مع الحبيب المصطفى: صرخة الشيطان بعد بيعة العقبة الكبرى
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
206ـ صرخة الشيطان بعد بيعة العقبة الكبرى
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ ولا رَيْبَ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هوَ المُتَكَفِّلُ بِعِبْءِ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ رَسُولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً، فلا بُدَّ لَهُ من تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ.
أيُّها الإخوة الكرام: وكذلكَ مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الذينَ يَدْخُلُونَ في الإِسْلامِ بِصِدْقٍ، ويَتَغَلْغَلُ حُبُّ اللهِ تعالى وحُبُّ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في قُلُوبِهِم، سَوفَ يَتَحَمَّلُونَ عِبْءَ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، تَأَسِّيَاً بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وهذا الأَمْرُ كَانَ وَاضِحَاً، وذلكَ من خِلالِ إِرْسَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سَيِّدَنَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.
لقد انْطلَقَ سَيِّدُنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ سَعِيدَاً مَسْرُورَاً بِتَلْبِيَةِ أَمْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ورَاحَ يَدْعُو أَهْلِ المَدِينَةِ إلى الإِسْلامِ، وكَانَ يَقْرَأُ عَلَيهِمُ القُرْآنَ، ويُبَلِّغُهُمْ أَحْكَامَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
لقد كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ على سَيِّدِنَا مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وفي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِهَا، ولَكْنْ مَا أَنْ يَتْلُوَ عَلَيهِ سَيِّدُنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ شَيْئَاً من القُرْآنِ العَظِيمِ حَتَّى يُلْقِيَ حَرْبَتَهُ، ويُعْلِنَ إِسْلامَهُ.
هَلْ تَعْلَمُونَ من هُوَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ؟
أيُّها الإخوة الكرام: هَلْ تَعْلَمُونَ من هُوَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ؟
إِنَّهُ ذَاكَ الذي كَانَ أَنْعَمَ غُلامٍ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، وأَجْوَدَ شَبَابِهَا حُلَّةً وبَهَاءً، فَلَمَّا دَخَلَ نُورُ الإِيمَانِ قَلْبَهُ طَوَى تِلكَ الرَّفَاهِيَةَ وذلكَ النَّعِيمَ، وانْطَلَقَ في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى من وَرَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، يَتَجَرَّعُ كُلَّ شِدَّةٍ، ويَسْتَعْذِبُ كُلَّ عَذَابٍ، حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ شَهِيدَاً في غَزْوَةِ أُحُدٍ، ولَيسَ لَهُ مِمَّا يَلْبَسُهُ إلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، أَرَادُوا أَنْ يُكَفِّنُوهُ بِهِ، فَكَانُوا إذا غَطَّوا بِهِ رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وإذا غَطَّوا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَخْبَرُوا بذلكَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَبَكَى للذي كَانَ فِيهِ من النِّعْمَةِ في صَدْرِ حَيَاتِهِ، ثمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ ـ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ـ» رواه الإمام مسلم عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: مَهَمَّةُ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى لَيْسَتْ وَقْفَاً على الرُّسُلِ والأَنْبِيَاءِ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وَحْدَهُمْ، بَل هيَ جُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ من حَقِيقَةِ الإِسْلامِ نَفْسِهِ، ومن حَقِيقَةِ الإِيمَانِ، فلا مَنَاصَ ولا مَفَرَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ من القِيَامِ بعِبْءِ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ تعالى، مَهمَا كَانَ شَأْنُهُ أو عَمَلُهُ واخْتِصَاصُهُ.
بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: عَادَ سَيِّدُنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قُبَيْلَ مَوْسِمِ الحَجِّ في السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ من البِعْثَةِ الشَّرِيفَةِ، يُخْبِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِمَا لَقِيَ الإِسْلامُ من قَبُولٍ حَسَنٍ في يَثْرِبَ، ويُبَشِّرُهُ بِأَنَّ جَمْعَاً كَبِيرَاً دَخَلَ في الإِسْلامِ، وقد مَسَّ الإِيمَانُ شِغَافَ قُلُوبِهِمْ، وسَوفَ يَرَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من وُفُودِهِمْ بهذا المَوْسِمِ مَا تَقَرُّ بِهِ العَيْنُ.
أيُّها الإخوة الكرام: قَدِمَ الأَنْصَارُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم في حَجِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ من البِعْثَةِ مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِم من المُشْرِكِينَ، وقَد تَسَاءَلَ هؤلاءِ المُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُم، وهم لَمْ يَزَالُوا في يَثْرِبَ أو كَانُوا في الطَّرِيقِ: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَطُوفُ ويُطَرَّدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟
اللِّقَاءُ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ سَيِّدُنَا كَعْبُ بنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَن لِقَاءِ الأَنْصَارِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
خَرَجْنَا إلَى الْحَجِّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ مِنْ أَوْسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِن الْحَجِّ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، أَخَذْنَاهُ مَعَنَا، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِن الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إنَّك سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبَاً لِلنَّارِ غَدَاً، ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إيَّانَا الْعَقَبَةَ.
قَالَ: فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبَاً.
قَالَ كَعْبٌ: فَنِمْنَا تَلِك اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمَيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلَاً، وَامْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا، نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي أُمُّ مَنِيعٍ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ.
فَاجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إلا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثَّقَ لَهُ.
فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ.
كَلامُ سَيِّدِنَا العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ أَنْ تَمَّ اللِّقَاءُ بَيْنَ الأَنْصَارِ وَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كَانَ العَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَوَّلَ المُتَكَلِّمِينَ، حَيْثُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إنَّ مُحَمّدَاً مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا، مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إلا الِانْحِيَازَ إلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُم مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الخُرُوجِ بِهِ إِلَيكُم، فَمِنَ الآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ في عِزٍّ وَمَنَعَةٍ من قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.
قَالَ كَعْبٌ: فَقُلْنَا لَهُ: قَد سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَخُذْ لِنَفْسِك وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ.
فَتَكَلَّمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إلَى اللهِ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمّ قَال: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ».
فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَالذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيَّاً لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ واللهِ أَبْنَاءُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرَاً عَنْ كَابِرٍ.
قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرّجَالِ حِبَالَاً، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا ـ يَعْنِي الْيَهُودَ ـ فَهَلْ عَسَيْتَ إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟
قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «بَلْ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ».
بُنُودُ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام أحمد والحاكم بُنُودَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وذلكَ من خِلالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟
قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ».
أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ سَيِّدُنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلَاً رَجُلَاً، يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ. كَمَا جَاءَ في مُسْنَدِ الإمام أحمد.
وأَمَّا بَيْعَةُ المَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ شَهِدَتَا الوَقْعَةَ، فَكَانَتْ قَوْلاً، لأنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا صَافَحَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً قَطُّ، كَمَا جَاءَ في صَحِيحِ الإمام مسلم.
صَرْخَةُ الشَّيْطَانِ بَعْدَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا تَمَّ إِبْرَامُ المُعَاهَدَةِ، وكَانَ القَوْمُ على وَشَكِ الارْفِضَاضِ، اكْتَشَفَهَا أَحَدُ الشَّيَاطِينِ؛ وَحَيْثُ إِنَّ هذا الاكْتِشَافَ جَاءَ في اللَّحْظَةِ الأَخِيرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ إِبْلَاغُ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ هذا الخَبَرَ سِرَّاً، لِيُبَاغِتُوا المُجْتَمِعِينَ وَهُم في الشِّعْبِ، قَامَ ذلكَ الشَّيْطَانُ على مُرْتَفَعٍ من الأَرْضِ، وَصَاحَ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سُمِعَ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ ـ وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ ـ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصِّبَاةُ مَعَهُ؟ قَد اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، أَمَا واللهِ يَا عَدُوَّ اللهِ، لَأَتَفَرَغَنَّ لَكَ» ثمَ أَمَرَهُم أَنْ يَنْفَضُّوا إلى رِحَالِهِم.
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا قَرَعَ هذا الخَبَرُ آذَانَ قُرَيْشٍ، وَقَعَتْ فِيهِم ضَجَّةٌ أَثَارَتِ القَلاقِلَ والأَحْزَانَ، لأَنَّهُم كَانُوا على مَعْرِفَةٍ تَامَّةٍ بِعَوَاقِبِ مِثْلِ هذهِ البَيْعَةِ وَنَتَائِجِهَا بالنِّسْبَةِ إلى أَنْفُسِهِم وَأَمْوَالِهِم، فَمَا أَنْ أَصْبَحُوا حَتَّى تَوَجَّهَ وَفْدٌ كَبِيرٌ من زُعَمَاءِ مَكَّةَ وَأَكَابِرُ مُجْرِمِيهَا إلى أَهْلِ يَثْرِبَ؛ لِيُقَدِّمَ احْتِجَاجَهُ الشَّدِيدَ على هذهِ المُعَاهَدَةِ، قَالَ الوَفْدُ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ واللهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِن الْعَرَبِ أَبْغَضُ إلَيْنَا، من أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ.
وَلَمَّا كَانَ مُشْرِكُوا الخَزْرَجِ لا يَعْرِفُونَ شَيْئَاً عن هذهِ البَيْعَةِ؛ لأَنَّهَا تَمَّتْ في سِرِّيَّةٍ تَامَّةٍ في ظَلَامِ اللَّيْلِ، انْبَعَثَ هؤلاءِ المُشْرِكُونَ يَحْلِفُونَ باللهِ، مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ.
حَتَّى أَتَوْا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هذا بَاطِلٌ، وَمَا كَانَ هذا، وَمَا كَانَ قَوْمِي لِيَفْتَاتُوا عَلَيَّ بِمِثْلِ هذا، وَلَو كُنْتُ بِيَثْرِبَ مَا صَنَعَ قَوْمِي هذا حَتَّى يُؤَامِرُونِي.
أَمَّا المُسلْمِوُنَ فَنَظَرَ بَعْضُهُم إلى بَعْضٍ، ثمَّ لَاذُوا بالصَّمْتِ، فَلَمْ يَتَحَدَّثْ أَحَدٌ مِنهُم بِنَفْيٍ أو إِثْبَاتٍ.
وَمَالَ زُعَمَاءُ قُرَيْشٌ إلى تَصْدِيقِ المُشْرِكِينَ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ البَيْعَةُ الثَّانِيَةُ التي تُعْرَفُ بِبَيْعَةِ العَقَبَةِ الكُبْرَى، وقد تَمَّتْ في جَوٍّ تَعْلُوهُ عَوَاطِفُ الحُبِّ والوَلَاءِ، والتَّنَاصُرِ بَيْنَ أَشْتَاتِ المُؤْمِنِينَ، والثِّقَةِ والشَّجَاعَةِ والاسْتِبْسَالِ في هذا السَّبِيلِ.
فَمُؤْمِنٌ من أَهْلِ يَثْرِبَ يَحْنُو على أَخِيهِ المُسْتَضْعَفِ في مَكَّةَ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُ، وَيَغْضَبُ من ظَالِمِهِ، وتَجِيشُ في حَنَايَاهُ مَشَاعِرُ الوُدِّ لهذا الأَخِ الذي أَحَبَّهُ بالغَيْبِ في ذَاتِ اللِه.
وَلَم تَكُنْ هذهِ المَشَاعِرُ والعَوَاطِفُ نَتِيجَةَ نَزْعَةٍ عَابِرَةٍ تَزُولُ على مَرِّ الأَيَّامِ، بَل كَانَ مَصْدَرُهَا هوَ الإِيمَانَ باللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ، إِيمَانٌ لا يَزُولُ أَمَامَ أَيِّ قُوَّةٍ من قُوَّاتِ الظُّلْمِ والعُدْوَانِ، إِيمَانٌ إذا هَبَّتْ رِيحُهُ جَاءَتْ بالعَجَائِبِ في العَقِيدَةِ والعَمَلِ، وبهذا الإِيمَانِ اسْتَطَاعَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُسَجِّلُوا على أَوْرَاقِ الدَّهْرِ أَعْمَالَاً، وَيَتْرُكُوا عَلَيهَا آثَارَاً خَلَا عَن نَظَائِرِهَا الغَابِرُ والحَاضِرُ، وَسَوْفَ يَخْلُو المُسْتَقْبَلِ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُشَرِّفَنَا بِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ تعالى، على أَحْسَنِ حَالٍ يَرْضَاهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
206ـ صرخة الشيطان بعد بيعة العقبة الكبرى
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ ولا رَيْبَ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ هوَ المُتَكَفِّلُ بِعِبْءِ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ رَسُولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً، فلا بُدَّ لَهُ من تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ عزَّ وجلَّ.
أيُّها الإخوة الكرام: وكذلكَ مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الذينَ يَدْخُلُونَ في الإِسْلامِ بِصِدْقٍ، ويَتَغَلْغَلُ حُبُّ اللهِ تعالى وحُبُّ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في قُلُوبِهِم، سَوفَ يَتَحَمَّلُونَ عِبْءَ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، تَأَسِّيَاً بِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، وهذا الأَمْرُ كَانَ وَاضِحَاً، وذلكَ من خِلالِ إِرْسَالِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سَيِّدَنَا مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ.
لقد انْطلَقَ سَيِّدُنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ سَعِيدَاً مَسْرُورَاً بِتَلْبِيَةِ أَمْرِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ورَاحَ يَدْعُو أَهْلِ المَدِينَةِ إلى الإِسْلامِ، وكَانَ يَقْرَأُ عَلَيهِمُ القُرْآنَ، ويُبَلِّغُهُمْ أَحْكَامَ اللهِ عزَّ وجلَّ.
لقد كَانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ على سَيِّدِنَا مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وفي يَدِهِ حَرْبَتُهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِهَا، ولَكْنْ مَا أَنْ يَتْلُوَ عَلَيهِ سَيِّدُنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ شَيْئَاً من القُرْآنِ العَظِيمِ حَتَّى يُلْقِيَ حَرْبَتَهُ، ويُعْلِنَ إِسْلامَهُ.
هَلْ تَعْلَمُونَ من هُوَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ؟
أيُّها الإخوة الكرام: هَلْ تَعْلَمُونَ من هُوَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ؟
إِنَّهُ ذَاكَ الذي كَانَ أَنْعَمَ غُلامٍ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةَ، وأَجْوَدَ شَبَابِهَا حُلَّةً وبَهَاءً، فَلَمَّا دَخَلَ نُورُ الإِيمَانِ قَلْبَهُ طَوَى تِلكَ الرَّفَاهِيَةَ وذلكَ النَّعِيمَ، وانْطَلَقَ في سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى من وَرَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، يَتَجَرَّعُ كُلَّ شِدَّةٍ، ويَسْتَعْذِبُ كُلَّ عَذَابٍ، حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ شَهِيدَاً في غَزْوَةِ أُحُدٍ، ولَيسَ لَهُ مِمَّا يَلْبَسُهُ إلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ، أَرَادُوا أَنْ يُكَفِّنُوهُ بِهِ، فَكَانُوا إذا غَطَّوا بِهِ رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وإذا غَطَّوا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَخْبَرُوا بذلكَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَبَكَى للذي كَانَ فِيهِ من النِّعْمَةِ في صَدْرِ حَيَاتِهِ، ثمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ ـ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ـ» رواه الإمام مسلم عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: مَهَمَّةُ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى لَيْسَتْ وَقْفَاً على الرُّسُلِ والأَنْبِيَاءِ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وَحْدَهُمْ، بَل هيَ جُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ من حَقِيقَةِ الإِسْلامِ نَفْسِهِ، ومن حَقِيقَةِ الإِيمَانِ، فلا مَنَاصَ ولا مَفَرَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ من القِيَامِ بعِبْءِ الدَّعْوَةِ إلى دِينِ اللهِ تعالى، مَهمَا كَانَ شَأْنُهُ أو عَمَلُهُ واخْتِصَاصُهُ.
بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: عَادَ سَيِّدُنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قُبَيْلَ مَوْسِمِ الحَجِّ في السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ من البِعْثَةِ الشَّرِيفَةِ، يُخْبِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِمَا لَقِيَ الإِسْلامُ من قَبُولٍ حَسَنٍ في يَثْرِبَ، ويُبَشِّرُهُ بِأَنَّ جَمْعَاً كَبِيرَاً دَخَلَ في الإِسْلامِ، وقد مَسَّ الإِيمَانُ شِغَافَ قُلُوبِهِمْ، وسَوفَ يَرَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من وُفُودِهِمْ بهذا المَوْسِمِ مَا تَقَرُّ بِهِ العَيْنُ.
أيُّها الإخوة الكرام: قَدِمَ الأَنْصَارُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم في حَجِّ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ من البِعْثَةِ مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِم من المُشْرِكِينَ، وقَد تَسَاءَلَ هؤلاءِ المُسْلِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُم، وهم لَمْ يَزَالُوا في يَثْرِبَ أو كَانُوا في الطَّرِيقِ: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ يَطُوفُ ويُطَرَّدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟
اللِّقَاءُ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ سَيِّدُنَا كَعْبُ بنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَن لِقَاءِ الأَنْصَارِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
خَرَجْنَا إلَى الْحَجِّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ مِنْ أَوْسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِن الْحَجِّ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لَهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، أَخَذْنَاهُ مَعَنَا، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِن الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إنَّك سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبَاً لِلنَّارِ غَدَاً، ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إيَّانَا الْعَقَبَةَ.
قَالَ: فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبَاً.
قَالَ كَعْبٌ: فَنِمْنَا تَلِك اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمَيعَادِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلَاً، وَامْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا، نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي أُمُّ مَنِيعٍ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ.
فَاجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إلا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثَّقَ لَهُ.
فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ.
كَلامُ سَيِّدِنَا العَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ أَنْ تَمَّ اللِّقَاءُ بَيْنَ الأَنْصَارِ وَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ كَانَ العَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَوَّلَ المُتَكَلِّمِينَ، حَيْثُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إنَّ مُحَمّدَاً مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا، مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إلا الِانْحِيَازَ إلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُم مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الخُرُوجِ بِهِ إِلَيكُم، فَمِنَ الآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ في عِزٍّ وَمَنَعَةٍ من قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.
قَالَ كَعْبٌ: فَقُلْنَا لَهُ: قَد سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَخُذْ لِنَفْسِك وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ.
فَتَكَلَّمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إلَى اللهِ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمّ قَال: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ».
فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَالذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيَّاً لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَنَحْنُ واللهِ أَبْنَاءُ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرَاً عَنْ كَابِرٍ.
قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرّجَالِ حِبَالَاً، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا ـ يَعْنِي الْيَهُودَ ـ فَهَلْ عَسَيْتَ إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟
قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «بَلْ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ».
بُنُودُ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام أحمد والحاكم بُنُودَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وذلكَ من خِلالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟
قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ».
أيُّها الإخوة الكرام: يَقُولُ سَيِّدُنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلَاً رَجُلَاً، يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ. كَمَا جَاءَ في مُسْنَدِ الإمام أحمد.
وأَمَّا بَيْعَةُ المَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ شَهِدَتَا الوَقْعَةَ، فَكَانَتْ قَوْلاً، لأنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مَا صَافَحَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً قَطُّ، كَمَا جَاءَ في صَحِيحِ الإمام مسلم.
صَرْخَةُ الشَّيْطَانِ بَعْدَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا تَمَّ إِبْرَامُ المُعَاهَدَةِ، وكَانَ القَوْمُ على وَشَكِ الارْفِضَاضِ، اكْتَشَفَهَا أَحَدُ الشَّيَاطِينِ؛ وَحَيْثُ إِنَّ هذا الاكْتِشَافَ جَاءَ في اللَّحْظَةِ الأَخِيرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ إِبْلَاغُ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ هذا الخَبَرَ سِرَّاً، لِيُبَاغِتُوا المُجْتَمِعِينَ وَهُم في الشِّعْبِ، قَامَ ذلكَ الشَّيْطَانُ على مُرْتَفَعٍ من الأَرْضِ، وَصَاحَ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سُمِعَ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ ـ وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ ـ هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصِّبَاةُ مَعَهُ؟ قَد اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، أَمَا واللهِ يَا عَدُوَّ اللهِ، لَأَتَفَرَغَنَّ لَكَ» ثمَ أَمَرَهُم أَنْ يَنْفَضُّوا إلى رِحَالِهِم.
أيُّها الإخوة الكرام: لَمَّا قَرَعَ هذا الخَبَرُ آذَانَ قُرَيْشٍ، وَقَعَتْ فِيهِم ضَجَّةٌ أَثَارَتِ القَلاقِلَ والأَحْزَانَ، لأَنَّهُم كَانُوا على مَعْرِفَةٍ تَامَّةٍ بِعَوَاقِبِ مِثْلِ هذهِ البَيْعَةِ وَنَتَائِجِهَا بالنِّسْبَةِ إلى أَنْفُسِهِم وَأَمْوَالِهِم، فَمَا أَنْ أَصْبَحُوا حَتَّى تَوَجَّهَ وَفْدٌ كَبِيرٌ من زُعَمَاءِ مَكَّةَ وَأَكَابِرُ مُجْرِمِيهَا إلى أَهْلِ يَثْرِبَ؛ لِيُقَدِّمَ احْتِجَاجَهُ الشَّدِيدَ على هذهِ المُعَاهَدَةِ، قَالَ الوَفْدُ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ واللهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِن الْعَرَبِ أَبْغَضُ إلَيْنَا، من أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ.
وَلَمَّا كَانَ مُشْرِكُوا الخَزْرَجِ لا يَعْرِفُونَ شَيْئَاً عن هذهِ البَيْعَةِ؛ لأَنَّهَا تَمَّتْ في سِرِّيَّةٍ تَامَّةٍ في ظَلَامِ اللَّيْلِ، انْبَعَثَ هؤلاءِ المُشْرِكُونَ يَحْلِفُونَ باللهِ، مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ.
حَتَّى أَتَوْا عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هذا بَاطِلٌ، وَمَا كَانَ هذا، وَمَا كَانَ قَوْمِي لِيَفْتَاتُوا عَلَيَّ بِمِثْلِ هذا، وَلَو كُنْتُ بِيَثْرِبَ مَا صَنَعَ قَوْمِي هذا حَتَّى يُؤَامِرُونِي.
أَمَّا المُسلْمِوُنَ فَنَظَرَ بَعْضُهُم إلى بَعْضٍ، ثمَّ لَاذُوا بالصَّمْتِ، فَلَمْ يَتَحَدَّثْ أَحَدٌ مِنهُم بِنَفْيٍ أو إِثْبَاتٍ.
وَمَالَ زُعَمَاءُ قُرَيْشٌ إلى تَصْدِيقِ المُشْرِكِينَ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: هذهِ البَيْعَةُ الثَّانِيَةُ التي تُعْرَفُ بِبَيْعَةِ العَقَبَةِ الكُبْرَى، وقد تَمَّتْ في جَوٍّ تَعْلُوهُ عَوَاطِفُ الحُبِّ والوَلَاءِ، والتَّنَاصُرِ بَيْنَ أَشْتَاتِ المُؤْمِنِينَ، والثِّقَةِ والشَّجَاعَةِ والاسْتِبْسَالِ في هذا السَّبِيلِ.
فَمُؤْمِنٌ من أَهْلِ يَثْرِبَ يَحْنُو على أَخِيهِ المُسْتَضْعَفِ في مَكَّةَ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُ، وَيَغْضَبُ من ظَالِمِهِ، وتَجِيشُ في حَنَايَاهُ مَشَاعِرُ الوُدِّ لهذا الأَخِ الذي أَحَبَّهُ بالغَيْبِ في ذَاتِ اللِه.
وَلَم تَكُنْ هذهِ المَشَاعِرُ والعَوَاطِفُ نَتِيجَةَ نَزْعَةٍ عَابِرَةٍ تَزُولُ على مَرِّ الأَيَّامِ، بَل كَانَ مَصْدَرُهَا هوَ الإِيمَانَ باللهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِكِتَابِهِ، إِيمَانٌ لا يَزُولُ أَمَامَ أَيِّ قُوَّةٍ من قُوَّاتِ الظُّلْمِ والعُدْوَانِ، إِيمَانٌ إذا هَبَّتْ رِيحُهُ جَاءَتْ بالعَجَائِبِ في العَقِيدَةِ والعَمَلِ، وبهذا الإِيمَانِ اسْتَطَاعَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُسَجِّلُوا على أَوْرَاقِ الدَّهْرِ أَعْمَالَاً، وَيَتْرُكُوا عَلَيهَا آثَارَاً خَلَا عَن نَظَائِرِهَا الغَابِرُ والحَاضِرُ، وَسَوْفَ يَخْلُو المُسْتَقْبَلِ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُشَرِّفَنَا بِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ اللهِ تعالى، على أَحْسَنِ حَالٍ يَرْضَاهَا رَبُّنَا عزَّ وجلَّ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin