مع الحبيب المصطفى: «اِقتَرَبَتِ السَّاعَةُ ولا يَزدَادُ النَّاسُ على الدُّنيا إلا حِرصَاً»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
137ـ لا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: كُلَّما ابتَعَدَ النَّاسُ عن دِينِ الله عزَّ وجلَّ، وعن هَدْيِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكُلَّما ظَهَرَت عَلاماتُ قِيَامِ السَّاعَةِ ازدَادَ النَّاسُ حِرصاً على دُنيَاهُم، وبذلكَ ازدَادُوا بُعداً عن الله عزَّ وجلَّ.
روى الحاكم عن عَبدِ الله بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اِقتَرَبَتِ السَّاعَةُ ولا يَزدَادُ النَّاسُ على الدُّنيا إلا حِرصَاً، ولا يَزدَادُونَ من الله إلا بُعدَاً».
أيُّها الإخوة الكرام: والعَاقِلُ من النَّاسِ، وخاصَّةً مَن كَانَ في سِنِّ الشَّبابِ هوَ الذي يَعرِفُ مَسؤُولِيَّتَهُ ومَهَمَّتَهُ وقَصْدَهُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، وهوَ الذي يَنظُرُ إلى الخَلْقِ نَظْرَةَ العَبدِ المُعتَبِرِ.
إذا رَآهُم قد استَغنَوا بالدُّنيا، فإنَّهُ يَستَغنِي باللهِ تعالى.
وإذا رَآهُم قد فَرِحُوا بالحَياةِ الدُّنيا، فإنَّهُ يَفرَحُ بِاللهِ تعالى.
وإذا رَآهُم قد أنِسُوا بأحِبَّائِهِم، فإنَّهُ يَجعَلُ أُنسَهُ باللهِ تعالى.
وإذا رَآهُم قد تَعَرَّفُوا على سَادَاتِهِم وكُبَرَائِهِم، فإنَّهُ يَتَعَرَّفُ على اللهِ تعالى.
العَاقِلُ مَن عَرَفَ هَدَفَهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: العَاقِلُ مَن عَرَفَ هَدَفَهُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾. ومن خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
العَاقِلُ من النَّاسِ مَن كَانَ هَمُّهُ بَينَ أمرَينِ، أمرٍ سَابِقٍ، وأمرٍ لَاحِقٍ، بَينَ أمرٍ مَضَى، وأمرٍ بَقِيَ، العَاقِلُ هوَ الذي يَجعَلُ هَمَّهُ فيما مَضَى ما اللهُ صَانِعٌ فِيهِ، فَيَسأَلُ اللهَ تعالى أن يَقبَلَ أعمالَهُ الصَّالِحَةَ، وأن يَتَجَاوَزَ ويَعفُوَ عن الخَطَايا والذُّنوبِ.
ويَجعَلُ هَمَّهُ فيما بَقِيَ، فَيَسأَلُ اللهَ تعالى حُسنَ الخِتامِ، لأنَّ قُلوبَ العِبادِ بَينَ أُصبَعَينِ من أصَابِعِ الرَّحمنِ، يُقَلِّبُها كَيفَ يَشَاءُ، فهوَ لا يَدرِي هل يَبقَى على الاستِقَامَةِ أم يُختَمُ لَهُ بِسُوءِ عَمَلِهِ والعِياذُ بالله تعالى؟ وبذلكَ يَخسَرُ الدُّنيا والآخِرَةَ.
العَاقِلُ أيُّها الإخوة الكرام، هوَ الذي يَبكِي خَوفاً من السَّابِقَةِ ماذا كُتِبَ لَهُ، هل هوَ من المُبعَدِينَ عن النَّارِ أم لا؟ وهوَ الذي يَبكِي خَوفاً من سُوءِ الخَاتِمَةِ، فلا يَدرِي بِمَ يُختَمُ لَهُ؟
يَقولُ بَعضُ العَارِفِينَ بالله تعالى: ما أبكَى العُيونَ مِثلُ سِرِّ الخَواتِيمِ، والكِتابُ السَّابِقُ، فالأبرارُ يَقولونَ: ماذا كُتِبَ لنا؟ والمُحسِنونَ يَقولونَ: بماذا يُختَمُ لنا؟
قِيمَةُ الإنسانِ من قِيمَةِ هَدَفِهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: قِيمَةُ الإنسانِ من قِيمَةِ هَدَفِهِ، فَهُناكَ من جَعَلَ هَدَفَهُ وطُمُوحَهُ وحِلمَهُ وأَمَلَهُ وأُمنِيَتَهُ ورَغبَتَهُ مالاً يَجمَعُهُ، أو شُقَّةً يَسكُنُها، أو امرَأَةً يَتَزَوَّجُها، أو مُرَتَّباً يَحصُلُ عَلَيهِ، أو سَيَّارَةً يَركَبُها، أو كُرسِيَّاً يَجلِسُ عَلَيهِ، أو وَظِيفَةً يَنالُها.
وهُناكَ من جَعَلَ هَدَفَهُ وطُمُوحَهُ وحِلمَهُ وأَمَلَهُ وأُمنِيَتَهُ ورَغبَتَهُ أن يَرضَى عَنهُ مَولاهُ، وأن يُختَمَ عَمَلُهُ بأَحَبِّ الأعمالِ إلَيهِ، وأن يَزدَادَ قُرباً من الله تعالى، وأن يُبَلِّغَ رِسَالَةَ الله عزَّ وجلَّ، أن يَأمُرَ بالمَعروفِ ويَنهَى عن المُنكَرِ، وأن يَتبَعَ أكمَلَ الخَلْقِ سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وشَتَّانَ ما بَينَ الأوَّلِ والثَّاني، شَتَّانَ بَينَ مَن كَانَ عَبداً للدِّينارِ والدِّرهَمِ والخَميصَةِ وأعراضِ الدُّنيا، ومَن كَانَ عَبداً لله تعالى وَحْدَهُ، هذا هَانَت عَلَيهِ الدُّنيا فما شَغَلَت قَلبَهُ، وكَانَ مِمَّن قالَ فِيهِ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والذي نَفسِي بِيَدِهِ، لقد أدرَكتُ أقواماً كَانَتِ الدُّنيا أهوَنَ عَلَيهِم من التُّرَابِ الذي يَمشونَ عَلَيهِ. اهـ.
مَن جَعَلَ هَمَّهُ هَمَّاً وَاحِداً، جَعَلَ كُلَّ شَيءٍ يُخَالِفُ أمرَ الله تعالى تَحتَ قَدَمِهِ، فما انشَغَلَ بالتُّرَّهَاتِ، وما انسَاقَ خَلفَ الدُّنيا وسَفَاسِفِ الأُمورِ، وما وَقَعَ في شِراكِ فَتاةٍ ولا في شِراكِ مَنصِبٍ ومالٍ ولا في شِراكِ شَهوَةٍ من الشَّهَواتِ، فما ضَيَّعَ دِينَهُ وأنفاسَ عُمُرِهِ في أُمورٍ دَنِيَّةٍ.
أعُوذُ بالله من لَيلَةٍ صَبَاحُها إلى النَّارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من هؤلاءِ الرِّجالِ الذينَ هَانَت عَلَيهِمُ الدُّنيا بِجَمِيعِ صُوَرِها، وجَعَلَ هَمَّهُ هَمَّاً وَاحِداً ـ إلهي أنتَ مَقصُودِي ورِضَاكَ مَطلُوبِي ـ سَيِّدُنا مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، هوَ في سِنِّ الشَّبابِ، ولَعَلَّ شَبَابَنا يَسمَعونَ كَلامَهُ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عِندَما حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ وهوَ في رَيعانِ الشَّبَابِ لم يَتَجَاوَزْ الرَّابِعَةَ والثَّلاثِينَ من عُمُرِهِ.
جاءَ في أسد الغابة، أنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لمَّا حَضَرَهُ المَوتُ قال: اُنظُروا أَصبَحنَا؟
فَقِيلَ: لَم نُصبِحْ؛ حتَّى أُتِيَ فَقِيلَ: أَصبَحنَا.
فقال: أَعُوذُ بالله من لَيلَةٍ صَبَاحُها إلى النَّارِ! مَرحَباً بالمَوتِ، مَرحَباً زَائِرٌ حَبِيبٌ جَاءَ على فَاقَةٍ! اللَّهُمَّ تَعلَمُ أَنِّي كُنتُ أَخَافُكَ، وأنا اليَومَ أَرجُوكَ، إِنِّي لَم أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنيا وطُولَ البَقَاءِ فِيهَا لِكَريِ الأنهارِ، ولا لِغَرسِ الأشجارِ، ولكن لِظَمَإِ الهَواجِرِ، ومُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ، ومُزَاحَمَةِ العُلَماءِ بالرُّكَبِ عِندَ حِلَقِ الذِّكرِ. اهـ.
وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عن الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: لَمَّا أن حَضَرَ الْمَوْتُ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ بَكَى.
فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ؟
فَقَالَ: واللهِ مَا أَبْكِي جَزَعاً مِنَ الْمَوْتِ، وَلا عَلَى دُنْيَا أُخَلِّفُهَا بَعْدِي، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا هُمَا قَبْضَتَانِ، فَقَبْضَةٌ فِي النَّارِ، وَقَبْضَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَلا أَدْرِي مِنْ أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَكُونُ؟».
أيُّها الإخوة الكرام: سَيِّدُنا مُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَرَفَ اللهَ تعالى، فَأَحَبَّهُ وطَلَبَهُ، ورَضِيَ بِقَضَائِهِ وقَدَرِهِ، وضَرَبَ أروَعَ الأمثِلَةِ في ذلكَ.
لمَّا وَقَعَ الطَّاعونُ بالشَّامِ قالَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: اللَّهُمَّ أَدخِلْ على آلَ مُعَاذٍ نَصِيبَهُم من هذا البَلاءِ.
قال: فَطُعِنَت لَهُ امرَأَتانِ فَمَاتَتَا حتَّى طُعِنَ لَهُ ابنٌ، فَدَخَلَ عَلَيهِ، فقال: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين﴾.
قال : ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِين﴾.
قال : ثمَّ مَاتَ ابنُهُ ذلكَ فَدَفَنَهُ.
قال: ثمَّ طُعِنَ مُعَاذٌ، فَجَعَلَ يُغشَى عَلَيهِ، فإذا أَفَاقَ قال: رَبِّ عُمَّنِي عَمَّتَكَ، فَوَعِزَّتِكَ إِنَّكَ لَتَعلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ.
قال: ثمَّ يُغشَى عَلَيهِ، فإذا أَفَاقَ؛ قال مِثلَ ذلكَ. رواه البيهقي عن قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسأَلْ كُلٌّ مِنَّا نَفسَهُ: ما هوَ هَمِّي في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا؟ هل هوَ الدُّنيا وزَخَارِفُها؟ أم الآخِرَةُ ونَعِيمُها؟ هل هَمُّنا دُنيا فَانِيَةٌ؟ أم آخِرَةٌ بَاقِيَةٌ؟ هل هَمُّنا من أيِّ القَبضَتَينِ سَنَكونَ يَومَ القِيَامَةِ؟ هؤلاءِ إلى الجَنَّةِ، وهؤلاءِ إلى النَّارِ ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير﴾.
نَسأَلُكَ يا رَبَّنا حُسنَ الخَاتِمَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
137ـ لا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: كُلَّما ابتَعَدَ النَّاسُ عن دِينِ الله عزَّ وجلَّ، وعن هَدْيِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وكُلَّما ظَهَرَت عَلاماتُ قِيَامِ السَّاعَةِ ازدَادَ النَّاسُ حِرصاً على دُنيَاهُم، وبذلكَ ازدَادُوا بُعداً عن الله عزَّ وجلَّ.
روى الحاكم عن عَبدِ الله بنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اِقتَرَبَتِ السَّاعَةُ ولا يَزدَادُ النَّاسُ على الدُّنيا إلا حِرصَاً، ولا يَزدَادُونَ من الله إلا بُعدَاً».
أيُّها الإخوة الكرام: والعَاقِلُ من النَّاسِ، وخاصَّةً مَن كَانَ في سِنِّ الشَّبابِ هوَ الذي يَعرِفُ مَسؤُولِيَّتَهُ ومَهَمَّتَهُ وقَصْدَهُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، وهوَ الذي يَنظُرُ إلى الخَلْقِ نَظْرَةَ العَبدِ المُعتَبِرِ.
إذا رَآهُم قد استَغنَوا بالدُّنيا، فإنَّهُ يَستَغنِي باللهِ تعالى.
وإذا رَآهُم قد فَرِحُوا بالحَياةِ الدُّنيا، فإنَّهُ يَفرَحُ بِاللهِ تعالى.
وإذا رَآهُم قد أنِسُوا بأحِبَّائِهِم، فإنَّهُ يَجعَلُ أُنسَهُ باللهِ تعالى.
وإذا رَآهُم قد تَعَرَّفُوا على سَادَاتِهِم وكُبَرَائِهِم، فإنَّهُ يَتَعَرَّفُ على اللهِ تعالى.
العَاقِلُ مَن عَرَفَ هَدَفَهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: العَاقِلُ مَن عَرَفَ هَدَفَهُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾. ومن خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
العَاقِلُ من النَّاسِ مَن كَانَ هَمُّهُ بَينَ أمرَينِ، أمرٍ سَابِقٍ، وأمرٍ لَاحِقٍ، بَينَ أمرٍ مَضَى، وأمرٍ بَقِيَ، العَاقِلُ هوَ الذي يَجعَلُ هَمَّهُ فيما مَضَى ما اللهُ صَانِعٌ فِيهِ، فَيَسأَلُ اللهَ تعالى أن يَقبَلَ أعمالَهُ الصَّالِحَةَ، وأن يَتَجَاوَزَ ويَعفُوَ عن الخَطَايا والذُّنوبِ.
ويَجعَلُ هَمَّهُ فيما بَقِيَ، فَيَسأَلُ اللهَ تعالى حُسنَ الخِتامِ، لأنَّ قُلوبَ العِبادِ بَينَ أُصبَعَينِ من أصَابِعِ الرَّحمنِ، يُقَلِّبُها كَيفَ يَشَاءُ، فهوَ لا يَدرِي هل يَبقَى على الاستِقَامَةِ أم يُختَمُ لَهُ بِسُوءِ عَمَلِهِ والعِياذُ بالله تعالى؟ وبذلكَ يَخسَرُ الدُّنيا والآخِرَةَ.
العَاقِلُ أيُّها الإخوة الكرام، هوَ الذي يَبكِي خَوفاً من السَّابِقَةِ ماذا كُتِبَ لَهُ، هل هوَ من المُبعَدِينَ عن النَّارِ أم لا؟ وهوَ الذي يَبكِي خَوفاً من سُوءِ الخَاتِمَةِ، فلا يَدرِي بِمَ يُختَمُ لَهُ؟
يَقولُ بَعضُ العَارِفِينَ بالله تعالى: ما أبكَى العُيونَ مِثلُ سِرِّ الخَواتِيمِ، والكِتابُ السَّابِقُ، فالأبرارُ يَقولونَ: ماذا كُتِبَ لنا؟ والمُحسِنونَ يَقولونَ: بماذا يُختَمُ لنا؟
قِيمَةُ الإنسانِ من قِيمَةِ هَدَفِهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: قِيمَةُ الإنسانِ من قِيمَةِ هَدَفِهِ، فَهُناكَ من جَعَلَ هَدَفَهُ وطُمُوحَهُ وحِلمَهُ وأَمَلَهُ وأُمنِيَتَهُ ورَغبَتَهُ مالاً يَجمَعُهُ، أو شُقَّةً يَسكُنُها، أو امرَأَةً يَتَزَوَّجُها، أو مُرَتَّباً يَحصُلُ عَلَيهِ، أو سَيَّارَةً يَركَبُها، أو كُرسِيَّاً يَجلِسُ عَلَيهِ، أو وَظِيفَةً يَنالُها.
وهُناكَ من جَعَلَ هَدَفَهُ وطُمُوحَهُ وحِلمَهُ وأَمَلَهُ وأُمنِيَتَهُ ورَغبَتَهُ أن يَرضَى عَنهُ مَولاهُ، وأن يُختَمَ عَمَلُهُ بأَحَبِّ الأعمالِ إلَيهِ، وأن يَزدَادَ قُرباً من الله تعالى، وأن يُبَلِّغَ رِسَالَةَ الله عزَّ وجلَّ، أن يَأمُرَ بالمَعروفِ ويَنهَى عن المُنكَرِ، وأن يَتبَعَ أكمَلَ الخَلْقِ سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وشَتَّانَ ما بَينَ الأوَّلِ والثَّاني، شَتَّانَ بَينَ مَن كَانَ عَبداً للدِّينارِ والدِّرهَمِ والخَميصَةِ وأعراضِ الدُّنيا، ومَن كَانَ عَبداً لله تعالى وَحْدَهُ، هذا هَانَت عَلَيهِ الدُّنيا فما شَغَلَت قَلبَهُ، وكَانَ مِمَّن قالَ فِيهِ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والذي نَفسِي بِيَدِهِ، لقد أدرَكتُ أقواماً كَانَتِ الدُّنيا أهوَنَ عَلَيهِم من التُّرَابِ الذي يَمشونَ عَلَيهِ. اهـ.
مَن جَعَلَ هَمَّهُ هَمَّاً وَاحِداً، جَعَلَ كُلَّ شَيءٍ يُخَالِفُ أمرَ الله تعالى تَحتَ قَدَمِهِ، فما انشَغَلَ بالتُّرَّهَاتِ، وما انسَاقَ خَلفَ الدُّنيا وسَفَاسِفِ الأُمورِ، وما وَقَعَ في شِراكِ فَتاةٍ ولا في شِراكِ مَنصِبٍ ومالٍ ولا في شِراكِ شَهوَةٍ من الشَّهَواتِ، فما ضَيَّعَ دِينَهُ وأنفاسَ عُمُرِهِ في أُمورٍ دَنِيَّةٍ.
أعُوذُ بالله من لَيلَةٍ صَبَاحُها إلى النَّارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من هؤلاءِ الرِّجالِ الذينَ هَانَت عَلَيهِمُ الدُّنيا بِجَمِيعِ صُوَرِها، وجَعَلَ هَمَّهُ هَمَّاً وَاحِداً ـ إلهي أنتَ مَقصُودِي ورِضَاكَ مَطلُوبِي ـ سَيِّدُنا مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، هوَ في سِنِّ الشَّبابِ، ولَعَلَّ شَبَابَنا يَسمَعونَ كَلامَهُ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عِندَما حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ وهوَ في رَيعانِ الشَّبَابِ لم يَتَجَاوَزْ الرَّابِعَةَ والثَّلاثِينَ من عُمُرِهِ.
جاءَ في أسد الغابة، أنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لمَّا حَضَرَهُ المَوتُ قال: اُنظُروا أَصبَحنَا؟
فَقِيلَ: لَم نُصبِحْ؛ حتَّى أُتِيَ فَقِيلَ: أَصبَحنَا.
فقال: أَعُوذُ بالله من لَيلَةٍ صَبَاحُها إلى النَّارِ! مَرحَباً بالمَوتِ، مَرحَباً زَائِرٌ حَبِيبٌ جَاءَ على فَاقَةٍ! اللَّهُمَّ تَعلَمُ أَنِّي كُنتُ أَخَافُكَ، وأنا اليَومَ أَرجُوكَ، إِنِّي لَم أَكُنْ أُحِبُّ الدُّنيا وطُولَ البَقَاءِ فِيهَا لِكَريِ الأنهارِ، ولا لِغَرسِ الأشجارِ، ولكن لِظَمَإِ الهَواجِرِ، ومُكَابَدَةِ السَّاعَاتِ، ومُزَاحَمَةِ العُلَماءِ بالرُّكَبِ عِندَ حِلَقِ الذِّكرِ. اهـ.
وروى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عن الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: لَمَّا أن حَضَرَ الْمَوْتُ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ بَكَى.
فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ؟
فَقَالَ: واللهِ مَا أَبْكِي جَزَعاً مِنَ الْمَوْتِ، وَلا عَلَى دُنْيَا أُخَلِّفُهَا بَعْدِي، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا هُمَا قَبْضَتَانِ، فَقَبْضَةٌ فِي النَّارِ، وَقَبْضَةٌ فِي الْجَنَّةِ، فَلا أَدْرِي مِنْ أَيِّ الْقَبْضَتَيْنِ أَكُونُ؟».
أيُّها الإخوة الكرام: سَيِّدُنا مُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَرَفَ اللهَ تعالى، فَأَحَبَّهُ وطَلَبَهُ، ورَضِيَ بِقَضَائِهِ وقَدَرِهِ، وضَرَبَ أروَعَ الأمثِلَةِ في ذلكَ.
لمَّا وَقَعَ الطَّاعونُ بالشَّامِ قالَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: اللَّهُمَّ أَدخِلْ على آلَ مُعَاذٍ نَصِيبَهُم من هذا البَلاءِ.
قال: فَطُعِنَت لَهُ امرَأَتانِ فَمَاتَتَا حتَّى طُعِنَ لَهُ ابنٌ، فَدَخَلَ عَلَيهِ، فقال: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين﴾.
قال : ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِين﴾.
قال : ثمَّ مَاتَ ابنُهُ ذلكَ فَدَفَنَهُ.
قال: ثمَّ طُعِنَ مُعَاذٌ، فَجَعَلَ يُغشَى عَلَيهِ، فإذا أَفَاقَ قال: رَبِّ عُمَّنِي عَمَّتَكَ، فَوَعِزَّتِكَ إِنَّكَ لَتَعلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ.
قال: ثمَّ يُغشَى عَلَيهِ، فإذا أَفَاقَ؛ قال مِثلَ ذلكَ. رواه البيهقي عن قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسأَلْ كُلٌّ مِنَّا نَفسَهُ: ما هوَ هَمِّي في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا؟ هل هوَ الدُّنيا وزَخَارِفُها؟ أم الآخِرَةُ ونَعِيمُها؟ هل هَمُّنا دُنيا فَانِيَةٌ؟ أم آخِرَةٌ بَاقِيَةٌ؟ هل هَمُّنا من أيِّ القَبضَتَينِ سَنَكونَ يَومَ القِيَامَةِ؟ هؤلاءِ إلى الجَنَّةِ، وهؤلاءِ إلى النَّارِ ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير﴾.
نَسأَلُكَ يا رَبَّنا حُسنَ الخَاتِمَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin