مع الحبيب المصطفى: إمام الصادقين
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
195ـ إمام الصادقين
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: من قَرَأَ سِيرَةَ الرِّجَالِ العِظَامِ، وتَصَفَّحَ تَارِيخَ النُّبَلاءِ في العَالَمِ، لَن يَجِدَ أَعظَمَ من خَاتَمِ الأَنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَقَد كَانَ أَحسَنَ النَّاسِ خُلُقَاً وخَلْقَاً، أَحَبَّتْهُ القُلُوبُ، وهَابَتْهُ النُّفُوسُ، واجْتَمَعَتْ عَلَيهِ القُلُوبُ، وصَدَقَ مَن قَالَ فِيهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
أيُّها الإخوة الكرام: من أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، لقد ظَهَرَ طُهْرُ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ على وَجْهِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئَاً أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدَاً أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ.
وَقِيلَ لِأَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: كَيفَ كَانَ وَجهُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هَل رَأَيتُمُ البَدْرَ لَيلَةَ أَربَعَةَ عَشَر؟
قَالُوا: نَعَم.
قَالَ: وَاللهِ لَقَد نَظَرتُ إِلى البَدْرِ أَوِ القَمَرِ لَيلَةَ أَربَعَةَ عَشَرَ، وَنَظَرتُ إِلى وَجهِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَاللهِ لَوَجهُهُ أَجمَلُ مِنَ القَمَرِ لَيلَةَ أَربَعَةَ عَشَرَ.
أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا رَأَى عَبْدُ اللهِ بنُ سَلامٍ هذا الوَجْهَ الشَّرِيفَ، ذُهِلَ وعَرَفَ أَنَّهُ لَيسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، لأنَّ وَجْهَ الكَذَّابِ دَائِمَاً مَعْسُوفٌ مَغضُوبٌ عَلَيهِ مَعْقُودٌ، الكَذَّابُ دَائِمَاً يَظْهَرُ الكَذِبُ على وَجْهِهِ، ولَكِنَّ الصَّادِقَ نَظَرَاتُهُ صَادِقَةٌ، ولَمَحَاتُهُ صَادِقَةٌ، وَوَجْهُهُ صَادِقٌ، فَلَمَّا رَأَى وَجْهَهُ الشَّرِيفَ، وسَمِعَ كَلامَهُ، آمَنَ بِدُونِ تَوَقُّفٍ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، لآمَنَ بِي الْيَهُودُ».
يَقُولُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والذي يَظْهَرُ أَنَّهُم الذينَ كَانُوا حِينَئِذٍ رُؤَسَاءُ في اليَهُودِ، وَمَن عَدَاهُم كَانَ تَبَعَاً لَهُم.
ولكن لَمْ يُؤْمِنْ عَشَرَةٌ من عُلَمَائِهِم، لأنَّ اللهَ تعالى كَتَبَ عَلَيهِمُ اللَّعنَةَ.
الصِّدْقُ حِلْيَةُ المُسْلِمِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ من الخِلالِ الكَرِيمَةِ التي تُحَلِّي المُسْلِمَ وتُزَيِّنُهُ الثَّبَاتُ على الصِّدْقِ في القَولِ والعَمَلِ، في السِّرِّ والعَلَنِ، فإنَّ هذهِ الخَلَّةَ الطَّيِّبَةَ كَمَا تَظْهَرُ على الأَقوَالِ، لا بُدَّ أن تَتَمَثَّلَهَا الجَوَارِحُ، ويَرْكَنَ إِلَيهَا القَلبُ، فالمُؤمِنُ الحَقُّ لا يَقُولُ إلا صِدْقَاً، ولا يُخَالِفُ بِأَعمَالِهِ مَا يَقُولُهُ ويَعْتَقِدُهُ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ مَضَوْا، مَا اسْتَقَامُوا على طَرِيقِ رَبِّهِم إلا بِصِدْقِهِم مَعَ رَبِّهِم، وَوَفَائِهِم بِمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً﴾.
فلا نَجَاةَ ولا فَوْزَ في الآخِرَةِ، ولا فَلاحَ ولا تَوْفِيقَ إلا للصَّادِقِينَ، والصِّدْقُ خَيْرٌ للمُتَّقِينَ ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وقَالَ تعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾.
مَن تَحَرَّى الصِّدْقَ في كُلِّ أَمْرٍ كَافَأَهُ اللهُ تعالى على ذلكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: مَن تَحَرَّى الصِّدْقَ في كُلِّ أَمْرٍ كَافَأَهُ اللهُ تعالى على ذلكَ بالنُّزُلِ الكَرِيمِ يَومَ القِيَامَةِ، واللَّقَبِ العَظِيمِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقَاً، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابَاً».
فالصِّدْقُ سَبَبٌ للفَلاحِ دُنيَا وأُخرَى، روى الإمام البخاري عَن أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَن الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ».
فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟
قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ».
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ».
قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟
قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ».
قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ.
قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟
قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ».
قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: واللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ».
أيُّها الإخوة الكرام: مَن أَرَادَ الجَنَّةَ ونَعِيمَهَا فَعَلَيهِ بالصِّدْقِ، ومَن أَرَادَ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا الطَّيِّبَةَ الحَلالَ فَعَلَيهِ كذلكَ بالصِّدْقِ، فَمَن لَزِمَهُ أفَلَحَ ونَجَحَ، روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ؟
قَالَ: «الصِّدْقُ، وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَمَلُ النَّارِ؟
قَالَ: «الْكَذِبُ، إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ، وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ، وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ ـ يَعْنِي النَّارَ ـ».
وروى كذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعَاً، وَلَا تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالْأَمَانَةُ جَمِيعَاً».
سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَتْ حَيَاتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِثَالٍ للإِنسَانِ الكَامِلِ الذي اتَّخَذَ من الصِّدْقِ في القَولِ والأَمَانَةِ خَطَّاً ثَابِتَاً لا يَحِيدُ عَنهُ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ، وقد كَانَ ذلكَ فِيهِ بِمَثَابَةِ السَّجِيَّةِ والطَّبْعِ، فَعُرِفَ بذلكَ حَتَّى قَبْلَ البِعْثَةِ، وَكَانَ لذلكَ يُلَقَّبُ بالصَّادِقِ الأَمِينِ، واشْتُهِرَ بهذا وَعُرِفَ بِهِ بَينَ أَقْرَانِهِ، وَقَد اتَّخَذَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الصِّدْقِ الذي اشْتُهِرَ بِهِ بَينَ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ مَدْخَلَاً إلى المُجَاهَرَةِ بالدَّعْوَةِ، إذ إِنَّهُ لمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ جَمَعَ أَهْلَهُ وَسَأَلَهُم عن مَدَى تَصْدِيقِهِم لَهُ إذا أَخْبَرَهُم بِأَمْرٍ من الأُمُورِ، فَأَجَابُوا بِمَا عَرَفُوا عَنهُ قَائِلِينَ: مَا جَرَّبنَا عَلَيكَ إلا صِدْقَاً، روى الشيخان عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» لِبُطُونِ قُرَيْشٍ، حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ.
فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟».
قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقَاً.
قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبَّاً لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟
فَنَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾.
وَقَد كَانَ الصِّدْقُ من خَصَائِصِ أَقْوَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ صَاحِبُ جَلاءِ الأَفْهَامِ ما خُلَاصَتُهُ: لَقَد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَحْفُوظَ اللِّسَانِ من تَحْرِيفٍ في قَوْلٍ واسْتِرْسَالٍ في خَبَرٍ يَكُونُ إلى الكَذِبِ مَنْسُوبَاً وللصِّدْقِ مُجَانِبَاً.
وَكَانَت قُرَيشٌ كٌلٌّهَا تَعْرِفُ عَنهُ ذلكَ، ولو حَفِظُوا عَلَيهِ كِذْبَةً نَادِرَةً في غَيرِ الرِّسَالَةِ لَجَعَلُوهَا دَلِيلَاً على تَكْذِيبِهِ في الرِّسَالَةِ، ومن لَزِمَ الصِّدْقَ في صِغَرِهِ كَانَ لَهُ في الكِبَرِ أَلْزَمَ، ومن عُصِمَ مِنهُ في حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ في حُقُوقِ اللهِ أَعْصَمَ.
وَبَعْدَ البِعْثَةِ المُبَارَكَةِ كَانَ تَصْدِيقُ الوَحْيِ لَهُ مَدْعَاةً لأنْ يُطْلِقَ عَلَيهِ أَصْحَابُهُ: الصَّادِقَ المَصْدُوقَ، وَصَدَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ إذْ قَالَ: ﴿مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الصِّدْقُ طَريقُ الأَبْرَارِ إلى الجَنَّةِ، والصَّادِقُونَ هُم أَحْبَابُ اللهِ المُقَرَّبُونَ، وهُم مَحْبُوبُونَ عِنْدَ النَّاسِ، والصَّادِقُ يَعْتَزُّ بِنَفْسِهِ، وهوَ مَرْفُوعٌ بَينَ أَفرَادِ مُجْتَمَعِهِ.
الصِّدْقُ مَنْجَاةٌ، والكَذِبُ مَهْوَاةٌ، الصِّدْقُ في الحَدِيثِ يَجْعَلُهُ مُؤَثِّرَاً في القُلُوبِ، والصَّادِقُ مَحْشُورٌ يَومَ القِيَامَةِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ يَومَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً﴾.
اللَّهُمَّ اجعَلنَا من الصَّادِقِينَ في أَقْوَالِهِم وأَفْعَالِهِم وأَحْوَالِهِم. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
195ـ إمام الصادقين
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: من قَرَأَ سِيرَةَ الرِّجَالِ العِظَامِ، وتَصَفَّحَ تَارِيخَ النُّبَلاءِ في العَالَمِ، لَن يَجِدَ أَعظَمَ من خَاتَمِ الأَنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَقَد كَانَ أَحسَنَ النَّاسِ خُلُقَاً وخَلْقَاً، أَحَبَّتْهُ القُلُوبُ، وهَابَتْهُ النُّفُوسُ، واجْتَمَعَتْ عَلَيهِ القُلُوبُ، وصَدَقَ مَن قَالَ فِيهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
روى الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ».
أيُّها الإخوة الكرام: من أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، لقد ظَهَرَ طُهْرُ قَلْبِهِ الشَّرِيفِ على وَجْهِهِ الشَّرِيفِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئَاً أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدَاً أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لَنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا، وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ.
وَقِيلَ لِأَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: كَيفَ كَانَ وَجهُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هَل رَأَيتُمُ البَدْرَ لَيلَةَ أَربَعَةَ عَشَر؟
قَالُوا: نَعَم.
قَالَ: وَاللهِ لَقَد نَظَرتُ إِلى البَدْرِ أَوِ القَمَرِ لَيلَةَ أَربَعَةَ عَشَرَ، وَنَظَرتُ إِلى وَجهِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَاللهِ لَوَجهُهُ أَجمَلُ مِنَ القَمَرِ لَيلَةَ أَربَعَةَ عَشَرَ.
أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا رَأَى عَبْدُ اللهِ بنُ سَلامٍ هذا الوَجْهَ الشَّرِيفَ، ذُهِلَ وعَرَفَ أَنَّهُ لَيسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، لأنَّ وَجْهَ الكَذَّابِ دَائِمَاً مَعْسُوفٌ مَغضُوبٌ عَلَيهِ مَعْقُودٌ، الكَذَّابُ دَائِمَاً يَظْهَرُ الكَذِبُ على وَجْهِهِ، ولَكِنَّ الصَّادِقَ نَظَرَاتُهُ صَادِقَةٌ، ولَمَحَاتُهُ صَادِقَةٌ، وَوَجْهُهُ صَادِقٌ، فَلَمَّا رَأَى وَجْهَهُ الشَّرِيفَ، وسَمِعَ كَلامَهُ، آمَنَ بِدُونِ تَوَقُّفٍ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ آمَنَ بِي عَشَرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، لآمَنَ بِي الْيَهُودُ».
يَقُولُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والذي يَظْهَرُ أَنَّهُم الذينَ كَانُوا حِينَئِذٍ رُؤَسَاءُ في اليَهُودِ، وَمَن عَدَاهُم كَانَ تَبَعَاً لَهُم.
ولكن لَمْ يُؤْمِنْ عَشَرَةٌ من عُلَمَائِهِم، لأنَّ اللهَ تعالى كَتَبَ عَلَيهِمُ اللَّعنَةَ.
الصِّدْقُ حِلْيَةُ المُسْلِمِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ من الخِلالِ الكَرِيمَةِ التي تُحَلِّي المُسْلِمَ وتُزَيِّنُهُ الثَّبَاتُ على الصِّدْقِ في القَولِ والعَمَلِ، في السِّرِّ والعَلَنِ، فإنَّ هذهِ الخَلَّةَ الطَّيِّبَةَ كَمَا تَظْهَرُ على الأَقوَالِ، لا بُدَّ أن تَتَمَثَّلَهَا الجَوَارِحُ، ويَرْكَنَ إِلَيهَا القَلبُ، فالمُؤمِنُ الحَقُّ لا يَقُولُ إلا صِدْقَاً، ولا يُخَالِفُ بِأَعمَالِهِ مَا يَقُولُهُ ويَعْتَقِدُهُ، قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الصَّالِحِينَ مِمَّنْ مَضَوْا، مَا اسْتَقَامُوا على طَرِيقِ رَبِّهِم إلا بِصِدْقِهِم مَعَ رَبِّهِم، وَوَفَائِهِم بِمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيماً﴾.
فلا نَجَاةَ ولا فَوْزَ في الآخِرَةِ، ولا فَلاحَ ولا تَوْفِيقَ إلا للصَّادِقِينَ، والصِّدْقُ خَيْرٌ للمُتَّقِينَ ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ وقَالَ تعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾.
مَن تَحَرَّى الصِّدْقَ في كُلِّ أَمْرٍ كَافَأَهُ اللهُ تعالى على ذلكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: مَن تَحَرَّى الصِّدْقَ في كُلِّ أَمْرٍ كَافَأَهُ اللهُ تعالى على ذلكَ بالنُّزُلِ الكَرِيمِ يَومَ القِيَامَةِ، واللَّقَبِ العَظِيمِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقَاً، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابَاً».
فالصِّدْقُ سَبَبٌ للفَلاحِ دُنيَا وأُخرَى، روى الإمام البخاري عَن أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَن الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ».
فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟
قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ».
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ».
قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟
قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ».
قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ.
قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟
قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ».
قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: واللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ».
أيُّها الإخوة الكرام: مَن أَرَادَ الجَنَّةَ ونَعِيمَهَا فَعَلَيهِ بالصِّدْقِ، ومَن أَرَادَ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا الطَّيِّبَةَ الحَلالَ فَعَلَيهِ كذلكَ بالصِّدْقِ، فَمَن لَزِمَهُ أفَلَحَ ونَجَحَ، روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَمَلُ الْجَنَّةِ؟
قَالَ: «الصِّدْقُ، وَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بَرَّ، وَإِذَا بَرَّ آمَنَ، وَإِذَا آمَنَ دَخَلَ الْجَنَّةَ».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَمَلُ النَّارِ؟
قَالَ: «الْكَذِبُ، إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ فَجَرَ، وَإِذَا فَجَرَ كَفَرَ، وَإِذَا كَفَرَ دَخَلَ ـ يَعْنِي النَّارَ ـ».
وروى كذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعَاً، وَلَا تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالْأَمَانَةُ جَمِيعَاً».
سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِمَامُ الصَّادِقِينَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَتْ حَيَاتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِثَالٍ للإِنسَانِ الكَامِلِ الذي اتَّخَذَ من الصِّدْقِ في القَولِ والأَمَانَةِ خَطَّاً ثَابِتَاً لا يَحِيدُ عَنهُ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ، وقد كَانَ ذلكَ فِيهِ بِمَثَابَةِ السَّجِيَّةِ والطَّبْعِ، فَعُرِفَ بذلكَ حَتَّى قَبْلَ البِعْثَةِ، وَكَانَ لذلكَ يُلَقَّبُ بالصَّادِقِ الأَمِينِ، واشْتُهِرَ بهذا وَعُرِفَ بِهِ بَينَ أَقْرَانِهِ، وَقَد اتَّخَذَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الصِّدْقِ الذي اشْتُهِرَ بِهِ بَينَ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ مَدْخَلَاً إلى المُجَاهَرَةِ بالدَّعْوَةِ، إذ إِنَّهُ لمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ جَمَعَ أَهْلَهُ وَسَأَلَهُم عن مَدَى تَصْدِيقِهِم لَهُ إذا أَخْبَرَهُم بِأَمْرٍ من الأُمُورِ، فَأَجَابُوا بِمَا عَرَفُوا عَنهُ قَائِلِينَ: مَا جَرَّبنَا عَلَيكَ إلا صِدْقَاً، روى الشيخان عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» لِبُطُونِ قُرَيْشٍ، حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ.
فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟».
قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقَاً.
قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ».
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبَّاً لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟
فَنَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾.
وَقَد كَانَ الصِّدْقُ من خَصَائِصِ أَقْوَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ صَاحِبُ جَلاءِ الأَفْهَامِ ما خُلَاصَتُهُ: لَقَد كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَحْفُوظَ اللِّسَانِ من تَحْرِيفٍ في قَوْلٍ واسْتِرْسَالٍ في خَبَرٍ يَكُونُ إلى الكَذِبِ مَنْسُوبَاً وللصِّدْقِ مُجَانِبَاً.
وَكَانَت قُرَيشٌ كٌلٌّهَا تَعْرِفُ عَنهُ ذلكَ، ولو حَفِظُوا عَلَيهِ كِذْبَةً نَادِرَةً في غَيرِ الرِّسَالَةِ لَجَعَلُوهَا دَلِيلَاً على تَكْذِيبِهِ في الرِّسَالَةِ، ومن لَزِمَ الصِّدْقَ في صِغَرِهِ كَانَ لَهُ في الكِبَرِ أَلْزَمَ، ومن عُصِمَ مِنهُ في حَقِّ نَفْسِهِ كَانَ في حُقُوقِ اللهِ أَعْصَمَ.
وَبَعْدَ البِعْثَةِ المُبَارَكَةِ كَانَ تَصْدِيقُ الوَحْيِ لَهُ مَدْعَاةً لأنْ يُطْلِقَ عَلَيهِ أَصْحَابُهُ: الصَّادِقَ المَصْدُوقَ، وَصَدَقَ اللهُ عزَّ وجلَّ إذْ قَالَ: ﴿مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الصِّدْقُ طَريقُ الأَبْرَارِ إلى الجَنَّةِ، والصَّادِقُونَ هُم أَحْبَابُ اللهِ المُقَرَّبُونَ، وهُم مَحْبُوبُونَ عِنْدَ النَّاسِ، والصَّادِقُ يَعْتَزُّ بِنَفْسِهِ، وهوَ مَرْفُوعٌ بَينَ أَفرَادِ مُجْتَمَعِهِ.
الصِّدْقُ مَنْجَاةٌ، والكَذِبُ مَهْوَاةٌ، الصِّدْقُ في الحَدِيثِ يَجْعَلُهُ مُؤَثِّرَاً في القُلُوبِ، والصَّادِقُ مَحْشُورٌ يَومَ القِيَامَةِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ يَومَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً﴾.
اللَّهُمَّ اجعَلنَا من الصَّادِقِينَ في أَقْوَالِهِم وأَفْعَالِهِم وأَحْوَالِهِم. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
اليوم في 19:27 من طرف Admin
» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
اليوم في 19:25 من طرف Admin
» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
اليوم في 19:23 من طرف Admin
» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
اليوم في 19:20 من طرف Admin
» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
اليوم في 19:16 من طرف Admin
» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
اليوم في 19:09 من طرف Admin
» كتاب: رسالة فى التعلق بجنابه والوقوف على بابه صلى الله عليه وسلم ـ الشيخ رشيد الراشد
اليوم في 19:04 من طرف Admin
» كتاب: مطالع الأنوار شرح رشفات السادات الأبرار ـ الإمام عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد بلفقيه
اليوم في 18:54 من طرف Admin
» كتاب: المسألة التيمية فى المنع من شد الرحال للروضة النبوية صنفه دكتور بلال البحر
اليوم في 18:43 من طرف Admin
» كتاب: مختارات من رسائل الشيخ سيدي أحمد التجاني
اليوم في 18:40 من طرف Admin
» كتاب: سلَّم التيسير لليُسرى ـ عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن علي الكاف باعلوي
اليوم في 18:19 من طرف Admin
» كتاب: عمر السيدة عائشة رضى الله عنها يوم العقد والزواج الدكتور صلاح الإدلبي
اليوم في 16:55 من طرف Admin
» كتاب: علماء سلكو التصوف ولبسو الخرقة ـ إدارة موقع الصوفية
اليوم في 16:52 من طرف Admin
» كتاب: روضة المحبين فى الصلاة على سيد الأحبة ـ الحبيب محمد بن عبدالرحمن السقاف
اليوم في 16:49 من طرف Admin
» كتاب: مجالس ابن الجوزي في المتشابه من الآيات القرآنية ـ الشيخ باسم مكداش
اليوم في 16:42 من طرف Admin