مع الحبيب المصطفى:المقدر كائن، والمقضي حاصل
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
254ـ المقدر كائن، والمقضي حاصل
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يُسَلِّطَ على عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ بَعْضَ البَلَايَا وَالمِحَنِ، وَآتَاهُمْ مَعَهَا مِنْ فَضْلِهِ تَبَارَكَ وتعالى الصَّبْرَ، وَقَوَّاهُمْ بِهِ عَلَيْهَا.
الصَّبْرُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ رَفيعَةٌ، وَأَهْلُهُ مَحْبُوبُونَ عِنْدَ اللهِ تعالى ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾. وَأَعْطَاهُمْ على ذَلِكَ أَجْرَاً لَا يَعْلَمُهُ إلا هُوَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تعالى الصَّبْرَ بَوْتَقَةً ـ إِنَاءً ـ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ المَرْضِيَّةِ، قَالَ تعالى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الذينَ يَسْتَحِقُّونَ رِضَاهُ وَالجَنَّةَ: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامَاً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرَّاً وَمُقَامَاً﴾.
وَقَالَ تعالى في مُجَادَلَةِ أَهْلِ النَّارِ: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيَّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾. فَجَعَلَ اللهُ تعالى كُلَّ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ أَعْمَال صَالِحَةٍ، وَتَرْكٍ للأَعْمَالِ الطَّالِحَةِ دَاخِلَاً في بَوْتَقَةِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ عَلَيْهَا، وَالمَعْصِيَةُ تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ عَنْهَا.
أَجْرُ الصَّابِرِينَ لَا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ تعالى:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَتَّبَ اللهُ تعالى الأَجْرَ العَظِيمَ على الصَّبْرِ، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُوصِي بِهِ عِنْدَ المَصَائِبِ.
روى الترمذي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَجُلَاً ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنِي.
قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».
قَالَ: فَادْعُهْ.
قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ».
لَقَدْ أَوْصَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ، أَرَادَ أَنْ يُرَقِّيَهُ وَأَنْ يُعَلِّمَهُ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ اللهُ تعالى هُوَ الخَيْرُ في حَقِّهِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ الإِيمَانُ زَادَ الرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى في قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُرَّاً.
وَهَذَا مَا حَصَلَ لِسَيِّدِنَا سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، الذي ابْتَلَاهُ اللهُ تعالى بِفَقْدِ بَـصَرِهِ آخِرَ عُمُرِهِ، وَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ جَاءَهُ النَّاسُ يَهْرَعُونَ إِلَيْهِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، فَيَدْعُو لِهَذَا وَلِهَذَا ـ وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ ـ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ، فَتَعَرَّفْتُ عَلَيْهِ، فَعَرَفَنِي وَقَالَ: أَنْتَ قَارِئُ أَهْلِ مَكَّةَ؟
قُلْتُ: نَعَمْ؛ فَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ في آخِرِهَا: فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَمُّ، أَنْتَ تَدْعُو للنَّاسِ، فَلَوْ دَعَوتَ لِنَفْسِكَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ!
فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاءُ اللهِ سُبْحَانَهُ عِنْدِي أَحَبُّ مِنْ بَصَرِي.
وروى الشيخان عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: هَذِهِ الْـمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي.
قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ».
قَالَتْ: أَصْبِرُ.
قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ؛ فَدَعَا لَهَا.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: فَالصَّبْرُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ المُؤْمِنُ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانٌ بِلَا صَبْرٍ، وَلَا تَصْلُحُ مَعِيشَةٌ بِلَا صَبْرٍ، فَالصَّبْرُ عِمَادُ كُلِّ خَيْرٍ، وَمَنْ حُرِمَ الصَّبْرَ حُرِمَ التَّوْفِيقَ.
الأَسْبَابُ المُعِينَةُ على الصَّبْرِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ على المُؤْمِنِ أَنْ يُهَيِّئَ نَفْسَهُ للمَصَائِبِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَأَنْ يُدَرِّبَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا قَبْلَ حُدُوثِهَا، لِأَنَّ الصَّبْرَ عَزِيزٌ وَنَفِيسٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَزِيزٍ وَنَفِيسٍ يَحْتَاجُ إلى دُرْبَةٍ عَلَيْهِ.
هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُدَرِّبُ بَنَاتِهِ على الصَّبْرِ، اسْتِعْدَادَاً لِنُزُولِ المُصِيبَةِ، روى الشيخان عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي المَوْتِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ للهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّىً، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ».
فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا؛ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ (في قِرْبَةٍ قَدِيمَةٍ) فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا؟
قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ، جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
وَمِنَ الأَسْبَابِ التي تُعِينُ على الصَّبْرِ:
أولاً: تَهْيِئَةُ النَّفْسِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُعِينُ على الصَّبْرِ على المَصَائِبِ تَهْيِئَةُ النَّفْسِ وَأَخْذُ الجُرْعَاتِ الإِيمَانِيَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ المَصَائِبِ، وَذَلِكَ بِالتَّذَكُّرِ دَوْمَاً وَأَبَدَاً أَنَّ الدُّنْيَا إلى زَوَالٍ وَفَنَاءٍ، وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ فِيهَا بَقَاءٌ، وَأَنَّ لَهـَا آجَالَاً مُـنْصَرِمَةً، وَمُدَدَاً مُنْقَضِيَةً، لِذَا المُؤْمِنُ لَا يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ، وَلَا يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا على حَالٍ، فَمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَخَبَرَ أَحْوَالَهَا هَانَ عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا، لِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ حَاذَرَ لَمْ يَهْلَعْ، وَمَنْ رَاقَبَ لَمْ يَجْزَعْ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَقِّعَاً لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّعَاً، وَمَنْ أَحَبَّ البَقَاءَ فَلْيُعِدَّ للمَصَائِبِ قَلْبَاً صَبُورَاً.
ثانياً: الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُعِينُ على الصَّبْرِ على المَصَائِبِ الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، لِأَنَّهُمَا صَمَّامُ أَمَانٍ وَاقٍ بِإِذْنِ اللهِ تعالى مِنَ الصَّدَمَاتِ وَالنَّكَسَاتِ.
روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَـضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئَاً قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئَاً عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرَاً وَأَفْضَلَ».
وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ، كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرَاً مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ جَبَلُ أُحُدٍ، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبَاً، أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا، دَخَلْتَ النَّارَ».
ثالثاً: تَذَكَّرْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفَ الصَّالِحَ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُعِينُ على الصَّبْرِ على المَصَائِبِ تَذَكُّرُ حَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
لَمَّا احْتُضِرَ وَلَدُهُ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ أَخَذَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ». ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِيَّايَ وَإِيَّاكُمْ عِنْدَ المَصَائِبِ مِنَ الجَزَعِ، وَكَثْرَةِ الشَّكْوَى، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ المُقَدَّرَ كَائِنٌ، وَالمَقْضِيَّ حَاصِلٌ، كَانَ الجَزَعُ عَنَاءً خَالِصَاً وَمُصَابَاً ثَابِتَاً، وَقَدْ قَالَ اللهُ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يُحْكَى أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ مِنَ الْبَادِيَةِ فَسَمِعَتْ صُرَاخَاً فِي دَارٍ؛ فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟
فَقِيلَ لَهَا: مَاتَ لَهُمْ إنْسَانٌ.
فَقَالَتْ: مَا أَرَاهُمْ إلَّا مِنْ رَبِّهِمْ يَسْتَغِيثُونَ، وَبِقَضَائِهِ يَتَبَرَّمُونَ، وَعَنْ ثَوَابِهِ يَرْغَبُونَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرَّ القَضَاءِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
254ـ المقدر كائن، والمقضي حاصل
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يُسَلِّطَ على عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ بَعْضَ البَلَايَا وَالمِحَنِ، وَآتَاهُمْ مَعَهَا مِنْ فَضْلِهِ تَبَارَكَ وتعالى الصَّبْرَ، وَقَوَّاهُمْ بِهِ عَلَيْهَا.
الصَّبْرُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ رَفيعَةٌ، وَأَهْلُهُ مَحْبُوبُونَ عِنْدَ اللهِ تعالى ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾. وَأَعْطَاهُمْ على ذَلِكَ أَجْرَاً لَا يَعْلَمُهُ إلا هُوَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تعالى الصَّبْرَ بَوْتَقَةً ـ إِنَاءً ـ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ المَرْضِيَّةِ، قَالَ تعالى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الذينَ يَسْتَحِقُّونَ رِضَاهُ وَالجَنَّةَ: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامَاً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرَّاً وَمُقَامَاً﴾.
وَقَالَ تعالى في مُجَادَلَةِ أَهْلِ النَّارِ: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيَّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾. فَجَعَلَ اللهُ تعالى كُلَّ مَا أَتَوْا بِهِ مِنْ أَعْمَال صَالِحَةٍ، وَتَرْكٍ للأَعْمَالِ الطَّالِحَةِ دَاخِلَاً في بَوْتَقَةِ الصَّبْرِ، لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ عَلَيْهَا، وَالمَعْصِيَةُ تَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ عَنْهَا.
أَجْرُ الصَّابِرِينَ لَا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ تعالى:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ رَتَّبَ اللهُ تعالى الأَجْرَ العَظِيمَ على الصَّبْرِ، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. وَلِهَذَا كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُوصِي بِهِ عِنْدَ المَصَائِبِ.
روى الترمذي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ رَجُلَاً ضَرِيرَ البَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَنِي.
قَالَ: «إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».
قَالَ: فَادْعُهْ.
قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِيَ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ فِيَّ».
لَقَدْ أَوْصَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ، أَرَادَ أَنْ يُرَقِّيَهُ وَأَنْ يُعَلِّمَهُ أَنَّ مَا اخْتَارَهُ اللهُ تعالى هُوَ الخَيْرُ في حَقِّهِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ الإِيمَانُ زَادَ الرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى في قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُرَّاً.
وَهَذَا مَا حَصَلَ لِسَيِّدِنَا سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، الذي ابْتَلَاهُ اللهُ تعالى بِفَقْدِ بَـصَرِهِ آخِرَ عُمُرِهِ، وَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ جَاءَهُ النَّاسُ يَهْرَعُونَ إِلَيْهِ، كُلُّ وَاحِدٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ، فَيَدْعُو لِهَذَا وَلِهَذَا ـ وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ ـ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ السَّائِبِ: فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا غُلَامٌ، فَتَعَرَّفْتُ عَلَيْهِ، فَعَرَفَنِي وَقَالَ: أَنْتَ قَارِئُ أَهْلِ مَكَّةَ؟
قُلْتُ: نَعَمْ؛ فَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ في آخِرِهَا: فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَمُّ، أَنْتَ تَدْعُو للنَّاسِ، فَلَوْ دَعَوتَ لِنَفْسِكَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْكَ بَصَرَكَ!
فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، قَضَاءُ اللهِ سُبْحَانَهُ عِنْدِي أَحَبُّ مِنْ بَصَرِي.
وروى الشيخان عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: هَذِهِ الْـمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي.
قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ».
قَالَتْ: أَصْبِرُ.
قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ؛ فَدَعَا لَهَا.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: فَالصَّبْرُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ المُؤْمِنُ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانٌ بِلَا صَبْرٍ، وَلَا تَصْلُحُ مَعِيشَةٌ بِلَا صَبْرٍ، فَالصَّبْرُ عِمَادُ كُلِّ خَيْرٍ، وَمَنْ حُرِمَ الصَّبْرَ حُرِمَ التَّوْفِيقَ.
الأَسْبَابُ المُعِينَةُ على الصَّبْرِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ على المُؤْمِنِ أَنْ يُهَيِّئَ نَفْسَهُ للمَصَائِبِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَأَنْ يُدَرِّبَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا قَبْلَ حُدُوثِهَا، لِأَنَّ الصَّبْرَ عَزِيزٌ وَنَفِيسٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَزِيزٍ وَنَفِيسٍ يَحْتَاجُ إلى دُرْبَةٍ عَلَيْهِ.
هَذَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُدَرِّبُ بَنَاتِهِ على الصَّبْرِ، اسْتِعْدَادَاً لِنُزُولِ المُصِيبَةِ، روى الشيخان عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ، يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي المَوْتِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ للهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّىً، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ».
فَأَعَادَتِ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا؛ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ (في قِرْبَةٍ قَدِيمَةٍ) فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا؟
قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ، جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
وَمِنَ الأَسْبَابِ التي تُعِينُ على الصَّبْرِ:
أولاً: تَهْيِئَةُ النَّفْسِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُعِينُ على الصَّبْرِ على المَصَائِبِ تَهْيِئَةُ النَّفْسِ وَأَخْذُ الجُرْعَاتِ الإِيمَانِيَّةِ قَبْلَ حُدُوثِ المَصَائِبِ، وَذَلِكَ بِالتَّذَكُّرِ دَوْمَاً وَأَبَدَاً أَنَّ الدُّنْيَا إلى زَوَالٍ وَفَنَاءٍ، وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ فِيهَا بَقَاءٌ، وَأَنَّ لَهـَا آجَالَاً مُـنْصَرِمَةً، وَمُدَدَاً مُنْقَضِيَةً، لِذَا المُؤْمِنُ لَا يَغْتَرُّ بِرَخَاءٍ، وَلَا يُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى الدُّنْيَا على حَالٍ، فَمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَخَبَرَ أَحْوَالَهَا هَانَ عَلَيْهِ بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا، لِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ حَاذَرَ لَمْ يَهْلَعْ، وَمَنْ رَاقَبَ لَمْ يَجْزَعْ، وَمَنْ كَانَ مُتَوَقِّعَاً لَمْ يَكُنْ مُتَوَجِّعَاً، وَمَنْ أَحَبَّ البَقَاءَ فَلْيُعِدَّ للمَصَائِبِ قَلْبَاً صَبُورَاً.
ثانياً: الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُعِينُ على الصَّبْرِ على المَصَائِبِ الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، لِأَنَّهُمَا صَمَّامُ أَمَانٍ وَاقٍ بِإِذْنِ اللهِ تعالى مِنَ الصَّدَمَاتِ وَالنَّكَسَاتِ.
روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اللهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَـضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئَاً قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئَاً عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، كَانَ خَيْرَاً وَأَفْضَلَ».
وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ، قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنَ الْقَدَرِ، فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ، كَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرَاً مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ جَبَلُ أُحُدٍ، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبَاً، أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا، دَخَلْتَ النَّارَ».
ثالثاً: تَذَكَّرْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفَ الصَّالِحَ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِمَّا يُعِينُ على الصَّبْرِ على المَصَائِبِ تَذَكُّرُ حَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
لَمَّا احْتُضِرَ وَلَدُهُ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ أَخَذَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ». ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى.
فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِيَّايَ وَإِيَّاكُمْ عِنْدَ المَصَائِبِ مِنَ الجَزَعِ، وَكَثْرَةِ الشَّكْوَى، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ المُقَدَّرَ كَائِنٌ، وَالمَقْضِيَّ حَاصِلٌ، كَانَ الجَزَعُ عَنَاءً خَالِصَاً وَمُصَابَاً ثَابِتَاً، وَقَدْ قَالَ اللهُ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يُحْكَى أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ مِنَ الْبَادِيَةِ فَسَمِعَتْ صُرَاخَاً فِي دَارٍ؛ فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟
فَقِيلَ لَهَا: مَاتَ لَهُمْ إنْسَانٌ.
فَقَالَتْ: مَا أَرَاهُمْ إلَّا مِنْ رَبِّهِمْ يَسْتَغِيثُونَ، وَبِقَضَائِهِ يَتَبَرَّمُونَ، وَعَنْ ثَوَابِهِ يَرْغَبُونَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرَّ القَضَاءِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin