مع الحبيب المصطفى: «لعل الله اطلع على أهل بدر»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
103ـ «لعل الله اطلع على أهل بدر»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الحَديثَ عن سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَرضٌ على الأُمَّةِ، لأنَّها مَأمُورَةٌ بامتِثَالِ أمرِهِ واجتِنابِ نَهيِهِ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُون﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾.
ولأنَّها مَأمورَةٌ بالتَّأَسِّي والاقتِدَاءِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وذَلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾.
من هوَ آمِرُكَ وأُسوَتُكَ؟:
أيُّها الإخوة الكرام: مَا مِنَّا إلا وهوَ مُطيعٌ لأمرِ آمِرٍ، ومُتَأَسٍّ بِرَجُلٍ من الرِّجالِ، فَانظُرْ مَن هوَ آمِرُكَ؟ ومَن هوَ قُدوَتُكَ؟
نَحنُ أُمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَرَّفَنَا رَبُّنا عزَّ وجلَّ وَكَرَّمَنَا فَجَعَلَ الآمِرَ والقُدوَةَ والأُسوَةَ لنا هوَ سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهذا شَرَفٌ ما بَعدَهُ شَرَفٌ، حَيثُ آمِرُنا هوَ السَّيِّدُ المَعصُومُ الذي ما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، آمِرُنا هوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ على الإِطلاقِ، هوَ القَائِلُ عَن ذَاتِهِ الشَّريفَةِ: «آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
فَلَكَ الحَمدُ يا رَبَّنا أن أَمَرتَنا بِطَاعَةِ هذا الحَبيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وجَعَلتَهُ أُسوَةً وقُدوَةً لَنَا، فَنَسأَلُكَ يَا رَبَّنا أن تُوَفِّقَنَا لِتَحقِيقِ هَذا.
الحُبُّ تَرجَمَةٌ عَمَلِيَّةٌ سُلوكِيَّةٌ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا يَشُكُّ وَاحِدٌ مِنَّا بأنَّ أصحابَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قد عَشِقُوا الحَبيبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأَحَبُّوهُ أكثَرَ من أُصولِهِم وفُروعِهِم وأزوَاجِهِم، ومِنَ المَاءِ البَارِدِ على الظَّمَأ، بَل أَحَبُّوهُ أكثَرَ من أنفُسِهِم الطَّاهِرَةِ.
ولقد تَرجَمَ أصحابُ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هذا الحُبَّ تَرجَمَةً عَمَلِيَّةً سُلوكِيَّةً، فَتَخَلَّقُوا بِأخلاقِهِ، وتَأَدَّبوا بِآدابِهِ، وانصَهَرَت شَخصِيَّتُهُم في شَخصِيَّتِهِ الشَّريفَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حتَّى كَانُوا كَإِيَّاهُ مِن حَيثُ الاتِّباعُ، لا مِن حَيثُ المَرتَبَةُ والارتِفاعُ، وشَهِدَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُم بذلكَ، فقال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.
صَارَ التَّابِعُ عَينَ المَتبُوعِ من حَيثُ الأخلاقُ والآدابُ والاتِّباعِ، وبذلكَ استَحَقُّوا وَعْدَ الله عزَّ وجلَّ بِقَولِهِ: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماًَ﴾. تَرجَمُوا حُبَّهُم لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالاتِّباعِ والاقتِداءِ بَعدَ الطَّاعَةِ وامتِثالِ الأمرِ، وما كانَ حُبُّهُم مُجَرَّدَ دَعوَى بِدونِ دَليلٍ ولا بُرهانٍ.
ومن أرادَ مِنَّا أن يَنالَ ما نَالَ الصَّحبُ الكِرامُ رَضِيَ اللهُ عنهُم مِنَ الأَجرِ والمَثُوبَةِ فَعَلَيهِ بالاتِّباعِ للصَّحبِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصارِ، قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾. فَيَا من يُريدُ الرِّضا من رَبِّنا عزَّ وجلَّ، ويُريدُ جَنَّةً عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ مَعَ الذينَ أنعَمَ اللهُ عَلَيهِم، عَلَيكَ بالاتِّباعِ والاقتِداءِ والتَّحَلِّي بِأَخلَاقِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
«لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ»:
أيُّها الإخوة الكرام: تَعَالَوا لِنَأخُذَ مَثَلاً وَاحِدَاً من أخلاقِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ونَتَحَلَّى بها.
جاءَ في الحَديثِ الصَّحيحِ الذي أخرجه الشَّيخانِ أن عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بَعَثَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: «ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا».
فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ.
فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ.
فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ.
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا.
فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِن الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟».
قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ الله، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفاً لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ـ أَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِن الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِن النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْراً وَلَا ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي وَلَا رِضاً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ».
فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾.
بَعضُ الدُّروسِ والعِبَرِ من هذا الحَديثِ الشَّريفِ:
أولاً: لا عِصمَةَ لأحَدٍ بَعدَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم:
أيُّها الإخوة الكرام: العِصمَةُ ما كانَت في يَومٍ من الأيَّامِ لأحَدٍ إلا للأنبِياءِ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ خَاتَمَ الأنبِياءِ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وبه خُتِمَتِ النُبُوَّةُ والعِصمَةُ.
ثانياً: الكُلُّ خَطَّاءٌ بَعدَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ بَني آدمَ خَطَّاءٌ مَهمَا بَلَغَت مَرتَبَتُهُ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه ابن ماجه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».
ثالثاً: لا تَتَعَجَّلْ بالحُكمِ على أحَدٍ إلا بَعدَ التَّثَبُّتِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا تَتَعَجَّلوا بالحُكمِ على مَن ثَبَتَ عَلَيهِ الخَطَأُ، لَعَلَّ له تَبريراً في الوُقوعِ بهذا الخَطَأِ، ولذلكَ سَألَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَاطِباً: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟».
قَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ الله، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفاً لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ـ أَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِن الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِن النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْراً، وَلا ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي، وَلا رِضاً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلَامِ.
رابعاً: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: صِفَةُ الصِّدْقِ هيَ صِفَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُم، الذينَ سَمِعُوا قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدِّيقاً» رواه الإمام مسلم عن عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ. فَكَانَ حَاطِبُ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِشَهَادَةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَادِقَاً، لأنَّهُ مَا عُرِفَ عنهُ الكَذِبُ، وقد شَهِدَ اللهُ تعالى بِصِدْقِهِم بِقَولِهِ تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون﴾.
اللَّهُمَّ ألحِقْنا بِهِم حتَّى نَندَرِجَ تَحتَ الوَعدِ الكَريمِ الذي وَعَدتَهُم إيَّاهُ بِقَولِكَ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾.
خامساً: اُذكُرْ حَسَناتِهِ ومَحاسِنَهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: السَّيِّئَةُ لا تَمحُو الحَسَناتِ، فَمَن زَلَّت به القَدَمُ فَقَبْلَ أن تُحَاسِبَهُ اذكُرْ حَسَنَاتِهِ ومَحَاسِنَهُ، لأنَّ الحَسَنَاتِ والمَحَاسِنَ شُفَعَاءَ لِمَن زَلَّت به القَدَمُ.
لقد جاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الأُمَّةَ بأنَّ الحَسَنَةَ تَمحُو السَّيِّئَةَ، والسَّيِّئَةَ لا تَمحُو الحَسَنَاتِ.
فَسَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ هذا للصَّحبِ الكِرامِ، وخَاصَّةً أهلِ بَدْرٍ، الذينَ قالَ قَائِلُهُم، كما يروي الإمام أحمد عن عَبْدِ الله بْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: لَقَدْ شَهِدْتُ مِن الْمِقْدَادِ مَشْهَداً، لأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانَ رَجُلاً فَارِساً ـ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا نَبِيَّ الله، والله لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾.
وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَكُونَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَمِنْ خَلْفِكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ.
هذهِ الحَسَنَةُ الكَبيرَةُ كَانَتَ سَبَبَاً لِمَغفَرَةِ ذُنوبِهِم إن وُجِدَت، وقد أَكَّدَ هذا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذلكَ بِقَولِهِ: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: أينَ نَحنُ من أخلاقِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
لماذا يَتَعَجَّلُ الوَاحِدُ مِنَّا بالحُكمِ على أخيهِ قَبلَ الالتِزامِ بِقَولِ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين﴾؟
لماذا لا نَنطَلِقُ من مُنطَلَقِ (ألَكَ عُذْرٌ؟) في حَقِّ من أخطَأَ؟
لماذا لا نَلتَمِسُ الأعذارَ لِبَعضِنا البَعضِ؟
لماذا نَتَناسَى حَسَناتِ ومَحاسِنَ الآخَرينَ إذا وَقَعَ أحَدُهُم في مُخالَفَةٍ، مَعَ وُجوبِ النُّصحِ لهُ؟
هل نُريدُ من الآخَرينَ أن يَحكُموا عَلَينا بِدونِ تَثَبُّتٍ، وبِدونِ التِماسِ العُذرِ إذا وَقَعنا في مُخالَفَةٍ (ما)؟
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَنطَلِقْ في تَعامُلِنا مَعَ بَعضِنا البَعضِ من خِلالِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا؟». معَ عَدَمِ تَنَاسِينَا الحَسَناتِ والمَحاسِنَ لمن نُحَاسِبُهُم، ولتَكُنْ حَسَناتُهُم ومَحَاسِنُهُم شُفَعاءَ لِسَيِّئاتِهِم إذا وَقَعَت، ولا يَجوزُ أن نَمحُوَ الحَسَناتِ بِسَيِّئَةٍ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنا لما فيهِ رِضاكَ، وأكرِمنا بالتَّحَلِّي بأخلاقِ الحَبيبِ الأعظَمِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
103ـ «لعل الله اطلع على أهل بدر»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الحَديثَ عن سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَرضٌ على الأُمَّةِ، لأنَّها مَأمُورَةٌ بامتِثَالِ أمرِهِ واجتِنابِ نَهيِهِ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُون﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾.
ولأنَّها مَأمورَةٌ بالتَّأَسِّي والاقتِدَاءِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وذَلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾.
من هوَ آمِرُكَ وأُسوَتُكَ؟:
أيُّها الإخوة الكرام: مَا مِنَّا إلا وهوَ مُطيعٌ لأمرِ آمِرٍ، ومُتَأَسٍّ بِرَجُلٍ من الرِّجالِ، فَانظُرْ مَن هوَ آمِرُكَ؟ ومَن هوَ قُدوَتُكَ؟
نَحنُ أُمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَرَّفَنَا رَبُّنا عزَّ وجلَّ وَكَرَّمَنَا فَجَعَلَ الآمِرَ والقُدوَةَ والأُسوَةَ لنا هوَ سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهذا شَرَفٌ ما بَعدَهُ شَرَفٌ، حَيثُ آمِرُنا هوَ السَّيِّدُ المَعصُومُ الذي ما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى، آمِرُنا هوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ على الإِطلاقِ، هوَ القَائِلُ عَن ذَاتِهِ الشَّريفَةِ: «آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي نَضْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
فَلَكَ الحَمدُ يا رَبَّنا أن أَمَرتَنا بِطَاعَةِ هذا الحَبيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وجَعَلتَهُ أُسوَةً وقُدوَةً لَنَا، فَنَسأَلُكَ يَا رَبَّنا أن تُوَفِّقَنَا لِتَحقِيقِ هَذا.
الحُبُّ تَرجَمَةٌ عَمَلِيَّةٌ سُلوكِيَّةٌ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا يَشُكُّ وَاحِدٌ مِنَّا بأنَّ أصحابَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قد عَشِقُوا الحَبيبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وأَحَبُّوهُ أكثَرَ من أُصولِهِم وفُروعِهِم وأزوَاجِهِم، ومِنَ المَاءِ البَارِدِ على الظَّمَأ، بَل أَحَبُّوهُ أكثَرَ من أنفُسِهِم الطَّاهِرَةِ.
ولقد تَرجَمَ أصحابُ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هذا الحُبَّ تَرجَمَةً عَمَلِيَّةً سُلوكِيَّةً، فَتَخَلَّقُوا بِأخلاقِهِ، وتَأَدَّبوا بِآدابِهِ، وانصَهَرَت شَخصِيَّتُهُم في شَخصِيَّتِهِ الشَّريفَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حتَّى كَانُوا كَإِيَّاهُ مِن حَيثُ الاتِّباعُ، لا مِن حَيثُ المَرتَبَةُ والارتِفاعُ، وشَهِدَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَهُم بذلكَ، فقال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾.
صَارَ التَّابِعُ عَينَ المَتبُوعِ من حَيثُ الأخلاقُ والآدابُ والاتِّباعِ، وبذلكَ استَحَقُّوا وَعْدَ الله عزَّ وجلَّ بِقَولِهِ: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماًَ﴾. تَرجَمُوا حُبَّهُم لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالاتِّباعِ والاقتِداءِ بَعدَ الطَّاعَةِ وامتِثالِ الأمرِ، وما كانَ حُبُّهُم مُجَرَّدَ دَعوَى بِدونِ دَليلٍ ولا بُرهانٍ.
ومن أرادَ مِنَّا أن يَنالَ ما نَالَ الصَّحبُ الكِرامُ رَضِيَ اللهُ عنهُم مِنَ الأَجرِ والمَثُوبَةِ فَعَلَيهِ بالاتِّباعِ للصَّحبِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصارِ، قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾. فَيَا من يُريدُ الرِّضا من رَبِّنا عزَّ وجلَّ، ويُريدُ جَنَّةً عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ مَعَ الذينَ أنعَمَ اللهُ عَلَيهِم، عَلَيكَ بالاتِّباعِ والاقتِداءِ والتَّحَلِّي بِأَخلَاقِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
«لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ»:
أيُّها الإخوة الكرام: تَعَالَوا لِنَأخُذَ مَثَلاً وَاحِدَاً من أخلاقِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ونَتَحَلَّى بها.
جاءَ في الحَديثِ الصَّحيحِ الذي أخرجه الشَّيخانِ أن عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بَعَثَنَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: «ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا».
فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ.
فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ.
فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ.
فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا.
فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِن الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟».
قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ الله، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفاً لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ـ أَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِن الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِن النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْراً وَلَا ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي وَلَا رِضاً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ».
فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ الله أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ.
فَقَالَ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ». فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾.
بَعضُ الدُّروسِ والعِبَرِ من هذا الحَديثِ الشَّريفِ:
أولاً: لا عِصمَةَ لأحَدٍ بَعدَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم:
أيُّها الإخوة الكرام: العِصمَةُ ما كانَت في يَومٍ من الأيَّامِ لأحَدٍ إلا للأنبِياءِ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ خَاتَمَ الأنبِياءِ سَيِّدُنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وبه خُتِمَتِ النُبُوَّةُ والعِصمَةُ.
ثانياً: الكُلُّ خَطَّاءٌ بَعدَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ بَني آدمَ خَطَّاءٌ مَهمَا بَلَغَت مَرتَبَتُهُ، كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ الذي رواه ابن ماجه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ».
ثالثاً: لا تَتَعَجَّلْ بالحُكمِ على أحَدٍ إلا بَعدَ التَّثَبُّتِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لا تَتَعَجَّلوا بالحُكمِ على مَن ثَبَتَ عَلَيهِ الخَطَأُ، لَعَلَّ له تَبريراً في الوُقوعِ بهذا الخَطَأِ، ولذلكَ سَألَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَاطِباً: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟».
قَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ الله، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ ـ قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفاً لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا ـ أَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِن الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِن النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْراً، وَلا ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي، وَلا رِضاً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلَامِ.
رابعاً: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: صِفَةُ الصِّدْقِ هيَ صِفَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُم، الذينَ سَمِعُوا قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدِّيقاً» رواه الإمام مسلم عن عَبدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُ. فَكَانَ حَاطِبُ رَضِيَ اللهُ عنهُ بِشَهَادَةِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَادِقَاً، لأنَّهُ مَا عُرِفَ عنهُ الكَذِبُ، وقد شَهِدَ اللهُ تعالى بِصِدْقِهِم بِقَولِهِ تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون﴾.
اللَّهُمَّ ألحِقْنا بِهِم حتَّى نَندَرِجَ تَحتَ الوَعدِ الكَريمِ الذي وَعَدتَهُم إيَّاهُ بِقَولِكَ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم﴾.
خامساً: اُذكُرْ حَسَناتِهِ ومَحاسِنَهُ:
أيُّها الإخوة الكرام: السَّيِّئَةُ لا تَمحُو الحَسَناتِ، فَمَن زَلَّت به القَدَمُ فَقَبْلَ أن تُحَاسِبَهُ اذكُرْ حَسَنَاتِهِ ومَحَاسِنَهُ، لأنَّ الحَسَنَاتِ والمَحَاسِنَ شُفَعَاءَ لِمَن زَلَّت به القَدَمُ.
لقد جاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ الأُمَّةَ بأنَّ الحَسَنَةَ تَمحُو السَّيِّئَةَ، والسَّيِّئَةَ لا تَمحُو الحَسَنَاتِ.
فَسَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ هذا للصَّحبِ الكِرامِ، وخَاصَّةً أهلِ بَدْرٍ، الذينَ قالَ قَائِلُهُم، كما يروي الإمام أحمد عن عَبْدِ الله بْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: لَقَدْ شَهِدْتُ مِن الْمِقْدَادِ مَشْهَداً، لأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ وَكَانَ رَجُلاً فَارِساً ـ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا نَبِيَّ الله، والله لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾.
وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَكُونَنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَمِنْ خَلْفِكَ حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ.
هذهِ الحَسَنَةُ الكَبيرَةُ كَانَتَ سَبَبَاً لِمَغفَرَةِ ذُنوبِهِم إن وُجِدَت، وقد أَكَّدَ هذا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذلكَ بِقَولِهِ: «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: أينَ نَحنُ من أخلاقِ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
لماذا يَتَعَجَّلُ الوَاحِدُ مِنَّا بالحُكمِ على أخيهِ قَبلَ الالتِزامِ بِقَولِ الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين﴾؟
لماذا لا نَنطَلِقُ من مُنطَلَقِ (ألَكَ عُذْرٌ؟) في حَقِّ من أخطَأَ؟
لماذا لا نَلتَمِسُ الأعذارَ لِبَعضِنا البَعضِ؟
لماذا نَتَناسَى حَسَناتِ ومَحاسِنَ الآخَرينَ إذا وَقَعَ أحَدُهُم في مُخالَفَةٍ، مَعَ وُجوبِ النُّصحِ لهُ؟
هل نُريدُ من الآخَرينَ أن يَحكُموا عَلَينا بِدونِ تَثَبُّتٍ، وبِدونِ التِماسِ العُذرِ إذا وَقَعنا في مُخالَفَةٍ (ما)؟
أيُّها الإخوة الكرام: لِنَنطَلِقْ في تَعامُلِنا مَعَ بَعضِنا البَعضِ من خِلالِ قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ما هذا؟». معَ عَدَمِ تَنَاسِينَا الحَسَناتِ والمَحاسِنَ لمن نُحَاسِبُهُم، ولتَكُنْ حَسَناتُهُم ومَحَاسِنُهُم شُفَعاءَ لِسَيِّئاتِهِم إذا وَقَعَت، ولا يَجوزُ أن نَمحُوَ الحَسَناتِ بِسَيِّئَةٍ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنا لما فيهِ رِضاكَ، وأكرِمنا بالتَّحَلِّي بأخلاقِ الحَبيبِ الأعظَمِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin