مع الحبيب المصطفى: هم الأخسرون ورب الكعبة
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
44ـ هم الأخسرون ورب الكعبة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: الجُودُ والسَّخاءُ من سِماتِ الإنسانِ المُؤمنِ الصَّادِقِ، وسَادَاتُ النَّاسِ في الدُّنيا هُمُ الأسخِياءُ، وفي الآخِرَةِ الأَتقِياءُ، والسَّخاءُ من أخلاقِ الأنبِياءِ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهوَ أَصلٌ من أُصولِ النَّجاةِ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه البيهقي عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «السَّخاءُ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، فَمَن كانَ سَخِيَّاً أخَذَ بِغُصنٍ منها، فَلَم يَترُكهُ الغُصنُ حتَّى يُدخِلَهُ الجَنَّةَ، والشُّحُّ شَجَرَةُ في النَّارِ، فَمَن كانَ شَحيحاً أخَذَ بِغُصنٍ منها ، فَلَم يَترُكهُ الغُصنُ حتَّى يُدخِلَهُ النَّارَ».
فيا من أردتَ النَّجاةَ يومَ القِيامَةِ، وأن يَتَجاوَزَ اللهُ عنكَ، فَعَلَيكَ بالسَّخاءِ، يَقولُ سيِّدُنا سَلمانُ الفارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إذا مَاتَ السَّخِيُّ قالتِ الأرضُ والحَفَظَةُ: رَبِّ تَجَاوَز عن عَبدِكَ في الدُّنيا بِسَخائِهِ.
وإذا مَاتَ البَخِيلُ قالت: اللَّهُمَّ احجُب هَذا العَبدَ عن الجَنَّةِ، كَمَا حَجَبَ عِبادَكَ عمَّا جَعَلتَ في يَدَيهِ من الدُّنيا.
عَطاءُ الله تعالى لِخَلقِهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أعظَمَ دَرَجَاتِ العَطاءِ الذي لا حُدُودَ لهُ، والذي لا يَكُونُ ابتِغَاءَ عِوَضٍ هوَ من صِفَاتِ الخَالِقِ جَلَّ وعَلَا، فَمِن أَسمَائِهِ تعالى: الوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الكَريمُ.
وعَطاءُ الله تعالى فَيضٌ لا يَنقَطِعُ ولا يَنتَهي، يُعطِي وَفقَ مَشيئَتِهِ التي تَقتَضيها حِكمَتُهُ دُونَ أن يَكونَ لهُ غَايَةٌ من عَطائِهِ، لذلكَ فَإنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى يُمِدُّ بِعَطائِهِ في الدُّنيا أهلَ طاعَتِهِ، وأهلَ مَعصِيَتِهِ، حتَّى الكافِرينَ والجاحِدِينَ به، قال تعالى: ﴿من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلَّاً نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾.
ولكن لِنَعلَم بأنَّ العَطاءَ في الدُّنيا مَشمولٌ بِقانونِ الابتِلاءِ، وأمَّا عَطاءُ الآخِرَةِ فهوَ عَطاءُ الفَضْلِ العَظيمِ من غَيرِ انقِطاعٍ، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ﴾.
حَثُّ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على العَطاءِ والسَّخاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَثَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على السَّخاءِ والجُودِ والكَرَمِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عنها، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي ـ جمعُ الطَّعامِ بالوِعَاءِ ـ فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ».
قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ ـ أي: لَمْ يُمْكِنِّي الْقَرَارُ وَالثَّبَاتُ ـ أَنْ قُمْتُ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟
قَالَ: «هُمْ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلَّا مَنْ ـ قَالَ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ـ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ».
وروى الإمام مسلم أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ ـ أرضٌ مَملوءَةٌ بالصُّخورِ غَيرُ صالِحَةٍ للزِّراعَةِ ـ فَإِذَا شَرْجَةٌ ـ مَسيلُ الماءِ من الحَرَّةِ إلى السَّهلِ ـ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَد اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ.
فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله، مَا اسْمُكَ؟
قَالَ: فُلَانٌ ـ الاسْم الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ ـ.
فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله، لِمَ تَسْأَلُنِي عَن اسْمِي؟
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتاً فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟
قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ.
الشُّحُّ ليسَ من وَصْفِ المُؤمِنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَذَّرَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأمَّةَ من الشُّحِّ، لأنَّهُ ليسَ من وَصْفِ هذهِ الأمَّةِ، روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ».
قال تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾.
وروى الإمام مسلم عن أَبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى».
ويَقولُ سيِّدُنا عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إذا أقبَلَت عَلَيكَ الدُّنيا فَأنفِق منها فَإنَّها لا تَفنَى، وإذا أدبَرَت عَنكَ فأَنفِق منها فإنَّها لا تَبقَى.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الشُّحُّ يُوَرِّثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، ويَفصِمُ عُرَى المَحَبَّةِ، وهوَ سَبَبٌ من أسبابِ الظُّلمِ والبَغيِ والعُدوانِ وسَفْكِ الدِّماءِ، ويُجَرِّئُ العَبدَ على المَعاصي وفِعلِ السَّيِّئاتِ، ويُنَافي الإيمانَ، ويُغضِبُ الرَّحمنَ، وهوَ سَبَبٌ من أَسبَابِ هَلاكِ الخَلقِ، والشَّحِيحُ مَحرُومٌ، والمُنفِقُ مَرزُوقٌ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنا لما تُحِبُّهُ وتَرضاهُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
44ـ هم الأخسرون ورب الكعبة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: الجُودُ والسَّخاءُ من سِماتِ الإنسانِ المُؤمنِ الصَّادِقِ، وسَادَاتُ النَّاسِ في الدُّنيا هُمُ الأسخِياءُ، وفي الآخِرَةِ الأَتقِياءُ، والسَّخاءُ من أخلاقِ الأنبِياءِ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهوَ أَصلٌ من أُصولِ النَّجاةِ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه البيهقي عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «السَّخاءُ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، فَمَن كانَ سَخِيَّاً أخَذَ بِغُصنٍ منها، فَلَم يَترُكهُ الغُصنُ حتَّى يُدخِلَهُ الجَنَّةَ، والشُّحُّ شَجَرَةُ في النَّارِ، فَمَن كانَ شَحيحاً أخَذَ بِغُصنٍ منها ، فَلَم يَترُكهُ الغُصنُ حتَّى يُدخِلَهُ النَّارَ».
فيا من أردتَ النَّجاةَ يومَ القِيامَةِ، وأن يَتَجاوَزَ اللهُ عنكَ، فَعَلَيكَ بالسَّخاءِ، يَقولُ سيِّدُنا سَلمانُ الفارِسِيُّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إذا مَاتَ السَّخِيُّ قالتِ الأرضُ والحَفَظَةُ: رَبِّ تَجَاوَز عن عَبدِكَ في الدُّنيا بِسَخائِهِ.
وإذا مَاتَ البَخِيلُ قالت: اللَّهُمَّ احجُب هَذا العَبدَ عن الجَنَّةِ، كَمَا حَجَبَ عِبادَكَ عمَّا جَعَلتَ في يَدَيهِ من الدُّنيا.
عَطاءُ الله تعالى لِخَلقِهِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ أعظَمَ دَرَجَاتِ العَطاءِ الذي لا حُدُودَ لهُ، والذي لا يَكُونُ ابتِغَاءَ عِوَضٍ هوَ من صِفَاتِ الخَالِقِ جَلَّ وعَلَا، فَمِن أَسمَائِهِ تعالى: الوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الكَريمُ.
وعَطاءُ الله تعالى فَيضٌ لا يَنقَطِعُ ولا يَنتَهي، يُعطِي وَفقَ مَشيئَتِهِ التي تَقتَضيها حِكمَتُهُ دُونَ أن يَكونَ لهُ غَايَةٌ من عَطائِهِ، لذلكَ فَإنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى يُمِدُّ بِعَطائِهِ في الدُّنيا أهلَ طاعَتِهِ، وأهلَ مَعصِيَتِهِ، حتَّى الكافِرينَ والجاحِدِينَ به، قال تعالى: ﴿من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلَّاً نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾.
ولكن لِنَعلَم بأنَّ العَطاءَ في الدُّنيا مَشمولٌ بِقانونِ الابتِلاءِ، وأمَّا عَطاءُ الآخِرَةِ فهوَ عَطاءُ الفَضْلِ العَظيمِ من غَيرِ انقِطاعٍ، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ﴾.
حَثُّ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على العَطاءِ والسَّخاءِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَثَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على السَّخاءِ والجُودِ والكَرَمِ، روى الإمام البخاري عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عنها، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْفِقِي وَلَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ، وَلَا تُوعِي ـ جمعُ الطَّعامِ بالوِعَاءِ ـ فَيُوعِيَ اللهُ عَلَيْكِ».
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «هُمْ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ».
قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ، فَلَمْ أَتَقَارَّ ـ أي: لَمْ يُمْكِنِّي الْقَرَارُ وَالثَّبَاتُ ـ أَنْ قُمْتُ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَنْ هُمْ؟
قَالَ: «هُمْ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلَّا مَنْ ـ قَالَ: هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ـ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلَا بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلَّا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولَاهَا، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ».
وروى الإمام مسلم أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتاً فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ ـ أرضٌ مَملوءَةٌ بالصُّخورِ غَيرُ صالِحَةٍ للزِّراعَةِ ـ فَإِذَا شَرْجَةٌ ـ مَسيلُ الماءِ من الحَرَّةِ إلى السَّهلِ ـ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَد اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ.
فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله، مَا اسْمُكَ؟
قَالَ: فُلَانٌ ـ الاسْم الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ ـ.
فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله، لِمَ تَسْأَلُنِي عَن اسْمِي؟
فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتاً فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلَانٍ، لِاسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟
قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثاً، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ.
الشُّحُّ ليسَ من وَصْفِ المُؤمِنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد حَذَّرَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأمَّةَ من الشُّحِّ، لأنَّهُ ليسَ من وَصْفِ هذهِ الأمَّةِ، روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ».
قال تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ولله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾.
وروى الإمام مسلم عن أَبي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى».
ويَقولُ سيِّدُنا عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إذا أقبَلَت عَلَيكَ الدُّنيا فَأنفِق منها فَإنَّها لا تَفنَى، وإذا أدبَرَت عَنكَ فأَنفِق منها فإنَّها لا تَبقَى.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: الشُّحُّ يُوَرِّثُ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ، ويَفصِمُ عُرَى المَحَبَّةِ، وهوَ سَبَبٌ من أسبابِ الظُّلمِ والبَغيِ والعُدوانِ وسَفْكِ الدِّماءِ، ويُجَرِّئُ العَبدَ على المَعاصي وفِعلِ السَّيِّئاتِ، ويُنَافي الإيمانَ، ويُغضِبُ الرَّحمنَ، وهوَ سَبَبٌ من أَسبَابِ هَلاكِ الخَلقِ، والشَّحِيحُ مَحرُومٌ، والمُنفِقُ مَرزُوقٌ.
اللَّهُمَّ وَفِّقنا لما تُحِبُّهُ وتَرضاهُ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin