مع الحبيب المصطفى: «أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
148ـ «أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: الكُلُّ يَعلَمُ أنَّ أَعظَمَ مَعصِيَةٍ هيَ الشِّركُ باللهِ تعالى، ولكنَّ الكَثِيرَ لا يَعلَمُ بأنَّ اللهَ تعالى قَرَنَ بَينَ عُقُوقِ الوَالِدَينِ والشِّركِ في كِتَابِهِ العَظِيمِ، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾.
وسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَينَهُمَا بِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟».
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «الْإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» رواه الشيخان عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: عُقُوقُ الوَالِدَينِ جِنَايَةٌ كَبِيرَةٌ، وذَنبٌ عَظِيمٌ، صَدَّعَ البُيُوتَ، وفَرَّقَ شَمْلَهَا، وبِهِ انهَارَتِ الأُمَمُ، وبِهِ حُجِبَتِ الرَّحمَةُ عن المَخلُوقَاتِ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
هل يَخلُو بَيتٌ من العُقُوقِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: لو سَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا صَاحِبَهُ: هَل أَنتَ عَاقٌّ لِوَالِدَيكَ أم لا؟ وهَل تُؤذِي وَالِدَيكَ أم لا؟ لَجَاءَ الجَوَابُ: أنا لَستُ بِعَاقٍّ لِوَالِدَيَّ؛ ولكنْ لو حَدَّدْنَا العُقُوقَ والأَذَى للوَالِدَينِ بما حَدَّدَهُ الشَّرعُ لَنَا فَقَلَّمَا أن نَرَى من يَنجُو من العُقُوقِ لِوَالِدَيهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَدَّدَ الشَّرعُ الأَذَى والعُقُوقَ للوَالِدَينِ بِقَولِهِ تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾. كَلِمَةُ (أُفٍّ) حَرفَانِ فَقَط، نَهَى رَبُّنَا عزَّ وجلَّ عَنهُمَا، فما بَالُكَ إذا كَانَ الكَلامُ لَهُمَا أَعظَمَ من ذلكَ؟ فما بَالُكَ بالذي يَصرُخُ في وَجْهِهِمَا؟ فما بَالُكَ بالذي يَرفَعُ صَوتَهُ فَوقَ صَوتَيْهِمَا؟
هل هذا هوَ جَزَاءُ شَقَائِهِمَا من أَجلِكَ، ورِعَايَتِهِمَا لَكَ في كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ؟
أيُّها الإخوة الكرام: كَلِمَةُ (أُفٍّ) من العُقُوقِ، والصُّرَاخُ في وَجْهِهِمَا من العُقُوقِ، ورَفْعُ الصَّوتِ فَوقَ صَوْتَيْهِمَا من العُقُوقِ، وأن تُحِدَّ النَّظَرَ إلَيهِمَا من العُقُوقِ.
رَوى ابنُ أَبي شَيبَةَ عن عَمَارَةَ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلتُ لِلحَسَنِ: إلامَ يَنتَهِي العُقُوقُ؟
قَالَ: أن تَحرِمَهُمَا، وتَهجُرَهُمَا، وتُحِدَّ النَّظَرَ إلى وَجْهِ وَالِدَيكَ.
أيُّها الإخوة الكرام: هل يَخلُو بَيتٌ من بُيُوتِ المُسلِمِينَ اليَومَ من العُقُوقِ؟ نَعَم، إذا كَانَ هذا البَيتُ بِدُونِ أَبنَاءٍ، وإذا كَانَ هذا هوَ حَالُنَا، فَأَينَ سَتَنزِلُ رَحمَةَ اللهِ تعالى؟ وعلى من سَتَنزِلُ؟
أَصبَحَ الوَالِدَانِ ذَلِيلَينِ أَمَامَ الوَلَدِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد وَصَلَ الأَمرُ في كَثِيرٍ من البُيُوتِ إلى أن يُصبِحَ الوَالِدَانِ ذَلِيلَينِ أَمَامِ الوَلَدِ، مَعَ أنَّ رَبَّنَا عزَّ جلَّ أَمَرَ بِعَكسِ ذلكَ، رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أَخبَرَنَا بأنَّ العِزَّةَ للهِ ولِرَسُولِهِ وللمُؤمِنِينَ، فقالَ تعالى: ﴿وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾. ولكن استَثنَى رَبُّنَا عزَّ وجلَّ مَوقِفَاً وَاحِدَاً من ذلكَ، ألا وهوَ مَوقِفُ الوَلَدِ أَمَامَ وَالِدَيهِ فَأَمَرَهُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ بِخَفْضِ جَنَاحِ الذُّلِّ لَهُمَا، قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ: هل أَنَا ذَلِيلٌ أَمَامَ وَالِدَيَّ من أجلِ مَرضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟ أم أَقِفُ مَوقِفَ الشُّمُوخِ أَمَامَهُمَا؟ ومن الذي يَقِفُ أَمَامَ الآخَرِ خَافِضَاً جَنَاحَ الذُّلِّ؟
أيُّها الإخوة الكرام: نَسِينَا وَصِيَّةَ اللهِ تعالى لَنَا: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾. ونَسِينَا وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَنَا، روى الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ خِدَاشٍ أَبِي سَلَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ ـ ثَلَاثاً ـ أُوصِي امْرَأً بِأَبِيهِ، أُوصِي امْرَأً بِمَوْلَاهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ أَذىً يُؤْذِيهِ».
وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «بِرَّ أَبَاكَ».
جَمِيعُ أَنوَاعِ العُقُوقِ مُتَمَثِّلَةٌ فِينَا:
أيُّها الإخوة الكرام: لو أَنصَفنَا مَعَ أَنفُسِنَا، لَوَجَدْنَا أنَّ جَمِيعَ أَنوَاعِ العُقُوقِ مُتَمَثِّلَةٌ فِينَا، ومُنتَشِرَةٌ في المُجتَمَعِ انتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيمِ، فَفِي مَجَالِ التَّأَفُّفِ والتَّضَجُّرِ أَمَامَ الوَالِدَينِ حَدِّثْ بِدُونِ حَرَجٍ.
وفي مَجَالِ مَوَاقِفِ الشُّمُوخِ والاستِعلاءِ وعُبُوسِ الوَجْهِ في وَجْهِ الوَالِدَينِ حَدِّثْ بِدُونِ حَرَجٍ.
وفي مَجَالِ ضَرْبِ الوَالِدَينِ، فقد ضَرَبَ البَعضُ آبَاءَهُم وأُمَّهَاتِهِم.
وفي مَجَالِ طَرْدِ الوَالِدَينِ من البَيتِ، فقد طَرَدَ البَعضُ آبَاءَهُم وأُمَّهَاتِهِم.
وفي مَجَالِ استِيدَاعِ الآبَاءِ والأُمَّهَاتِ في دُورِ الرِّعَايَةِ والأَبنَاءُ على قَيْدِ الحَيَاةِ، فقد صَارَ كَثِيرَاً ومُشَاهَدَاً.
وفي مَجَالِ التَّأَفُّفِ عن ضِيَافَةِ الآبَاءِ والأُمَّهَاتِ حَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ، فالكَثِيرُ لا يَتَحَمَّلُ وَالِدَهُ أو وَالِدَتَهُ أَكثَرَ من أُسبُوعٍ أو شَهْرٍ، فإذا خَرَجَا من بَيتِهِ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وحَمِدَ اللهَ عزَّ وجلَّ، وكَأَنَّ حِملاً ثَقِيلاً زَاحَ عن صَدْرِهِ.
وأَمَّا في مَجَالِ النَّفَقَةِ على الوَالِدَينِ والشُّحِّ فِيهَا فَحَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ، تَرَى الوَاحِدَ مِنَّا يُنفِقُ الآلافَ على زَوجَتِهِ وأَولادِهِ بِدُونِ حَرَجٍ، ولكنَّهُ إذا أَرَادَ أن يُعطِيَ وَالِدَيهِ شَيئَاً أَعطَاهُمَا القَلِيلَ مَعَ خُرُوجِ رُوحِهِ أَثنَاءَ العَطَاءِ.
وأَمَّا في مَجَالِ السَّبِّ والشَّتْمِ واللَّعنِ وتَمَنِّي مَوتِهِمَا فَحَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ.
أَينَ كَانَت زَوجَتُكَ وأَبنَاؤُكَ؟
أيُّها الإخوة الكرام: قُولُوا للعَاقِّ لِوَالِدَيهِ من أَجلِ الزَّوجَةِ والوَلَدِ، أو من أَجلِ الدَّرَاهِمِ، أو من أَجلِ الصَّاحِبِ والصَّدِيقِ، أو من أَجلِ مَظهَرٍ من مَظَاهِرِ الدُّنيَا: أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا حَمَلَتْكَ أُمُّكَ تِسعَةَ أَشهُرٍ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ في المَخَاضِ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ تَمضَغُ لَكَ اللُّقمَةَ حتَّى تَضَعَهَا في فِيكَ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ تَسهَرُ من أَجلِ رَاحَتِكَ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ تَفرَحُ لِفَرَحِكَ، وتَحزَنُ لِحُزْنِكَ؟
لمَّا كَبُرتَ واشتَدَّ سَاعِدُكَ وعُودُكَ تَكَبَّرتَ عَلَيهِم، تَذَكَّرْ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في آبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا، ولنَفِرَّ من العُقُوقِ فِرَارَنَا من الشِّرْكِ باللهِ تعالى، لأنَّ العُقُوقَ مَهلَكَةٌ للعَبدِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ.
روى الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفرَدِ عن بَكَّارِ بنِ عَبدِ العَزِيزِ، عن أَبِيهِ، عن جَدِّهِ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ ذُنُوبٍ يُؤَخِّرُ اللهُ مِنهَا ما شَاءَ إلى يَومِ القِيَامَةِ، إلا البَغيُ، وعُقُوقُ الوَالِدَينِ، أو قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، يُعَجِّلُ لِصَاحِبِهَا في الدُّنيَا قَبلَ المَوتِ».
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لِبِرِّهِمَا في الدُّنيا والآخِرَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
148ـ «أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: الكُلُّ يَعلَمُ أنَّ أَعظَمَ مَعصِيَةٍ هيَ الشِّركُ باللهِ تعالى، ولكنَّ الكَثِيرَ لا يَعلَمُ بأنَّ اللهَ تعالى قَرَنَ بَينَ عُقُوقِ الوَالِدَينِ والشِّركِ في كِتَابِهِ العَظِيمِ، قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾.
وسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَينَهُمَا بِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟».
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «الْإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» رواه الشيخان عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: عُقُوقُ الوَالِدَينِ جِنَايَةٌ كَبِيرَةٌ، وذَنبٌ عَظِيمٌ، صَدَّعَ البُيُوتَ، وفَرَّقَ شَمْلَهَا، وبِهِ انهَارَتِ الأُمَمُ، وبِهِ حُجِبَتِ الرَّحمَةُ عن المَخلُوقَاتِ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
هل يَخلُو بَيتٌ من العُقُوقِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: لو سَأَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا صَاحِبَهُ: هَل أَنتَ عَاقٌّ لِوَالِدَيكَ أم لا؟ وهَل تُؤذِي وَالِدَيكَ أم لا؟ لَجَاءَ الجَوَابُ: أنا لَستُ بِعَاقٍّ لِوَالِدَيَّ؛ ولكنْ لو حَدَّدْنَا العُقُوقَ والأَذَى للوَالِدَينِ بما حَدَّدَهُ الشَّرعُ لَنَا فَقَلَّمَا أن نَرَى من يَنجُو من العُقُوقِ لِوَالِدَيهِ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَدَّدَ الشَّرعُ الأَذَى والعُقُوقَ للوَالِدَينِ بِقَولِهِ تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾. كَلِمَةُ (أُفٍّ) حَرفَانِ فَقَط، نَهَى رَبُّنَا عزَّ وجلَّ عَنهُمَا، فما بَالُكَ إذا كَانَ الكَلامُ لَهُمَا أَعظَمَ من ذلكَ؟ فما بَالُكَ بالذي يَصرُخُ في وَجْهِهِمَا؟ فما بَالُكَ بالذي يَرفَعُ صَوتَهُ فَوقَ صَوتَيْهِمَا؟
هل هذا هوَ جَزَاءُ شَقَائِهِمَا من أَجلِكَ، ورِعَايَتِهِمَا لَكَ في كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ؟
أيُّها الإخوة الكرام: كَلِمَةُ (أُفٍّ) من العُقُوقِ، والصُّرَاخُ في وَجْهِهِمَا من العُقُوقِ، ورَفْعُ الصَّوتِ فَوقَ صَوْتَيْهِمَا من العُقُوقِ، وأن تُحِدَّ النَّظَرَ إلَيهِمَا من العُقُوقِ.
رَوى ابنُ أَبي شَيبَةَ عن عَمَارَةَ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قُلتُ لِلحَسَنِ: إلامَ يَنتَهِي العُقُوقُ؟
قَالَ: أن تَحرِمَهُمَا، وتَهجُرَهُمَا، وتُحِدَّ النَّظَرَ إلى وَجْهِ وَالِدَيكَ.
أيُّها الإخوة الكرام: هل يَخلُو بَيتٌ من بُيُوتِ المُسلِمِينَ اليَومَ من العُقُوقِ؟ نَعَم، إذا كَانَ هذا البَيتُ بِدُونِ أَبنَاءٍ، وإذا كَانَ هذا هوَ حَالُنَا، فَأَينَ سَتَنزِلُ رَحمَةَ اللهِ تعالى؟ وعلى من سَتَنزِلُ؟
أَصبَحَ الوَالِدَانِ ذَلِيلَينِ أَمَامَ الوَلَدِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد وَصَلَ الأَمرُ في كَثِيرٍ من البُيُوتِ إلى أن يُصبِحَ الوَالِدَانِ ذَلِيلَينِ أَمَامِ الوَلَدِ، مَعَ أنَّ رَبَّنَا عزَّ جلَّ أَمَرَ بِعَكسِ ذلكَ، رَبُّنَا عزَّ وجلَّ أَخبَرَنَا بأنَّ العِزَّةَ للهِ ولِرَسُولِهِ وللمُؤمِنِينَ، فقالَ تعالى: ﴿وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾. ولكن استَثنَى رَبُّنَا عزَّ وجلَّ مَوقِفَاً وَاحِدَاً من ذلكَ، ألا وهوَ مَوقِفُ الوَلَدِ أَمَامَ وَالِدَيهِ فَأَمَرَهُ رَبُّنَا عزَّ وجلَّ بِخَفْضِ جَنَاحِ الذُّلِّ لَهُمَا، قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسأَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفسَهُ: هل أَنَا ذَلِيلٌ أَمَامَ وَالِدَيَّ من أجلِ مَرضَاةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟ أم أَقِفُ مَوقِفَ الشُّمُوخِ أَمَامَهُمَا؟ ومن الذي يَقِفُ أَمَامَ الآخَرِ خَافِضَاً جَنَاحَ الذُّلِّ؟
أيُّها الإخوة الكرام: نَسِينَا وَصِيَّةَ اللهِ تعالى لَنَا: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾. ونَسِينَا وَصِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَنَا، روى الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ خِدَاشٍ أَبِي سَلَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ، أُوصِي امْرَأً بِأُمِّهِ ـ ثَلَاثاً ـ أُوصِي امْرَأً بِأَبِيهِ، أُوصِي امْرَأً بِمَوْلَاهُ الَّذِي يَلِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ أَذىً يُؤْذِيهِ».
وروى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: «بِرَّ أُمَّكَ».
ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «بِرَّ أَبَاكَ».
جَمِيعُ أَنوَاعِ العُقُوقِ مُتَمَثِّلَةٌ فِينَا:
أيُّها الإخوة الكرام: لو أَنصَفنَا مَعَ أَنفُسِنَا، لَوَجَدْنَا أنَّ جَمِيعَ أَنوَاعِ العُقُوقِ مُتَمَثِّلَةٌ فِينَا، ومُنتَشِرَةٌ في المُجتَمَعِ انتِشَارَ النَّارِ في الهَشِيمِ، فَفِي مَجَالِ التَّأَفُّفِ والتَّضَجُّرِ أَمَامَ الوَالِدَينِ حَدِّثْ بِدُونِ حَرَجٍ.
وفي مَجَالِ مَوَاقِفِ الشُّمُوخِ والاستِعلاءِ وعُبُوسِ الوَجْهِ في وَجْهِ الوَالِدَينِ حَدِّثْ بِدُونِ حَرَجٍ.
وفي مَجَالِ ضَرْبِ الوَالِدَينِ، فقد ضَرَبَ البَعضُ آبَاءَهُم وأُمَّهَاتِهِم.
وفي مَجَالِ طَرْدِ الوَالِدَينِ من البَيتِ، فقد طَرَدَ البَعضُ آبَاءَهُم وأُمَّهَاتِهِم.
وفي مَجَالِ استِيدَاعِ الآبَاءِ والأُمَّهَاتِ في دُورِ الرِّعَايَةِ والأَبنَاءُ على قَيْدِ الحَيَاةِ، فقد صَارَ كَثِيرَاً ومُشَاهَدَاً.
وفي مَجَالِ التَّأَفُّفِ عن ضِيَافَةِ الآبَاءِ والأُمَّهَاتِ حَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ، فالكَثِيرُ لا يَتَحَمَّلُ وَالِدَهُ أو وَالِدَتَهُ أَكثَرَ من أُسبُوعٍ أو شَهْرٍ، فإذا خَرَجَا من بَيتِهِ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وحَمِدَ اللهَ عزَّ وجلَّ، وكَأَنَّ حِملاً ثَقِيلاً زَاحَ عن صَدْرِهِ.
وأَمَّا في مَجَالِ النَّفَقَةِ على الوَالِدَينِ والشُّحِّ فِيهَا فَحَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ، تَرَى الوَاحِدَ مِنَّا يُنفِقُ الآلافَ على زَوجَتِهِ وأَولادِهِ بِدُونِ حَرَجٍ، ولكنَّهُ إذا أَرَادَ أن يُعطِيَ وَالِدَيهِ شَيئَاً أَعطَاهُمَا القَلِيلَ مَعَ خُرُوجِ رُوحِهِ أَثنَاءَ العَطَاءِ.
وأَمَّا في مَجَالِ السَّبِّ والشَّتْمِ واللَّعنِ وتَمَنِّي مَوتِهِمَا فَحَدِّثْ عَنهُ بِدُونِ حَرَجٍ.
أَينَ كَانَت زَوجَتُكَ وأَبنَاؤُكَ؟
أيُّها الإخوة الكرام: قُولُوا للعَاقِّ لِوَالِدَيهِ من أَجلِ الزَّوجَةِ والوَلَدِ، أو من أَجلِ الدَّرَاهِمِ، أو من أَجلِ الصَّاحِبِ والصَّدِيقِ، أو من أَجلِ مَظهَرٍ من مَظَاهِرِ الدُّنيَا: أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا حَمَلَتْكَ أُمُّكَ تِسعَةَ أَشهُرٍ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ في المَخَاضِ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ تَمضَغُ لَكَ اللُّقمَةَ حتَّى تَضَعَهَا في فِيكَ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ تَسهَرُ من أَجلِ رَاحَتِكَ؟
أَينَ كَانَ هؤلاءِ عِندَمَا كَانَت أُمُّكَ تَفرَحُ لِفَرَحِكَ، وتَحزَنُ لِحُزْنِكَ؟
لمَّا كَبُرتَ واشتَدَّ سَاعِدُكَ وعُودُكَ تَكَبَّرتَ عَلَيهِم، تَذَكَّرْ قَولَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى في آبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا، ولنَفِرَّ من العُقُوقِ فِرَارَنَا من الشِّرْكِ باللهِ تعالى، لأنَّ العُقُوقَ مَهلَكَةٌ للعَبدِ في الدُّنيَا والآخِرَةِ.
روى الإمام البخاري في الأَدَبِ المُفرَدِ عن بَكَّارِ بنِ عَبدِ العَزِيزِ، عن أَبِيهِ، عن جَدِّهِ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ ذُنُوبٍ يُؤَخِّرُ اللهُ مِنهَا ما شَاءَ إلى يَومِ القِيَامَةِ، إلا البَغيُ، وعُقُوقُ الوَالِدَينِ، أو قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، يُعَجِّلُ لِصَاحِبِهَا في الدُّنيَا قَبلَ المَوتِ».
اللَّهُمَّ وَفِّقنَا لِبِرِّهِمَا في الدُّنيا والآخِرَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin