الرسالة (34)
"الفتح والمغيبات": لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل الحسني:-
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله العليم الفتاح، والصّلاة والسّلام على النبي الأمي فاتح باب العلم وعين اليقين، وعلى آله وأصحابه وأحبابه؛ الذي فتح عليهم من الحكمة والتجليات ـ فرضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فقال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، فقد جاءت الآية الشريفة بالمغيبات الخمسة المتحدى بـها؛ كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: ((مفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ؛ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ))، وقال ـ عليه الصلاة والسلام: ((أوتيتُ مفاتيح كل شيء إلا الخمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) ، قال ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه: أوتي نبيكم مفاتيح كل شيء غير الخمس ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)) .
"أي سادة": فما يُرى اليومَ من أمر معلومات الطب في الأرحام، والأنواء، والإعلام، يحتاج إلى إيضاح لذلك؛ فاعلم: أن الآية الشريفة جاءت بلغة القرآن وبِلُغَتِهِ العربية الموضحة لهذا الإبـهام، ومنها: براعةُ الاستهلالِ؛ فقد جاءت بخبر مقدم ـ والخبر يفيد العموم ، فعمومُ الغيبِ في هذه المغيبات عندَهُ وَحدَهُ ـ جَلَّ وعلا ـ والبعضُ منها وفي غيرها إذا شاء علّم، ولو أخذنا من المغيباتِ الخمسةِ واحدةٌ وهي: ((الأرحام))؛ كما قال تعالى: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)) فـ ((وَيَعْلَمُ)) فعل مضارع للحال والاستقبال، وهو: للعموم في البلاغة ـ فهو ـ جلَّ وعلا ـ يَعْلَمُ الإقرار، والتكوين، والحياة المتصلة لحظةً بلحظةٍ من نطفتها إلى ولادتـها؛ لقوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) و ((وَمَا)): بمعنى الذي وتفيد الاستغراق لجميع الأرحام وما أُقِرَ فيها؛ لقوله تعالى: ((وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) ، وقال ـ عزَّ وجلَّ: ((وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ))، وهي: كلُ الأرحامِ، وجميعُ الإقرار، وبكلِ التقديرِ ـ وكما في الكون من مخلوقاتٍ ـ من انسها وجنّـها وحيواناتـها وطيورها وأشجارها ونباتاتها ومن البكتريا والفيروس وجميع الحشرات وغيرها؛ ما يُعلم وما لا يُعلم، ما يُرى وما لا يُرى؛ كما قال ـ جلَّ شأنه: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ))، إذاً: من الذي يعلم هذا الإعجاز والتحدي بكلِ إقراره، وحياةِ أشهرهِ وأيامِهِ ولحظاتهِ لكل أنثى الوجود؟ إلا اللَّه ـ الخالق الجليل ـ جلَّ جلالهُ وعمَّ فضلُهُ ونوالُهُ؛ كما قال ـ جلَّ ثناؤه: ((اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ))، وهذا هو الغيبُ المتحدى بهِ، لا يَعلمه نبيٌ مرسل، ولا مَلَكٌ كريم، ولا قلبٌ مُلهَم، ولا قَلمٌ مُعلّم؛ وَقس على ذلك في الإحاطةِ بمُغيباتِ الرّحمن ـ جلَّ وعلا ـ ونرجو الله أن يعمنا بذات رحمته، آمين.
ـ وأمّا بشيءٍ من الأرحام ـ كرحم إنسيَةٍ من أنثى البشرِ أو غيره، فهو: للتبعيض الذي أذِنَ الله بهِ ـ عزَّ وجلَّ؛ كما قال تعالى: ((وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)) .
ـ وقوله تعالى: ((فِي الْأَرْحَامِ))، وهو: جَمعُ رحمٍ، والقاعدةُ في اللغة العربية: أن لام الجنس إذا دخل على المفرد أفاد العموم، وإذا دخل على الجمع أفاد النوع؛ كما قال الخالق الجليل ـ جَلَّت عظمته: ((هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))، وهذا إعجازٌ غيبيٌّ آخر؛ فالتحدي بالمغيبات التي لا يَعلَمُها إلا الله فهو: الإقرارُ، والعمومُ، والاستغراقُ، والنوعُ، لكل ما خلق الله في أرحام أنثى المخلوقات كلها، ومن لحظة تكوينها إلى ولادتها. فتنبه.
ـ وأمّا قوله تعالى: ((بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)) ، فقد أذِن الحق سبحانه، للنبوةِ بمشيئَتِهِ ورضوانه عن طريق وحي السماء أن يُعلّم النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحداً من الأرحام؛ لما روى البخاري قال: "حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ، وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم، بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم: ((لَعَلَّ اللَّه أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا))، قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ". فتأمل.
ـ أو عن "طريق القلب": وهو الإلهام والفتح من الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عن طريق الإذن والرضوان والرحمة التي لا تتوقف إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: ((وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ))، أي: وما هو على الغيب ببخيل؛ فالعبد لا يدري؛ لأن الغيب بيد الله وحده؛ وإذا ما عُلِّم عن ربّه ـ عزَّ وجلَّ، فهذا فتح منه ـ جلَّ وعلا؛ ومن أنكر الفتح فقد أوقف رحمة الله على للعالمين؛ ومن ذلك ما روى الإمام مالك عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: ((وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلا أَعَزَّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ)) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا أَبَتِ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنْ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَةً))، ولابن سعد في ((الطبقات))، قال ـ رضي الله تعالى عنه: ((ذات بطن ابنة خارجة، قد أُلقي في روعي أنها جارية فاستوصي بها خيرا))، فولدت أم كلثوم ـ رضي الله تعالى عنها .
ـ وإما عن طريق القلم وهو: من علوم مشايخنا؛ علماء الشريعة الغرّاء ـ عليهم سحائب الرحمات ـ علومُ الجادَةِ الشرعيةِ، ومنها: علمُ الجبرِ أو الرياضيات؛ مثال ذلك: 2 × 2 = 4 فتؤخذ عيّنات من بعض المخلوقات وتضرب، وتخرج النتيجة هل يوجد طفل في الرحم أم لا، أو عن طريق مشاهدة الأجهزة كـ ((السونار وغيره))، وهذا الأمر أصبحَ معلوماً كالشمس في ضحاها؛ ومنها: ما يُنبأُ بمشيئة اللَّه عن الأنواء الجوية ـ كالمطر وغيره؛ لما اخرج البيهقي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: أصابتنا سحابة، فخرج علينا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ((إن ملكاً موكلاً بالسحاب دخل عليَّ آنفاً فسلم عليَّ واخبرني أنه يسوق السحاب إلى وادٍ باليمن يقال له ضريح)) فجاءنا راكباً بعد ذلك، فسألناه عن السحابة فاخبر أنهم مطروا في ذلك اليوم، وفي ((دلائل النبوة)) عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري بينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، في مسجده ومعه رجال من أهل الريب، وهم المنافقون إذ نشأت سحابة، قال: فأبدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عينيه، ثم جعل كأنه يتبع بصره شيئاً، حتى نظر نحو بعض حجره، قال: فقام فلبث ما شاء الله ثم رجع فجلس، فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تصنع شيئاً ما رأيناك تصنعه! قال: ((إني بينا أنا معكم إذ نظرت إلى مَلَك تدلى من هذه السحابة، فأتبعته بصري أنظر أين يعمد، فإذا هو قد وقع في بعض حجري، فقمت إليه فسلم عليَّ))، ثم قال: إني لم أزل استأذن ربي في لقيك حتى كان هذا أوان أذن لي في ذلك، وإني أبشرك يا محمد، أنه ليس آدمي أكرم على ربه منك، قلت: ((ومن أنت؟)) قال: أنا ملك السحاب الذي وكل به، قلت: فهل أمطرتم شيئا من البلدان؟ قال: نعم أمطرنا بلد كذا وكذا، وبلد كذا وكذا، وبلد كذا وكذا، وبلد كذا وكذا، قلت: ((فهل أمرتم لنا بشيء؟)) قال: أما في شهركم هذا فلا، ولكنا قد أُمرنا أن نمطركم في شهركم الداخل ليلة كذا وكذا في كذا وكذا من الشهر، قال: ثم قام رسول ـ صلى الله عليه وسلم، وتفرقنا، فقال أولئك النفر من المنافقين: قد فصل محمد بينكم وبين نفسه، انظروا ما قال لكم؛ فإن يك حقاً، فالرجل نبي مرسل، وإلا يكن حقاً؛ فأنتم على ما أنتم عليه، لم يزدكم في أمركم ذلك إلا شدو، ثم خرجوا يتلقون الركبان، فلا يسألون عن بلد من البلدان التي ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أخبروا عنه بمطر، قال فقالوا: سأل الركبان كما سألنا فأخبر، ولكن انظروا الليلة التي وعدكم فيها ما وعدكم فلما كانت الليلة التي وعدهم فيها ما وعدهم، أمطروا؛ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: إنا كنا أهل ريب؛ فهلم نبايعك بيعة جديدة، فبايعهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحسن إسلامهم وبورك لهم في ذلك المجلس، وفي رواية الإمام مسلم وغيره: عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ))، والجمع بين الأدلةِ: إن تعارض الأدلة من أهم الأحكام الشرعية في ((أصول الفقه الإسلامي)) فهذا الأمرُ وتَعليمهُ بمشيئة الله وقدرته ـ جلَّ وعلا ـ سواء بواسطة أو بدون واسطة؛ فهو علمٌ عطائيٌ مكتسبٌ بمشيئة الله وفضله ورحمته لبعض عباده كالوحي، والقلب، والقلم ـ وبما نحن بصدده عن القلم؛ قال تعالى: ((عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))، وقال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))، وقال ـ عليه الصلاة والسلام: ((إن اللهَ يصنعُ كلّ صانِعٍ وصَنعتَهُ))، ((عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))، فلام الجنس في الإنسان للعموم؛ والمعنى: علَّم المسلم والكافر والصالح والمنافق بالقلم ما لم يعلموا، وقد انتهت الآية الشريفة بفعل مضارع، وهو: للعموم في البلاغة ـ من حالٍ واستقبالٍ ـ أي: قد عَلَّمهم الحق ـ جلَّ وعلا ـ بالقلم ما لم يعلموا، وهو غيب، لِيُثبت بما تحقق من علوم الطبيعة والكون، في كل زمان، لما في القرآن المجيد من إعجاز وتحدي، وليُعرِّف البشرية أن هذا الدين الإسلامي الحنيف هو الصالح والمصلح للأزمان كلِّها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وقد أخبر ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لكثير من أحوال العصر ومخترعاته، وماذا سيكون إلى يوم القيامة؛ بأحاديث كثيرة جداً. فتأمل جداً.
اللّهم افتح لنا من لدنك ما يرضيك عنا، ولا تشغلنا بشاغل عنك، سواء كان حكمة أو فتحاً، اللَّهم؛ أنت مقصودنا، وأنت حبيبنا، ورضاك مطلوبنا، فحقق اللّهم لنا، آمين. اللَّهم؛ يا محول الحول والأحوال، حولنا وبلدنا وبلاد المسلمين، من حال إلى أحسن الأحوال، اللَّهم؛ انصر من نصر الدين، واخذل من خذلنا وخذل المسلمين، واعلِ بفضلك ونصرك راية الحق، والدين المبين، آمينَ آمين. والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد
"الفتح والمغيبات": لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل الحسني:-
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله العليم الفتاح، والصّلاة والسّلام على النبي الأمي فاتح باب العلم وعين اليقين، وعلى آله وأصحابه وأحبابه؛ الذي فتح عليهم من الحكمة والتجليات ـ فرضوان الله تعالى عليهم أجمعين إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فقال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، فقد جاءت الآية الشريفة بالمغيبات الخمسة المتحدى بـها؛ كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: ((مفْتَاحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ؛ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي غَدٍ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْحَامِ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَمَا يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَجِيءُ الْمَطَرُ))، وقال ـ عليه الصلاة والسلام: ((أوتيتُ مفاتيح كل شيء إلا الخمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) ، قال ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه: أوتي نبيكم مفاتيح كل شيء غير الخمس ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)) .
"أي سادة": فما يُرى اليومَ من أمر معلومات الطب في الأرحام، والأنواء، والإعلام، يحتاج إلى إيضاح لذلك؛ فاعلم: أن الآية الشريفة جاءت بلغة القرآن وبِلُغَتِهِ العربية الموضحة لهذا الإبـهام، ومنها: براعةُ الاستهلالِ؛ فقد جاءت بخبر مقدم ـ والخبر يفيد العموم ، فعمومُ الغيبِ في هذه المغيبات عندَهُ وَحدَهُ ـ جَلَّ وعلا ـ والبعضُ منها وفي غيرها إذا شاء علّم، ولو أخذنا من المغيباتِ الخمسةِ واحدةٌ وهي: ((الأرحام))؛ كما قال تعالى: ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)) فـ ((وَيَعْلَمُ)) فعل مضارع للحال والاستقبال، وهو: للعموم في البلاغة ـ فهو ـ جلَّ وعلا ـ يَعْلَمُ الإقرار، والتكوين، والحياة المتصلة لحظةً بلحظةٍ من نطفتها إلى ولادتـها؛ لقوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) و ((وَمَا)): بمعنى الذي وتفيد الاستغراق لجميع الأرحام وما أُقِرَ فيها؛ لقوله تعالى: ((وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) ، وقال ـ عزَّ وجلَّ: ((وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ ))، وهي: كلُ الأرحامِ، وجميعُ الإقرار، وبكلِ التقديرِ ـ وكما في الكون من مخلوقاتٍ ـ من انسها وجنّـها وحيواناتـها وطيورها وأشجارها ونباتاتها ومن البكتريا والفيروس وجميع الحشرات وغيرها؛ ما يُعلم وما لا يُعلم، ما يُرى وما لا يُرى؛ كما قال ـ جلَّ شأنه: ((سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ))، إذاً: من الذي يعلم هذا الإعجاز والتحدي بكلِ إقراره، وحياةِ أشهرهِ وأيامِهِ ولحظاتهِ لكل أنثى الوجود؟ إلا اللَّه ـ الخالق الجليل ـ جلَّ جلالهُ وعمَّ فضلُهُ ونوالُهُ؛ كما قال ـ جلَّ ثناؤه: ((اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ))، وهذا هو الغيبُ المتحدى بهِ، لا يَعلمه نبيٌ مرسل، ولا مَلَكٌ كريم، ولا قلبٌ مُلهَم، ولا قَلمٌ مُعلّم؛ وَقس على ذلك في الإحاطةِ بمُغيباتِ الرّحمن ـ جلَّ وعلا ـ ونرجو الله أن يعمنا بذات رحمته، آمين.
ـ وأمّا بشيءٍ من الأرحام ـ كرحم إنسيَةٍ من أنثى البشرِ أو غيره، فهو: للتبعيض الذي أذِنَ الله بهِ ـ عزَّ وجلَّ؛ كما قال تعالى: ((وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)) .
ـ وقوله تعالى: ((فِي الْأَرْحَامِ))، وهو: جَمعُ رحمٍ، والقاعدةُ في اللغة العربية: أن لام الجنس إذا دخل على المفرد أفاد العموم، وإذا دخل على الجمع أفاد النوع؛ كما قال الخالق الجليل ـ جَلَّت عظمته: ((هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))، وهذا إعجازٌ غيبيٌّ آخر؛ فالتحدي بالمغيبات التي لا يَعلَمُها إلا الله فهو: الإقرارُ، والعمومُ، والاستغراقُ، والنوعُ، لكل ما خلق الله في أرحام أنثى المخلوقات كلها، ومن لحظة تكوينها إلى ولادتها. فتنبه.
ـ وأمّا قوله تعالى: ((بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)) ، فقد أذِن الحق سبحانه، للنبوةِ بمشيئَتِهِ ورضوانه عن طريق وحي السماء أن يُعلّم النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ واحداً من الأرحام؛ لما روى البخاري قال: "حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا، وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ، وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم، بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ـ صلى الله عليه وسلم: ((لَعَلَّ اللَّه أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا))، قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ". فتأمل.
ـ أو عن "طريق القلب": وهو الإلهام والفتح من الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عن طريق الإذن والرضوان والرحمة التي لا تتوقف إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: ((وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ))، أي: وما هو على الغيب ببخيل؛ فالعبد لا يدري؛ لأن الغيب بيد الله وحده؛ وإذا ما عُلِّم عن ربّه ـ عزَّ وجلَّ، فهذا فتح منه ـ جلَّ وعلا؛ ومن أنكر الفتح فقد أوقف رحمة الله على للعالمين؛ ومن ذلك ما روى الإمام مالك عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: ((وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلا أَعَزَّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ)) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا أَبَتِ وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنْ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَةً))، ولابن سعد في ((الطبقات))، قال ـ رضي الله تعالى عنه: ((ذات بطن ابنة خارجة، قد أُلقي في روعي أنها جارية فاستوصي بها خيرا))، فولدت أم كلثوم ـ رضي الله تعالى عنها .
ـ وإما عن طريق القلم وهو: من علوم مشايخنا؛ علماء الشريعة الغرّاء ـ عليهم سحائب الرحمات ـ علومُ الجادَةِ الشرعيةِ، ومنها: علمُ الجبرِ أو الرياضيات؛ مثال ذلك: 2 × 2 = 4 فتؤخذ عيّنات من بعض المخلوقات وتضرب، وتخرج النتيجة هل يوجد طفل في الرحم أم لا، أو عن طريق مشاهدة الأجهزة كـ ((السونار وغيره))، وهذا الأمر أصبحَ معلوماً كالشمس في ضحاها؛ ومنها: ما يُنبأُ بمشيئة اللَّه عن الأنواء الجوية ـ كالمطر وغيره؛ لما اخرج البيهقي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: أصابتنا سحابة، فخرج علينا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ((إن ملكاً موكلاً بالسحاب دخل عليَّ آنفاً فسلم عليَّ واخبرني أنه يسوق السحاب إلى وادٍ باليمن يقال له ضريح)) فجاءنا راكباً بعد ذلك، فسألناه عن السحابة فاخبر أنهم مطروا في ذلك اليوم، وفي ((دلائل النبوة)) عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري بينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، في مسجده ومعه رجال من أهل الريب، وهم المنافقون إذ نشأت سحابة، قال: فأبدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عينيه، ثم جعل كأنه يتبع بصره شيئاً، حتى نظر نحو بعض حجره، قال: فقام فلبث ما شاء الله ثم رجع فجلس، فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تصنع شيئاً ما رأيناك تصنعه! قال: ((إني بينا أنا معكم إذ نظرت إلى مَلَك تدلى من هذه السحابة، فأتبعته بصري أنظر أين يعمد، فإذا هو قد وقع في بعض حجري، فقمت إليه فسلم عليَّ))، ثم قال: إني لم أزل استأذن ربي في لقيك حتى كان هذا أوان أذن لي في ذلك، وإني أبشرك يا محمد، أنه ليس آدمي أكرم على ربه منك، قلت: ((ومن أنت؟)) قال: أنا ملك السحاب الذي وكل به، قلت: فهل أمطرتم شيئا من البلدان؟ قال: نعم أمطرنا بلد كذا وكذا، وبلد كذا وكذا، وبلد كذا وكذا، وبلد كذا وكذا، قلت: ((فهل أمرتم لنا بشيء؟)) قال: أما في شهركم هذا فلا، ولكنا قد أُمرنا أن نمطركم في شهركم الداخل ليلة كذا وكذا في كذا وكذا من الشهر، قال: ثم قام رسول ـ صلى الله عليه وسلم، وتفرقنا، فقال أولئك النفر من المنافقين: قد فصل محمد بينكم وبين نفسه، انظروا ما قال لكم؛ فإن يك حقاً، فالرجل نبي مرسل، وإلا يكن حقاً؛ فأنتم على ما أنتم عليه، لم يزدكم في أمركم ذلك إلا شدو، ثم خرجوا يتلقون الركبان، فلا يسألون عن بلد من البلدان التي ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أخبروا عنه بمطر، قال فقالوا: سأل الركبان كما سألنا فأخبر، ولكن انظروا الليلة التي وعدكم فيها ما وعدكم فلما كانت الليلة التي وعدهم فيها ما وعدهم، أمطروا؛ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: إنا كنا أهل ريب؛ فهلم نبايعك بيعة جديدة، فبايعهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحسن إسلامهم وبورك لهم في ذلك المجلس، وفي رواية الإمام مسلم وغيره: عن زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ؛ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا؛ فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ))، والجمع بين الأدلةِ: إن تعارض الأدلة من أهم الأحكام الشرعية في ((أصول الفقه الإسلامي)) فهذا الأمرُ وتَعليمهُ بمشيئة الله وقدرته ـ جلَّ وعلا ـ سواء بواسطة أو بدون واسطة؛ فهو علمٌ عطائيٌ مكتسبٌ بمشيئة الله وفضله ورحمته لبعض عباده كالوحي، والقلب، والقلم ـ وبما نحن بصدده عن القلم؛ قال تعالى: ((عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))، وقال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))، وقال ـ عليه الصلاة والسلام: ((إن اللهَ يصنعُ كلّ صانِعٍ وصَنعتَهُ))، ((عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))، فلام الجنس في الإنسان للعموم؛ والمعنى: علَّم المسلم والكافر والصالح والمنافق بالقلم ما لم يعلموا، وقد انتهت الآية الشريفة بفعل مضارع، وهو: للعموم في البلاغة ـ من حالٍ واستقبالٍ ـ أي: قد عَلَّمهم الحق ـ جلَّ وعلا ـ بالقلم ما لم يعلموا، وهو غيب، لِيُثبت بما تحقق من علوم الطبيعة والكون، في كل زمان، لما في القرآن المجيد من إعجاز وتحدي، وليُعرِّف البشرية أن هذا الدين الإسلامي الحنيف هو الصالح والمصلح للأزمان كلِّها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وقد أخبر ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لكثير من أحوال العصر ومخترعاته، وماذا سيكون إلى يوم القيامة؛ بأحاديث كثيرة جداً. فتأمل جداً.
اللّهم افتح لنا من لدنك ما يرضيك عنا، ولا تشغلنا بشاغل عنك، سواء كان حكمة أو فتحاً، اللَّهم؛ أنت مقصودنا، وأنت حبيبنا، ورضاك مطلوبنا، فحقق اللّهم لنا، آمين. اللَّهم؛ يا محول الحول والأحوال، حولنا وبلدنا وبلاد المسلمين، من حال إلى أحسن الأحوال، اللَّهم؛ انصر من نصر الدين، واخذل من خذلنا وخذل المسلمين، واعلِ بفضلك ونصرك راية الحق، والدين المبين، آمينَ آمين. والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin