مع الحبيب المصطفى: لتسألن عن هذا النعيم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
23ـ لتسألن عن هذا النعيم
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيَا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ الحياةَ الدُّنيا مهما بَلَغَ شأوُ نَعيمِها لا يَزِنُ ذَرَّةَ رَملٍ من مَعِينِ الآخِرَةِ، وإنَّ أعظَمَ ما في الدُّنيا من مَصائِبَ وشَدائِدَ يَهونُ أَمامَ نَعيمِ دَارِ الآخِرَةِ، ولا يُعادِلُ مِقدارَ شَرارَةٍ صَغيرةٍ مِن نارِ جَهَنَّمَ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذهِ الحياةُ الدُّنيا دارُ ابتِلاءٍ واختِبارٍ، وهيَ مَزرعَةٌ للآخِرَةِ، يزرَعُ فيها النَّاسُ اليومَ لِيَحصُدُوا غَدَاً في الآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾. ثمَّ بعدَ ذلكَ صائِرَةٌ إلى فَناءٍ وزَوالٍ، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام﴾.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذهِ الدُّنيا بما فيها من نِعَمٍ في جَنبِ الآخِرَةِ شيءٌ قليلٌ لا يُذكَرُ، قال تعالى: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاع﴾. ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمِثْلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ. رواه الإمام أحمد عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَنِي فِهْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذهِ حقيقةُ الدُّنيا، ولا يُنازِعُ في هذهِ الحقيقةِ إلا مَن حُرِمَ نِعمَةَ الإيمانِ باليومِ الآخِرِ، ونِعمَةُ الإيمانِ بأنَّ الجنَّةَ حقٌّ، والنَّارَ حقٌّ، ولكنَّ هذهِ الحقيقةَ مَحجوبةٌ عندَ الكثيرِ من النَّاسِ بِسَبَبِ انجِذابِ القلبِ إلى زِينَةِ الدُّنيا وزُخرُفِهَا، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾. ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» رواهُ الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
حقيقةُ الزُّهدِ في الدُّنيا:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: البعضُ من النَّاسِ يَظُنُّ أنَّ الزُّهدَ في الدُّنيا هوَ تَركُ العَمَلِ فيها، وهذا فَهمٌ خاطِئٌ، وقد بَيَّنَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَقيقَةَ الزُّهدِ في الدُّنيا بما روى الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدَيِ الله، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ».
وروى الحاكم عن محمد بن كعب القرظي رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «من أَحَبَّ أن يَكونَ أغنَى النَّاسِ فَليَكُن بِمَا في يَدِ الله أوثَقَ مَمَّا في يَدِهِ».
صُوَرٌ من زُهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الدُّنيا:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَعِشْ هذهِ السَّاعةَ المبارَكَةَ مع سيِّدِ الأنبياءِ والمرسَلينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يا تُرى كيفَ كانَ حالُهُ وحالُ أصحابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم في هذهِ الحياةِ الدُّنيا؟ ولنرى كيفَ كانَ عَيشُهُم؟ وخاصَّةً نحنُ نَعيشُ هذهِ الأزمَةَ القاسِيَةَ التي كانَ من نَتائِجِها ارتِفاعُ الأسعارِ، وقِلَّةُ العَمَلِ، وكَثرَةُ الحاجَةِ، وشِدَّةُ الفَقرِ.
الصُّورَةُ الأولى:
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ـ أَوْ لَيْلَةٍ ـ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟»
قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ الله.
قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا» فَقَامُوا مَعَهُ.
فَأَتَى رَجُلاً مِن الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَباً وَأَهْلاً.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟».
قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِن الْمَاءِ.
إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لله مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ أَضْيَافاً مِنِّي.
قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ» فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ».
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
روى الإمام البخاري عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: إِنَّا كُنَّا يَوْمَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرضَتْ كُدْيَةٌ شَديدَةٌ، فجاءُوا إِلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقالوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضتْ في الخَنْدَقِ.
فقال: «أَنَا نَازِلٌ».
ثُمَّ قَامَ وبَطْنُهُ معْصوبٌ بِحَجرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقاً، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المِعْولَ، فَضرَبَ فعادَ كَثيباً أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ.
فقلتُ: يا رسولَ الله، اِئْذَن لي إِلى البيتِ، فقلتُ لامْرَأَتي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً ما كانَ في ذلكَ صبْرٌ فِعِنْدَكَ شَيءٌ؟
فقالت: عِندِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبحْتُ العَنَاقَ ـ الأنثى من أولادِ المعزِ أو الغنمِ ـ وطَحَنْتُ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللحمَ في البُرْمَة، ثُمَّ جِئْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالعجِينُ قَد انْكَسَرَ ـ لانَ واختَمَرَ ـ والبُرْمَةُ ـ القِدر ـ بيْنَ الأَثَافِيِّ ـ أحجارٌ ثلاثةٌ توضَعُ عليها القِدرُ ـ قَد كَادَتَ تَنْضِجُ.
فقلتُ: طُعَيِّمٌ لي، فَقُمْ أَنْت يا رسولَ الله وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ.
قال: «كَمْ هُوَ؟». فَذَكَرتُ له.
فقال: «كثِيرٌ طَيِّبٌ، قُل لَهَا لا تَنْزِع البُرْمَةَ، ولا الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتيَ».
فقال: «قُومُوا». فقام المُهَاجِرُون وَالأَنْصَارُ.
وفي روايةٍ صَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً ـ طعاماً ـ فَحَيَّ هَلا ًبِكُمْ».
فَدَخَلْتُ عليها فقلت: وَيْحَكِ جَاءَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصارُ وَمن مَعَهم.
قالت: هل سَأَلَكَ؟
قلتُ: نَعَم.
قال: «ادْخُلوا وَلا تَضَاغَطُوا». فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيجْعَلُ عليهِ اللَّحمَ، ويُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ إِذا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ وَيَغْرفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ مِنه.
وفي روايةٍ يقولُ سيِّدُنا جابر رَضِيَ اللهُ عنهُ: فَأُقْسِمُ بالله لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
فقال: «كُلِي هذَا وَأَهدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ».
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ:
روى الإمام مسلم عن عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظاً فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ ـ القرظ هو: جِلدٌ مَدبوغٌ بِوَرقٍ ـ وَإِذَا أَفِيقٌ ـ جلدٌ لم تتمَّ دِباغَتُهُ ـ مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ.
قَالَ: «مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟».
قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ.
فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا؟».
قُلْتُ: بَلَى.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عَجَبَاً لَنَا، لَقَد عَلِمنَا أنَّ هذِهِ الحياةَ الدُّنيَا فانِيَةٌ، وأنَّ مِنَ المُحالِ فيهَا دوامُ الحَالِ، وأنَّهَا مَليئةٌ بالكَدَرِ والمُنكَراتِ والكِبرِ، ومع ذلكَ أَفنَينَا أَعمارَنا في جَمعِها، وأصبَحَتِ الشُّغلَ الشَّاغِلَ لِقُلوبِنا، ويا ليتَها أبقَت لنا للآخِرَةِ حظَّاً ونَصيباً، حتَّى وَصَلنا إلى زمانٍ لا يُبالي البَعضُ مِن أينَ أتَتْهُ هذهِ الدُّنيا، أمِن حَلالٍ أم مِن حَرامٍ، كما جَاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ».
وصِيَّةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لنا جميعاً عندما قال لعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» رواه الإمام البخاري عن عبد اللهِ بن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُما.
وصَدَقَ اللهُ تعالى القائِلُ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء واللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
لا تَحزَنوا عليها إن فاتَت، لأنَّها فائِتَةٌ لا محالةَ.
اللَّهُمَّ اجعَلنا من الشَّاكرينَ عندَ الرَّخاءِ، ومن الصَّابِرينَ عندَ البلاءِ، ومن الرَّاضينَ بِمُرِّ القَضاءِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
23ـ لتسألن عن هذا النعيم
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيَا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ الحياةَ الدُّنيا مهما بَلَغَ شأوُ نَعيمِها لا يَزِنُ ذَرَّةَ رَملٍ من مَعِينِ الآخِرَةِ، وإنَّ أعظَمَ ما في الدُّنيا من مَصائِبَ وشَدائِدَ يَهونُ أَمامَ نَعيمِ دَارِ الآخِرَةِ، ولا يُعادِلُ مِقدارَ شَرارَةٍ صَغيرةٍ مِن نارِ جَهَنَّمَ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذهِ الحياةُ الدُّنيا دارُ ابتِلاءٍ واختِبارٍ، وهيَ مَزرعَةٌ للآخِرَةِ، يزرَعُ فيها النَّاسُ اليومَ لِيَحصُدُوا غَدَاً في الآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾. ثمَّ بعدَ ذلكَ صائِرَةٌ إلى فَناءٍ وزَوالٍ، قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام﴾.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذهِ الدُّنيا بما فيها من نِعَمٍ في جَنبِ الآخِرَةِ شيءٌ قليلٌ لا يُذكَرُ، قال تعالى: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاع﴾. ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمِثْلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ. رواه الإمام أحمد عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَخِي بَنِي فِهْرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: هذهِ حقيقةُ الدُّنيا، ولا يُنازِعُ في هذهِ الحقيقةِ إلا مَن حُرِمَ نِعمَةَ الإيمانِ باليومِ الآخِرِ، ونِعمَةُ الإيمانِ بأنَّ الجنَّةَ حقٌّ، والنَّارَ حقٌّ، ولكنَّ هذهِ الحقيقةَ مَحجوبةٌ عندَ الكثيرِ من النَّاسِ بِسَبَبِ انجِذابِ القلبِ إلى زِينَةِ الدُّنيا وزُخرُفِهَا، قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾. ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» رواهُ الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
حقيقةُ الزُّهدِ في الدُّنيا:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: البعضُ من النَّاسِ يَظُنُّ أنَّ الزُّهدَ في الدُّنيا هوَ تَركُ العَمَلِ فيها، وهذا فَهمٌ خاطِئٌ، وقد بَيَّنَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَقيقَةَ الزُّهدِ في الدُّنيا بما روى الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدَيِ الله، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ».
وروى الحاكم عن محمد بن كعب القرظي رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «من أَحَبَّ أن يَكونَ أغنَى النَّاسِ فَليَكُن بِمَا في يَدِ الله أوثَقَ مَمَّا في يَدِهِ».
صُوَرٌ من زُهدِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الدُّنيا:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنَعِشْ هذهِ السَّاعةَ المبارَكَةَ مع سيِّدِ الأنبياءِ والمرسَلينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يا تُرى كيفَ كانَ حالُهُ وحالُ أصحابِهِ الكِرامِ رَضِيَ اللهُ عنهُم في هذهِ الحياةِ الدُّنيا؟ ولنرى كيفَ كانَ عَيشُهُم؟ وخاصَّةً نحنُ نَعيشُ هذهِ الأزمَةَ القاسِيَةَ التي كانَ من نَتائِجِها ارتِفاعُ الأسعارِ، وقِلَّةُ العَمَلِ، وكَثرَةُ الحاجَةِ، وشِدَّةُ الفَقرِ.
الصُّورَةُ الأولى:
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ـ أَوْ لَيْلَةٍ ـ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟»
قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ الله.
قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا» فَقَامُوا مَعَهُ.
فَأَتَى رَجُلاً مِن الْأَنْصَارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَباً وَأَهْلاً.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ فُلَانٌ؟».
قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِن الْمَاءِ.
إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لله مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمُ أَضْيَافاً مِنِّي.
قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ» فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ».
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ:
روى الإمام البخاري عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: إِنَّا كُنَّا يَوْمَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرضَتْ كُدْيَةٌ شَديدَةٌ، فجاءُوا إِلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فقالوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضتْ في الخَنْدَقِ.
فقال: «أَنَا نَازِلٌ».
ثُمَّ قَامَ وبَطْنُهُ معْصوبٌ بِحَجرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقاً، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المِعْولَ، فَضرَبَ فعادَ كَثيباً أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ.
فقلتُ: يا رسولَ الله، اِئْذَن لي إِلى البيتِ، فقلتُ لامْرَأَتي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً ما كانَ في ذلكَ صبْرٌ فِعِنْدَكَ شَيءٌ؟
فقالت: عِندِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبحْتُ العَنَاقَ ـ الأنثى من أولادِ المعزِ أو الغنمِ ـ وطَحَنْتُ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللحمَ في البُرْمَة، ثُمَّ جِئْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالعجِينُ قَد انْكَسَرَ ـ لانَ واختَمَرَ ـ والبُرْمَةُ ـ القِدر ـ بيْنَ الأَثَافِيِّ ـ أحجارٌ ثلاثةٌ توضَعُ عليها القِدرُ ـ قَد كَادَتَ تَنْضِجُ.
فقلتُ: طُعَيِّمٌ لي، فَقُمْ أَنْت يا رسولَ الله وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ.
قال: «كَمْ هُوَ؟». فَذَكَرتُ له.
فقال: «كثِيرٌ طَيِّبٌ، قُل لَهَا لا تَنْزِع البُرْمَةَ، ولا الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتيَ».
فقال: «قُومُوا». فقام المُهَاجِرُون وَالأَنْصَارُ.
وفي روايةٍ صَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً ـ طعاماً ـ فَحَيَّ هَلا ًبِكُمْ».
فَدَخَلْتُ عليها فقلت: وَيْحَكِ جَاءَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصارُ وَمن مَعَهم.
قالت: هل سَأَلَكَ؟
قلتُ: نَعَم.
قال: «ادْخُلوا وَلا تَضَاغَطُوا». فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيجْعَلُ عليهِ اللَّحمَ، ويُخَمِّرُ البُرْمَةَ والتَّنُّورَ إِذا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ وَيَغْرفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ مِنه.
وفي روايةٍ يقولُ سيِّدُنا جابر رَضِيَ اللهُ عنهُ: فَأُقْسِمُ بالله لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ.
فقال: «كُلِي هذَا وَأَهدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ».
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ:
روى الإمام مسلم عن عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، فَجَلَسْتُ، فَأَدْنَى عَلَيْهِ إِزَارَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبَصَرِي فِي خِزَانَةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَمِثْلِهَا قَرَظاً فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ ـ القرظ هو: جِلدٌ مَدبوغٌ بِوَرقٍ ـ وَإِذَا أَفِيقٌ ـ جلدٌ لم تتمَّ دِباغَتُهُ ـ مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ.
قَالَ: «مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟».
قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، وَمَا لِي لَا أَبْكِي وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ.
فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا؟».
قُلْتُ: بَلَى.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: عَجَبَاً لَنَا، لَقَد عَلِمنَا أنَّ هذِهِ الحياةَ الدُّنيَا فانِيَةٌ، وأنَّ مِنَ المُحالِ فيهَا دوامُ الحَالِ، وأنَّهَا مَليئةٌ بالكَدَرِ والمُنكَراتِ والكِبرِ، ومع ذلكَ أَفنَينَا أَعمارَنا في جَمعِها، وأصبَحَتِ الشُّغلَ الشَّاغِلَ لِقُلوبِنا، ويا ليتَها أبقَت لنا للآخِرَةِ حظَّاً ونَصيباً، حتَّى وَصَلنا إلى زمانٍ لا يُبالي البَعضُ مِن أينَ أتَتْهُ هذهِ الدُّنيا، أمِن حَلالٍ أم مِن حَرامٍ، كما جَاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ».
وصِيَّةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لنا جميعاً عندما قال لعَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» رواه الإمام البخاري عن عبد اللهِ بن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُما.
وصَدَقَ اللهُ تعالى القائِلُ: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء واللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
لا تَحزَنوا عليها إن فاتَت، لأنَّها فائِتَةٌ لا محالةَ.
اللَّهُمَّ اجعَلنا من الشَّاكرينَ عندَ الرَّخاءِ، ومن الصَّابِرينَ عندَ البلاءِ، ومن الرَّاضينَ بِمُرِّ القَضاءِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin