مع الحبيب المصطفى:كيفية التعامل مع اللحظات الحرجة
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
255ـ كيفية التعامل مع اللحظات الحرجة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَصْبَحْنَا في زَمَنٍ تَكَالَبَ فِيهِ النَّاسُ عَلَيْنَا، وَعَظُمَتِ المَصَائِبُ، وَاشْتَدَّتِ المِحَنُ على المُسْلِمِينَ، الجِرَاحُ تَنْزِفُ في كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا البَلَدِ، تَحَشْرَجَتِ النُّفُوسُ، وَضَاقَتِ الصُّدُورُ، حَتَّى أَصَابَ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ اليَأْسُ وَالقُنُوطُ؛ زَفَرَاتٌ، وَآهَاتٌ، وَحَوْقَلَةٌ، وَاسْتِرْجَاعٌ، وَكَأَنَّ الأَسْبَابَ تَقَطَّعَتْ، وَالآمَالَ تَنَاثَرَتْ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَفَاءَلَ، وَأَنْ نَمْلَأَ النُّفُوسَ بِالثِّقَةِ وَاليَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ تعالى الذي لَا يُخْلَفُ، وَلْتَشْعُرِ القُلُوبُ بِالعِزَّةِ وَالتَّمْكِينِ، وَلْيَشْرَقْ بِهَا أَعْدَاءُ هَذَا الدِّينِ، وَلْيَغُصَّ بِهَا المُنَافِقُونَ وَالمُبْطِلُونَ.
احْذَرُوا اليَأْسَ بِمَعْرِفَةِ الغَايَةِ مِنْ وُجُودِكُمْ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِمَاذَا وَقَعَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ في اليَأْسِ في هَذِهِ الأَزْمَةِ؟
الجَوَابُ على ذَلِكَ: لِأَنَّ الكَثِيرَ مِنْهُمْ مَا عَرَفَ الغَايَةَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنْ عَرَفَهَا قَوْلَاً مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. إلا أَنَّهُ تَغَافَلَ عَنِ الغَايَةِ الحَقِيقِيَّةِ مِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ.
الكَثِيرُ مِنْهُمْ ظَنَّ بِأَنَّ العِبَادَةَ مَقْصُورَةٌ على الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالحَجِّ، ثمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَاشَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ مُتَّبِعَاً لِشَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِهِ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ عَبْدَاً للدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَبَعْضُهُمْ عَبْدَاً للجَاهِ وَالسُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَبْدَاً للنِّسَاءِ، فَتَرَى سُلُوكَ هَؤُلَاءِ بَعِيدَاً كُلَّ البُعْدِ عَنِ العِبَادَةِ للهِ تعالى، صَلَاةٌ بِدُونِ ثَمَرَةٍ، صِيَامٌ بِدُونِ ثَمَرَةٍ، حَجٌّ وَعُمْرَةٌ بِدُونِ ثَمَرَةٍ.
هَؤُلَاءِ مَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِهَذَا السَّبَبِ وَلِغَيْرِهِ وَقَعَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ في اليَأْسِ، وَلَو عَرَفُوا الغَايَةَ الحَقِيقِيَّةَ مِنْ خَلْقِهِمْ مَا يَئِسُوا.
نَعَمْ، مَا خُلِقْنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ، مَا خُلِقْنَا مِنْ أَجْلِ المَلَذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، اسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾. مَنْ غَفَلَ عَنِ الغَايَةِ الحَقِيقِيَّةِ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ أَضَلُّ مِنَ الأَنْعَامِ، وَبِئْسَتِ الحَيَاةُ حَيَاتُهُ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ إلى رُشْدِنَا وَعَقْلِنَا، وَأَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّا للهِ تعالى، وَأَنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ يَوْمِ القِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَلْنَضْبِطْ أَنْفُسَنَا وَجَوَارِحَنَا الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَنْ ضَبَطَ نَفْسَهُ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَنْ يَعْرِفَ اليَأْسَ وَلَا القُنُوطَ، لِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ شُكْرٍ على العَطَاءِ، وَصَبْرٍ على المَنْعِ، وَالشَّاكِرُ مُتَفَائِلٌ، كَمَا أَنَّ الصَّابِرَ مُتَفَائِلٌ.
سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الخَنْدَقِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تَعَالَوْا لِنَتَعَلَّمْ دُرُوسَاً مِنْ رِجَالٍ عَرَفُوا الغَايَةَ الحَقِيقِيَّةَ مِنْ حَيَاتِهِمْ، حَيْثُ مَرَّتْ بِهِمْ لَحَظَاتٌ رَهِيبَةٌ وَحَرِجَةٌ، ثمَّ لِنَنْظُرْ كَيْفَ تَعَامَلُوا مَعَهَا؟
في يَوْمِ الخَنْدَقِ لَحَظَاتٌ حَرِجَةٌ، عَاشَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، حَيْثُ الرُّعْبُ الذي رَوَّعَ أَهْلَ المَدِينَةِ وَأَفْزَعَهُمْ لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا:
أولاً: تَجَمُّعُ الأَحْزَابِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، قُرَيْشٌ، وَغَطَفَانُ، وَبَنُو أَسَدٍ، وَبَنُو سُلَيْمٍ، وَبَنُو مُرَّةَ، وَقَبِيلَةُ أَشْجَعَ وَفَزَازَةٍ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَنُو النَّضِيْرِ، حَيْثُ بَلَغَ عَدَدُهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، ضَرَبُوا حِصَارَاً مُحْكَمَاً على أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهَذَا الجَيْشُ رُبَّمَا يَزِيدُ عَدَدُهُ على جَمِيعِ مَنْ في المَدِينَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَالصِّبيَانِ وَالشُّيُوخِ.
ثانياً: غَدْرُ اليَهُودِ، وَخِيَانَتُهُمْ، وَنَقْضُهُمْ للعَهْدِ في المَدِينَةِ؛ وَهَذَا وَصْفُهُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.
ثالثاً: مَكَائِدُ المُنَافِقِينَ، وَتَسَلُّلُهُمْ لِوَاذَاً مُتَعَلِّلينَ بِالأَكَاذِيبِ، وَتَثْبِيطُهُمْ للنُّفُوسِ، وَبَثُّهُمُ اليَأْسَ في القُلُوبِ، حَتَّى قَالَ مُنَافِقٌ مِنْهُمْ في هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَعِدُنَا أَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَأَنْ نَغْنَمَ كُنُوزَ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَنَحْنُ هَا هُنَا لَا يَأْمَنُ أَحَدُنَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ، وَاللهِ لَمَا يَعِدُنَا إِلَّا غُرُورَاً.
وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ مَعَهُ: ائْذَنْ لَنَا فَإِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مَقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا. رواه البيهقي.
رابعاً: الجُوعُ المُقْعِدُ، وَفُقْدَانُ الزَّادِ، حَتَّى رَبَطَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على بَطْنِهِ حَجَرَاً مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَعَلَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا *** عَلَى الإِسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قَالَ: يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُجِيبُهُمْ:
«اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ *** فَبَارِكْ فِي الأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»
قَالَ: يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنَ الشَّعِيرِ، فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ (هِيَ الشَّحْمُ وَالزَّيْتُ وَكُلُّ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ) سَنِخَةٍ (مُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ فَاسِدَةُ الطَّعْمِ) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ القَوْمِ، وَالقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الحَلْقِ (كَرِيهَةُ الطَّعْمِ) وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ (كَرِيهٌ وَخَبِيثٌ).
خامساً: حَفْرُ الخَنْدَقِ، وَالأَحْوَالُ الجَوِّيَّةُ، بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَنَقْلُ التُّرَابِ على الأَكْتَافِ وَالظُّهُورِ.
سادساً: الخَوْفُ على النِّسَاءِ وَالعَجَزَةِ وَالأَطْفَالِ.
سابعاً: قِلَّةُ المُسْلِمِينَ، وَقِلَّةُ السِّلَاحِ وَالعَتَادِ أَمَامَ تَجَمُّعِ الأَحْزَابِ وَقُوَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَتَادِهِمْ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَصَفَ اللهُ تعالى تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالَاً شَدِيدَاً * وَإِذْ يَقُولُ الْـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورَاً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارَاً﴾.
إِنَّهَا صُورَةُ الهَوْلِ الذي رَوَّعَ المَدِينَةَ، وَالكَرْبِ الذي شَمَلَهَا، وَالذي لَمْ يَنْجُ مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: شَهِدْتُ مَعَهُ ـ أَي: مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ مَشَاهِدَ فِيهَا قِتَالٌ وَخَوْفٌ، الْـمُرَيْسِيعَ، وَخَيْبَر، وَكُنَّا بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي الْفَتْحِ، وُحَنَيْنٍ، لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ شَيْءٌ أَتْعَبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَخْوَفُ عِنْدَنَا مِنْ الْخَنْدَقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْـمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ، وَأَنَّ قُرَيْظَةَ لَا نَأْمَنُهَا عَلَى الذَّرَارِيِّ، وَالْـمَدِينَةُ تُحْرَسُ حَتَّى الصَّبَاحِ، يُسْمَعُ تَكْبِيرُ الْـمُسْلِمِينَ فِيهَا حَتَّى يُصْبِحُوا خَوْفَاً، حَتَّى رَدَّهُمْ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرَاً وَكَفَى اللهُ الْـمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. كَذَا في مغازي الواقدي.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: كَيْفَ تَعَامَلَ المُسْلِمُونَ مَعَ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ، وَمَعَ هَذَا المَوْقِفِ؟ مَاذَا فَعَلُوا في هَذِهِ السَّاعَاتِ العَصِيَةِ؟
إِنَّهُمْ لَمْ يَتَرَدَّدُوا لَحْظَةً وَاحِدَةً في الوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَشُكُّوا بِوَعْدِ اللهِ تعالى، بَلْ كَانُوا مُرْتَبِطِينَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى التي تَشُدُّهُمْ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمْنَعُهُمْ مِنَ السُّقُوطِ، وَتُجَدِّدُ فِيهِمُ الأَمَلَ، وَتَحْرُسُهُمْ مِنَ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ، وَلْنَسْمَعْ إلى وَصْفِهِمْ في القُرْآنِ العَظِيمِ: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْـمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانَاً وَتَسْلِيمَاً﴾. الفِتْنَةُ وَالشِّدَّةُ لَيْسَ فِيهَا تَرَاجُعٌ، بَلْ إِيمَانٌ رَاسِخٌ في مُوَاجَهَةِ الفِتَنِ وَالمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ.
في هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ». كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ.
قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْـمَعَاوِلُ، فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ» فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».
ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْـمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».
ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».
يَا رَبُّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُنْيَا وفي الآخِرَةِ، وَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ عَاجِلَاً غَيْرَ آجِلٍ، وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
255ـ كيفية التعامل مع اللحظات الحرجة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أَصْبَحْنَا في زَمَنٍ تَكَالَبَ فِيهِ النَّاسُ عَلَيْنَا، وَعَظُمَتِ المَصَائِبُ، وَاشْتَدَّتِ المِحَنُ على المُسْلِمِينَ، الجِرَاحُ تَنْزِفُ في كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ هَذَا البَلَدِ، تَحَشْرَجَتِ النُّفُوسُ، وَضَاقَتِ الصُّدُورُ، حَتَّى أَصَابَ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ اليَأْسُ وَالقُنُوطُ؛ زَفَرَاتٌ، وَآهَاتٌ، وَحَوْقَلَةٌ، وَاسْتِرْجَاعٌ، وَكَأَنَّ الأَسْبَابَ تَقَطَّعَتْ، وَالآمَالَ تَنَاثَرَتْ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَفَاءَلَ، وَأَنْ نَمْلَأَ النُّفُوسَ بِالثِّقَةِ وَاليَقِينِ بِوَعْدِ اللهِ تعالى الذي لَا يُخْلَفُ، وَلْتَشْعُرِ القُلُوبُ بِالعِزَّةِ وَالتَّمْكِينِ، وَلْيَشْرَقْ بِهَا أَعْدَاءُ هَذَا الدِّينِ، وَلْيَغُصَّ بِهَا المُنَافِقُونَ وَالمُبْطِلُونَ.
احْذَرُوا اليَأْسَ بِمَعْرِفَةِ الغَايَةِ مِنْ وُجُودِكُمْ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِمَاذَا وَقَعَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ في اليَأْسِ في هَذِهِ الأَزْمَةِ؟
الجَوَابُ على ذَلِكَ: لِأَنَّ الكَثِيرَ مِنْهُمْ مَا عَرَفَ الغَايَةَ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنْ عَرَفَهَا قَوْلَاً مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. إلا أَنَّهُ تَغَافَلَ عَنِ الغَايَةِ الحَقِيقِيَّةِ مِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ.
الكَثِيرُ مِنْهُمْ ظَنَّ بِأَنَّ العِبَادَةَ مَقْصُورَةٌ على الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالحَجِّ، ثمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَاشَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ مُتَّبِعَاً لِشَهَوَاتِهِ وَأَهْوَائِهِ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ عَبْدَاً للدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَبَعْضُهُمْ عَبْدَاً للجَاهِ وَالسُّلْطَانِ وَالسِّيَادَةِ وَالرِّيَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ عَبْدَاً للنِّسَاءِ، فَتَرَى سُلُوكَ هَؤُلَاءِ بَعِيدَاً كُلَّ البُعْدِ عَنِ العِبَادَةِ للهِ تعالى، صَلَاةٌ بِدُونِ ثَمَرَةٍ، صِيَامٌ بِدُونِ ثَمَرَةٍ، حَجٌّ وَعُمْرَةٌ بِدُونِ ثَمَرَةٍ.
هَؤُلَاءِ مَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.
وَمَا عَرَفُوا على الحَقِيقَةِ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِهَذَا السَّبَبِ وَلِغَيْرِهِ وَقَعَ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ في اليَأْسِ، وَلَو عَرَفُوا الغَايَةَ الحَقِيقِيَّةَ مِنْ خَلْقِهِمْ مَا يَئِسُوا.
نَعَمْ، مَا خُلِقْنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ، مَا خُلِقْنَا مِنْ أَجْلِ المَلَذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، اسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾. مَنْ غَفَلَ عَنِ الغَايَةِ الحَقِيقِيَّةِ مِنْ وُجُودِهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ أَضَلُّ مِنَ الأَنْعَامِ، وَبِئْسَتِ الحَيَاةُ حَيَاتُهُ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ إلى رُشْدِنَا وَعَقْلِنَا، وَأَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّا للهِ تعالى، وَأَنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْؤُولٌ يَوْمِ القِيَامَةِ عَنْ جَمِيعِ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَلْنَضْبِطْ أَنْفُسَنَا وَجَوَارِحَنَا الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَنْ ضَبَطَ نَفْسَهُ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَنْ يَعْرِفَ اليَأْسَ وَلَا القُنُوطَ، لِأَنَّهُ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ شُكْرٍ على العَطَاءِ، وَصَبْرٍ على المَنْعِ، وَالشَّاكِرُ مُتَفَائِلٌ، كَمَا أَنَّ الصَّابِرَ مُتَفَائِلٌ.
سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الخَنْدَقِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تَعَالَوْا لِنَتَعَلَّمْ دُرُوسَاً مِنْ رِجَالٍ عَرَفُوا الغَايَةَ الحَقِيقِيَّةَ مِنْ حَيَاتِهِمْ، حَيْثُ مَرَّتْ بِهِمْ لَحَظَاتٌ رَهِيبَةٌ وَحَرِجَةٌ، ثمَّ لِنَنْظُرْ كَيْفَ تَعَامَلُوا مَعَهَا؟
في يَوْمِ الخَنْدَقِ لَحَظَاتٌ حَرِجَةٌ، عَاشَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ الكِرَامُ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ، حَيْثُ الرُّعْبُ الذي رَوَّعَ أَهْلَ المَدِينَةِ وَأَفْزَعَهُمْ لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْهَا:
أولاً: تَجَمُّعُ الأَحْزَابِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، قُرَيْشٌ، وَغَطَفَانُ، وَبَنُو أَسَدٍ، وَبَنُو سُلَيْمٍ، وَبَنُو مُرَّةَ، وَقَبِيلَةُ أَشْجَعَ وَفَزَازَةٍ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَنُو النَّضِيْرِ، حَيْثُ بَلَغَ عَدَدُهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، ضَرَبُوا حِصَارَاً مُحْكَمَاً على أَهْلِ المَدِينَةِ، وَهَذَا الجَيْشُ رُبَّمَا يَزِيدُ عَدَدُهُ على جَمِيعِ مَنْ في المَدِينَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَالصِّبيَانِ وَالشُّيُوخِ.
ثانياً: غَدْرُ اليَهُودِ، وَخِيَانَتُهُمْ، وَنَقْضُهُمْ للعَهْدِ في المَدِينَةِ؛ وَهَذَا وَصْفُهُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.
ثالثاً: مَكَائِدُ المُنَافِقِينَ، وَتَسَلُّلُهُمْ لِوَاذَاً مُتَعَلِّلينَ بِالأَكَاذِيبِ، وَتَثْبِيطُهُمْ للنُّفُوسِ، وَبَثُّهُمُ اليَأْسَ في القُلُوبِ، حَتَّى قَالَ مُنَافِقٌ مِنْهُمْ في هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ يَعِدُنَا أَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَأَنْ نَغْنَمَ كُنُوزَ فَارِسَ وَالرُّومِ، وَنَحْنُ هَا هُنَا لَا يَأْمَنُ أَحَدُنَا أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ، وَاللهِ لَمَا يَعِدُنَا إِلَّا غُرُورَاً.
وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ مَعَهُ: ائْذَنْ لَنَا فَإِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مَقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا. رواه البيهقي.
رابعاً: الجُوعُ المُقْعِدُ، وَفُقْدَانُ الزَّادِ، حَتَّى رَبَطَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على بَطْنِهِ حَجَرَاً مِنْ شِدَّةِ الجُوعِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَعَلَ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، وَيَنْقُلُونَ التُّرَابَ عَلَى مُتُونِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا *** عَلَى الإِسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
قَالَ: يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُجِيبُهُمْ:
«اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ *** فَبَارِكْ فِي الأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ»
قَالَ: يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنَ الشَّعِيرِ، فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ (هِيَ الشَّحْمُ وَالزَّيْتُ وَكُلُّ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ) سَنِخَةٍ (مُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ فَاسِدَةُ الطَّعْمِ) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ القَوْمِ، وَالقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الحَلْقِ (كَرِيهَةُ الطَّعْمِ) وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ (كَرِيهٌ وَخَبِيثٌ).
خامساً: حَفْرُ الخَنْدَقِ، وَالأَحْوَالُ الجَوِّيَّةُ، بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَنَقْلُ التُّرَابِ على الأَكْتَافِ وَالظُّهُورِ.
سادساً: الخَوْفُ على النِّسَاءِ وَالعَجَزَةِ وَالأَطْفَالِ.
سابعاً: قِلَّةُ المُسْلِمِينَ، وَقِلَّةُ السِّلَاحِ وَالعَتَادِ أَمَامَ تَجَمُّعِ الأَحْزَابِ وَقُوَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَتَادِهِمْ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَصَفَ اللهُ تعالى تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْـمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالَاً شَدِيدَاً * وَإِذْ يَقُولُ الْـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورَاً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارَاً﴾.
إِنَّهَا صُورَةُ الهَوْلِ الذي رَوَّعَ المَدِينَةَ، وَالكَرْبِ الذي شَمَلَهَا، وَالذي لَمْ يَنْجُ مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا، تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: شَهِدْتُ مَعَهُ ـ أَي: مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ مَشَاهِدَ فِيهَا قِتَالٌ وَخَوْفٌ، الْـمُرَيْسِيعَ، وَخَيْبَر، وَكُنَّا بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي الْفَتْحِ، وُحَنَيْنٍ، لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ شَيْءٌ أَتْعَبُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَخْوَفُ عِنْدَنَا مِنْ الْخَنْدَقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْـمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ، وَأَنَّ قُرَيْظَةَ لَا نَأْمَنُهَا عَلَى الذَّرَارِيِّ، وَالْـمَدِينَةُ تُحْرَسُ حَتَّى الصَّبَاحِ، يُسْمَعُ تَكْبِيرُ الْـمُسْلِمِينَ فِيهَا حَتَّى يُصْبِحُوا خَوْفَاً، حَتَّى رَدَّهُمْ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرَاً وَكَفَى اللهُ الْـمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ. كَذَا في مغازي الواقدي.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: كَيْفَ تَعَامَلَ المُسْلِمُونَ مَعَ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ، وَمَعَ هَذَا المَوْقِفِ؟ مَاذَا فَعَلُوا في هَذِهِ السَّاعَاتِ العَصِيَةِ؟
إِنَّهُمْ لَمْ يَتَرَدَّدُوا لَحْظَةً وَاحِدَةً في الوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَلَمْ يَشُكُّوا بِوَعْدِ اللهِ تعالى، بَلْ كَانُوا مُرْتَبِطِينَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى التي تَشُدُّهُمْ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمْنَعُهُمْ مِنَ السُّقُوطِ، وَتُجَدِّدُ فِيهِمُ الأَمَلَ، وَتَحْرُسُهُمْ مِنَ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ، وَلْنَسْمَعْ إلى وَصْفِهِمْ في القُرْآنِ العَظِيمِ: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْـمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانَاً وَتَسْلِيمَاً﴾. الفِتْنَةُ وَالشِّدَّةُ لَيْسَ فِيهَا تَرَاجُعٌ، بَلْ إِيمَانٌ رَاسِخٌ في مُوَاجَهَةِ الفِتَنِ وَالمِحَنِ وَالشَّدَائِدِ.
في هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ». كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ.
قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْـمَعَاوِلُ، فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ ثَوْبَهُ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ» فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».
ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْـمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».
ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».
يَا رَبُّ ثَبِّتْنَا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ في الحَيَاةِ الدُنْيَا وفي الآخِرَةِ، وَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ عَاجِلَاً غَيْرَ آجِلٍ، وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin