مع الحبيب المصطفى: «لا تطع أصحابك, وأقم على الصدق»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
136ـ لا تطع أصحابك، وأقم على الصدق
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: الإنسانُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا على مَشرَبِ صَدِيقِهِ وجَلِيسِهِ، ولا بُدَّ للمَرءِ من جَلِيسٍ وصَاحِبٍ يَشكُو إلَيهِ أحزانَهُ، ويَستَشِيرُهُ فيما يُلِمُّ به من مَلَمَّاتِ الأُمورِ، ومن ظَنَّ أنَّهُ يَستَغنِي عن صَدِيقٍ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا فهوَ مَغرورٌ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أصبَحَتِ الصَّدَاقَةُ الحَقَّةُ من غَرَائِبِ الدُّنيا، ومن عَجَائِبِ الزَّمانِ، لذلكَ فالوُصُولُ إلى الصَّدِيقِ الصَّالِحِ الصَّادِقِ النَّاصِحِ الوَفِيِّ الخَلِيلِ الحَمِيمِ بَاتَ من أصعَبِ الأُمورِ إن لم يَكُنْ من المُستَحِيلاتِ.
«الرَّجُلُ على دِينِ خَلِيلِهِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا كَانَتِ الصَّدَاقَةُ لها أثَرٌ عَظيمٌ في شَخصِيَّةِ الإنسانِ، وَجَبَ على المُسلِمِ أن يَبحَثَ عن صَدِيقٍ نَافِعٍ لَهُ، وأن يَكونَ هذا الصَّدِيقُ صَالِحاً صَادِقاً مُحَقِّقاً الشُّروطَ التي ذَكَرَها سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما روى أبو يعلى عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قيل: يا رَسولَ الله، أَيُّ جُلَسَائِنا خَيرٌ؟
قال: «مَن ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤيَتُهُ، وزَادَ في عِلمِكُم مَنطِقُهُ، وذَكَّرَكُم بالآخِرَةِ عَمَلُهُ».
أيُّها الإخوة الكرام: المَرءُ على دِينِ خَلِيلِهِ، فالسَّعِيدُ من وَفَّقَهُ اللهُ تعالى لِصُحبَةِ الأخيارِ الأبرارِ الذينَ يَنفَعُونَهُ دُنيا وأُخرَى، وقَد حَرَّضَنا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على صُحبَةِ الأبرارِ فقالَ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» رواه الترمذي وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقال: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنهُ رِيحاً خَبِيثَةً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عنهُ.
لَا تُطِعْ أَصْحَابَكَ، وَأَقِمْ عَلَى الصِّدْقِ:
أيُّها الإخوة الكرام: الصَّدِيقُ الصَّالِحُ هوَ النَّاصِحُ الذي تَكتَسِبُ مِنهُ خُلُقاً فَاضِلاً، ودِيناً وفَضْلاً، وهوَ الذي يُقَرِّبُكَ من الله تعالى، ومن سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هوَ الذي يُحَرِّضُكَ على الصِّدْقِ والاستِقَامَةِ خَشْيَةً عَلَيكَ من الفَضِيحَةِ، هوَ الذي يُحَرِّضُكَ على صِدْقِ التَّوبَةِ لِسَلامَةِ دُنياكَ وآخِرَتِكَ، هوَ الذي يُحَذِّرُكَ من فَضِيحَةِ الدُّنيا والآخِرَةِ.
وهذا ما يَحتَاجُهُ اليَومَ شَبابُنا، ولَعَلَّهُم أن يَتَّخِذُوا لِأَنفُسِهِم سَيِّدَنا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ الذِي كَانَ نَاصِحاً أمِيناً لِمَن أَحَبَّ ومُدَافِعَاً ومُنَافِحَاً عَنهُ، أَن يَتَّخِذُوهُ لِأَنفُسِهِم مَثَلاً رَائِعاً.
جاءَ في صحيحِ البُخاري في قصَّةِ سَيِّدِنَا كعبِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، الذي تَخَلَّفَ عَن غَزوَةِ تَبُوكٍ، يقُولُ سَيِّدِنَا كعبِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ.
فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟»
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ ـ إِشَارَةً إلى إِعجَابِهِ بِنَفسِهِ وَلِبَاسِهِ؛ وقِيلَ: كُنِّيَ بِذَلِكَ عَن حُسنِهِ وَبَهجَتِهِ، والعَرَبُ تَصِفُ الرِّدَاءَ بِصِفَةِ الحُسنِ، وَتُسَمِّيهِ عِطفَاً لُوُقُوعِهِ عَلى عِطفَي الرَّجُلِ أي جَانِبَيهِ ـ.
فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ الله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْراً.
فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَداً، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِماً زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ ـ أي ذَهَبَ عَنِّي مَا كُنتُ أَزُورُهُ فِي نَفسِي مِنَ العُذرِ البَاطِلِ ـ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَداً بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَادِماً، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ.
فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ.
فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ».
فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟».
فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللهِ، لَا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ واللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ».
فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: والله مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَكَ، فَوَاللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي.
وجاءَ في مغازي الواقدي: فَلَقِيتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا قَتَادَةَ فَقَالَا لِي: لَا تُطِعْ أَصْحَابَكَ، وَأَقِمْ عَلَى الصِّدْقِ، فَإِنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَك فَرَجاً وَمَخْرَجاً إنْ شَاءَ اللهُ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ المُعَذّرُونَ، فَإِنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فَسَيَرْضَى اللهُ ذَلِكَ وَيُعْلِمَهُ نَبِيَّهُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَذُمُّهُمْ أَقْبَحَ الذَّمِّ وَيُكَذِّبْ حَدِيثَهُمْ.
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا شَأنُ الصَّدِيقِ والأخِ في اللهِ، فهُوَ نَاصِحٌ بِحَق، ومُدَافِعٌ بِحق.
لا مَخرَجَ لنا من هذهِ الأزمَةِ إلا بالتَّوبَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا مَخرَجَ لنا من هذهِ الأزمَةِ إلا بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ، لا مَخرَجَ لنا من هذا الضِّيقِ إلا بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ الله إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم﴾.
والمُعِينُ على التَّوبَةِ الصُّحبَةُ الصَّالِحَةُ الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ، فهلَّا كُنَّا وكَانَ شَبابُنا كَسَيِّدِنا مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، نَاصِحِينَ لأصحَابِنا، وخَاصَّةً في الأزَماتِ؟
ذُخرٌ في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: الأصحَابُ الأبرارُ ذُخرٌ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ذُخرٌ لنا في الدُّنيا لأنَّهُم نَاصِحُونَ لنا، مُذَكِّرُونَ لنا بِطَاعَةِ الله ورَسولِهِ، ومُحَذِّرُونَ من مُخالَفَةِ أمرِ الله تعالى، وأمرِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وذُخرٌ لنا في الآخِرَةِ لأنَّهُم يَأتونَ شُفَعَاءَ.
يَقولُ سَيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: تَزوَّدوا من الإخوانِ، فإنَّهُم ذُخرٌ في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ.
قالوا: في الحَياةِ الدُّنيا صَدَقتَ، أمَّا في الآخِرَةِ فَكَيفَ؟
قال: يَقولُ سُبحَانَهُ وتعالى في الكَافِرِينَ والمُنافِقِينَ: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾. فلو كَانَ لَهُ صَدِيقٌ صَالِحٌ لَنَفَعَهُ. اهـ.
أيُّها الإخوة الكرام: اِستَكثِرُوا من الأصدِقَاءِ الصَّالِحِينَ، من أهلِ التَّقوَى والرَّشادِ، من النَّاصِحِينَ لا المَادِحِينَ، فإنَّهُم عِزٌّ في الدُّنيا، وشُفَعَاءُ في الآخِرَةِ، ورَحِمَ اللهُ الإمامَ الشَّافِعِيَّ الذي قَالَ:
أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَستُ مِنهُم *** لَـعَلِّي أن أَنَـالَ بِهِم شَفَاعَهْ
وَأَكرَهُ مَـن بِضَاعَتُهُ المَعَـاصِي *** وَلَو كُنَّا سَواءً في البِضَاعَهْ
فَأَجَابَهُ الإمامُ أحمدُ وقَالَ:
تُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَأَنتَ مِنهُم *** وهُم بِكَ يَرتَجُونَ لهُم شَفَاعَهْ
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الصَّدَاقَةُ النَّافِعَةُ هيَ التي بُنِيَت على طَاعَةِ الله عزَّ وجلَّ ومَرضَاتِهِ، ولم تُبنَ على مَطَامِعِ الدُّنيا وشَهَواتِها، الصُّحبَةُ الصَّالِحَةُ هيَ النَّافِعَةُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» وعَدَّ مِنهُم: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي الله، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ».
وفي حَدِيثٍ آخَرَ رواه الإمام أحمد عن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: ... ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْبَلَ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَاداً لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللهِ».
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللهِ، انْعَتْهُمْ لَنَا، ـ يَعْنِي صِفْهُمْ لَنَا ـ
فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ ـ أي لَم يُعلَم مِمَّن هُوَ ـ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ ـ هُوَ الغَرِيبُ الذِي نَزَعَ عَن أَهلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَبَعُدَ وَغَابَ ـ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي الله وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً، وَثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الله الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
أمَّا صُحبَةُ الأشرارِ فهيَ سَرِيعَةُ الزَّوالِ والانقِطاعِ، وتُورِثُ الذُّلَّ والخِزيَ في الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾. وقال تعالى مُخبِراً عَنهُم: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين * وَلا صَدِيقٍ حَمِيم﴾. وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً﴾.
نَسأَلُكَ يا رَبَّنا رَحمَةً تَهدِي بِها قُلوبَنا، وتَجمَعُ بِها شَمْلَنا، وتَلُمُّ بِها شَعْثَنا، وتُرَدُّ بِها عَنَّا الفِتَنَ ما ظَهَرَ وما بَطَنَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
136ـ لا تطع أصحابك، وأقم على الصدق
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: الإنسانُ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا على مَشرَبِ صَدِيقِهِ وجَلِيسِهِ، ولا بُدَّ للمَرءِ من جَلِيسٍ وصَاحِبٍ يَشكُو إلَيهِ أحزانَهُ، ويَستَشِيرُهُ فيما يُلِمُّ به من مَلَمَّاتِ الأُمورِ، ومن ظَنَّ أنَّهُ يَستَغنِي عن صَدِيقٍ في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا فهوَ مَغرورٌ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أصبَحَتِ الصَّدَاقَةُ الحَقَّةُ من غَرَائِبِ الدُّنيا، ومن عَجَائِبِ الزَّمانِ، لذلكَ فالوُصُولُ إلى الصَّدِيقِ الصَّالِحِ الصَّادِقِ النَّاصِحِ الوَفِيِّ الخَلِيلِ الحَمِيمِ بَاتَ من أصعَبِ الأُمورِ إن لم يَكُنْ من المُستَحِيلاتِ.
«الرَّجُلُ على دِينِ خَلِيلِهِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لمَّا كَانَتِ الصَّدَاقَةُ لها أثَرٌ عَظيمٌ في شَخصِيَّةِ الإنسانِ، وَجَبَ على المُسلِمِ أن يَبحَثَ عن صَدِيقٍ نَافِعٍ لَهُ، وأن يَكونَ هذا الصَّدِيقُ صَالِحاً صَادِقاً مُحَقِّقاً الشُّروطَ التي ذَكَرَها سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كما روى أبو يعلى عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قيل: يا رَسولَ الله، أَيُّ جُلَسَائِنا خَيرٌ؟
قال: «مَن ذَكَّرَكُمُ اللهَ رُؤيَتُهُ، وزَادَ في عِلمِكُم مَنطِقُهُ، وذَكَّرَكُم بالآخِرَةِ عَمَلُهُ».
أيُّها الإخوة الكرام: المَرءُ على دِينِ خَلِيلِهِ، فالسَّعِيدُ من وَفَّقَهُ اللهُ تعالى لِصُحبَةِ الأخيارِ الأبرارِ الذينَ يَنفَعُونَهُ دُنيا وأُخرَى، وقَد حَرَّضَنا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على صُحبَةِ الأبرارِ فقالَ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» رواه الترمذي وأبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقال: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنهُ رِيحاً خَبِيثَةً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عنهُ.
لَا تُطِعْ أَصْحَابَكَ، وَأَقِمْ عَلَى الصِّدْقِ:
أيُّها الإخوة الكرام: الصَّدِيقُ الصَّالِحُ هوَ النَّاصِحُ الذي تَكتَسِبُ مِنهُ خُلُقاً فَاضِلاً، ودِيناً وفَضْلاً، وهوَ الذي يُقَرِّبُكَ من الله تعالى، ومن سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هوَ الذي يُحَرِّضُكَ على الصِّدْقِ والاستِقَامَةِ خَشْيَةً عَلَيكَ من الفَضِيحَةِ، هوَ الذي يُحَرِّضُكَ على صِدْقِ التَّوبَةِ لِسَلامَةِ دُنياكَ وآخِرَتِكَ، هوَ الذي يُحَذِّرُكَ من فَضِيحَةِ الدُّنيا والآخِرَةِ.
وهذا ما يَحتَاجُهُ اليَومَ شَبابُنا، ولَعَلَّهُم أن يَتَّخِذُوا لِأَنفُسِهِم سَيِّدَنا مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ الذِي كَانَ نَاصِحاً أمِيناً لِمَن أَحَبَّ ومُدَافِعَاً ومُنَافِحَاً عَنهُ، أَن يَتَّخِذُوهُ لِأَنفُسِهِم مَثَلاً رَائِعاً.
جاءَ في صحيحِ البُخاري في قصَّةِ سَيِّدِنَا كعبِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، الذي تَخَلَّفَ عَن غَزوَةِ تَبُوكٍ، يقُولُ سَيِّدِنَا كعبِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ.
فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ؟»
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ ـ إِشَارَةً إلى إِعجَابِهِ بِنَفسِهِ وَلِبَاسِهِ؛ وقِيلَ: كُنِّيَ بِذَلِكَ عَن حُسنِهِ وَبَهجَتِهِ، والعَرَبُ تَصِفُ الرِّدَاءَ بِصِفَةِ الحُسنِ، وَتُسَمِّيهِ عِطفَاً لُوُقُوعِهِ عَلى عِطفَي الرَّجُلِ أي جَانِبَيهِ ـ.
فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ الله مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْراً.
فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلاً حَضَرَنِي هَمِّي، وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَداً، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِماً زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ ـ أي ذَهَبَ عَنِّي مَا كُنتُ أَزُورُهُ فِي نَفسِي مِنَ العُذرِ البَاطِلِ ـ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَداً بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَادِماً، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ.
فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ.
فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ».
فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟».
فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللهِ، لَا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ واللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ».
فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي: والله مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَكَ، فَوَاللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي.
وجاءَ في مغازي الواقدي: فَلَقِيتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا قَتَادَةَ فَقَالَا لِي: لَا تُطِعْ أَصْحَابَكَ، وَأَقِمْ عَلَى الصِّدْقِ، فَإِنَّ اللهَ سَيَجْعَلُ لَك فَرَجاً وَمَخْرَجاً إنْ شَاءَ اللهُ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ المُعَذّرُونَ، فَإِنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فَسَيَرْضَى اللهُ ذَلِكَ وَيُعْلِمَهُ نَبِيَّهُ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَذُمُّهُمْ أَقْبَحَ الذَّمِّ وَيُكَذِّبْ حَدِيثَهُمْ.
أيُّها الإخوة الكرام: هكذا شَأنُ الصَّدِيقِ والأخِ في اللهِ، فهُوَ نَاصِحٌ بِحَق، ومُدَافِعٌ بِحق.
لا مَخرَجَ لنا من هذهِ الأزمَةِ إلا بالتَّوبَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا مَخرَجَ لنا من هذهِ الأزمَةِ إلا بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ، لا مَخرَجَ لنا من هذا الضِّيقِ إلا بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ الله إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم﴾.
والمُعِينُ على التَّوبَةِ الصُّحبَةُ الصَّالِحَةُ الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ، فهلَّا كُنَّا وكَانَ شَبابُنا كَسَيِّدِنا مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، نَاصِحِينَ لأصحَابِنا، وخَاصَّةً في الأزَماتِ؟
ذُخرٌ في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: الأصحَابُ الأبرارُ ذُخرٌ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ذُخرٌ لنا في الدُّنيا لأنَّهُم نَاصِحُونَ لنا، مُذَكِّرُونَ لنا بِطَاعَةِ الله ورَسولِهِ، ومُحَذِّرُونَ من مُخالَفَةِ أمرِ الله تعالى، وأمرِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وذُخرٌ لنا في الآخِرَةِ لأنَّهُم يَأتونَ شُفَعَاءَ.
يَقولُ سَيِّدُنا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: تَزوَّدوا من الإخوانِ، فإنَّهُم ذُخرٌ في الحَياةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ.
قالوا: في الحَياةِ الدُّنيا صَدَقتَ، أمَّا في الآخِرَةِ فَكَيفَ؟
قال: يَقولُ سُبحَانَهُ وتعالى في الكَافِرِينَ والمُنافِقِينَ: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾. فلو كَانَ لَهُ صَدِيقٌ صَالِحٌ لَنَفَعَهُ. اهـ.
أيُّها الإخوة الكرام: اِستَكثِرُوا من الأصدِقَاءِ الصَّالِحِينَ، من أهلِ التَّقوَى والرَّشادِ، من النَّاصِحِينَ لا المَادِحِينَ، فإنَّهُم عِزٌّ في الدُّنيا، وشُفَعَاءُ في الآخِرَةِ، ورَحِمَ اللهُ الإمامَ الشَّافِعِيَّ الذي قَالَ:
أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَستُ مِنهُم *** لَـعَلِّي أن أَنَـالَ بِهِم شَفَاعَهْ
وَأَكرَهُ مَـن بِضَاعَتُهُ المَعَـاصِي *** وَلَو كُنَّا سَواءً في البِضَاعَهْ
فَأَجَابَهُ الإمامُ أحمدُ وقَالَ:
تُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَأَنتَ مِنهُم *** وهُم بِكَ يَرتَجُونَ لهُم شَفَاعَهْ
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الصَّدَاقَةُ النَّافِعَةُ هيَ التي بُنِيَت على طَاعَةِ الله عزَّ وجلَّ ومَرضَاتِهِ، ولم تُبنَ على مَطَامِعِ الدُّنيا وشَهَواتِها، الصُّحبَةُ الصَّالِحَةُ هيَ النَّافِعَةُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» وعَدَّ مِنهُم: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي الله، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ».
وفي حَدِيثٍ آخَرَ رواه الإمام أحمد عن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: ... ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْبَلَ إِلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَاعْقِلُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَاداً لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللهِ».
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَعْرَابِ مِنْ قَاصِيَةِ النَّاسِ وَأَلْوَى بِيَدِهِ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: يَا نَبِيَّ الله، نَاسٌ مِنَ النَّاسِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللهِ، انْعَتْهُمْ لَنَا، ـ يَعْنِي صِفْهُمْ لَنَا ـ
فَسُرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ نَاسٌ مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ ـ أي لَم يُعلَم مِمَّن هُوَ ـ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ ـ هُوَ الغَرِيبُ الذِي نَزَعَ عَن أَهلِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَبَعُدَ وَغَابَ ـ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي الله وَتَصَافَوْا، يَضَعُ اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً، وَثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ الله الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ».
أمَّا صُحبَةُ الأشرارِ فهيَ سَرِيعَةُ الزَّوالِ والانقِطاعِ، وتُورِثُ الذُّلَّ والخِزيَ في الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ﴾. وقال تعالى مُخبِراً عَنهُم: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِين * وَلا صَدِيقٍ حَمِيم﴾. وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً﴾.
نَسأَلُكَ يا رَبَّنا رَحمَةً تَهدِي بِها قُلوبَنا، وتَجمَعُ بِها شَمْلَنا، وتَلُمُّ بِها شَعْثَنا، وتُرَدُّ بِها عَنَّا الفِتَنَ ما ظَهَرَ وما بَطَنَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin