مع الحبيب المصطفى: «فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
107ـ «فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: المَحَبَّةُ على قِسمَينِ:
مَحَبَّةٌ عاقِلَةٌ نافِعَةٌ مُعَمِّرَةٌ لِدُنيا المَحبوبِ وآخِرَتِهِ.
ومَحَبَّةٌ رَعناءُ جَاهِلَةٌ ضَارَّةٌ حَمقاءُ مُدَمِّرَةٌ لِدُنيا المَحبوبِ وآخِرَتِهِ.
وسَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أحَبَّ أُمَّتَهُ أكثَرَ من حُبِّهِم لِذَواتِهِم بِشَهادَةِ قَولِ الله عزَّ وجلَّ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾. ولقد كانَ حُبُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ نافِعَاً مُعَمِّرَاً لِدُنيا أُمَّتِهِ وآخِرَتِها.
لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُبُّهُ للجَميعِ، لأنَّهُ أُرسِلَ للجَميعِ، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾. والدَّليلُ على أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ يُحِبُّ الجَميعَ هوَ حِرصُهُ على هِدايَةِ الجَميعِ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾. على أُمَّتِهِ جَميعاً بِشِقَّيها أُمَّةِ الدَّعوَةِ، وأُمَّةِ الاستِجابَةِ ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾. وهذهِ خاصَّةٌ بأُمَّةِ الاستِجابَةِ.
لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ جَميعَ النَّاسِ الحُبَّ المُعَمِّرَ النَّافِعَ، وذلكَ لِسَلامَةِ دُنياهُم وآخِرَتِهِم، ودَليلُ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للجَميعِ، قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اهدِ قَومِي فَإِنَّهُم لا يَعلَمونَ» رواه البيهقي عن عَبدِ الله بنِ عُبَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» رواه الإمام البخاري عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ.
«فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَجَسَّدَ حُبُّ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحُبُّ النَّافِعُ، وذلكَ من خِلالِ الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا».
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أتعَبَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفسَهُ في هِدَايَةِ النَّاسِ جَميعاً، وما ذاكَ إلا لِفَرْطِ حُبِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَهُم، حتَّى عَاتَبَهُ رَبُّنا عزَّ وجلَّ عِتابِ مُحِبٍّ لِمَحبوبٍ، فقال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾.
«يا أبا الحَكَمِ، هَلُمَّ إلى الله ورَسولِهِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَلَغَ من حِرصِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على هِدَايَةِ النَّاسِ جَميعاً أنَّهُ كانَ كُلَّما رَأى أبا جَهْلٍ دَعاهُ إلى الله ورَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أخرج ابن أبي شَيبَةَ عن زَيدِ بنِ أسلَمَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إِنَّ أوَّلَ يَومٍ عَرَفتُ فيهِ رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي كُنتُ أَمشِي مَعَ أبي جَهْلٍ بِمَكَّةَ، فَلَقِينَا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فقالَ لَهُ: «يا أبا الحَكَمِ، هَلُمَّ إلى الله وإلى رَسولِهِ، وإلى كِتابِهِ، أَدعوكَ إلى الله»
فقال: يا مُحَمَّدُ، ما أنتَ بِمُنتَهٍ عن سَبِّ آلِهَتِنَا؟ هل تُريدُ إلا أن نَشهَدَ أن قد بَلَّغتَ؟ فَنَحنُ نَشهَدُ أن قد بَلَّغتَ.
فَانصَرَفَ عنهُ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأقبَلَ عَلَيَّ فقال: والله إِنِّي لأعلَمُ أنَّ ما يَقولُ حَقٌّ، ولكنَّ بَنِي قُصَيٍ قالوا: فِينَا الحِجَابَةُ، فَقُلنا: نعم؛ ثم قالوا: فِينَا القِرَى، فَقُلنا: نعم؛ ثمَّ قالوا: فِينَا النَّدوَةُ، فَقُلنا: نعم؛ ثمَّ قالوا: فِينَا السِّقايَةُ، فَقُلنا: نعم؛ ثمَّ أطعَمُوا وأطعَمْنا، حتَّى إذا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قالوا: مِنَّا نَبِيٌّ؛ والله لا أفعَلُ.
«يا عَمِّ، والله لو وَضَعوا الشَّمسَ في يَميني».
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كًلَّ الحِرصِ على تَبليغِ دَعْوَةِ الله تعالى للنَّاسِ كَافَّةً، كما كانَ حَريصاً على هِدَايَتِهِم مَهما كَلَّفَهُ ذلكَ من ثَمَنٍ.
جاءَ في كِتابِ الرَّحيقِ المَختومِ: جَاءَت سَادَاتُ قُرَيشٍ إلى أبي طَالِبٍ فَقَالوا له: يا أبا طَالِب، إنَّ لَكَ سِنَّاً وشَرَفاً ومَنزِلَةً فِينَا، وإنَّا قد استَنهَينَاكَ من ابنِ أَخيكَ فَلَم تَنهَهُ عَنَّا، وإنَّا والله لا نَصبِرُ على هذا من شَتْمِ آبائِنَا، وتَسفيهِ أحلامِنا، وعَيْبِ آلِهَتِنَا، حتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا، أو نُنَازِلَهُ وإيَّاكَ في ذلكَ، حتَّى يَهلِكَ أَحَدُ الفَريقَينِ.
عَظُمَ على أبي طَالِبٍ هذا الوَعيدُ والتَّهديدُ الشَّديدُ، فَبَعَثَ إلى رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقالَ لَهُ: يا ابنَ أخي، إنَّ قَومَكَ قَد جاؤوني فَقَالوا لي كذا وكذا، فَأبْقِ عَلَيَّ وعلى نَفسِكَ، ولا تُحَمِّلْنِي من الأمرِ ما لا أُطيقُ.
فَظَنَّ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ عَمَّهُ خَاذِلُهُ، وأنَّهُ ضَعُفَ عن نُصرَتِهِ، فقال: «يا عَمِّ، والله لو وَضَعوا الشَّمسَ في يَميني، والقَمَرَ في يَساري، على أن أترُكَ هذا الأمرَ ما تَرَكتُهُ حتَّى يُظهِرَهُ اللهُ أو أَهلِكَ فيه».
ثمَّ استَعبَرَ وبَكَى، وقامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أبو طَالِب، فَلَمَّا أقبَلَ قال لَهُ: اِذهَبْ يا ابنَ أخي، فَقُلْ ما أحبَبْتَ، فوالله لا أُسْلِمُكَ لِشَيءٍ أبَداً؛ وأنشَدَ:
والله لَـن يَـصِلوا إلَيكَ بِـجَـمْعِهِم *** حتَّى أُوَسَّدَ في الـتُّرابِ دَفيناً
فاصدَعْ بأمرِكَ ما عَلَيكَ غَـضَاضَةٌ *** أبْشِرْ وقَرَّ بِذَاكَ مِنكَ عُيوناً
بأبي وأُمِّي أنتَ يا سَيِّدي يا رَسولَ الله، ما هذا الحُبُّ في تَبليغِ الدَّعْوَةِ؟ وما هذا الحُبُّ الصَّادِقُ في صَدْرِكَ الشَّريفِ لِهِدَايَةِ النَّاسِ جَميعاً رَغمَ السُّوءِ الذي صَدَرَ منهُم نَحوَكَ؟ فَجَزَاكَ اللهُ تعالى خَيرَ ما جَزَى نَبِيَّاً عن أُمَّتِهِ. آمين.
«يَا عَمِّ، أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كُلَّ الحِرصِ على النَّاسِ أن يَقولوا كَلِمَةَ التَّوحيدِ حتَّى يُنقِذَهُمُ اللهُ تعالى من نارِ جَهَنَّمَ، وكانَ من حِرصِهِ عَلَيهِم أنَّهُ كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُهُم بهذهِ الكَلِمَةِ، وذلكَ بِذِكرِ بَعضِ ثِمارِها في الحَياةِ الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ.
روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، فَأَتَتْهُ قُرَيْشٌ وَأَتَاهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَقْعَدُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ فَقَعَدَ فِيهِ.
فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَقَعُ فِي آلِهَتِنَا.
قَالَ: مَا شَأْنُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ؟
قَالَ: «يَا عَمِّ، أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي الْعَجَمُ إِلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ».
قَالَ: مَا هِيَ؟
قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
فَقَامُوا فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً؛
فَنَزَلَ: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاق * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاص * وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّاب * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: من ثِمارِ كَلِمَةِ التَّوحيدِ سِيادَةُ الدُّنيا وسِيادَةُ الآخِرَةِ لمن قالَها بِصِدْقٍ مُخلِصاً بها قَلبُهُ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾.
عِندَما استَجابَتِ الأُمَّةُ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَفَعَها اللهُ تعالى من الغَبْراءِ إلى العَلْياءِ، وعِندَما تَرَكَتِ الأُمَّةُ أمرَ نَبِيِّها ـ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى ـ هَوَت من العَلْياءِ إلى الغَبْراءِ، هذا في الحَياةِ الدُّنيا، أمَّا في الآخِرَةِ فَهُناكَ الخُسرانُ المُبينُ والعِياذُ بالله تعالى.
«طَعَامٌ كَطَعَامِهَا»:
أيُّها الإخوة الكرام: من علاماتِ الحُبِّ الصَّادِقِ النَّافِعِ المُعَمِّرِ لِدُنيا المَحبوبِ وآخِرَتِهِ، أنَّهُ إذا دَخَلَ المَحبوبُ في دِينِ الله عزَّ وجلَّ، ونَطَقَ بالشَّهادَتَينِ كانَ المُحِبُّ حَريصاً على مَحبوبِهِ أن لا يَعصي اللهَ عزَّ وجلَّ، وأن لا يُخالِفَ أمرَ الله تعالى، وما ذاكَ إلا لِيَدخُلَ الجَنَّةَ ابتِداءً لا مَآلاً؛ وهكذا كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَعامَلُ مَعَ من أحَبَّهُم.
روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: بَعَثَتْ صَفِيَّةُ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ قَدْ صَنَعَتْهُ لَهُ وَهُوَ عِنْدِي، فَلَمَّا رَأَيْتُ الْجَارِيَةَ أَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ حَتَّى اسْتَقَلَّنِي ـ غَشِيَنِي ـ أَفْكَلُ ـ رَعدَةٌ تَأخُذُ الإِنسَانَ عندَ الخَوفِ أو البَردِ ـ فَضَرَبْتُ الْقَصْعَةَ فَرَمَيْتُ بِهَا، فَنَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِرَسُولِ الله أَنْ يَلْعَنَنِي الْيَوْمَ.
قَالَتْ: أقَالَ أَوْلَى؟
قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا كَفَّارَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «طَعَامٌ كَطَعَامِهَا، وَإِنَاءٌ كَإِنَائِهَا ».
أيُّها الإخوة الكرام: هذا هوَ الحُبُّ النَّافِعُ المُعَمِّرُ لِحَياةِ من يُحِبُّ، وهذا ما يَجِبُ على المُؤمِنِ أن يَتَعامَلَ به مَعَ من يَلوذُ به.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: ما مِنَّا إلا وهوَ يُحِبُّ الآخَرينَ، من زَوجَةٍ وَوَلَدٍ وقَريبٍ، ولكنَّ السُّؤالَ الذي يَطرَحُ نَفسَهُ: هل حُبُّنا لمن أحبَبْناهُ حُبٌّ مُعَمِّرٌ أم مُدَمِّرٌ؟
هل نُحَرِّضُ من نُحِبُّ على طَاعَةِ الله تعالى، وطَاعَةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أم أنَّنا إذا رَأَيناهُم على مَعصِيَةِ الله ورَسولِهِ نُظهِرُ لَهُمُ البَشَاشَةَ والسُّرورَ، وكأَنَّ هذا الأمرَ طَبيعِيٌّ؟
أيُّها الإخوة الكرام: من سَكَتَ عن مُنكَرٍ تُجاهَ من يُحِبُّ فَلْيَعْلَمْ بأنَّ حُبَّهُ حُبٌّ أرعَنُ ضَارٌّ مُدَمِّرٌ لِدُنيا مَحبوبِهِ وآخِرَتِهِ.
نَسأَلُكَ يا رَبَّنا أن تَرُدَّنا إلَيكَ رَدَّاً جَميلاً، وأن تَجعَلَ حُبَّنا لمن أحبَبْناهُ حُبَّاً مُعَمِّراً نافِعاً، لا مُدَمِّراً ضَارَّاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
107ـ «فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: المَحَبَّةُ على قِسمَينِ:
مَحَبَّةٌ عاقِلَةٌ نافِعَةٌ مُعَمِّرَةٌ لِدُنيا المَحبوبِ وآخِرَتِهِ.
ومَحَبَّةٌ رَعناءُ جَاهِلَةٌ ضَارَّةٌ حَمقاءُ مُدَمِّرَةٌ لِدُنيا المَحبوبِ وآخِرَتِهِ.
وسَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أحَبَّ أُمَّتَهُ أكثَرَ من حُبِّهِم لِذَواتِهِم بِشَهادَةِ قَولِ الله عزَّ وجلَّ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾. ولقد كانَ حُبُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ نافِعَاً مُعَمِّرَاً لِدُنيا أُمَّتِهِ وآخِرَتِها.
لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُبُّهُ للجَميعِ، لأنَّهُ أُرسِلَ للجَميعِ، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾. والدَّليلُ على أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ يُحِبُّ الجَميعَ هوَ حِرصُهُ على هِدايَةِ الجَميعِ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾. على أُمَّتِهِ جَميعاً بِشِقَّيها أُمَّةِ الدَّعوَةِ، وأُمَّةِ الاستِجابَةِ ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾. وهذهِ خاصَّةٌ بأُمَّةِ الاستِجابَةِ.
لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ جَميعَ النَّاسِ الحُبَّ المُعَمِّرَ النَّافِعَ، وذلكَ لِسَلامَةِ دُنياهُم وآخِرَتِهِم، ودَليلُ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للجَميعِ، قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اهدِ قَومِي فَإِنَّهُم لا يَعلَمونَ» رواه البيهقي عن عَبدِ الله بنِ عُبَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» رواه الإمام البخاري عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ.
«فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَجَسَّدَ حُبُّ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الحُبُّ النَّافِعُ، وذلكَ من خِلالِ الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ فِيهَا».
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أتعَبَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفسَهُ في هِدَايَةِ النَّاسِ جَميعاً، وما ذاكَ إلا لِفَرْطِ حُبِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَهُم، حتَّى عَاتَبَهُ رَبُّنا عزَّ وجلَّ عِتابِ مُحِبٍّ لِمَحبوبٍ، فقال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾.
«يا أبا الحَكَمِ، هَلُمَّ إلى الله ورَسولِهِ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد بَلَغَ من حِرصِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على هِدَايَةِ النَّاسِ جَميعاً أنَّهُ كانَ كُلَّما رَأى أبا جَهْلٍ دَعاهُ إلى الله ورَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أخرج ابن أبي شَيبَةَ عن زَيدِ بنِ أسلَمَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قال المُغيرَةُ بنُ شُعبَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إِنَّ أوَّلَ يَومٍ عَرَفتُ فيهِ رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنِّي كُنتُ أَمشِي مَعَ أبي جَهْلٍ بِمَكَّةَ، فَلَقِينَا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فقالَ لَهُ: «يا أبا الحَكَمِ، هَلُمَّ إلى الله وإلى رَسولِهِ، وإلى كِتابِهِ، أَدعوكَ إلى الله»
فقال: يا مُحَمَّدُ، ما أنتَ بِمُنتَهٍ عن سَبِّ آلِهَتِنَا؟ هل تُريدُ إلا أن نَشهَدَ أن قد بَلَّغتَ؟ فَنَحنُ نَشهَدُ أن قد بَلَّغتَ.
فَانصَرَفَ عنهُ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأقبَلَ عَلَيَّ فقال: والله إِنِّي لأعلَمُ أنَّ ما يَقولُ حَقٌّ، ولكنَّ بَنِي قُصَيٍ قالوا: فِينَا الحِجَابَةُ، فَقُلنا: نعم؛ ثم قالوا: فِينَا القِرَى، فَقُلنا: نعم؛ ثمَّ قالوا: فِينَا النَّدوَةُ، فَقُلنا: نعم؛ ثمَّ قالوا: فِينَا السِّقايَةُ، فَقُلنا: نعم؛ ثمَّ أطعَمُوا وأطعَمْنا، حتَّى إذا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ قالوا: مِنَّا نَبِيٌّ؛ والله لا أفعَلُ.
«يا عَمِّ، والله لو وَضَعوا الشَّمسَ في يَميني».
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كًلَّ الحِرصِ على تَبليغِ دَعْوَةِ الله تعالى للنَّاسِ كَافَّةً، كما كانَ حَريصاً على هِدَايَتِهِم مَهما كَلَّفَهُ ذلكَ من ثَمَنٍ.
جاءَ في كِتابِ الرَّحيقِ المَختومِ: جَاءَت سَادَاتُ قُرَيشٍ إلى أبي طَالِبٍ فَقَالوا له: يا أبا طَالِب، إنَّ لَكَ سِنَّاً وشَرَفاً ومَنزِلَةً فِينَا، وإنَّا قد استَنهَينَاكَ من ابنِ أَخيكَ فَلَم تَنهَهُ عَنَّا، وإنَّا والله لا نَصبِرُ على هذا من شَتْمِ آبائِنَا، وتَسفيهِ أحلامِنا، وعَيْبِ آلِهَتِنَا، حتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا، أو نُنَازِلَهُ وإيَّاكَ في ذلكَ، حتَّى يَهلِكَ أَحَدُ الفَريقَينِ.
عَظُمَ على أبي طَالِبٍ هذا الوَعيدُ والتَّهديدُ الشَّديدُ، فَبَعَثَ إلى رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقالَ لَهُ: يا ابنَ أخي، إنَّ قَومَكَ قَد جاؤوني فَقَالوا لي كذا وكذا، فَأبْقِ عَلَيَّ وعلى نَفسِكَ، ولا تُحَمِّلْنِي من الأمرِ ما لا أُطيقُ.
فَظَنَّ رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّ عَمَّهُ خَاذِلُهُ، وأنَّهُ ضَعُفَ عن نُصرَتِهِ، فقال: «يا عَمِّ، والله لو وَضَعوا الشَّمسَ في يَميني، والقَمَرَ في يَساري، على أن أترُكَ هذا الأمرَ ما تَرَكتُهُ حتَّى يُظهِرَهُ اللهُ أو أَهلِكَ فيه».
ثمَّ استَعبَرَ وبَكَى، وقامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أبو طَالِب، فَلَمَّا أقبَلَ قال لَهُ: اِذهَبْ يا ابنَ أخي، فَقُلْ ما أحبَبْتَ، فوالله لا أُسْلِمُكَ لِشَيءٍ أبَداً؛ وأنشَدَ:
والله لَـن يَـصِلوا إلَيكَ بِـجَـمْعِهِم *** حتَّى أُوَسَّدَ في الـتُّرابِ دَفيناً
فاصدَعْ بأمرِكَ ما عَلَيكَ غَـضَاضَةٌ *** أبْشِرْ وقَرَّ بِذَاكَ مِنكَ عُيوناً
بأبي وأُمِّي أنتَ يا سَيِّدي يا رَسولَ الله، ما هذا الحُبُّ في تَبليغِ الدَّعْوَةِ؟ وما هذا الحُبُّ الصَّادِقُ في صَدْرِكَ الشَّريفِ لِهِدَايَةِ النَّاسِ جَميعاً رَغمَ السُّوءِ الذي صَدَرَ منهُم نَحوَكَ؟ فَجَزَاكَ اللهُ تعالى خَيرَ ما جَزَى نَبِيَّاً عن أُمَّتِهِ. آمين.
«يَا عَمِّ، أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ»:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كُلَّ الحِرصِ على النَّاسِ أن يَقولوا كَلِمَةَ التَّوحيدِ حتَّى يُنقِذَهُمُ اللهُ تعالى من نارِ جَهَنَّمَ، وكانَ من حِرصِهِ عَلَيهِم أنَّهُ كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُهُم بهذهِ الكَلِمَةِ، وذلكَ بِذِكرِ بَعضِ ثِمارِها في الحَياةِ الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ.
روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، فَأَتَتْهُ قُرَيْشٌ وَأَتَاهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَقْعَدُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ فَقَعَدَ فِيهِ.
فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَقَعُ فِي آلِهَتِنَا.
قَالَ: مَا شَأْنُ قَوْمِكَ يَشْكُونَكَ؟
قَالَ: «يَا عَمِّ، أُرِيدُهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي الْعَجَمُ إِلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ».
قَالَ: مَا هِيَ؟
قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
فَقَامُوا فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً؛
فَنَزَلَ: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاق * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاص * وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّاب * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: من ثِمارِ كَلِمَةِ التَّوحيدِ سِيادَةُ الدُّنيا وسِيادَةُ الآخِرَةِ لمن قالَها بِصِدْقٍ مُخلِصاً بها قَلبُهُ، وصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون﴾.
عِندَما استَجابَتِ الأُمَّةُ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَفَعَها اللهُ تعالى من الغَبْراءِ إلى العَلْياءِ، وعِندَما تَرَكَتِ الأُمَّةُ أمرَ نَبِيِّها ـ إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى ـ هَوَت من العَلْياءِ إلى الغَبْراءِ، هذا في الحَياةِ الدُّنيا، أمَّا في الآخِرَةِ فَهُناكَ الخُسرانُ المُبينُ والعِياذُ بالله تعالى.
«طَعَامٌ كَطَعَامِهَا»:
أيُّها الإخوة الكرام: من علاماتِ الحُبِّ الصَّادِقِ النَّافِعِ المُعَمِّرِ لِدُنيا المَحبوبِ وآخِرَتِهِ، أنَّهُ إذا دَخَلَ المَحبوبُ في دِينِ الله عزَّ وجلَّ، ونَطَقَ بالشَّهادَتَينِ كانَ المُحِبُّ حَريصاً على مَحبوبِهِ أن لا يَعصي اللهَ عزَّ وجلَّ، وأن لا يُخالِفَ أمرَ الله تعالى، وما ذاكَ إلا لِيَدخُلَ الجَنَّةَ ابتِداءً لا مَآلاً؛ وهكذا كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَعامَلُ مَعَ من أحَبَّهُم.
روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: بَعَثَتْ صَفِيَّةُ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ قَدْ صَنَعَتْهُ لَهُ وَهُوَ عِنْدِي، فَلَمَّا رَأَيْتُ الْجَارِيَةَ أَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ حَتَّى اسْتَقَلَّنِي ـ غَشِيَنِي ـ أَفْكَلُ ـ رَعدَةٌ تَأخُذُ الإِنسَانَ عندَ الخَوفِ أو البَردِ ـ فَضَرَبْتُ الْقَصْعَةَ فَرَمَيْتُ بِهَا، فَنَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِرَسُولِ الله أَنْ يَلْعَنَنِي الْيَوْمَ.
قَالَتْ: أقَالَ أَوْلَى؟
قَالَتْ: قُلْتُ: وَمَا كَفَّارَتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «طَعَامٌ كَطَعَامِهَا، وَإِنَاءٌ كَإِنَائِهَا ».
أيُّها الإخوة الكرام: هذا هوَ الحُبُّ النَّافِعُ المُعَمِّرُ لِحَياةِ من يُحِبُّ، وهذا ما يَجِبُ على المُؤمِنِ أن يَتَعامَلَ به مَعَ من يَلوذُ به.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: ما مِنَّا إلا وهوَ يُحِبُّ الآخَرينَ، من زَوجَةٍ وَوَلَدٍ وقَريبٍ، ولكنَّ السُّؤالَ الذي يَطرَحُ نَفسَهُ: هل حُبُّنا لمن أحبَبْناهُ حُبٌّ مُعَمِّرٌ أم مُدَمِّرٌ؟
هل نُحَرِّضُ من نُحِبُّ على طَاعَةِ الله تعالى، وطَاعَةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ أم أنَّنا إذا رَأَيناهُم على مَعصِيَةِ الله ورَسولِهِ نُظهِرُ لَهُمُ البَشَاشَةَ والسُّرورَ، وكأَنَّ هذا الأمرَ طَبيعِيٌّ؟
أيُّها الإخوة الكرام: من سَكَتَ عن مُنكَرٍ تُجاهَ من يُحِبُّ فَلْيَعْلَمْ بأنَّ حُبَّهُ حُبٌّ أرعَنُ ضَارٌّ مُدَمِّرٌ لِدُنيا مَحبوبِهِ وآخِرَتِهِ.
نَسأَلُكَ يا رَبَّنا أن تَرُدَّنا إلَيكَ رَدَّاً جَميلاً، وأن تَجعَلَ حُبَّنا لمن أحبَبْناهُ حُبَّاً مُعَمِّراً نافِعاً، لا مُدَمِّراً ضَارَّاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin