مع الحبيب المصطفى: «أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
114ـ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: تَأَمَّلوا سَفَرَكُم من الدُّنيا الذي سَيُفَاجِئُكُم، تَأَمَّلوا المَوقِفَ العَظيمَ الذي يَنتَظِرُكُم، وأعِدُّوا لهُ عُدَّتَهُ، وخُذوا لهُ أُهبَتَهُ، الكُلُّ عِندَ خُروجِ رُوحِهِ من جَسَدِهِ سَوفَ يُجَرَّدُ من دُنياهُ التي تَمَسَّكَ بها، وخاصَمَ من أجلِها، وتَدَابَرَ مَعَ إخوانِهِ من أجلِ حُطامِها، ورُبَّما سَفَكَ الدِّماءَ للوُصولِ إلى عَرَضٍ من أعراضِها، وسَوفَ يُلَفُّ بِأثوابِ الكَفَنِ، فَكَما لا يَلقى النَّاسُ بَيتَ الله تعالى إلا مُخالِفينَ عَاداتِهِم في اللِّباسِ والهَيئَةِ، كذلكَ لا يَلقَونَ اللهَ بَعدَ المَوتِ إلا في زِيٍّ مُخالِفٍ لِزِيِّ الدُّنيا، الكُلُّ فيهِ سَواءٌ، قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾.
قُولُوا لمن مَلَكَ الدُّنيا بأجمَعِها *** هل رَاحَ منها بِغَيرِ القُطنِ والكَفَنِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: لِسانُ حالِ المَيْتِ وهوَ بأكفانِهِ يَقولُ: جِئنا إلى الدُّنيا حُفاةً عُراةً غُرلاً فُقَراءَ، وها نَحنُ نَخرُجُ منها كما دَخَلنا.
تَفَكَّروا في المَصيرِ ومَآلِهِ، يا من استَأنَسَ بِبَيتِهِ، واغتَرَّ بِمالِهِ وسُلطانِهِ، ناسِياً ذُنوبَهُ وخَطاياهُ، يا مُعرِضاً عن إصلاحِ حَالِهِ، يا من لم يَتَزَوَّدْ لِيَومِ رَحيلِهِ، يا من حَمَلَ وِزرَهُ وَوِزرَ غَيرِهِ، يا من رَضِيَ بِحَمْلِ أثقالِهِ وأثقالاً مَعَ أثقالِهِ، لن تَخرُجَ من الدُّنيا إلى قَبْرِكَ إلا بالكَفَنِ والقُطنِ، ولن يَصحَبَكَ شَيءٌ مِمَّا اغتَرَرْتَ به إلا عَمَلُكَ، كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» رواه الشيخان عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
«وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ»:
أيُّها الإخوة الكرام: من حَقِّ المُؤمِنِ على أخيهِ بَعدَ مَوتِهِ أن يُكَفِّنَهُ، واتَّفَقَ الفُقَهاءُ على أنَّ تَكفينَ المَيْتِ بما يَستُرُهُ فَرضٌ على الكِفَايَةِ، وذلكَ للحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».
وروى ابن ماجه عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضُ، فَالْبَسُوهَا وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».
أيُّها الإخوة الكرام: لقد رَغَّبَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تَكفينِ المَيْتِ، روى الحاكم عن أبي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ومن كَفَّنَ مَيْتاً كَساهُ اللهُ من سُندُسِ وإستَبرَقِ الجَنَّةِ».
وفي رِوايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الأوسَطِ عن جَابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ومن كَفَّنَ مَيْتاً كَسَاهُ اللهُ أثواباً من حُلَلِ الجَنَّةِ».
وروى الإمام مسلم عن جَابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ». ولكن بِدونِ مُغالاةٍ، لما روى أبو داود عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: لَا تُغَالِ لِي فِي كَفَنٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَغَالَوْا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُهُ سَلْباً سَرِيعاً».
أنواعُ الكَفَنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: الكَفَنُ ثَلاثَةُ أنواعٍ:
أولاً كَفَنُ السُّنَّةِ:
وهوَ أكمَلُ الأكفانِ، وهوَ للرَّجُلِ ثَلاثَةُ أثوابٍ: إزارٌ، وقَميصٌ، ولُفافَةٌ.
القَميصُ: يَكونُ من أصلِ العُنُقِ إلى القَدَمَينِ.
والإزارُ: من أعلى الرَّأسِ إلى القَدَمِ بِخِلافِ إزارِ الحَيِّ، واللُّفَافَةُ كذلكَ.
والكَفَنُ للمَرأَةِ خَمسَةُ أثوابٍ: قَميصٌ، وإزارٌ، وخِمارٌ، ولُفَافَةٌ، وخِرقَةٌ تُربَطُ فَوقَ ثَديَيْها.
ثانياً: كَفَنُ الكِفَايَةِ:
وهوَ أدنى ما يَلبَسُ الإنسانُ حَالَ الحَياةِ، وهوَ ثَوبانِ، لما رواهُ ابنُ سَعدٍ من طَريقِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ بنِ أبي بَكرٍ قال: قال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ اللَّذَينِ كُنتُ أُصَلِّي فيهِمَا، واغسِلُوهُمَا فَإنَّهُمَا لِلمُهْلِ وَالتُّرَابِ. المُهْل: القَيحُ والصَّدِيدُ.
كَفَنُ الضَّرورَةِ:
وهوَ مِقدارُ ما يُوجَدُ حَالَ الضَّرورَةِ بأنْ لا يُوجَدُ غَيرُهُ، وأقَلُّهُ ما يُعَمِّمُ البَدَنَ، لما روى الإمام مسلم عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ الله نَبْتَغِي وَجْهَ الله، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى الله، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ ـ شَمْلَةٌ فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ أَوْ بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ كَأَنَّهَا أُخِذَت مِن لَونِ النَّمِر ـ فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ». ـ نَبْتٌ عَرِيضُ الْأَوْرَاقِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ـ
وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا ـ أي: أَدْرَكَتْ وَنَضِجَتْ فهو يَجْتَنِيهَا ـ.
ولما رُوِيَ أنَّ سَيِّدَنا حَمزَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ لمَّا استُشهِدَ كُفِّنَ في ثَوبٍ واحِدٍ، كما روى الإمام أحمد عن أَبِي الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَت امْرَأَةٌ تَسْعَى، حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تُشْرِفَ عَلَى الْقَتْلَى قَالَ: فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرَاهُمْ.
فَقَالَ: الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ.
قَالَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَتَوَسَّمْتُ أَنَّهَا أُمِّي صَفِيَّةُ.
قَالَ: فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا، فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلَى.
قَالَ: فَلَدَمَتْ ـ ضَرَبَتْ ـ فِي صَدْرِي، وَكَانَت امْرَأَةً جَلْدَةً. ـ قَوِيَّةً ـ
قَالَتْ: إِلَيْكَ لَا أَرْضَ لَكَ. ـ كلمَةُ ذَمٍ، تقالُ، مَع أنَّهُم يَعلَمُونَ أنَّ لهُ أرضَاً ـ
قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ عَلَيْكِ.
قَالَ: فَوَقَفَتْ وَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا.
فَقَالَتْ: هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا لِأَخِي حَمْزَةَ، فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا.
قَالَ: فَجِئْنَا بِالثَّوْبَيْنِ لِنُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ، فَإِذَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِن الْأَنْصَارِ قَتِيلٌ قَدْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِحَمْزَةَ.
قَالَ: فَوَجَدْنَا غَضَاضَةً ـ مَذَلَّةً ومَنقَصَةً وعَيبَاً ـ وَحَيَاءً أَنْ نُكَفِّنَ حَمْزَةَ فِي ثَوْبَيْنِ وَالْأَنْصَارِيُّ لَا كَفَنَ لَهُ.
فَقُلْنَا: لِحَمْزَةَ ثَوْبٌ وَلِلْأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ، فَقَدَرْنَاهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ مِن الْآخَرِ، فَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا فَكَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي صَارَ لَهُ.
تَطييبُ الكَفَنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: يُستَحَبُّ تَطييبُ كَفَنِ الرَّجُلِ والمَرأَةِ ثَلاثاً قَبلَ التَّكفينِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلَاثاً ». أي: إذا بَخَّرتُمُوهُ بالطِّيبِ ـ
إعدادُ الكَفَنِ مُقَدَّماً:
أيُّها الإخوة الكرام: ولا حَرَجَ من إعدادِ الكَفَنِ مُقَدَّماً، لما روى الإمام البخاري عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟
قَالُوا: الشَّمْلَةُ. ـ كِسَاءٌ يُتَغَطَّى بِهِ ويُتَلَفَّفُ فيهِ ـ
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي، فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ.
فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا.
قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ.
قَالَ: إِنِّي والله مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي.
قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: في خِتامِ الحَديثِ عن الكَفَنِ الذي هوَ من حَقِّ المُسلِمِ بَعدَ مَوتِهِ أَذكُرُ لَكُم حَديثاً رواهُ الإمامُ البخاري عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ.
فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ.
فَقَالَ: آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَقَالَ: أَلَيْسَ اللهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟
فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ قَالَ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾.
فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: تَوَاضَعوا لِعِبادِ الله، وازهَدوا في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، وكونوا كالجَسَدِ الوَاحِدِ، وكونوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، اُترُكوا التَّحَاسُدَ والتَّبَاغُضَ والكِبرَ والاستِعلاءَ، واعلَموا أنَّهُ كما دَخَلنا الدُّنيا سَنَخرُجُ منها، قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾.
هذا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدفَعُ قَميصَهُ لِعَبدِ الله ابنِ عَبدِ الله بنِ أُبَيٍّ لِيُكَفِّنَ فيهِ أباهُ الذي قالَ: ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾. والذي قالَ: ﴿لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنفَضُّوا﴾. والذي قالَ ما قالَ في حَقِّ أُمِّنا السَّيِّدَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فأينَ نَحنُ من سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
اللَّهُمَّ رُدَّنا إلَيكَ رَدَّاً جَميلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
114ـ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: تَأَمَّلوا سَفَرَكُم من الدُّنيا الذي سَيُفَاجِئُكُم، تَأَمَّلوا المَوقِفَ العَظيمَ الذي يَنتَظِرُكُم، وأعِدُّوا لهُ عُدَّتَهُ، وخُذوا لهُ أُهبَتَهُ، الكُلُّ عِندَ خُروجِ رُوحِهِ من جَسَدِهِ سَوفَ يُجَرَّدُ من دُنياهُ التي تَمَسَّكَ بها، وخاصَمَ من أجلِها، وتَدَابَرَ مَعَ إخوانِهِ من أجلِ حُطامِها، ورُبَّما سَفَكَ الدِّماءَ للوُصولِ إلى عَرَضٍ من أعراضِها، وسَوفَ يُلَفُّ بِأثوابِ الكَفَنِ، فَكَما لا يَلقى النَّاسُ بَيتَ الله تعالى إلا مُخالِفينَ عَاداتِهِم في اللِّباسِ والهَيئَةِ، كذلكَ لا يَلقَونَ اللهَ بَعدَ المَوتِ إلا في زِيٍّ مُخالِفٍ لِزِيِّ الدُّنيا، الكُلُّ فيهِ سَواءٌ، قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾.
قُولُوا لمن مَلَكَ الدُّنيا بأجمَعِها *** هل رَاحَ منها بِغَيرِ القُطنِ والكَفَنِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: لِسانُ حالِ المَيْتِ وهوَ بأكفانِهِ يَقولُ: جِئنا إلى الدُّنيا حُفاةً عُراةً غُرلاً فُقَراءَ، وها نَحنُ نَخرُجُ منها كما دَخَلنا.
تَفَكَّروا في المَصيرِ ومَآلِهِ، يا من استَأنَسَ بِبَيتِهِ، واغتَرَّ بِمالِهِ وسُلطانِهِ، ناسِياً ذُنوبَهُ وخَطاياهُ، يا مُعرِضاً عن إصلاحِ حَالِهِ، يا من لم يَتَزَوَّدْ لِيَومِ رَحيلِهِ، يا من حَمَلَ وِزرَهُ وَوِزرَ غَيرِهِ، يا من رَضِيَ بِحَمْلِ أثقالِهِ وأثقالاً مَعَ أثقالِهِ، لن تَخرُجَ من الدُّنيا إلى قَبْرِكَ إلا بالكَفَنِ والقُطنِ، ولن يَصحَبَكَ شَيءٌ مِمَّا اغتَرَرْتَ به إلا عَمَلُكَ، كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ» رواه الشيخان عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
«وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ»:
أيُّها الإخوة الكرام: من حَقِّ المُؤمِنِ على أخيهِ بَعدَ مَوتِهِ أن يُكَفِّنَهُ، واتَّفَقَ الفُقَهاءُ على أنَّ تَكفينَ المَيْتِ بما يَستُرُهُ فَرضٌ على الكِفَايَةِ، وذلكَ للحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».
وروى ابن ماجه عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضُ، فَالْبَسُوهَا وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».
أيُّها الإخوة الكرام: لقد رَغَّبَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تَكفينِ المَيْتِ، روى الحاكم عن أبي رَافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ومن كَفَّنَ مَيْتاً كَساهُ اللهُ من سُندُسِ وإستَبرَقِ الجَنَّةِ».
وفي رِوايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الأوسَطِ عن جَابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ومن كَفَّنَ مَيْتاً كَسَاهُ اللهُ أثواباً من حُلَلِ الجَنَّةِ».
وروى الإمام مسلم عن جَابِرِ بنِ عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحَسِّنْ كَفَنَهُ». ولكن بِدونِ مُغالاةٍ، لما روى أبو داود عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: لَا تُغَالِ لِي فِي كَفَنٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَغَالَوْا فِي الْكَفَنِ، فَإِنَّهُ يُسْلَبُهُ سَلْباً سَرِيعاً».
أنواعُ الكَفَنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: الكَفَنُ ثَلاثَةُ أنواعٍ:
أولاً كَفَنُ السُّنَّةِ:
وهوَ أكمَلُ الأكفانِ، وهوَ للرَّجُلِ ثَلاثَةُ أثوابٍ: إزارٌ، وقَميصٌ، ولُفافَةٌ.
القَميصُ: يَكونُ من أصلِ العُنُقِ إلى القَدَمَينِ.
والإزارُ: من أعلى الرَّأسِ إلى القَدَمِ بِخِلافِ إزارِ الحَيِّ، واللُّفَافَةُ كذلكَ.
والكَفَنُ للمَرأَةِ خَمسَةُ أثوابٍ: قَميصٌ، وإزارٌ، وخِمارٌ، ولُفَافَةٌ، وخِرقَةٌ تُربَطُ فَوقَ ثَديَيْها.
ثانياً: كَفَنُ الكِفَايَةِ:
وهوَ أدنى ما يَلبَسُ الإنسانُ حَالَ الحَياةِ، وهوَ ثَوبانِ، لما رواهُ ابنُ سَعدٍ من طَريقِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ بنِ أبي بَكرٍ قال: قال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ اللَّذَينِ كُنتُ أُصَلِّي فيهِمَا، واغسِلُوهُمَا فَإنَّهُمَا لِلمُهْلِ وَالتُّرَابِ. المُهْل: القَيحُ والصَّدِيدُ.
كَفَنُ الضَّرورَةِ:
وهوَ مِقدارُ ما يُوجَدُ حَالَ الضَّرورَةِ بأنْ لا يُوجَدُ غَيرُهُ، وأقَلُّهُ ما يُعَمِّمُ البَدَنَ، لما روى الإمام مسلم عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ الله نَبْتَغِي وَجْهَ الله، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى الله، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئاً، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ ـ شَمْلَةٌ فِيهَا خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ أَوْ بُرْدَةٌ مِنْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا الْأَعْرَابُ كَأَنَّهَا أُخِذَت مِن لَونِ النَّمِر ـ فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ». ـ نَبْتٌ عَرِيضُ الْأَوْرَاقِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ ـ
وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا ـ أي: أَدْرَكَتْ وَنَضِجَتْ فهو يَجْتَنِيهَا ـ.
ولما رُوِيَ أنَّ سَيِّدَنا حَمزَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ لمَّا استُشهِدَ كُفِّنَ في ثَوبٍ واحِدٍ، كما روى الإمام أحمد عن أَبِي الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَت امْرَأَةٌ تَسْعَى، حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تُشْرِفَ عَلَى الْقَتْلَى قَالَ: فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرَاهُمْ.
فَقَالَ: الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ.
قَالَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَتَوَسَّمْتُ أَنَّهَا أُمِّي صَفِيَّةُ.
قَالَ: فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا، فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلَى.
قَالَ: فَلَدَمَتْ ـ ضَرَبَتْ ـ فِي صَدْرِي، وَكَانَت امْرَأَةً جَلْدَةً. ـ قَوِيَّةً ـ
قَالَتْ: إِلَيْكَ لَا أَرْضَ لَكَ. ـ كلمَةُ ذَمٍ، تقالُ، مَع أنَّهُم يَعلَمُونَ أنَّ لهُ أرضَاً ـ
قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ عَلَيْكِ.
قَالَ: فَوَقَفَتْ وَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا.
فَقَالَتْ: هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا لِأَخِي حَمْزَةَ، فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا.
قَالَ: فَجِئْنَا بِالثَّوْبَيْنِ لِنُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ، فَإِذَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِن الْأَنْصَارِ قَتِيلٌ قَدْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِحَمْزَةَ.
قَالَ: فَوَجَدْنَا غَضَاضَةً ـ مَذَلَّةً ومَنقَصَةً وعَيبَاً ـ وَحَيَاءً أَنْ نُكَفِّنَ حَمْزَةَ فِي ثَوْبَيْنِ وَالْأَنْصَارِيُّ لَا كَفَنَ لَهُ.
فَقُلْنَا: لِحَمْزَةَ ثَوْبٌ وَلِلْأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ، فَقَدَرْنَاهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ مِن الْآخَرِ، فَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا فَكَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي صَارَ لَهُ.
تَطييبُ الكَفَنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: يُستَحَبُّ تَطييبُ كَفَنِ الرَّجُلِ والمَرأَةِ ثَلاثاً قَبلَ التَّكفينِ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام أحمد عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلَاثاً ». أي: إذا بَخَّرتُمُوهُ بالطِّيبِ ـ
إعدادُ الكَفَنِ مُقَدَّماً:
أيُّها الإخوة الكرام: ولا حَرَجَ من إعدادِ الكَفَنِ مُقَدَّماً، لما روى الإمام البخاري عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟
قَالُوا: الشَّمْلَةُ. ـ كِسَاءٌ يُتَغَطَّى بِهِ ويُتَلَفَّفُ فيهِ ـ
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي، فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ.
فَقَالَ: اكْسُنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا.
قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجاً إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ.
قَالَ: إِنِّي والله مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي.
قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ.
أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: في خِتامِ الحَديثِ عن الكَفَنِ الذي هوَ من حَقِّ المُسلِمِ بَعدَ مَوتِهِ أَذكُرُ لَكُم حَديثاً رواهُ الإمامُ البخاري عَنْ عَبْدِ الله ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ.
فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ.
فَقَالَ: آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَقَالَ: أَلَيْسَ اللهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟
فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ قَالَ: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾.
فَصَلَّى عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: تَوَاضَعوا لِعِبادِ الله، وازهَدوا في هذهِ الحَياةِ الدُّنيا، وكونوا كالجَسَدِ الوَاحِدِ، وكونوا كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، اُترُكوا التَّحَاسُدَ والتَّبَاغُضَ والكِبرَ والاستِعلاءَ، واعلَموا أنَّهُ كما دَخَلنا الدُّنيا سَنَخرُجُ منها، قال تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾.
هذا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدفَعُ قَميصَهُ لِعَبدِ الله ابنِ عَبدِ الله بنِ أُبَيٍّ لِيُكَفِّنَ فيهِ أباهُ الذي قالَ: ﴿لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ﴾. والذي قالَ: ﴿لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنفَضُّوا﴾. والذي قالَ ما قالَ في حَقِّ أُمِّنا السَّيِّدَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، فأينَ نَحنُ من سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
اللَّهُمَّ رُدَّنا إلَيكَ رَدَّاً جَميلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin