مع الحبيب المصطفى: وَإِنِّي أُرْبِئْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
64ـ وَإِنِّي أُرْبِئْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد رُفِعَ شَأنُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضلِ الله تعالى، وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شاكِراً لله تعالى، ومن مَظاهِرِ الشُّكرِ كَثرَةُ العِبادَةِ لله تعالى، ومن هذهِ العِباداتِ عِبادَةُ الاعتِكافِ، حيثُ إنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما تَرَكَ الاعتِكافَ حتَّى انتَقَلَ إلى الرَّفيقِ الأعلى، وتَرَكَهُ مَرَّةً بِسَبَبِ سَفَرٍ، فَقَضاهُ في شهرِ شَوَّال.
اِعتِكافُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد اعتَكَفَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مرَّةً في الأوَّلِ، ثمَّ في الأوسَطِ، يَلتَمِسُ ليلَةَ القَدرِ، ثمَّ تَبَيَّنَ له أنَّها في العَشرِ الأخيرِ، فداوَمَ على اعتِكافِ العَشرِ الأخيرِ حتَّى لَحِقَ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ.
وتَرَكَ مرَّةً الاعتِكافَ في العَشرِ الأخيرِ، فقضاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في شَهرِ شَوَّال، فاعتَكَفَ العَشرَ الأُوَلَ منهُ، كما جاءَ في الحديثِ الشريف الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الْأَخْبِيَةُ.
فَقَالَ: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ، فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ.
اِعتَكَفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِشرينَ يوماً في العامِ الذي قُبِضَ فيه:
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ حَريصاً أشَدَّ الحِرصِ على الاعتِكافِ، لأنَّ فيهِ خَلوَةً معَ الله تعالى، وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قد عَشِقَ ربَّهُ، كما قالت قريشٌ: إنَّ محمَّداً قد عَشِقَ ربَّهُ.
حتَّى إنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اعتَكَفَ عِشرينَ يوماً في العامِ الذي قُبِضَ فيه، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْماً.
أيُّها الإخوة الكرام: قال شُرَّاحُ الحديثِ عن سَبَبِ اعتِكافِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِشرينَ يوماً: لِأَنَّهُ عَلِمَ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَشْرِيعاً لِأُمَّتِهِ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْعَمَلِ إِذَا بَلَغُوا أَقْصَى الْعُمُرِ، لِيَلْقَوا اللهَ عَلَى خَيْر أَعْمَالهمْ.
ما كانَ يَعودُ مريضاً ولا يَشهَدُ جَنازَةً:
أيُّها الإخوة الكرام: وقد كانَ من هَديِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الاعتِكافِ أنَّهُ ما كانَ يَخرُجُ من مُعتَكَفِهِ لِعِيادَةِ مَريضٍ، ولا لِشُهودِ جَنازَةٍ، وذلكَ من أجلِ التَّركيزِ الكُلِّيِّ لمناجاةِ الله تعالى، وتَحقيقِ الحِكمَةِ من الاعتِكافِ، وهيَ الانقِطاعُ عن النَّاسِ والإقبالُ على الله تعالى.
تَقولُ السَّيِّدَةُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضاً، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ. رواه أبو داود.
تَحَرِّي ليلَةِ القَدرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من الأعمالِ الصَّالِحَةِ التي يَنبَغي أن نُبادِرَ إليها تَحرِّي لَيلَةِ القَدرِ في العَشرِ الأخيرِ من رَمَضانَ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ.
قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ.
فَقَالَ: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ». فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ.
قَالَ: «وَإِنِّي أُرْبِئْتُهَا ـ وفي رواية: أُريتُها ـ لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ».
فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَت السَّمَاءُ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ـ أي: قَطَرَ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ سَقْفِهِ ـ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ ـ أي: طَرَفُ الأنفِ ـ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِن الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.
هيَ في أوتارِ العَشرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَال: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» وهيَ في أوتارِ العَشرِ آكَدُ.
وفي روايةٍ للإمام البخاري أيضاً عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِن الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
وفي رواية للإمام البخاري أيضاً عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».
خُطورَةُ الخُصومَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِن الْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
وفي هذا الحديثِ الشَّريفِ دَليلٌ على شُؤمِ الخِصامِ والتَّنازُعِ، وأنَّهُ سَبَبٌ في رَفعِ الخَيرِ وخَفائِهِ.
العلاماتُ التي تُعرَفُ بها ليلَةُ القَدرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لليلَةِ القَدرِ علاماتٌ ثَلاثَةٌ:
أولاً: شَمسُ صَبيحَتِها لا شُعاعَ فيها، روى الإمام مسلم عن أبيِّ بن كعبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا.
ثانياً: ليلَتُها لا حارَّةٌ ولا بارِدَةٌ، روى ابن خُزَيمَةَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في لَيلَةِ القَدرِ: «لَيلَةٌ طَلقَةٌ، لا حارَّةٌ ولا بارِدَةٌ، تُصبِحُ الشَّمسُ يَومَها حَمراءُ ضَعيفَةٌ».
ثالثاً: لا تُرسَلُ فيها الشُّهُبُ، روى الطَّبرانيُّ في الكبير عَنْ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ بَلْجَةٌ ـ مُضيئَةٌ ـ لا حَارَّةٌ وَلا بَارِدَةٌ، وَلا سَحَابَ فِيهَا، وَلا مَطَرَ، وَلا رِيحَ، وَلا يُرْمَى فِيهَا بنجْمٍ ـ أي: لا تُرسَلُ فيها الشُّهُبُ ـ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: طَريقُ صَلاحِ القَلبِ بِجَمعِهِ على الله تعالى، ومن الأسبابِ المُعينَةِ على جَمعِ القَلبِ على الله تعالى الاعتِكافُ، وخاصَّةً في العَشرِ الأخيرِ من شَهرِ رَمَضانَ المبارَكَ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُكرِمَنا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
64ـ وَإِنِّي أُرْبِئْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد رُفِعَ شَأنُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِفَضلِ الله تعالى، وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شاكِراً لله تعالى، ومن مَظاهِرِ الشُّكرِ كَثرَةُ العِبادَةِ لله تعالى، ومن هذهِ العِباداتِ عِبادَةُ الاعتِكافِ، حيثُ إنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ما تَرَكَ الاعتِكافَ حتَّى انتَقَلَ إلى الرَّفيقِ الأعلى، وتَرَكَهُ مَرَّةً بِسَبَبِ سَفَرٍ، فَقَضاهُ في شهرِ شَوَّال.
اِعتِكافُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد اعتَكَفَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مرَّةً في الأوَّلِ، ثمَّ في الأوسَطِ، يَلتَمِسُ ليلَةَ القَدرِ، ثمَّ تَبَيَّنَ له أنَّها في العَشرِ الأخيرِ، فداوَمَ على اعتِكافِ العَشرِ الأخيرِ حتَّى لَحِقَ بِرَبِّهِ عزَّ وجلَّ.
وتَرَكَ مرَّةً الاعتِكافَ في العَشرِ الأخيرِ، فقضاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في شَهرِ شَوَّال، فاعتَكَفَ العَشرَ الأُوَلَ منهُ، كما جاءَ في الحديثِ الشريف الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الِاعْتِكَافَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الْأَخْبِيَةُ.
فَقَالَ: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ، فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ.
اِعتَكَفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِشرينَ يوماً في العامِ الذي قُبِضَ فيه:
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ حَريصاً أشَدَّ الحِرصِ على الاعتِكافِ، لأنَّ فيهِ خَلوَةً معَ الله تعالى، وهوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قد عَشِقَ ربَّهُ، كما قالت قريشٌ: إنَّ محمَّداً قد عَشِقَ ربَّهُ.
حتَّى إنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اعتَكَفَ عِشرينَ يوماً في العامِ الذي قُبِضَ فيه، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْماً.
أيُّها الإخوة الكرام: قال شُرَّاحُ الحديثِ عن سَبَبِ اعتِكافِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِشرينَ يوماً: لِأَنَّهُ عَلِمَ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِن الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ تَشْرِيعاً لِأُمَّتِهِ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْعَمَلِ إِذَا بَلَغُوا أَقْصَى الْعُمُرِ، لِيَلْقَوا اللهَ عَلَى خَيْر أَعْمَالهمْ.
ما كانَ يَعودُ مريضاً ولا يَشهَدُ جَنازَةً:
أيُّها الإخوة الكرام: وقد كانَ من هَديِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الاعتِكافِ أنَّهُ ما كانَ يَخرُجُ من مُعتَكَفِهِ لِعِيادَةِ مَريضٍ، ولا لِشُهودِ جَنازَةٍ، وذلكَ من أجلِ التَّركيزِ الكُلِّيِّ لمناجاةِ الله تعالى، وتَحقيقِ الحِكمَةِ من الاعتِكافِ، وهيَ الانقِطاعُ عن النَّاسِ والإقبالُ على الله تعالى.
تَقولُ السَّيِّدَةُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضاً، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ. رواه أبو داود.
تَحَرِّي ليلَةِ القَدرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: من الأعمالِ الصَّالِحَةِ التي يَنبَغي أن نُبادِرَ إليها تَحرِّي لَيلَةِ القَدرِ في العَشرِ الأخيرِ من رَمَضانَ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ.
قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ.
فَقَالَ: «إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ». فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ.
قَالَ: «وَإِنِّي أُرْبِئْتُهَا ـ وفي رواية: أُريتُها ـ لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ».
فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَت السَّمَاءُ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ـ أي: قَطَرَ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ سَقْفِهِ ـ فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ ـ أي: طَرَفُ الأنفِ ـ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِن الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.
هيَ في أوتارِ العَشرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَال: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» وهيَ في أوتارِ العَشرِ آكَدُ.
وفي روايةٍ للإمام البخاري أيضاً عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِن الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
وفي رواية للإمام البخاري أيضاً عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».
خُطورَةُ الخُصومَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِن الْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْراً لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
وفي هذا الحديثِ الشَّريفِ دَليلٌ على شُؤمِ الخِصامِ والتَّنازُعِ، وأنَّهُ سَبَبٌ في رَفعِ الخَيرِ وخَفائِهِ.
العلاماتُ التي تُعرَفُ بها ليلَةُ القَدرِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لليلَةِ القَدرِ علاماتٌ ثَلاثَةٌ:
أولاً: شَمسُ صَبيحَتِها لا شُعاعَ فيها، روى الإمام مسلم عن أبيِّ بن كعبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: هِيَ لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا.
ثانياً: ليلَتُها لا حارَّةٌ ولا بارِدَةٌ، روى ابن خُزَيمَةَ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في لَيلَةِ القَدرِ: «لَيلَةٌ طَلقَةٌ، لا حارَّةٌ ولا بارِدَةٌ، تُصبِحُ الشَّمسُ يَومَها حَمراءُ ضَعيفَةٌ».
ثالثاً: لا تُرسَلُ فيها الشُّهُبُ، روى الطَّبرانيُّ في الكبير عَنْ وَاثِلَةَ بن الأَسْقَعِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ بَلْجَةٌ ـ مُضيئَةٌ ـ لا حَارَّةٌ وَلا بَارِدَةٌ، وَلا سَحَابَ فِيهَا، وَلا مَطَرَ، وَلا رِيحَ، وَلا يُرْمَى فِيهَا بنجْمٍ ـ أي: لا تُرسَلُ فيها الشُّهُبُ ـ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: طَريقُ صَلاحِ القَلبِ بِجَمعِهِ على الله تعالى، ومن الأسبابِ المُعينَةِ على جَمعِ القَلبِ على الله تعالى الاعتِكافُ، وخاصَّةً في العَشرِ الأخيرِ من شَهرِ رَمَضانَ المبارَكَ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُكرِمَنا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin