مع الحبيب المصطفى: «أُوصِيكُمْ بِالْجَارِ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
180ـ «أُوصِيكُمْ بِالْجَارِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: أَخرَجَ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: «أُوصِيكُمْ بِالْجَارِ». حَتَّى أَكْثَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ لَيُوَرِّثُهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد جَاءَ الإسلامُ لِكَيْ يَجعَلَ التَّرَابُطَ بَينَ أَفرَادِ المُجتَمَعِ ولِكَيْ يَتَوَاصَلُوا، وأن يَتَمَاسَكُوا وتَتَرَاصَّ لَبِنَاتُهُ، وكَانَ هذا مَقْصِدَاً من مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وهَدَفَاً من أَهَمِّ أَهدَافِهِ، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه الإمام مسلم عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: من أَجلِ هذا الهَدَفِ مَا تَرَكَ الإسلامُ طَريقَاً تُوصِلُ إلى المَحَبَّةِ والصَّفَاءِ والتَّرَابُطِ إلا حَضَّ عَلَيهَا ورَغَّبَ فِيهَا، ومَا تَرَكَ طَريقَاً تُوصِلُ إلى العَدَاوَةِ والشَّحنَاءِ بَينَ المُؤمِنِينَ إلا حَذَّرَ مِنهَا وحَرَّمَهَا.
مَنزلَةُ الجَارِ في شَرعِنَا:
أيُّها الإخوة الكرام: من الأَسبَابِ التي تُوصِلُ إلى المَحَبَّةِ والصَّفَاءِ والتَّرَابُطِ بَينَ أَفرَادِ المُجتَمَعِ الإحسَانُ إلى الجِوَارِ، وقد بَالَغَ الشَّرعُ في التَّوصِيَةِ بالجَارِ، حَتَّى قَرَنَهُ تَبَارَكَ وتعالى بِعِبَادَتِهِ وتَوْحِيدِهِ، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَظِيَ الجَارُ في شَرعِنَا على الفَضْلِ والمَكْرُمَةِ في سُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» رواه الشيخان عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وأَخرَجَ الإمام الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ».
وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».
وفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ».
قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ».
التَحذِيرُ من إيذَاءِ الجَارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أَكثَرَ مَا يُلقِي النَّاسَ في النَّارِ بُعدُهُم عن أَخلاقِ الأَبرَارَِ، وتَخَلُّقُهُم بأَخلاقِ الفُجَّارِ، وإنْ أَتَوْا بأَعمَالٍ عِظَامٍ من كَثْرَةِ الصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والصِّيَامِ.
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا.
قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِن الْأَقِطِ ـ أي: بِقِطَعٍ من اللَّبَنِ المُجَفَّفِ ـ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا.
قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ».
وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ.
فَقَالَ: «اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ».
فَطَرَحَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ.
فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ،
قَالَ: «وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟».
قَالَ: يَلْعَنُونِي.
قَالَ: «قَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ».
قَالَ: فَإِنِّي لا أَعُودُ.
فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لَهُ: «ارْفَعْ مَتَاعَكَ فَقَدْ كُفِيتَ».
أيُّها الإخوة الكرام: ومن أَقبَحِ أَنوَاعِ الإيذَاءِ للجَارِ خِيَانَةُ الجَارِ في أَهلِهِ ومَالِهِ، روى الإمام أحمد والطَّبَرَانِيُّ عن الْمِقْدَادِ بن الأَسْوَدِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ عَنِ الزِّنَا.
فَقَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَقَالَ: «لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارَهِ».
قَالَ: وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ.
فَقَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَقَالَ: «لأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَةِ الخَيرِ بالعَبدِ أن يُحِبِّبَهُ إلى جِيرَانِهِ، روى الحاكم عن عَمرِو بنِ الحمقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إذا أَحَبَّ اللهُ عَبدَاً عَسَلَهُ» أي: طَيَّبَ ذِكْرَهُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ حَتَّى يُثنَى عَلَيهِ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا عَسَلُهُ؟
قَالَ: «يُوَفِّقُ لَهُ عَمَلاً صَالِحَاً بَينَ يَدَي أَجَلِهِ حَتَّى يَرضَى عَنهُ جِيرَانُهُ» أو قَالَ: «مَن حَولَهُ».
وفي رِوَايَةٍ للإمام أحمد عن سُرَيْجٍ وَلَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَسَلَهُ».
قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟
قَالَ: «يَفْتَحُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلاً صَالِحاً قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ». ومن العَمَلِ الصَّالِحِ الإحسَانُ إلى الجِوَارِ، وكَفُّ الأَذَى عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: بالجِيرَانِ تَغلُوا الدِّيَارُ وتَرخُصُ، يُروَى أَنَّ إبرَاهِيمَ بنِ حُذَيفَةَ بَاعَ دَارَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ المُشتَرِي أَن يُشْهِدَ عَليهِ. قَالَ: لَستُ أُشهِدُ وَلا أُسَلِّمُهَا حَتَّى يَشتَرُوا مِنِّي جِوَارَ سَعِيدٍ بنِ العَاصِ، وَتَزَايَدُوا فِي الثَّمَن.
قَالُوا: وَهَل رَأَيتَ أَحَداً يَشتَرِي جِوَاراً أَو يَبِيعُهُ؟
قَالَ: أَلَا تَشْتَرُونَ جِوَارَ مَن إِنْ أَسَأتُ إِليهِ أَحسَنَ، وَإِنْ جَهِلتُ عَليهِ حَلِمَ، وَإِنْ أَعسَرتُ وَهَبَ؟ لَا حَاجَةَ لِي فِي بَيعِكُم رُدُّوا عَليَّ دَارِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بنِ العَاص، فَبَعَثَ إِليهِ بِمَائةِ أَلفِ دِرَهَمٍ.
وفي المُقَابِلِ فإنَّ أَحَدَاً من النَّاسِ اضطُّرَّ إلى بَيْعِ مَنزِلِهِ بأَزهَدِ الأَثمَانِ من أَجلِ جَارِهِ، وحِينَ لامَهُ النَّاسُ قَالَ لَهُم:
يَلُومُونَنِي إذْ بِعْت بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي *** وَلَمْ يَـعْرِفُوا جَاراً هُنَاكَ يُنَغِّصُ
فَـقُـلْـت لَهُـمْ: كُـفُّـوا الْمَلَامَ فَـإِنَّهَا *** بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا للإحسَانِ إلى جِوَارِنَا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
180ـ «أُوصِيكُمْ بِالْجَارِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: أَخرَجَ الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَقُولُ: «أُوصِيكُمْ بِالْجَارِ». حَتَّى أَكْثَرَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ لَيُوَرِّثُهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد جَاءَ الإسلامُ لِكَيْ يَجعَلَ التَّرَابُطَ بَينَ أَفرَادِ المُجتَمَعِ ولِكَيْ يَتَوَاصَلُوا، وأن يَتَمَاسَكُوا وتَتَرَاصَّ لَبِنَاتُهُ، وكَانَ هذا مَقْصِدَاً من مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وهَدَفَاً من أَهَمِّ أَهدَافِهِ، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾. وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ؛ رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» رواه الإمام مسلم عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: من أَجلِ هذا الهَدَفِ مَا تَرَكَ الإسلامُ طَريقَاً تُوصِلُ إلى المَحَبَّةِ والصَّفَاءِ والتَّرَابُطِ إلا حَضَّ عَلَيهَا ورَغَّبَ فِيهَا، ومَا تَرَكَ طَريقَاً تُوصِلُ إلى العَدَاوَةِ والشَّحنَاءِ بَينَ المُؤمِنِينَ إلا حَذَّرَ مِنهَا وحَرَّمَهَا.
مَنزلَةُ الجَارِ في شَرعِنَا:
أيُّها الإخوة الكرام: من الأَسبَابِ التي تُوصِلُ إلى المَحَبَّةِ والصَّفَاءِ والتَّرَابُطِ بَينَ أَفرَادِ المُجتَمَعِ الإحسَانُ إلى الجِوَارِ، وقد بَالَغَ الشَّرعُ في التَّوصِيَةِ بالجَارِ، حَتَّى قَرَنَهُ تَبَارَكَ وتعالى بِعِبَادَتِهِ وتَوْحِيدِهِ، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَظِيَ الجَارُ في شَرعِنَا على الفَضْلِ والمَكْرُمَةِ في سُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» رواه الشيخان عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وأَخرَجَ الإمام الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ».
وروى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».
وفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ، واللهِ لَا يُؤْمِنُ».
قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ».
التَحذِيرُ من إيذَاءِ الجَارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أَكثَرَ مَا يُلقِي النَّاسَ في النَّارِ بُعدُهُم عن أَخلاقِ الأَبرَارَِ، وتَخَلُّقُهُم بأَخلاقِ الفُجَّارِ، وإنْ أَتَوْا بأَعمَالٍ عِظَامٍ من كَثْرَةِ الصَّلاةِ والصَّدَقَةِ والصِّيَامِ.
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا.
قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ».
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِن الْأَقِطِ ـ أي: بِقِطَعٍ من اللَّبَنِ المُجَفَّفِ ـ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا.
قَالَ: «هِيَ فِي الْجَنَّةِ».
وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ.
فَقَالَ: «اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ».
فَطَرَحَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ.
فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ،
قَالَ: «وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟».
قَالَ: يَلْعَنُونِي.
قَالَ: «قَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ».
قَالَ: فَإِنِّي لا أَعُودُ.
فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لَهُ: «ارْفَعْ مَتَاعَكَ فَقَدْ كُفِيتَ».
أيُّها الإخوة الكرام: ومن أَقبَحِ أَنوَاعِ الإيذَاءِ للجَارِ خِيَانَةُ الجَارِ في أَهلِهِ ومَالِهِ، روى الإمام أحمد والطَّبَرَانِيُّ عن الْمِقْدَادِ بن الأَسْوَدِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُمْ عَنِ الزِّنَا.
فَقَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَقَالَ: «لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارَهِ».
قَالَ: وَسَأَلَهُمْ عَنِ السَّرِقَةِ.
فَقَالُوا: حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَقَالَ: «لأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشَرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: من عَلامَةِ الخَيرِ بالعَبدِ أن يُحِبِّبَهُ إلى جِيرَانِهِ، روى الحاكم عن عَمرِو بنِ الحمقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إذا أَحَبَّ اللهُ عَبدَاً عَسَلَهُ» أي: طَيَّبَ ذِكْرَهُ بالعَمَلِ الصَّالِحِ حَتَّى يُثنَى عَلَيهِ.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا عَسَلُهُ؟
قَالَ: «يُوَفِّقُ لَهُ عَمَلاً صَالِحَاً بَينَ يَدَي أَجَلِهِ حَتَّى يَرضَى عَنهُ جِيرَانُهُ» أو قَالَ: «مَن حَولَهُ».
وفي رِوَايَةٍ للإمام أحمد عن سُرَيْجٍ وَلَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْراً عَسَلَهُ».
قِيلَ: وَمَا عَسَلُهُ؟
قَالَ: «يَفْتَحُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلاً صَالِحاً قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ». ومن العَمَلِ الصَّالِحِ الإحسَانُ إلى الجِوَارِ، وكَفُّ الأَذَى عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: بالجِيرَانِ تَغلُوا الدِّيَارُ وتَرخُصُ، يُروَى أَنَّ إبرَاهِيمَ بنِ حُذَيفَةَ بَاعَ دَارَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ المُشتَرِي أَن يُشْهِدَ عَليهِ. قَالَ: لَستُ أُشهِدُ وَلا أُسَلِّمُهَا حَتَّى يَشتَرُوا مِنِّي جِوَارَ سَعِيدٍ بنِ العَاصِ، وَتَزَايَدُوا فِي الثَّمَن.
قَالُوا: وَهَل رَأَيتَ أَحَداً يَشتَرِي جِوَاراً أَو يَبِيعُهُ؟
قَالَ: أَلَا تَشْتَرُونَ جِوَارَ مَن إِنْ أَسَأتُ إِليهِ أَحسَنَ، وَإِنْ جَهِلتُ عَليهِ حَلِمَ، وَإِنْ أَعسَرتُ وَهَبَ؟ لَا حَاجَةَ لِي فِي بَيعِكُم رُدُّوا عَليَّ دَارِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بنِ العَاص، فَبَعَثَ إِليهِ بِمَائةِ أَلفِ دِرَهَمٍ.
وفي المُقَابِلِ فإنَّ أَحَدَاً من النَّاسِ اضطُّرَّ إلى بَيْعِ مَنزِلِهِ بأَزهَدِ الأَثمَانِ من أَجلِ جَارِهِ، وحِينَ لامَهُ النَّاسُ قَالَ لَهُم:
يَلُومُونَنِي إذْ بِعْت بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي *** وَلَمْ يَـعْرِفُوا جَاراً هُنَاكَ يُنَغِّصُ
فَـقُـلْـت لَهُـمْ: كُـفُّـوا الْمَلَامَ فَـإِنَّهَا *** بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا للإحسَانِ إلى جِوَارِنَا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin