مع الحبيب المصطفى: من الدار إلى الغار
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
208ـ من الدار إلى الغار
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَثْبَتَتْ هِجْرَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، أَنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وأَنَّ دِينَ اللهِ عزَّ وجلَّ يُتَنَازَلُ لَهُمَا عَن كُلِّ حَبِيبٍ وعَزِيزٍ، وعَن كُلِّ أَلِيفٍ وأَنِيسٍ، وعَن كُلِّ مَا جُبِلَتِ الطَّبَائِعُ السَّلِيمَةُ على حُبِّهِ وإِيثَارِهِ، والتَّمَسُّكِ بِهِ والْتِزَامِهِ.
ولا يُتَنَازَلُ عَن الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، ولا عَن دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ لِشَيْءٍ، أو لِغَرَضٍ من أَغْرَاضِ الدُّنيَا.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَتْ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ مَوْلِدَاً ومَنْشَأً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولأَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وكَانَتْ مَهْوَى الأَفْئِدَةِ للنَّاسِ، وكَانَتْ مَغْنَاطِيسَ القُلُوبِ، وكَانَت فِيهَا الكَعْبَةُ المُشَرَّفَةُ وبَيْتُ اللهِ الذي وَضَعَهُ اللهُ تعالى للنَّاسِ.
لقد كَانَ حُبُّ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ وحُبُّ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ وبَيْتِ اللهِ الحَرَامِ يَجْرِي في سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وفي أَصْحَابِهِ الكِرَامِ مَجْرَى الرُّوحِ والدَّمِ في جَسَدِ الإِنسَانِ.
ولَكِنْ في سَبِيلِ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى هَانَ كُلُّ شَيْءٍ، ولَمْ يَكُنْ هذا الحُبُّ يَمْنَعُهُم من مُغَادَرَةِ الوَطَنِ، ومُفَارَقَةِ الأَهْلِ والسَّكَنِ، حِينَ ضَاقَتِ الأَرْضُ على الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، وعلى دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَجَلَّتْ هذهِ العَاطِفَةُ المُزْدَوَجَةُ، عَاطِفَةُ حُبِّ الوَطَنِ والأَهْلِ والسَّكَنِ، وعَاطِفَةُ حُبِّ اللهِ تعالى، وحُبِّ دِينِهِ، وتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى في كَلِمَةٍ قَالَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عِنْدَمَا غَادَرَ مَكَّةَ ومَعَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَقَالَ مُخَاطِبَاً مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» رواه الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِكُلِّ شَيْءٍ في سَبِيلِ دِينِ اللهِ تعالى، وفي سَبِيلِ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وذلكَ عَمَلاً بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾.
من الدَّارِ إلى الغَارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: غَادَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَيْتَهُ الشَّرِيفَ، وخَرَجَ من بَيْنِ العُصْبَةِ التي طَوَّقَتْ بَيْتَهُ الشَّرِيفَ وتُرِيدُ قَتْلَهُ، ولَكِنَّ اللهَ غَالِبٌ على أَمْرِهِ، خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُطْمَئِنَّاً لِمَعِيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لَهُ، وكَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ وهوَ الذي طَمْأَنَ سَيِّدَنَا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ»؟
خَرَجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من بَيْتِهِ مُتَوَجِّهَاً إلى بَيْتِ صَاحِبِهِ ورَفِيقِهِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ثمَّ غَادَرَا بَيْتَ الصِّدِّيقِ من البَابِ الخَلْفِيِّ الذي يُقَالُ عَنهُ خَوْخَةٌ، وخَرَجَا من مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ على عَجَلٍ، قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، مُتَّجِهَاً إِلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ قُرَيْشَاً سَتَجِدُّ في الطَّلَبِ، وَأَنَّ الطَّرِيقَ الذي سَتَتَّجِهُ إِلَيهِ الأَنْظَارُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ هوَ طَرِيقُ المَدِينَةِ الرَّئِيسِيِّ المُتَّجِهِ شِمَالَاً، فَسَلَكَ الطَّرِيقَ الذي يُضَادَّهُ تَمَامَاً، وهوَ الطَّرِيقُ الوَاقِعُ جَنُوبَ مَكَّةَ، والمُتَّجِهُ نَحْوَ اليَمَنِ، سَلَكَ هذا الطَّرِيقَ نَحْوَ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ حَتَّى بَلَغَ إلى جَبَلٍ يُعْرَفُ بِجَبَلِ ثَوْرٍ وهوَ جَبَلٌ شَامِخٌ، وَعِرُ الطَّرِيقِ، صَعْبُ المُرْتَقَى، ذُو أَحْجَارٍ كَثِيرَةٍ، فَحَفِيَتْ قَدَمَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
وَقِيلَ: بَل كَانَ يَمْشِى في الطَّرِيقِ على أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ كَي يُخْفِي أَثَرَهُ فَحَفِيَتْ قَدَمَاهُ، وَأَيَّاً مَا كَانَ فَقَد حَمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَلَغَ إلى الجَبَلِ، وَطَفِقَ يَشْتَدُّ بِهِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إلى غَارٍ في قِمَّةِ الجَبَلِ عُرِفَ في التَّارِيخِ بِغَارِ ثَوْرٍ.
من رَوَائِعِ الحُبِّ:
أيُّها الإخوة الكرام: الحُبُّ الصَّادِقُ يُلْهِمُ صَاحِبَهُ دَقَائِقَ عَجِيبَةً، ويَبْعَثُ على الإِشْفَاقِ على مَن تَعَلَّقَ بِهِ القَلْبُ، وأَحَبَّتْهُ النَّفْسُ، وهذا كَانَ شَأْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في الهِجْرَةِ المُبَارَكَةِ.
روى البيهقي عَن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: ذُكِرَ رِجَالٌ على عَهْدِ عُمَرَ فَكَأَنَّهُم فَضَّلُوا عُمَرَ على أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذلكَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: واللهِ لَلَيْلَةٌ من أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ من آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ من أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ من آلِ عُمَرَ، لَقَد خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَيْلَةَ انْطَلَقَ إلى الغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ : «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَالَكَ تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيَّ وَسَاعَةً خَلْفِي؟».
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ، فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثمَّ أَذْكُرُ الرَّصْدَ، فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَو كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ لَكَ دُونِي؟».
قَالَ: نَعَم، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، مَا كَانَتْ لِتَكُنْ من مُلِمَّةٍ إلا أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ لِي دُونَكَ.
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا من الغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الغَارَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ حَتَّى إذا كَانَ في أَعْلَاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئَ الجُحْرَةَ.
فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ الجُحْرَةَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ، ثمَّ قَالَ: اِنْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَنَزَلَ.
فَقَالَ عُمَرُ: والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ من آلِ عُمَرَ.
﴿وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: مَن كَانَ مَعَ اللهِ تعالى كَانَ اللهُ عزَّ وجلَّ مَعَهُ مَعِيَّةً خَاصَّةً، عِنْدَمَا دَخَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الغَارَ ومَعَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، بَعَثَ اللهُ العَنْكُبُوتَ فَنَسَجَتْ مَا بَيْنَ الغَارِ والشَّجَرَةِ التي كَانَتْ على وَجْهِ الغَارِ، وسَتَرَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَن مُصْعَبٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: أَدْرَكْتُ أَنَسَ بن مَالِكٍ، وَزَيْدَ بن أَرْقَمَ، وَالْمُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ، فَسَمِعْتُهُمْ يُحَدِّثُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «أَمَرَ اللهُ شَجَرَةً لَيْلَةَ الْغَارِ، فَنَبَتَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَأَمَرَ اللهُ الْعَنْكَبُوتَ، فَنَسَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَأَمَرَ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ، فَوَقَفتَا بِفَمِ الْغَارِ، وَأَقْبَلَ فَتَيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ بِعِصِيِّهِمْ وهَرَاوَلِهِمْ وَسُيُوفِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَدْرَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعَاً تَعَجَّلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ فِي الْغَارِ، فَرَأَى حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تَنْظُرْ فِي الْغَارِ؟
فَقَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ فَعَرَفْتُ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا قَالَ فَعَرَفَ أَنَّ اللهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُ بِهِمَا، فَدَعَا لَهُنَّ وَسَمَّى عَلَيْهِنِّ، وَفَرَضَ جَزَاءَهُنَّ وَأُقْرِرْنَ فِي الْحَرَمِ.
وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزَاً حَكِيمَاً﴾.
﴿إِذْ هُمَا في الغَارِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد خَلا الصِّدِّيقُ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِوَحْدِهِ في هذا الغَارِ، وتَرْجَمَ عَن حُبِّهِ العَمِيقِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وذلكَ عِنْدَمَا وَجَدَ في جَوَانِبِ الغَارِ نُقُوشَاً، فَشَقَّ إِزَارَهُ وسَدَّهَا بِهِ، وبَقِيَ مِنهَا اثْنَانِ فَأَلْقَمَهُمَا رِجْلَيْهِ.
ثمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: اُدْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ في حِجْرِهِ وَنَامَ، فَلُدِغَ أَبُو بَكْرٍ في رِجْلِهِ من الجُحْرِ، وَلَمْ يَتَحَرَّكَ مَخَافَةَ أَنْ يَنْتَبِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ على وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟».
قَالَ: لُدِغْتُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَتَفَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَذَهَبَ مَا يَجِدُهُ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الحَدِيثَ عَن هِجْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَيفَ يَكُونُ الاعْتِمَادُ على اللهِ تعالى، وأنْ نَأْخُذَ بالأَسْبَابِ في الظَّاهِرِ، ونَتَوَكَّلَ على اللهِ تعالى في البَاطِنِ.
ويُعَلِّمُ الحَدِيثُ عَن الهِجْرَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَرْخُصُ في سَبِيلِ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
208ـ من الدار إلى الغار
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَثْبَتَتْ هِجْرَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، أَنَّ الدَّعْوَةَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وأَنَّ دِينَ اللهِ عزَّ وجلَّ يُتَنَازَلُ لَهُمَا عَن كُلِّ حَبِيبٍ وعَزِيزٍ، وعَن كُلِّ أَلِيفٍ وأَنِيسٍ، وعَن كُلِّ مَا جُبِلَتِ الطَّبَائِعُ السَّلِيمَةُ على حُبِّهِ وإِيثَارِهِ، والتَّمَسُّكِ بِهِ والْتِزَامِهِ.
ولا يُتَنَازَلُ عَن الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، ولا عَن دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ لِشَيْءٍ، أو لِغَرَضٍ من أَغْرَاضِ الدُّنيَا.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَتْ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ مَوْلِدَاً ومَنْشَأً لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ولأَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، وكَانَتْ مَهْوَى الأَفْئِدَةِ للنَّاسِ، وكَانَتْ مَغْنَاطِيسَ القُلُوبِ، وكَانَت فِيهَا الكَعْبَةُ المُشَرَّفَةُ وبَيْتُ اللهِ الذي وَضَعَهُ اللهُ تعالى للنَّاسِ.
لقد كَانَ حُبُّ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ وحُبُّ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ وبَيْتِ اللهِ الحَرَامِ يَجْرِي في سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وفي أَصْحَابِهِ الكِرَامِ مَجْرَى الرُّوحِ والدَّمِ في جَسَدِ الإِنسَانِ.
ولَكِنْ في سَبِيلِ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى هَانَ كُلُّ شَيْءٍ، ولَمْ يَكُنْ هذا الحُبُّ يَمْنَعُهُم من مُغَادَرَةِ الوَطَنِ، ومُفَارَقَةِ الأَهْلِ والسَّكَنِ، حِينَ ضَاقَتِ الأَرْضُ على الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، وعلى دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَجَلَّتْ هذهِ العَاطِفَةُ المُزْدَوَجَةُ، عَاطِفَةُ حُبِّ الوَطَنِ والأَهْلِ والسَّكَنِ، وعَاطِفَةُ حُبِّ اللهِ تعالى، وحُبِّ دِينِهِ، وتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى في كَلِمَةٍ قَالَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ عِنْدَمَا غَادَرَ مَكَّةَ ومَعَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَقَالَ مُخَاطِبَاً مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» رواه الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِكُلِّ شَيْءٍ في سَبِيلِ دِينِ اللهِ تعالى، وفي سَبِيلِ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وذلكَ عَمَلاً بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾.
من الدَّارِ إلى الغَارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: غَادَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بَيْتَهُ الشَّرِيفَ، وخَرَجَ من بَيْنِ العُصْبَةِ التي طَوَّقَتْ بَيْتَهُ الشَّرِيفَ وتُرِيدُ قَتْلَهُ، ولَكِنَّ اللهَ غَالِبٌ على أَمْرِهِ، خَرَجَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُطْمَئِنَّاً لِمَعِيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ لَهُ، وكَيفَ لا يَكُونُ كذلكَ وهوَ الذي طَمْأَنَ سَيِّدَنَا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ عِنْدَمَا قَالَ لَهُ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ»؟
خَرَجَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من بَيْتِهِ مُتَوَجِّهَاً إلى بَيْتِ صَاحِبِهِ ورَفِيقِهِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ثمَّ غَادَرَا بَيْتَ الصِّدِّيقِ من البَابِ الخَلْفِيِّ الذي يُقَالُ عَنهُ خَوْخَةٌ، وخَرَجَا من مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ على عَجَلٍ، قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ، مُتَّجِهَاً إِلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.
أيُّها الإخوة الكرام: وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَعْلَمُ أَنَّ قُرَيْشَاً سَتَجِدُّ في الطَّلَبِ، وَأَنَّ الطَّرِيقَ الذي سَتَتَّجِهُ إِلَيهِ الأَنْظَارُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ هوَ طَرِيقُ المَدِينَةِ الرَّئِيسِيِّ المُتَّجِهِ شِمَالَاً، فَسَلَكَ الطَّرِيقَ الذي يُضَادَّهُ تَمَامَاً، وهوَ الطَّرِيقُ الوَاقِعُ جَنُوبَ مَكَّةَ، والمُتَّجِهُ نَحْوَ اليَمَنِ، سَلَكَ هذا الطَّرِيقَ نَحْوَ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ حَتَّى بَلَغَ إلى جَبَلٍ يُعْرَفُ بِجَبَلِ ثَوْرٍ وهوَ جَبَلٌ شَامِخٌ، وَعِرُ الطَّرِيقِ، صَعْبُ المُرْتَقَى، ذُو أَحْجَارٍ كَثِيرَةٍ، فَحَفِيَتْ قَدَمَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
وَقِيلَ: بَل كَانَ يَمْشِى في الطَّرِيقِ على أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ كَي يُخْفِي أَثَرَهُ فَحَفِيَتْ قَدَمَاهُ، وَأَيَّاً مَا كَانَ فَقَد حَمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ حِينَ بَلَغَ إلى الجَبَلِ، وَطَفِقَ يَشْتَدُّ بِهِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إلى غَارٍ في قِمَّةِ الجَبَلِ عُرِفَ في التَّارِيخِ بِغَارِ ثَوْرٍ.
من رَوَائِعِ الحُبِّ:
أيُّها الإخوة الكرام: الحُبُّ الصَّادِقُ يُلْهِمُ صَاحِبَهُ دَقَائِقَ عَجِيبَةً، ويَبْعَثُ على الإِشْفَاقِ على مَن تَعَلَّقَ بِهِ القَلْبُ، وأَحَبَّتْهُ النَّفْسُ، وهذا كَانَ شَأْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في الهِجْرَةِ المُبَارَكَةِ.
روى البيهقي عَن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: ذُكِرَ رِجَالٌ على عَهْدِ عُمَرَ فَكَأَنَّهُم فَضَّلُوا عُمَرَ على أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذلكَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: واللهِ لَلَيْلَةٌ من أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ من آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ من أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ من آلِ عُمَرَ، لَقَد خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَيْلَةَ انْطَلَقَ إلى الغَارِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فَقَالَ : «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَالَكَ تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيَّ وَسَاعَةً خَلْفِي؟».
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ، فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثمَّ أَذْكُرُ الرَّصْدَ، فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.
فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَو كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ لَكَ دُونِي؟».
قَالَ: نَعَم، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، مَا كَانَتْ لِتَكُنْ من مُلِمَّةٍ إلا أَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ لِي دُونَكَ.
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا من الغَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الغَارَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ حَتَّى إذا كَانَ في أَعْلَاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئَ الجُحْرَةَ.
فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، حَتَّى أَسْتَبْرِئَ الجُحْرَةَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ، ثمَّ قَالَ: اِنْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَنَزَلَ.
فَقَالَ عُمَرُ: والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ من آلِ عُمَرَ.
﴿وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: مَن كَانَ مَعَ اللهِ تعالى كَانَ اللهُ عزَّ وجلَّ مَعَهُ مَعِيَّةً خَاصَّةً، عِنْدَمَا دَخَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ الغَارَ ومَعَهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، بَعَثَ اللهُ العَنْكُبُوتَ فَنَسَجَتْ مَا بَيْنَ الغَارِ والشَّجَرَةِ التي كَانَتْ على وَجْهِ الغَارِ، وسَتَرَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ وأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَن مُصْعَبٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: أَدْرَكْتُ أَنَسَ بن مَالِكٍ، وَزَيْدَ بن أَرْقَمَ، وَالْمُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ، فَسَمِعْتُهُمْ يُحَدِّثُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَالَ: «أَمَرَ اللهُ شَجَرَةً لَيْلَةَ الْغَارِ، فَنَبَتَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَأَمَرَ اللهُ الْعَنْكَبُوتَ، فَنَسَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَأَمَرَ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ، فَوَقَفتَا بِفَمِ الْغَارِ، وَأَقْبَلَ فَتَيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ بِعِصِيِّهِمْ وهَرَاوَلِهِمْ وَسُيُوفِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَدْرَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعَاً تَعَجَّلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ فِي الْغَارِ، فَرَأَى حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تَنْظُرْ فِي الْغَارِ؟
فَقَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ فَعَرَفْتُ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا قَالَ فَعَرَفَ أَنَّ اللهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُ بِهِمَا، فَدَعَا لَهُنَّ وَسَمَّى عَلَيْهِنِّ، وَفَرَضَ جَزَاءَهُنَّ وَأُقْرِرْنَ فِي الْحَرَمِ.
وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزَاً حَكِيمَاً﴾.
﴿إِذْ هُمَا في الغَارِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد خَلا الصِّدِّيقُ بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لِوَحْدِهِ في هذا الغَارِ، وتَرْجَمَ عَن حُبِّهِ العَمِيقِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وذلكَ عِنْدَمَا وَجَدَ في جَوَانِبِ الغَارِ نُقُوشَاً، فَشَقَّ إِزَارَهُ وسَدَّهَا بِهِ، وبَقِيَ مِنهَا اثْنَانِ فَأَلْقَمَهُمَا رِجْلَيْهِ.
ثمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: اُدْخُلْ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ في حِجْرِهِ وَنَامَ، فَلُدِغَ أَبُو بَكْرٍ في رِجْلِهِ من الجُحْرِ، وَلَمْ يَتَحَرَّكَ مَخَافَةَ أَنْ يَنْتَبِهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ على وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟».
قَالَ: لُدِغْتُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَتَفَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَذَهَبَ مَا يَجِدُهُ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ الحَدِيثَ عَن هِجْرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا كَيفَ يَكُونُ الاعْتِمَادُ على اللهِ تعالى، وأنْ نَأْخُذَ بالأَسْبَابِ في الظَّاهِرِ، ونَتَوَكَّلَ على اللهِ تعالى في البَاطِنِ.
ويُعَلِّمُ الحَدِيثُ عَن الهِجْرَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَرْخُصُ في سَبِيلِ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin