يا خليليّ قفا واستنطقا * رسم دار بعدهم قد خربا
    واندبا قلب فتى فارقهم * يوم باتوا وابكيا وانتحبا
    عله يخبر حيث يمموا * الجرعاء الحمى أم لقبا
    رحّلوا العيس ولم أشعر بهم * السهو كان أم طرف نبا
    لم يكن ذاك ولا هذا وما * كان إلا وله قد غلبا
    يا هموما شرّدت وافترقت * خلفهم تطلبهم أيدي سبا
    أي ريح نسمت ناديتها * يا شمالي يا جنوبي يا صبا
    هل لديكم خبر مما بنا * قد لقينا من هواهم نصبا
    أسندت ريح الصبا أخبارهم * عن نبات الشيخ عن زهر الرّبا
    إن من أمراضه داء الهوى * فليعلل بأحاديث الصّبا
    ثم قالت يا شمال خبّري * مثل ما خبّرته أو أعجبا
    ثم أنت يا جنوب حدّثي * مثل ما حدّثته أو أعذبا
    قالت الشمأل عندي فرج * شاركت فيه الشمال الأزيبا
    كل سوء في هواهم حسن * وعذاب برضاهم عذّبا
    فإلام وعلام ولما * تشتكي اللبث وتشكو الوصبا
    وإذا ما وعدوكم ما ترى * برقه إلا بريقا خلّبا
    رقم الغيم على ردن الغما * من سنان البرق طرازا مذهبا
    فجرت أدمعها منها على * صحن خدّيها فأذكت لهبا
    وردة ثابتة من أدمع * نرجس يمطر غيث عجبا
    ومتى رمت جناها أرسلت * عطف صدغيها عليها عقربا
    تشرق الشمس إذا ما ابتسمت * ربّ ما أنور ذاك الحببا
    يطلع الليل إذا ما أسدلت * فاحما جثلا أثيثا غيهبا
    يتجارى النحل مهما تفلت * ربّ ما أعذب ذاك الشنبا
    وإذا مالت أرتنا فننا * أي رنت سلّت من اللحظ ظبا
    كم تناغي بالنقا من حاجر * يا سليل العربيّ العربا
    أنا إلا عربيّ ولذا * أعشق البيض وأهوى العربا
    لا أبالي مشرق الوجد بنا * حيثما كانت به أو غربا



    “ 246 “



    كلما قلت إلا قالوا أما * وإذا ما قلت هل قالوا أبا
    ومتى ما أنجدوا أو اتهموا * أقطع البيدا أحثّ الطلبا
    سامريّ الوقت قلبي كلما * أبصر الآثار يبغي المذهبا
    وإذا ما غرّبوا أو شرّقوا * كان ذو القرنين يقفو السّببا
    كم دعونا بالوصال رغبا * كم دعونا من فراق رهبا
    يا بني الزوراء هذا قمر * عندكم لاح وعندي غربا
    خربي واللّه منه حربي * كم أنادي خلفه وا حربا
    لهف نفسي لهف نفسي لفتى * كلما غنّى حمام غيّبا

    حدثنا محمد بن علي ابن أخت المقري ، حدثنا محمد بن أحمد بن علي ، حدثنا محمد بن برار ، نبأ عبد اللّه بن قاسم ، حدثنا محمد بن القاسم ، عن أبيه ، عن علي بن حرب ، عن أسباط بن محمد ، عن هشام بن حسان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال :
    قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « من انقطع إلى اللّه كفاه اللّه كل مئونة ، ومن انقطع إلى الدنيا وكّله اللّه إليها ، ومن حاول أمرا بمعصية اللّه كان أبعد له مما رجا وأقرب مما اتقى ، ومن طلب محامد الناس بمعاصي اللّه عاد حامده منهم ذامّا ، ومن أرضى الناس بسخط اللّه وكّله اللّه إليهم ، ومن أرضى اللّه بسخط الناس كفاه اللّه شرهم ، ومن أحسن فيما بينهم وبين اللّه كفاه اللّه ما بينه وبين الناس ، ومن أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته ، ومن عمل لآخرته كفاه اللّه أمر دنياه » .

    وحدثنا علي بن عبد اللّه بن عبد الرحمن ، نبأ شعبة ، عن الحكم ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « رحم اللّه عبدا تكلم فغنم ، أو سكت فسلم ، إن اللسان أملك شيء للإنسان ، ألا وإن كلام العبد كله عليه ، إلا ذكر اللّه ، أو أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو إصلاح بين المؤمنين » .
    فقال له معاذ بن جبل : يا رسول اللّه ، أنؤاخذكم بما نتكلم به ؟ قال : « وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ فمن أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه ، وليحرص على ما انطوى عليه جنانه ، وليحسن عمله ، وليقصر أمله » . ثم لم تمض أيام حتى نزلت هذه الآية : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ .



    عناية أزلية
    روينا من حديث أبي عبد الرحمن ، قال : سمعت عن ابن عبد الرحمن الطوسيّ ،


    “ 247 “

    قال : سمعت علوس الدينوري ، قال : سمعت المزني يقول : كنت مجاورا بمكة فخطر لي خاطر في الخروج إلى المدينة ، فخرجت ، فبينما أنا بين المسجد أمشي ، فإذا أنا بشاب مطروح ينزع ، فشهق شهقة كانت فيها نفسه ، فكفّنته في أطمار ، ودفنته ، ورجعت .
    وبه قال الخوّاص : كنت بمكة ، فبينما أنا أطوف بالبيت نوديت في سرّي : امضي إلى بلاد الروم . فقلت : يا عجبا ، أكون ببيت اللّه الحرام فأتركه ، وأمضي إلى بلاد الروم ؟ ثم هممت بالطواف ، فلم أستطع ، فسرت إلى بلاد الروم ، فلما دخلتها سمعت الناس يقولون :

    إن بنت الملك قد صرعت ، وقد عرضت على الأطباء فما عرفوا لها دواء . فقلت : احملوني إليها ، فأنا غلام طبيب . فحملت ، فلما دخلت عليها ، قلت : مرحبا يا خوّاص ، فقلت : ما لك ؟ قلت : كنت على ديننا حتى البارحة ، وإني نمت فرأيت في المنام عرش ربي بارزا ، فانتبهت كما ترى ، لا ينطق لساني إلا بقول لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ، فلما رأوني هكذا ، نسبوني إلى الجنون . فقلت : لعل اللّه عز وجل يخلصك منهم . قلت : فمن أين عرفت اسمي ؟ قالت : نوديت : سنبعث لك من تسلمين على يديه ، وألهمت ذكرك .

    فهممت بالنهوض ، فقالت : إلى أين ؟ قلت : إلى مكة . قالت : ها هي مكة . فنظرت ، فإذا مكة . فسرت قليلا ، فإذا أنا بالبيت .
    ومن باب سماع العارفين قوله :قفا ودّعا نجدا ومن حل بالحمى * وقلّ لنجد عندنا أن تودّعا
    وليست عشيّات الحمى برواجع * إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا

    واذكر أيام الحمى ثم انثنى * على كبدي من خشية أن تصدّعاتفسيره : يقول لعقله ولنفسه : ودّعا الرفيق الأعلى ، والأرواح العلى التي محلها الحمى الإلهي ، على أنه لا يصح مفارقته بالكنه الرقائق التي بينهما وبينه . وليست عشّيت الحمى برواجع ، أي الأنوار التي تغشى حمتها إلا لطاف الخفيّة عنها ، فهي بحجابها في عالم الأكوان تذكر أيامها بالحمى الإلهي ، فتنعطف على كبدها ، إشارة إلى عنصر الحياة التي سرت مادته في جميع الموجودات ، وتصدعه وتفرقه .

    ولنا نظم في هذا الباب :وزاحمني عند استلامي أو أنس * أتين إلى التطواف معتجرات
    حسرن عن أمثال الشموس وقلن لي * تودّع فموت النفس في اللحظات
    فكم قد قتلنا بالمحصّب من منى * نفوسا أبيات لدى الجمرات
    وفي سرحة الوادي وأعلام رامة * وجمع وعند النفر من عرفات




    “ 248 “


    ألم تدر أن الحسن يسلب من له * عفاف فيدعى سالب الحسنات
    فموعدنا بعد الطواف بزمزم * لدى القبة الوسطى لدى الصخرات
    هنالك من قد شفه الوجد يشتفي * بما شاقه من نسوة عطرات
    إذا خفن أسدلن الشعور فهنّ من * غدائرها في الحف الظلمات

    ولنا من باب المفاريد في باب الفخر قولنا :
    في كل عصر واحد يسمو به * وأنا لباقي العصر ذاك الواحد
    خبر الفيل وأصحابه وما أظهر اللّه في ذلك من البيّنات على تعظيم الحرم
    روينا من حديث أبي الوليد ، وأبي هشام ، وابن إسحاق ، وبعضهم يزيد على بعض ، والسياق لابن إسحاق ، غير أني قد أدخل في أثناء حديثه الزيادات في أماكنها .

    ولما بنى أبرهة الكنيسة التي سماها القليس ، وكتب إلى النجاشي بأنه عزم على أن يصرف حاجّ العرب إليه ويتركوا مكة ، وما قال في هدم الكعبة شيئا ، غضب رجل من النّسأة ، أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، فجاء إلى الكنيسة المذكورة فقعد فيها .

    قال ابن هشام : يعني أحدث فيها . ثم خرج الكنانيّ فلحق بأرضه ، فبلغ أبرهة ذلك ، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة ، لما بلغه قولك : أصرف إليها حج العرب ، غضب فجاء فأحدث فيها ، أي أنها ليست لذلك بأهل . فغضب أبرهة ، وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه . ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج بالفيل معه ، وسمعت بذلك العرب ، فأعظموه ، ودعوا به ، ورأوا أن جهاده حق عليهم ، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت اللّه الحرام ، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت اللّه ، وما يريد من هدمه وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك .
    ثم عرض له فقاتله ، فهزم ذو نفر فأتى به أسيرا .
    فلما أراد أبرهة قتله قال ذو نفر : لا تقتلني ، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي ، فتركه من القتل ، وحبسه عنده في وثاق ، وكان أبرهة رجلا حليما ورعا ذا دين في النصرانية . ومضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج إليه ، حتى إذا كان بأرض خثعم ، خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي ، من أكمل بني ربيعة بن عفرس في قبيلتي خثعم شهران وناهس ، وهما ابنا عفرس بن خلف بن أقبل ، وهو خثعم ، ومن تابعه من قبائل

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/11/2024, 17:34