مع الحبيب المصطفى: «اذْكُرُوا الله, جَاءَت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
100ـ «اذْكُرُوا الله، جَاءَت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: أكمَلُ النَّاسِ عُبودِيَّةً لله عزَّ وجلَّ هوَ من عَرَفَ أسماءَ الله تعالى وصِفاتِهِ العُلا، لأنَّ مَعرِفَةَ أسمائِهِ وصِفاتِهِ معَ الإيمانِ الجَازِمِ بها يَجعَلُ قَلبَ المُؤمِنِ في طُمَأنينَةٍ، ويَزولُ عنهُ كابوسُ الخَوفِ والقَلَقِ والاضطِرابِ من المُستَقبَلِ والمَجهولِ.
مِثالُ ذلكَ: ﴿ولله الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾. لو أنَّ جَماعَةً من النَّاسِ رَكِبوا طَائِرَةً أو سَفينَةً وعَلِموا أنَّ قَائِدَ السَّفينَةِ أو الطَّائِرَةِ رَجُلٌ عاقِلٌ حَليمٌ ماهِرٌ بالقِيادَةِ، وله خِبرَةٌ كَبيرَةٌ، وعِندَهُ قُدرَةٌ على تَجاوُزِ المَخاطِرِ التي تَمُرُّ به، ألا يُورِثُ عِندَ رُكَّابِ الطَّائِرَةِ أو السَّفينَةِ أمناً واطمِئناناً وثِقَةً به؟
بِخِلافِ ما لو أدرَكوا أنَّهُ طائِشٌ أحمَقٌ، أو جاهِلٌ بالقِيادَةِ وتَجاوُزِ المَخاطِرِ، فإنَّ ذلكَ يُوجِبُ خَوفاً وقَلَقاً يَزيدُ كُلَّما زادَ عِلمُهُم بالأخطارِ.
أيُّها الإخوة الكرام: من أعظَمِ نِعَمِ الله تعالى على العَبدِ نِعمَةُ الإيمانِ بالله تعالى وبأسمائِهِ وصِفاتِهِ، فَرَبُّنا عزَّ وجلَّ لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، وأمرُهُ إذا أرادَ شَيئاً أن يَقولَ لهُ: كُنْ فَيَكونُ، وهوَ رَحيمٌ بِعِبادِهِ، وخَبيرٌ بما يُصلِحُهُم، لا يَخفى عَلَيهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ.
هذا الإيمانُ يُورِثُ عِندَ صَاحِبهِ الأمنَ والأمانَ والاطمِئنانَ مهما اشتَدَّت الأُمورُ وصَعُبَت، فلا يَعرِفُ يَأساً ولا قُنوطاً ولا قَلَقاً ولا اضطِراباً.
لذلكَ يَجِبُ على أهلِ الابتِلاءِ والبَلاءِ أن تَطمَئِنَّ قُلوبُهُم بِبَرَكَةِ إيمانِهِم بالله تعالى وبأسمائِهِ وصِفاتِهِ، فإذا انقَطَعَت الأسبابُ فَلْيَعلَموا أنَّ من وَرائِها مُسَبِّبَ الأسبابِ.
ماذا يَجِبُ على المَريضِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على من وَقَعَ في المَرَضِ وتَحَوُّلِ العَافِيَةِ عنهُ أن يَلتَزِمَ الأَدَبَ معَ الله تعالى، وأن يَعلَمَ عِلماً جازِماً بأنَّ اللهَ تعالى رَحيمٌ به، وأنَّ المَرَضَ من جُملَةِ نِعَمِ الله تعالى على عَبدِهِ المُؤمِنِ ـ ونَسألُ اللهَ تعالى العَفوَ والعَافِيَةَ ـ.
أولاً: الإكثارُ من ذِكرِ المَوتِ:
أيُّها الإخوة الكرام: المَوتُ حَقيقَةٌ قَاسِيَةٌ لا مَحيدَ عنها، وقَضِيَّةٌ رَهيبَةٌ مُسَلَّمَةٌ لا مَفَرَّ منها، تُواجِهُ أهلَ الدُّنيا، فلا يَستَطيعونَ لها رَدَّاً، ولا يَملِكونَ لها دَفْعاً، حَقيقَةٌ تَتَكَرَّرُ كُلَّ لَحظَةٍ، ونُعايِشُها مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، والنَّاسُ سَواءٌ أمامَ هذهِ الحَقيقَةِ، يُواجِهُها الآباءُ والأبناءُ، والأغنِياءُ والفُقَراءُ، والأقوِياءُ والضُّعَفاءُ، والرِّجالُ والنِّساءُ، والحُكَّامُ والمَحكومونَ.
من هذا المَنطَلَقِ دَعانا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى كَثرَةِ ذِكرِ هذهِ الحَقيقَةِ بِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» رواه الحاكم والإمام أحمد وغَيرُهُما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وكانَ سَيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللهَ، اذْكُرُوا اللهَ، جَاءَت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» رواه الترمذي عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
إذا كانَ هذا بِشَكلٍ عامٍّ، فإنَّ المَريضَ من بابِ أَولى وأَولى أن يَذكُرَ المَوتَ وأن يَستَعِدَّ لهُ، وأن يَجعَلَهُ نُصبَ عَينَيهِ، لا يَأساً من الشِّفاءِ، بل طَمَعاً بِلِقاءِ الله تعالى، وتَصحيحاً لأحوالِهِ، ومُراجَعَةً لِحِساباتِهِ.
ثانياً: رَدُّ المَظالِمِ إلى أهلِها:
أيُّها الإخوة الكرام: من الواجِبِ على العَبدِ المُؤمِنِ رَدُّ المَظالِمِ إلى أهلِها وخاصَّةً إذا وَقَعَ في المَرَضِ، وأن يَذكُرَ حَديثَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ الله؟
قَالَ: «وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وأن يَذكُرَ حَديثَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وروى الإمام مسلم عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَلَا تَدْعُو اللهَ لِي يَا ابْنَ عُمَرَ؟
قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ» وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ.
يَعني: كُنتَ والِياً على البَصرَةِ ولَستَ بِسَالِمٍ من الغُلولِ ـ من السَّرِقَةِ ـ وتَعَلَّقَت بكَ تَبِعاتٌ من حُقوقِ الله تعالى ومن حُقوقِ العِبادِ، فأيُّ دُعاءٍ تَطلُبُ؟
ثالثاً: المُبادَرَةُ إلى التَّوبَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على العَبدِ المُؤمِنِ أن يُبادِرَ إلى التَّوبَةِ بِشَكلٍ عامٍّ وخاصَّةً إذا وَقَعَ في المَرَضِ، وأن يَعلَمَ بأنَّ اللهَ تعالى يَقبَلُ تَوبَةَ عَبدِهِ ما لم تَقَعْ رُوحُهُ في الغَرغَرَةِ، فإذا بَلَغَتِ الرُّوحُ الحُلقومَ فلا تَوبَةَ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
ويَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
ويَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُؤمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ، فَسَعيدٌ من هَلَكَ على رَقعِهِ» رواه الطبراني والبيهقي عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. مَعنى واهٍ رَاقِعٌ: أي: مُذنِبٌ تَوَّابٌ.
ويَقولُ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أيُّها النَّاسُ، مَنْ أَلَمَّ بِذَنبٍ فَليَستغفِرِ الله ولْيَتُبْ، فإنْ عَادَ فَليَستغفِرِ الله ولْيَتُبْ، فإنْ عَادَ فَليَستغفِرِ الله ولْيَتُبْ، فإنَّما هِيَ خَطَايا مُطَوَّقَةٌ في أعناقِ الرِّجالِ، وإنَّ الهَلاكَ كُلَّ الهَلاكِ في الإصرارِ عَلَيها.
رابعاً: العَفوُ عمَّن أساءَ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على المُؤمِنِ أن يَعفُوَ عمَّن أساءَ إلَيهِ بِشَكلٍ عامٍّ وخاصَّةً إذا وَقَعَ في المَرَضِ، وذلكَ لِقَولِهِ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾. ولِقَولِهِ تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾. ولِقَولِهِ تعالى: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾.
ما أجمَلَ التَّعامُلَ بالفَضلِ بَينَ العِبادِ وخاصَّةً لمن كانَ مَريضاً، لأنَّهُ بِأمَسِّ الحَاجَةِ إلى عَفوِ الله تعالى ورَحمَتِهِ.
يُذكَرُ بأنَّ قَيسَ بنَ سَعدِ بنِ عُبادَةَ مَرِضَ فاستَبطَأَ إخوانَهُ، فَسَألَ عنهُم، فقيلَ لهُ: إنَّهُم يَستَحيونَ مِمَّا لَكَ عَلَيهِم من الدَّينِ.
فقال: أخزَى اللُه مالاً يَمنَعُ الإخوانَ من الزِّيارَةِ، ثمَّ أَمَرَ مُنادِيَاً يُنادي: مَن كانَ عَلَيهِ لِقَيسٍ حَقٌّ، فهوَ منهُ في حِلٍّ.
قال: فَانكَسَرَت عَتَبَةُ بابِهِ بِالعَشِيِّ لِكَثرَةِ مَن عَادَهُ.
خامساً: كِتابَةُ الوَصِيَّةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: العَبدُ بِحَاجَةٍ إلى زِيادَةٍ في القُرُباتِ والحَسَناتِ، وأن يَتَدارَكَ ما سَلَفَ من تَفريطٍ في حَياتِهِ من أعمالِ الخَيرِ، لأنَّ الإنسانَ مَغرورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ في عَمَلِهِ، فإذا عُرِضَ له المَرَضُ وخافَ البَيانَ احتاجَ إلى تَلافي ما فَرَّطَ منه من التَّفريطِ بِمَالِهِ.
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ».
و روى الشيخان عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ ثَلاثَ لَيَالٍ إِلا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ».
قَالَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.
فيا أخي الحَبيب: إذا كانَت كِتابَةُ الوَصِيَّةِ مُستَحَبَّةٌ للسَّليمِ، فَكَيفَ لا تَكتُبُها وأنتَ مَريضٌ، وخاصَّةً الوَصِيَّةُ الوَاجِبَةُ إذا كانَت عَلَيكَ حُقوقٌ لله عزَّ وجلَّ من زَكاةٍ أو نَذْرٍ أو كَفَّارَةٍ أو حَجٍّ، أو حُقوقٌ للعِبادِ؟ فَلا تُضَيِّعْ حُقوقَ الله تعالى ولا حقَّ أحَدٍ من الخَلقِ، وأَوصِ بِشَيءٍ من مَالِكَ بَعدَ ذلكَ، وعلى أن لا يَتَجاوَزَ ثُلُثَ ما يَبَقى مِنَ التَرِكَة بَعدَ تَجهِيزِهِ وَتَكفِينِهِ وقَضَاءِ دُيُونِهِ، ولْيَكُنْ صَدَقَةً جَارِيَةً أو في عِلمٍ يُنتَفَعُ به؛ هذا إذا كُنتَ غَنِيَّاً، أمَّا إذا كُنتَ ذا مالٍ قَليلٍ، ولكَ وَرَثَةٌ فُقَراءُ فالأفضَلُ أن لا تُوصي وَصِيَّةَ نَافِلَةٍ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» رواه الشيخان. لأنَّ الوَصِيَّةَ في هذهِ الحَالَةِ تَكونُ صِلَةً للأباعِدِ، وتَرْكاً للأقارِبِ، وإذا تَرَكتَ الوَصِيَّةَ في هذهِ الحَالَةِ تَكونُ وَصَلتَ أقارِبَكَ، وهذا الأفضَلُ.
ولا تُوصِ لأحَدٍ من الوَرَثَةِ، لأنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلا لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رواه ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وأوصِ أُصولَكَ وفُروعَكَ وزَوجَكَ بِتَقوى الله عزَّ وجلَّ من بَعدِكَ، وأن يَذكُروكَ بِدَعوَةٍ صَالِحَةٍ، وأن يَكونوا مِمَّن التَزَمَ شَرْعَ الله تعالى، وأن يَكونوا مُتَماسِكينَ مُتَعاوِنِينَ على البِرِّ والتَّقوى لا على الإِثمِ والعُدوانِ، وأن يُوَزِّعوا التَّرِكَةَ بَعدَ المَوتِ مُباشَرَةً وأن لا يُؤَخِّروا ذلكَ حتَّى لا يَتَقَاطَعوا.
وأَشْهِدْ على وَصِيَّتِكَ، ولْتَكُنْ وَصِيَّتُكَ بِوُضوحٍ لا غُموضَ فيها، ولْيَكُنْ وَصِيُّكَ مِمَّن يَخافُ الله عزَّ وجلَّ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: العَاقِلُ من العِبادِ هوَ مَن أكثَرَ من ذِكرِ المَوتِ واستَعَدَّ لِلِقائِهِ، ورَدَّ المَظالِمَ إلى أهلِها، وبادَرَ بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ إلى الله تعالى، وعفا عمَّن أساءَ إلَيهِ، وكَتَبَ وَصِيِّتَهُ، وخاصَّةً إذا كانَ مَريضاً، فإذا كانَ السَّليمُ يَموتُ من غَيرِ عِلَّةٍ فالمَريضُ من بابِ أَولى وأَولى.
أسألُ اللهَ تعالى لي ولَكُم تَمامَ العَافِيَةِ إلى نِهايَةِ الأجَلِ، معَ كَمالِ الاستِقامَةِ وحُسنَ التَّوبَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
100ـ «اذْكُرُوا الله، جَاءَت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: أكمَلُ النَّاسِ عُبودِيَّةً لله عزَّ وجلَّ هوَ من عَرَفَ أسماءَ الله تعالى وصِفاتِهِ العُلا، لأنَّ مَعرِفَةَ أسمائِهِ وصِفاتِهِ معَ الإيمانِ الجَازِمِ بها يَجعَلُ قَلبَ المُؤمِنِ في طُمَأنينَةٍ، ويَزولُ عنهُ كابوسُ الخَوفِ والقَلَقِ والاضطِرابِ من المُستَقبَلِ والمَجهولِ.
مِثالُ ذلكَ: ﴿ولله الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾. لو أنَّ جَماعَةً من النَّاسِ رَكِبوا طَائِرَةً أو سَفينَةً وعَلِموا أنَّ قَائِدَ السَّفينَةِ أو الطَّائِرَةِ رَجُلٌ عاقِلٌ حَليمٌ ماهِرٌ بالقِيادَةِ، وله خِبرَةٌ كَبيرَةٌ، وعِندَهُ قُدرَةٌ على تَجاوُزِ المَخاطِرِ التي تَمُرُّ به، ألا يُورِثُ عِندَ رُكَّابِ الطَّائِرَةِ أو السَّفينَةِ أمناً واطمِئناناً وثِقَةً به؟
بِخِلافِ ما لو أدرَكوا أنَّهُ طائِشٌ أحمَقٌ، أو جاهِلٌ بالقِيادَةِ وتَجاوُزِ المَخاطِرِ، فإنَّ ذلكَ يُوجِبُ خَوفاً وقَلَقاً يَزيدُ كُلَّما زادَ عِلمُهُم بالأخطارِ.
أيُّها الإخوة الكرام: من أعظَمِ نِعَمِ الله تعالى على العَبدِ نِعمَةُ الإيمانِ بالله تعالى وبأسمائِهِ وصِفاتِهِ، فَرَبُّنا عزَّ وجلَّ لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، وأمرُهُ إذا أرادَ شَيئاً أن يَقولَ لهُ: كُنْ فَيَكونُ، وهوَ رَحيمٌ بِعِبادِهِ، وخَبيرٌ بما يُصلِحُهُم، لا يَخفى عَلَيهِ شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ.
هذا الإيمانُ يُورِثُ عِندَ صَاحِبهِ الأمنَ والأمانَ والاطمِئنانَ مهما اشتَدَّت الأُمورُ وصَعُبَت، فلا يَعرِفُ يَأساً ولا قُنوطاً ولا قَلَقاً ولا اضطِراباً.
لذلكَ يَجِبُ على أهلِ الابتِلاءِ والبَلاءِ أن تَطمَئِنَّ قُلوبُهُم بِبَرَكَةِ إيمانِهِم بالله تعالى وبأسمائِهِ وصِفاتِهِ، فإذا انقَطَعَت الأسبابُ فَلْيَعلَموا أنَّ من وَرائِها مُسَبِّبَ الأسبابِ.
ماذا يَجِبُ على المَريضِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على من وَقَعَ في المَرَضِ وتَحَوُّلِ العَافِيَةِ عنهُ أن يَلتَزِمَ الأَدَبَ معَ الله تعالى، وأن يَعلَمَ عِلماً جازِماً بأنَّ اللهَ تعالى رَحيمٌ به، وأنَّ المَرَضَ من جُملَةِ نِعَمِ الله تعالى على عَبدِهِ المُؤمِنِ ـ ونَسألُ اللهَ تعالى العَفوَ والعَافِيَةَ ـ.
أولاً: الإكثارُ من ذِكرِ المَوتِ:
أيُّها الإخوة الكرام: المَوتُ حَقيقَةٌ قَاسِيَةٌ لا مَحيدَ عنها، وقَضِيَّةٌ رَهيبَةٌ مُسَلَّمَةٌ لا مَفَرَّ منها، تُواجِهُ أهلَ الدُّنيا، فلا يَستَطيعونَ لها رَدَّاً، ولا يَملِكونَ لها دَفْعاً، حَقيقَةٌ تَتَكَرَّرُ كُلَّ لَحظَةٍ، ونُعايِشُها مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، والنَّاسُ سَواءٌ أمامَ هذهِ الحَقيقَةِ، يُواجِهُها الآباءُ والأبناءُ، والأغنِياءُ والفُقَراءُ، والأقوِياءُ والضُّعَفاءُ، والرِّجالُ والنِّساءُ، والحُكَّامُ والمَحكومونَ.
من هذا المَنطَلَقِ دَعانا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى كَثرَةِ ذِكرِ هذهِ الحَقيقَةِ بِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» رواه الحاكم والإمام أحمد وغَيرُهُما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وكانَ سَيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللهَ، اذْكُرُوا اللهَ، جَاءَت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ» رواه الترمذي عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
إذا كانَ هذا بِشَكلٍ عامٍّ، فإنَّ المَريضَ من بابِ أَولى وأَولى أن يَذكُرَ المَوتَ وأن يَستَعِدَّ لهُ، وأن يَجعَلَهُ نُصبَ عَينَيهِ، لا يَأساً من الشِّفاءِ، بل طَمَعاً بِلِقاءِ الله تعالى، وتَصحيحاً لأحوالِهِ، ومُراجَعَةً لِحِساباتِهِ.
ثانياً: رَدُّ المَظالِمِ إلى أهلِها:
أيُّها الإخوة الكرام: من الواجِبِ على العَبدِ المُؤمِنِ رَدُّ المَظالِمِ إلى أهلِها وخاصَّةً إذا وَقَعَ في المَرَضِ، وأن يَذكُرَ حَديثَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يَسِيراً يَا رَسُولَ الله؟
قَالَ: «وَإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وأن يَذكُرَ حَديثَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وروى الإمام مسلم عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَلَا تَدْعُو اللهَ لِي يَا ابْنَ عُمَرَ؟
قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ» وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ.
يَعني: كُنتَ والِياً على البَصرَةِ ولَستَ بِسَالِمٍ من الغُلولِ ـ من السَّرِقَةِ ـ وتَعَلَّقَت بكَ تَبِعاتٌ من حُقوقِ الله تعالى ومن حُقوقِ العِبادِ، فأيُّ دُعاءٍ تَطلُبُ؟
ثالثاً: المُبادَرَةُ إلى التَّوبَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على العَبدِ المُؤمِنِ أن يُبادِرَ إلى التَّوبَةِ بِشَكلٍ عامٍّ وخاصَّةً إذا وَقَعَ في المَرَضِ، وأن يَعلَمَ بأنَّ اللهَ تعالى يَقبَلُ تَوبَةَ عَبدِهِ ما لم تَقَعْ رُوحُهُ في الغَرغَرَةِ، فإذا بَلَغَتِ الرُّوحُ الحُلقومَ فلا تَوبَةَ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾.
ويَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» رواه الإمام أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
ويَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُؤمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ، فَسَعيدٌ من هَلَكَ على رَقعِهِ» رواه الطبراني والبيهقي عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. مَعنى واهٍ رَاقِعٌ: أي: مُذنِبٌ تَوَّابٌ.
ويَقولُ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أيُّها النَّاسُ، مَنْ أَلَمَّ بِذَنبٍ فَليَستغفِرِ الله ولْيَتُبْ، فإنْ عَادَ فَليَستغفِرِ الله ولْيَتُبْ، فإنْ عَادَ فَليَستغفِرِ الله ولْيَتُبْ، فإنَّما هِيَ خَطَايا مُطَوَّقَةٌ في أعناقِ الرِّجالِ، وإنَّ الهَلاكَ كُلَّ الهَلاكِ في الإصرارِ عَلَيها.
رابعاً: العَفوُ عمَّن أساءَ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على المُؤمِنِ أن يَعفُوَ عمَّن أساءَ إلَيهِ بِشَكلٍ عامٍّ وخاصَّةً إذا وَقَعَ في المَرَضِ، وذلكَ لِقَولِهِ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾. ولِقَولِهِ تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم﴾. ولِقَولِهِ تعالى: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيم﴾.
ما أجمَلَ التَّعامُلَ بالفَضلِ بَينَ العِبادِ وخاصَّةً لمن كانَ مَريضاً، لأنَّهُ بِأمَسِّ الحَاجَةِ إلى عَفوِ الله تعالى ورَحمَتِهِ.
يُذكَرُ بأنَّ قَيسَ بنَ سَعدِ بنِ عُبادَةَ مَرِضَ فاستَبطَأَ إخوانَهُ، فَسَألَ عنهُم، فقيلَ لهُ: إنَّهُم يَستَحيونَ مِمَّا لَكَ عَلَيهِم من الدَّينِ.
فقال: أخزَى اللُه مالاً يَمنَعُ الإخوانَ من الزِّيارَةِ، ثمَّ أَمَرَ مُنادِيَاً يُنادي: مَن كانَ عَلَيهِ لِقَيسٍ حَقٌّ، فهوَ منهُ في حِلٍّ.
قال: فَانكَسَرَت عَتَبَةُ بابِهِ بِالعَشِيِّ لِكَثرَةِ مَن عَادَهُ.
خامساً: كِتابَةُ الوَصِيَّةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: العَبدُ بِحَاجَةٍ إلى زِيادَةٍ في القُرُباتِ والحَسَناتِ، وأن يَتَدارَكَ ما سَلَفَ من تَفريطٍ في حَياتِهِ من أعمالِ الخَيرِ، لأنَّ الإنسانَ مَغرورٌ بِأَمَلِهِ مُقَصِّرٌ في عَمَلِهِ، فإذا عُرِضَ له المَرَضُ وخافَ البَيانَ احتاجَ إلى تَلافي ما فَرَّطَ منه من التَّفريطِ بِمَالِهِ.
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ».
و روى الشيخان عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ ثَلاثَ لَيَالٍ إِلا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ».
قَالَ عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي.
فيا أخي الحَبيب: إذا كانَت كِتابَةُ الوَصِيَّةِ مُستَحَبَّةٌ للسَّليمِ، فَكَيفَ لا تَكتُبُها وأنتَ مَريضٌ، وخاصَّةً الوَصِيَّةُ الوَاجِبَةُ إذا كانَت عَلَيكَ حُقوقٌ لله عزَّ وجلَّ من زَكاةٍ أو نَذْرٍ أو كَفَّارَةٍ أو حَجٍّ، أو حُقوقٌ للعِبادِ؟ فَلا تُضَيِّعْ حُقوقَ الله تعالى ولا حقَّ أحَدٍ من الخَلقِ، وأَوصِ بِشَيءٍ من مَالِكَ بَعدَ ذلكَ، وعلى أن لا يَتَجاوَزَ ثُلُثَ ما يَبَقى مِنَ التَرِكَة بَعدَ تَجهِيزِهِ وَتَكفِينِهِ وقَضَاءِ دُيُونِهِ، ولْيَكُنْ صَدَقَةً جَارِيَةً أو في عِلمٍ يُنتَفَعُ به؛ هذا إذا كُنتَ غَنِيَّاً، أمَّا إذا كُنتَ ذا مالٍ قَليلٍ، ولكَ وَرَثَةٌ فُقَراءُ فالأفضَلُ أن لا تُوصي وَصِيَّةَ نَافِلَةٍ، لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» رواه الشيخان. لأنَّ الوَصِيَّةَ في هذهِ الحَالَةِ تَكونُ صِلَةً للأباعِدِ، وتَرْكاً للأقارِبِ، وإذا تَرَكتَ الوَصِيَّةَ في هذهِ الحَالَةِ تَكونُ وَصَلتَ أقارِبَكَ، وهذا الأفضَلُ.
ولا تُوصِ لأحَدٍ من الوَرَثَةِ، لأنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، أَلا لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رواه ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وأوصِ أُصولَكَ وفُروعَكَ وزَوجَكَ بِتَقوى الله عزَّ وجلَّ من بَعدِكَ، وأن يَذكُروكَ بِدَعوَةٍ صَالِحَةٍ، وأن يَكونوا مِمَّن التَزَمَ شَرْعَ الله تعالى، وأن يَكونوا مُتَماسِكينَ مُتَعاوِنِينَ على البِرِّ والتَّقوى لا على الإِثمِ والعُدوانِ، وأن يُوَزِّعوا التَّرِكَةَ بَعدَ المَوتِ مُباشَرَةً وأن لا يُؤَخِّروا ذلكَ حتَّى لا يَتَقَاطَعوا.
وأَشْهِدْ على وَصِيَّتِكَ، ولْتَكُنْ وَصِيَّتُكَ بِوُضوحٍ لا غُموضَ فيها، ولْيَكُنْ وَصِيُّكَ مِمَّن يَخافُ الله عزَّ وجلَّ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: العَاقِلُ من العِبادِ هوَ مَن أكثَرَ من ذِكرِ المَوتِ واستَعَدَّ لِلِقائِهِ، ورَدَّ المَظالِمَ إلى أهلِها، وبادَرَ بالتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ إلى الله تعالى، وعفا عمَّن أساءَ إلَيهِ، وكَتَبَ وَصِيِّتَهُ، وخاصَّةً إذا كانَ مَريضاً، فإذا كانَ السَّليمُ يَموتُ من غَيرِ عِلَّةٍ فالمَريضُ من بابِ أَولى وأَولى.
أسألُ اللهَ تعالى لي ولَكُم تَمامَ العَافِيَةِ إلى نِهايَةِ الأجَلِ، معَ كَمالِ الاستِقامَةِ وحُسنَ التَّوبَةِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin